00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانبياء 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

 

21 - سورة الانبياء

هي مكية في قول قتادة ومجاهد وهي مائة واثنتا عشرة آية في الكوفي واحدى عشرة في البصري والمدنيين.

الآية: 1 - 25

بسم الله الرحمن الرحيم

(إقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون(1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون(2) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون(3) قال ربي يعلم القول في السماء والارض وهوالسميع العليم(4) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتريه بل هو شاعر فلياتنا بآية كما أرسل الاولون(5))

خمس آيات.

قرأ اهل الكوفة إلا أبا بكر وخلفا " قال ربي " على وجه الخبر.. الباقون

[228]

" قل ربي " على وجه الامر.

هذا اخبار من الله تعالى بأنه " اقترب للناس " يعني دنا وقت " حسابهم " ومعناه دنا وقت اظهار ما للعبد وما عليه ليجازى به وعليه.

والحساب اخراج مقدار العدد بعقد يحصل.

ويقال: هو إخراج الكمية من مبلغ العدة.

وقيل انه دنا لانه بالاضافة إلى ما مضى يسير.

وقيل: نزلت الآية في أهل مكة استبطؤا عذاب الله تكذيبا بالوعيد، فقتلوا يوم بدر، والاقتراب قصرمدة الشئ بالاضافة إلى ما مضى من زمانه.

وحقيقة القرب قلة مابين الشيئين، يقال: قرب ما بينهما تقريبا إذا قلل ما بينهما من مدة او مساقة او اي فاصلة، والقرب قد يكون في الزمان، وفى المكان، وفي الحال.

وقد قيل: كل آت قريب، فلذلك وصف الله تعالى القيامة بالاقتراب، لانها جائية بلاخلاف.

وقوله " وهم في غفلة معرضون " فالغفلة السهو، وهو ذهاب المعنى عن النفس ونقيضها اليقظة، ونقيض السهو الذكر، وهوحضور المعنى للنفس، والنسيان، هو غروب المعنى عن النفس بعد حضوره.

وقوله " معرضون " يعني عن الفكر في ذلك، والعمل بموجبه.

وقيل: هم في غفلة بالاشتغال بالدنيا، معرضون عن الآخرة.

وقيل: هم في غفلة بالضلال، معرضون عن الهدى.

وهو مثل ما قلناه.

وقوله " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " معناه اي شئ من القرآن محدث بتنزيله سورة بعد سورة وآية بعد آية " إلا استمعوه وهم يلعبون " اي كل ما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل - في قول الحسن وقتادة - وفي هذه الآية دلالة على ان القرآن محدث، لانه تعالى اخبر انه ليس يأتيهم ذكر محدث من ربهم إلا استمعوه وهم لاعبون.

والذكر: هو القرآن قال الله تعالى " انا نحن نزلنا الذكر

[229]

وإناله لحافظون "(1) وقال " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس مانزل اليهم "(2) يعني القرآن، ويقويه في هذه الآية قوله " الا استمعوه " والاستماع لايكون إلا في الكلام، وقد وصفه بأنه محدث، فيجب القول بحدوثه ويجوز في (محدث) الجر على انه صفة.

ويجوز الرفع والنصب فالنصب على الحال والرفع على تقدير هو محدث.

ولم يقرأ بهما، وقوله " لاهية قلوبهم " نصب (لاهية) على الحال.

وقال قتادة: معناه غافلة.

وقال غيره: معناه طالبة للهو، هازلة. واللهو الهزل الممتع.

وقوله (واسروا النجوى الذين ظلموا) فموضع (الذين ظلموا) من الاعراب يحتمل أن يكون رفعا على البدل من الضمير في قوله " واسروا " كما قال تعالى " ثم عموا وصموا كثير منهم "(3) ويجوز ان يكون رفعا على الاستئناف، وتقديره وهم الذين ظلموا. ويحتمل وجها ثالثا - أن يكون خفضا بدلا من الناس.

والمعنى ان الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بالله وجحدهم أنبيائه، وأخفوا القول فيما بنيهم.

وقالوا " هل هذا " يعنون رسول الله " إلا بشر مثلكم ".

وقال قوم: معناه انهم أظهروا هذا القول لان الفظة (أسروا مشتركة بين الاخفاء والاظهار، والاول أصح.

وقوله " أفتأتون السحر " معناه أفتقبلون السحر " وأنتم تبصرون " أي وانتم تعلمون انه سحر.

وقيل: معناه أفتعدلون إلى الباطل وأنتم تعلمون الحق وتنكرون ثبوته.

ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله فقال " قل " يا محمد " ربي " الذي خلقني واصطفاني " يعلم القول في السماء والارض " لايخفى عليه شئ من ذلك بل يعلمه جمعيه " وهو السميع العليم " أي هومن يجب أن يسمع المسموعات إذا وجدت عالم بجميع المعلومات

___________________________________

(1) سورة 15 / الحجر آية 9.

(2) سورة 16 النحل آية 44.

(3) سورة المائدة آية 74

[230]

وقوله (بل قالوا أضغاث احلام بل افتراه " فالمعني في (بل) الاضراب بها عما حكى انهم قالوه أولا، والاخبار عما قالوه ثانيا، لانهم اولا قالوا: هذا الذي اتانا به من القرآن (أضغاث احلام) اي تخاليط رؤيا، رآها في المنام - في قول قتادة - قال الشاعر: كضغث حلم عزمته حالمة(1) ثم قالوا: لا (بل افتراه) اي تخرصه وافتعله.

ثم قالوا: (بل هو شاعر) وانما قالوا: هو شاعر، قول متحير، قد بهره ما سمع، فمرة يقول ساحر، ومرة يقول شاعر. ولا يجزم على أمر واحد.

قال المبرد: في (أسروا) اضمار هؤلاء اللاهية قلوبهم، والذين ظلموا بدلا منه.

وقال قوم: قدم علامة الجمع، لان الواو علامة الجمع، وليست بضمير، كقولهم: انطلقوا أخوتك، وانطلقا صاحباك، تشبيها بعلامة التأنيث، نحو: ذهبت جاريتك، وهذا يجوز، لكن لايختار في القرآن مثله.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 11 / 270

[231]

قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون(6) وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون(7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين(8) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين(9) لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون(10))

خمس آيات.

قرأ عاصم " نوحي " بالنون. الباقون - بالياء - على ما لم يسم فاعله.

من قرأ بالنون اراد الاخبار من الله تعالى عن نفسه، بدلالة قوله " وما أرسلنا " لان النون والالف اسم الله.

لما حكى الله تعالى ما قال الكفار في القرآن، الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله من أنهم قالوا تارة: هو اضغاث احلام، يريدون أقاويله، وتارة قالوا: بل اختلقه وافتعله.

وتارة قالوا: هو شاعر، لتحيرهم في امره.

ثم قالوا (فليأتنا بآية) غير هذا على ما يقترحونها (كما أرسل) الانبياء (الاولون) بمثلها، فقال الله تعالى (ما آمنت قبلهم من قرية اهلكناها افهم يؤمنون) اي انا أظهرنا الآيات التي اقترحوها على الامم الماضية، فلم يؤمنوا عندها، فأهلكناهم، فهؤلاء ايضا لايؤمنون لوانزلنا ما ارادوه.

وأراد الله بهذا الاحتجاج عليهم ان يبين ان سبب مجئ الآيات ليس لانه سبب يؤدي إلى ايمان هؤلاء، وانما مجيئها لما فيها من اللطف والمصلحة، بدلالة انها لو كانت سببا لايمان هؤلاء لكانت سببا لايمان اولئك، فلما بطل ان تكون سببا لايمان اولئك، بطل ان تكون سببا لايمان هؤلاء على هذا الوجه.

وقيل: ان معناه إنا لما اظهرنا الآيات التي اقترحوها على الامم الماضية، فلم يؤمنوا اهلكناهم، فلو اظهرنا على هؤلاء مثلها لم يؤمنوا وكانت تقتضي المصلحة ان نهلكهم.

ومثله قوله (وما منعنا ان نرسل بالآيات إلا ان كذب بها الاولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة)(1) وقال الفراء: المعنى ما آمنت قبلهم امة جاء‌تهم آية، فكيف يؤمن هؤلاء !.

ثم اخبر تعالى انه لم يرسل قبل نبيه محمد صلى الله عليه وآله إلى الامم الماضية (إلا رجالا

___________________________________

(1) سورة 17 الاسري آية 59

[232]

يوحى اليهم) ووجه الاحتجاج بذلك انه لو كان يجب ان يكون الرسول إلى هؤلاء الناس من غير البشر، كما طلبوه، لوجب ان يكون الرسول إلى من تقدمهم من غير البشر، فلما صح إرسال رجال إلى من تقدم، صح إلى من تأخر.

