00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة آل عمران (من آية 76 ـ 104)  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثاني)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

 

قوله تعالى: بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين(76)

آية.

الهاء في قوله: " بعهده " يحتمل أن تكون عائدة على اسم الله في قوله: " ويقولون على الله الكذب " ويحتمل أن تكون عائدة على (من) في قوله: " بلى من أوفى بعهده " لان العهد يضاف إلى الفاعل، والمفعول. تقول هذا عهد فلان الذي عهد إليه به، وهذا عهد فلان الذي عهده إلى غيره. ووفى وأوفى لغتان، فأهل الحجاز يقولون أوفيت وأهل نجد يقولون وفيت.

وقوله: " بلى " يحتمل معنيين: أحدهما - الاضراب عن الاول على وجه الانكار للاول وعلى هذا الوجه " من أوفى بعهده " تكون مكتفية، نحو قولك: ما قدم فلان، فتقول بلى أي بلى قد قدم.

وقال الزجاج: بلى ههنا وقف تام لانهم لما قالوا " ليس علينا في الاميين سبيل " قيل " بلى " أي بلى عليهم سبيل.

[506]

والثاني - الاضراب عن الاول والاعتماد على البيان الثاني وعلى هذا الوجه لاتكون مكتفية، نحو ان تقول قد قدم زيد، حدسا لغوا من القول، بلى لو كان متيقنا لعمل على قوله.

فكذلك الاية تدل على ما تقدم على إدعائهم خلاف الصواب في التقوى فقيل: " بلى " للاضراب عن الاول، والاعتماد على البيان الثاني.

والفرق بين بلى ونعم أن بلى جواب النفي، نحو قوله: " ألست بربكم قالوا بلى "(1) فأما أزيد في الدار فجوابه، نعم، أو، لا. وإنما جاز إمالة بلى لمشابهتها الاسم من وجهين: أحدهما - أنه يوقف عليها في الجواب، كما يوقف على الاسم نحو من رأيت من النساء، فيقول الحبلى، وكذلك إذا قال أليس زيد في الدار قلت بلى. ولانها على ثلاثة أحرف وهي أصل العدة التي يكون عليها الاسم ولذلك خالفت (لا) في الامالة.

وإنما قال " فان الله يحب المتقين " ولم يقل فان الله يحبه فيرد العامل إلى اللفظ، لابانة الصفة التي تجب بها محبة الله وإن كان فيه معنى فان الله يحبهم.

قوله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لاخلاق لهم في الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم(77)

آية واحدة.

النزول: اختلفوا في سبب نزول هذه الاية، فقال مجاهد، وعامر الشعبي: إنها نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته.

وقال ابن جريج: إنها نزلت في الاشعث بن قيس وخصم له في أرض قام ليحلف عند رسول الله، فنزلت الاية فنكل الاشعث، واعترف بالحق، ورد الارض.

وقال عكرمة نزلت في جماعة من

___________________________________

(1) سورة الاعراف آية: 171.

[507]

اليهود: حي بن أحطب، وكعب بن الاشرف، وأبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق.

وقال الحسن كتبوا كتابا بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله فيما ادعوا من أنه ليس علينا في الاميين سبيل المعنى: وعهد الله هو ما يلزم الوفاء به. ويستحق بنقضه الوعيد. وهو ما أخذه على العبد وأوجبه عليه بما جعل في عقله من قبح تركه، وذلك في كل واجب عليه، فانه يلزم بنقضه الوعيد إلا أن يتوب أو يجتنب الكبيرة.

والعهد: هو العقد الذي تقدم به إلى العبد بما يجده في عقله من الزجر عن خلاف الحق، والدعاء إلى التمسك به، والعمل عليه، وإنما وصف ما اشتروه من عرض الدنيا بأنه ثمن قليل مع ما قرن به الوعيد لامرين: أحدهما - لانه قليل في جنب مايؤدي إليه من العقاب والتنكيل. والثاني - هو أنه مع كونه قليلا، الاقدام فيه على اليمين مع نقض العهد عظيم.

وقوله: " أولئك لاخلاق لهم " معناه لانصيب وافر لهم. وقيل في أصل الخلاف قولان: أحدهما - الخلق: التقدير، فيوافق معناه، لان النصيب: الوافر من الخير بالتقدير لصاحبه يكون نصيبا له. والاخر - من الخلق، لانه نصيب مما يوجبه الخلق الكريم.

وقوله: (ولا يكلمهم الله) قيل في معناه قولان: أحدهما " لايكلمهم " بما يسرهم بل بما يسوء‌هم وقت الحساب لهم، لان الغرض إنما هو الوعيد، فلذلك تبعه معنى لايكلمهم بما يسر مع أن ظاهر قوله: " ثم أن علينا حسابهم "(1) أنه يكلمهم بما يسوء‌هم في محاسبته لهم، هذا قول أبي علي. الثاني - لايكلمهم أصلا، وتثبت المحاسبة بكلام الملائكة لهم (ع) بأمر الله إياهم، فيكون على العادة في احتقار إنسان على أن يكلمه الملك لنقصان المنزلة.

___________________________________

(1) سورة الغاشية آية: 26.

[508]

وقوله: (ولاينظر إليهم) أي لايرحمهم، كما يقول القائل لغيره: انظر إلي يريد ارحمني وفي ذلك دلالة على أن النظر مع تعديته بحرف (إلى) لايفيد الرؤية، لانه لايجوز حملها في الاية على أنه لايراهم بلا خلاف.

وقوله: (ولايزكيهم) معناه لايحكم بزكاتهم دون أن يكون معناه لايفعل الايمان الذي هو الزكاء لهم، لانهم في ذلك، والمؤمنين سواء، فلو أوجب ما زعمت المجبرة، لكان لايزكيهم، ولا يزكي المؤمنين أيضا في الاخرة وذلك باطل.

قوله تعالى: وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون(78)

آية.

اللغة، والمعنى، والاعراب: " وان منهم " الكناية بالهاء والميم راجعة على أهل الكتاب في قوله: " من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار " في قول جميع المفسرين: الحسن وغيره.

وقوله: " يلوون ألسنتهم " قال مجاهد، وقتادة، وابن جريج، والربيع: معناه يحرفونه بالتغيير والتبديل.

وأصل اللي: الفتل من قولك لويت يده إذا فتلتها قال الشاعر: لوى يده الله الذي هو غالبه(1) ومنه لويت العمود إذا ثنيته وقال الاخر:

___________________________________

(1) قائله فرعان بن الاعرف السعدى التميمي، في ولده منازل يدعوا عليه. لان منازل ضرب والده عندما تزوج على امه.

وصدره: نحون مالي ظالما ولوى يدي ! وهو من أبيات يقولها في ابنه منازل لان منازل عق اباه وهو فرعان وضربه لانه تزوج على أمه امرأة شابة،؟ لامه ثم استاق مال أبيه واعتزل مع أمه فقال فيه الابيات.

[509]

فلو كان في ليلي سدى من خصومة *** للويت أعناق الخصوم الملاويا(1)

ومنه لويت الغريم ليا وليانا إذا مطلته حقه قال الشاعر:

تطيلين لياني وأنت ملية *** واحسن ياذات الوشاح التقاضيا

فقيل لتحريف الكلام بقبله عن وجهه: لي اللسان به، لانه فتله عن جهته.

وقوله: (لفريقا) نصب بأنه اسم (ان) واللام لام التأكيد ويجوز دخولها على اسم (ان) إذا كان مؤخرا، فان قدم لم يجز دخولها عليه، لاتقول: ان لزيدا في الدار. وإنما امتنع ذلك لئلا يجتع حرفا التأكيد، لان (ان) للتأكيد واللام للتأكيد أيضا فلم يجز الجمع بينهما لئلا يتوهم اختلاف المعنى، كما لم يجز دخول التعريف على التعريف، والتأنيث على التأنيث، فأما قولهم: جاء‌ني القوم كلهم أجمعون، فكل تأكيد للقوم وأجمعون تأكيد لكل.

وقوله: (لتسحبوه من الكتاب) معناه لتظنوه. والفرق بين حسبت وزعمت: أن زعمت يحتمل أن يكون يقينا أو ظنا، وحسبت لايحتمل اليقين أصلا.

وقوله: (ألسنتهم) جمع لسان على التذكير كحمار وأحمره. ويقال ألسن على التانيث كعناق وأعنق.

المعنى: وقوله: " وما هو من عند الله " دلالة على أن المعاصي ليست من عندالله بخلاف ما تقوله المجبرة. ولا من فعله، لانها لو كانت من فعله، لكانت من عنده، وليس لهم أن يقولوا إنها من عنده خلقا وفعلا، وليست من عنده انزالا ولا أمرا، وذلك أنها لو كانت من عنده فعلا أو خلقا، لكانت من عنده على آكد الوجوه فلم يجز إطلاق النفي بأنها ليست من عند الله. وكما لايجوز أن تكون من عند الله من وجه من الوجوه، لاطلاق النفي بأنه ليس من عند الله، فوجب العموم فيها باطلاق النفي.

___________________________________

(1) قائله مجنون بني عامر، ولم نجده في ديوانه، وهو في اللسان (شدا)، (شذا)، (لوى) والاغاني 2. 23. وغيرها.

[510]

فان قيل: أليس الايمان عندكم من عنده، ومع ذلك ليس من عنده من كل الوجوه، فهلا جاز مثل ذلك في تأويل الاية؟ قيل: لايجوز ذلك، لان اطلاق النفي يوجب العموم، وليس كذلك اطلاق الاثبات ألا ترى أنك تقول: ما عندي طعام، فانما تنفي القليل، والكثير، وليس كذلك إذا قلت عندي طعام، لانه لايجب أن يكون عندك جميع الطعام فبان الفرق بين النفي والاثبات.

قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون(79)

آية واحدة.

القراء‌ة والنزول: قرأ ابن كثير، ونافع، وأبوعمرو " تعلمون " مخففا الباقون بالتشديد.

روي عن ابن عباس أنه قال: سبب نزول هذه الاية أن قوما من اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وآله أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى فنزلت الاية.

اللغة، والمعنى: وقوله: (لبشر) فانه يقع على القليل والكثير وهو بمنزلة المصدر مثل الخلق وغيره، تقول: هذا بشر وهؤلاء بشر كما تقول: هذا خلق وهؤلاء خلق. وإنما وقع المصدر على القليل، والكثير، لانه جنس الفعل كما وجب في اسماء الاجناس كالماء والتراب ونحوه.

وقوله: " أن يؤتيه الله الكتاب " معناه أعطاه " الكتاب، والحكم والنبوة "، أن " يقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله ولكن " يقول لهم: " كونوا ربانيين ".

