00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانعام من ( آية 130 ـ آخر السورة) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الرابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

قوله تعالى: يامعشر الجن والانس ألم ياتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحيوة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين(130)

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى انه يخاطب الجن والانس يوم القيامة بأن يقول " يامعشر الجن والانس " والمعشر الجماعة.

والفرق بينه وبين المجمع: أن المعشر يقع عليهم هذا الاسم مجتمعين كانوا او مفترقين كالعشيرة، وليس كذلك المجمع، لانه مأخوذ من الجمع. والجن مشتق الاجتنان عن العيون وهواسم علم لجنس مما يعقل متميز عن جنس الانسان والملك. والانس هم البشر.

وقوله " الم يأتكم رسل منكم " احتجاج عليهم بأن الله بعث اليهم الرسل إعذارا وانذارا وتأكيدا للحجة عليهم، ولابد أن يكون خطابا لمن بعث الله اليهم الرسل، فأما اول الرسل فلا يمكن ان يكونوا داخلين فيه، لانه كان يؤدي إلى مالا نهاية لهم من الرسل وذلك محال.

وقوله " منكم " وان كان خطابا لجميعهم، الرسل من الانس خاصة، فانه يحتمل ان يكون لتغليب احدهما على الاخر، كما يغلب المذكر على المؤنث، وكما قال " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " بعد قوله " مرج البحرين يلتقيان "(1) وانما يخرج اللؤلؤ من الملح دون العذب. وكقولهم أكلت خبزا ولبنا وانما شرب اللبن.

وكما يقولون: في هذه الدار سرو، وانما هو في بعضها. وهذا

___________________________________

(1) سورة 55 الرحمن آية 19

[277]

قول أكثر المفسرين: منهم ابن جريج والفراء والزجاج والرماني والبلخي والطبري.

وروي عن ابن عباس انه قال: هم رسل الانس إلى غيرهم من الجن كما قال تعالى " ولوا إلى قومهم منذرين "(2).

وقال الضحاك: ذلك يدل على انه تعالى ارسل سلا من الجن. وبه قال الطبري واختاره البلخي أيضا، وهو الاقوى.

وقال الجبائي والحسين بن علي المغربي: المعنى " ألم يأتكم " يعني معشر المكلفين والمخلوقين " رسل منكم " يعني من المكلفين. وهذا اخبار وحكاية عما يقال لهم في وقت حضورهم في الاخرة، وليس بخطاب لهم في دار الدنيا، وهم غير حضور، فيكون قبيحا، بل هو حكاية على ماقلناه.

وقوله " يقصون عليكم آياتي " مثل يتلون عليكم دلائلي وبيناتي " وينذرونكم " يعني يخوفونكم " لقاء يومكم هذا " يعني لقاء ما تستحقونه من العقاب في هذا اليوم وحصولكم فيه. ثم أخبر تعالى عنهم انهم يشهدون على أنفسهم بالاعتراف بذلك والاقرار بأن الحياة الدنيا غرتهم، ويشهدون أيضا بانهم كانوا كافرين في دارالدنيا، فلذلك كرر الشهادة. ومعنى غرتهم الحياة الدنياأي غرتهم زينة الدنيا ولذتها ومايرون من زخرفها وبهجتها.

واستدل بهذه الاية قوم على ان الله لايجوز ان يعاقب الا بعد ان يرسل الرسل، وان التكليف لايصح من دون ذلك، وهذا ينتقض بما قلناه من اول الرسل، وانه صح تكليفهم وان لم يكن لهم رسل، فالظاهر مخصوص بمن علم الله ان الشرع مصلحة له، فان الله لايعاقبهم الابعد ان يرسل اليهم الرسل ويقيم عليهم الحجة بتعريفهم مصالحهم، فاذا خالفوا بعد ذلك استحقوا العقاب.

___________________________________

(2) سورة 46 الاحقاف آية 29

[278]

قوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون(131)

آية بلاخلاف.

موضع (ذلك) من الاعراب يحتمل أمرين: احدهما - أن يكون رفعا كأنه قال: الامر ذلك، لانه لم يكن (ذلك) إشارة إلى ماتقدم ذكره من العقاب والجواب بأن مثواهم النار. والثاني - ان يكون نصبا، وتقديره فعلناه ذلك لهذا. وانما جازت الاشارة بذلك إلى غير حاضر لان مامضى صفة حاضرة للنفس فقام مقام حضوره، ويجوز الاشارة إلى هذا الذي تقدم ذكره.

وقوله " ان لم يكن " ف‍ (ان) هي المخففة من الثقيلة. والمعنى لانه لم يكن ومثلها التي في قول الشاعر:

في فتية كسيوف الهند قد علموا *** أن هالك كل من يحفي وينتعل(1)

ف‍ (أن) المفتوحة لابد فيها من إضمار الهاء، لانه لامعنى لها في الابتداء وانما هي بمعنى المصدر المبني على غيره. والمكسورة لاتحتاج إلى ذلك، لانها يصح ان تكون حرفا من حروف الابتداء فلا تحتاج إلى اضما ر.

وقوله " بظلم " قيل في معناه قولان: احدهما ماذكره الفراء والجبائي: انه بظلم منه على غفلة من غير تنبيه وتذكير ومثله قوله " وماكان ربك ليهلك القرى بظلم واهلها مصلحون "(2). الثاني - بظلم منهم حتى يبعث اليهم رسلا يزجرونهم ويذكرونهم على وجه الاستظهار في الحجة دون ان يكون ذلك واجبا، لانهم بمافعلوه من الظلم

___________________________________

(1) قائله الاعشى ديوانه: 45 القصيدة 6 وروايته: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن ليس يدفع عن ذوي الحيلة الحيل.

(2) سورة 11 هود آية 118.

[279]

قد اسحقوا العقاب. ومن استدل بذلك على انه لايحسن العقاب الابعد انفاذ الرسل، فقد أجبنا عن قوله في الاية الاولى.

قوله تعالى: ولكل درجات مما عملوا وماربك بغافل عما يعملون(132)

آية بلاخلاف.

قرأ ابن عامر " عما تعملون " بالتاء. الباقون بالياء.

ومن قرأ بالياء حمله على الغيبة.

ومن قرأ بالتاء حمله على الخطاب للمواجهة.

وفي الاية حذف وتقديرها، ولكل عامل بطاعة الله او معصيته منازل من عمله حتى يجازيه ان خيرا فخيرا، وان شرا فشرا. وماتقدم من ذكر الغافلين يدل على هذا الحذف. و (قبل وبعد) بنيتاعند حذف المضاف في مثل قوله " لله الامر من قبل ومن بعد "(3) لانهما في حال الاعراب لم يكونا على التمكن التام، لانه لايدخلهما الرفع في تلك الحال، فلما انضاف إلى هذا النقصان من التمكن بحذف المضاف اليه أخرجا إلى البنأ، وليس كذلك (كل) فاته متمكن على كل حال ولذلك لم يبن.

و (الدرجات) يحتمل أمرين: احدهما - الجزاء. والثاني - الاعمال فاذا وجهت إلى الجزاء كان تقديره: ولكل درجات جزاء من اجل ماعملوا، واذا حمل على الاعمال كان تقديره: ولكل درجات أعمال من اعمالهم. وانما مثل الاعمال بالدرجات ليبين انه وان عم احد قسميها صفة الحسن، وعم الاخر صفة القبيح، فليست في المراتب سواء، وانه بحسب ذلك يقع الجزاء، فالاعظم من العقاب للاعظم من المعاصي، والاعظم من الثواب للاعظم من الطاعات.

___________________________________

(3) سورة 30 الروم آية 4

[280]

وقوله " وماربك بغافل عما يعملون " انما ذكره ليعلموا انه لايفوته شئ منهما ولامن مراتبهما حتى يجازي عليه بما يستحق من الجزاء، وفيه تنبيه وتذكير للخلق في كل امورهم. والغفلة ذهاب المعنى عمن يصح ان يدركه. والغفلة عن المعنى والسهو عنه والغروب عنه نظائر، وضد الغفلة اليقظة، وضد السهو الذكر، وضد الغروب الحضور.

قوله تعالى: وربك الغني ذو الرحمة إن يشا يذهبكم ويستخلف من بعدكم مايشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين(133)

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى في هذه الاية بأنه الغني. والغني هوالحي الذي ليس بمحتاج.

والغني عن الشئ هوالذي يكون وجود الشئ وعدمه وصحته وفساده عنده بمنزلة واحدة، في انه ولايلحقه صفة نقص.

و " ذو الرحمة " يعني صاحب الرحمة، وهوتعالى بهذه الصفة لرحمته بعباده.

ثم اخبره عن قدرته وانه لوشاء ان يذهب الخلق بأن يميتهم ويهلكهم ويستخلف من بعدهم مايشاء بان ينشئ بعد هلاكهم كما أنشأهم في الاول من ذرية من تقدمهم. وكذلك ينشئ قوما آخرين من نسلهم وذريتهم، والجواب محذوف والكاف في (كما) في موضع نصب وتقديره ويستخلف من بعدكم مايشاء مثل ما استخلفكم.

وفي ذلك دلالة على انه يصح القدرة على ماعلم انه لايكون لانه بين انه لوشاء لذهب بهم وأتى بقوم آخرين ولم يفعل ذلك، فدل ذلك على انه يقدر على مايعلم انه لايفعله.

[281]

و (من) في قوله " ويستخلف من بعدكم " للبدل كقولك: اعطيتك من دينارك ثوبا اي مكان دينارك وبدله، ومعنى (من) في قوله " كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " ابتداء الغاية لان التقدير، ان ابتداء غايتكم من قوم آخرين وقيل في وزن " ذرية " ثلاثة أقوال: اولها - فعلية من الذر.

الثاني - فعيلة على وزن خليفة من ذرأ الخلق يذرأهم.

الثالث - فعولة من (ذروة) الا أن الهمزة ابدلت واوا، ثم قلبت ياء، فيكون بمنزلة علية من علوة.

وقرئ في الشواذ (ذرية) بكسر الذال وهما لغتان. وانشأ الله الخلق اذا خلقه وابتدأه وكل من ابتدأ شيئا فقد انشأه.

ومنه قولهم: انشأ فلان قصيدة، والنشأة الاحداث من الاولاد، واحدها ناشئ مثل خادم وخدم، ويقال للجواري أنشاء، وللذكور نشاء، قال نصيب:

ولولا أن يقال صبا نصيب *** لقلت بنفسي النشأ الصغار(1)

ويقال لهذا السحاب نشؤ حسن، وهو اول ظهوره في السماء.

قوله تعالى: إن ماتوعدون لآت وما أنتم بمعجزين(134)

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى في هذه الاية ان الذي أوعد الخلق به من عقابه على معاصيه والكفر به واقع بهم لان (ما) في قوله " انما " بمعني الذي، وليست كافة مثل قولك: انما قام زيد، لان خبرها جاء بعدها، وهوقوله " لات وهي في موضع نصب، والجنس في موضع رفع، والكافة لاخبر لها، واللام في قوله (للات) لام الابتداء ولايجوز ان تكون لام القسم، لان لام القسم لاتدخل على الاسماء ولاالافعال المضارعة الاأن تكون معها النون الثقيلة، ولاتعلق الفعل في (علمت ان زيدا ليقومن).

___________________________________

(1) اللسان (نشأ) النشأ: الشباب او الشابات.

[282]

ومعنى " توعدون " من الايعاد بالعقاب يقال: اوعدته اوعده إيعادا، وقال الحسن: انما توعدون من مجئ الساعة، لانهم كانوا يكذبون بالبعث، فعلى هذا يجوز ان يكون المصدر الوعد لاختلاط الخير والشر، فيكون على التغليب إذ مجئ الساعة خير للمؤمنين وشر على الكافرين.

وقال الجبائي: ان معناه " ان ماتوعدون " من الثواب والعقاب، فان الله يأتي به.

وقوله " وماانتم بمعجزين " أي لستم معجزين الله عن الاتيان بالبعث والعقاب، وانماقيل ذلك لان من يعبد الوثن يتوهم انه ينفعه في صرف المكروه عنه جهلا منه ووضعا للامر في غير موضعه. وايضا فانهم يعملون عمل من كان يفوته العقاب لتأخره عنه وطول السلامة بالامهال فيه.

قوله تعالى: قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لايفلح الظالمون(135)

آية بلاخلاف.

قرأ ابوبكر " مكاناتكم " على الجمع. الباقون على التوحيد، وقرأ حمزة والكسائي يكون بالياء. الباقون بالتاء المعجمة من فوق.

ومن قرأ بالياء فلان المصدر المؤنث يجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى.

ومن قرأ بالتاء فعلى اللفظ، فمما جاء منها على اللفظ قوله " فأخذتهم الصيحة "(1) وقوله " قدجاء‌تكم موعظة من ربكم "(2) وعلى المعنى قوله " واخذ الذين

___________________________________

(1) سورة 15 الحجر آية 73، 83 وسورة 23 المؤمنون آية 41.

(2) سورة 10 يونس آية 57

[283]

ظلموا الصيحة "(3) وقوله " فمن جاء‌ه موعظة "(4).

ومن وحد " مكانتكم " فلانه مصدر، والمصادر في الاكثر لاتجمع.

ومن جمع فلانها قد تجمع كقولهم: الحلوم والاحلام.

قال ابوعبيدة " مكانتكم " أي على حيالكم.

وقال ابوزيد: رجل مكين عند السلطان من قوم مكناء، وقد مكن مكانة، كأنه قال: اعملوا على قدر منزلتكم وتمكنكم من الدنيا، فانكم لن تضرونا بذلك شيئا. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يخاطب المكلفين من قومه ويأمرهم بأن يعملوا على مكانتهم، والمكانة الطريقة يقال: هو يعمل على مكانته ومكينته أي طريقته وجهته.

وقال ابن عباس والحسن: على ناحيتكم.

وقال الجبائي: على حالتكم.

وقال الزجاج: يجوز ان يكون المراد على تمكنكم، وهذا وان كان صيغته صيغة الامر فالمراد به التهديد كما قال " اعملوا ماشئتم "(5) وانما جاء التهديد بصيغة الامر لشدة التحذير، أي لو امربهذا لكان يجوز قبول أمره.

ووجه آخر - هو ان التقدير " اعملوا على مكانتكم " ان رضيتم بالعقاب أي انكم في منزلة من يؤمر به ان رضيتم بالعقاب، فهذا على التبعيد أن يقيموا عليه، كالتبعيد أن يرضوا.

ووجه ثالث هو ان الضرر يخص المقيم على المنكر، لان غيره بمنزلة الامن في انه لا يأمره بما يضره.

وقوله " اني عامل " إخبار من الرسول انه عامل بما امر الله تعالى به.

وقوله " فسوف تعلمون " فيه تهديد، ومعناه فسوف تعلمون جزاء اعمالكم.

وقوله " من تكون " يحتمل موضع (من) أمرين من الاعراب: احدهما - الرفع وتقديره أينا يكون له عاقبة الدار. والثاني - النصب بقوله " يعلمون " ويكون بمعنى الذي.

___________________________________

(3) سورة 11 هود آية 67.

(4) سورة 2 البقرة آية 275.

(5) سورة 41 حم السجدة آية 40

[284]

وانما قال: ان عاقبة الدار للمؤمنين دون الكافرين وان كان الكفار أيضا لهم عاقبة من حيث يصيرون إلى العقاب المؤبد وهي للمؤمنين من حيث يصيرون إلى النعيم الدائم، كما يقول العرب: لهم الكرة، ولهم الحملة، لانه اذافصل قيل: لهم وعلى اعدائهم.