وقال الحسن: ما ارسل الله إمراة، ولا رسولا من الجن، ولا من اهل البادية.

ووجه اللطف في إرسال البشر ان الشكل إلى شكله آنس. وعنه افهم ومن الانفة منه ابعد، لانه يجري مجرى النفس، والانسان لايأنف من نفسه.

ثم قال هلم " فاسألوا أهل الذكر " عن صحة ما أخبرتكم به من انه لم يرسل إلى من تقدم إلا الرجال من البشر.

وفى الآية دلالة على بطلان قول ابن حائط: من أن الله تعالى بعث إلى البهائم والحيوانات كلها رسلا. واختلفوا في المعني بأهل الذكر، فروي عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: (نحن اهل الذكر) ويشهد لذلك أن الله تعالى سمى نبيه ذكرا بقوله " ذكرا رسولا "(1) وقال الحسن: وقتادة: هم أهل التوارة والانجيل.

وقال ابن زيد: أراد اهل القرآن، لان الله تعالى سمى القرآن ذكرا في قوله " انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون "(2) وقال قوم: معناه واسألوا اهل العلم باخبار من مضى من الامم هل كانت رسل الله رجالا من البشر أم لا؟.

وقيل في وجه الامر بسؤال الكفار عن ذلك قولان: احدهما - انه يقع العلم الضروري بخبرهم إذا كانوا متواترين، واخبروا عن مشاهدة، هذا قول الجبائي. والثاني - ان الجماعة الكثيرة إذا أخبرت عن مشاهدة حصل العلم بخبرها إذا

___________________________________

(1) سورة 65 الطلاق آية 10 - 11.

(2) سورة 15 الحجر آية 9

[233]

كانوا بشروط المتواترين وإن لم يوجب خبرهم العلم الضروري.

وقال البلخي: المعنى انك لو سألتهم عن ذلك لاخبروك أنا لم نرسل قبلك إلا رجالا.

وقال قوم: أراد من آمن منهم. ولم يرد الامر بسوء‌ال غير المؤمن. ثم اخبر تعالى انه لم يبعث رسولا ممن أرسله إلا وكان مثل سائر البشر يأكل الطعام، وانه لم يجعلهم مثل الملائكة لايأكلون الطعام، وأنهم مع ذلك لم يكونوا خالدين مؤبدين، بل كان يصيبهم الموت والفناء كسائر الخلق.

وانما وحد " جسدا " لانه مصدر يقع على القليل والكثير، كما لو قال: وما جعلناهم خلقا.

ثم قال تعالى " ثم صدقناهم الوعد " يعني الانبياء الماضين ما وعدناهم به من النصر والنجاة، والظهور على الاعداء، وما وعدناهم به من الثواب، فانجيناهم من اعدائهم، ومعهم من نشاء من عبادنا، واهلكنا المسرفين على انفسهم، بتكذيبهم للانبياء.

وقال قتادة: المسرفون هم المشركون. والمسرف الخارج عن الحق إلى ما تباعد عنه.

يقال: اسراف إسرافا إذا جاوز حد الحق وتباعد عنه.

ثم اقسم تعالى بقوله " لقد أنزلنا اليكم "، لان هذه اللام يتلقى بها القسم، بأنا أنزلنا عليكم " كتابا " يعني القرآن (فيه ذكركم) قال الحسن: معناه فيه ما تحتاجون اليه من أمر دينكم.

وقيل: فيه شرعكم إن تمسكتم به، وعملتم بما فيه.

وقيل: ذكر، لما فيه من مكارم الاخلاق، ومحاسن الافعال (أفلا تعقلون) يعني أفلا تتدبرون، فتعلموا أن الامر على ما قلناه.

[234]

قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشانا بعدها قوما آخرين(11) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون(12) لاتركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسئلون(13) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين(14) فما زالت تلك دعويهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين(15))

خمس آيات.

يقول الله تعالى مخبرا انه قصم قرى كثيرة، ويريد أهلها.

وقوله " كانت ظالمة " لما اضاف الهلاك إلى القرية اضاف الظلم اليها. والتقدير قصمنا اهل قرية كانوا ظالمين لنفوسهم، بمعاصي الله، وارتكاب ما حرمه.

و (كم) للكثرة وهي ضد (رب) لان (رب) للتقليل.

و (كم) في موضع نصب ب‍ (قصمنا). والقصم كسر الصلب قهرا، قصمه يقصمه قصما، فهو قاصم الجبابرة، وانقصم انقصاما مثل انقصف انقصافا.

وقوله " وانشانا بعدها قوما آخرين " يعني أو جدنا بعد هلاك أولئك قوما آخرين. والانشاء إيجاد الشئ من غير سبب يولده، يقال انشأه إنشاء والنشأة الاولى الدنيا، والنشأة الثانية الآخرة. ومثل الانشاء الاختراع والابتداع - هذا في اللغة - فأما في عرف المتكلمين، فالاختراع هو ابتداع الفعل في غير محل القدرة عليه.

وقوله " فلما أحسوا بأسنا " معناه لما أدركوا بحواسهم عذابنا، والاحساس الادراك بحاسة من الحواص الخمس: السمع، والبصر، والانف، والفم، والبشرة.

يقال: أحسه إحساسا وأحس به.

وقال قوم: أراد عذاب الدنيا.

وقال آخرون: أراد عذاب الآخرة.

[235]

وقوله " إذا هم منها يركضون " فالركض العدو بشدة الوطئ، ركض فرسه إذا حثه على المر السريع، فمعنى " يركضون " يهربون من العذاب سراعا، كالمنهزم من عدو.

فيقول الله تعالى لهم " لاتركضوا " أي لاتهربوا من الهلاك " وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " أي ارجعوا إلى ما كنتم تنعمون فيه، توبيخا لهم وتقريعا على ما فرط منهم.

ومعنى " ما أترفتم فيه " نعمتم، فالمترف المنعم والتترف التنعم، وهي طلب النعمة.

" ومساكنكم لعلكم تسألون " أي ارجعوا إلى مساكنكم لكي تفيقوا بالمسألة - في قول مجاهد - وقال قتادة: إنما هو توبيخ لهم في الحقيقة. والمعنى تسألون من انبيائكم؟ على طريق الهزء بهم، فقالوا عند ذلك معترفين على نفوسهم بالخطأ " يا ويلنا إنا كنا ظالمين " لنفوسنا بترك معرفة الله وتصديق أنبيائه، وركوب معاصيه. والويل الوقوع في الهلكة. ونصب على معنى ألزمنا ويلنا.

ثم اخبر الله تعالى عنهم بأن ما حكاه عنهم من الويل " دعواهم " ونداؤهم أبدا " حتى جعلناهم حصيدا خامدين " بالعذاب - في قول الحسن - وقال مجاهد: يعني بالسيف، وهو قتل (بخت نصر) لهم.

والحصيد قتل الاستئصال، كما يحصد الزرع بالمنجل، والخمود كخمود النار إذا طفيت.

[236]

قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين(16) لو أرادنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين(17) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون(18) وله من في السموات والارض ومن عنده لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون(19) يسبحون الليل والنهار ولايفترون(20))

خمس آيات بلا خلاف.

بقول الله تعالى مخبرا على وجه التمدح: إنا " ما خلقنا السموات والارض وما بينهما " أي ما أنشأناها " لاعبين " ونصبه على الحال. واللعب الفعل الذي يدعو الله الجهل بما فيه من النقص، لان العلم يدعو إلى أمر، والجهل يدعو إلى خلافه. والعلم يدعو إلى الاحسان. والجهل يدعو إلى الاساء‌ة لتعجيل الانتفاع. واللعب يستحيل في صفة القديم تعالى، لانه عالم لنفسه. بجميع المعلومات غني عن جميع الاشياء، ولا يمتنع وصفه بالقدرة عليه كما نقول في سائر القبائح، وإن كان المعلوم أنه لايفعله، لما قدمناه.

ثم قال تعالى " لو أردنا آن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا " قال الحسن ومجاهد: اللهو المرأة.

وقال قتادة: اللهو المرأة بلغة أهل اليمين - وهو من اللهو المعروف، لانه يطلب بها صرف الهم. وهذا إنكار لقولهم: الملائكة بنات الله، والمسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك، وروي عن الحسن البصري أيضا انه قال: اللهو الولد.

ووجه اتصال الآية بما قبلها أن هؤلاء الذين وصفوهم أنهم بنات الله، وأبناء الله هم عبيد الله، على أتم وجه العبودية، وذلك يحيل معنى الولادة لانها لاتكون إلا مع المجانسة.

