00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة ابراهيم 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

14 - سورة ابراهيم

قال قتادة: هي مكية إلا آيتين: قوله " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله " إلى قوله " وبئس القرار ".

وقال مجاهد هي مكية وليس فيها ناسخ ولامنسوخ.

وهي إثنان وخمسون آية في الكوفي، وأربع في المدنيين، وآية في البصري.

الآية: 1 - 19

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلي النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد(1) الله الذي له ما في السموات ومافي الارض وويل للكافرين من عذاب الشديد(2))

ثلاث آيات في المدنيين آخر الاولى.

قوله " إلى النور " وآيتان عند الباقين. قرأ ابن عامر ونافع " الله الذي " بالرفع. الباقون بالخفض.

قال ابوعلي: من قرأ بالجر جعله بدلا من الحميد، ولم يكن صفة، لان الاسم وان كان في الاصل مصدرا، والمصادر يوصف بها كما يوصف بأسماء الفاعلين، وكذلك كان هذا

[270]

الاسم في الاصل (الالاه) ومعناه ذو العبادة اي تجب العبادة اي تجب العبادة له، قال ابوزيد: يقال تأله الرجل إذا نسك وأنشد لرؤبة: سبحن واسترجعن من تألهي(1).

فهذا في أنه في الاصل مصدر قدوصف به مثل السلام والعدل، الاان هذا الاسم غلب حتى صار في الغلبة وكثرة الاستعمال كالعلم، وقديغلب مافي اصله الصفة فيصير بمنزلة العلم(2) مثل قول الشاعر:

والتيم ألام من يمشي وألامهم *** ذهل بن تيم بنو السود المدانيس(3)

يجوز أن يكون جعل التيم جمع تيمي كيهودي ويهود وعلى هذا قال تعالى وقالت اليهود، ألاترى أن (يهود) قد جرى في كلامهم إسما للقبيلة، كما أن (مجوس) كذلك، فلولا أن المراد بهما الجمع، لم يدخلهما الالف واللام، كمالا يدخل المعارف في نحو زيد وعمرو، إلا انه جمع بحذف اليائين اللتين للنسب، كماجمع شعير وشعيرة بحذف التاء، ومثله (رومي) وروم و (زنجي) وزنج.

ومن رفع قطع عن الاول، ورفعه بالابتداء، وجعل (الذي) الخبر، او جعله صفة وأضمر الخبر.

___________________________________

(1) مر هذا الرجز في 1: 28.

(2) كان في المطبوعة على الهامش هذه الحاشية (نابغة الجعدي في الرمل بيته عليه صفيح من تراب وجندل والاصل النابغة ولماغلب نزع منه الالف واللام كما ينزع من اسماء الاعلام نحو زيد وعمرو وربما استعمل في هذا النحو الوجهان واما قول الشاعر) انتهى. وهوكماترى بعيد عن المتن من حيث اللهجة والتركيب وظاهر انه ليس من كلام الشيخ الطوسى - رحمه الله - ولكن آخره يشبه المتصل بالمتن لذلك نقلناه فلعل المطلع عليه يستفيد منه.

(3) قائله جرير. ديوانه (دار بيروت) 252 واللسان (تيم) ورواية الديوان:

والتيم ألام من يمشي وألا مهم *** اولاد ذهل بنو السود المدانيس

ورواية اللسان:

والتيم ألام من يمشي وألامه *** تيم بن ذهل بنو السود المدانيس

[271]

وقد بينا معاني الحروف المقطعة في أوائل السور في أول البقرة(1)، وذكرنا اختلاف المفسرين فيه، فلافائدة في اعادته.

وقوله " كتاب أنزلناه إليك " رفع على انه خبر الابتداء، ومعناه هذاكتاب يعني القرآن أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " ليخرج الناس من الظلمات إلى النور " أي ليخرجهم من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الايمان والهداية.

والظلمة في الاصل سواد الجو المانع من الرؤية تقول أظلم إظلاما وظلاما، وظلمة.

الظلمة اذهاب الضياء بمايستره، والنور بياض شعاعي تصح معه الرؤية، ويمنع معه الظلام ومنه النار لمافيها من النور. والنور والضياء واحد.

وقال قتادة " من الظلمات إلى النور " من الضلالة إلى الهدى " بإذن ربهم " اي باطلاق الله ذلك، وأمره به نبيه صلى الله عليه وسلم " إلى صراط العزيز الحميد " أي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى طريق الله المؤدي إلى معرفة الله " العزيز " يعني القادر على الاشياء الممتنع بقدرته من أن يضام، المحمود في أفعاله التي أنعم بها على عباده، الذي له التصرف في جميع مافي السماوات والارض، على وجه ليس لاحد الاعتراض عليه.

ثم اخبر تعالى أن الويل للكافرين الذين يجحدون نعم الله ولايعترفون بوحدانيته. والاقرار بنبيه صلى الله عليه وسلم " من عذاب شديد " وهو ما تتضاعف " آلامه، والشدة تجمع يصعب معه التفكك، شده يشده شدا وشدة.

وفي الآية دلالة على ان الله يريد الايمان من جميع المكلفين، لانه ذكر أنه أنزل كتابه ليخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، لان اللام لام الغرض، ولايجوز أن يكون لام العاقبة، لانها لوكانت كذلك، لكان الناس كلهم مؤمنين والمعلوم خلافه.

___________________________________

(1) في 1: 47 - 51

[272]

قوله تعالى: (ألذين يستحبون الحيوة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد(3))

آية بلاخلاف.

" الذين " في موضع جر، لانه نعت للكافرين، وتقديره وويل للكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. والاستحباب طلب محبة الشئ بالتعرض لها، والمحبة إرادة منافع المحبوب. وقد تكون المحبة ميل الطباع.

والحياة الدنيا هو المقام في هذه الدنيا العاجلة على الكون في الآخرة.

ذمهم الله بذلك، لان الدنيا دار انتقال، والآخرة دار مقام.

" ويصدون عن سبيل الله " اي يعرضون بنفوسهم عن اتباع الطريق المؤدي إلى معرفة الله، ويجوز ان يريد انهم يمنعون غيرهم من اتباع سبيل الله تعالى، يقال: صد عنه يصد صدا، غير متعد، وصده يصده صدا متعد. والسبيل الطريق وكلاهما يؤنث ويذكر، وهوعلى السبل اغلب و " يبغونها عوجا " أي ويطلبون الطريق عوجا اي عدولا عن استقامته.

و (العوج) خلاف الميل إلى الاستقامة، والعوج بكسر العين - في الدين، وبفتح العين - في العود والبغية طلب المقاصد لموضع الحاجة، يقال: بغاه يبغيه بغية، وابتغى ابتغاء، ودخلت (على) في قوله " يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة " لان المعنى يؤثرونها عليها.

ولوقيل من الاخرة، لجاز ان يكون بمعنى يستبدلونها من الاخرة.

وقيل: إنه يجري مجرى قولهم: نزلت على بني فلان، ونزلت في بني فلان، وببني فلان، كله بمعنى واحد.

وقوله " اولئك في ضلال بعيد " إخبار منه تعالى ان هؤلاء الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الاخرة، ويصدون عن سبيل الله، في عدول عن الحق، بعيدون عن الاستقامة.

[273]

قوله تعالى: (وماأرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهوالعزيز الحكيم(4))

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى انه لم يرسل فيما مضى من الازمان رسولا إلى قوم إلا بلغة قومه حتى اذا بين لهم، فهموا عنه، ولايحتاجون إلى من يترجم عنه.

وقوله " فيضل الله من يشاء " يحتمل امرين: احدهما - انه يحكم بضلال من يشاء اذا ضلوا هم عن طريق الحق. الثاني - يضلهم عن طريق الجنة إذاكانوا مستحقين للعقاب و " يهدي من يشاء " إلى طريق الجنة " وهوالعزيز " يعني القادر الذي لا يقدر أحد على منعه " الحكيم " في جميع افعاله، ليس فيها ما له صفة السفه.

ويحتمل ان يريد انه محكم لافعاله التي تدل على علمه.

ورفع قوله " فيضل الله " لان التقدير على الاستئناف، لا العطف على ما مضى، ومثله قوله " لنبين لكم ونقر في الارحام "(1) ومثله " قاتلوهم يعذبهم الله بايديكم "(2) ثم قال بعد ذلك " ويتوب الله على من يشاء "(3) لانه إذا لم يجز ان يكون عطفا على مامضى فينتصب لفساد المعنى فلابد من استئنافه ورفعه.

وقال الحسن: امتن الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم انه لم يبعت رسولا إلا إلى قومه، وبعثه خاصة إلى جميع الخلق.

وقال مجاهد: بعث الله نبيه إلى الاسود والاحمر ولم يبعث نبيا قبله إلا إلى قومه واهل لغته.

___________________________________

(1) سورة الحج آية 5.

(2، 3) سورة التوبة آية 15 - 16

[274]

قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور(5))

آية في الكوفي والبصري. وآيتان في المدنيين.

آخر الاولى " إلى النور ".

أخبر الله تعالى انه ارسل موسى نبيه (ع) إلى خلقه بآياته ودلالاته " أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور " اي ارسلناه بأن أخرج قومك من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الايمان والهداية بالدعاء لهم إلى فعل الايمان، والنهي عن الكفر والتنبيه على ادلته.

" وذكرهم بأيام الله " قيل في معناه قولان: احدهما - قال الحسن ومجاهد وقتادة وسعيدبن جبير: ذكرهم بنعم الله الثاني - ذكرهم بنعم الله لعاد وثمود وغيرهم من الامم الضالة، قال عمربن كلثوم:

وايام لنا غر طوال *** عصينا الملك فيها ان ندينا(1)

وقيل: النعم والنقم من اعدائنا.

وقال قوم: اراد خوفهم بهذا، كما يقال: خذه بالشدة واللين.

ثم أخبر ان في ذلك دلالات لكل من صبر على بلاء الله وشكره على نعمه. والتذكير التعريض للذكر الذي هو خلاف السهو، يقال: ذكره تذكيرا، وذكره يذكره ذكرا، وتذكر تذكرا، وذاكره مذاكرة.

والصبار الكثير الصبر، والصبر حبس النفس عما تنازع اليه مما لاينبغي.