[511]

وحذف يقول لدلالة الكلام عليه. ومعناه في قول الحسن: علماء فقهاء.

وقالو سعيد بن جبير: حكماء أتقياء.

وقال ابن أبي رزين: حكماء علماء.

وقال الزجاج: معناه معلمي الناس.

وقال غيره: مدبري أمر الناس في الولاية بالاصلاح.

اللغة: وفي أصل رباني قولان: أحدهما - الربان وهو الذي يرب أمر الناس بتدبيره له وإصلاحه إياه، يقال رب أمره يربه ربابة، وهو ربان: إذا دبره، وأصلحه، ونظيره نعس ينعس، فهو نعسان. وأكثر ما يجئ فعلان من فعل يفعل، نحو عطش يعطش، فهو عطشان فيكون العالم ربانيا، لانه بالعلم يدبر الامر ويصلحه الثاني - إنه مضاف إلى علم الرب تعالى، وهو على الدين الذي أمر به إلا أنه غير في الاضافة، ليدل على هذا المعنى، كما قيل: بحراني، وكما قيل للعظيم الرقبة: رقباني، وللعظيم اللحية: لحياني.

وكما قيل لصاحب القصب: قصباني، فكذلك صاحب علم الدين الذي أمر به الرب رباني.

الحجة، والمعنى: ومن قرأ بالتخفيف أراد بما كنتم تعلمونه أنتم. ومن قرأ بالتشديد أراد تعلمونه، لسواكم.

وقوله: " وبما كنتم تدرسون " يقوي قراء‌ة من قرأبا بالتخفيف. والتشديد أكثر فائدة، لانه يفيد أنهم علماء، وأنهم يعلمون غيرهم. والتخفيف لايفيد أكثر من كونهم عالمين. وإنما دخلت الباء في قوله: " بما كنتم تعلمون " لاحد ثلاثة أشياء: أحدها - كونوا معلمي الناس بعلمكم، كما تقول: انفعوهم بما لكم. الثاني - كونوا ممن يستحق أن يطلق عليه صفة عالم بعلمه على جهة المدح له باخلاصه مما يحبطه.

[512]

الثالث - كونوا ربانيين في علمكم ودراستكم ووقعت الباء في موضع في.

الآية: 80 - 89

قوله تعالى: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون(80)

آية.

القراء‌ة، والحجة: قرأ عاصم وحمزة وابن عامر " ولا يأمركم " بنصب الراء. الباقون برفعها فمن نصب عطف على ما عملت فيه (أن) على تقدير " ما كان لبشر أن يؤتيه الله " كذا " ولا يأمركم " بكذا ومن رفع استأنف الكلام، لانه بعد انقضاء الاية، وتمامها.

المعنى: وفي الاية دلالة على أن الانبياء لايجوز أن يقع منهم ما ذكره دون أن يكون ذلك اخبارا عن أنه لايقع منهم، لانها خرجت مخرج التنزيه للنبي عن ذلك كما قال: " ما كان لله أن يتخذ من ولد "(1) ومعناه لايجوز ذلك عليه، وكذلك قوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله "(2) يدل على أن ذلك غير جائز عليه، ولو جاز أن يحمل على نفي الوقوع دون الامتناع، لجاز أن يحمل على التحريم دون الانتفاء، لان اللفظ يصلح له، لولا ما قارنه من ظاهر التعظيم للانبياء، والتنزيه لهم عن الدعاء إلى الفساد أو اعتقاد الضلال، ويجب حمل الكلام على ظاهر الحال إلا أن يكون هناك ما يقتضي صرفه عن ظاهره، على أنه لو حمل على النفي لما كان فيه تكذيب للمخالف.

والاية خرجت مخرج التكذيب لهم في

___________________________________

(1) سورة مريم آية: 35.

(2) سورة المؤمنون آية: 92.

[513]

دعواهم أن المسيح أمرهم بعبادته.

والالف في قوله: " أيأمركم " ألف انكار وأصلها الاستفهام. وإنما استعملت في الانكار، لانه مما لو أقر به المخاطب به، لظهرت صحته وبان سقوطه، فلذلك جاء الكلام على السؤال، وإن لم يكن الغرض تعرف الجواب. وإنما لم تجز العبادة إلا لله تعالى، لانها تستحق باصول النعم من خلق القدرة، والحياة، والعقل، والشهوة، غير ذلك مما لايقدر عليه سواه. وليس في الاية ما يدل على أن في أفعال الجوارح كفرا، لان قوله: " أيأمركم بالكفر " معناه الامر باعتقاد أن الملائكة والنبيين أرباب، وذلك كفر لامحالة. ولم يجر في الاية، لتوجيه العبادة إليهم ذكر، فأما من عند غير الله فانا نقطع على أن فيه كفرا هو الجحد بالقلب، لان نفس هذا الفعل كفر، فسقطت شبهة المخالف.

قوله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاء‌كم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ء‌أقررتم وأخذتم على ذلكم اصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين(81)

القراء‌ة، والمعنى: قرأ نافع " لما آتيناكم " على الجمع. الباقون على التوحيد بالتاء.

وقرأ حمزة " لما " بكسر اللام. الباقون بفتحها.

التقدير اذكروا " إذ أخذ الله ميثاق النبيين " لان (إذ) لما مضى ومعنى أخذ الميثاق من النبيين بنصرة من لم يلقوه ولم يدركوا زمانه هو أنهم ينصرونه بتصديقه عند قومهم، ويأمرونهم بالاقرار به، كما قيل: إنما أخذ الله ميثاق النبيين الماضين بتصديق محمد صلى الله عليه وآله، هذا قول علي (ع)

[514]

وعبدالله بن عباس (ره)، وقتادة والسدي، وقال طاوس: أخذ الميثاق الاول من الانبياء لتؤمنن بالاخر.

وروي عن أبي عبدالله (ع) أنه قال تقديره: وإذ أخذ الله ميثاق أمم النبيين بتصديق كل أمة نبيها، والعمل بما جاء‌هم به، وإنهم خالفوهم فيما بعد، وما و؟ به وتركوا كثيرا من شريعته، وحرفوا كثيرا منه.

الاعراب، والحجة، والمعنى: وقوله: (لما آتيتكم من كتاب) قيل في معنى (ما) في لما وجهان: أحدهما - أنها بمعنى الذي وتقديره الذي آتيتكموه من كتاب، لتفعلن لاجله كذا. الثاني - أنها بمعنى الجزاء، وتقديره، لان آتيكم شيئا " من كتاب، وحكمة ثم جاء‌كم رسول "، " لتؤمنن به "، لاجله. وتقديره أي شئ آتيتكم. ومهما آتيتكم.

ويكفي جواب القسم من جواب الجزاء، كقوله: " لئن أشركت ليحبطن علملك "(1) وفي معنى (من) قولان: أحدهما - أنها لتبيين ل‍ (ما) كقولك ما عندك من ورق وعين. الثاني - أن تكون زائدة، وتقديره الذي آتيتكم: كتاب وحكمة، فيكون في موضع خبر (ما)، وأنكر هذا القول أكثر النحويين، لان (من) لاتزاد إلا في غير الواجب من نحو النفي والاستفهام، والجزاء. والاول أصح، لانه لايجوز أن يحكم بزيادة حرف أو لفظ مع إمكان حمله على فائدة.

واللام في قوله: " لما " لام الابتداء. واللام في قوله: " لتؤمنن به " لام القسم، كما تقول لعبد الله: والله لتأتينه. وقال قوم: اللام الاول خلف من القسم يجاب بجوابه، نحو لمن قدم ما أحسن، ولمن أتاك لاتيته، وأنكر هذا القائل أن تكون الثانية تأكيدا للاولى، لوقوع (ما) و (لا) في جوابها، كما تقع في جواب القسم. والقول الاول أصح، لان فيه افصاحا بالقسم، نحو لزيد والله ما ضربته والقول

___________________________________

(1) سورة الزمر آية: 65.

[515]

الثاني - صواب على تقدير آخر، وان يكون اللام خلفا من القسم، كافيا منه، فلا يحتاج إلى ذكره معه ومن ذكره معه لم يجعله خلفا منه، لانه أضعف منه، والخلف أقوى من الدال الذي ليس بخلف، لانه بمنزلة الاصل الموضوع للمعنى يفهم به من غير واسطة.

ومن كسر اللام في قوله: " لما " يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون على التقديم والتأخير. والثاني - بمعنى أخذ الله ميثاقهم لذلك.

وقال بعضهم: القراء‌ة بالكسر لاتجوز، لانه ليس كل شئ أوتي الكتاب. وهذا غلط من وجهين: أحدهما - أنه أوتي الكتاب لعلمه به مهتديا بما فيه. وان لم ينزل عليه. والاخر - أنه يجوز ذلك على التغليب بالذكر في الجملة، لانه بمنزلة من أوتي الكتاب بما أوتي من الحكم والنبوة.

فان قيل لم لايجوز أن يكون (لما) آتيتكم من كتاب وحكمة)، بمعنى لتبلغن ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم يحذف؟ قيل لانه لايجوز الحذف في الكلام من غيردليل ينبئ عن المراد.

ومن زعم أن الدليل على حذف الفعل لام القسم، فقد غلط، لانها لام الابتداء التي تدخل على الاسماء، نحو " لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم أجمعين "(1).

المعنى واللغة: وقيل في معنى قوله: " وأخذتم على ذلكم اصري " قولان: أحدهما - وقبلتم على ذلك عهدى. والثاني - " وأخذتم على ذلكم اصري " من المتبعين لكم كما يقال: أخذت بيعتي أي قبلتها، وأخذتها على غيرك بمعنى عقدتها على غيرك. والاصر العقد، وجمعه اصار وأصله العقد ومنه المأصر، لانه عقد يحبس به عن النفوذ إلا باذن. ومنه الاصر الثقل، لانه عقد يثقل القيام به. ومنه قولهم مالك اصرة تأصرني عليك أي عاطفة تعطفني عليك من عقد جوار أو نحوه.

___________________________________

(1) سورة الاعراف آية: 17.

[516]

وقوله: (فاشهدوا) معناه فاشهدوا على أممكم بذلك " وأنا معكم من الشاهدين " عليكم، وعليهم روي ذلك عن علي بن أبي طالب عليه السلام.

قوله تعالى: فمن تولى بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون(82)

آية.