وقوله " انه لايفلح الظالمون " أي لايفوز الظالمون بشئ من الثواب والمنافع، وانما لم يقل (الكافرون) وان كان الكلام في ذكرهم لانه أعم واكثر فائدة، ولانه اذا لم يفلح الظالم، فالكافر بذلك اولى، على ان الكافر يسمى ظالما فيجوز ان يكون عنى به انه لايفلح الظالمون الذين هم الكافرون، كما قال " والكافرون هم الظالمون "(6) وقال (ان الشرك لظلم عظيم "(7).

قوله تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فماكان لشركائهم فلا يصل إلى الله وماكان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء مايحكمون(136)

آية بلاخلاف.

قرأ الكسائي " بزعمهم " بضم الزاي في الموضعين. الباقون بفتحها.

وفي الزعم ثلاث لغات: الفتح والضم، والكسر مثل فتك وفتك وفتك. وقبل وقبل وقبل. وود وود وود. ولم يقرأ بالكسر احد.

فالفتح لغة اهل الحجاز، والضم لغة تميم، والكسر لغة بعض بني قيس.

اخبر الله تعالى عن الكفار الذين تقدم وصفهم أنهم يجعلون شيئا من أموالهم لله وشيئا لشركائهم تقربا اليهما، من جملة ما خلقه الله واخترعه، لان الذرأ هوالخلق على وجه الاختراع، واصله الظهور، ومنه ملح ذرآني

___________________________________

(6) سورة 2 البقرة آية 254.

(7) سورة 31 لقمان آية 13

[285]

وذرآني، لظهور بياضة. والذرأة ظهور الشيب.

قال الراجز:

وقد علتني ذرأة بادي بدي *** وريثة تنهض في تشددي(1)

يقال: ذرأ الله الخلق يذرأهم ذرء‌ا وذروا.

ويقال: ذرئت لحيته ذرء‌ا اذا.

ومنه طعنه فأذراه - غير مهموز - اذا ألقاه، وذرت الريح التراب تذروه ذروا اذا أبادته، وذروة كل شئ أعلاه.

و (الحرث) الزرع و (الحرث) الارض التي تثار للزرع، ومنه حرثها يحرثها حرثا، ومنه قوله " نساؤكم حرث لكم "(2) لان المرأة للولد كالارض للزرع و (الانعام) المواشي من الابل والبقر والغنم، مأخوذ من نعمة الوطئ، ولايقال لذوات الحافر: أنعام. وانما جعلوا الاوثان شركاء‌هم، لانهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم.

وقوله " فماكان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وماكان لله فهو يصل إلى شركائهم " قيل في معناه ثلاثة اقوال: احدها - قال ابن عباس وقتادة: انه اذا اختلط شئ مما جعلوه لاوثانهم بشئ مماجعلوه لله ردوه إلى مالاوثانهم، واذا اختلط بشئ مما جعلوه لله لم يردوه إلى مالله.

الثاني - قال الحسن والسدي: كان اذا هلك الذي لاوثانهم أخذوا بدله ممالله، ولايفعلون مثل ذلك في مالله (عزوجل).

الثالث - قال ابوعلي: انهم كانوا يصرفون بعض ماجعلوه لله في النفقة على اوثانهم، ولايفعلون مثل ذلك فيما جعلوه للاوثان.

وقوله " ساء مايحكمون " فيه قولان: احدهما - قال الزجاج: تقديره ساء الحكم حكمهم، فيكون على هذا موضع (ما) رفعا.

___________________________________

(1) (تفسير الطبري 12 / 17 واللسان والتاج (ذرأ) (بدا).

(2) سورة 2 البقرة آية 223

[286]

وقال الرماني: يجوز ان يكون موضع (ما) نصبا وتقديره ساء حكما حكمهم.

قوله تعالى: وكذلك زين الكثير من المشركين قتل أولادهم شكركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولوشاء الله ما فعلوه فذرهم ومايفترون(137)

آية بلاخلاف.

قرأ ابن عامر وحده " زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركائهم " بضم الزاي، ونصب (الاولاد) وخفض " شركائهم ". الباقون بفتح الزاي، " قتل " مفتوح اللام " أولادهم بجر الدال " شركاؤهم " بالرفع بالتزيين.

فوجه قراء‌ة ابن عامر انه فرق بين المضاف والمضاف اليه بالمفعول. والتقدير: قتل شركائهم اولادهم، وشركاؤهم فاعل القتل، وانما جربالاضافة ومن اضاف القتل إلى الاولاد في القراء‌ة الاخرى يكون الاولاد في موضع النصب، وهو مفعول به بالقتل وانشدوا فيه بيتا على الشذوذ أنشده بعض الحجازيين ذكره ابوالحسن:

فزججتها بمزجة *** زج القلوص أبي مزاده(1)

وذلك لايجوز عند اكثر النحويين لان القراء‌ة لايجوز حملها على الشاذ القبيح، ولانه اذا ضعف الفصل بالظرف حتى لم يجز الا في ضرورة الشعر كقول الشاعر: كما خط الكتاب بكف يوما يهودي(2) فان لايجوز في المفعول به أجدر، ولم يكن بعد الضعف الا الامتناع.

___________________________________

(1) معاني القرآن 1 / 358 وتفسير الطبري 12 / 138 وخزانة الادب 2 / 251.

(2) قائله ابوحية النمري ألفية ابن عقيل 2 / 68 والقرطبي 7 / 111 وتمامه:

كما خط الكتاب بكف يوما *** يهودي يقارب او يزل

[287]

وقيل انما حمل ابن عامر على هذه القراء‌ة انه وجد (شركائهم) في مصاحف اهل الشام بالياء لا بالواو، وهذا يجوز فيه قتل اولادهم شركائهم على ايقاع الشرك للاولاد يعني شركائهم في النعم وفي النسب وفي الاولاد، ولو قيل أيضا زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركاؤهم على ذكر الفاعل بعد ماذكر الفعل على طريقة مالم يسم فاعله جاز كما قال الشاعر:

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح(2)

أي ليبكه ضارع.

ومثله " يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال "(3) وتقديره كأنه لما قال " زين لكثير من المشركين قتل اولادهم " قال قائل من زينه؟ قيل زينه شركاؤهم.

وقال الفراء تكون " شركائهم " على لغة من قال في عشاء عشاي كما قال الشاعر:

اذا الثريا طلعت عشايا *** فبع لراعي غنم كسايا

وابوالعباس يأبى هذا البيت، ويقول الرواية الصحيحة بالهمزة. ووجه التشبيه في قوله " وكذلك زين " أنه كما جعل اولئك في الاية الاولى ماليس لهم كذلك زين هؤلاء ماليس لهم ان يزينوه.

والشركاء الذين زينوا قتل الاولاد قيل فيهم خمسة اقوال:

احدها - قال الحسن ومجاهد والسدي: هم الشياطين زينوا لهم وأد البنات أحياء خوف الفقر والعار.

والثاني - قال الفراء والزجاج: هم قوم كانوا يخدمون الاوثان.

والثالث - انهم الغواة من الناس.

والرابع - قيل: شركاؤهم في نعمهم.

والخامس - شركاؤهم في الاشراك.

___________________________________

(2) قائله نهشل بن حرى النهشلي، وقيل الحارث بن نهيك النهشلي.

وقيل ضرار النهشلي، وقيل مرزرد. وقيل المهلهل. وقيل غير ذلك.

شواهد العيني على الاشموني في حاشية الصبان 2 / 49 الشاهد 75 وغيره..

(3) سورة 24 النور آية 36

[288]

وقوله " ليردوهم " فالارداء الاهلاك، تقول: أراده يرديه إرداء وردي يردي ردى اذا هلك، وتردي ترديا، ومنه قوله " ومايغني عنه ماله اذا تردى "(1) والمراد به الحجر يتردى من رأس جبل.

واللام في قوله " ليردوهم " قال قوم هي لام العاقبة، كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا "(2) لانهم لم يكونوا معاندين فيقصدوا أن يردوهم ويلبسوا عليهم دينهم، هذا قول أبي علي.

وقال غيره: يجوز ان يكون فيهم المعاند، ويكون ذلك على التغليب.

وقوله " ولو شاء الله ما فعلوه " معناه لو شاء ان يضطرهم إلى تركه، او لو شاء ان يمنعهم منه لفعل، ولو فعل المنع والحيلولة لما فعلوه، لكن ذلك ينافي التكليف. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله ان يذرهم اي يتركهم ولايمنعهم ويخلي بينهم وبين مايكذبون وذلك غاية التهديد كما يقول القائل: دعني وإياه.

قوله تعالى: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لايطعمها إلاّ من نشاء بزعمهم وأنعام حرّمت ظهورها وأنعام لايذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بماكانوا يفترون(138)

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار انهم " قالوا هذه انعام وحرث " يعني الانعام والزرع الذي جعلوهما لالهتهم وأوثانهم.

وقوله " بزعمهم " يدل على أنهم فعلوا ذلك بغير حجة بل بقولهم العاري عن برهان.

___________________________________

(1) سورة 92 الليل آية 11.

(2) سورة 28 القصص آية 8

[289]

وقيل في الانعام الاولى قولان احدهما - قال الجبائي: التي ذكرها أولا فهو ماجعلوه لاوثانهم كما جعلوا الحرث للنفقة عليها في خدامها وماينوب من أمرها. وقيل:؟؟ للاوثان.

وأما الانعام التي ذكرت ثانيا، فهي السائبة والبحيرة والحام، وهو الفحل الذي يخلونه ويقولون: حمى ظهره، وهو قول الحسن ومجاهد.

وأما التي ذكرت ثالثا - قيل فيه قولان: أحدهما التي إذا ولدوها أو ذبحوها أو ركبوها لم يذكروا اسم الله عليها، وهو قول السدي وغيره.

والثاني قال ابووائل * هي التي لايحجون عليها.

وقوله " حجر " معناه حرام تقول: حجرت على فلان كذا أي منعته منه بالتحريم، ومنه قوله " حجرا محجورا "(1) والحجر لامتناعه بالصلابة، والحجر العقل للامتناع به من القبيح، قال المتلمس:

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها *** حجر حرام ألا تلك الدهاريس(2)

وقال رؤبة: وجارة البيت لها حجري(3) وقال الاخر:

فبت مرتفقا والعين ساهرة *** كأن نومي علي الليل محجور(4)

وقيل: حجر وحرج مثل جذب وجبذ، وبه قرأابن عباس. وبضم الحاء قراء‌ة الحسن وقتادة.

ويقال: حجر وحجر وحجر بمعنى المنع بالتحريم، وحجر الانسان، وحجره بالكسر والفتح. وانما أعيبوا بتحريم ظهور الانعام،

___________________________________

(1) سورة 25 الفرقان آية 22، 53.

(2) قائله جرير بن عبد المسيح، وهو الملتمس. ديوانه القصيدة 4 ومجاز القرآن 1 / 207 واللسان .

(دهرس) ومعجم البلدان .

(نخلة القصوى) وتفسير الطبري 12 / 140 و " الدهاريس " الدواهي.

(3) وقيل انه للعجاج. ديوان العجاج: 68 واللسان " حجر ".

(4) نبسه ابن منظور في اللسان . (رفق) إلى . (أعشى بأهله). وهو في الطبري 12 / 141 غير منسوب. ومعنى . (مرتفقا) أي متكئا على يده.

[290]

والواجب تحريمها عقلا حتى يرد سمع باباحته، لانهم حرموا ذلك على وجه الكذب على الله، وانه اوجب ذلك اذا كانت على صفة مخصوصة. وانما أعيبوا بأكلها بعد ذبحها، وهي حينئذ تجري مجرى الميتة، وذلك لايعلم تحريمه عقلا، لانهم ادعوا انه على وجه التذكية إفتراء على الله، فقصدوا به هذا القصد، ولذلك أعيبوا بتملكها وان كانوا سبقوا اليها، وانما وجب تحريم الانتفاع باستهلال الانعام، لان الايلام لايحسن الا مع تضمن العوض الموافي عليه، وذلك مفتقر إلى السمع.

وقوله " افتراء " يعني كذبا، وفي نصبه قولان: أحدهما - قالوا: إفتراء على الله، الثاني - لايذكرون اسم الله افتراء على الله، كأنه قيل: افتروا بتركهم التسمية الذي أضافوه إلى الله إفتراء عليه.

قوله تعالى: وقالوا مافي بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم(139)

آية بلاخلاف.

قرأ ابن كثير " وان يكن " بالياء " ميتة " رفع.

وقرأ ابن عامر الا الداحوني عن هشام، وابوجعفر " تكن " بالتاء " ميتة " رفع.

وقرأ ابو بكر عن عاصم الا الكسائي " يكن " باليا " ميتة " نصب. الباقون بالتاء " ميتة " نصب.

وجه قراء‌ة الاكثر ان يحمل على (ما) وتقديره وان يكن مافي بطون الانعام ميتة.

ووجه قراء‌ة ابن عامر ان يضيف الفعل إلى الميتة فيرتفع الميتة به، فلذلك انث الفعل.

ووجه قراء‌ة ابي بكر ان مافي بطون الانعام مؤنث، لانها من الانعام.

ويجوز ان يكون اراد ان تكون الاجنة ميتة.

ووجه قراء‌ة ابن كثير ان يضيف الفعل إلى الميتة، لكن لمالم يكن تأنيث الميتة

[291]

تأنيث ذوات الفروج، وتقدم الفعل جاز ان يذكر، كما قال " فمن جاء‌ه موعظة "(1) و " أخذ الذين ظلموا الصيحة "(2) وتكون (كان) تامة، ومعناه وان وقع ميتة.

اخبر الله تعالى في هذه الاية عن هؤلاء الكفار الذين ذكرهم أنهم " قالوا مافي بطون هذه الانعام " التي تقدم ذكرها أحياء، فهو خالص لذكروهم، ومحرم على ازواجهم الاناث وبناتهم.

وقال بعضهم انه يختص بالزوجات، والاولى عموم النساء تفضيلا للذكور على الاناث. وقيل ان الذكور كانوا القوام بخدمة الاوثان.

والمراد بمافي بطون الانعام قيل فيه ثلاثة أقوال: احدها - قال قتادة المراد به الالبان.

والثاني - قال مجاهد والسدي: انه الاجنة.

الثالث - ان المراد به الجميع، وهو أعم.

وقوله " خالصة لذكورنا " معناه لا يشركهم فيها أحد من الاناث وليس المراد به تسوية تصفية شئ عن شئ كالذهب الخالص والفضة الخالصة، ومن ذلك إخلاص التوحيد واخلاص العمل لله.

والهاء في قوله " خالصة " قيل فيها ثلاثة أقوال: احدها - أنها للمبالغة في الصفة كالعلامة ولراوية الثاني - على تأنيث المصدر كالعاقبة والعافية، ومنه قوله " بخالصة ذكرى الدار "(3). الثالث - لتأنيث مافي بطونها من الانعام. ويقال فلان خالصة فلان ومن خلصائه.

وحكى الزجاج والفراء: انه قرئ خالصة لذكورنا، والمعنى ماخلص منها. وقيل أصل (الذكور) من الذكر سمي الذكر بذلك، لانه أنبه واذكر من الانثى.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 275.

(2) سورة 11 هود آية 67.

(3) سورة 38 ص آية 46

[292]

وقوله " وان يكن ميتة " معناه ان كان جنين الانعام ميتة فالذكور والاناث فيه سواء، فقال الله تعالى " سيجزيهم وصفهم " يعني سيجزيهم جزاء وصفهم، وحذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه.

وقوله " انه حكيم عليم " معناه انه تعالى حكيم فيما يفعل بهم من العقاب آجلا، وفي امهالهم عاجلا " عليم " بما يفعلون لايخفى عليه شئ منها.