___________________________________

(1) هذا البيت من معلقته الشهيرة. المعلقات السبع (دار بيروت) 123 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13: 107 ومجمع البيان 3: 304 وقد مر في 1: 36 من هذا الكتاب.

[275]

والشكور الكثير الشكر. والشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، وضده الكفر.

(وان) في قوله " أن اخراج " يحتمل ان تكون بمعنى (أي) على وجه التفسير، ويجوز ان تكون التي تتعلق بالافعال والمعنى قلنا له: اخرج قومك.

وقال سيبويه يقول العرب: كتبت اليه أن قم، وأمرته أن قم، وان شئت كانت (أن) التي وصلت بالامر.

والتأويل على الخبر.

والمعنى كتبت اليه ان يقوم وأمرته أن يقوم إلا انها وصلت بلفظ الامر المخاطب، والمعنى معنى الخبر، كماتقول أنت الذي فعلت. والمعنى انت الذي فعل.

قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم اذ أنجكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناء‌كم ويستحيون نساء‌كم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم(6))

آية بلاخلاف.

التقدير واذكر يامحمد " إذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم " في الوقت الذي انجاكم " من آل فرعون.

يسومونكم سوء العذاب " جملة في موضع الحال.

و " يذبحون ابناء‌كم ويستحيون نساء‌كم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " وقد فسرناه أجمع في سورة البقرة(1) فلانطول بإعادته.

ودخلت الواو - ههنا - في قوله " ويذبحون ابناء‌كم " وفي البقرة بلاواو.

وقال الفراء: معنى الواو أنه كان يمسهم من العذاب غير التذبيح، كأنه قال يعذبونكم بغير الذبح.

والذبح إذا أطلق كان تفسيرا لصفات العذاب.

___________________________________

(1) انظر 1: 217 - 224 في تفسير آية 49 من سورة البقرة.

[276]

وقوله " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " اي في ذلكم نعم من ربكم عظيمة إذ أنجكم منهم.

والبلاء قد يكون نعما، وعذابا، يقال: فلان حسن البلاء عندك اي حسن الانعام عليك ويحتمل ان يكون بمعنى العذاب، وفي الصبر على ذلك العذاب امتحان من ربكم عظيم.

قوله تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد(7) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فإن الله لغني حميد(8))

آيتان بلاخلاف

وهذه الآية عطف على الاولى، والتقدير واذكروا " إذ تأذن ربكم " اي أعلمكم وقد يستعمل (تفعل) بمعنى (أفعل) كقولهم اوعدته وتوعدته، وهو قول الحسن والفراء، قال الحرث بن حلزة:

آذنتنا ببينها أسماء *** رب ثاو يمل منه الثواء(1)

والمعنى أعلم ربكم.

وقوله " لئن شكرتم لازيدنكم " التقدير أعلمكم أنكم متى شكرتموني على نعمي، واعترفتم بها زدتكم نعمة إلى نعمة " ولئن كفرتم " أي جحدتم نعمتي وكفرتموها " ان عذابي لشديد " لمن كفر نعمتي. ثم أخبر ان موسى قال لقومه " ان تكفروا " نعم الله وتجحدونها " أنتم " وجميع " من في الارض " من الخلق فإنه لايضر الله. وإنما يضركم ذلك، بأن تستحقوا منه العذاب والعقاب " فان الله لغني حميد " اي غني عن شكركم حميد في أفعاله. والغني هوالحي الذي ليس بمحتاج، والحميد الكبير لاستحقاق الحمد بعظم

___________________________________

(1) من معلقته الشهيرة. المعلقات السبع (دار بيروت) 155 وقد مر في 1: 380 من هذا الكتاب.

[277]

إنعامه، وهي صفة مبالغة في الحمد، وقد يكون كفر النعمة بأن يشبه الله بخلقه أو يجور في حكمه، أو يرد على نبي من انبيائه، أو كان بمنزلة واحد منها في عظم الفاحشة، لان الله تعالى منعم بجميع ذلك من حيث أقام الادلة الواضحة على صحة جميع ذلك وغرضه بالنظر في جميعها الثواب الجزيل، فلذلك كان منعما بها إن شاء.

قوله تعالى: (ألم يأتكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لايعلمهم إلا الله جاء‌تهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب(9) قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين(10))

آيتان في الكوفي وثلاثا آيات في المدنيين والبصري تمام الاولى قوله " وثمود ".

قيل فيمن يتوجه الخطاب اليه في قوله " ألم يأتكم نبؤ " قولان: احدهما - قال الجبائي: إنه متوجه إلى امة النبي صلى الله على وسلم ذكروا بأخبار من تقدم وما جرى من قصصهم. والثاني - قال قوم: إنه من قول موسى (ع) لانه متصل به في الآية المتقدمة يقول الله لهم " الم يأتكم " اي اما جاء‌كم اخبار من تقدمكم. والنبأ الخبر عما يعظم

[278]

شأنه يقال: لهذا الامر نبؤ اي عظم شأن يقال انبأ ينبئ، ونبأت أنبئ، وبنأ الله محمدا اي جعله نبيا، وتنبأ مسيلمة اي ادعى النبوة، وليس هو كذلك.

و " قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم " كل ذلك مجرور بأنه بدل من الكاف والميم في قوله " قلبكم " وهومجرور بالاضافة.

وقوله " لايعلمهم إلا الله " اي لايعلم تفاصيل أحوالهم ومافعلوه، وفعل بهم من العقوبات، ولا عددهم " إلا الله " ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (كذب النسابون) وقوله " جاء‌تهم رسلهم بالبينات " اي اتتهم رسلهم بالدلالات الواضحات " فردوا أيديهم في أفواههم " وقيل في معناه خمسة اقوال: احدها - قال عبدالله بن مسعود، وابن زيد: انهم عضوا على اناملهم تغيظا عليهم في دعائهم إلى الله، كماقال " عضو عليكم الانامل من الغيظ "(1)

وثانيها - قال الحسن: جعلوا أيديهم في افواه الانبياء تكذيبا لهم وردا لما جاؤوا به.

الثالث - قال مجاهد ردوا نعمتهم بأفواههم.

الرابع - قال قوم: يحتمل ان يكونوا ردوا أيدي أنفسهم في أفواه نفوسهم مومئن لهم اي اسكتوا عما تدعونا إليه، كمايفعل الواحد منا مع غيره إذا أراد تسكيته. روي ذلك عن ابن عباس ذكره والفراء.

وخامسها - قال قوم: ردوا مالو قبلوه، لكانت نعمة عليهم في افواههم اي بأفواههم والسنتهم، كمايقولون ادخلك الله بالجنة يريدون في الجنة وهي لغة طي، قال الفراء: انشدني بعضهم:

وارغب فيها عن لقيط ورهطه *** ولكنني عن سنبس لست ارغب(2)

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية 119.

(2) مجمع البيان 3: 306 وامالي الشريف المرتض 1: 366 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13: 111 ولم يعرف قائله.

[279]

فقال (ارغب فيها) يريد بها يعنى بنتاله، يريد: ارغب بها عن لقيط، ولاارغب بها عن قبيلته، وقوله " انا كفرنابما ارسلتم به " حكاية ايضاعما قالوا للرسل فإنهم قالوا: إنا قد كفرنا بما ارسلتم به من الدعاء إلى الله وحده وتوجيه العبادة إليه، والعمل بشرائعه " وانا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب " والريب اخبث الشك المتهم، وهوالذي يأتي بما فيه التهمة، ولذلك وصفوا به الشك اي انه يوجب تهمة مااتيتم به يقال: اراب يريب إرابة إذا أتى بما يوجب الريبة، فقالت لهم حينئذ رسلهم " أفي الله شك " مع قيام الادلة على وحدانيته وصفاته، لانه الذي خلق السموات والارض يدعوكم إلى عبادته ليغفر لكم من ذنوبكم اذا أطعتموه.

ودخلت (من) ههنا - في قول أبي عبيدة - زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب، وقال أبوعلي: دخلت للتبعيض ووضع البعض موضع الجميع توسعا.

وقال قوم: دخلت (من) لتكون المغفرة بدلا من الذنوب، فدخلت (من) لتضمن المغفرة معنى البدل من السيئة " ويؤخركم إلى اجل مسمى " يعنى لايؤاخذكم بعاجل العذاب، بل يؤخر إلى الوقت الذي ضربه الله لكم ان يمسكم فيه، فقال لهم قومهم " ان أنتم الابشر مثلنا " اي ليس انتم الا خلق مثلنا تريدون ان تمنعونا عماكان يعبد اباؤنا من الاصنام والاوثان، فاتونا بحجة واضحة على ماتدعونه وبطلان مانحن عليه.

وفي الآية دلالة واضحة على انه تعالى اراد بخلقه الخير والايمان، لا الشر والكفر، وأنه إنما بعث الرسل إلى الكفار رحمة وتفضلا، ليؤمنوا، لا ليكفروا، لان الرسل قالت: ندعوكم إلى الله ليغفر لكم، فمن قال إن الله أرسل الرسل إلى الكفار ليكفروا بهم ويكونوا سوء‌ا عليهم ووبالا، وانما دعوهم ليزدادوا كفرا فقد رد ظاهر القرآن.

[280]

قوله تعالى: (قالت لهم رسلهم إن نحن إلابشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وماكان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون(11) ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون(12))

آيتان بلا خلاف.

حكى الله تعالى في هذه الآية ماأجابت به الرسل الكفار، فإنهم قالوا لهم ما " نحن إلابشر مثلكم " ولسنا ملائكة، كمازعمتم " ولكن الله " من علينا فاصطفانا وبعثنا أنبياء وهو " يمن على من يشاء من عباده " ولم يكن لنا ان نجيئكم " بسلطان " اي بحجة على صحة دعوانا إلا بأمر الله واطلاقه لنا في ذلك " وعلى الله " يجب ان يتوكل " المتوكلون " المؤمنون المصدقون به وبأنبيائه.

ثم اخبر انهم قالوا ايضا " ومالنا ان لانتوكل على الله " اي ولم لانتوكل على الله " وقد هدانا " إلى سبل الايمان ودلناعلى معرفته ووفقنا لتوجيه العبادة اليه، ولانشرك به شيئا، وضمن لنا على ذلك جزيل الثواب، " ولنصبرن على ما أذيتمونا " من تكذيبنا وشتمنا في جنب طاعته وابتغاء مرضاته وطلب ثوابه " وعلى الله " يجب ان يتوكل المتوكلون الواثقون بالله دون من كان كافرا، فان وليه الشيطان.