المعنى: التولي عن الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله كفر - بلا خلاف - وإنما قال " فاولئك هم الفاسقون " ولم يقل الكافرون، لان تقدير الكلام فأولئك هم الفاسقون في كفرهم أي المتمردون فيه بخروجهم إلى الافحش منه، وذلك أن أصل الفسق الخروج عن أمر الله إلى حال توبقه، فلذلك قيل للخارج عن أمر الله إلى أفحش منازل الكفر، فاسق.

الاعراب: وموضع (هم) من الاعراب يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون رفعا بأنه مبتدأ ثان والفاسقون خبره.

والجملة خبر أولئك. والاخر - أنه لاموضع له، لانه فصل جاء ليؤذن أن الخبر معرفة أو ما قارب المعرفة ويسمي الكوفيون ذلك عمادا.

وقوله: (فمن تولى) وإن كان شرطا وجزاء في المستقبل فان الماضي يدخل فيه من وجهين: أحدهما - ان يكون تقديره فمن يصح أنه تولى، كما قال: " إن كان قميصه قد من قيل فصدقت "(1) أي إن يصح أن " قميصه قد من قبل فصدقت " والاخر مساواة الماضي للمستقبل، فيدخل في دلالته. وإنما جاز جواب الجزاء بالفاء ولم يجز ب‍ (ثم)، لان الثاني يجب بوجوب الاول بلا فصل، فلذلك جاء

___________________________________

(1) سورة يوسف آية: 26

[517]

بالفاء دون (ثم)، لانها للتراخي بين الشيئين، وذلك نحو قولك إن تأتني، فلك درهم، فوجوب الدرهم بالاتيان عقيبه بلا فصل. وإنما جاز وقوع الماضي موقع المستقبل في الجزاء ولم يجز في قام زيدا غدا، لان حرف الجزاء، لما كان يعمل في الفعل قوي على نقله من الماضي إلى الاستقبال، وليس كذلك (غد) وما أشبهه مما يدل على الاستقبال، لانه نظير الفعل في الدلالة من غير عمل يوجب القوة، فلذلك جرى على المناقضة.

قوله تعالى: أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها وإليه ترجعون(83)

آية.

القراء‌ة، والحجة، والاعراب: قرأ أهل البصرة، وحفص يبغون بالياء. الباقون بالتاء.

وقرأ يعقوب وحفص وإليه يرجعون بالياء. وكسر يعقوب الجيم، وفتح الياء.

فمن قرأ بالياء أراد الاخبار عن اليهود وغيرهم من المشركين والتاء لجميع المكلفين.

ومن قرأ بالتاء فيهما، فعلى الخطاب، فيهما.

قوله: " أفغير دين الله " عطف جملة على جملة مثلها لو قيل أو غير دين الله يبغون إلا أن الفاء رتبت. كأنه قيل أبعد تلك الايات غير دين الله تبغون أي تطلبون.

المعنى: وقوله: (وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها) قيل في معناه ستة أقوال: أولها - قال ابن عباس: أسلم من في السماوات والارض بالحالة الناطقة عنه الدالة عليه عند أخذ الميثاق عليهم.

[518]

الثاني - قول أبي العالية، ومجاهد: ان معناه " أسلم " أي بالاقرار بالعبودية وإن كان فيهم من أشرك في العبادة، كقوله: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله "(1)

وقوله: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله "(2) ومعناه ما ركب الله في عقول الخلائق من الدعاء إلى الاقرار بالربوبية ليتنبهوا على ما فيه من الدلالة.

الثالث - قال الحسن: " وله أسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها " قال: أكره أقوام على الاسلام وجاء أقوام طائعين.

الرابع - قال قتادة: أسلم المؤمن طوعا، والكافر كرها عند موته، كما قال: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا "(3) واختاره البلخي. ومعناه التخويف لهم من التأخر عما هذه سبيله.

الخامس - قال عامر، والشعبي والزجاج، والجبائي أن معناه: استسلم بالانقياد والذلة، كما قال تعالى: " قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا "(4) أي استسلمنا، ومعناه الاحتجاج به.

وسادسها - قال الفراء والازهري إنما قال " طوعا وكرها " لان فيهم من أسلم ابتداء رغبة في الاسلام، وفيهم من أسلم بعد أن قوتل وحورب، فسمي ذلك كرها مجازا وإن كان الاسلام وقع عنده طوعا.

وقوله: " طوعا وكرها " نصب على أنه مصدر، وقع موقع الحال، وتقديره طائعا أو كارها، كما تقول أتاني ركضا أي راكضا، ولايجوز أن تقول أتاني كلاما أي متكلما، لان الكلام ليس بضرب من الاتيان والركض ضرب منه.

قوله: " إليه ترجعون " معنا تردون إليه للجزاء فاياكم ومخالفة الاسلام فيجازيكم بالعقاب.

قال الله تعالى: " ومن يتبع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين "(5).

___________________________________

(1) سورة الزخرف آية: 87.

(2) سورة لقمان آية: 25.

(3) سورة المؤمن آية: 85.

(4) سورة الحجرات آية: 14.

(5) سورة آل عمران آية: 85.

[519]

النزول: وروي عن أبي عبدالله (ع) أنها نزلت في الحارث بن سويد بن الصامت. وكان ارتد بعد قتله المحذر بن ديار البلوي غدرا في الاسلام، وهرب وحديثه مشروح ثم ندم، فكاتب قومه سلوا رسول الله صلى الله عليه وآله هل لي توبة، فنزلت الايات إلى قوله: " إلا الذين تابوا "، فرجع فأسلم.

قوله تعالى: قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون(84)

آية.

المعنى: قيل في تأويل هذه الاية قولان: أحدهما - أن معناها الانكار على الكفار ما ذهبوا إليه من الايمان ببعض النبيين دون بعض، فأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله، والمؤمنين أن يقولوا: إنا نؤمن بجميع النبيين، ولا نفرق بين أحد منهم. الثاني - أن معناها موافقة ما تقدم الوعد به من إيمان النبي الامي بجميع من تقدم من النبيين على التفصيل.

وقال له في أول الاية (قل) خطابا للنبي صلى الله عليه وآله فجرى الكلام على التوحيد، وما بعده على الجمع.

وقيل في ذلك قولان: أحدهما أن المتكلم قد يخبر عن نفسه بلفظ الجمع للتفخيم كما قال تعالى: " ولقد خلقناكم ثم صورنا كم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم "(1). والثاني - أنه أراد دخول الامة في في الخطاب الاول، والامر بالاقرار.

___________________________________

(1) سورة الاعراف آية: 10.

[520]

ويجوز أن يقال: في الواحد المتكلم، فعلنا ولا يجوز للواحد المخاطب فعلتم. والفرق بينهما: أن الكلام بالجملة الواحدة يصح بجماعة مخاطبين، ولايصح الكلام بالجملة الواحدة بجماعة متكلمين. فلذلك جاز في فعلنا في الواحد للتفخيم، لانه لايصح أن يكون خطابا للجماعة فلم يصرف عنهم. بغير قرينة لما يدخله من الالباس في مفهوم العبارة.

وقوله: " وما أنزل علينا " في الاخبار عن المسلمين إنما جاز ذلك، وإن كان قد أنزل على النبي صلى الله عليه وآله، لان التقدير أنزل علينا على لسان نبينا كما تقول: أمرنا به ونهينا عنه - على لسان نبينا -، ومثل ذلك ما قاله في سورة البقرة من قوله: " قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا "(1)

وقال بعضهم: لايجوز أن يكون ذلك إلا إخبارا عن النبي صلى الله عليه وآله الذي أنزل عليه، وهذا غلط، لان الاية الاخرى تشهد بخلافه.

فان قيل: ما معنى قوله: " ونحن له مسلمون " بعد الاقرار بالايمان على التفصيل؟ قيل: معناه ونحن له مستسلمون بالطاعة في جميع ما أمر به، ودعا إليه. ولان أهل الملل المخالفة، تعترف بصفة مؤمن، وينتفي من صفة مسلم.

قوله تعالى: ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين(85)

آية واحدة.

اللغة، والنزول، والمعنى: الابتغاء: الطلب تقول: بغى فلان كذا أي طلبه، ومنه بغى فلان على فلان: إذا طلب الاستعلاء عليه ظلما ومنه البغي: الفاجرة، لطلبها الزنى. ومنه ينبغي كذا، لانه حقيق بالطلب.

والاسلام: هو الاستسلام لامر الله بطاعته فيما دعا إليه، فكل ذلك اسلام، وان اختلفت فيه الشرائع، وتفرقت المذاهب، لان مبتغيه دينا ناج، ومبتغي غيره دينا هالك. والايمان، والاسلام واحد.

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 136.

[521]

لان " من يبتغي غير الاسلام دينا " فهو مبطل، كما أن من يبتغي غير الايمان دينا، فهو مبطل، وذلك كمن يبتغي غير عبادة الاله دينا، فهو كافر، ومن يبتغ غير عبادة الخالق دينا، فهو كافر. والاله هو الخالق.

وقال عكرمة: إن قوما من اليهود قالوا: نحن المسلمون، فأنزل الله تعالى " ولله على الناس حج البيت "(1) فأمرهم بالخروج إلى الحج الذي هو من فرض الاسلام، فقعدوا عنه وبان انسلاخهم من الاسلام، لمخالفتهم له فأنزل الله تعالى " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين " قالخسران ذهاب رأس المال.

ويقال: خسر نفسه أي أهلك نفسه. وقيل خسر عمله أي أبطل عمله بأن أوقعه على وجه يقبح لايستحق عليه الثواب. وكل واحد منهما خسر لذهاب رأس المال.

قوله تعالى: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاء‌هم البينات والله لايهدي القوم الظالمين(86)

آية.

النزول: قال الحسن: نزلت هذه الاية في أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالنبي صلى الله عليه وآله قبل مبعثه بما يجدونه في كتبهم من صفاته ودلائله، فلما بعثه الله جحدوا ذلك، وانكروه.

وقال مجاهد، والسدي: نزلت في رجل من الانصار يقال له الحارث بن سويد ارتد عن الاسلام، ثم تاب، وحسن إسلامه فقبل الله إسلامه بقوله: " إلا الذين تابوا " فيما بعد تمام الاية.

وكذلك رويناه عن أبي عبدالله (ع) وقيل نزلت في قوم أرادوا من النبي صلى الله عليه وآله أن يحكم لهم بالاسلام،

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 97.

[522]

وفي قلوبهم الكفر، فاطلعه الله على أسرارهم وما في ضمائرهم.