وقوله " خالصة " رفع بانه خبر الابتداء والمبتدأ قوله " مافي بطون " ولايجوز عند البصريين النصب، لان العامل فيه لايتصرف، فلا يتقدم عليه، وأجازه الفراء مع قوله انهم لايكادون يتكلمون به، لايقولون زيد قائما فيها، ولكنه قياس. وقد عاب الله على الكفار في هذه الاية من أربعة اوجه: أولها - ذبحهم الانعام بغير إذن الله.

وثانيها - أكلهم على ادعاء التذكية افتراء على الله.

وثالثها - تحليلهم للذكور وتحريمهم على الاناث تفرقة بين ما لايفترق الا بحكم من الله.

ورابعها - تسويتهم بينهم في الميتة من غير رجوع إلى سمع موثوق.

الآية: 140 - 159

قوله تعالى: قد خسرالذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا مارزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وماكانوا مهتدين(140)

آية بلاخلاف.

قرأ ابن كثير وابن عامر " قتلوا " بتشديد التاء. الباقون بالتخفيف.

من شدد حمله على التكرار، كقوله " جنات عدن مفتحة "(1). ومن خفف فلانه يدل على الكثرة.

___________________________________

(1) سورة 38 ص آية 50.

[293]

اخبر الله تعالى ان هؤلاء الكفار الذين قتلوا أولادهم الاناث خوفامن الفقر وهربا من العار قد خسروا، ومعناه هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك عذاب الابد. والخسران هلاك رأس المال.

وقوله " سفها بغير علم " نصب على انه مفعول له ويجوز ان يكون نصبا على المصدر، وتقديره سفهوا بمافعلوه سفها خوفا من الفقر وهربا من العار. والسفه خفة الحلم بالعجلة إلى مالاينبغي ان يعجل اليه. واصله الخفة. وضد السفيه الحليم.

والفرق بين السفه والنزق ان السفه عجلة يدعو اليها الهوى، والنزق عجلة من جهة حدة الطبع والغيظ.

وقوله " وحرموا مارزقهم الله " يعني ماحرموه على نفوسهم من الحرث بزعمهم انه حجر.

وقال الحسن: انه راجع إلى الانعام.

وقال الرماني: لايجوز ذلك لانها محرمة عليهم بحجة العقل حتى يأتي بسمع. والقتل نقض البنية التي تحتاج الحياة اليها والموت - عند من أثبته معنى ضد الحياة.

وقوله " افتراء على الله " يعني كذبا. ونصبه على المصدر والعامل فيه قوله " وحرموا " لان ذلك قول منهم أضافوه إلى الله. ثم اخبر تعالى انهم قد ضلوا بمافعلوه وجازوا عن طريق الحق وأنهم لم يكونوا مهتدين إلى طريق الرشاد والحق.

قوله تعالى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين(141)

آية بلاخلاف.

[294]

قرأ اهل البصرة وابن عامر وعاصم (حصاده) - بفتح الحاء - الباقون بكسرها. وهم لغتان.

وقال سيبويه: جاء‌وا بالمصادر حين أرادوا أنتهاء الزمان على مثال (فعال) نحو الضرام الجزاز، والجداد والقطاف والحصاد. وربما دخلت اللغتان في بعض هذا، وكان فيه (فعال وفعال).

لما اخبر الله عن هؤلاء الكفار وعن عظيم ماابتدعوه وافتروا به على الله وشرعوا من الدين مالم يأذن الله فيه، عقب ذلك البيان بأنه الخالق لجميع الاشياء فلايجوز اضافة شئ منها إلى الاوثان، ولاتحليله، ولاتحريمه الا بأذنه، فقال " وهوالذي أنشأ جنات معروشات " والانشاء هواحداث الافعال ابتداء لاعلى مثال سبق، وهو كالابتداع.

والاختراع هو أحداث الافعال في الغير من غير سبب، والخلق هو التقدير والترتيب.

والجنات جمع جنة، وهي البساتين التي يجنها الشجر من النخل وغيره.

والروضة هي الخضرة بالنبات والزهور المشرقة باختلاف الالوان الحسنة.

وقوله " معروشات وغير معروشات " قيل في معناه قولان: احدهما - ما قال ابن عباس والسدي: المعروشات هوماعرش الناس من الكروم ونحوها، وهو رفع بعض اغصانها على بعض " وغير معروشات " مايكون من قبل نفسه في البراري والجبال. والثاني - قال ابوعلي يعرشه أي يرفع له حظائر كالحائط.

واصله الرفع ومنه قوله تعالى " خاوية على عروشها "(1) يعني على اعاليها، وما ارتفع منها لم يندك فيستوي " بالارض، ومنه العرش للسرير لارتفاعه.

(ومعرشات) في موضع النصب، لانها صفة ل‍ (جنات) والنخل والزرع معناه وأنشأ النخل والزرع " مختلفا أكله " يعني طعمه، ونصب مختلفا على الحال، وانما نصبه على الحال، وهو يؤكل بعد ذلك بزمان، لامرين: احدهما - ان معناه مقدرا اختلاف أكله كقولهم: مررت برجل معه صقر صايدا به غدا أي مقدرا الصيد به غدا.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 259 وسورة 18 الكهف آية 43 وسورة 22 الحج آية 45

[295]

الثاني - ان يكون معنى (أكله) ثمره الذي يصلح ان يؤكل منه.

" والزيتون والرمان " أي وانشأ الزيتون والرمان. وانما قرن الزيتون إلى الرمان، لانه لماذكر الكرم والنخل والزرع اقتضى ذكرماخرج عن ذلك، فقرنا لفضلهما بعدما ذكره.

وقيل: لانهما يشتبهان باكتناف الاوراق في اغصانها " متشابها وغير متشابه " معناه متماثلا وغير متماثل.

وقيل " متشابها " في النظر " وغير متشابه " في الطعم بل الطعم مختلف.

وقوله " كلوا من ثمره اذا أثمر " المراد به الاباحة لا الامر.

وقال الجبائي وجماعة: ان ذلك يدل على جواز الاكل من ثمره، وان كان فيه حق للفقراء.

وقوله " وآتوا حقه يوم حصاده " أمر ايجاب بايتاء الحق يوم الحصاد على طريق الجملة، والحق الذي يجب اخراجه يوم الحصاد فيه قولان: احدهما - قال ابن عباس ومحمدبن الحنفية وزيد بن أسلم والحسن وسعيد بن المسيب وطاووس وجابر بن عبدالله وبريد وقتادة والضحاك: انه الزكاة العشر، اونصف العشر. الثاني - روي عن جعفر (ع) عن أبيه (ع) وعطاء ومجاهد وابن عامر وسعيدبن جبير والربيع بن أنس: انه ماينثر مما يعطي المساكين.

وروي أصحابنا أنه الضغث بعد الضغث والحفنة بعد الحفنة.

وقال ابراهيم والسدي: الاية منسوخة بفرض العشر ونصف العشر، قالوا: لان الزكاة لاتخرج يوم الحصاد، وقالوا لان هذه الاية مكية وفرض الزكاة نزل بالمدينة. ولماروي بأن فرض الزكاة نسخ كل صدقة.

قال الرماني: وهذا غلط، لان يوم حصاده ظرف لحقه، وليس بظرف الايتاء المأمور به.

وقوله " ولاتسرفوا " قيل في المخاطبين به ثلاثة أقوال: احدها - قال ابوالعالية وابن جريح انه يتوجه إلى ارباب الاموال،

[296]

لانهم كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة يسرفون فيه، فروي عن ثابت بن شماس انه كان له خمس مئة رأس نخلا فصرمها وتصديق بها، ولم يترك لاهله منها شيئا فنهى الله عن ذلك، وبين أنه مسرف، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله ابدأ بمن تعول.

الثاني - قال ابن زيد انه خطاب للسلطان.

الثالث - انه خطاب للجميع وهو أعم فائدة.

وقيل: ان السرف يكون في التقصير، كمايكون في الزيادة قال الشاعر:

اعطوا هنيدة يحدوها ثمانية *** مافي عطائهم من ولاسرف(1)

معناه ولاتقصير.

وقيل ولاإفراط، لانه لايستكثر كثيرهم.

والاسراف هو مجاوزة حد الحق وهو افراط وغلو. وضده تقصير واقتار.

ومسرف صفة ذم في العادة. وينبغي ان يؤدي الحق الذي في الغلات إلى امام المسلمين ليصرفه إلى اهل الصدقات ولهم ان يخرجوه إلى المساكين اذا لم يأخذهم الامام بذلك فأما مقدار مايجب من الزكاة، والنصاب الذي يتعلق به وصفه الارض الزكوية فقد بيناه في كتب الفقه مستوفى لانطول بذكره الكتاب.

قوله تعالى: ومن الانعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين(142)

آية بلاخلاف.

العامل في قوله " حمولة وفرشا " قوله " انشأ " المتقدم، كأنه قال وانشأ لكم من الانعام " حمولة وفرشا ".

وقيل في معنى: " حمولة وفرشا "

___________________________________

(1) قائله جرير ديوانه 389 وطبقات فحول الشعراء: 359 واللسان . (هند)، " سرف " وتفسير الطبري 7 / 579 و 12 / 177 وتفسير القرطبي 7 / 111، وهنيدة: اسم لكل مئة من الابل، وهو ممنوع من الصرف.

[297]

ثلاثة أقوال: أحدها - ماروي عن ابن مسعود، وابن عباس في احدى والروايتين، والحسن في رواية - ومجاهد: ان الحمولة كبارا الابل، والفرش الصغار.

الثاني - ماروي عن الحسن - في رواية - وقتادة والربيع والسدي والضحاك وابن زيد: ان الحمولة ماحمل من الابل والبقر، والفرش الغنم.

الثالث - ماروي عن ابن عباس - في رواية - ان الحمولة كل ماحمل من الابل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش الغنم، كأنه ذهب إلى أنه يدخل في الانعام ذو الحافر على الاتباع.

و (الحمولة) لاواحدلها من لفظها كالركوبة والجزورة.

و (الحمولة) بضم الحاء هي الاحمال، وهي الحمول.

وانما قيل للصغار: فرش، لامرين: احدهما - لاستواء اسنانها في الصغر والانحطاط، كاستواء مايفترش. الثاني - من الفرش وهي الارض المستوية التي يتوطأها الناس.

وقال الجبائي: في التفسير، وابوبكر الرازي في احكام القرآن: ان الفرش مايفترش من البسط، والزرابي. وهذا غلط قبيح جدا في اللغة.

وقوله " خطوات " يجوز فيه ثلاثة أوجه - بضم الخاء والطاء، وضم الخاء وسكون الطاء، وضم الخاء وفتح الطاء - وفي معناه قولان: احدهما - مايتخطى بكم الشيطان اليه من تحليل إلى تحريم، ومن تحريم إلى تحليل. الثاني - طرق الشيطان، فانه لايسعى الا في عصيان.

وقوله " انه " الهاء كناية عن الشيطان " لكم عدو مبين " فيه اخبار من الله ان الشيطان عدو للبشر " مبين " أي ظاهر. وقيل في معنى " مبين " قولان: أحدهما - أنه أبان عداوته لكم بما كان منه إلى أبيكم آدم حين اخرجه من الجنة الثاني - بين العداوة أي لاظهاره ذلك في حزبه، وأوليائه من الشياطين هذا قول الحسسن.

[298]

قوله تعالى: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الانثيين نبّؤني بعلم إن كنتم صادقين(143)

آية بلاخلاف

قرأ ابن كثير الا ابن فليح وابن عامر الا الداحوني عن هشام واهل البصرة (المعز) بفتح العين. الباقون سكونها.

قال أبوعلي من قرأ بالفتح اراد الجمع بدلالة قوله " من الضأن اثنين " ولوكان واحدا لم يسغ فيه هذا، ونصب اثنين على تقدير: وانشأ ثمانية ازواج: انشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ونظير معز جمع ماعزخادم وخدم وطالب وطلب، وحارس وحرس، وقال ابوالحسن: هو جمع على غير واحد، وكذلك المعزى، وحكى ابوزيد إمعوز وانشد: * كالتيس في إمعوزه المربل *

وقالوا: المعيز كالكليب، ومن سكن العين، فهو أيضا جمع ماعز كصاحب وصحب وتاجر وتجر وراكب وركب.

وابوالحسن: يرى هذا الجمع مستمرا، ومن يرده في التصغير إلى الواحد، فيقول في تحقير ركب رويكبون، وفي تجر: تويجرون، وسيبويه يراه اسما من أسماء الجمع، وانشد ابوعثمان حجة لقول سيبويه:

بنيته بعصبة من ماليا *** أخشى ركيبا او رجيلا عاديا(1)

- بالعين والغين - عن غير ابي علي فتحقيره له على لفظه من غير ان يرده

___________________________________

(1) البيت ل‍ . (أحيحة بن الجلاح) وقدانشده ابوعثمان شاهدا على البيت الذي يأتى بعده من أنه يقال في تصغير . (ركب) ركيب - بضم الراء وفتح الكاف وتسكين الياء.

[299]

إلى الواحد الذي هو فاعل - والحاق الواو والنون أو الياء والنون، يدل على إنه اسم للجمع وأنشد ابوزيد:

واين ركيب واضعون رحالهم *** إلى أهل نار من أناس بأسود(2)

وقال ابوعثمان البقرة عندالعرب نعجة، والظبية عندهم ماعزة، الدليل على ذلك قول ذي الرمة:

اذا مارآها راكب الضيف لم يزل *** يرى نعجة في مرتع فيثيرها

مولعة خنساء ليست بنعجة *** يدمن اجواف المياه وقيرها(3)

قوله لم يزل يرى نعجة يريد بقرة، ألا ترى انه قال مولعة خنساء، والخنس والتوليع إنما يكونان في البقر دون الظباء.

وقوله ليست بنعجة معناه انها ليست بنعجة أهلية، لانه لايخلو من ان يريد أنها ليست بنعجة أهليه، أو ليست بنعجة، ولايجوز ان يريد انها ليست بنعجة، لانك ان حملته على هذا فقد نفيت ماأوجبه من قوله: لم يزل يرى نعجة، واذالم يجز ذلك علمت انه اراد ليست بنعجة أهلية، والدليل على ان الظبية ماعزة قول أبي ذؤيب.

وعادية تلقى الثياب كأنها *** تيوس ظباء محصها وانبتارها(4)

فقوله تيوس ظباء كقوله: تيوس معز، ولوكانت عندهم ضائنية لقال كأنها كباش ظباء، والوقير الشاة يكون فيها كلب وحمار في قوله الاصمعي.

قوله " ثمانية ازواج " منصوب، لانه بدل من " حمولة وفرشا " لدخوله في الانشاء، وتقديره وأنشأ حمولة وفرشا ثمانية أزواج " من الضأن اثنين " نصب (اثنين) بتقدير انشأ من الضأن اثنين، ولورفع على تقدير منها ماعز إثنان كما تقول رأيت القوم منهم قائم وقاعد كان جائزا، وانما أجمل مافصله في الاثنين للتقدير علي شئ منه، لانه اشد في التوبيخ من ان يكون دفعة واحدة.

___________________________________

(2) انشده شاهدا على ماتقدم على انه يقال في تصغير (راكب) ركيب، وذلك يدل على ان ركبا مفرد، وليس جمعا لراكب.

(3) اللسان (نعج).

(4) اللسان " تيس "

[300]

وقوله " ثمانية ازواج " يريد ثمانية افراد، لان كل واحد من ذلك يسمى زوجا، والانثى زوج، وانما سمي بذلك، لانه لايكون زوج الاومعه آخر له مثل اسمه، فلمادل على الاثنين من اقرب الوجوه، وقع على طريقه، ومنه قول لبيد.