و " المن " اصله القطع يقال: حبل منين اي منقطع عن بلوغ المنية، والمنية لانها تقطع عن امر الدنيا.

" ولهم اجر غير ممنوع "(1) اي غير مقطوع، والاذى ضرر يجده صاحبه في حاله يقال: آذاه يؤذيه أذى وتأذى به تأذيا، واكثر مايقال في الضرر القليل، ويقال ايضا آذاه أذى عظيما، والمثل ماسدمسد صاحبه فيما يرجع إلى ذاته.

والهدى الدلالة على طريق الحق من الباطل، والرشد من الغي،

___________________________________

(1) سورة 41 حم السجد (فصلت) آية 8 وسورة 84 الانشقاق آية 25 وسورة 95 التين آية 6

[281]

هداه يهديه إلى الدين هدى.

والسلطان الحجة التي يتسلط بها على الطالب مذهب المخالف للحق.

وقيل في قوله " وماكان لنا ان ان نأتيكم بسلطان الا باذن الله، قولان: احدهما - قال ابوعلي الجبائي: انهم سألوا آية مخصوصة غير مااتتهم به الرسل، كما سأله قريش، فقالوا " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا.. "(1) والثاني - ان مااتيناكم به بإذن الله، لانه مما لايقدر عليه البشر، ونحن بشر.

قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين(13) ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد(14))

آيتان بلا خلاف.

حكى الله تعالى عن الكفار انهم قالوا لرسلهم " انا لنخرجنكم من ارضنا " وبلادنا إلا ان تدخلوا في أدياننا، ومذاهبنا، فحينئذ اوحى الله تعالى إلى رسله إنا نهلك هؤلاء الظالمين الكافرين، ونسكنكم الارض بعدهم ذلك جزاء " لمن خاف مقامي " اي حيث يقيمه الله بين يديه، وأضافه إلى نفسه، كماقال " وتجعلون رزقكم انكم تكذبون "(2) اي رزقي اياكم قال الفراء: والعرب تضيف افعالها إلى انفسها والى ماوقعت عليه، يقولون سررت برؤيتك، وسررت برؤيتي إياك،

___________________________________

(1) سورة الاسرى 71 آية 90.

(2) سورة 56 الواقعة آية 82

[282]

وندمت على ضربك وضربي اياك، وخاف وعيدي وعقابي، وانما قالوا " او لتعودن في ملتنا " وهم لم يكونوا على ملتهم قط لامرين: احدهما - انهم توهموا - ذلك على غير حقيقة - انهم كانوا على ملتهم. الثاني - انهم ظنوا بالنشوء انهم كانوا عليها دون الحقيقة.

واللام في قوله " ولنخرجنكم " لام القسم والتي في قوله " اولتعودن ايضا مثل ذلك إلا ان فيه معنى الجزاء، لان التقدير لنخرجنكم من ارضنا إلا ان تعودوا أو حتى ان تعودوا، وهو مثل قول القائل: والله لا أكلمك او تدعوني. والمعنى إلا أن، او حتى تدعوني.

قوله تعالى: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد(15) من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد(16))

آيتان بلا خلاف.

قوله " واستفتحوا " معناه استنصروا وهو طلب الفتح بالنصر، ومنه قوله " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا "(1) اي يستنصرون وقال ابن عباس: هو استفتاح الرسل بالنصر على قومهم، وبه قال مجاهد وقتادة.

وقال الجبائي: هو سؤالهم ان يحكم الله بينهم وبين اممهم، لان الفتح الحكم، ومنه قولهم: الفتاح الحاكم.

وقال ابن زيد: هو استفتاح الكفار بالبلاء والخيبة خلاف ماقدروه من المنفعة، يقال: خاب يخيب خيبة وخيب تخيبا، وضده النجاح، وهو ادراك الطلبة.

والجبرية طلب علو المنزلة بما ليس وراء‌ه غاية في الوصف، فاذا وصف العبد بأنه جبار كان ذما، واذا وصف الله به كان مدحا، لان له علو المنزلة بما ليس وراء‌ه غاية في الصفة.

والعنيد: هوالمعاند إلا ان فيه مبالغة، والعناد الامتناع من الحق مع العلم به، كبرا وبغيا، يقال: عند يعند

___________________________________

(1) سورة البقرة آية 89

[283]

عنودا، وعانده معاندة وعناداقال الشاعر:

اذا نزلت فاجعلاني وسطا *** اني كبير لا أطيق العندا(1)

والوراء والخلف واحد، وهو جهة مقابلة لجهة القدام، وقد يكون وراء بمعنى أمام، وقيل: إنه يحتمل ذلك - ههنا - وذكروا أنه يجوز في الزمان على تقدير انه كان خلفهم، لانه يأتي فيلحقهم قال الشاعر:

اتوعدني وراء بني رياح *** كذبت لتقصرن يداك دونى(2)

وقال آخر:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه *** يكون وراء‌ه فرج قريب(3)

وقوله " ويسقى من ماء صديد " يعني يسقى الجبار العنيد صديدا، وهو قيح يسيل من الجرح اخذ من انه يصد عنه تكرها له. والقيح دم مختلط بمدة.

وقوله " صديد " بيان للماء الذي يسقونه، فلذلك اعرب بإعرابه، قال الزجاج: والوراء ماتوارى عنك، وليس من الاضداد، قال الشاعر:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وليس وراء الله للمرء مذهب(4)

أي ليس بعدمذاهب الله للمرء مذهب.

___________________________________

(1) قدمر تخريجه في 6: 14 من هذا الكتاب.

(2) قائله جرير، ديوانه (دار بيروت) 475، و (نشر الصاوي) 577 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13: 76، 114 ومجاز القرآن 1: 326، 337 وقدمر في 6: 233.

(3) لم اجده.

(4) قائله النابغة، ديوانه (دار بيروت) 17 من قصيدة يعتذر بها إلى النعمان بن المنذ ويمدحه. وهو في امالي الشريف المرتض 2: 17

[284]

قوله تعالى: (يتجرعه ولايكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وماهو بميت ومن ورائه عذاب غليظ(17) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو الضلال البعيد(18))

آيتان بلاخلاف.

قوله " يتجرعه " معناه يشرب ذلك الصديد جرعة جرعة، يقال: تجرع تجرعا، وجرعه يجرعه جرعا، والتجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار.

وقوله " ولايكاد يسيغه " أي لايقاربه، وانما يضطر اليه.

قال الفراء: (لايكاد) يستعمل فيمايقع وفيما لايقع، فيما يقع هو هذا، ومالم يقع مثل قوله " لم يكد يراها "(1) لان المعنى لم يرها.

والاساغة إجراء الشراب في الحلق على تقبل النفس، وهذا يضطر اليه، فلذلك قال " ولايكاد يسغيه " والمعنى فلايقارب ان يشربه تكرها، وهو يشربه، تقول: ساغ يسوغ الشئ وأسغته أنا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال: (مايتجرعه يقرب اليه فيتكرهه، فاذا أدني منه شوي وجهه ووقعت فروة رأسه فاذا شربه قطع امعاء‌ه حتى يخرج من دبره) كماقال " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاء‌هم "(2) وقال " وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب "(3) وقوله " ويأتيه الموت من كل مكان " قيل في معناه قولان: احدهما - قال ابن عباس والجبائي: من كل جهة، من عن يمينه وشماله ومن فوقه وتحته ومن قدامه وخلفه.

وقال ابراهيم التيمي وابن جريج: معناه " من كل مكان " من جسده حتى من أطراف شعره " وماهو بميت " اي انه مع

___________________________________

(1) سورة النور آية 40.

(2) سورة محمد: 47 آية 15.

(3) سورة الكهف: 18 آية 29

[285]

إتيان اسباب الموت والشدائد التي يكون معها الموت " من كل جهة " من شدة الاهوال، وأنواع العذاب، وليس هو بميت " ومن ورائه عذاب غليظ " وقيل في معناه قولان: احدهما - من أمامه. والثاني - ومن بعد عذابه هذا " عذاب غليظ ".

وقوله " مثل الذين كفروا بربهم " اي فيما يتلى عليكم " مثل الذين كفروا بربهم "، فيكون رفعا بالابتداء ويجوز ان يكون (مثل) مقحما ويبتدئ الذين كفروا.

وقوله " اعمالهم " رفع على البدل وهو بدل الاشتمال عليه في المعنى، لان المثل للاعمال، وقد أضيف إلى الذين كفروا، ومثله " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة "(1) والمعنى ترى وجوههم مسودة.

قال الفراء: لانهم يجدون المعنى في آخر الكلمة، فلا يبالون ماوقع على الاسم المبتدأ، ومثله قوله " لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم "(2) فاعيدت اللام في البيوت، لانها التي يراد بالسقف.

وقال المبرد: (اعمالهم) رفع بالابتداء وخبره (كرماد)، والرماد الجسم المنسحق بالاحراق سحق الغبار. ويمكن ان يجعل (مثل) صفة بغير نار في مقدور الله.

وقوله " اشتدت به الريح في يوم عاصف " فالاشتداد الاسراع بالحركة على عظم القوة، يقال: اشتد به الوجع من هذا، لانه أسرع اليه على قوة ألم والعصف شدة الريح، " يوم عاصف " أي شديد الريح، وجعل العصف صفة اليوم، لانه يقع فيه، كما يقال: ليل نائم، ويوم ماطر، أي يقع فيه النوم والمطر، ويجوز ان يكون لمراد عاصف ريحه، وحذف الريح للدلالة عليه، ومثله حجر ضب خرب اي خرب حجره، ويقال: عصفت الرياح إذا اشتدت وعصفت تعصف عصوفا.

شبه الله تعالى أعمال الكفار في انه لامحصول لها، ولاانتفاع بها يوم القيامة، بالرماد الذي يشتد فيه الريح العاصف، فإنه لابقاء لذلك الرماد، ولا لبث

___________________________________

(1) سورة الزمر: (39) آية 60.