اللغة، والمعنى: وقوله " كيف " أصلها للاستفهام، والمراد بهاههنا إنكار أن تقع هذه الهداية من الله تعالى. وإنما دخل (كيف) معنى الانكار مع أن أصلها الاستفهام، لان المسؤل يسأل عن أغراض مختلفة، فقد يسأل للتعجيز عن إقامة البرهان، وقد يسأل للتوبيخ مما يظهرمن معنى الجواب في السؤال، وقد يسأل لما يظهر فيه من الانكار، فالاصل فيه الاستفهام، لكن من شأن العالم إذا أورد مثل هذا أن يصرف إلى غير الاستعلام إلا أنه يراد من المسئول طلب الجواب، فان قيل كيف خص هؤلاء المذكورون بمجيئ البينات مع أنها قد جاء‌ت كل مكلف للايمان قيل عنه جوابان: أحدهما - لان البينات التي جاء‌تهم هي ما في كتبهم من البشارة بالنبي صلى الله عليه وآله. الثاني - للتبعيد من حال الهداية والتفحيش لتجويزها في هذه الفرقة.

وقوله: " والله لايهدي القوم الظالمين " فالهداية ههنا تحتمل ثلاثة أشياء. أولها سلوك طريق أهل الحق المهتدين بهم في المدح لهم والثناء عليهم.

الثاني - في اللفظ الذي يصلح به من حسنت نيته. وكان الحق معتمده، وهو أن يحكم لهم بالهداية.

الثالث - في ايجاب الجواب الذي يستحقه من خلصت طاعته، ولم يحبطهما بسوء عمله.

فان قيل كيف أطلق قوله: " والله لا يهدي القوم الظالمين " مع قوله " فأما ثمود فهديناهم " قلنا: لانه لا يستحق اطلاق الصفة بالهداية إلا على جهة المدحة كقوله أولئك الذين هدى الله. فأما بالتقييد، فيجوز لكل مدلول إلى طريق الحق اليقين. وليس في الاية ما يدل على صحة الاحباط، للايمان ولا إحباط المستحق عليه من الثواب، لانه لم يجر لذلك ذكر.

[523]

وقوله: (كفروا بعد ايمانهم) يعني بعد إظهارهم الايمان وشهادتهم أن الرسول حق، وإن كانوا في باطنهم منافقين. وليس فيها أنهم كانوا في باطنهم مؤمنين مستحقين للثواب، فزال ذلك بالكفر فلا متعلق بذلك في صحة الاحباط.

قوله تعالى: أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(87)

آية.

أن قيل: إذا كان لعن الملائكة والناس أجمعين تابعا للعن الله، فهلا اقتصر عليه في الذكر؟ قيل الوجه في ذلك ان لا يوهم أن لعنهم لايجوز إلا لله عزوجل كما لايجوز أن يعاقبهم إلا الله أو من يأمرهم بذلك.

وليس في قوله: " والناس أجمعين " دلالة على أنه يجوز للكافر أن يلعن نفسه، لان لعنه لنفسه دعاء عليها بالابعاد من رحمة الله. وذلك يوجب رغبته فيما دعا به، ولايجوز لاحد أن يرغب في أن يعاقبه الله، لان ذلك ينافي الزجر به والتحذير منه. وأما رغبة المؤمن في أن يعاقب الله الكافر فجائز حسن، لانه لاينافي زجره بل هو أبلغ في زجره، فان قيل: لم قال: " والناس أجمعين " ومن وافق الكافر في مذهبه لايرى امنه؟ قيل عن ذلك ثلاثة أجوبة:

أحدها - إن له أن يلعنه، وإنما لايفعله لجهله بأنه يستحق اللعن. ويصح منه معرفة الله، ومعرفة استحقاق اللعن لكل كافر، فحينئذ يعلم أن له أن يلعنه وإنما لايصح أن يلعن الكافر مع اعتقاده أنه لايستحق اللعن، لانه لو صح ذلك لادى إلى أن يصح أن يلعن نفسه لمشاركته له فيما استحق به اللعن. وقد بينا فساده.

والثاني - أن ذلك في الاخرة، لان بعضهم يلعن بعضا. وقد استقرت عليهم لعنة الجميع، وإن كانت على التفريق.

والثالث - أن يحمل لفظ الناس على الخصوص، فيحمل على ثلاثة فصاعدا،

[524]

فلذلك قال: " أجمعين " وكان يجوز أن يرفع " والملائكة والناس أجمعين " لان الاول تقديره عليهم أن يلعنهم الله، فيحمل الثاني على معنى الاول، كما قال الشاعر:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا *** أو عبد رب أخاعون بن مخراق(1)

والاتباع أجود ليكون الكلام على نسق واحد، وإنما ذكر وعيد الكفار ههنا مع كونه مذكورا في مواضع كثيرة في القرآن، للتأكيد وتغليظا في الزجر لانه لما جرى ذكر الكافر عقب ذلك بلعنه، ووعيده، كما إذا جرى ذكر المؤمن عقب ذلك بالرحمة ليكون أرغب له في فعل الطاعة والتمسك بالايمان.

قوله تعالى: خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون(88)

آية.

اللغة: الخلود في اللغة هو طول المكث، ولذلك يقال خلده في السجن وخلد الكتاب في الديوان.

وقيل للاثافي: خوالد ما دامت في موضعها، فاذا زالت لاتسمى خوالد.

والفرق بين الخلود والدوام: أن الخلود يقتضي (في) كقولك خلد في الحبس ولايقتضي ذلك الدوام، ولذلك جاز وصفه تعالى بالدوام دون الخلود. إلا أن خلود الكفار المراد به التأبيد بلا خلاف بين الامة.

المعنى: وقوله: " فيها " الهاء راجعة إلى اللعنة. ومعنى خلودهم فيها استحقاقهم لها دائما مع ما توجبه من أليم العقاب، فأما من ليس كافر من فساق أهل الصلاة

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1: 207.

[525]

فلا يتوجه إليه الوعيد بالخلود، لانه لايستحق إلا عقابا منقطعا به مع ثبوت استحقاقه للثواب الدائم، لانه لو كان كذلك لادى إلى اجتماع استحقاق الثواب الدائم، والعقاب الدائم لشخص واحد. والاجماع بخلافه.

والاحباط - عندنا - باطل، فلا يمكن أن يقال يحبط أحدهما الاخر، وإنما حسن العقاب الدائم على المعاصي المنقطعة، كما حسن الثواب الدائم على الطاعة المنقطعة، فلا يجوز أن يستحق الدوام على الاصغر، ولا يستحق على الاكثر، فلما كانت نعم الله تعالى أعظم النعم كانت معاصيه أعظم المعاصي، وكانت طاعته أصغر منها. وأيضا، فانه يحسن الذم للدائم على المعاصي المنقطعة فالعقاب يجري مجراه.

اللغة: وقوله: (لا يخفف عنهم العذاب) فالتخفيف هو تغيير الشئ عن حال الصعوبة إلى السهولة، وهو تسهيل لما فيه كلفة ومشقة وأصله من خفة الجسم ضد ثقلة. ومنه تخفيف المحنة معناه تسهيلها.

وقوله: (ولا هم ينظرون) معناه لايمهلون وإنما نفى إنظارهم للانابة لما علم من حالهم أنهم لاينيبون كما قال: " ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه "(1) على أن التبقية ليست واجبة. وإن علم أن لو بقاه لتاب وأناب عند أكثر المتكلمين.

ومن قال: يجب تبقيته متى علم أنه لو بقاه لامن، فجوابه هو الاول. وقيل في الفرق بين الانظار والامهال أن الانظار تأخير العبد لينظر في أمره. والامهال تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله.

قوله تعالى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم(89)

آية.

___________________________________

(1) سورة الانعام آية: 28.

[526]

المعنى: إن قيل إذا كانت التوبة من الذنب لا تصلح إلا بعد فعله، فلم قال: " من بعد ذلك "؟ قيل فائدته أنه يفيد معنى تابوا منه، لان توبتهم من غيره لاتنفع في التخلص منه، كما لا تنفع التوبة من الكبير في التخلص من الصغير، فأما من قال: إن التوبة من معصية لاتصح مع الاقامة على معصية أخرى، فانه يقول ذلك على وجه التأكيد، فان قيل: إذا كانت التوبة وحدها تسقط العقاب وتحصل الثواب فلم شرط معها الاصلاح؟ قيل الوجه في ذلك إزالة الابهام لئلا يعتقد، أنه إذا حصل الايمان، والتوبة من الكفر لايضر معه شئ من أفعال القبائح، كقوله: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون "(1) فذكر مع الايمان عمل الصالحات، لازالة الايهام بأن من كان مؤمنا في الحكم، لم يضره مع ذلك ما عمله من المعاصي.

وقبول التوبة واجب، لانها طاعة واستحقاق الثواب بها ثابت عقلا، فأما سقوط العقاب عندها، فانما هو تفضل من الله، ولولا أن السمع ورد بذلك وإلا، فلا دلالة في العقل على ذلك.

وقوله: " فان الله غفور رحيم " دخلت؟ لشبهه بالجزاء، إذا كان الكلام قد تضمن معنى إن تابوا " فان الله غفور رحيم " أي يغفر لهم وليست في موضع خبر الذين، لان الذين في موضع نصب بالاستثناء من الجملة الاولى التي هي قوله: " أولئك عليهم لعنة الله... " الاية، وذكر المغفرة في الاية دليل على أن اسقاط العقاب بالتوبة تفضل، لانه لو كان واجبا لما استحق بذلك الاثم بأنه غفور، لانه لايقال هوغفور إلا فيما له المؤاخذة، فأما ما لايجوز المؤاخذة به فلا يجوز تعليقه بالمغفرة.

___________________________________

(1) سورة حم السجدة آية: 8.

[527]

الآية: 90 - 99

قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون(90)

آية بلا خلاف.

المعنى: قيل في المعني بهذه الاية أربعة أقوال: أحدها - قال ابن عباس هي فرقة ارتدت ثم عزمت على إظهار التوبة على جهة التورية، فاطلع الله نبيه على ذلك بانزال هذه الاية.

وقال أبوالعالية لم تقبل توبتهم من ذنوب أصابوها مع الاقامة على كفرهم.

وقال قتادة: هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى " ثم ازدادوا كفرا " بمحمد صلى الله عليه وآله " فلن تقبل توبتهم " عند حضور موتهم.

وقال الحسن: هم اليهود والنصارى كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله " فلن تقبل توبتهم " التي كانت في حال إيمانهم، فان قيل: لم لم تقبل التوبة من هذه الفرقة؟ قيل: لانها كفرت بعد إيمانهم ثم ازدادت كفرا إلى انقضاء أجلها، فحصلت على ضلالتها، فلم تقبل منها التوبة الاولى في حال كفرها بعد إيمانها، ولا التوبة الثانية في حال ايجابها.