ومعنى " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا. الانكار على من أضاف ذلك إلى الله، ومحاجته بأنه لوكان جائزا في صفته لم يتخذه بحيث يظهر لكم أو لغيركم من العباد، لما في ذلك من خلاف صفة الحكيم الذي يقدر أن يستر النقص، فيظهره. وانما استحال اللهو على الله تعالى، لانه غني بنفسه عن كل شئ سواه، يستحيل عليه المرح. واللاهي المارح والملتذ بالمناظر الحسنة والاصوات المؤنقة.

[237]

وقوله " إن كنا فاعلين " قيل في معنى (ان) قولان: احدهما - انها بمعنى (ما) التي للنفي، والمعنى لم نكن فاعلين. والآخر - انها بمعنى التي للشرط، والمعنى إن كنا نفعل ذلك، فعلناه من لدنا، على ما أردناه إلا انا لانفعل ذلك.

وقوله " من لدنا " قيل: معناه مما في السماء من الملائكة.

وقال الزجاج: معناه مما نخلقه.

ثم قال تعالى " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه " معناه إنا نلقي الحق على الباطل فيهلكه، والمراد به إن حجج الله تعالى الدالة على الحق تبطل شبهات الباطل.

ويقال: دمغ الرجل إذا شج شجة تبلغ أم الدماغ، فلا يحيا صاحبها بعدها.

وقوله " فاذا هو زاهق " أي هالك مضمحل، وهو قول قتادة.

يقال: زهق زهوقا إذا هلك.

ثم قال لهم، يعني الكفار " ولكم الويل مما تصفون " يعنى الوقوع في العقاب، جزاء على ما تصفون الله به من اتخاذ الاولاد. ثم اخبر الله تعالى بأن " له من في السموات والارض ومن عنده " يعني الملائكة أي يملكهم بالتصرف فيهم (لا يستكبرون) هؤلاء عن عبادة الله (ولا يستحسرون) قال قتادة: معناه لا يعيون.

وقال ابن زيد: لايملون، من قولهم: بعير حسير اذا أعيا ونام.

ومنه قول علقمة بن عبدة:

بها جيف الحسرى فأما عظامها *** فبيض واما جلدها فصليب(1)

وقيل: معناه يسهل عليهم التسبيح، كسهولة فتح الطرف والنفس - في قول كعب - والاستحسار الانقطاع من الاعياد مأخوذ من قولهم حسر عن ذراعه إذا كشف عنه. ثم وصف تعالى الذين ذكرهم بأنهم (يسبحون الليل والنهار) اي ينزهونه عما أضافه هؤلاء الكفار اليه من اتخاذ الصاحبة والولد، وغير ذلك من القبائح (لايفترون) أى يملونه فيتركونه بل هم دائمون عليه.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 17 / 9

[238]

قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون(21) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون(22) لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون(23) أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون(24) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون(25))

خمس آيات

يقول الله تعالى إن هؤلاء الكفار الذين اتخذوا مع الله شركاء عبدوهم وجعلوها آلهة " هم ينشرون " أي هم يحبون؟؟ تقريرعا لهم وتعنيفا لهم على خطئهم - في قول مجاهد - يقال: أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم فحيوا وهو النشر بعد الطي، لان المحيا كأنه كان مطويا بالقبض عن الادراك، فأنشر بالحياة.

والمعنى في ذلك أن هؤلاء إذا كانوا لا يقدرون على الاحياء الذي من قدر عليه قدر على أن ينعم بالنعم التى يستحق بها العبادة فيكف يستحقون بها العبادة؟ !.

وحكى الزجاج: انه قرئ - بفتح الشين - والمعنى هل اتخذوا آلهة لا يموتون أبدا، ويبقون أحياء ابدا؟ ! أي لا يكون ذلك.

ثم قال تعالى " لو كان فيهما آلهة " يعني في السماء والارض آلهة أي من يحق له العبادة " غير الله لفسدتا " لانه لو صح إلهان او آلهة لصح بينهما التمانع

[239]

فكان يؤدي ذلك إلى ان احدهما إذا أراد فعلا، وأراد الآخر ضده، إما ان يقع مرادهما فيؤدي إلى اجتماع الضدين أولا يقع مرادهما، فينتقض كونهما قادرين، او يقع مراد أحدهما، فيؤدي إلى نقض كون الآخر قادرا. وكل ذلك فاسد، فاذا لايجوز أن يكون الآله إلا واحدا. وهذا مشروح في كتب الاصول.

ثم نزه تعالى نفسه عن ان يكون معه إله يحق له العبادة، بأن قال " فسبحان الله رب العرش عما يصفون " وانما أضافه إلى العرش، لانه أعظم المخلوقات. ومن قدر على اعظم المخلوقات كان قادرا على ما دونه.

ثم قال تعالى " لايسأل عما يفعل " لانه لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب، ولايقال للحكيم لو فعلت الصواب " وهم يسألون " لانه يجوز عليهم الخطأ.

ثم قال " أم اتخذوا من دونه آلهة " معنى (ام) بل.

ثم قال: قل لهم يا محمد " هاتوا برهانكم " على ذلك وحججكم على صحة ما فعلتموه. فالبرهان هو الدليل المؤدي إلى العلم، لانهم لا يقدرون على ذلك ابدا. وفى ذلك دلالة على فساد التقليد، لانه طالبهم بالحجة على صحة قولهم قال الرماني (إلا) في قوله " إلا الله " صفة، وليست باستثناء، لانك لاتقول لو كان معناه إلا زيد لهلكنا، على الاستثناء. لان ذلك محال، من حيث انك لم تذكر ما تستثني منه كما لم تذكره في قولك كان معنا إلا زيد، فهلكنا قال الشاعر:

وكل اخ مفارقه اخوه *** لعمر ابيك الا الفرقدان(1)

اراد وكل اخ يفارقه اخوه غير الفرقدين.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله وقل لهم: " هذا ذكر من معي " بما يلزمهم من الحلال والحرام والخطأ والصواب، (وذكر من قبلي) من الامم، ممن نجا بالايمان او هلك بالشرك - في قول قتادة - وقيل:

___________________________________

(1) انظر 6 / 69

[240]

معناه ذكر من معي بالحق في اخلاص الالهية والتوحيد في القرآن، وعلى هذا (ذكر من قبلي) في التوراة والانجيل. ثم اخبران (اكثرهم لايعلمون الحق) ولايعرفونه، فهم يعرضون عنه إلى الباطل.

ثم قال لنبيه (وما ارسلنا من قبلك) يا محمد (من رسول) اي رسولا، و (من) زائدة (الا نوحي اليه) نحن، فيمن قرأ بالنون.

ومن قرأ - بالياء - معناه الا يوحي الله اليه، بأنه لا معبود على الحقيقة سواه (فاعبدون) اي وجهوا العبادة اليه دون غيره.

الآية: 26 - 50

قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون(26) لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون(27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولايشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون(28) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين(29) أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون(30))

خمس آيات.

حكى الله تعالى عن الكفار الذين تقدم ذكرهم أنهم " قالوا اتخذ الرحمن ولدا " أي تبنا الملائكة بناتا، فنزه الله تعالى نفسه عن ذلك بأن قال " سبحانه بل عباد مكرمون " أي هؤلاء الذين جعلوهم أولاد الله هم عبيد لله مكرمون لديه، و (عباد)

[241]

رفع بأنه خبر ابتداء وتقديره هم عباد، ولايجوز عليه تعالى التبني، لان التبني إقامة المتخذ لولد غيره مقام ولده لو كان له، فاذا استحال أن يكون له تعالى ولد على الحقيقة استحال أن يقوم ولد غيره مقام ولده، ولذلك لايجوز أن يشبه بخلقه على وجه المجاز، لما لم يكن مشبها به على الحقيقة.

والفرق بين الخلة والنبوة أن الخلة إلخلاص المودة بما يوجب الاخلاص والاختصاص بتخلل الاسرار، فلما جاز أن يطلع الله ابراهيم على أسرار لا يطلع عليها غيره تشريفا له اتخذه خليلا على هذا الوجه، والبنوة ولادة ابن أو إقامته مقام ابن لو كان للمتخذ له. وهذا المعنى لا يجوز عليه تعالى كما يستحيل أن يتخذ إلها تعالى الله عن ذلك. ثم وصف تعالى الملائكة بأنهم " لا يسبقونه بالقول " ومعناه لا يخرجون بقولهم عن حد ما أمرهم به، طاعة لربهم، وناهيك بهذا إجلالا لهم وتعظيما لشأنهم " وهم بأمره يعملون " أي لا يعملون القبائح وإنما يعملون الطاعات التي أمرهم بها.

وقوله " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " قال ابن عباس: معناه يعلم ما قدموا وما أخروا من أعمالهم.

وقال الكلبي " ما بين أيديهم " يعني القيامة وأحوالها " وما خلفهم " من أمر الدنيا " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " قال أهل الوعيد: معناه لا يشفع هؤلاء الملائكة الا لمن ارتضى الله جميع عمله.