(2) سورة الزخرف: 43 اية 33

[286]

فكذلك أعمال الكافر لايقدر منها على شئ، كما قال في موضع آخر " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا "(1) وقوله " ذلك هو الضلال البعيد " اي من وصفناه فهوالذي ضل عن الحق والخير ضلالا بعيدا.

___________________________________

(1) سورة الفرقان: 25 آية 23.

الآية: 20 - 52

قوله تعالى: (ألم تر أن الله خلق السموات والارض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد(19) وماذلك على الله بعزيز(20))

آيتان في الكوفي والمدني تمام الاولى " خلق جديد " وآية عند الباقين.

قرأ حمزة والكسائي " خالق السماوات " على اسم الفاعل. الباقون " خلق " على (فعل) ماض.

قال ابوعلي: من قرأ " خلق " فلان ذلك ماض فأخبر عنه بلفظ الماضي، من قرأ " خالق " جعله مثل " فاطر السموات والارض "(2) بمعنى خالق. ومثله قوله " فالق الاصباح وجعل الليل سكنا "(3) لانهما فعلا.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ويعني به الامة بدلالة قوله " ان يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " ألم تعلم، لان الرؤية تكون بمعنى العلم، كماتكون بمعنى الادراك بالبصر وههنا لايمكن ان تكون بمعنى الرؤية بالبصر، لان ذلك لايتعلق بأن الله خلق السموات والارض، وإنما يعلم ذلك بدليل وقوله " بالحق " والحق هو وضع الشئ في موضعه على ماتقتضيه الحكمة واذاجرى المعنى على ماهو له من الاشياء فهو حق، واذا اجري على ماليس هو له من الشئ فذلك باطل.

والخلق فعل الشئ على تقديره وترتيب، والخالق الفاعل على مقدار ماتدعو الحكم اليه لايجوز عليه غير ذلك.

___________________________________

(2) سورة فاطر: 35 آية 1.

(3) سورة الانعام: 6 آية 96

[287]

وقوله " ان يشأيذهبكم ويأت بخلق جديد " خطاب للخلق واعلام لهم أنه قادر ان شاء ان يميت الخلق ويهلكهم ويجئ بدلهم خلقا آخر جديدا. والاذهاب ابعاد الشئ عن الجهة التي كان عليها، ولهذا قيل للاهلاك إذهاب، لانه ابعاد له عن حال الايجاد. والجديد المقطوع عنه العمل في ابتداء أمره قبل حال خلو فيه، واصله القطع يقال: جده يجده جدا إذا قطعه، والجد أب الاب، لانقطاعه عن الولادة بالاب، والجد ضد الهزل، والجد الحظ.

" وماذلك على الله بعزيز " اخبار منه تعالى ان إذهابكم وإهلاككم والاتيان بخلق جديد ليس بممتنع على الله على وجه من الوجوه.

والممتنع بقدرته: عزيز، والممتنع بسعة مقدوره عزيز، والممتنع بكبر نفسه عزيز.

وفي الآية دلالة على ان من قدر على الانشاء قدر على الافناء إذ كان مما لايتغير حكم القادر، ولاشئ مما يحتاج اليه في الفعل، لان من قدر على البناء، فهو على الهدم أقدر، فمن كان قادرا على اختراع السماء والارض ومابينهما فهو قادر على إذهاب الخلق وإهلاكهم.

قوله تعالى: (وبرزوا لله جميعا فقال الضعفو للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص(21))

آية بلاخلاف.

أخبر الله تعالى ان الخلق يبرزون يوم القيامة لله اي يظهرون من قبورهم والبروز خروج الشئ عماكان ملتبسا به إلى حيث يقع عليه الحشر في نفسه، يقال: برز للقتال إذا ظهر له.

[288]

وفقال الضعفاء " اي يقول الناقص القوة، لان الضعفاء جمع ضعيف، والضعف نقصان القوة، يقال: ضعف يضعف ضعفا، واضعفه الله إضعافا، والضعف ذهاب مضاعفة القوة " للذين استكبروا " اي للذين طلبوا التكبر.

والاستكبار والتكبر والتجبر واحد، وهو رفع النفس فوق مقدارها في الوصف.

والمعنى يقول التابعون للمتبوعين من ساداتهم وكبرائهم " انا كنا لكم تبعا " اي طلبنا اللحاق بكم، واعتمدنا عليكم، وهو جمع تابع، كقولهم: غائب وغيب.

قال الزجاج: ويجوز ان يكون مصدرا وصف به " فهل انتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ " اي هل تقدرون على ان تدفعوا عنا مالا نقدر على دفعه عن أنفسنا، يقال: أغنى عني إذا دفع عني، وأغناني بمعنى نفى الحاجة عني بما فيه كفاية.

فأجابهم المستكبرون بأنه " لو هدانا الله " إلى طريق الخلاص من العقاب والوصول إلى النعيم والجنة " لهديناكم " اليه " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا " أي الجزع والصبر سيان مثلان، ليس لنا من محيص أي مهرب من عذاب الله تعالى يقال: حاص يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا، وحاد يحيد حيدا ومحيدا، والحيد الزوال عن المكروه.

والجزع انزعاج النفس بورود مايغم، ونقيضه البر قال الشاعر:

فان تصبرا فالصبر خير مغبة *** وان تجزعا فالامر ماتريان(1)

قوله تعالى: (وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وماكان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم(22))

آية بلاخلاف.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1: 202، 4، 546

[289]

قرأ حمزة وحده " بمصرخي " بكسر الياء. الباقون بفتحها.

قال ابوعلي: قال الفراء - في كتابه في التصريف: قرأ به الاعمش، ويحيى ابن وثاب، قال وزعم القاسم بن معن أنه صواب، وكان ثقة بصيرا، وزعم قطرب أنه لغة في بني يربوع، يزيدون على ياء الاضافة ياء وانشد:

ماض اذا ما هم بالمضي *** قال لها هل لك يامامي

وانشد ذلك الفراء، وقال الزجاج: هذا الشعر لايلتفت اليه، ولاهومما يعرف قائله، قال الرماني: الكسر لايجوز عند اكثر النحويين، واجازه الفراء على ضعف، قال ابوعلي: وجه جوازه من القياس أن الياء ليست تخلو: أن تكون في موضع نصب او جر، فالياء في النصب والجر كالهاء في (هما) وكالكاف في اكرمتك وهذا لك، فكما ان (الهاء) قد لحقتها الزيادة في هداكه وضربه، ولحق الكاف الزيادة في قولهم اعطيتكه او اعطيتكاه فيما حكاه سيبويه، وهما اختا الياء كذلك ألحقوا الياء الزيادة، فقالوا: في، ثم حذفت الياء الزيادة على الياء، كما حذفت الياء من (الهاء) في قول من قال: له أرقان.

قال ابوالحسن هي لغة، فكما حذفث الزيادة من الكاف، فقال في (اعطيتكيه، اعطيتكه) كذلك حذفت الياء اللاحقة الياء، كما حذفت من اختيها، وأقرت لكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ماكانت عليه من الكسرة، وكما لحقت الكاف والهاء الزيادة، كذلك لحقت الياء الزيادة، فلحاق الياء الزيادة نحوما أنشد من قول الشاعر: رميتيه فأصميت وماأخطأت الرمية فاذا كانت هذه الكسرة في الياء على هذه اللغة.

وإن كان غيرها أفشى منها. وعضده من القياس ماذكرنا لم يجز لقائل ان يقول: إن قراء‌ة القراء بذلك لحن يجوز، لاستقامة ذلك سماعا وقياسا.

اخبر الله تعالى في هذه الآية ان الشيطان يوم القيامة يقول لاوليائه الذين اتبعوه:

[290]

" ان الله وعدكم وعد الحق " من الثواب والعقاب " ووعدتكم " انا بالخلاص من العقاب بارتكاب المعاصي، وقد خالفت وعدي " وماكان لي عليكم من سلطان " اي لم يكن لي عليكم حجة، ولابرهان اكثر من ان دعوتكم إلى الضلال وأغويتكم، فأجبتموني واتبعتموني " فلا تلوموني " في ذلك " ولوموا انفسكم " بارتكاب المعاصي وخلافكم الله وترككم ماامركم به " ماانا بمصرخكم وماانتم بمصرخي " يقال: استصرخني فأصرخته، اي استغاثني فأغثته، فالاصراخ الاغاثة.

والمعنى ماانا بمغيثكم وماانتم بمغيثي " إني كفرت بما اشركتموني من قبل " حكاية عن قول الشيطان لاوليائه انه يقول لهم " اني كفرت " بشرككم بالله ومتابعتكم لي قبل هذا اليوم.

ثم اخبر تعالى " إن الظالمين " الكافرين " لهم عذاب اليم " مؤلم شديد الالم، ويصح ان يلوم الانسان نفسه على الاساء‌ة، كما يصح حمدها على الاحسان قال الشاعر:

صحبتك إذ عيني عليها غشارة *** فلما انجلت قطعت نفسي ألومها(1)

قال الجبائي: وفي الآية دلالة على ان الشيطان لايقدر على الاضرار بالانسان اكثر من إغوائه ودعائه إلى المعاصي، فأما بغير ذلك فلايقدر عليه، لانه اخبر بذلك، ويجب ان يكون صادقا، لان الآخرة لايقع فيها من احد قبيح لكونهم ملجئين إلى تركه.

___________________________________

(1) قائله الحارث بن خالد المخزومي.

اللسان (غشا)

[291]

قوله تعالى: (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام(23) ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء(24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون(25))

ثلاث آيات في الكوفي والبصري تمام الثانية " في السماء " وآيتان في الباقي.

اخبر الله تعالى في هذه الآية ان الذين يؤمنون به، ويصدقون بوحدانيته، ويعترفون بنبوة انبيائه ويعملون بما دعاهم اليه من الطاعات والاعمال الصالحات يدخلهم الله يوم القيامة جنات من صفتها انها تجري من تحتها الانهار، لان الجنة البستان الذي يجنه الشجر، فالانهار تجري من تحت الاشجار، وقيل انهار الجنة في اخاديد في الارض " خالدين فيها " اي مؤبدين فيها دائمين " ونصبه على الحال من حيث انها تدوم لهم " بإذن ربهم " اي بأمر ربهم واطلاقه، يخلدون فيها ويكون تحية بعضهم لبعض في الجنة " سلام ". والتحية التلقي بالكرامة في المخاطبة، كقولك احياك الله حياة طيبة، سلام عليك، وماأشبه ذلك تبشيرا لهم بدوام السلامة.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ألم تعلم كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء " انما ضرب المثل بالكلمة الطيبة للدعاء اليها في كل باب يحتاج إلى العمل عليه، وفي كل باب من ابواب العلم.