وقيل: إنما لم تقبل توبتهم، لانهم لم يكونوا فيها مخلصين بدلالة قوله: " وأولئك هم الضالون ".

وقال الطبري: إنه لايجوز تأويل من قال لن تقبل توبتهم عند حضور موتهم.

قال: لانه لاخلاف بين الامة أن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين في أن حكمه حكم المسلمين في وجوب الصلاة عليه ومواريثه و؟ في مقام المسلمين واجراء جميع أحكام الاسلام عليه، ولو كان إسلامه غير صحيح، لما جاز ذلك.

وهذا الذي قاله ليس بصحيح، لانه لا يمتنع أن نتعبد باجراء احكام الاسلام عليه وان كان اسلامه على وجه من الالجاء لا يثبت معه استحقاق الثواب عليه، كما أنا تعبدنا باجراء أحكام الاسلام على المنافقين وإن كانوا كفارا.

وإنما لم يجز قبول التوبة في حال الالجاء إليه، لان فعل الملجأ كفعل المكره في سقوط الحمد والذم.

وقد قال الله تعالى: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال اني تبت الان "(1).

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 17.

[528]

وقال: " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا "(1) فأما إذا عاد في الذنب، فلا يعود إليه العقاب الذي سقط بالتوبة، لانه إذا تاب منه صار بمنزلة ما لم يعمله، فلا يجوز عقابه عليه كما لايجوز عقابه على ما لم يعمله سواء قلنا أن سقوط العقاب عند التوبة كان تفضلا أو واجبا. وقد دل السمع على وجوب قبول التوبة وعليه إجماع الامة. وقال تعالى: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات "(2) وقال: " غافر الذنب وقابل التوب "(3) وغير ذلك من الاي.

قوله تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم مل‌ء الارض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من ناصرين(91)

آية.

اللغة: المل‌ء أصله الملا، وهو تطفيح الاناء.

ومنه الملا الاشراف، لانهم يملاون العين هيبة وجلالة.

ومنه رجل ملئ بالامر، وهو أملا به من غيره.

والملا اسم للمقدار الذي يملا.

والملا بفتح العين مصدر ملات الاناء ملا.

ومثله الرعي بكسر الراء: النبات: وبفتح الراء مصدر رعيته.

قال الزجاج: ومن قال: هما سواء فقد غلط.

الاعراب: وقوله: (ذهبا) نصب على التمييز. والتمييز على ضربين تمييز المقادير وتمييز الاعداد وكله مستحق النصب لاشتغال العامل بالاضافة أو ما عاقبها من النون

___________________________________

(1) سورة المؤمن آية: 84 - 85.

(2) سورة الشورى آية 25.

(3) سورة المؤمن آية: 3.

[529]

الزائدة، فجرى ذلك مجرى الحال في اشتغال العامل بصاحبها، ومجرى المفعول في اشتغال العامل عنه بالفاعل. ومثل ذلك، عندي مل‌ء زق عسلا وقدر نحي سمنا.

المعنى: وقوله: (ولو افتدى به) فالفدية البدل على الشئ في إزالة الاذية.

ومنه قوله: " وفديناه بذبح عظيم "(1) لانه بدل منه في ازالة الذبح عنه، ومنه فداء الاسير بغيره، لانه بدل منه في إزالة القتل والاسر عنه.

وقيل في معنى الافتداء ههنا قولان: أحدهما - البيان عن أن ما كلفه في الدنيا يسير في جنب ما يبذله في الاخرة من الفداء الكثير لو وجد إليه السبيل، قال قتادة يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك مل‌ء الارض ذهبا، لكنت تفتدي به، فيقول: نعم، فيقال لقد سئلت أيسر من ذلك، فلم تفعل.

الثاني - ما حكاه الزجاج أنه لو افتدى به في دار الدنيا مع الاقامة على الكفر لم يقبل منه. وقيل في دخول الواو في قوله " ولو افتدى به " قولان قال: قوم: هي زائدة اجاز ذلك الفراء. والمعنى لو افتدى به.

قال الزجاج: وهذا غلط، لان الكلام يجب حمله على فائدة إذا أمكن، ولا يحمل على الزيادة.

والثاني - أنها دخلت لتفصيل نفي القبول بعد الاجمال، وذلك أن قوله " فلن من أحدهم مل‌ء الارض ذهبا " قد عم وجوه القبول بالنفي ثم أتى بالتفصيل، لئلا يتطرق عليه سوء التأويل، ولو قيل: بغير واو لم يكن قد عم النفي وجوه القبول، فقد دخلت الواو لهذه الفائدة من نفي التفصيل بعد الجملة، فأما الواو في قوله " وليكون من الموقنين " فانها عاطفة على محذوف في التقدير، والمعنى " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض " ليعتبر " وليكون من الموقنين "(2).

___________________________________

(1) سورة الصافات آية: 7.

(2) سورة الانعام آية: 75.

[530]

قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فان الله به عليم(92)

آية واحدة.

المعنى: قيل في معنى البر قولان: أحدهما - البر من الله بالثواب في الجنة. الثاني - البر بفعل الخير الذي يستحقون به الاجر.

وقال السدي وعمرو بن ميمون: البر الجنة.

فان قيل: كيف قال " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " والفقير لا يحب عليه الصدقة وينال الجنة، وان لم ينفق؟ قلنا: الكلام خرج مخرج الحث على الصدقة إلا أنه على ما يصح ويجوز من إمكان النفقة، فهو مقيد بذلك في الجملة إلا أنه اطلق الكلام للمبالغة في الترغيب فيه. ويجوز " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " في سبل الخير من الصدقة من وجوه الطاعة.

وقال الحسن: هو الزكاة الواجبة وما فرض تعالى في الاموال خاصة.

والاولى أن تحمل الاية على الخصوص بأن يقول: هي متوجهة إلى من يجب عليه إخراج شئ أوجبه الله عليه دون من لم يجب عليه، ويكون ذلك أيضا مشروطا بأن لا يعفو الله عنه - على مذهبنا في جواز العفو - أو يقول " لن تنالوا البر " الكامل الواقع على أشرف الوجوه " حتى تنفقوا مما تحبون ".

وقوله: (فان الله به عليم) إنما جاء على جهة جواب الشرط وإن كان الله يعلمه على كل حال، لامرين:

[531]

أحدهما - لان فيه معنى الجزاء، فتقديره " وما تنفقوا من شئ فان الله؟ يجازيكم به قل أو كثر، لانه عليم به لا يخفى عليه شئ منه.

الثاني - فانه يعلمه الله موجودا على الحد الذي تفعلونه من حسن النية أو قبحها.

اللغة: والفرق بين البر، والخير: أن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير يكون خيرا، وان وقع عن سهو. وضد البر العقوق. وضد الخير الشر، فبذلك بين الفرق بينهما.

النظم: ووجه إتصال هذه الاية بما قبلها أنه تعالى لما ذكر في الاية الاولى " فلن يقبل من أحدهم مل‌ء الارض ذهبا ولو افتدى به " وصل ذلك بقوله " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " لئلا يؤدي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة، وما جرى مجراها من وجوه الطاعة.

قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوارة قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين(93)

آية واحدة.

النظم: وجه اتصال هذه الاية بما تقدم أنه تعالى، لما ما ذكر الانفاق مما يحب، ومن جملة ما يحب الطعام، فذكر حكمه، وأنه كان مباحا حلالا " لبني إسرائيل إلا ماحرم إسرائيل على نفسه ".

[532]

النزول، والقصة، المعنى: وكان سبب نزول هذه الاية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وآله لحوم الابل، فبين الله تعالى أنها كانت محللة، لابراهيم، وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه، وحاجهم بالتوراة، فلم يجسروا على إحضار التوارة لعلمهم بصدق النبي صلى الله عليه وآله فيما أخبر أنه فيها.

وكان إسرائيل وهو يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم نذر إن برأ من النساء أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الابل وألبانها، فلما برأ وفى لله بنذره.

وقال ابن عباس والحسن: إن اسرائيل أخذه وجع العرق الذي يقال له النساء، فنذر إن شفاه الله يحرم العروق ولحم الابل (على نفسه)، وهو أحب الطعام إليه.

فان قيل: كيف يجوز للانسان أن يحرم على نفسه شيئا، وهو لايعلم ماله فيه من المصلحة مما له فيه المفسدة؟ قلنا: يجوز ذلك إذا أذن الله له في ذلك وأعلمه، وكان الله أذن لا سرائيل في هذا النذر، فلذلك نذر.

وفي الناس من استدل بهذه الاية على أنه يجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يجتهد في الاحكام، لانه إذا كان أعلم ورأيه أفضل كان اجتهاده أحق وهذا الذي ذكروه إن جعل دليلاعلى أنه كان يجوزان يتعبد النبى بالاجتهاد، كان صحيحا "، وان جعل دليلا " على انه كان متعبدا به، فليس فيه دليل عليه، لانا قد بينا أن اسرائيل ما حرم ذلك إلا باذن الله، فمن أين إن ذلك كان محرما له من طريق الاجتهاد، فأما من امتنع من جواز تعبد النبي صلى الله عليه وآله بالاجتهاد، بأن ذلك يؤدي إلى جواز مخالفة أمته له إذا اداهم الاجتهاد إلى خلاف اجتهاده فقد أبعد، لانه لايمتنع أن يجتهد النبي صلى الله عليه وآله الاجتهاد إلى خلاف ما أدى اجتهاد الامة إليه، فوجب اتباعه ولا يلتفت إلى اجتهاد من يخالفه، كما أن الامة يجوز أن تجمع على حد عن اجتهاد، وإن لم يجز مخالفتها فبطل قول الفريقين.

[533]

قوله تعالى: فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فاولئك هم الظالمون(94)

اللغة: الافتراء: اقتراف الكذب وأصله قطع ما يقدر من الادم، يقال فرى الاديم يفريه فريا: إذا قطعه، فقيل للكذب الفرية، لانه يقطع به على التقدير من غير تحقيق.

المعنى: فان قيل: كيف قال: " افترى على الله الكذب " وعلى للاستعلاء، فما معناها هاهنا؟ قلنا: معناها إضافته الكذب إليه من جهة أنه أمر بما لم يأمر به الله فأوجب ما لم يوجبه، وكذب عليه بخلاف كذب له، لان كذب عليه يفيد أنه كذب فيما يكرهه، وكذب له قد يجوز فيما يريده.