قالوا: وذلك يدل على أن اهل الكبائر لا يشفع فيهم، لان أعمالهم ليست رضا لله.

وقال مجاهد: معناه الا لمن رضي عنه. وهذا الذي ذكروه ليس في الظاهر، بل لا يمتنع ان يكون المراد لا يشفعون الا

[242]

لمن رضي الله ان يشفع فيه، كما قال تعالى " من ذا الذي يشفع عنده الا باذنه "(1) والمراد أنهم لا يشفعون الا من بعد اذن الله لهم، فيمن يشفعون فيه، ولو سلمنا أن المراد الا لمن رضي عمله، لجاز لنا أن نحمل على أنه رضي ايمانه، وكثيرا من طاعاته.

فمن أين أنه أراد: الا لمن رضي جميع اعماله؟ ! ومعنى - رضا الله - عن العبد إرادته لفعله الذي عرض به للثواب.

وقوله " وهم من خشيته مشفقون " يخافون من عقاب الله من مواقعة المعاصي. ثم هدد الملائكة بقوله " ومن يقل منهم اني إله " تحق لي العبادة من دون الله " فذلك نجزيه جهنم " معناه إن ادعى منهم مدع ذلك فانا نجزيه بعذاب جهنم، كما نجازي الظالمين بها.

وقال ابن جريج، وقتادة: عنى بالآية ابليس، لانه الذي ادعى الالهية من الملائكة دون غيره، وذلك يدل على ان الملائكة ليسوا مطبوعين على الطاعات، كما يقول الجهال.

وقوله " كذلك نجزي الظالمين " معناه مثل ما جازينا هؤلاء نجزي الظالمين أنفسهم بفعل المعاصي.

ثم قال " او لم ير الذين كفروا " أي او لم يعلموا " ان السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " وقيل في معناه اقوال: قال الحسن وقتادة " كانتا رتقا " اي ملتصقتين ففصل الله بينهما بهذا الهواء.

وقيل " كانتا رتقا " السماء لاتمطروا الارض لاتنبت، ففتق الله السماء بالمطر والارض بالنبات، ذكره ابن زيد وعكرمة.

وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع).

وقيل معناه: كانتا منسدتين لا فرج فيهما فصدعهما عما يخرج منهما.

وانما قال: السموات، والمطر والغيث ينزل من سماء الدنيا، لان كل قطعة منها سماء، كما يقال:

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 265

[243]

ثوب أخلاق، وقميص اسمال. وقيل الرتق الظلمة ففتقهما بالضياء.

وانما قال " كانتا " والسموات جمع، لانهما صنفان، كما قال الاسود بن يعفر النهشلي:

إن المنية والحتوف كلاهما *** يوقي المحارم يرقبان سوادي(1)

لانه على النوعين، وقال القطامي:

ألم يحزنك أن جبال قيس وتغ‍ *** لب قد تباينتا انقطاعا(2)

فثنى الجمع لما قسمه صنفين لقيس وصنف لتغلب، و (الرتق) السد رتق فلا الفتق رتقا إذا سده، ومنه الرتقاء: المرأة التي فرجها ملتحم. ووحد لانه مصدر وصف به.

وقوله " وجعلنا من الماء كل شئ حي " والمعنى إن كل شئ صار حيا، فهو مجعول من الماء. ويدخل فيه الشجر والنبات على التبع.

وقال بعضهم: اراد بالماء النطف التى خلق الله منها الحيوان. والاول أصح.

وقوله " أفلا يؤمنون " معناه أفلا يصدقون بما أخبرتهم.

وقيل: معناه أفلا يصدقون بما يشاهدونه، من أفعال الله الدالة على أنه المستحق للعبادة لاغير والمختص بها، وانه لايجوز عليه اتخاذ الصاحبة والولد.

وقرأ ابن كثير وحده " ألم ير الذين كفروا " بغير واو. الباقون " أو لم " بالواو. والالف التي قبل الواو، الف توبيخ وتقرير.

___________________________________

(1، 2) تفسير الطبري 17 / 14

[244]

قوله تعالى: (وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون(31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون(32) وهو الذي خلق الليل والنار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون(33) وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفان مت فهم الخالدون(34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون(35))

خمس آيات.

قال المبرد: معنى " أن تميد " أي منع الارض " أن تميد " أي لهذا خلقت الجبال.

ومثله قوله " أن تضل احداهما "(1) والمعنى عدة أن تضل أحداهما، كقول القائل: أعددت الخشبة أن يميل الحائل فأدعمه. وهو لم يعدها ليميل الحائط، وانما جعلها عدة، لان يميل، فيدعم بها.

يقول الله تعالى انا " جعلنا في الارض رواسي " وهي الجبال، واحدها راسية يقال: رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها، وهي راسية. كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها " أن تميد بكم " معناه ألا تعيد بكم، كما قال " يبين الله لكم أن تضلوا "(2) والمعنى ألا تضلوا.

وقال الزجاج: معناه كراهة أن تميد بكم. والميد الاضطراب، بالذهاب في الجهات، يقال: ماد يميد ميدا، فهو مائد.

وقيل: إن الارض كانت تميد وترجف، رجوف السفينة بالوطئ، فثقلها الله تعالى بالجبال الرواسي - لتمتنع من رجوفها.

والوجه في تثقيل الله تعالى الارض بالرواسي مع قدرته على امساك الارض أن تميد، ما فيه من المصلحة والاعتبار، وكان ابن الاخشاذ

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 282.

(2) سورة 4 النساء آية 175

[245]

يقول: لو لم يثقل الله الارض بالرواسي لامكن العباد أن يحركوها بما معهم من القدر، فجعلت على صفة ما لايمكنهم تحريكها.

وقال قتادة: تميد بهم معناه تمور، ولاتستقر بهم.

وقوله " وجعلنا فيها فجاجا " يعني في الارض طرقا، والفج الطريق الواسع بين الجبلين.

وقوله " لعلكم تهتدون " أي لكي تهتدوا فيه إلى حوائجكم ومواطنكم، وبلوغ أغراضكم. ويحتمل أن يكون المراد لتهتدوا، فتستدلوا بذلك على توحيد الله وحكمته.

وقال ابن زيد: معناه ليظهر شكركم، فيما تحبون، وصبركم فيما تكرهون.

وقوله " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " وانما ذكرها، لانه أراد السقف، ولو أنث كان جائزا.

وقيل: حفظها الله من أن تسقط على الارض.

وقيل: حفظها من أن يطمع احد ان يتعرض لها بنقض، ومن ان يلحقها ما يلحق غيرها من الهدم او الشعث، على طول الدهر.

وقيل: هي محفوظة من الشياطين بالشهب التي يرجمون بها.

وقوله " وهم عن آياتها معرضون " اي هم عن الاستدلال بحججها وادلتها، على توحيد الله معرضون. ثم قال تعالى مخبرا، بأنه " هو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر " واخبر ان جميع ذلك " في فلك يسبحون " فالفلك هو المجرى الذي تجري فيه الشمس والقمر، بدورانها عليه - في قول الضحاك - وقال قوم: هو برج مكفوف تجريان فيه.

وقال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل.

والفلك في اللغة كل شئ دائر، وجمعه افلاك قال الراجز:

[246]

باتت تناصي الفلك الدوارا *** حتى الصباح تعمل الاقتارا(1)

ومعنى " يسبحون " يجرون - في قول ابن جريج - وقال ابن عباس " يسبحون " بالخير والشر، والشدة والرخاء.

وانما قال " يسبحون " على فعل ما يعقل، لانه أضاف اليها الفعل الذي يقع من العقلاء، كما قال " والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين "(2) وقال " ولقد علمت ما هؤلاء ينطقون "،(3) وقال النابغة الجعدي:

تمززتها والديك يدعو صباحه *** إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا(4)

وقوله " كل في فلك يسبحون " أراد الشمس والقمر والنجوم، لان قوله " الليل " دل على النجوم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله و " ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " أي البقاء دائما في الدنيا " أفان مت فهم الخالدون " اي لم يجعل لهم الخلود، حتى لو مت أنت لبقوا أولئك مخلدين، بل ما أولئك مخلدين. ثم أكد ذلك، وبين بأن قال " كل نفس ذائقة الموت " والمعنى لابد لكل نفس حية بحياة أن يدخل عليها الموت، وتخرج عن كونها حية. وانما قال (ذائقة) لان العرب تصف كل أمر شاق على النفس بالذوق كما قال " ذق انك انت العزيز الكريم "(5).

وقال الفراء: إذا كان اسم الفاعل لما مضى جازت الاضافة، وإذا كان للمستقبل، فالاختيار التنوين، ونصب ما بعده.