ومعنى " فرعها في السماء " مبالغة له في الرفعة، فالاصل سافل، والفرع عال، إلا أنه من الاصل يوصل إلى الفرع. والاصل في باب العلم مشبه بأصل الشجرة التي تؤدي إلى الثمرة التي هي فرع ذلك الاصل، ويشبه بأصل الدرجة التي يترقى منها إلى اعلى مرتبة.

وروي انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الشجرة الطيبة هي النخلة.

وقال ابن عباس: هي شجرة في الجنة.

وقوله " توتي أكلها " اي تخرج هذه الشجرة الطيبة - وهي النخلة - مايؤكل منها في كل حين.

وقال ابن عباس - في رواية - يعني ستة اشهر إلى صرام النخل، وهو المروي عن ابي جعفر وابى عبدالله (ع)، وبه قال سعيدبن جبير، والحسن.

وقال مجاهد وابن زيد: كل سنة.

وقال سعيد بن المسيب: الحين شهران.

[292]

وفي رواية اخرى عن ابن عباس: غدوة وعشية، وقال قوم: من اكل النخلة: الطلع والرطب والبسر والتمر، فهو دائم لا ينقطع على هذه الصفة، وأهل اللغة يذهبون إلى ان الحين هوالوقت، قال النابغة:

يبادرها الراقون من سوء سمها *** تطلقه حينا وحينا تراجع(1)

كذا رواه الاصمعي و (مثلا) منصوب ب‍ (ضرب) والتقدير ضرب الله كلمة طيبة مثلا " بإذن ربها " اي يخرج هذا الاكل في كل حين بأمر الله وخلقه اياه " ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون " اخبار منه تعالى انه يضرب المثل للكلمة.

الطيبة بالشجرة الطيبة في البادية والعاقبة، لكي يتذكروا ويتفكروا فيه ويعتبروا به، فيؤديهم ذلك إلى دخول الجنة وحصول الثواب.

وفائدة الآية ان الله ضرب للايمان مثلا وللكفر مثلا، فجعل مثل المؤمن الشجرة الطيبة التي لاينقطع نفعها وثمرها، وهي النخلة ينتفع بها في كل وقت، لاينقطع نفعها البتة، لانه ينتفع بطلعها، وبسرها، ورطبها، وتمرها، وسعفها، وليفها، وخوصها، وجذعها.

ومثل الكافر بالشجرة الخبيثة وهي الحنظلة.

وقيل الاكشوث لاإنتفاع به، ولاقرار له ولا أصل، فكذلك الكفر لانفع فيه ولاثبات.

قوله تعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار(26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله مايشاء(27))

آيتان بلاخلاف.

لماضرب الله المثل للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التي ذكرها وأكلها، ضرب.

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 80 وروايته:

تناذرها الراقون من سوء سمها *** تطلقه طورا وطورا تراجع

[293]

المثل للكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة التي تجتث اي تقلع، يقال: اجتثه اجتثاثا وجثه جثا، ومنه الجثة، والاجتثاث الاستئصال للشئ واقتلاعه من أصله، وقال انس بن مالك ومجاهد: الشجرة المثل بها هي شجرة الحنظل، قال أنس: وهى السرمان.

وقال ابن عباس: هي شجرة لم تخلق بعد.

والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالاول، والتشبيه في الامثال، لما يحتاج اليه من البيان وهو على وجهين: احدهما - مايظهر فيه اداة التشبيه. والآخر - مالايظهر فيه.

الكلمة الواحدة من الكلام، ولذلك يقال للقصيدة كلمة، لانها قصيدة واحدة من الكلام.

والكلمة إنما تكون خبيثة اذا خبث معناها.

وهي كلمة الكفر، والطيبة كلمة الايمان، والخبث فساد يؤدي إلى فساد.

وقوله " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا " يعنى كلمة الايمان " وفي الاخرة " قال ابن عباس والبراء بن عازب: هي المسألة في القبر اذا أتاة الملك، فقال له من ربك ومادينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الاسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال قوم: معنى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا " يعني الايمان يثبتهم الله بثوابه في الجنة ويمدحهم فيها.

وقوله " ويضل الله الظالمين " يحتمل امرين: احدهما - يحكم بضلال الظالمين. الثاني - يضلهم عن طريق الجنة إلى طريق النار " ويفعل الله مايشاء " من ذلك لا اعتراض عليه في ذلك ولافي غيره ممايريد فعله.

قوله تعالى: (ألم تر إلي الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار(28) جهنم يصلونها وبئس القرار(29) وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار(30))

ثلاث آيات بلاخلاف.

[294]

قيل في من منزل فيه قوله " الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قولان: احدهما - قال امير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وابن عباس، وسعيد ابن جبير، ومجاهد، والضحاك: انهم كفار قريش، فقال (ع): (أمابنو المغيرة فأبادهم الله يوم بدر، وأمابنو أمية فقد أمهلوا إلى يوم ما) وقال قتادة: هم القادة من كفار قريش.

وروي عن عمر أنه قال: هما الافجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية. فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين، واما بنو المغيرة فقتلوهم يوم بدر أنعم الله تعالى عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكفروا به ودعوا قومهم إلى الكفر به، فقال الله تعالى لنبيه: أما تنظر إلى هؤلاء الذين كفروا بنعم الله وبدلوا مكان الشكر عليها كفرا " وأحلوا قومهم دار البوار " أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بدعائهم إياهم إلى الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإغوائهم إياهم وصدهم عن الايمان به.

والتبديل جعل الشئ مكان غيره، فهؤلاء القوم لما جعلوا الكفر بالنعمة مكان شكرها، كانوا قد بدلوا أقبح تبديل.

والاحلال وضع الشئ في محل، اما مجاوره إن كان من قبيل الاجسام، او مداخله إن كان من قبيل الاعراض.

والبوار الهلاك، بار الشئ يبور بورا إذا هلك وبطل.

قال ابن الزبعري.

يا رسول المليك ان لساني *** راتق مافتقت إذ أنابور 1)

وقوله " جهنم يصلونها " في موضع نصب بدلا من قوله " دار البوار " لانه تفسير لهذه الدار " يصلونها " اي يصلون فيها ويشتوون فيها. ثم أخبر انها بئس القرار اي بئس المستقر والمأوى.

ثم قال: ان هؤلاء الذين بدلوا نعمة الله كفرا واحلوا قومهم دار البوار " جعلوا لله اندادا " زيادة على كفرهم وحجدهم نعم الله. والانداد جمع ند.

وهم الامثال المناؤون، قال الشاعر:

___________________________________

(1) قائله عبدالله بن الزبعري السهمي. تفسير الطبري 13: 130، ومجاز القرآن 1: 340 واللسان (بور)، وروايته (يارسول الاله)

[295]

نهدى رؤس المترفين الانداد *** إلى امير المؤمنين الممتاد(1)

" ليضلوا عن سبيله " اي لتكون عاقبة أمرهم إلى الضلال الذي هو الهلاك، واللام لام العاقبة، وليست بلام الغرض، لانهم ماعبدوا الاوثان من دون الله، وغرضهم ان يهلكوا، بل لماكان لاجل عبادتهم لها استحقوا الهلاك والعذاب عبر عن ذلك بهذه اللام، كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وخزنا "(2) وإنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، ولكن لماكان عاقبة ذلك انه كان عدوهم فعبر عنه بهذه اللام.

وقرأ بضم الياء وكسر الضاد، والمعنى انهم فعلوا ذلك ليضلوا غيرهم عن سبيل الحق الذي هو الطريق إلى ثواب الله والنعيم في جنته، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء الكفار الذين وصفناهم " تمتعوا " وانتفعوا بما تهوون من عاجل هذه الدنيا، فصورته صورة الامر والمراد به التهديد بدلالة قوله " فإن مصيركم إلى النار " والمعنى مرجعكم ومآلكم إلى النار والكون فيها عما قليل.

قوله تعالى: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلوة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال(31))

آية بلاخلاف.

أمر الله تعالى نبيه ان يقول لعباده المؤمنين المعترفين بتوحيد الله وعدله يداومون على فعل الصلاة ويقيمونها بشرائطها وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية أي ظاهرا وباطنا، وموضع " يقيموا " جزم من ثلاثة اوجه:

___________________________________

(1) قائله العجاج ديوانه 40 ومجاز القرآن 1: 300 وتفسير الطبري 12: 79 ومجمع البيان 3: 200 وقد مر في 4: 63، 6: 82.

(2) سورة القصص آية 8.

[296]

أحدها - انه جواب الامر وهو " قل ".

 الثاني - هو جواب أمر محذوف، وتقديره قل لهم أقيموا يقيموا.

الثالث - بحذف لام الامر لان في " قل " دلالة عليه، والمعنى ليقيموا، وعلى هذا يجوز ان تقول: قل له يضرب، ولايجوز يضرب زيدا، لانه عوض من المحذوف ذكره الزجاج.

" من قبل أن يأتي يوم لابيع فيه ولاخلال " المعنى بادروا بافعال الخير من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وأفعال الخير " قبل ان " يأتيكم يوم القيامة الذي لابيع فيه ولاشراء، والمراد - ههنا - ولافداء تفدون بها نفوسكم من عذاب الله " ولاخلال " اي ولا مخالة، تقول: خاللت فلانا مخالة وخلالا، قال امرؤ القيس:

صرفت الهوى عنهن من خيفة الردى *** ولست بمقلي الخلال ولاقالي(1)

والمخالة اصفاء المودة، وقد يكون الخلال جمع خلة مثل قلة، وقلال. وظلة وظلال.

قوله تعالى: (الله الذي خلق السموات والارض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار(32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار(33) وآتكم من كل ماسألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار(34))

ثلاث آيات في الكوفي والمدنيين وآيتان فيما عداها، آخر الاولى " الانهار ".

أخبر الله تعالى انه (عزوجل) اخترع السموات والارض وانشأهما بلامعين.