فان قيل كيف قيد وعيد المفتري على الله الكذب ب‍ " من بعد ذلك " وهو يستحق الوعيد بالكذب عليه على كل حال؟ قلنا: المراد به البيان أنه يلزم من بعد إقامة الحجة على العبد فيه، لانه لو كذب على الله (عزوجل) فيما ليس بمحجوج فيه لجرى مجرى كذب الصبي الذي لا يستحق الوعيد به. وإنما وصف المفتري على الله كذبا بأنه ظالم، من حيث كان ظالما لنفسه، ولمن استدعى إلى مذهبه فيما يكذب به، لان ذلك الكذب يستحق به العقاب.

والظلم والجور واحد وإن كان أصلهما مختلفا، لان أصل الظلم النقصان للحق.

الجور العدول عن الحق، ولذلك قيل في ضد الظلم الانصاف.

وفي ضد الجور العدل. والانصاف هو إعطاء الحق على التمام.

[534]

قوله تعالى: قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين(95)

آية.

المعنى: معنى قوله: " قل صدق الله " البيان عن أن الخبر بأن " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " صدق، لان الله تعالى أخبر به.

وقوله: (فاتبعوا) فالاتباع إلحاق الثاني بالاول لما له به من التعلق فالقوة للاول، والثاني يستمد منه، فهم يلحقون بابراهيم (ع) لتمسكهم بملته والتابع ثان متدبر بتدبير الاول متصرف بتصريفه في نفسه، والصحيح أن شريعة نبينا ناسخة لشريعة كل من تقدم من الانبياء، وأن نبينا لم يكن متعبدا بشريعة من تقدم. وإنما وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال الله تعالى " فاتبعوا ملة إبراهيم " وإلا فالله هو الذي أوحى بها إليه وأوجبها عليه، وكانت شريعة له.

فان قيل إذا كانت الشرائع بحسب المصالح، فكيف رغب في شريعة الاسلام بأنها ملة إبراهيم؟ قلنا: لان المصالح إذا وافقت ما تميل إليه النفس ويتقبله العقل بغير كلفة كانت أحق بالرغبة، كما أنها إذا وافقت الغنى بدلا من الفقر، كانت أعظم في النعمة، وكان المشركون يميلون إلى اتباع ملة إبراهيم، فلذلك خوطبوا بذلك.

والحنيف: المستقيم: الدين الذي على شريعة إبراهيم في حجه ونسكه وطيب مأكله، وتلك الشريعة هي الحنيفية.

وأصل الحنف الاستقامة وإنما وصف المائل القدم بالاحنف تفاؤلا بها وقيل أصله الميل وإنما قيل الحنيف بمعنى المائل إلى الحق فيما كان عليه إبراهيم من الشرع.

قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين(96)

آية بلا خلاف.

[535]

المعنى، واللغة، والاعراب: أول الشئ ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر، ويجوز أن لايكون له آخر، لان الواحد أول العدد. ولانهاية، لاخره، ونعيم أهل الجنة له أول، ولا آخر له، فعلى هذا إنما كان أول بيت، لانه لم يكن قبله بيت يحج إليه.

وروي عن علي (ع) أنه قال: أول بيت وضع للعبادة البيت الحرام. وقد كانت قبله بيوت كثيرة. وقيل أول بيت رغب فيه، وطلب به البركة مكة.

وقال مجاهد: لم يوضع قبله بيت. وإنما دحيت الارض من تحتها.

وبه قال قتادة.

وروى أصحابنا: أن أول شئ خلق الله من الارض موضع الكعبة، ثم دحيت الارض من تحتها.

وبكة قيل معناه ثلاثة أقوال: أحدها - قال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة هو المسجد، ومكة الحرم كله تدخل فيه البيوت، وهو قول أبي جعفر (ع) وقال أبوعبيدة: بكة هي بطن مكة، وقال مجاهد: هي مكة. وأصل بكة من البك، وهو الزحم تقول بكه يبكه بكا إذا زحمه وتباك الناس بالموضع إذا ازدحموا، فبكة مزدحم الناس للطواف. وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام، ومنه البك: دق العنق، لانه فكه بشدة زحمة، فقيل: سميت بكة، لانها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم لم يمهلوا.

وأما مكة، فقال الزجاج يجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة. وابدلت الميم من الباء، كقولهم: ضربة لازب ولازم، ويجوز أن يكون من قولهم: امبك الفصيل ما في ضرع الناقة إذا مص مصا شديدا حتى لا يبقى منه شيئا، فسميت مكة بذلك لازدحام الناس فيه.

قال والاول أحسن، ويقال مك المشاش مكا إذا تمشش بفيه.

ونصب قوله: " مباركا " يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون حالا من الضمير الذي فيه. الثاني - على الظرف من بكة على معنى الذي استقر ببكة مباركا. وعلى هذا القول لا يكون قد وضع قبله بيت كما يجوز في التقدير الاول.

[536]

وقوله: " وهدى للعالمين " معناه أنه دلالة لهم على الله من حيث هو المدبر لهم بما لا يقدرون عليه من أمن الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي، فلا يعدو عليه وحتى يأنس الطير فلا يمتنع منه كمايمتنع من غيره إلى غير ذلك من الاثار والبينة فيه مع البركة التي يجدها من حج إليه مع ماله من الثواب الجزيل عليه. وأصل البركة الثبوت من قولك برك بركا وبروكا إذا ثبت على حاله، فالبركة ثبوت الخير بنموه وتزايده ومنه البركاء: الثبوت في الحرب. ومنه البركة شبه حوض يمسك الماء، لثبوته فيه.

ومنه قول الناس: تبارك الله، لثبوته لم يزل، ولا يزال وحده، ومنه البرك الصدر، لثبوت الحفظ فيه.

وقوله تعالى: فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين(97)

آية.

القراء‌ة: قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " حج البيت " بكسر الحاء. الباقون بفتحها فمن فتح أراد المصدر الجاري على فعله، ومن كسر أراد الاسم المعنى: الايات التي بمكة أشياء، منها ما قال مجاهد في مقام إبراهيم، وهو أثر قدميه داخلة في حجر صلد بقدرة الله تعالى، ليكون ذلك علامة يهتدى بها، ودلالة يرجع إليها مع غير ذلك من الايات التي فيه من أمن الخائف، وإمحاق الجمار على كثرة الرامي. وامتناع الطير من العلو عليه. واستشفاء المريض من ماء به. ومن تعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة على عادة كانت جارية. ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا، لتخريبه.

[537]

وروي عن ابن عباس أنه قرأ " آية بينة مقام إبراهيم " فجعل مقام إبراهيم هو الاية. والاول عليه القراء، والمفسرون.

وقوله: " مقام إبراهيم " رفع بأنه خبر ابتداء محذوف. وتقديره هي مقام إبراهيم وغير مقام إبراهيم، وقيل التقدير منها مقام إبراهيم.

وقوله: (ومن دخله كان آمنا) قيل فيه قولان: أحدهما - الدلالة على ماعطف عليه قلوب العرب في الجاهلية، من أمر من جنى جناية، ثم لاذ بالحرم، ومن تبعة تلحقه أو مكروه ينزل به. فأما في الاسلام فمن جنى فيه جناية أقيم عليه الحد إلا القاتل، فانه يخرج منه، فيقتل في قول الحسن، وقتادة. وعندنا أنه إذا قتل في الحرم قتل فيه. الثاني - أنه خبر، والمراد به الامر، ومعناه أن من وجب عليه حد، فلاذ بالحرم والتجأ إليه، فلا يبايع ولا يشاري ولا يعامل حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد - في قول ابن عباس وابن عمر - وهو المروي عن أبي عبدالله وأبي جعفر (ع) وأجمعت الصحابة على أن من كانت له جناية في غيره ثم عاذ به أنه لايؤاخذ بتلك الجناية فيه. وأجمعوا أيضا أن من أصاب الحد فيه أنه يقام عليه الحد فيه. وإنما اختلفوا فيما به يخرج ليقام عليه الحد.

وروي عن أبي جعفر (ع) أنه قال: من دخله عارفا بجميع ما أوجب الله عليه، كان آمنا في الاخرة من أليم العقاب الدائم والسبيل الذي يلزم بها الحج، قال ابن عباس، وابن عمر: هي الزاد، والراحلة.

وقال ابن الزبير، والحسن: ما يبلغه كائنا ما كان. وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف.

وعندنا هو وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة والسلامة وزوال الموانع وإمكان المسير.

وقوله: (ومن كفر) معناه من جحد فرض الحج فلم يره واجبا في قول

[538]

ابن عباس، والحسن، والضحاك. فأما من تركه وهو يعتقد فرضه، فانه لا يكون كافرا وإن كان عاصيا. وفي الاية دلالة على فساد مذهب المجبرة إن الاستطاعة مع الفعل، لان الله تعالى أوجب الحج على المستطيع. ومن لا يستطيع، فلا يجب عليه وذلك لايكون إلا قبل فعل الحج.

وقال قوم: معنى " ومن كفر " يعني ترك الحج والسبب في ذلك أنه لما نزل قوله: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا "(1) قالت اليهود نحن المسلمون فأنزل الله هذه الاية فامرهم بالحج إن كانوا صادقين فامتنعوا، فقال الله تعالى ومن ترك من هؤلاء فهو كافر، والله غني عن العالمين.

قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون(98)

آية.

المعنى: قوله: " يا أهل الكتاب " خطاب لليهود والنصارى.

وإنما أجرى عليهم أهل الكتاب مع أنهم لا يعملون به، ولم يجز ذلك في أهل القرآن حتى يقال، فيمن لا يعمل بالقرآن أنه من أهل القرآن لامرين: أحدهما - أن القرآن اسم خاص لكتاب الله، فأما الكتاب فيجوز أن يراد به يا أهل الكتاب المحرف عن جهته، والاخر - الاحتجاج علهيم بالكتاب، لاقرارهم به، كأنه قيل يا من يقر بأنه من أهل كتاب الله " لم تكفر بآيات الله " وآيات الله المراد بها ههنا معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وآله التي كانت له، والعلامات التي وافقت في صفته، مما تقدمت به البشارة، وخاطبهم الله في هذه بأن قال له " قل لم تكفرون بآيات الله " على وجه التلطف في استدعائهم إلى الحق، وتوجيه الخطاب إليهم.

وقال في موضع آخر " يا أهل الكتاب لم تكفرون "(2) على وجه الاهانة

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 85.

(2) سورة آل عمران آية: 70.