ثم قال تعالى " ونبلوكم " اي نختبركم معاشر العقلاء بالشر والخير، يعني بالمرض والصحة. والرخص والغلاء، وغير ذلك من انواع الخير والشر " فتنة " أي اختبارا مني لكم، وتكليفا لكم.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 17 / 16.

(2) سورة 12 يوسف آية 4.

(3) سورة 21 الانبياء آية 65.

(4) هو في مجمع البيان 4 / 46.

(5) سورة 44 الدخان آية 49

[247]

ثم قال " والينا ترجعون " يوم القيامة، فيجازى كل انسان على قدر عمله.

ودخلت الفاء في قوله " أفان " وهي جزاء، وفى جوابه، لان الجزاء متصل بكلام قبله. ودخلت في (فهم) لانه جواب الجزاء، ولو لم يكن في (فهم) الفاء، كان جائزا على وجهين: احدهما - ان تكون مرادة، وقد حذفت. والآخرى - أن تكون قد قدمت على الجزاء، وتقديره (أفهم الخالدون) إن مت.

قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون(36) خلق الانسان من عجل ساوريكم آياتي فلا تستعجلون(37) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين(38) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولاهم ينصرون(39) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولاهم ينظرون(40))

خمس آيات.

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله إنه " إذا رآك الذين كفروا " وجحدوا وحدانية الله، ولم يقروا بنبوتك " إن يتخذونك " اي ليس يتخذونك " إلا هزوا " يعني سخرية، جهلا منهم وسخفا وفي ذلك تسلية لكل محق يلحقه أذى

[248]

من جاهل مبطل. والهزؤ إظهار خلاف الابطان، لايهام، النقص عن فهم القصد.

يقال: هزئ منه يهزؤ هزؤا، فهو هازئ، ومثله السخرية " أهذا الذي يذكر آلهتكم " حكاية، أي يقولون ذلك، ومعناه إنهم يعيبون من جحد إلهية من لا نعمة له، وهم يجحدون إلهية من كل نعمة، فهي منه، وهذا نهاية الجهل.

والمعنى أهذا الذي يعيب آلهتكم، تقول العرب، فلان يذكر فلانا أي يعيبه، قال عنتره:

لا تذكرى مهري وما أطعمته *** فيكون جلدك مثل جلد الاجراب(1)

وقوله " وهم بذكر الرحمن " معناه وهم بذكر توحيد الرحمن " هم كافرون ".

وقوله " خلق الانسان من عجل " قال قتادة: معناه خلق الانسان عجولا. والمراد به جنس الانسان.

وقال السدي: المعني به آدم (ع).

وقال مجاهد: خلق الانسان على تعجيل، قبل غروب الشمس يوم الجمعة.

وقال ابوعبيدة: معناه خلقت العجلة من الانسان، على القلب.

وهو ضعيف، لانه لاوجه لحمله على القلب.

وقال قوم: معناه على حب العجلة، لانه لم يخلقه من نطفة ومن علقة بل خلقه دفعة واحدة.

والذي قاله قتادة، أقوى الوجوه. وقيل خلق الانسان من عجل مبالغة، كأنه قيل هو عجلة، كما يقال: انما هو إقبال وادبار.

وقال المبرد: خلق على صفة من شأنه ان يعجل في الامور.

وقال الحسن: معناه خلق الانسان من ضعف، وهو النطفة.

وقال قوم: العجل هو الطين الذي خلق آدم منه، قال الشاعر:

والنبع ينبت بين الصخر ضاحيه *** والنخل ينبت بين الماء والعجل(2)

يعني الطين.

والاستعجال طلب الشئ قبل وقته الذي حقه أن يكون فيه دون غيره.

والعجول الكثير الطلب للشئ قبل وقته.

والعجلة تقديم الشئ قبل

___________________________________

(1) ديوانه: 33.

(2) تفسير القرطبي 11 / 289 والشوكاني 3 / 394 وروايته: (والنبع في الصخرة الصماء منبتة....).

[249]

وقته، وهو مذموم. والسرعة تقديم الشئ في أقرب أوقاته، وهو محمود.

وقوله " سأوريكم آياتي فلا تستعجلون " أي سأظهر بيناتي وعلاماتي، فلا تطلبوه قبل وقته.

ثم أخبر تعالى عن الكفار أنهم " يقولون متى هذا الوعد " يريدون ما توعد الله به من الجزاء والعقاب على المعاصي بالنيران وانواع العذاب " إن كنتم صادقين " يعني يقولون " إن كنتم صادقين " ومحقين فيما تقولون متى يكون ما وعدتموه، فقال الله تعالى " لو يعلم الذين كفروا " الوقت الذي " لايكفون فيه " أي لايمنعون فيه " عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم " يعني إن النار تحيط بهم من جميع وجوههم " ولا هم ينصرون " أي لا يدفع عنهم العذاب بوجه من الوجوه.

وجواب (لو) محذوف، وتقديره: لعلموا صدق ما وعدوا به من الساعة.

ثم قال " بل تأتيهم " يعني الساعة، والقيامة " بغتة " أي فجأة " فتبهتهم " أي تحيرهم والمبهوت المتحير " فلا يستطيعون ردها " ومعناه: لا يقدرون على دفعها " ولاهم ينظرون " أي لا يؤخرون إلى وقت آخر.

وقال البلخي: ويجوز أن تكون العجلة من فعل الله وهو ما طبع الله على الخلق من طلب سرعة الاشياء. وهو كما خلقهم يشتهون أشياء ويميلمون اليها، ويحسن أمرهم بالتأني عنها، والتوقف عند ذلك، فلاجل ذلك قال " فلا تستعجلون " كما حسن نهيهم عن ارتكاب الزنا الذي تدعوهم اليه الشهوة.

[250]

قوله تعالى: (ولقد استهزى برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن(41) قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون(42) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنسفهم ولا هم منا يصحبون(43) بل متعنا هؤلاء وآباء‌هم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون(44) قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون(45))

خمس آيات.

قرأ ابن عامر " ولا تسمع " بالتاء وضمها وكسر الميم " الصم " بالنصب. الباقون - بالياء - مفتوحة، وبفتح الميم، وضم " الصم ".

فوجه قراء‌ة ابن عامر، أنه وجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله فكأنه قال " ولا تسمع " أنت يا محمد " الصم " كما قال " وما أنت بمسمع من في القبور "(1) لان الله تعالى، لما خاطبهم، فلم يلتفتوا إلى ما دعاهم اليه، صاروا بمنزلة الميت الذي لايسمع ولايعقل.

ووجه قراء‌ة الباقين أنهم جعلوا الفعل لهم، ويقويه قوله (إذا ما ينذرون) قال أبوعلي: ولو كان على قراء‌ة ابن عامر، لقال: إذا ينذرون.

و (الصم) وزنه (فعل) جمع أصم.

وأصله (أصمم) فادغموا الميم في الميم وتصغير (أصم) (أصيمم).

و (الصمم) ثقل في الارض، فاذا كان لا يسمع شيئا قيل أصلج.

وقال ابن زيد: (أصم) أصلج بالجيم.

والوقر المثقل في الاذن.

___________________________________

(1) سورة 35 فاطر آية 22

[251]

لما قال الله تعالى لنبيه محمد: إن الكفار اذا ما رأوك اتخذوك هزوا وسخرية علم ان ذلك يغمه فسلاه عن ذلك بأن اقسم بأن الكفار فيما سلف استهزؤا بالرسل الذين بعث الله فيهم. وسخروا منه (فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن) أي حل بهم عقوبة ما كانوا يسخرون منهم، وحاق معناه حل، حاق يحق حيقا. ومنه قوله " ولايحيق المكر السئ إلا بأهله "(1) أي يحل وبال القبيح بأهله الذين يفعلونه، فكان كما أرادوه بالداعي لهم إلى الله بهم.

والفرق بين الهزء والسخرية، أن في السخرية معنى الذلة، لان التسخير التذليل والهزء يقتضي طلب صغر القدر مما يظهر في القول.

ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله بأن يقول لهؤلاء الكفار " من يكلؤكم بالليل والنهار " أي من يحفظكم من بأس الرحمن وعذابه.

وقيل: من عوارض الآفات، يقال: كلاه يكلؤه، فهو كالئ قال ابن هرمة:

إن سليمى والله يكلؤها *** ضنت بشئ ما كان يرزؤها(2)

ومعنى (يكلؤكم... من الرحمن) اي من يحفظكم من أن يحل بكم عذابه وقوله (بل هم عن ذكر ربهم معرضون) معناه كأنه قال: ما يلتفتون إلى شئ من الحجج والمواعظ، بل هم عن ذكر ربهم معرضون.

وقيل: من يحفظكم مما يريد الله إحلاله بكم من عقوبات الدنيا والآخرة.

ثم قال على وجه التوبيخ لهم والتقريع (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) أي من عذابنا وعقوباتنا.