___________________________________

(1) ديوانه: 113 وتفسير الطبري 13: 133

[297]

ولامشير " وأنزل من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا فأخرج بذلك الماء الثمرات رزقا لعباده، وسخر لهم المراكب في البحر لتجري بأمر الله، لانها تسير بالرياح والله تعالى المنشئ للرياح " وسخر لكم الانهار " التي تجري بالمياه التي ينزلها من السماء، ويجريها في الاودية، وينصب منها في الانهار " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " معناه ذلل لكم الشمس والقمر ومهدهما لمنافعكم، وتدبير الله لما سخره للعباد ظاهر لكل عاقل متأمل لايمكنه الانصراف عنه إلاعلى وجه المعاندة والمكابرة، ولدؤوب مرور الشئ في العمل على عادة جارية فيه دأب يدأب دأبا ودؤوبا فهو دائب، والمعنى دائبين، لايفتران، في صلاح الخلق والنبات، ومنافعهم " وسخر لكم الليل والنهار " أي ذللهما لكم، ومهدهما لمنافعكم، لتسكنوا في الليل، وتبتغوا في النهار من فضله " وأتاكم من كل ما سألتموه " معناه ان الانسان قد يسأل الله العافية فيعطي، ويسأله النجاة فيعطي، ويسأله الغنى فيعطي، ويسأله الملك فيعطي، ويسأله الولد فيعطي، ويسأله العز وتيسير الامور وشرح الصدر فيعطي، فهذا في الجملة حاصل في الدعاء لله تعالى مالم يكن فيه مفسدة في الدين عليه وعلى غيره، فأين يذهب به مع هذه النعم التي لاتحصى كثرة، عن الله الذي هو في كل حال يحتاج اليه، وهو مظاهر بالنعم عليه.

ودخلت (من) للتبعيض، لانه لو كان وآتاكم كل ماسألتموه لاقتضى ان جميع مايسأله العبد يعطيه الله، والامر بخلافه، لان (من) تنبئ عنه.

وقال قوم: ليس من شئ الا وقد سأله بعض الناس، والتقدير كل ما سألتموه قد أتى بعضكم.

وقوله " وان تعدوا نعمة الله لاتحصوها " معناه وان تروموا عدها بقصدكم اليه لاتحصونها لكثرتها، ويروى عن طلق بن حبيب، أنه قال: ان حق الله اثقل من ان تقوم به العباد، وان نعم الله اكثر من ان تحصيها العباد، ولكن، اصبحوا تائبين، وامسوا تائبين.

وقوله " ان الانسان لظلوم كفار " اخبار منه تعالى أن الانسان يعني من تقدم.

وصفه بالكفر كثير الظلم لنفسه ولغيره، وكفور لنعم الله غير مؤد لشكرها.

[298]

وقرئ " من كل ماسألتموه " بالتنوين، قال الفراء: كأنهم ذهبوا إلى أنالم نسأله تعالى شمسا ولاقمرا ولاكثيرا من نعمه فكأنه قال: وآتاكم من كل مالم سألتموه، والاول أعجب الي، لان المعنى آتاكم من كل ماسألتموه لو سألتموه، كأنه قال وآتاكم من كل سؤلكم، كماتقول: والله لاعطينك سؤلك مابلغته مسألتك وان لم تسأل.

قال المبرد: يريد مايخطر ببالك، ومن أضاف جعل (ما) في موضع نصب، وهي بمعني الذي. ومن نون جعلها نافية.

قوله تعالى: (وإذ قال إبرهيم رب اجعل هذا البلد امنا واجنبني وبني أن نعبد الاصنام(35) رب إنهن اضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم(36))

آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم اذكر " اذ قال ابراهيم " يا " رب اجعل هذا البلد " يعني مكة وماحولها من الحرم " آمنا " يعني يأمن الناس فيه على نفوسهم واموالهم.

(والامن) سكون النفس إلى زوال الضرر، وهو نقيض الخوف، ومثله الطمأنينة إلى الامر.

وقوله " واجنبني " اي اصرفني عنه، جنبته اوجنبه، جنبا وجنبته الشر تجنيبا، واجنبته اجتنابا، قال الشاعر:

وتنقض عهده شفقا عليه *** وتجنبه قلا يصنا الصعابا(1)

" واجنبني " اي واصرفني " وبني ان نعبد الاصنام " اي جنبنا عبادة الاصنام بلطف من الطافك الذي نختار عنده الامتناع من عبادتها. ودعاء الانبياء

___________________________________

(1) تفسير الطبري 13: 113 ومجاز القرآن 1: 342

[299]

لايكون الا مستجابا، فعلى هذا يكون سؤاله ان يجنب نبيه عبادة الاصنام مخصوصا بمن علم الله من حاله ان يكون مؤمنا، لايعبد الا الله، ويكون الله تعالى اذن له في الدعاء لهم، فيجيب الله تعالى ذلك لهم.

وقوله " رب انهن اضللن كثيرا من الناس " اخبار من ابراهيم ان هذه الاصنام ضل كثير من الناس بها حتى عبدوها فكأنها اضلتهم، كمايقول القائل: فتنتني فلانة اي فتنت بها، قال الشاعر: هبوني أمرء‌ا منكم أضل بغيره يعني ضل بعيره عنه، لان احدا لايضل بغيره قاصدا إلى اضلاله.

وقوله " فمن تبعني " حكاية ماقال ابراهيم من ان من يتبعه في عبادة الله وحده وترك عبادة الاصنام، فانه منه وعلى دينه.

" ومن عصاني " في ذلك وعبد مع الله غيره، وعصاه في اوامره " فانك " ياالله " غفور رحيم " اي ستار على عبادك معاصيهم رحيم بهم اي منعم عليهم في جميع الاحوال.

وقيل المعنى " انك غفور رحيم " بهم ان تابوا واقلعوا عما هم عليه من الكفر.

قوله تعالى: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون(37) ربنا إنك تعلم مانخفي ومانعلن ومايخفى على الله من شئ في الارض ولا في السماء(38))

آيتان بلاخلاف.

هذا حكاية مادعا به ابراهيم (ع)، فإنه قال يارب " اني اسكنت من ذريتي " اي جعلت مأواهم ومقرهم الذي يقرون فيه ويسكنون اليه.

[300]

والسكنى اتخاذ مأوى لصاحبه يسكن اليه في ليله، ومتى يشاء من اوقاته، اسكن البلدة والدار اذا جعله مأوى له، (والذرية) جماعة الولد على تنسئته من حين يظهر إلى ان يكبر، والمراد بالذرية ههنا: اسماعيل وامه هاجر حين اسكنه وادي مكة، وهو الابطح، ولم يذكر مفعول اسكنت، لان (من) تفيد بعض القوم، كما يقال: قتلنا من بني فلان، اكلنا من الطعام، وشربنا من الماء، قال تعالى " افيضوا علينا من الماء او مما رزقكم الله "(1) فموضع (من) نصب والوادي سفح الجبل العظيم ومن ذلك قيل للانهار العظام اودية، لان حافاتها كالجبال لها، ومنه الدية، لانها مال عظيم يتحمل في امر عظيم من قتل النفس المحرمة.

" غير ذي ذرع " أي لازرع في هذا الوادي أي لانبات فيه، والزرع كل نبات ينغرس من غير ساق، وجمعه زروع " عند بيتك المحرم " معناه حرم فيه ماأحل في غيره من البيوت، من الجماع، والملابسة بشئ من الدم، والنجاسة، وانما أضاف البيت إلى الله، لانه مالكه من غير ان يملكه احد سواه، لان ما عداه قد ملك غيره من العباد.

وسماه بيتا قبل ان يبنيه ابراهيم لامرين: احدهما - انه لماكان المعلوم انه يبنيه فسماه مايكون بيتا. والثاني - قيل أنه كان البيت قبل ذلك، وانما خربته طسم واندوس.

وقيل انه رفع عند الطوفان إلى السماء.

وقوله " ربنا ليقيموا الصلاة " اي اسكنتهم هذا الوادي ليدوموا على الصلاة ويقيموها بشرائطها.

" فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم " سؤال من ابراهيم (ع) ان يجعل الله تعالى قلوب الخلق تحن إلى ذلك الموضع، ليكون في ذلك انس ذريته بمن يرد من الوفود ويدر ارزاقهم على مرور الاوقات.

" وارزقهم من الثمرات " مسألة منه ان يرزق ذريته من انواع الثمار لكي يشكروه على نعمه وفنون احسانه.

___________________________________

(1) سورة الاعراف - 7 - آية 50.

[301]

" ربنا انك تعلم ما نخفي ومانعلن " اعتراف من ابراهيم لله تعالى بانه " عزوجل " يعلم مايخفي الخلق وما يظهرونه، وانه لايخفى عليه شئ من ذلك ممايكون في الارض، وممايكون في السماء مع عظمها وبعد مابينهما، لانه عالم لنفسه بجميع المعلومات.

وقال قوم: ان قوله " ومايخفى على الله من شئ في الارض ولافي السماء " اخبار منه تعالى بذلك دون الحكاية.

قوله تعالى: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسمعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء(39) رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء(40) ربنا اغفرلي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب(41))

ثلاث آيات بلاخلاف.

هذا حكاية من الله تعالى باعتراف ابراهيم (ع) بنعم الله تعالى، وحمده إياه على إحسانه بماوهب له على كبر سنه ولدين: اسماعيل واسحق. وانه اخبر بأن ربه الذي خلقه يجيب الدعاء لمن يدعوه وذلك يدل على انه كان تقدم منه مسألة لله تعالى أن يهب له ولدا، فلذلك كان مجيبا له.

والحمد هو الوصف الجميل على وجه التعظيم لصاحبه والاجلال له وفرق الرماني بين الحمد والمدح بان المدح: هو الوصف للشئ بالخير من جهته على وجه التعظيم له، فعله او لم يفعله، ولكن كان سببا يؤدي اليه، وليس كذلك الحمد.

والذم: نقيض لهما، لانه الوصف بالقبيح على جهة التحقير. والهبة عطية التمليك من غير عقد مثامنة يقال: وهب له كذا يهبه هبة، فهو واهب. والدعاء طلب الفعل بدلالة القول ومادعا الله (عزوجل) اليه فقد أمر به ورغب فيه، ومادعا العبد به ربه فالعبد راغب فيه، ولذلك لا يجوز ان يدعو الانسان بلعنه ولاعقابه، ويحوز ان يدعو على غيره به. والتقبل أخذ العمل على طريقة ايجاب الحق به مقابلة عليه.