من كل محفوف يظل عصيه *** زوج عليه كلة وقرامها(5)

ومثل ذلك قولهم: خصم للواحد والاثنين، وقوله " من الضأن اثنين " يعني ذكر وأنثى، فالضأن الغنم ذوات الاصواف والاوبار، والمعز الغنم ذوات الاشعار والاذناب القصار، وواحد الضأن ضائن، كقولهم تاجر وتجر في قول الزجاج. والانثى ضائنة. وقال غيره: هو جمع لاواحدله، ويجمع ضئين كقولهم: عبد وعبيد، ويقال فيه (ضئين) كما يقولون في شعر شعير، وكذلك ماعز ومعز، الا أنه يجوز فتحه لدخول حرف الحلق فيه ويجمع مواعز.

وروي عن أبي عبدالله (ع) ان المراد بقوله " من الضأن اثنين " أهلي ووحشي وكذلك المعز والبقر " ومن الابل اثنين " العرابي والبخاتي. وانما خص هذه الثمانية أزواج، لانها جميع الانعام التي كانوا يحرمون منها مايحرمونه مماتقدم ذكره.

فان قيل: اذاكان ماحرموه معلوما فلم عدل بهم في السؤل إلى غيره؟ قيل على وجه المعارضة لهم على طريقة الحجاج أي انكم بمنزلة من قال هذا، ولذلك وقع السؤال أعلى كذا أم كذا؟ وان لم يتقدم دعوى أن أحدهما كذا، لانهم في حكم هذا المدعى.

وقوله " آلذكرين حرم أم " منصوب ب‍ (حرم)، والمعنى في قوله " آلذكرين حرم أم الانثيين " اجاء‌كم التحريم فيما حرمتم من السائبة والبحيرة والوصيلة والحام من الذكرين أم من الانثيين، فالالف ألف استفهام والمراد به التوبيخ، فلو قالوا من قبل الذكر حرم عليهم كل ذكر، ولو قالوا من قبل

___________________________________

(5) تفسير الطبري 11 / 143

[301]

الانثى حرمت عليهم كل أنثى.

ثم قال " اما اشتملت عليه أرحام الانثيين " فلو قالوا ذلك حرم عليهم الذكر والانثى، لان الرحم يشتمل عليهما، قال الحسن معناه ماحملت الرحم.

وقوله " نبئوني " بعلم ان كنتم صادقين " في ذلك.

وقوله " آلذكرين " دخلت الف الاستفهام على الف الوصل لئلا يلتبس بالخبر، ولو اسقطت جاز، لان (أم) تدخل على الاستفهام، وعلى هذا أجاز سيبويه قول الشاعر ان يكون استفهاما: فو الله ماادري وان كنت داريا شعيب بن سهم أم شعيب بن منقر(1) اجاز تقديره أشعيب. و (ما) في قوله " أما اشتملت " في موضع نصب عطفا على الانثيين، وانما قال: الانثيين مثنى، لانه اراد من الضأن والمعز.

قوله تعالى: ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين قل ءآلذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الانثيين أم كنتم شهداء إذ وصيكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لايهدي القوم الظالمين(144)

آية بلاخلاف.

قوله " ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين " تفصيل لتمام الثمانية أزواج التي أجملها في الاية الاولى.

وقد بينا معنى قوله " آلذكرين حرم ام الانثيين اما اشتملت عليه أرحام الانثيين " واصل الاشتمال الشمول تقول: شملهم الامر يشملهم شمولا فهو شامل، ومنه الشمال لشمولها على ظاهر الشئ

___________________________________

(1) مر تخريجه في 4 / 199

[302]

وباطنه بقوتها ولطفها والشمول الخمر لاشتمالها على العقل.

وقيل: لان لها عصفة كعصفة الشمال.

وقوله " ام كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " ف‍ (أم) معادلة لقوله " آلذكرين " وانما قال " أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " لان طرق العلم اماالدليل الذي يشترك العقل في ادراك الحق بها أو المشاهدة التي يختص بها بعضهم دون بعض، فاذا لم يكن واحد من الامرين سقط المذهب. والمعنى أعلمتم ذلك بالسمع والكتب المنزلة فأنتم لاتقرون بذلك أم شافهكم الله به فعلتموه؟ ! فاذا لم يكن واحدمنهما علم بطلان ماتذهبون اليه. والوصية مقدمة مؤكدة فيما يفعل او يترك، يقال: وصاه يوصيه توصية وأوصاه يوصيه إيصاء، والوصي الموصى اليه.

وقوله " فمن أظلم ممن افترى على الله " يعني من أظلم لنفسه ممن يكذب عليه فيضيف اليه تحريم مالم يحرمه وتحليل مالم يحلله " ليضل الناس بغير علم " أي عمل القاصد إلى إضلالهم من اجل دعائه إلى مايشك بصحته مما لايؤمن ان يكون فيه هلاكهم وان لم يقصد إضلالهم، فلذلك قال " ليضل الناس بغير علم ".

ثم أخبر " ان الله لايهدي " إلى الثواب " القوم الظالمين " لانهم مستحقون للعقاب الدائم بكفرهم وضلالهم.

قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولاعاد فان ربك غفور رحيم(145)

آية بلاخلاف.

[303]

قرأ ابن كثير وحمزة " تكون " بالتاء " ميتة " بالنصب.

وقرأ ابن عامر بالتاء والرفع. الباقون بالياء والنصب.

من قرأ بالياء ونصب الميتة جعل في " تكون " ضمير او نصب الميتة بأنه خبركان وتقديره: الاان يكون ذلك او الموجود ميتة.

ومن قرأ بالتاء ورفع الميتة رفعها ب‍ (يكون) ويكون من كان التامة دون الناقصة التي تدخل على المبتدأ والخبر، وهذه القراء‌ة ضعيفة، لان مابعده " اودما مسفوحا او لحم خنزير " بالعطف عليه، فلوكان مرفوعا لضعف ذلك.

ومن قرأ بالتاء ونصب الميتة جعل في (يكون) ضمير العين او النفس، وتقديره الا أن تكون النفس ميتة، ونصب الميتة بأنه خبر كان. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار انه لايجد في ماأوحي اليه شيئا محرما الانحو ماذكره في المائدة(1) كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، لان جميع ذلك يقع عليه السم الميتة، وفي حكمها، فبين هناك على التفصيل، وههنا على الجملة وأجود من ذلك ان يقال: ان الله تعالى خص هذه الثلاثة أشياء تعظيما لتحريمها وبين ماعداها في موضع آخر.

وقيل: انه خص هذه الاشياء بنص القرآن وماعداه بوحي غير القرآن.

وقيل: ان ماعداه حرم فيما بعد بالمدينة والسورة مكية. والميتة عبارة عماكان فيه حياة فقدت من غير تذكية شرعية. والدم المسفوح هو المصبوب، يقال: سفحت الدمع وغيره أسفحه سفحا اذا صببته، ومنه السفاح الزنا، لصب الماء صب مايسفح والسفح والصب والاراقة بمعنى وانما خص المسفوح بالذكر، لان مايختلط بالدم منه ممالايمكن تخليصه منه معفو مباح، وهوقول ابي محلز، وعكرمة وقتادة.

___________________________________

(1) آية 3 من سورة 5 المائدة 3 / 428

[304]

وقوله " أو لحم خنزير " فانه وان خص لحم الخنزير بالذكر، فان جميع مايكون منه من الجلد والشعر والشحم وغير ذلك محرم.

وقوله " فانه رجس " يعني ماتقدم ذكره، فلذلك كناعنه بكناية المذكر، والرجس العذاب أيضا.

وقوله " أوفسقا " عطف على قوله " اولحم خنزير " فلذلك نصبه، والمراد بالفسق " ماأهل لغير الله به " يعني " مالم يذكر أسم الله عليه " او تذكر الاصنام والاوثان، وسمي ماذكر عليه أسم الوثن: فسقا لخروجه عن أمر الله. وأصل الاهلال رفع الصوت بالشئ، ومنه اهل الصبي اذا صاح عندولادته.

وقوله " فمن اضطر غير باغ ولاعاد " قيل فيه قولان: أحدهما - غير طالب بأكله التلذذ. والثاني - غير قاصد لتحليل ماحرم الله.

وروى أصحابنا في قوله " غير باغ " ان معناه ان لايكون خارجا على إمام عادل أي لايعتدى بتجاوز ذلك إلى ماحرمه الله.

وروى أصحابنا ان المراد به قطاع الطريق، فانهم غير مرخصين بذلك على حال.

والضرورة التي تبيح أكل الميتة هي خوف التلف على النفس من الجوع. وانما قال عند التحليل للمضطر " ان ربك غفور رحيم " لان هذه الرخصة لانه " غفور رحيم " أي حكم بالرخصة كما حكم بالمغفرة. وفي ذلك بيان عن عظم موقع النعمة.

وقد استدل قوم بهذه الاية على إباحة ماعدا هذه الاشياء المذكورة. وهذا ليس بصحيح، لان ههنا محرمات كثيرة غيرها كالسباع، وكل ذي ناب وكل ذي مخلب، وغير ذلك. وكذلك أشياء كثيرة اختص اصحابنا بتحريمها، كالجرى والمار ماهي، وغير ذلك، فلايمكن التعلق بذلك. ويمكن ان يستدل بهذه الاية؟؟ تحريم الانتفاع بجلد الميتة فانه داخل تحت قوله " ان يكون ميتة " ويقويه قوله (عليه السلام) لاينتفع من الميتة بأهاب ولاعصب.

[305]

فأما دلالته على ان الشعر والصوف والريش منها والناب والعظم محرم، فلايدل عليه، لان مالم تحله الحياة لايسمى ميتة على مامضى القول فيه.

قوله تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليه شحومهما إلا ماحملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون(146)

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى انه حرم على اليهود في أيام موسى كل ذي ظفر.

واختلفوا في معنى " كل ذي ظفر " فقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي: انه كل ماليس بمنفرج الاصابع، كالابل، والنعام، والاوز، والبط.

وقال أبوعلي الجبائي: يدخل في ذلك جميع انواع السباع والكلاب والسنانير وسائر مايصطاد بظفره من الطير.

وقال البلخي: هوكل ذي مخلب من الطائر، وكل ذي حافر من الدواب. ويسمى الحافر ظفرا مجازا، كما قال الشاعر:

فمارقد الولدان حتى رأيته *** على البكر يمريه بساق وحافر(1)

فجعل الحافر موضع القدم.

واخبر تعالى انه كان حرم عليهم شحوم البقر والغنم من الثرب، وشحم الكلى، وغيرذلك مما في أجوافها، واستثنى من ذلك بقوله " الاماحملت ظهورها " ماحملته ظهورها فانه لم يحرمه، واستثنى أيضا ماعلى الحوايا من الشحم، فانه لم يحرمه.

___________________________________

(1) قائله جبيها الاسدي. اللسان . (حفر)

[306]

واختلفوا في معنى الحوايا، فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والسدي: هي المباعر.

وقال ابن زيد: هن بنات اللبن.

وقال الجبائي: الحوايا الامعاء التي عليها الشحم من داخلها.

وحواياجمع حوية وحاوية.

وقيل في واحده حاوياء - في قول الزجاج - على وزن راضعات ورواضع، وضاربة وضوارب، ومن قال: حوية قال وزنه فعائل مثل سفينة وسفائن في الصحيح، وهي مايجري في البطن فاجتمع واستدار، ويسمى بنات اللبن والمباعر والمرابض ومافيها الامعاء بذلك. واستثنى أيضا من جملة ماحرم " مااختلط بعظم " وهو شحم الجنب والالية، لانه على العصص - في قول ابن جريج والسدي - وقال الجبائي: الالية تدخل في ذلك، لانها لم تستثن ومااعتد بعظم العصص.

وموضع (الحوايا) من الاعرا يحتمل أمرين: احدهما - قول اكثر اهل العلم: انه رفع عطفا على الظهور على تقدير: وماحملت الحوايا. الثاني - نصب عطفا على مافي قوله " الاماحملت " فأماقوله " أو مااختلط بعظم " فيكون نسقا على ماحرم لاعلى الاستثناء. والتقدير - على هذا القول - حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا اومااختلط بعظم الاماحملت الظهور، فانه غير محرم. و (أو) دخلت على طريق الاباحة كقوله " ولاتطع منهم آثما او كفورا "(1) والمعنى إعص هذا وأعص هذا، فان جميعهم اهل ان يعصى، ومثله جالس الحسن أو ابن سيرين اي جالس أيهما شئت. وهذه الاشياء وإن كان الله تعالى حرمها على اليهود في شرع موسى، فقد نسخ تحريمها على لسان محمد (صلى الله عليه وآله) وأباحها، وتدعي النصارى ان ذلك نسخ في شرع عيسى (ع) ولسنا نعلم صحة مايقولونه.

___________________________________

(1) سورة 76 الدهر آية 24

[307]

وقوله " ذلك جزيناهم ببغيهم " معناه اناحرمنا ذلك عليهم عقوبة لهم على بغيهم.

فان قيل: كيف يكون التكليف عقابا، وهو تابع للمصلحة، ومع ذلك فهو تعريض للثواب؟ قلنا: إنما سماه عقوبة، لان عظيم ماأتوه من الاجرام والمعاصي اقتضى تحريم ذلك وتغير المصلحة، وحصول اللطف فيه، فلذلك سماه عقوبة، ولولا عظم جرمهم لما اقتضت المصلحة ذلك.

وقوله " وإنا لصادقون " يعني فيما أخبرنابه من تحريم ذلك على اليهود فيما مضى. وان ذلك عقوبة لاوائلهم ومصلحة لمن بعدهم إلى وقت النسخ. وحكي عن ابن علية أنه كان يقول: ان مايذبحه اليهود لايجوز أكل شحمه وان جاز أكل لحمه، لان الشحوم كانت حراما عليهم. وعندنا ان مايذبحه اليهود لايجوز استباحة شئ منه، وهم بمنزلة الميتة غير ان الذي ذكره غير صحيح، لانه يلزم عليه انه لو نحر اليهود جملا ان لايجوز اكله، لانه كان حراما عليهم، وذلك باطل عنده.

قوله تعالى: فان كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين(147)

آيه بلاخلاف.

المعنى بقوله " فان كذبوك " قيل فيه قولان: احدهما - قال مجاهد والسدي: انهم اليهود، لانهم زعموا أنهم حرموا الثروب، لان اسرائيل حرمها على نفسه، فحرموها هم اتباعا له دون ان يكون الله حرم ذلك على لسان موسى. الثاني - انه يرجع إلى جميع المشركين في قول الجبائي وغيره على ظاهر الاية، فقال الله لنبيه " فان كذبوك " يامحمد في اني حرمت ذلك على اليهود على لسان موسى " فقل " لهم " ربكم ذورحمة واسعة " واقتضى ذكر الرحمة

[308]

أحد امرين: الاول - انه برحمته أمهلهم مع تكذيبهم، بالمؤاخذة عاجلا - في قول أبي علي الجبائي -.

الثاني - انه ذكر ذلك ترغيبا لهم في ترك التكذيب وتزهيدا في فعله وانما قابل بين لفظ الماضى في قوله " كذبوك " بالمستقبل في قوله " فقل " لتأكيد وقوع القول بعد التكذيب اذ كونه جوابا يدل على ذلك.

و (ذو) بمعنى صاحب. والفرق بينهما ان احدهما يصح ان يضاف إلى المضمر، ولايصح في الاخر، لان (ذو) وصلة إلى الصفة بالجنس، ولذلك جعل ناقصا لايقوم بنفسه دون المضاف اليه، والمضمر ليس بجنس ولايصح ان يوصف به.