ثم أخبر أنهم (لا يستطيعون نصر انفسهم).

وقيل: ان المعنى إن آلهتهم لا يقدرون على نصر أنفسهم، فكيف يقدرون على نصر غيرهم؟ ! وقيل ان الكفار (لا يستطيعون نصر

___________________________________

(1) سورة 35 فاطر 43.

(2) تفسير القرطبي 11 / 291 والطبري 17 / 20 والشوكاني 3 / 395

[252]

أنفسهم) وهو الاشبه اي لا يقدرون على دفع ما ينزل بهم عن نفوسهم " ولا هم منا يصحبون " معناه لا يصحبهم صاحب يمنعهم منا. وقيل ولا هم منا يصحبون بأن يجيرهم مجير علينا.

وقال ابن عباس: معناه ولا الكفار منا يجارون، كما يقولون: ان لك من فلان صاحبا، أي من يجيرك ويمنعك.

وقال قتادة: معناه (ولاهم منا يصحبون) بخير ثم قال تعالى (بل متعنا هؤلاء وآباء‌هم) فلم نعاجلهم بالعقوبة حتى طالت اعمارهم.

ثم قال موبخا لهم (أفلا يرون) اي ألا يعلمون (انا نأتي الارض ننقصها من اطرافها) قيل: بخرابها.

وقيل: بموت اهلها.

وقيل: بموت العلماء.

وقوله (افهم الغالبون) قال قتادة: افهم الغالبون رسول الله مع ما يشاهدونه من نصر الله له في مقام بعد مقام، توبيخا لهم، فكأنه قال: ما حملهم على الاعراض الا الاغترار بطول الامهال حيث لم يعاجلوا بالعقوبة.

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله (قل) لهم (انما انذركم بالوحي) اي اعلمكم واخوفكم بما اوحى الله الي.

ثم شبههم بالصم الذين لا يسمعون النداء اذا نودوا، فقال (ولا يسمع الصم الدعاء اذا ما ينذرون) اي يخوفون، من حيث لم ينتفعوا بدعاء من دعاهم، ولم يلتفتوا اليه، فسماهم صما مجازا وتوسعا.

[253]

قوله تعالى: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين(46) ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين(47) ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين(48) ألذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون(49) وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون(50))

خمس آيات.

قرأ اهل المدينة (مثقال حبة) برفع اللام - ههنا - وفي القمر. الباقون بنصبها.

من رفع اللام جعل (كان) تامة بمعنى حدث، كما قال (الا ان تكون تجارة)(1) ولا خبر لها.

ومن نصبه جعل في (كان) ضميرا ونصب (مثقال) بأنه خبر (كان) وتقديره فلا تظلم نفس شيئا وان كان الشئ (مثقال حبة من خردل) وانما قال (بها) بلفظ التأنيث والمثقال مذكر، لان مثقال الحبة وزنها، ومثله قراء‌ة الحسن (تلتقطه بعض السيارة)(2) لان بعض السيارة سيارة.

وروي ان مجاهد قرأ (آتينا) ممدودا بمعنى جازينا بها.

اخبر الله تعالى انه لو مس هؤلاء الكفار (نفحة من عذاب الله) ومعناه لو لحقهم واصابهم دفعة يسيرة، فالنفحة الدفعة اليسيرة، يقال: نفح ينفح نفحا، فهو نافح، لايقنوا بالهلاك، ولقالوا (يا ويلنا) اي الهلاك علينا (انا كنا ظالمين) لنفوسنا بارتكاب المعاصي اعترافا منهم بذلك.

ومعنى (يا ويلنا) يا بلاء‌نا الذي نزل بنا.

وانما يقال استغاثه مما يكون منه، كما يستغيث الانسان بنداء من يرفع به.

ثم قال تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) قال قتادة: معناه نضع

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 282.

(2) سورة 12 يوسف آية 10

[254]

العدل في المجازاة بالحق لكل احد على قدر استحقاقه، فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقه، ولا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقه.

وقال الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان، يذهب إلى انه علامة جعلها للعباد يعرفون بها مقادير الاستحقاق.

وقال قوم: ميزان ذو كفتين توزن بها صحف الاعمال.

وقال بعضهم: يكون في احدى الكفتين نور، وفي الاخرى ظلمة، فايهما رجح، علم به مقدار ما يستحقه، وتكون المعرفة في ذلك ما فيه من اللطف والمصلحة في دار الدنيا.

وقوله " ليوم القيامة " معناه لاهل يوم القيامة. وقيل في يوم القيامة.

وقوله " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها " معناه أنه لا يضيع لديه قليل الاعمال والمجازاة عليه، طاعة كانت أو معصية " وكفى بنا حاسبين " أي وكفى المطيع أو العاصي بمجازاة الله وحسبه ذلك. وفي ذلك غاية التهديد، لانه إذا كان الذي يتولى الحساب لا يخفى عليه قليل ولا كثير، كان اعظم.

والباء في قوله " كفى بنا " زائدة. و " حاسبين " يحتمل أن يكون نصبا على الحال أو المصدر - في قول الزجاج.

ثم اخبر الله تعالى فقال: " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " قال مجاهد وقتادة: هو التوراة التي تفرق بين الحق والباطل.

وقال ابن زيد: هو البرهان الذي فرق بين حقه وباطل فرعون، كما قال تعالى " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان "(1).

وقوله " وضياء " أي وآتيناه ضياء يعني أدلة يهتدون بها. كما يهتدون بالضياء.

وآتيناه " ذكرا للمتقين " أي مذكرا لهم، يذكرون الله به. ومن جعل الضياء والذكر حالا للفرقان قال: دخلته واو العطف، لاختلاف الاحوال، كقولك جاء‌ني زيد الجواد والحليم والعالم. وأضافه إلى المتقين، لانهم المتنفعون به دون غيرهم. ثم وصف المتقين بأن قال " الذين يخشون " عذاب الله فيجتنبون معاصيه في حال السر والغيب.

___________________________________

(1) سورة 8 الانفال آية 41

[255]

وقال الجبائي: معناه يؤمنون بالغيب الذي أخبرهم به، وهم من مجازاة يوم القيامة " مشفقون " أي خائفون.

ثم اخبر عن القرآن، فقال " وهذا ذكر مبارك " يعني القرآن " أنزلناه " عليك يا محمد.

وخاطب الكفار فقال " أفانتم له منكرون " أي تجحدونه، على وجه التوبيخ لهم، والتقرير، وفى ذلك دلالة على حدوثه، لان ما يوصف بالانزال وبأنه مبارك يتنزل به، لا يكون قديما، لان ذلك من صفات المحدثات.

الآية: 51 - 75

قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين(51) إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون(52) قالوا وجدنا آباء‌نا لها عابدين(53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين(54) قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين(55))

خمس آيات.

لما اخبر الله تعالى أنه آتى موسى وهارون الفرقان، والضياء، والذكر. وبين أن القرآن ذكر مبارك أنزله على محمد صلى الله عليه وآله، أخبر انه آتى إبراهيم أيضا قبل ذلك (رشده) يعني آتيناه من الحجج والبينات ما يوصله إلى رشده، من معرفة الله وتوحيده. والرشد هو الحق الذي يؤدي إلى نفع يدعو اليه. ونقيضه الغي، رشد يرشد رشدا ورشدا، فهو رشيد.

وفى نقيضه: غوى يغوى غيا، فهو غاو.

وقال قتادة ومجاهد: معنى (آتيناه رشده) هديناه صغيرا.

وقال قوم: معنى (رشده) النبوة.

[256]

وقوله (من قبل) يعني من قبل موسى وهارون.

وقوله (وكنا به عالمين) أي كنا عالمين بأنه موضع لايتاء الرشد، كما قال تعالى (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)(1) وقيل: كنا نعلم أنه يصلح للنبوة (إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون).

(إذ) في موضع نصب، والعامل فيه (آتيناه رشده... إذ قال) أي في ذلك الوقت، وفيه إخبار عما أنكر ابراهيم على قومه وأبيه حين رآهم يعبدون الاصنام والاوثان، فانه قال لهم: أي شئ هذه الاصنام؟ ! يعني الصور التي صرتم لازمين لها بالعبادة، والعكوف اللزوم لامر من الامور: عكف عليه عكوفا، فهو عاكف.

وقيل في معنى (لها عاكفون) لاجلها.

قال مجاهد (هذه التماثيل) الاصنام.

ثم حكى ما أجابه به قومه، فانهم قالوا " وجدنا آباء‌نا لها " لهذه الاصنام " عابدين " فأحالوا على مجرد التقليد. فقال لهم ابراهيم " لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " فذمهم على تقليد الآباء، ونسب الجيمع إلى الضلالة والعدول عن الحق.