وقال سعيدبن جبير: بشر ابراهيم بالولد بعد مئة وسبعة عشرة سنة.

[302]

وقوله " رب اجعلني مقيم الصلاة " سؤال من ابراهيم (ع) لله تعالى ان يجعله ممن يقيم شرائط الصلاة ويدوم عليها بلطف يفعله به يختار ذلك عنده، وسأله ان يفعل مثل ذلك بذريته، وأن يجعل منهم جماعة يقيمون الصلاة، وهم الذين اعلمه الله ان يقوموا بها دون الكفار الذين لايقيمون الصلاة " ربنا وتقبل دعاء " رغبة منه اليه تعالى ان يجيب دعاء‌ه فيما سأله وقوله " ربنا اغفرلي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " نداء من ابراهيم لله تعالى ان يغفر له ولوالديه ولجميع المؤمنين، وهو ان يستر عليهم ماوقع منهم من المعاصي عند من أجاز الصغائر عليهم، ومن لم يجز ذلك حمل ذلك على أنه انقطاع منه اليه تعالى فيما يتعلق به، وسؤال على الحقيقة في غيره.

وقد بينا ان أبوي ابراهيم لم يكونا كافرين(1) وفي الآية دلالة على ذلك، لانه سأل المغفرة لهما يوم القيامة، فلوكانا كافرين لما قال ذلك، لانه قال تعالى " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "(2) فدل ذلك على ان أباه الذي كان كافرا جده لامه او عمه على الخلاف.

قال البلخي: ان أمه كانت مؤمنة، لانه سأل ان يغفر لابيه وحكى أنه " كان من الضالين "(3) وقال " إلا قول ابراهيم لابيه لاستغفرن لك "(4) ولم يقل لابويه " ويوم يقوم الحساب " أي يقوم فيه الحساب.

والعامل في يوم قوله (اغفر).

قوله تعالى: (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار(42) مهطعين مقنعي رؤسهم لايرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء(43))

آيتان بلاخلاف.

___________________________________

(1) انظر 4: 189 من هذا الكتاب.

(2) سورة التوبة آية 115.

(3) سورة الشعراء آية 86.

(4) سورة الممتحنة آية 4

[303]

قرأ الجماعة " انما يؤخرهم " بالياء.

وروي عن أبي عمرو بالنون قال أبوعلي: وجه القراء‌ة بالياء ان الغيبة للمفرد قدتقدم، فتكون بالياء على " فلاتحسبن الله مخلف وعده.. إنما يؤخرهم " ووجه القراء‌ة بالنون أنه مثل الياء في المعنى، وقد تقدم مثله كثيرا.

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم نهاه الله تعالى، والمراد به، الامة ان يظن ان الله غافل عن أعمال الظالمين، ومهمل لامورهم. والغفلة والسهو واحد.

ثم بين الله تعالى أنه إنمالم يعاجلهم بالعقوبة ويؤخر عقابهم ليعذبهم في اليوم الذي تشخص فيه الابصار، وهو يوم القيامة.

وشخوص البصر ان تبقى العين مفتوحة لاتنطبق لعظم ذلك اليوم " مهطعين " قال سعيدبن جبير والحسن وقتادة: مسرعين، يقال: أهطع اهطاعا اذا أسرع قال الشاعر:

بمهطع سرح كان زمامه *** في رأس جذع من أراك مشذب(1)

وقال الآخر:

بمستهطع رسل كان جديله *** بقيدوم رعن من صوام ممنع(2)

وقال ابن عباس: المهطع الدائم النظر لاتطرف عينه، وقال ابن دريد: المهطع: المطرق الذي لايرفع رأسه..

وقوله " مقنعي رؤسهم " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد: معناه رافعي رؤسهم واقناع الرأس رفعه، قال الشماخ:

يباكرن العضاه بمقنعات *** نواجذهن كالحدإ الرقيع(3)

يعنى يباكرن العضاة بمقنعات اي برؤس مرفوعات اليها ليتناول منها، يصف

___________________________________

(1) مجاز القران 1: 342 وتفسير الطبري 13: 141.

(2) اللسان، والتاج (قدم) والاساس (هطع) ومجاز القران 1: 343 وتفسير الطبري 13: 142.

(3) ديوانه 56 ومجاز القرآن 1: 343 والطبري 13: 142 واللسان والتاج (حدأ) ومجمع البيان 3: 32.

[304]

ابلاله له ترعي الشجر، وأن أسنانها مرتفعة كالفؤس، وقال الراجز:

انقض نحوي رأسه واقنعا *** كأنما أبصر شيئا اطمعا(1)

وقوله " لايرتد اليهم طرفهم " اي لا ترجع اليهم اعينهم ولا يطبقونها.

وقوله " وأفئدتهم هواء " معناه منخرقة لاتعي شيئا للخوف والفزع الذي دخلها، فهي كهواء الجو، في الانخراق وبطلان الامساك.

وقوله " يوم يأتيهم " نصب على انه مفعول به والعامل فيه انذرهم، كأنه قال خوفهم عقاب الله، ولايكون على الظرف، لانه لم يؤمر بالانذار في ذلك اليوم.

وقيل في قوله " وافئدتهم هواء " ثلاثة اقوال.

اولها - قال ابن عباس ومرة والحسن: منخرقة لاتعي شيئأ، وفارغة من كل شئ إلا من ذكر إجابة الداعي.

الثاني - قال سعيدبن جبير: يردد في أجوافهم لايستقر في مكان.

الثالث - قال قتادة: خرجت إلى الحناجر لاتنفصل، ولاتعود، وكل ذلك تشبيه بهواء الجو، والاول أعرف في كلام العرب.

وقال حسان بن ثابت:

ألا أبلغ أبا سفيان عنى *** فانت مجوف نخب هواء(2)

وقال زهير:،

كأن الرحل منها فوق صعل *** من الظلمان جؤجؤه هواء(3)

وقيل ان الظليم لافؤاد له وقال آخر:

ولانك من اخدان كل يراعة *** هواء كسقب البان خوفا يكاسره(4)

___________________________________

(1) تفسير الشوكاني 3: 110 وتفسير الطبري 13: 142 ومجاز القرآن 1: 344.

(2) ديوانه 8، واللسان والتاج (هوء، جوف) والطبري 13: 144 ومجمع البيان 3: 320 وقد مر في 1: 41 من هذا الكتاب.

(3) ديوانه (دار بيروت) 9، ومجمع البيان 3: 320.

(4) هذا البيت منسوب إلى صخر الغي. ونسب ايضا إلى كعب.

التاج (هوا) والطبري 13: 144 ومجاز القران 1: 344

[305]

قوله تعالى: (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال(44))

آية بلاخلاف.

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ان يقول للناس على وجه التخويف لهم من عقابه، ويحذرهم يوم يجيئهم العذاب من الله على معاصيهم في دار الدنيا، وهو يوم القيامة، ويقول " الذين ظلموا " نفوسهم بارتكاب المعاصي وترك الواجبات يا " ربنا أخرنا إلى أجل قريب " أي ردنا إلى الدنيا واجعل ذلك مدة قريبة نجب دعوتك فيها ونتبع رسلك فيما يدعوننا اليه، فيقول الله تعالى " أولم تكونوا أقسمتم " وحلفتم في دار الدنيا " مالكم من زوال ".

قال مجاهد: معناه إنهم اقسموا في الدنيا أنه ليس لهم انتقال من الدنيا إلى الآخرة.

وقال الحسن: معناه " من زوال " إلى العذاب. والاجل الوقت المضروب لانقضاء الامد، والامد مدة من المدد، فانما طلبوا أجلا يستدركون فيه مافات من الفساد بالصلاح، وفي المعلوم أنهم يبعدون من الفلاح.

وفي الآية دلالة على ان أهل الآخرة غير مكلفين بخلاف مايقول النجار وجماعة من المجبرة، لانهم لوكانوا مكلفين لماكان لقوله " آخرنا إلى اجل قريب " معنى، لانهم مكلفون، وكانوا يؤمنون ويتخلصون من العقاب.

وقوله " فيقول " رفع عطفا على قوله " يوم يأتيهم العذاب " وليس بجواب الامر لانه لوكان جوابا له لجاز فيه النصب والرفع، فالنصب مثل قول الشاعر:

[306]

ياناق سيري عنقا فسيحا *** إلى سليمان فنستريحا(1)

والرفع على الاستئناف وذكر الفراء ان العلاء بن سبابة كان لاينصب في جواب الامر بالفاء قال: والعلاء هو الذي علم معاذا ولهوا وأصحابه.

قوله تعالى: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال(45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال(46))

آيتان بلاخلاف.

قرأ الكسائي وحده " لتزول " بفتح اللام الاولى، وضم الثانية. وروي ذلك عن علي (ع). الباقون بكسر اللام الاولى وفتح الثانية.

قال أبوعلي: من كسر اللام الاولى وفتح الثانية جعل (إن) بمعنى (ما) والتقدير وماكان مكرهم لتزول، ومثل ذلك قوله " إن الكافرون إلا في غرور(2) ".

ومعناه ما الكافرون، ومعنى الآية " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم " اي جزاء مكرهم، فحذف المضاف كماحذف من قوله " ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا، وهو واقع بهم(3) " اي جزاؤه، والمعنى قدعرف الله مكرهم، فهو يجازيهم عليه وماكان مكرهم لتزول منه الجبال.

و (الجبال) كأنه اراد بها القرآن وأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه ودلالاته أي ماكان ليزول منه ماهو مثل الجبال في امتناعه ممن أراد إزالته.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 13: 144 ومجمع البيان 3: 320 واكثر كتب النحو يشتهدون به على اضمار (أن) بعد الفاء المسوقة بطلب.

(2) سورة الملك (تبارك) 67 آية 20.