وقوله " لايرد بأسه " معناه لايمكن احدا أن يرده عنهم، وهو أبلغ من قوله بأسه نازل بالمجرمين، لانه دل على هذا المعنى وعلى ان أحدا لايمكنه رده.

وقوله " عن القوم المجرمين " معناه ان أحدا لايتمكن من رد عقاب الله عن العصاة المستحقين للعقاب مع انه تعالى ذو رحمة واسعة.

قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا لو شاء ‌الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون(148)

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بأن هؤلاء المشركين سيحتجون في إقامتهم على شركهم، وعلى تحريمهم ماأحله الله من الانعام التي تقدم وصفها بأن يقولوا: لوشاء الله ان لانفعل نحن ذلك ولانعتقده ولاآباؤنا، او أراد منا خلاف ذلك " ماأشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا " شيئا من ذلك. فكذبهم

[309]

الله تعالى بذلك في قوله " كذلك كذب الذين من قبلهم " ومعناه مثل هذا التكذيب الذي كان من هؤلاء - في انه منكر - " كذب الذين من قبلهم " وانما قال كذلك لتقضي الخبر، ولوقال (كذا) لجاز، لانه قريب بعدالاول، و (كذلك) أحسن، لان مافيه من تأكيد الاشارة تغني عن الصفة.

وحكي انه قرئ " كذب الذين " بالتخفيف، فمن خفف اراد ان هؤلاء كاذبون كما كذب الذين من قبلهم على الله بمثله. ومن قرأ بالتشديد، فلانهم بهذا القول كذبوا رسول الله لانهم قالواله: ان الله أراد منا ذلك وشاء‌ه، ولوأراد غيره لما فعلناه، مكذبين للرسول (ص) كماكذب من تقدم انبياء‌هم فيما أتوا به من قبل الله. ثم بين بقوله " قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا " أن ماقالوه باطل وكذب على الله لانه لو كان صحيحا لمارده عليهم. ثم أكد تكذيبهم بقوله " ان تتبعون الاالظن " أي ليس يتبعون إلا ظنا من غير علم " وان انتم الاتخرصون " يعني تكذبون، والخرص الكذب كقوله " قتل الخراصون "(1) وفى هذه الاية أدل دلالة على ان الله تعالى لايشاء المعاصي والكفر، وتكذيب ظاهر لمن أضاف ذلك إلى الله مع قيام ادلة العقل على انه تعالى لايريد القبيح، لان إرادة القبيح قبيحة، وهو لايفعل القبيح، ولان هذه صفة نقص، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقوله " حتى ذاقوا بأسنا " معناه حتى ذاقوا عذابنا، واراد به حلول العذاب بهم فجعل وجدانهم لذلك ذوقا مجازا.

وجاز قوله " ماأشركنا ولا آباؤنا " ولم يجز ان يقال: قمنا وزيد، لان العطف على المضمر المتصل لايحسن الابفصل، فلما فصلت (لا) حسن، كما حسن: ما قد قمنا ولا زيد كان كذلك، لان الضمير المتصل يغير له الفعل في (فعلت) فيصير كجزء منه.

___________________________________

(1) سورة 51 الذاريات آية 10

[310]

فان قيل: انما أنكر الله تعالى عليهم هذا القول، لانهم جعلوا هذا القول حجة في إقامتهم على شركهم، فأعلم الله عزوجل ان " كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا " ولم ينكر عليهم انهم قالوا الشرك بمشيئة الله، ولو كان منكرا لذلك، لقال: كذلك كذب الذين - يتخفيف الذال -.

قلنا: لايجوز ذلك، لانه تعالى بين انهم كذبوا في هذا القول بقوله " وان أنتم الاتخرصون " أي تكذبون، فاما كذبوا فقد حكيناأنه قرئ - بالتخفيف - ومن شدد الذال، فلان تكذيب الصادق كذب، وهو يدل على الامرين، فان قالوا: انما عابهم، لانهم كانوا متهزئين بهذا القول لامعتقدين ولامتدينين.

قلنا: المعروف من مذهبهم خلافه، لانهم كانوا يعتقدون ان جميع مايفعلونه قربة إلى الله، وان الله تعالى ارادة واخبر عنه، فكيف يكونون متهزئين، على ان الهازئ بالشئ لايسمى كاذبا، فكيف سماهم الله كاذبين؟ على انه اذاكان كل مايجري بمشيئته فلايجب ان ينكر على احد مايعتقده، لانه اعتقد ماشاء الله. ومن فعل ماشاء كان مطيعا له، لان الطاعة هي امتثال الامر والمراد منه. وهذا باطل بالاجماع.

فان قيل: انماعاب الله المشركين بهذه الاية، لانهم قالوا ذلك حدسا وظنا لاعن علم، وذلك لايدل على انهم غير صادقين، وقديجوز ان يكون الانسان صادقا فيما يخبر به ويكون قوله صادرا عن حدس وعن ظن.

قلنا: لوكان الامر على ماقلتم لماكانوا كاذبين اذاكان مخبر ماأخبروا به على ماأخبروا، وقد كذبهم الله في اخبارهم بقوله " كذلك كذب الذين من قبلهم " وبقوله " ان انتم الاتخرصون " على ان من ظن شيئافاخبر عنه لايوصف بأنه كاذب وان كان على خلاف ماظنه فكيف اذاكان على ماظنه.

قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهديكم أجمعين(149)

آية بلاخلاف.

[311]

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار الذين احتجوا بما قالوه ان الله لو شاء‌منهم ذلك لماكان لله الحجة البالغة يعني الحجة التي احتج بهاعلى الكافرين في الاية الاولى، وجميع مااحتج به على عباده في صحة دينه الذي كلفهم اياه.

ومعنى (البالغة) التي تبلغ قطع عذر المحجوج وتزيل كل لبس وشبهة عمن نظر فيها واستدل أيضا بها. وانما كانت حجة الله صحيحة بالغة، لانه لايحتج الابالحق ومايؤدي إلى العلم.

وقوله " ولوشاء لهداكم اجمعين " يحتمل امرين: احدهما - لوشاء لالجأ الجميع إلى الايمان غير ان ذلك ينافي التكليف. الثاني - انه لوشاء لهداهم إلى نيل الثواب ودخول الجنة، وبين بذلك قدرته على منافعهم ومضارهم. وبين انه لم يفعل ذلك، لانه يوجب زوال التكليف عنهم والله تعالى اراد بالتكليف تعريضهم للثواب الذي لا يحسن الابتداء به، ولوكان الامر على ماقالته المجبرة من ان الله تعالى شاء منهم الكفر لكانت الحجة للكفار على الله من حيث فعلوا ماشاء الله، وكان يجب ان يكونوا بذلك مطيعين له ولاتكون الحجة عليهم من حيث انه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر، فأي حجة مع ذلك.

قوله تعالى: قل هلم شهداء‌كم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فان شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لايؤمنون بالاخرة وهم بربهم يعدلون(150)

آية بلاخلاف.

معنى هذه الاية ان الحجاج بأن الطريق الموصل إلى صحة مذهبهم غير منسداذ لم يثبت من جهة حجة عقل ولاسمع. ومالم يصح ان يثبت من أحد هذين الوجهين باطل لامحالة، لان مالايصح ان يعلم فاسد لامحالة.

[312]

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار الذين تقدم وصفهم " هلموا ومعناه هاتوا.

وهلم كلمة موضوعة للجماعة بني مع (ها) فصار بمنزلة الصوت نحو (صه) قال الاعشى:

وكان دعاقومه دعوة *** هلم إلى أمركم قد صرم(1)

ومن قال: هلموا، فانه لم يبنه مع (ها) بل قدره على الانفصال.

والاول أفصح، لانها لغة القرآن، وهي لغة اهل الحجاز.

واهل نجد يقولون: هلم وهلما وهلموا وهلمي وهلميا وهلمن، قال سيبويه أصله (ها) ضم اليه (لم) فبني فقيل: هلم، وهات فصل ولم يتصل بمايبنى معه، فلذلك لابد ان يقال للجماعة: هاتوا.

و (هلم) لفظ يتعدى تارة، واخرى لايتعدى، فاذاكانت بمعنى (هاتوا) فانها تتعدى مثل قوله " هلم شهداء‌كم " واذا كانت بمعنى (تعالوا) نحو " هلم الينا "(2) فانها لاتتعدى ونظيره: عليك زيدا يتعد إلى واحد، وعلي زيدا يتعدى إلى اثنين بمعنى أولني زيدا، ومثله من الفعل: رجع ورجعته، ولايجوز في (هلم) الضم والكسر، كما يجوز في ورد: ورد.

قال الزجاج: لانها لاتتصرف على طريقة: فعل يفعل، مع مااتصلت بهامن هاء. ومعنى الاية هاتوا شهداء‌كم الذين يشهدون بصحة ماتدعون من ان الله حرم هذاالذي ذكرتموه.

وقوله " فان شهدوا فلاتشهد معهم " فان قيل كيف دعاهم إلى الشهادة مع أنهم اذا شهدوا لم تقبل شهادتهم؟ ! قلنا عنه جوابان أحدهما - قال أبوعلي: لانهم لم يشهدوا على الوجه دعوا ان يشهدوا بينة عادلة تقوم بهاالحجة. الثاني - شهداء من غيرهم، ولن يجدوا ذلك، ولو وجدوه ماوجب

___________________________________

(1) ديوانه 34، ومجاز القرآن 1 / 208 وتفسير الطبري 12 / 150، واللسان والتاج . (ربع).

(2) سورة 33 الاحزاب آية 18

[313]

قبول شهاداتهم، لانها لاترجع الا إلى دعوى مجردة. ولكن المذهب مع هذه الحال أبعد عن الصواب، لانهم لايجدون من يشهدلهم. وهوقول الحسن.

وقوله " ولاتتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا " نهى من الله لنبيه والمراد به أمته ان يعتقدوا مذهب من اعتقد مذهبه هوى، ويمكن اتخاذ المذهب هوى من وجوه. احدها - هوى من سبق اليه فقلده فيه. والثاني - ان يدخل عليه شبهة فيتخيله بصورة الصحيح مع ان في عقله مايمنع منه. ومنها - ان يقطع النظر دون غايته، للمشقة التي تلحقه فيعتقد المذهب الفاسد. ومنها - ان يكون نشأ على شئ وألفه واعتاده فيصعب عليه مفارقته. وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله. وانما قال " الذين كذبوا بآياتنا والذين لايؤمنون بالاخرة " وكلهم كفار ليفصل وجوه كفرهم، لان منه مايكون مع الاقرار بالاخرة كحال اهل الكتاب، ومنه مايكون مع الانكار كحال عبدة الاوثان.

وقوله " وهم بربهم يعدلون " معناه يعدلون به عن الحق لاتخاذهم مع الله شركاء واضافتهم اليه مالم يقله وافترائهم عليه. وفي الاية دلالة على فساد التقليد لانه لو كان التقليد جائزا لما طالب الله الكفار بالحجة على صحة مذهبهم، ولماكان عجزهم عن الايتان بهادلالة على بطلان ما ذهبوا اليه.

[314]

قوله تعالى: قل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولاتقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولاتقربوا الفواحش ماظهر منها ومابطن ولاتقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصيكم به لعلكم تعقلون(151)

آية بلاخلاف.

لماحكى الله تعالى عن هؤلاء القوم انهم حرموامالم يحرمه الله وأحلوا ماحرمه، قال لنبيه " قل " لهم " تعالوا " حتى أبين لكم ماحرمه الله. و (تعالوا) معناه أدنوا، وهو مشتق من العلو، وتقديره كأن الداعي في المكان العالي، وان كانا في مستوى من الارض كما يقال للانسان: ارتفع إلى صدر المجلس.

وقوله " اتل " مشتق من التلاوة مثل القراء‌ة. والمتلو مثل المقروء، فالمتلوا هو المقروء الاول، والتلاوة هي الثاني منه على طريق الاعادة، وهو مثل الحكاية والمحكي.

وقوله " اتل " مجزوم بأنه جواب الامر، وعلامة الجزم فيه حذف الواو، ومن شأن الجازم أن يأخذ الحركة اذاكانت على الحرف، فان لم يكن هناك حركة أخذ نفس الحرف.

وقوله " ماحرم ربكم " (ما) في موضع نصب ب‍ (أتل) وهي بمعنى الذي، وتقديره أتل الذي حرم ربكم عليكم: ان لاتشركوا به شيئا، ويجوز ان يكون نصبا ب‍ (حرم) وتقديره أي شئ حرم ربكم، لان (أتلو) بمنزلة أقول.

وقوله " ان لاتشركوا به شيئا " يحتمل موضع (ان) ثلاثة اوجه من الاعراب: احدها - الرفع على تقدير ذلك ان لاتشركوا به شيئا. والثاني - النصب على تقدير أوصى ان لاتشركوابه شيئا. وقيل فيه وجه رابع - ان يكون نصبا ب‍ (حرم) وتكون (لا) زائدة، وتقديره حرم ربكم ان تشركوا به شيئا، كماقال " مامنعك ان لاتسجد "(1) ونظائر ذلك قد قدمنا طرفامنها. وموضع تشركوا يحتمل امرين، احدهما - النصب ب‍ (ان).

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 11

[315]

الثاني - الجزم ب‍ (لا) على النهي.

وقال ابوجعفر عليه السلام: ادنى الشرك الرياء.

وقوله " وبالوالدين احسانا " العامل فيه (أمر) أي امر بالوالدين إحسانا، واوصى بالوالدين احسانا. ودليله من وجهين: احدهما - ان في (حرم كذا) معنى اوصى بتحريمه، وامر بتجنبه. الثاني " ذلكم وصاكم به "

وقوله " ولاتقتلوا اولادكم من املاق " عطف بالنهي على الخبر، لان قوله " ولاتقتلوا " نهي، وقوله اوصى ألا تشركوابه شيئا، وأوصى بالوالدين احسانا خبر، وجاز ذلك كماجاز في قوله " قل اني امرت ان اكون اول من أسلم ولاتكونن من المشركين(2) وقال الشاعر:

حج وأوصى بسليمى الاعبد *** ان لاقرى ولا تكلم أحدا

ولاتمش بفضاء بعدا *** ولايزل شرابها مبردا(3)

والاملاق: الافلاس من المال والزاد يقال: املق إملاقا ومنه الملق لانه اجتهاد في تقرب المفلس للطمع في العطية.

وقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جريج والضحاك: الاملاق الفقر، نهاهم الله ان يقتلوا أولادهم خوفا من الفقر.

وقال " نحن نرزقكم واياهم " وقوله " ولاتقربوا الفواحش " نهي عن الفواحش وهي القبائح.

وقيل: الفاحش العظيم القبح، والقبيح يقع على الصغير والكبير، لانه يقال القرد قبيح الصورة ولايقال فاحش الصورة. وضد القبيح الحسن وليس كذلك الفاحش.

قال الرماني ويدخل في الاية النهي عن الصغير، لان قرب الفاحش عمل الصغير من القبيح.

وقوله " ماظهر منها ومابطن " قيل في معناه قولان: أحدهما - قال ابن عباس والضحاك والسدي: كانوا لايرون بالزنا بأساسرا، ويمنعون منه علانية، فنهى الله عنه في الحالتين. الثاني - لئلا يظن ويتوهم ان الاستبطان جائز.

___________________________________

(2) سورة 6 الانعام آية 14.

(3) مجاز القرآن 1 / 364 وتفسير الطبري 12 / 216

[316]

وقال ابوجعفر (عليه السلام) ماظهر هو الزنا، ومابطن المخالة. وقيل معناه ماعلن وماخفي يعني من جميع أنواع الفواحش وهواعم فائدة.