فقالوا له عند ذلك " أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " ومعناه أجاد أنت فيما تقول محق عند نفسك أم أنت لاعب مازح؟ وذلك أنهم كانوا يستبعدون إنكار عبادتها عليهم.

___________________________________

(1) سورة 44 الدخان آية 32

[257]

قوله تعالى: (قال بل ربكم رب السموات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين(56) وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين(57) فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون(58) قالوا من فعل بالهتنا إنه لمن الظالمين(59) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم(60))

خمس آيات.

قرأ الكسائي " جذاذا " بكسر الجيم. الباقون بضمها. فمن ضم الجيم أراد جعلهم قطعا، وهو (فعال) على وزن الرفات والفتات والرقاق، وجذذته أجذه جذا أي قطعته.

وقال ابن عباس: الجذاذ الحطام. ومن كسر الجيم فانه أراد جمع جذيذ (فعيل) بمعنى مجذوذ.

ومثله كريم وكرام، وخفيف وخفاف، وبالضم مصدر لايثنى ولايجع.

قال جرير:

آل المهلب جذ الله دابرهم *** أمسوا رمادا فلا أصل ولاطرف(1)

حكى الله تعالى ما رد به إبراهيم على كفار قومه حين قالوا له " أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " فانه قال لهم " بل ربكم السموات والارض الذي " خلقكم ودبركم والذي خلق السموات والارض و " فطرهن " معناه ابتدأهن والفطر شق الشئ من امر ظهر منه يقال: فطره يفطره فطرا وانفطر انفطارا، ومنه تفطر الشجر بالورق، فكأن السماء تشق عن شئ فظهرت بخلقها.

ثم قال ابراهيم " وأنا على ذلكم من الشاهدين " يعني أنا على ما قلت لكم: من انه تعالى خالقكم وخالق السموات شاهد بالحق لانه دال، والشاهد الدال على الشئ عن مشاهدة، فابراهيم (ع) شاهد بالحق دال عليه بما يرجع إلى ثقة المشاهدة.

ثم أقسم إبراهيم فقال " وتالله لاكيدن أصنامكم " وذلك قسم، والتاء في القسم لا تدخل إلا في اسم الله تعالى، لانها بدل من الواو والواو بدل من الباء، فهي بدل من بدل، فلذلك أختصت باسم الله.

وقال قتادة: معناه لاكيدن أصنامكم في سر من قومه. والكيد ضر الشئ بتدبير عليه، يقال: كاده يكيده كيدا فهو كائد.

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 308

[258]

وقوله " بعد أن تولوا مدبرين " يقال: انه انتظرهم حتى خرجوا إلى عيد لهم فحينئذ كسر اصنامهم.

ثم أخبر تعالى انه " جعلهم جذاذا " أي قطعا " إلا كبيرا لهم " تركه على حاله.

ويجوز أن يكون كبيرهم في الخلقة.

ويجوز أن يكون أكبرهم عندهم في التعظيم " لعلهم اليه يرجعون " أي لكي يرجعوا اليه فينتبهوا على ما يلزمهم فيه من جهل من اتخذوه إلها، إذا وجدوه على تلك الصفة. وكان ذلك كيدا لهم.

وفي الكلام حذف، لان تقديره إن قومه رجعوا من عيدهم، فوجدوا أصنامهم مكسرة " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الضالمين " ف‍ (من) بمعنى الذي، وتقديرها الذي فعل هذا بمعبودنا، فانه ظلم نفسه.

وقوله " قالوا سمعنا فنى يذكرهم يقال له ابراهيم " قيل تخلف بعضهم فسمع إبراهيم يذكرها بالعيب، فذكر ذلك، ورفع (ابراهيم) بتقدير، يقال له هذا إبراهيم، او ينادى يا إبراهيم، ذكره الزجاج.

قوله تعالى: (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون(61) قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم(62) قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون(63) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون(64) ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون(65))

خمس آيات.

[259]

لما قال بعضهم انه سمع ابراهيم يعيب آلهتهم وحكاه لقومه قالو: جيئوا " به على اعين الناس لعلهم يشهدون " وقيل في معناه قولان: احدهما - قال الحسن وقتادة والسدي: كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا جيئوا به بحيث يراه الناس، ويكون بمرء‌ا منهم " لعلهم يشهدون " بما قاله إني أكيد اصنامهم شهادة تكون حجة عليه. الثاني - قال ابن اسحاق " لعلهم يشهدون " عقابه.

وقيل " لعلهم يشهدون " حجته وما يقال له من الجواب، فلما جاؤا به قالوا له (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) مقررين له على ذلك، فأجابهم إبراهيم بأن قال (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) وإنما جاز أن يقول (بل فعله كبيرهم هذا) وما فعل شيئا لاحد امرين: احدهما - انه قيده بقوله (إن كان ينطقون) فقد فعله كبيرهم. وقوله (فاسألوهم) اعتراض بين الكلامين، كما يقول القائل: عليه الدارهم فاسأله إن أقر.

والثاني - انه خرج الخبر وليس بخبر، وانما هو إلزام دل على تلك الحال، كأنه قال بل ما تنكرون فعله كبيرهم هذا. فالالزام تارة يأتى بلفظ السؤال وتارة بلفظ الامر، كقوله (فأتوا بسورة مثله) وتارة بلفظ الخبر. والمعنى فيه أنه من اعتقد كذا لزمه كذا وقد قرئ في الشواذ (فعله كبيرهم) - بتشديد اللام - بمعنى فلعل كبيرهم، فعلى هذا لايكون خبرا، فلا يلزم ان يكون كذبا، والكذب قبيح لكونه كذبا، فلا يحسن على وجه، سواء كان فيه نفع او دفع ضرر، وعلى كل حال، فلا يجوز على الانبياء القبائح، ولايجوز ايضا عليهم التعمية في الاخبار، ولا التقية

___________________________________

(1) سورة 10 يونس آية 38

[260]

في اخبارهم، لانه يؤدي إلى التشكيك في اخبارهم، فلا يجوز ذلك عليهم على وجه.

فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله بأن قال (لم يكذب ابراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في الله) فانه خبر لا أصل له، ولو حسن الكذب على وجه، كما يتوهم بعض الجهال، لجاز من القديم تعالى ذلك. وزعموا ان الثلاث كذبات هي قوله " فعله كبيرهم هذا " وما كان فعله.

وقوله " اني سقيم "(1) ولم يكن كذلك.

وقوله في سارة لما اراد الجبار أخذها: إنها اختي، وكانت زوجته.

حتى قال بعضهم: كان الله أذن له في ذلك. وهذا باطل، لانه لو اذن الله له فيه، لكان الكذب حسنا. وقد بينا أنه قبيح على كل حال.

وقيل: معنى قوله " اني سقيم " اي سأسقم، لانه لما نظر إلى بعض الكواكب علم انه وقت نوبة حمى كانت تجيئه، فقال: إني سقيم.

وقيل معناه: اني سقيم، اي غما بضلالكم.

وقيل: معناه سقيم عندكم، فيما أدعوكم اليه من الدين.

وقيل: ان من كانت عاقبته الموت جاز ان يقال فيه سقيم، مثل المريض المشفى على الموت.

وأما قوله في سارة إنها أختي فانه أراد في الدين.

واما قول يوسف لاخوته " انكم لسارقون "(2) فقد قال قوم: هو من قول مؤذن يوسف على ظنه فيما يقتضيه الحال من الظن الذي يعمل عليه.

وقيل معناه: (إنكم لسارقون) يوسف (ع) وقوله تعالى (فرجعوا إلى انفسهم) اي عادوا إلى نفوسهم يعني بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض: (انكم انتم الظالمون) في سؤاله، لانها لو كانت آلهة لم يصل ابراهيم إلى كسرها.

وقوله (ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) فالنكس هو جعل الشئ أسفله أعلاه، ومنه النكس في العلة إذا رجع إلى اول حاله. والمعنى ادركتهم حيرة سوء، فنكسوا لاجلها رؤسهم. ثم أقروا بما هو حجة عليهم، فقالوا لابراهيم

___________________________________

(1) سورة 37 الصافات آية 89.

(2) سورة 12 يوسف آية 70

[261]

(لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) فأقروا بهذا للحيرة التى لحقتهم، فكان ذلك دلالة على خطئهم، لكنهم أصروا على العناد.

قوله تعالى: (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم(66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون(67) قالوا حرقوة وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين(68) قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم(69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين(70))

خمس آيات.