(3) سورة الشورى 42 آية 22

[307]

ومن قرأ بفتح اللام الاولى وضم الثانية جعل (ان) هي المخففة من الثقيلة على تعظيم أمر مكرهم، وهو في تعظيم مكرهم، كماقال في موضع آخر " ومكروا مكرا كبارا(1) " أي قدكان مكرهم من الكبر والعظم بحيث يكاد يزيل ماهو مثل الجبال في الامتناع، على من أراد إزالته ومثله في تعظيم الامر قول الشاعر:

ألم تر صدعا في السماء مبينا *** على ابن لبينى الحارث بن هشام(2)

وقال آخر:

بكى حارث الجولان من موت ربه *** وحوران منه خاشع متضائل(3)

وقال أوس:

ألم تكسف الشمس شمس النهار *** مع النجم والقمر الواجب(4)

فهذا كله على تعظيم الامر وتفخيمه ويدل على ان الجبال يعني بها أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوله بعد ذلك " فلاتحسبن الله مخلف وعده رسله " اي بعد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم في قوله " ليظهره على الدين كله "(5) وفي قوله " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون "(6) وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا في تعظيم الشئ وتفخيمه قال ابن مقبل:

اذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى *** لها شاعرا مثلي اطب واشعرا

واكثر بيتا شاعرا ضربت به *** بطون جبال الشعر حتى تيسرا(6)

___________________________________

(1) سورة نوح 71 آية 22.

(2) مجمع البيان 3: 322.

(3) قائله النابغة الذبياني. ديوانه (دار بيروت) 91 واللسان (حرث) وروايته الديوان (موحش) بدل (خاشع) وروايتهما معا (فقد) بدل (موت).

(4) ديوانه (دار بيروت) 10 وروايته:

ألم تكسف الشمس والبدر وال‍ *** كواكب للجبل الواجب

(5) سورة التوبة آية 34 وسورة الفتح آية 28 وسورة الصف اية 9.

(6) سورة آل عمران آية 12.

(7) مجمع البيان 3: 322

[308]

يقول الله تعالى للكفار " اولم تكونوا اقسمتم من قبل مالكم زوال " مما انتم عليه من النعيم وأنتم " سكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم " بارتكاب المعاصي وكفران نعم الله، فأهلكهم الله " وضربنا لكم الامثال " والمعنى ان مثلكم كمثلهم في الاهلاك اذااقمتم على ما اقاموا عليه، من الفساد والتتابع في المعاصي " ومكروا مكرهم " يعني الكفار الذين ظلموا انفسهم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتالوا له، ومكروا بالمؤمنين وخدعوهم " وعندالله " جزاء مكرهم، ولم يكن مكرهم ليبطل حجج القرآن ومامعك من دلائل النبوة، فلايبطل شئ منه، لانه ثابت بالدليل والبرهان.

وعلى القراء‌ة الاولى ولو كان مكرهم يزيل الجبال من عظمه وشدته، لما أزال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لانه أثبت من الجبال.

وروي عن علي (ع) وجماعة انهم قرؤوا " وان كاد مكرهم " من المقاربة.

قال سعيدبن جبير وغيره: ان قوله " ومكروا مكرهم " نزلت في صاحب النسرين الذي أراد صعود السماء.

وقال قوم: مكرهم كفرهم بالله وشركهم في عبادته.

قوله تعالى: (فلاتحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام(47) يوم تبدل الارض غير الارض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار(48))

آيتان بلاخلاف.

قرئ في الشواذ " مخلف وعده رسله " وهي شاذة رديئة، لانه لايجوز ان يفصل بين المضاف والمضاف إليه، وانشد الفراء: فزججتها بمزجة زج القلوص ابي مزاده(1)

___________________________________

(1) انظر 4: 309 من هذا الكتاب.

[309]

والمعنى زج ابي مزادة القلوص، والصحيح ماعليه القراء، وتقديره مخلف وعده رسله، كماتقول هذا معطي زيد درهما، والمعنى مخلف رسله وعده يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " لاتحسبن الله " اي لاتظنه مخلف ماوعدك به من الظفر بهم والظهور عليهم، فانه لايخلف ماوعد رسله به.

ثم أخبر ان الله تعالى قادر لايغالب ينتقم ممن يكفر بنعمه ويكذب انبيائه. والانتقام هو العقاب.

" يوم تبدل الارض غير الارض " العامل في " يوم " الانتقام، وتقديره ذو انتقام يوم تبدل. والتبديل التغيير برفع الشئ إلى بدل. وقيل ان تبديل الارض بغيرها برفع الصورة التي كانت عليها إلى صورة غيرها.

وقال ابن عباس ومجاهد وأنس بن مالك وابن مسعود: يبدل الله هذه الارض بأرض بيضاء كالفضة، لم يعمل عليها خطيئة. والاول قول الحسن.

وقوله " والسموات " تقديره تبدل السموات غير السموات وحذف لدلالة الكلام عليه. وقيل تبديل الارض بتسيير الجبال وتفجير بحارها وكونها مستوية " لاترى فيها عوجا ولاامتا "(1) وتبديل السموات انتشار كواكبها، وانفطارها، وتكوير شمسها وخسوف قمرها.

وقوله " وبرزوا لله الواحد القهار " معناه يظهرون من قبورهم. والبروز الظهور وبرز يبرز بروزا، فهو بارز، وبارز قرنه مبارزة " لله الواحد القهار " والمعنى الواحد لاشبه له ولانظير. والقهار المالك الذي لايضام.

قوله تعالى: (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الاصفاد(49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار(50))

آيتان بلاخلاف.

___________________________________

(1) سورة طه آية 107

[310]

يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم انك يامحمدترى الذين اجرموا وفعلوا المعاصي، من الكفر وجحد النعم، يوم القيامة " مقرنين في الاصفاد " اي قرنت أيديهم بالغل إلى اعناقهم.

وقال الجبائي: قرن بعضهم إلى بعض، والصفد الغل الذي يقرن به اليد إلى العنق، ويجوز ان يكون السلسلة التي يقع بها التقرين، وأصل الصفد القيد، وهو الصغاد، وجمعه صفد، قال عمروبن كلثوم:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا *** وابناء الملوك مصفدينا(1)

اي مقيدين، ومنه اصفدته اصفادا، اذا أعطيته مالا، قال الاعشى:

تضيفته يوما فاكرم مجلسي *** واصفدني عند الزمانة قائا(2)

وقال الذبياني:

هذا الثناء فان تسمع لقائله *** فما عرضت أبيت اللعن بالصفد(3)

اي ماتعطيه: وانما قيل لها: صفد، لانها تقيد المودة وترتبطها.

وقال قتادة: الاصفاد القيود والاغلال، والسرابيل القميص - في قول ابن زيد - واحدها سربال، قال امرؤ القيس: لعوب تنسيني اذا قمت سربالي(4) و (القطران) هوالذي تهنأ به الابل - في قول الحسن - وفيه لغات، قطران بفتح القاف وكسر الطاء، وبتسكين الطاء وكسر القاف.

ويجوز فتحها، قال ابوالنجم:

___________________________________

(1) تفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3: 113 ومجمع البيان 3: 223.

(2) ديوانه (دار بيروت) 44 وروايته (ققرب مقعدي) بدل (فأكرم مجلسي). وهو في مجمع البيان 3: 323 ومجاز القرآن 1: 345 وتفسير الطبري 13: 152.

(3) ديوانه (دار بيروت) 37 وروايته:

هذا الثناء فان تسمع به حسنا *** فلم أعرض ابيت اللعن بالصفد

(4) ديوانه (الطبعة الرابعة سنة 1959) 160 وصدره: ومثلك بيضاء العوارض طفلة

[311]

جون كأن العرق المنتوحا *** ألبسه القطران والمسوحا(1)

فكسر القاف وقال ايضا:

كان قطرانا اذا تلاها *** ترمي به الريح إلى مجراها(2)

وإنما جعلت سرابيلهم من قطران، لان النار تسرع اليها، وقرئ " قطرآن " وروي ذلك عن ابن عباس، والقطر النحاس ومنه قوله " اتوني افرغ عليه قطرا "(3) والمعنى من قطر بالغ حره، انتهي.

والقراء على انه اسم واحد على وزن الظربان، والظربان دابة منتنة فساء‌ة، وهي من السباع " وتغشى وجوههم " معناه تجللها.

قوله تعالى: (ليجزي الله كل نفس ماكسبت إن الله سريع الحساب(51) هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنماهو إله واحد وليذكر أولوا الالباب(52))

آيتان بلا خلاف.

أخبر الله تعالى بأنه إنما فعل ماتقدم ذكره " ليجزي الله كل نفس " الذي كسبت إن كسبت خيرا أتاها الله بالنعيم الابدي في الجنة، وإن كفرت وحجدت وكسبت شرا عاقبها بنار جهنم مخلدة فيها " إن الله سريع الحساب " اي سريع المجازاة.

وقيل معنى " سريع الحساب " لايشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة آخرين.

والكسب فعل مايجلب به النفع للنفس او يدفع به الضرر عنها.

والكسب ليس بجنس الفعل، والله تعالى يقدر على مثله في الجنس.

وقوله " هذا بلاغ " قال ابن زيد وغيره من المفسرين: هو إشارة إلى القرآن،

___________________________________

(1، 2) مجمع البيان 3: 323 وتفسير الطبري (الطبعة الاولى) 13: 153.

(3) سورة الكهف اية 97

[312]

ففيه بلاغ للناس، لان فيه البيان عن الانذار والتخويف، وفيه البيان عما يوجب الاخلاص بماذكر من الانعام الذي لايقدر عليه الا الله.

وفي الآية حجة على ثلاث فرق: على المجبرة في الارادة، لانها تدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين ان يعلموا " إنما هو إله واحد " وهم يزعمون أن أراد من النصارى ان يثلثوا، ومن الزنادقة ان يقولوا بالتثنية.

الثاني - حجة عليهم في ان المعصية لم يردها، لانه اذا أراد منهم ان يعلموا أنه إله واحد، لم يرد خلافه من التثليث والتثنية الذي هو الكفر.

الثالث - حجة على اصحاب المعارف، لانه بين أنه أراد من الخلق ان يتذكروا ويفكروا في دلائل القرآن التي تدلهم على أنه إله واحد.

ثم أخبر تعالى انه انما يتذكر " أولو الالباب " اي ذوو العقول، لان من لاعقل له لا يمكنه الذكر والاعتبار.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337000

  • التاريخ : 29/03/2024 - 02:17

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net