وقوله " ولاتقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق " فالنفس المحرم قتلها هي نفس المسلم والمعاهد دون الكافر الحربي، والحق الذي يستباح به قتل النفس المحرمة ثلاثة اشياء: قود بالنفس الحرام، والزنا بعد احصان، والكفر بعد الايمان.

وقوله " ذلكم وصاكم به " خطاب لجميع الخلق " لعلكم تعقلون " معناه لكي تعقلوا عنه ماوصاكم به فتعملوا به.

قوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لانكلف نسفا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصيكم به لعلكم تذكرون(152)

آية بلاخلاف.

قرأ اهل الكوفة الاأبابكر " تذكرون " بتخفيف الذال حيث وقع. الباقون بالتشديد.

قال سيبويه: ذكرته ذكرا مثل شربا، قال ابوعلي: (ذكر) فعل يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله " فاذكروني اذكركم "(1) فاذا ضاعفت العين تعدى إلى مفعولين كقولك ذكرته اباه قال الشاعر:

يذكر نيك حنين العجول *** ونوح الحمامة تدعو هديلا

فان نقله بالهمزة كان كنقله بالتشديد، وتقول: ذكرته فتذكر، لان تذكر مطاوع (فعل) كماتفاعل مطاوع فاعل، قال تعالى " اذا مسهم طائف

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 152

[317]

من الشيطان تذكروا "(2) وقدتعدى تفعلت قال الشاعر:

تذكرت أرضا بها أهلها *** أخوالها فيها وأعمامها

وأنشد ابوزيد:

تذكرت ليلى لات حين أذكارها *** وقدحني الاضلال ضلا بتضلال

فقال اذكارها، كماقال " وتبتل اليه تبتيلا "(3) ونحو ذلك مما لايحصى ممالايجئ المصدر على (فعلة)، وجاء المصدر على (فعلى) بالف التأنيث، فقالوا ذكرى وقالوافي الجمع الذكر، فجعلوه بمنزلة (سدرة، وسدر) وقالوا: الذكر بالدال غير المعجمة حكاه سيبويه، والمشهور بالذال.

فمن قرأ بتشديد الذال اراد يتذكرون ويأخذون به، ولا يطرحونه وادغم التاء في الذال، والمعنى يتذكرون، كما قال " والنهار خلفة لمن اراد ان يذكر "(4) أي يتفكر وقال " اولا يذكر الانسان "(5) معناه اولا يتفكر، وقال " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا "(6) أي ليتفكروا فيه.

ومن قرأ - بتخفيف الذال - أراد لكي يذكروه ولا ينسوه فيعملوابه. والقراء‌تان متقاربتان غير ان هذا حذف التاء الاولى، والاولون أدغموا التاء في الذال. والمعنى فيها لعلكم تتذكرون. هذه الاية عطف على ماحرم الله في الاية الاولى واوصى به، فنهى في هذه الاية ان تقربوا مال اليتيم الابالتي هي احسسن، والمراد بالقرب التصرف فيه، وانما خص اليتيم بذلك وان كان واجبا في كل احد، لان اليتيم لماكان لايدفع عن نفسه ولاله والد يدفع عنه، فكان الطمع في ماله أقوى تأكد النهي في التصرف في ماله.

___________________________________

(2) سورة 7 الاعراف آية 200.

(3) سورة 73 المزمل آية 8.

(4) سورة 25 الفرقان آية 62.

(5) سورة 19 مريم آية 67.

(6) سورة 25 الفرقان آية 50

[318]

وقوله " الابالتي هي أحسن " قيل في معناه ثلاثة أقوال: احدها - حفظه عليه إلى ان يكبر فيسلم اليه. وقيل معناه تثميره بالتجارة في قول مجاهد والضحاك والسدي. والثالث - ماقاله ابن زيد: ان يأخذ القيم عليه بالمعروف دون الكسوة.

وقوله " حتى يبلغ أشده " اختلفوا في حد الاشد، فقال ربيعة وزيدبن أسلم ومالك وعامر الشعبي: هوالحلم.

وقال السدي: ثلاثون سنة.

وقال قوم: ثماني عشرة سنة. لانه اكثر مايقع عندهم البلوغ واستكمال العقل.

وقال قوم قوم: انه لاحد له وانما المراد به حتى يكمل عقله ولايكون سفيها يحجر عليه. والمعنى حتى يبلغ اشده فيسلم اليه ماله او يأذن في التصرف في ماله، وحذف لدلالة الكلام عليه. هذا أقوى الوجوه.

وواحد الاشد قيل فيه قولان: احدهما - شد مثل اضر جمع ضر، واشد جمع شد. والشد القوة، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، كماشد النهار ارتفاعه. وحكى الحسين بن على المغربي عن أبي اسامة أن واحدة شدة. مثل نعمة وانعم.

وقال بعض البصريين: الاشد واحد مثل الافك.

ومن قال ان واحده شد استدل بقول عنترة:

عهدي به شد النهار كأنما *** خضب البنان ورأسه بالعظلم(1)

هكذا رواه المفضل الضبي.

وقال الاخر:

يطيف به شد النهار ظعينه *** طويلة انقاء اليدين سحوق(2)

وقوله " واوفوا الكيل والميزان بالقسط " أمر من الله بتوفية كيل مايكال وتوفية وزن مايوزن بالقسط يعني بالعدل * وفاء من غير بخس.

وقوله " لانكلف نفسا الا وسعها " معناه هنا انه لما كانا لتعويل في الوزن والكيل على التحديد من اقل القليل يتعذر، بين انه لايلزم في ذلك الاجتهادفي التحرز.

___________________________________

(1) ديوانه 27 وتفسير الطبري 12: 222.

(2) تفسير الطبري 12: 222

[319]

وقوله " واذا قلتم فأعدلوا " يعني قولوا الحق. ولو كان على ذي قرابة لكم. وانما خص القول بالعدل دون الفعل، لان من جعل عادته العدل في القول دعاه ذلك إلى العدل في الفعل، لان ذلك من آكد الدواعي اليه والبواعث عليه.

وقوله " وبعهد الله اوفوا " قيل في معنى العهد هاهنا قولان: احدهما - كل ماأوجبه على العبد فقد عهد اليه بايجابه عليه وتقديم القول فيه والدلالة عليه. الثاني - قال ابوعلي عهد الله الحلف بالله، فاذا حلف في غير معصية الله وجب عليه الوفاء.

وقوله " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " قيل في معناه قولان: احدهما - لئلا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به والقيام بمايلزم منه. الثاني - لتتذكروا كل مايلزمكم بتذكر هذا فتعملوا به.

قوله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به لعلكم تتقون(153)

آية بلاخلاف.

قرأ الكسائي وحمزة " وان هذا " بكسر الهمزة. الباقون بفتحها.

وكلهم شدد النون الاابن عامر فأنه خففها.

وكلهم سكن الياء من (صراطي) الاابن عامرفانه فتحها. وبه قرأيعقوب.

وقرأ ابن كثير وابن عامر " سراطي " بالسين.

الباقون بالصاد الا حمزة، فانه قرأ بين الصاد والزاي.

وروى ابن فليح والبزي الا القواس " فتفرق " بتشديد التاء.

ووجهه ان أصله (فتتفرق) فأدغم احدهما في الاخرى.

[320]

ومن فتح (أن) احتمل ذلك وجهين: احدهما - ان يكون عطفا على " ان لاتشركوا ". والثاني - ولان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه.

ومن كسر (ان) احتمل ايضا وجهين: احدهما - عطفه على " اتل ماحرم ربكم " واتل " ان هذا " بمعنى اقول. والثاني - استأنف الكلام.

ومن خفف (ان) فأن المخففة في قوله تتعلق بما تتعلق به المشددة.

وموضع (هذا) رفع بالابتداء وخبره (صراطي) وفي (ان) ضمير القصة والشأن.

وعلى هذه الشريطة تخفف، وليست المفتوحة كالمكسورة اذا خففت.

والفاء في قوله " فاتبعوه " على قول من كسر (ان) عاطفة جملة على جملة.

وعلى قول من فتح زائدة ونصب " مستقيما " على الحال.

" والفائدة ان هذا صراطي وهو مستقيم، فاجتمع له الامران، ولو رفع مستقيم، لماأفاد ذك.

وانما سمى الله تعالى ان مابينه وذكره من الواجب والمحرم صراط وطريق لان امتثال ذلك على ماأمر به يؤدي إلى الثواب في الجنة، فهوطريق اليها، والى النعيم فيها قوله " فاتبعوه " أمر من الله تعالى باتباع صراطه وماشرعه للحق. وطريق اتباع الشرع - وفيه الحرام والحلال والمباح - هو اعتقاد ذلك فيه، والعمل على ما ورد الشرع به فيفعل الواجب والندب، ويجتنب القبيح، ويكون مخيرا في المباح. ولايجب فعل جميعه، لان ذلك خلاف الاتباع. وانما قيل لاعتقاد صحة الشرع اتباع له، لانه تعالى اذا حظر شيئا أو حظر تركه كان حكمه، ووجب اتباعه في انه محرم وواجب، وكذلك الندب والمباح.

وقوله " ولاتتبعوا السبل " يعني سبل الشيطان واتباع اهل البدع من اليهود والنصارى وغيرهم، فنهى تعالى عن اتباع ذلك فان اتباع غير سبيله تصرف عن اتباع سبيله، ولا يمكن ان يجتمعا " ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " معناه امركم به وأوصاكم بأمتثاله لكي تتقوا عقابه بأجتناب معاصيه. وانما اتى بلفظة (لعل) لان المعنى انكم تعاملون في التكليف والجزاء معاملة الشك للمظافرة في العدل.

[321]

قوله تعالى: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون(154)

آية بلاخلاف قيل في معنى قوله " ثم آتينا موسى الكتاب " مع ان كتاب موسى قبل القرآن و (ثم) تقتضي التراخي قولان: احدهما - ان فيه خذفا، وتقديره: ثم اتل " آتيناموسى الكتاب " وقال ابومسلم عطفه على المنن التي امتن بهاعلى ابراهيم من قوله " ووهبنا له اسحاق " إلى قوله " إلى صراط مستقيم " واستحسنه المغربي.

وقوله " تماما على الذي أحسن " قيل فيه خمسة أقوال: احدها - قال الربيع والفراء: تماما على احسانه اي احسان موسى كأنه قال ليكمل احسانه الذي يستحق به كمال ثوابه في الاخرة. الثاني - قال مجاهد: تماماعلى المحسنين. وقيل في قراء‌ة عبدالله " تماما " على الذين احسنوا " كأنه قيل اتماما للعنة على المحسنين الذين هو أحدهم.

الثالث - قال ابن زيد: تماما على احسان الله إلى انبيائه.

الرابع - قال الحسن وقتادة: لتمام كرامته في الجنة على احسانه في الدنيا.

الخامس - قال ابوعلي: تماما على احسان الله إلى موسى بالنبوة، وغيرها من الكرامة.

وقال أبومسلم تماماعلى الذي احسن ابراهيم، فجعل مااعطى موسى منة على ابراهيم واجابة لدعوته بماتقدم من احسانه وطاعته، وذلك اذ يقول ابراهيم " واجعل لي لسان صدق في الاخرين "(1).

وقوله " تماماعلى الذي " يقتضي مضاعفة (عليه). ولو قال: تماما، لدل على نقصانه قبل تكميله.

___________________________________

(1) سورة 26 الشعراء آية 84

[322]

وقوله " أحسن " في موضع خفض عند الفراء، زعم ان العرب تقول مررت بالذي خير منك، وبالذي أخيك.

ولايقولون: بالذي قائم، لانه نكرة وأنشد عن الكسائي:

ان الزبيري الذي مثل الحكم *** مشى بأسلابك في اهل العلم(2)

قال الزجاج: أجمع البصريون على انه لايجوز ذلك، لان (الذي) يقتضي صلة، ولايصح ان يوصف الابعد تمام وصلته.

وقوله " وهدى ورحمة " صفتان للكتاب الذي أنزله على موسى، ومعناه حجة ورحمة " وتفصيلا لكل شئ " مثل ذلك.

وقوله " لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون " معناه لكي يؤمنوا بجزاء ربهم، فسمى الجزاء لقاء الله تفخيما لشأنه وتعظيماله مع الاختصار والايجاز. و (تماما) و (تفصيلا) نصب على انه مفعول له، وتقديره إنا فعلنا للتمام والتفصيل لكل ماشرعناله.

وروي في الشواذ (أحسن) رفعا وتقديره على الذي هو أحسن.

قوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون(155)

آية بلاخلاف.

قوله " وهذا " اشارة إلى القرآن، وصفه بأنه كتاب انزله الله وانما وصفه بأنه كتاب وان لم يكن قرآنامن اجل انه يكتب، لانه لماكان التقييد بالكتاب من اكثر مايحتاج اليه في الدلائل والحكم، وصف بهذا الوصف. لبيان انه مماينبغي ان يكتب، لانه اجل الحكم، وذكر في هذا الموضع بهذا الذكر ليقابل ماتقدم من ذكر كتاب موسى (ع).

وقوله " مبارك " فالبركة ثبوت الخير بزيادته ونموه، واصله الثبوت، ومنه (تبارك) أي تعالى بصفة اثبات لااول له ولاآخر، وهذا تعظيم.

___________________________________

(2) معاني القرآن 1 / 365 وتفسير الطبري 12 / 234.

[323]

لايستحقه غيرالله تعالى. ورفعه بأنه صفة للكتاب، ولو نصب على الحال كان جائزا غير ان الرفع يدل على لزوم الصفة للكتاب، والنصب يجوز ان يكون الحالة عارضة في وقت الفعل.

وقوله " فاتبعوه " امر من الله باتباعه وتدبر ومافيه وامتثاله.

وقوله " واتقوا " أمر منه تعالى باتقاء معاصيه، وتجنب مخالفة كتابه.

وقوله " لعلكم ترحمون " أي لكي ترحموا، وانما قال " اتقوا لعلكم ترحمون " مع انهم اذا أتقوا رحموا لامحالة لامرين: احدهما - اتقوا على رجاء الرحمة، لانكم لاتدرون بماتوافون في الاخرة. الثاني - أتقوا لترحموا، ومعناه ليكن الغرض بالتقوى منكم طلب ماعندالله من الرحمة والثواب.

قوله تعالى: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين(156)

آية بلاخلاف.

العامل في (أن) قوله " أنزلناه " وتقديره لان لاتقولوا، فحذف (لا) لظهور المعنى في انه أنزله لئلا يكون لهم حجة بهذا، وحذف (لا) في قول الفراء، وقال الزجاج: تقديره كراهة ان تقولوا، ولم يجز حذف (لا) ههنا، واذا كان يجوز حذف المضاف في غير (ان) فهو مع (أن) اجدر، لطولها بالصلة، و (ان) اذاكانت بمعنى المصادر تعمل، ولاتعمل اذاكانت بمعنى (أي) لان هذه تختص بالفعل، والاخرى تدخل للتفسير، فتارة تفسير جملة من ابتداء وخبر، وتارة جملة من فعل وفاعل.

وقوله " انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا " معنى (انما) الاختصاص، وانما كان كذلك، لان (أن) كانت تحقيقا بتخصيص المعنى مما خالفه، فلما صحبتها (ما) ممكنة لها ظهر هذا المعنى فيها.

[324]

والمعني " بالطائفتين من قبلنا " اليهود والنصارى - في قول ابن عباس والحسن ومجاهد وابن جريج وقتادة والسدي - وانما خصا بالذكر لشهرتهما ولظهور أمرهما.