[539]

لهم لصدهم عن الحق بتوجيه الخطاب إلى غيرهم وإنما جاء لفظ التوبيخ في الاية على لفظ الاستفهام، لانه كسؤال التعجيز عن إقامة البرهان، فكذلك سؤال التوبيخ سؤال تعجيز عن إقامة العذر كأنه قيل: هات العذر في ذلك إن أمكنك، كما قيل له هات البرهان إن كنت محقا في قولك ومذهبك.

اللغة: وأصل لم لما وحذفت الالف في الاستفهام منها، ولم تحذف في الخبر لانها في الاستفهام ظرف يقوى فيه التغيير قياسا على حروف الاعراب ونحوها، وأما الخبر فانها تقع وسطا إذا كانت موصولة، لان تمامها أخر صلتها والجزاء يجري مجرى الصلة، لان (ما) فيه عاملة.

قوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون(99)

آية بلا خلاف.

المعنى: قوله: " لم تصدون " معناه لم تمنعون، لان الصد المنع.

وقيل في كيفية صدهم عن سبيل الله قولان: أحدهما - أنهم كانوا يغزون بين الاوس، والخزرج، بتذكيرهم الحروب التي كانت بينهم حتى تدخلهم العصبية وحمية الجاهلية فينسلخون عن الدين - هذا قول زيد بن أسلم - وقال الاية في اليهود خاصة.

وقال الحسن الاية في اليهود والنصارى معا ومعناها لم تصدون بالتكذيب بالنبي صلى الله عليه وآله وإن صفته ليست في كتبهم ولاتقدمت البشارة به عندهم وقوله: " من آمن " موضعه النصب بأنه مفعول تصدون.

[540]

وقوله: (تبغونها عوجا) الكناية راجعة إلى السبيل، ومعناه تطلبون لها عوجا يعني عدو لاعن طريق الحق، وهو الضلال كأنه قال تبغونها ضلالا.

اللغة: والعوج - بفتح العين، هو ميل كل شئ منتصب، نحو القناة والحائط، وبكسر العين - إنما هو الميل عن الاستواء في طريق الدين، وفي القول، وفي الارض.

ومنه قوله: " ولا ترى فيها عوجا "(1) وقال عبد بني الحسحاس:

بغاك وما تبغيه حتى وجدته *** كأنك قد واعدته أمس موعدا(2)

أي طلبك وما تطلبه هذا في بغيت الحاجة فأما بغى عليه، فمعناه تطاول بظلمه له.

وتقول: إبغني كذا بكسر الهمزة أي أطلبه لي.

وإذا قلت: أبغني بفتح الهمزة، فمعناه أعني على طلبه.

ومثله إحملني وأحملني والمسنى وألمسني.

واحلب لي واحلبني أي أعني على الحلب.

وأصل ذلك ابغ لي غير أنه حذفت اللام لكثرة الاستعمال.

المعنى: وقوله: (وأنتم شهداء) قيل فيه قولان: أحدهما - " أنتم شهداء " على بطلان صدكم عن دين الله، وتكون الاية مختصة بقوم معاندين، لانهم جحدوا ما علموه ويجوز أن تكون في الجميع، لاقرارهم بأنه لايجوز الصد عن دين الله، فلذلك صح ما ألزموا.

الثاني - " وأنتم شهداء " أي عقلاء كما قال الله تعالى " أو القى السمع وهو شهيد "(3) أي وهو عاقل، وذلك أنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل قيل يتعلق بالدين ويؤديه إليه.

___________________________________

(1) سورة طه آية: 107.

(2) ديوانه: 41 وروايته (الا) بدل (حتى) وقد ذكره ابن هشام في المغني 1: 111، وقال: الا بمعنى حتى.

(3) سورة ق آية: 37.

[541]

الآية: 100 - 109

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين اوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين(100)

آية.

النزول: قال زيد بن أسلم والسدي أن هذه الاية نزلت في الاوس والخزرج لما أغزى قوم من اليهود بينهم ليفتنوهم عن دينهم.

اللغة، والاعراب، والمعنى: وقوله: " إن تطيعوا " فالطاعة موافقة الارادة الجاذبة للفعل بالترغيب فيه، والاجابة موافقة الارادة الداعية إلى الفعل ولذلك يجوز أن يكون الله تعالى مجيبا للعبد إذا فعل ما دعا العبد به، ولم يجز أن يكون مطيعا له. و (يا) حرف النداء وأي هو المنادى. و (ها) للتنبيه وهو اسم مبهم يحتاج أن يوصف بالواحد والجميع لشدة إبهامه من حيث، لا يوقف عليه دون ما يوضحه.

ولم يجز مثل ذلك في هذا، وإن كان اسما مبهما، لانه يدخله التثنية، والجمع، نحو هؤلاء وهذان وليس كذلك أي فان قيل لم جاز صفة المبهم بالموصول ولم يجز بالمعطوف؟ قيل: لان الموصول بمنزلة اسم واحد لنقصانه عن التمام إلا بصلته، فعومل لذلك معاملة المفرد، وليس كذلك المعطوف، لانه اسم تام، فلذلك لم يجز يا أيها الطويل والقصير على الصفة، وجاز يا أيها الذي أكرم زيدا على الصفة، ويجوز يا أيها الطويل والقصير على أن يكون القصير منادا أيضا ويجوز أن تقول يا هذا وتقف عليه.

[542]

ولايجوز أن تقول يا أيها وتقف. وإن كانا مبهمين لا يحتاجان إلى صلة، لان أي وصلة إلى نداء ما فيه الالف واللام، كما أن الذي وصلة إلى صفة المعرفة بالجملة، ولذلك جاز النصب في يا هذا الكريم، ولم يجز في يا أيها الكريم. ومعنى الاية النهي عن طاعة الكفار وبيان أن من أطاعهم يدعوه ذلك إلى الارتداد عن دينه بعد أن كان مؤمنا ورجوعه كافرا.

قوله تعالى: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم(101)

آية.

النزول: روي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الاية أنه كانت بين الاوس، والخزرج حرب في الجاهلية كل شهر، فبينماهم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت هذه الاية وما بعدها.

وقال الحسن نزلت في مشركي العرب.

المعنى، واللغة: " وكيف " موضوعة للاستفهام، ومعناها ههنا التعجب وإنما استعملت في ذلك، لانها طلب للجواب عما حمل على الفساد فيما لا يصح فيما لا يصح فيه الاعتذار. والتعجب هو حدوث إدراك مالم يكن يقدر لخفاء سببه، وخروجه عن العادة في مثله، ولذك لم يجز في صفة القديم، ولكن يجوز في صفة تعجيب العباد من بعض الامور. وصيغة التعجب في اللغة ما أفعله، وأفعل به إلا أنه قد يجئ كلام متضمن بمعنى التعجب، وإن لم يكن في الاصل مما وضع له.

وقوله: (وفيكم رسوله) خطاب للذين عاصروه، فأما اليوم، فقد قال الزجاج: يجوز أن يقال: فينا رسول الله، ويراد به أن أثاره قائمة فينا، وأعلامه ظاهرة، وذلك بمنزلة لو كان موجودا فينا.

[543]

وقوله: (ومن يعتصهم بالله) معناه يمتنع والعصم: المنع.

تقول عصمه يعصمه عصما، ومنه قوله: " لا عاصم اليوم من أمر الله "(1) أي لامانع.

والعصم: الاوعال لامتناعها بالجبال.

والمعصم لانه يمتنع.

والعصام: الحبل، والسبب، لانه يعتصم به.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(102)

آية بلا خلاف.

المعنى: ذكر ابن عباس وطاوس أن هذه الاية محكمة غير منسوخة.

وقال قتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد: هي منسوخة بقوله " فاتقوا الله ما استطعتم "(2) وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع) لانهم ذهبوا إلى أنه يدخل فيه القيام بالقسط في حال الخوف، والامن، وأنكر أبوعلي الجبائي نسخ الاية وذلك، لان من اتقى جميع معاصيه، فقد اتقى الله حق تقاته. ومثل هذا لايجوز أن ينسخ، لانه إباحة لبعض المعاصي.

قال الرماني: والذي عندي أنه إذا وجه على " اتقوا الله حق تقاته " بأن تقوموا له بالحق في الخوف والامن لم يدخل عليه ما ذكروه أبوعلي. وهذا صحيح، لانه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله على كل حال ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس، كما قال: " إلا من أكره وقلبه مطمئن الايمان "(3) وأنكر البلخي أيضا نسخ الاية وقال: لان في ذلك ايجاب الامر بما لا يستطاع.

قال الرماني: وهذا أيضا لا يلزم، لان " وما استطعتم " إنما هو من غير تحمل مشقة بتحريم التقية.

___________________________________

(1) سورة سورة هود آية: 43.

(2) سورة التغابن آية: 16.

(3) سورة النحل آية: 106.

[544]

وقيل في معنى قوله: " حق تقاته " قولان: أحدهما - قال ابن مسعود، والحسن، وقتادة: إن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فال ينسى، وهو المروي عن أبي عبدالله (ع).

وقال الجبائي: هو أن يتقى جميع معاصيه. وظاهر الاية يقتضي أنه خطاب للمؤمنين خاصة، ويجوز أن يحمل من جهة المعنى على جميع المكلفين على التغليب، لانه معلوم أنه يجب عليهم من ذلك مثل ما يجب على المؤمنين من اتقاء جميع معاصي الله.

اللغة: وقوله: " تقاته " هو من وقيت.

وقال الزجاج: يجوز فيه ثلاثة أوجه تقاة ووقاة واقاة وحمله على قياس وجوه وأجوه وإن كان هذا المثال لم يجئ منه شئ على الاصل نحو تخمة ونكاة ونقاة غير أنه حمله على الاكثر من نظائره وجعل اختصاص هذا البناء في الاستعمال، لايمنع من حمله على نظيره في القياس، لان بازاء قوة الاستعمال قوة النظير في الباب.

المعنى، واللغة: وقوله: (ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون) معناه لا تتركوا الاسلام وإنما قال: " فلا تموتن " بلفظ النهي عن الموت من حيث أن الموت لابد منه، فكأنه قال كونوا على الاسلام، فاذا ورد عليكم الموت صادفكم على الاسلام، فالنهي في الحقيقة عن ترك الاسلام، لئلا يهلكوا بالاقتطاع عن التمكين منه بالموت إلا أنه وضع كلام موضع كلام على جهة تصرف الابدال، لحسن الاستعارة، وزوال اللبس، لانه لما كان يمكنهم أن يفارقوه بالاسلام فترك الاسلام صار بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ومثله قولهم لا أراك ههنا أي لا تكونن ههنا، فان من كان ههنا رأيته إلا أن هذا خرج مخرج النهي لغير المنهي عنه فتباعد عن الاصل، فالاول أحسن. لانه أعدل.