وقوله " وان كناعن دراستهم لغافلين " اللام في قوله " لغافلين " لام الابتداء، ولايجوز ان يعمل ماقبلها فيما بعدها الا في باب (إن) خاصة لانها زحلقت معها عن الاسم إلى الخبر للفصل بين حرفين بمعنى واحد، وتقدير الاية: انا أنزلنا الكتاب الذي هو القرآن لئلا يقولوا: انما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى، ولم ينزل علينا، ولوأريد مناما أريد ممن قبلنا لانزل الينا كتاب كما أنزل على من قبلنا " وان كنا عن دراستهم لغافلين " وتقديره وان كنا غافلين عن تلاوة كتبهم يعني الطائفتين اللتين أنزل عليهم الكتاب، لانهم كانوا أهله دوننا.

قوله تعالى: أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاء‌كم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنا سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون(157)

آية بلاخلاف.

هذه الاية عطف على ماقبلها والتقدير: انا أنزلنا القرآن المبارك لئلا يقولوا: انه ماانزل علينا الكتاب، كما أنزل على من قبلنا، اويقولوا: لو أنزل علينا الكتاب لكناأهدى منهم في المبادرة إلى قبوله والتمسك به، كما يقول القائل: لو أتيت بدليل لقبلته منك. ومثل هذا يستبق إلى النفس.

وقوله " أهدى منهم " فلا دلالهم بالاذهان والافهام. وقد يكون العارف بالشئ أهدى اليه من عارف آخر، بأن يعرفه من وجوه لايعرفها الاخر، وبأن يكون مايعرفه به أثبت ممايعرفه به الاخر.

[325]

قال الرماني: والفرق بين الهداية والدلالة ان الهداية مضمنة بأنها نصبت ليهتدي بهاصاحبها، وليس كذلك الدلالة، قال: ولذلك كثر تصرفها في القرآن، كما كثر تصرف الرحمة، لانها على المحتاج. وهذا فرق غير صحيح لان الدلالة أيضا لاتسمى دلالة الا اذا نصبت ليستدل بها، ولذلك لايقال: اللص دل على نفسه اذا فعل آثار امكن ان يستدل بهاعلى مكانه، ولم يقصد ذلك.

وقوله " لوأنا " فتحت (ان) بعد (لو) مع انه لايقع فيه المصدر، لان الفعل مقدر بعد (لو) كأنه قيل: لو وقع الينا أناأنزل هذا الكتاب علينا، الاأن هذا الفعل لايظهر من اجل طول (ان) بالصلة، ولايحذف مع المصدر الافي الشعر قال الشاعر:

لوغيركم علق الزبير بحبله *** أدى الجوار إلى بني العوام

فقال الله لهم " فقد جاء‌كم بينة من ربكم " يعني حجة واضحة " وهدى ورحمة " وادلة مؤدية إلى الحق، ورحمة منه تعالى وانعام " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله " يعني فمن أظلم لنفسه ممن كذب بآيات الله " وصدف عنها " أي اعرض عنها غير مستدل بها ولامفكر فيها. وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي.

فان قيل كيف قال " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله " بأن يجحدها، ولوفرضنا انه ضم إلى ذلك قتل النفوس وانتهاك المحارم كان اظلم؟.

قلنا عنه جوابان: احدهما - للمبالغة لخروجه إلى المنزلة الداعية إلى كل ضرب من الفاحشة. والاخر - انه لاخصلة ممن ظلم النفس اعظم من هذه الخصلة.

ثم قال تعالى " سنجزي الذين يصدفون " أي يعرضون " عن آياتنا سوء العذاب " أي شديده " بماكانوا يصدفون " أي جزاء بما كانوا يعرضون وهو ماأعد الله للكفار نعوذبالله.

[326]

فان قيل: فهل للذين ماتوا قبل من خوطب بهذه الاية ان يقولواهذا القول؟ قيل: لا، ليس له ذلك، لان عذره كان مقطوعا بعقله، وبماتقدم من الاخبار والكتب وهؤلاء أيضا لولم يأتهم الكتاب والرسول لم يكن لهم حجة، لكن فعل الله تعالى ماعلم ان المصلحة تعلقت به لهؤلاء، ولوعلم ذلك فيمن تقدم، لانزل عليهم مثل ذلك، لكن لما لم ينزل عليهم علمناان ذلك لم يكن من مصلحتهم.

قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملئكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لاينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون(158)

آية.

قرأ حمزة والكسائي " يأتيهم الملائكة " بالياء. الباقون بالتاء.

وقدمضى الكلام في أمثال ذلك فيما مضى، فلاوجه للتطويل باعادته.

قوله " هل ينظرون " ماينتظرون، يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم.

وقال ابوعلي: معناه هل تنتظر انت يامحمد واصحابك الاهذا؟ وهم وان انتظروا غيره فذلك لايعتد به في جنب ما تنتظرونه من الاشياء المذكورة لعظم شأنها، وهو مثل قوله " ومارميت اذ رميت ولكن الله رمى "(1)، وتكلمت ولم تتكلم بمالايعتد به.

وقوله " الاأن يأتيهم الملائكة " يعني لقبض ارواحهم.

وقال مجاهد وقتادة والسدي: تأتيهم الملائكة، لقبض ارواحهم " او يأتي ربك " أي يوم

___________________________________

(1) سورة 8 الانفال آية 17.

[327]

القيامة " او يأتي بعض آيات ربك "، كطلوع الشمس من مغربها.

وقوله " اويأتي ربك " قيل في معناه قولان: احدهما - او يأتي امر ربك بالعذاب. وحذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه، ومثله " وجاء ربك "(2) وقوله " ان الذين يؤذون الله ورسوله "(3) يعني يؤذون اولياء الله. الثاني - او يأتي ربك بعظم آياته فيكون (يأتي) به على معنى الفعل المعتدي، ومثل ذلك قول الناس: اتانا الروم يريدون أتانا حكم الروم وسيرتهم.

وقوله " يوم يأتي بعض آيات ربك لاينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل ". قيل في الايات التي تحجب من قبول التوبة ثلاثة أقوال: احدها - قال الحسن، وروي عن النبي (ص) انه قال (بادروا بالاعمال قبل ستة: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، والدجال، والدخان، وخويصة احدكم - اي موته - وامر القيامة) يعني القيامة.

الثاني - قال ابن معسود: طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الارض، وهو قول ابي هريرة.

الثالث - طلوع الشمس من مغاربها رواها جماعة عن النبي (ص).

وقوله " او كسبت في ايمانها خيرا " قيل في معناه ثلاثة أقوال: احدها - الابهام في احد الامرين: الثاني - التغليب، لان الاكثر ممن ينتفع بايمانه حينئذ من كان كسب في ايمانه خيرا قبل. الثالث - انه لاينفعه ايمانه حينئذوان اكتسب فيه خيرا الا أن يكون ممن آمن قبل - في قول السدي - ومعنى كسب الخير في الايمان عمل النوافل والاستكثار من عمل البر بعد اداء الفرائض. والاول عندي أقواها،

___________________________________

(2) سورة 89 الفجر آية 22.

(3) سورة 33 الاحزاب آية 57

[328]

لان المعنى انه لاينفع نفسا ايمانها الا اذا كانت آمنت قبل، فانها اذا آمنت قبل نفعها ايمانها بانفراده او اذا ضمت إلى ايمانها افعال الخير، فان ذلك ينفعها أيضا، فانه ازداد خيرا.

وقوله " قل انتظروا " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله ان يقول لهؤلاء الكفار: انتظروا اتيان الملائكة وهذه الايات، فانا منتظرون حصولها. ومعنى الاية الحث على المبادرة إلى الايمان قبل الحال التي لاتقبل فيها التوبة، وهي ظهور الايات التي تقدم ذكرها، وفي ذلك غاية التهديد.

قوله تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بماكانوا يفعلون(159)

آية.

قرأ حمزة والكسائي " فارقوا " بألف، وهوالمروي عن علي (ع) الباقون " فرقوا " بلاالف مع تشديد الراء. والمعنيان متقاربان، لان القراء‌تين يؤلان إلى شئ واحد، لان جميع ذلك مخالف لمايوجبه دينهم، فهم بتفريقه من جهة اكفار بعضهم بعضا على جهالة فيه مخالفون له، وهم بخروجهم عنه إلى غيره مفارقون له مخالفون. وقيل في المعنيين بهذه الاية اربعة أقوال:

احدها - قال مجاهد: هم اليهود، لانهم كانوا يمالؤن عبدة الاوثان على المسلمين.

الثاني - قال قتادة: هم اليهود والنصارى، لان بعض النصارى يكفر بعضا وكذلك اليهود.

الثالث - قال الحسن هم جميع المشركين، لانهم جميعا بهذه الصفة.

الرابع - قال ابوجعفر (ع): هم اهل الضلالة والبدع من هذه الامة.

وهوقول ابي هريرة والمروي عن عائشة.

[329]

حذرهم الله تعالى من تفرق الكلمة ودعاهم إلى الاجتماع على ماتقوم عليه الحجة. والدين الذي فارقوه: قيل فيه قولان: الحجة. والدين الذي فارقوه.

وقيل فيه قولان: قال ابوعلي وغيره: هوالدين الذي امر الله باتباعه وجعله دينالهم. الثاني - الدين الذي هم عليه، لانكار بعضهم بعضا بجهالة فيه.

ومعنى الشيع الفرق التي يمالئ بعضهم بعضا على امرواحد مع اختلافهم في غيره، وقيل اصله الظهور من قولهم: شاع الخبر يشيع اذا ظهر.

وقال الزجاج: اصله الاتباع من قولك: شايعه على الامر اذا اتبعه.

وقوله " لست منهم في شئ " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله واعلام له انه ليس منهم في شئ، وانه على المباعدة التامة من ان يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة، وليس كذلك بعضهم مع بعض، لانهم يجتمعون في معنى من الباطل وان افترقوافي غيره، فليس منهم في شئ، لانه برئ من جميعه وقال الفراء: معناه النهي عن قتالهم، ثم نسخ بقوله " فاقتلوا الشركين "(1) وهوقول السدي.

اخبر الله تعالى ان الذين فرقوا دينهم - وخالفوه وباينوه وصاروا فرقا يمالئ بعضهم بعضا على أمر واحدمع أختلافهم في غيره - ليس النبي صلى الله عليه وآله منهم في شئ وانه مباين لهم لفساد ماهم عليه. ثم قال " انما امرهم الله. ثم ينبئهم بما كانوا يعملون " يعني ان الله تعالى هوالذي يخبرهم بأفعالهم ويجازيهم عليها دون غيره يعني يوم القيامة.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 6.

الآية: 160 - 165

قوله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لايظلمون(160)

آية بلاخلاف.

يجوز في قوله " فله عشر أمثالها " ثلاثة أوجه: الجربا لاضافة، وعليه جميع القراء الا يعقوب. ورفع (أمثالها) مع التنوين على الصفة، وبه قرأ الحسن ويعقوب. ونصبه على التمييز، كماتقول عندي خمسة أترابا ذكر ذلك الزجاج، والفراء.

 [330]

ومعنى القراء‌ة الاولى، فله عشر حسنات أمثالها، ويجوز في العربية فله عشر مثلها، فيكون المثل في لفظ الواحد وفى معنى الجمع، كما قال " انكم اذا مثلهم "(2).

ومن قال: أمثالها فهو كقوله " لايكونوا امالكم "(3) وانما جاز في (مثل) التوحيد في معنى الجمع، لانه على قدر مايشبه به، تقول: مررت بقوم مثلكم وبقوم أمثالكم.

وقال الرماني: كلمالم يتميز بالصورة فان جمعه يدل على الاختلاف، كقولك: رمال ومياه، فأما (رجال) فلايدل على الاختلاف، لانه يتميز بالصورة، ويجوز ان يكون (المثل) في موضع الجمع ولايجوز مثل ذلك في (العدل) لان (المثل) لايضاف إلى الجماعة الاعلى معنى انه مثل لكل واحدمنهم. وليس كذلك (العدل) لانه يكون لجماعتهم دون كل واحدمنهم.

وقال اكثر اهل العدل ان الواحد من العشرة مستحق وتسعة تفضل.

وقال بعضهم: المعنى فله من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها، وهذا لايجوز، لانه يقبح ان يعطي غيرالعامل مثل ثواب العامل كما يقبح ان يعطي الاطفال مثل ثواب الانبياء ومثل اجلالهم واكرامهم وان يرفع منزلتهم عليهم. وانما لم يتوعد على السيئة الابمثلها، لان الزائد على ذلك ظلم. والله يتعالى عن ذلك، وزيادة الثواب على الجزاء تفضل واحسان فجاز ان يزيد عليه.

قال الرماني: ولايجوز على قياس عشرة أمثالها عشر صالحات بالاضافة لان المعنى ظاهر في ان المراد عشر حسنات امثالها، وقال غيره لان الصالحات لاتعد، لانها اسماء مشتقة. وانما تعد الاسماء. و (المثل) اسم فلذلك جاز العدد به، وقال الرماني: دخول الهاء في قوله (الحسنة) يدل على ان تلك الحسنة ماهو مباح لايستحق عليه المدح والثواب. ولو قيل: دخول الالف

___________________________________

(2) سورة 4 النساء آية 139.

(3) سورة 47 محمد آية 38

[331]

واللام فيهايدل على ان الحسنة هي المأمور بها، ودخلا للعهد، والله لايأمر بالمباح، لكان اقوى مماقاله، ويجوز أن يكون التفضل مثل الثواب في العدد والكثرة، ويتميز منه الثواب بمقارنة التعظيم والتبجيل اللذين لولاهما لماحسن التكليف.

وانما قلنا: يجوز ذلك لان وجه حسن ذلك: الاحسان والتفضل، وذلك حاصل في كل قدر زائد. وفي الناس من منع من ان يساوي التفضل الثواب في باب الكثرة. والصحيح ماقلناه اولا.

فان قيل: كيف تجمعون بين قوله " فله عشر أمثالها " وبين قوله " مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة "(1) وقوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضا عفه له أضعافا كثيرة "(2) ولان المجازاة بدخول الجنة مثابا فيها على وجه التأبيد، لانهاية له، فكيف يكون ذلك عشر أمثالها، وهل هذا الا ظاهر التناقض؟ ! قلنا: الجواب عن ذلك ماذكره الزجاج وغيره: ان المعنى في ذلك ان جزاء الله على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقيد في النفوس، ويضاعف الله عن ذلك بمابين عشرة اضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ففائدة ذلك انه لاينقص من الحسنة عن عشر أمثالها، وفيما زاد على ذلك يزيد من يشاء من فضله واحسانه.

وقال قوم: المعنى من جاء بالحسنة فله عشر أمثال المستحق عليها، والمستحق مقداره لايعلمه الا الله وليس يريد بذلك عشر أمثالهافي العدد، كما يقول القائل للعامل الذي يعمل معه: لك من الاجر مثل ماعملت اي مثل ماتستحقه بعملك.

وقال آخرون: المعنى في ذلك ان الحسنة لها مقدارمن الثواب معلوم لله تعالى فأخبر الله تعالى انه لايقتصر بعباده على ذلك بل يضاعف لهم الثواب حتى تبلغ ذلك ماأراد وعلم أنه أصلح لهم، ولم يرد العشرة بعينها لكن اراد الاضعاف

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 261.

(2) سورة 2 البقرة آية 245

[332]

كمايقول القائل: لئن اسديت الي معروفا لاكافينك بعشرة أمثاله، وعشرة اضعافه. وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لاكلمنك عشرة، وليس يريدون بذلك العدد المعين لا اكثر منها، وانما يريدون ماذكرناه.

وقال قوم: عني بهذه الاية الاعراب، واما المهاجرون فحسناتهم سمع مئة، ذهب اليه ابوسعيد الخدري، وعبدالله بن عمر.

وقال قوم: معنى " عشر أمثالها " لانه كان يؤخذ منهم العشر في الزكاة، وكانوا يصومون في كل شهر ثلاثة ايام والباقي لهم.

وقال قوم " من جاء بالحسنة " يعني الايمان، فله يعني للايمان عشر أمثالها، وهو ماذكره في قوله " ان المسلمين والمسلمات.. "(1) إلى آخر الاية. وهذان الوجهان قريبان، والمعتمد ما قدمناه من الوجوه.

وقال اكثر المفسرين: ان السيئة المذكورة في الاية هي الشرك، والحسنة المذكورة فيها هي التوحيد واظهار الشهادتين. فان قيل كيف يجوز الزيادة في نعم المثابين مع ان الثواب قد استغرق جميع مناهم وما يحتملونه؟ قلنا عنه جوابان: احدهما - انه ليس للمنية نهاية مما يحتمله من اللذات. والثاني - ان يزاد في البنية والقوة مثل أن يزاد في قوة البصر حتى يرى الجزء الذي لايتجزء وان لم يزد في اخفاء الانسان.

قوله تعالى: قل إنني هديني ربي إلى صراط مستقيم(161) دينا قيما ملة إبرهيم حنيفا وما كان من المشركين(162)

آيتان.

قرأ ابن عامر واهل الكوفة " قيما " بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها. الباقون بفتح القاف مع تشديد الياء.

___________________________________

(1) سورة 33 الاحزاب آية 35

[333]

من قرأ بتشديد الياء فحجته قوله " وذلك دين القيمة "(1) كأنه قال دين الملة القيمة، ويكون وصفا للدين اذاكان نكرة، كما كان وصفا للملة، لان الملة هي الدين.

قال ابوالحسن: قال اهل المدينة " دينا قيما " وهي حسنة، ولم اسمعها من العرب.

قال ابوالحسن: وهو في معنى المستقيم.

فأما من قرأ بالتخفيف، فانه اراد المصدر، مثل الشبع، ولم يصحح (عوض وحول).

قال الزجاج: لانه جاء على (فعل) معتل، وهو (قام) والاصل (قوم، اقوم قوما) قال ابوعلي: وكان القياس يقتضى ان يصحح، لكنه شذ عن القياس، كماشذ (اشياء) ونحوه عن القياس نحو (ثيرة) في جمع (ثور) ونحو (جياد) في جمع (جواد) وكان القياس الواو، كماقالوا: طويل وطوال قال الاعشى:

جيادك في الصيف في نعمة تصا *** ن الجلال وتعطى الشعيرا(2)

وقوله " دينا قيما " يحتمل نصبه ثلاثة اوجه: احدها - انه قال " انني هداني ربي إلى صراط مستقيم " واستغنى بجري ذكر الفعل عن ذكره، فقال " دينا قيما " كما قال " اهدنا الصراط المستقيم ". والثاني - نصبه على تقدير عرفني، لان هدايتهم اليه تعريف لهم فحمله على عرفني دينا قيما.

وقال الزجاج: معناه عرفني دينا قيما. ان شئت حملته على الاتباع كما قال " اتبعوا ماأنزل "(3) وقال الفراء: هونصب على المصدر، كأنه قال هداني اهتداء، ووضع (دينا) موضعه. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ان يقول للخلق وخاصة لهؤلاء الكفار " انني هداني ربي " وقيل في معنى الهداية قولان:

___________________________________

(1) سورة 98 البينة آية 5.

(2) ديوانه: 17.

(3) سورة 2 البقرة آية 170

[334]

احدهما - قال ابوعلي: اراد بالهداية الدلالة وأضافه إلى نفسه دونهم، وان كان قد هداهم أيضا، لانه اهتدى دونهم. وقال غيره: اراد به لطف لي ربي في الاهتداء.

و " إلى صراط مستقيم " قد فسرناه في غير موضع. وانه الطريق الموصل إلى ثواب الله من غير اعوجاج، وانما قال " إلى صراط مستقيم " - ههنا - وقال في موضع آخر " ويهديك صراطا مستقيما "(4)، لانه اذا ضمن معنى النهاية دخلت (إلى) واذالم تضمن لم تدخل (إلى) وصار بمعنى عرفني.

والاول بمنزلة ارشدني، وانما كرر (مستقيم، وقيم) للمبالغة، كأنه قال: هو مستقيم على نهاية الاستقامة.

وقوله " ملة ابراهيم فالملة الشريعة وهي مأخوذة من الاملاء " كأنه مايأتي به السمع ويورده الرسول من الشرائع المتجددة فيمله على امته ليكتب او يحفظ. فأما التوحيد والعدل فواجبان بالعقل، ولايكون فيهما اختلاف. والشرائع تختلف، ولهذا يجوز ان يقال ديني دين الملائكة. ولايقال ملتي ملة الملائكة. والملة دين، وليس كل دين ملة. وانما وصف دين النبي صلى الله عليه وآله بأنه ملة ابراهيم ترغيبا فيه للعرب لجلالة ابراهيم في نفوسهم وغيرهم من أهل الاديان.

وقوله " حنيفا " معناه مخلصا لعبادة الله في قول الحسن. واصله الميل من قولهم: رجل احنف اذاكان مائل القدم باقبال كل واحدة منهما على الاخرى من خلقة لامن عارض.

وقال الزجاج: الحنيف هوالمائل إلى الاسلام ميلا لازما لارجوع معه.

وقال ابوعلي: اصله الاستقامة. وانماجاء (أحنف) على التفاؤل " وماكان من المشركين " يعني ابراهيم (ع) و " حنيفا " نصب على الحال من (ابراهيم) و " ملة أبيكم " نصب على المصدر - في قول الفراء - وقال الزجاج: هو بدل من قوله " دينا قيما ".

___________________________________

(4) سورة 48 الفتح آية 20

[335]

قوله تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين(163)

آية.

أسكن الياء من " محياي " أهل المدينة.

قال ابوعلي الفارسي: اسكان الياء من (محياي) شاذ خارج عن القياس والاستعمال، فشذوذه عن القياس ان فيه التقاء الساكنين، ولايلتقيان على هذا الحد، وشذوذه عن الاستعمال انك لاتجده في نظم ولانثر الاشاذا. ووجهه ماحكى بعض البغداديين انه سمع او حكي له: التقت حلقتا البطان باسكان الالف مع سكون لام المعرفة، وحكى غيره: له ثلثا المال وليس هذا مثل قوله " حتى اذا أداركوا فيها(1) لان هذا في المنفصل مثل دأبه في المتصل. ومثل ماأجاز يونس من قوله: اضربان زيدا، وسيبويه ينكر هذا من قول يونس.

قال الرماني: ولووصله على نية الوقف جاز.

امره ان يقول لهؤلاء الكفار " ان صلاتي ونسكي " وقد فسرنا معنى الصلاة فيما مضى.

وقيل في معنى و " نسكي " ثلاثة أقوال: احدها - قال سعيدبن جبير ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك: ذبيحتي في الحج والعمرة.

وقال الحسن (نسكي) ديني.

وقال الزجاج والجبائي " نسكي " عبادتي.

قال الزجاج: والاغلب عليه امر الذبح الذي يتقرب به إلى الله.

ويقولون: فلان ناسك بمعنى عابد. وانما ضم الصلاة إلى اصل الواجبات من التوحيد والعدل لان فيها التعظيم لله عند التكبير، وفيها تلاوة القرآن التي تدعو إلى كل بر، وقرر فيها الركوع والسجود وهما خضوع لله. وفيها التسبيح وهو تنزيه لله.

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 37.

[336]

وقوله " ومحياي ومماتي " يقولون حيي يحيا حياة ومحيا، ومات يموت موتا ومماتا. وانما جعل للفعل الواحد مصادر في الثلاثي لقوته، ولانه الاكثر الاغلب. وانما جمع بين صلاته وحياته، واحدهما من فعله، والاخر من فعل الله، لانهما جميعا بتدبير الله تعالى وان كان احدهما من حيث ايجاده واعدامه لمافيه من الصلاح. ووجه ضم الموت إلى اصل الواجب الرغبة إلى من يقدر على كشفه إلى الحياة في النعيم الدائم بطاعته في اداء الواجبات.

وقوله " لاشريك له " فالشركة هي تلك؟؟، فلماكان عبدة الاوثان جعلوا العبادة على هذه الصفة كانوا مشركين في عبادة الله، فأمر الله ان ينفي عنه هذا الشرك ويقول " لاشريك له ". والمعنى لايستحق العبادة سواه. ثم امره بأن يقول اني أمرت بذلك يعني بنفي الاشراك مع الله وتوجيه العبادة اليه تعالى وحده " وانااول المسلمين " قال الحسن: معناه اول المسلمين من هذه الامة.

وبه قال قتادة وبين ذلك لوجوب اتباعه صلى الله عليه وآله ولبيان فضل الاسلام اذاكان اول مسارع اليه نبينا صلى الله عليه وآله ومعنى الاية وجوب نفي الشرك عن الله ووجوب اعتقاد بطلانه واخلاص العبادة اليه تعالى.

قوله تعالى: قل أغير الله أبغي ربّا وهو رب كل شئ ولاتكسب كل نفس إلا عليها ولاتزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون(164)

آية

امر الله تعالى نبيه ان يخاطب هؤلاء الكفار، ويفون على وجه الانكار لفعلهم " أغير الله أبغي " أي أتخذ " ربا " معبودا؟ ! فالكلام خرج مخرج الاستفهام، والمراد به الانكار، لانه؟؟ لصاحبه الابماهو قبيح، لان تقديره ايجوز أن اطلب الضر والنفع بعبادتي ممن هو مربوب مثلي؟ !

[337]

عادلا بذلك عن رب كل شئ وليس بمربوب؟ ! أم هذا قبيح في العقول؟ وهو لازم لكم على عبادة الاوثان.

والرب اذا أطلق افاد المالك لتصريف الشئ بأتم التصريف واذا أضيف فقيل رب الدار، ورب الضيعة، فمعناه المالك لتصريفه بأتم تصريف العباد واصله التربية وهي تنشئة الشئ حالا بعد حال حتى يصير إلى الكمال. ثم صرف إلى معنى الملك لهذه الاحوال من الشئ وماجرى مجراها.

والفرق بين الرب والسيد، أن السيد هو المالك لتدبير السواد الاعظم، والرب المالك لتدبير الشئ حتى يصير إلى الكمال مع اجرائه على تلك الحال.

وقوله " ولاتكسب كل نفس الاعليها " معناه لايكون جزاء عمل كل نفس الا عليها. ووجه اتصاله بماقبله أنه لاينفعني في ابتغاء رب غيره ماأنتم عليه من ذلك، لانه ليس بعذر لي في اكتساب غيري له، لانه " لاتزر وازرة وزر أخرى " وقيل: ان الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وآله اتبعنا، وعلينا وزرك ان كان خطأ، فأنزل الله الاية. وفيها دلالة على فساد قول المجبرة من وجهين: احدهما - ان قوله " ولاتزر وازرة وزر أخرى " يدل على انه لايعذب الطفل بكفر أبيه. والثاني - أنه لايعذب احدا بغير ذنب كان منه، لانهما سواء في أن كل منهما مستحق.

وتقول: وزر يزر وزرا، ووزر، يوزر، فهو موزور، وكله بمعنى الاثم. والوزر الملجأ.

ومنه قوله " كلا لا وزر "(1) فحال الموزور كحال الملتجئ من غير ملجأ.

ومنه الوزير لان الملك يلتجئ اليه في الامور.

وقيل: أصله الثقل، ومنه قوله " ووضعناعنك وزرك "(2) وكلاهما محتمل " ثم إلى ربكم مرجعكم " يعني مالككم ومصيركم إلى الله في يوم لايملك فيه الامر غيره تعالى.

وقوله " فينبئكم بماكنتم فيه تختلفون " معناه انه يخبركم بالحق فيما اختلفتم فيه من الباطل، فيظهر المحسن من المسئ بما يزول معه الشك، والارتياب

___________________________________

(1) سورة 75 القيامة آية 11.

(2) سورة 94 الانشراح آية 2

[338]

ويقع معه الندامة في وقت قدفات فيه استدراك الخطيئة، فمعنى الاية الحجة على ان كل شئ سوى الله فالله ربه من كل وجه يصح منه الربوبية، وفيها دلالة على فساد قول المجبرة: ان الله يعذب على غير ذنب.

قوله تعالى: وهو الذي جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ماآتيكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم(165)

آية.

اخبر الله تعالى انه الذي جعل الخلق خلائف الارض، ومعناه ان كل اهل عصر يخلفون اهل العصر الذي قبله كلمامضى واحدخلفه آخر على انتظام واتساق وذلك يدل على مدبر أجراه على هذه الصفة قال الشماخ:

تصيبهم وتخطيني المنايا *** وأخلف في ربوع عن ربوع(3)

وواحد الخلائف خليفة، مثل صحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، ووصيفة ووصائف، هذا قول الحسن والسدي.

وقال قوم: معناه انه جعلهم خلفاء الجان قبل آدم.

وقال آخرون معناه والمراد به امة نبينا صلى الله عليه وآله لان الله جعلهم خلفاء سائر الامم.

وقوله " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " وجه الحكمة في ذلك مع انه يخلقهم كذلك ابتداء من غير استحقاق بعمل يوجب التفاضل بينهم مافيه من الالطاف الداعية إلى الواجبات والصارفة عن القبائح، لان من كان غنيا في ماله شريفا في نسبه قويا في جسمه ربما دعاه ذلك إلى طاعة من يملكها رغبة فيها. والحال في أضدادها ربما كان دعته إلى طاعته رهبة منها ومن أمثالها ورجاء أن ينقل عنها إلى حال جليلة يغتبط عليها وقال السدي: رفع بعضهم فوق

___________________________________

(3) ديوانه 58 واللسان . (ربع) وتفسير الطبري 12 / 288.

[339]

بعض في الرزق وقوة الاجسام وحسن الصورة، وشرف الانسان. وغير ذلك بحسب ماعلم من مصالحهم.

وقوله " درجات " يحتمل نصبه ثلاثة أشياء: احدها - ان يقع موقع المصدر كأنه قال رفعة فوق رفعة.

الثاني - إلى درجات، فحذفت (إلى) كما في قولهم: دخلت البيت، وتقديره دخلت إلى البيت.

الثالث - أن يكون مفعولا من قولك: ارتفع درجة ورفعته درجة مثل اكتسى ثوبا وكسوته ثوبا.

وقوله " ليبلوكم فيما آتاكم " معناه فعل بكم ذلك ليجزيكم فيما أعطاكم. والقديم تعالى لايبتلي خلقه ليعلم مالم يكن عالمابه، لانه تعالى عالم بالاشياء قبل كونها. وانما قال ذلك، لانه يعامل معاملة الذي يبلو، مظاهرة في العدل. وانتفاء من الظلم.

وقوله " ان ربك سريع العقاب " انما وصف نفسه بأنه سريع العقاب مع وصفه تعالى بالامهال ومع ان عقابه في الاخرة من حيث كان كل آت قريبا، فهواذا سريع، كما قال " وماأمر الساعة الا كلمح البصر اوهو أقرب "(1) وقديكون سريع العقاب بمن استحقه في دار الدنيا، فيكون تحذير الواقع في الخطيئة على هذه الجهة. وقيل معناه انه قادر على تعجيل العقاب، فاحذروا معاجلته. وانما قابل بين العقاب والغفران ولم يقابل بالثواب، لان ذلك ادعى إلى الاقلاع عمايوجب العقاب، لانه لو ذكر الثواب لجاز ان يتوهم انه لمن لم يكن فيه عصيان.

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 77.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21402104

  • التاريخ : 19/04/2024 - 12:42

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net