[545]

وروي عن أبي عبدالله (ع) " وأنتم مسلمون " بالتشديد، ومعناه إلا وأنتم مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله عليه وآله ومنقادون له.

قوله تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون(103)

آية.

المعنى، واللغة، والاعراب: ومعنى قوله: " واعتصموا " امتنعوا بحبل الله واستمسكوا به أي بعهد الله، لانه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر أو نحوها. ومنه الحبل الامان، لانه سبب النجاة.

ومنه قوله: " إلا بحبل من الله وحبل الناس "(1) ومعناه بأمان، قال الاعشى:

وإذا تجوزها حبال قبيلة *** أخذت من الاخرى إليك حبالها(2)

ومنه الحبل الحمل في البطن وأصله الحبل المفتول قال ذو الرمة:

هل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم *** أم هل لها آخر الايام تكليم

وفي معنى قوله: " بحبل الله " قولان قال أبوسعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كتاب الله.

وبه قال ابن مسعود.

وقتادة والسدي.

وقال ابن زيد " حبل الله " دين الله أي دين الاسلام.

وقوله: " جميعا " منصوب على الحال.

والمعنى اعتصموا بحبل الله مجتمعين على الاعتصام به.

وقوله: " ولا تفرقوا " أصله ولا تتفرقوا،

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 112.

(2) ديوانه: 24 رقم القصيدة 3 في المطبوعة (أجوزها) بدل (تجوزها) وهو أيضا في اللسان (حبل) ومشكل القرآن: 358 وغيرها كما أثبتناه. والبيت من قصيدته في قيس ابن معد يكرب يصف ناقة يقول: لا تحتاج إلى حث بل هي سريعة الجرى عارفة طرق القبائل.

[546]

فحذفت احدى التائين، لاجتماع المثلين. والمحذوفة الثانية، لان الاولى علامة الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي وعلامة الجزم سقوط النون.

وقال ابن مسعود وقتادة: معناه ولا تفرقوا عن دين الله الذي أمر فيه بلزوم الجماعة والائتلاف على الطاعة.

وقال الحسن: معناه ولا تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله.

وقوله: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء) معناه ما كان بين الاوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مئة وعشرين سنة إلى أن ألف بين قلوبهم بالاسلام، وزالت تلك الاحقاد، هذا قول ابن اسحاق.

وقال الحسن: هو ما كان من مشركي العرب من الطوائل.

وقوله: (وكنتم على شفا حفرة من النار) معنى الشفا الحرف، لان شفا الشئ حرفه، ويثنى شفوان، لانه من الواو، وجمعه اشفاء. ولا يجوز فيه الامالة.

وإنما قال: " فانقذكم منها " وإن لم يكونوا فيها، لانهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث كانوا مستحقين لدخولها. وإنما أنقذهم النبي صلى الله عليه وآله بدعائهم إلى الاسلام، ودخولهم فيه، فصاروا بمنزلة الخارج منها. وأصل الاخ أن الاخر مقصده مقصد أخيه، وكذلك في الصداقة أن تكون إرادة كل واحد منهما موافقة الاخر يقولون: يتوخى فلان شأن فلان أي يقصده في سيره، ويقولون: خذ على هذا الوخي أي على هذا القصد.

وقوله: (كذلك يبين الله لكم آياته) الكاف في موضع نصب، والمعنى مثل البيان الذى تلي عليكم " يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون " معناه لتهتدوا وتكونوا على رجاء هداية. والهاء في قوله فأنقذكم منها كناية عن الحفرة فترك شفا، وردت الكناية على الحفرة.

ومثل ذلك قول العجاج.

طول الليالي أسرعت في نقضي *** طوين طولي وطوين عرضي

فترك الطول وأخبر عن الليالي.

فان قالوا إذا كان الله هو الذي ألف بين قلوبهم وأنقذهم النار، فقد صح أن أفعال الخلق فعل له وخلق من خلقه؟ قيل: لا يجب ذلك، لانا نقول أن النبي صلى الله عليه وآله ألف بين قلوب العرب وأنقذهم من

[547]

النار، ولا يجب من ذلك أن تكون أفعالهم أفعالا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مشاركا لهم.

ومعنى ألف بين قلوبهم وأنقذهم من النار أنهم دعاهم إلى الايمان وبين لهم وهداهم، ورغبهم وحذرهم، فلما كان إسلامهم ونجاتهم بمعونته ودعائه، كان هو المؤلف لقلوبهم، والمنقذ لهم من النار على هذا المعنى، لاأنه صنع أفعالهم، وأحدثها.

فان قيل: فقد فعل الله مثل ذلك بالكافرين هلا قلتم أنه ألف بينهم؟ قلنا: لاتقول ذلك وإن كان فعل بهم في الابتداء مثل الذي فعل بالمؤمن، لانه لم يوجد منهم إيمان، فلايجوز إطلاق ذلك عليهم، ولما وجد من المؤمن ذلك جاز إضافة ذلك إلى الله تعالى وجرى ذلك مجرى قوله " هدى للمتقين " أنه اضيف إلى المتقين من حيث اهتدوا به. وان كان هداية للكافرين أيضا.

ويجوز أن يقال: ألف الله بين الكفار، فلم يأتلفوا وانقذهم، فلم يستنقذوا، فيقيد ذلك، كما قال: " وإما ثمود، فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى "(1) ولا يجوز أن يقال: هدى الله ثمود ويسكت.

ومثل ذلك لو أن إنسانا اعطى ولدين له مالا وإمرهما بالتجارة وبين لهما وجوه المكاسب فكسب أحدهما ما لا واستغنى، وضيع الاخر، فافتقر جاز أن يقال أن فلانا أغنى ولده الغني، ولا يجوز أن يقال اغنى ولده الفقير على أنا لا نقول ان الله تعالى فعل بالكافر جميع ما فعل بالمؤمن، لان الذي سوى بينهما ما يتعلق بازاحة العلة في التكليف من الاقدار والاعلام والدلالة، وما به يتمكن من فعل الايمان، فأما الالطاف التي يفعلها الله بالمؤمن بعد إيمانه التي علمها له بعد الايمان ولم يعلمها للكافر، فلا نقول أنه فعل بالكافر مثلها، ولا يمتنع أن تكون هذه الزيادة من الالطاف مشروطة بحال الايمان، فالاطلاق لايصح على كل حال.

___________________________________

(1) سورة حم السجدة آية: 17.

[548]

قوله تعالى: ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون(104)

آية.

الاعراب، والمعنى: قوله: " ولتكن " أمر واللام لام الامر وإنما سكنت مع الواو ولم يكن لام الاضافة لان تسكين لام الامر يؤذن بعملها أنه الجزم، وليس كذلك لام الاضافة. ولم يسكن مع ثم، لان ثم بمنزلة كلمة منفصلة.

وقوله: (منكم أمة) " من " ههنا للتبعيض على قول أكثر المفسرين، لان الامر بانكار المنكر، والامر بالمعروف متوجه إلى فرقة منهم غير معينة، لانه فرض على الكفاية فأي فرقة قامت به سقط عن الباقين.

وقال الزجاج التقدير " وليكن " جميعكم و (من) دخلت لتخص المخاطبين من بين سائر الاجناس، كما قال: " فاجتنبوا الرجس من الاوثان "(1) وقال الشاعر:

أخو رغائب يعطيها ويسلبها *** يأبى الظلامة منه النوفل الزفر(2)

لانه وصفه باعطاء الرغائب، والنوفل الكثير الاعطاء للنوافل.

والزفر: الذي يحمل الاثقال، فعلى هذا الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فرض الاعيان لا يسقط بقيام البعض عن الباقين. وهو الذي اختاره الزجاج، وبه قال الجبائي، واختاره.

اللغة: والامة في اللغة تنقسم خمسة أقسام: أحدها - الجماعة.

والثاني - القامة.

والثالث - الاستقامة.

والرابع - النعمة والخامس القدوة.

والاصل في ذلك كله القصد من قولهم: أمه يؤمه. أما إذا

___________________________________

(1) سورة الحج آية: 30.

(2) قائله أعشى باهلة اللسان (زفر) وأمالي الشريف المرتضى 2: 21 وهو من قصيدة من المراثي المضلة المشهورة بالبلاغة والبراعة وروايته (بسألها) بدل (يسلبها).

[549]

قصده، فالجماعة سميت أمة لاجتماعها على مقصد واحد.

والامة: القدوة، لانه تأتم به الجماعة.

والامة النعمة، لانها المقصد الذي هو البغية.

والامة القامة، لاستمرارها في العلو على مقصد واحد.

والمعروف هو الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على حسنه.

وربما كان واجبا أو ندبا، فان كان واجبا فالامر به واجب.

وان كان ندبا فالامر به ندب. والمنكر هو القبيح فالنهي عنه كله واجب.

والانكار هو إظهار كراهة الشئ لما فيه من وجه القبح، ونقيضه الاقرار وهو إظهار تقبل الشئ من حيث هو صواب حسن.

المعنى: والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف وأكثر المتكلمين يذهبون إلى أنه من فروض الكفايات. ومنهم من قال من فروض الاعيان، وهو الصحيح على ما بيناه. واختلفوا، فقال جماعة ان طريق وجوب انكار المنكر العقل، لانه كما تجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهة. وإلا كان تاركه بمنزلة الراضي به.

وقال آخرون وهو الصحيح عندنا: إن طريق وجوبه السمع وأجمعت الامة على ذلك، ويكفي المكلف الدلالة على كراهته من جهة الخير وما جرى مجراه وقد استوفينا ما يتعلق بذلك في شرح جمل العلم.

فان قيل هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟ قلنا: نعم إذا احتيج إليه بحسب الامكان، لان الله تعالى قد أمر به، فاذا لم ينجح فيه الوعظ والتخويف، ولا التناول باليد وجب حمل السلاح، لان الفريضة لا تسقط مع الامكان إلا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد إلا أنه لايجوز أن يقصد القتال إلا وغرضه إنكار المنكر. وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من انكار المنكر لايجوز الاقدام عليه إلا باذن سلطان الوقت. ومن خالفنا جوز ذلك من غير الاذن مثل الدفاع عن النفس سواء.

وقال البلخي: إنما يجوز لسائر الناس ذلك إذا لم يكن إمام، ولا من نصبه، فأما مع وجوده، فلا ينبغي، لاحد أن يفعل ذلك إلا عند الضرورة.

[550]

وقوله: (وأولئك هم المفلحون) معناه هم الفائزون بثواب الله، والخلاص من عقابه.

 

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337811

  • التاريخ : 29/03/2024 - 06:11

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net