يقول الله تعالى لما قال كفار قوم إبراهيم (ع) (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) فقال لهم إبراهيم منبها لهم على خطئهم وضلالهم (أفتعبدون من دون الله أي توجهون عبادتكم إلى الاصنام التي لا تنفعكم شيئا ولا تدفع عنكم ضرا، لانها لو قدرت على نفعكم وضركم. لدفعت عن نفسها، حتى لم تكسر، ولاجابت حين سئلت (من دون الله) الذي يقدر على ضركم ونفعكم من ثوابكم وعقابكم، وإنه يفعل معكم مالا يقدر عليه سواه. وليس كل من قدر على الضر والنفع يستحق العبادة، وانما يستحقها من قدر على اصول النعم التى هي خلق الحياة، والشهوة، والقدرة، وكمال العقل، ويقدر على الثواب والعقاب او لمنافع تقع على وجه لايقدر على ايقاعها على ذلك الوجه سواه.

قال الرماني: لانه تعالى لو فعل حركة فيها لطف في إيمان زيد كزلزلة الارض في بعض الاحوال. ثم ان عندها ايمانا يتخلص به من العقاب.

[262]

ويستحق الثواب الذي ضمنه بالايمان، لايستحق - بفعل الحركة على هذا الوجه - العبادة.

ثم قال مهجنا لافعالهم مستقذرا لها (اف لكم ولما تعبدون من دون الله) فمعنى (أف) الضجر بما كان من الامر وهي كلمة، مبنية، لانها وضعت وضع الصوت الخارج عن دلالة الاشارة والافادة، فصارت كدلالة الحرف، لانه يفهم المعنى بالحال المقارنة لها، وبنيت على الحركة لالتقاء الساكنين إذ لا اصل لها في التمكن مستعمل، فتستحق به البناء على الحركة. وكسرت على اصل الحركة لالتقاء الساكنين.

وقال الزجاج: معنى (اف لكم) نتنا لافعالكم، ويجوز - ضم الفاء - للاتباع لضمة الهمزة ويجوز - الفتح - لثقل التضعيف. ويجوز التنوين - على التنكير.

وقوله " أفلا تعقلون " معناه أفلا تتفكرون بعقولكم في أن هذه الاصنام لاتستحق العبادة، ولاتقدر على الضر والنفع، فلما سمعوا منه هذا القول قال بعضهم لبعض " حرقوه " يعني بالنار " وانصروا آلهتكم " أي عظموها وادفعوا عنها وعن عبادتها " إن كنتم فاعلين " معناه إن كنتم ناصريها، ولم تريد واترك عبادتها.

والتحريق هو التقطيع بالنار، يقال: حرقه تحريقا وأحرقه إحراقا، وثوب حرق أي متقطع كالتقطع بالنار. واحترق الشئ احتراقا، وتحرق على الامر تحرقا.

وقال ابن عمر: الذي أشار بتحريق إبراهيم رجل من اكراد فارس.

وفي الكلام حذف لان تقديره أوثقوا إبراهيم وطرحوه في النار، فقال الله تعالى عند ذلك للنار " كوني بردا وسلاما على ابراهيم " وقيل في وجه كون النار بردا وسلاما قولان: احدهما - انه تعالى أحدث فيها بردا بدلا من شدة الحرارة التي فيها، فلم تؤذه.

[263]

والثاني - انه تعالى حال بينها وبين جسمه، فلم تصل اليه، ولو لم يقل سلاما لاهلكه بردها، ولم يكن هناك أمر على الحقيقة.

والمعنى أنه فعل ذلك، كما قال " كونوا قردة خاسئين "(1) أي صيرهم كذلك من غير أن أمرهم بذلك.

وقال قتادة: ما أحرقت النار منه إلا وثاقه.

وقال قوم: ان إبراهيم لما أوثقوه ليلقوه في النار قال (لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين. لك الحمد ولك الملك لاشريك لك).

ثم اخبر تعالى ان الكفار أرادوا بابراهيم كيدا وبلاء، فجعلهم الله " الاخسرين " يعني بتأييد ابراهيم وتوفيقه، ومنع النار من إحراقه حتى خسروا وتبين كفرهم وضلالهم.

قوله تعالى: (ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين(71) ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين(72) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين(73) ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين(74) وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين(75))

خمس آيات.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 65

[264]

يقول الله تعالى إنا نجينا ابراهيم ولوطا من الكفار الذين كانوا يخافوهم، وحملناهما " إلى الارض التى باركنا فيها للعالمين " قال قتادة: نجيا من ارض كوثا ريا إلى الشام.

وقال ابوالعالية: ليس ماء عذب الا من الصخرة التى في بيت المقدس.

وقال ابن عباس: نجاهما إلى مكة، كما قال " ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا "(1) وقيل: إلى أرض بيت المقدس.

وقال الزجاج: من العراق إلى ارض الشام.

وقال الجبائي: أراد ارض الشام.

وانما قال للعالمين " لما فيها من كثرة الاشجار والخيرات التي ينتفع جميع الخلق بها اذا حلوا بها.

وانما جعلها مباركة، لان اكثر الانبياء بعثوا منها، فلذلك كانت مباركة.

وقيل: لما فيها من كثرة الاشجار والثمار، والنجاة هو الدفع عن الهلاك، فدفع الله ابراهيم ولوطا عن الهلكة إلى الارض المباركة. والبركة ثبوت الخير النامي ونقيضها الشؤم وهو إمحاق الخير وذهابه.

وقيل في هذه الآية دلالة على نجاة محمد صلى الله عليه وآله كما نجا ابراهيم من عبدة الاصنام، إلى الارض التى اختارها له.

ثم قال " ووهبنا له " يعني ابراهيم اي أعطيناه اجتلابا لمحبته، فالله تعالى يحب انبياء‌ه ويحبونه، ويحب إن يزدادوا في محبته بما يهب لهم من نعمه " اسحاق ويعقوب " اي أعطيناه اسحاق ومعه يعقوب " نافلة " اي زيادة على ما دعا الله اليه.

وقوله " نافلة " اي فضلا - في قول ابن عباس وقتادة وابن زيد - لانه كان سأل الله ان يرزقه ولدا من سارة، فوهب له اسحاق، وزاده يعقوب ولد ولده. وقيل جميعا نافلة، لانهما عطية زائدة على ما تقدم من النعمة - في قول مجاهد وعطاء - والنفل النفع الذي يوجب الحمد به لانه مما زاد على حد الواجب، ومنه صلاة النافلة اي فضلا على الفرائض.

وقيل: نافلة اي غنيمة قال الشاعر:

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 96

[265]

لله نافلة الاعزالافضل وقوله (وكلا جعلنا صالحين) يحتمل امرين: احدهما - انه جعلهم بالتسمية على وجه المدح بالصلاح أي سميناهم صالحين. والثاني - انا فعلنا بهم من اللطف الذي صلحوا به.

ثم وصفهم بأن قال (وجعلناهم أئمة) يقتدى بهم في افعالهم (يهدون) الخلق إلى طريق الحق (بأمرنا وأوحينا اليهم فعل الخيرات) اي أوحينا اليهم بأن يفعلوا الخيرات " واقام الصلاة " اي وبأن يقيموا الصلاة بحدودها وانما قال " واقام الصلاة " بلا (هاء) لان الاضافة عوض الهاء " وإيتاء الزكاة " أي بأن يؤتوا الزكاة، التي فرضها الله عليهم.

ثم اخبر: أنهم كانوا عابدين لله وحده لاشريك له، لا يشركون بعبادته سواه.

وقوله " ولوطا آتيناه حكما وعلما " نصب (لوطا) ب‍ (آتينا) وتقديره: وآتينا لوطا آتيناه، كقوله " والقمر قدرناه منازل "(1). ويجوز ان يكون نصبا بتقدير اذكر " لوطا " إذ " آتيناه حكما " اي اعطيناه الفصل بين الخصوم بالحق أي جعلناه حاكما، وعلمناه ما يحتاج إلى العلم به.

وقوله " ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث " يعني انهم كانوا يأتون الذكران، في أدبارهم ويتضارطون في انديتهم، وهي قرية (سدوم) على ما روي. ثم اخبر " انهم كانوا قوم سوء فاسقين " اي خارجين عن طاعة الله إلى معاصيه. ثم عاد إلى ذكر لوط فقال " وادخلناه في رحمتنا " أي نعمتنا " انه من الصالحين " الذين أصلحوا أفعالهم. فعملوا بما هو حسن منها، دون ما هو قبيح.

___________________________________

(1) سورة 36 يس آية 39

 

الآية: 76 - 112

قوله تعالى: (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم(76) ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين(77) وداود وسليمن إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين(78) ففهمناها سليمن وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين(79) وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون(80))

خمس آيات.

قرأ " لنحصنكم " بالنون ابوبكر عن عاصم. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم بالتاء. الباقون بالياء.

فمن قرأ بالتاء، فلان الدروع مؤنثة، فأسند الفعل اليها.

ومن قرأ بالياء اضافه إلى (لبوس)، وهو مذكر ويجوز ان يكون اسند الفعل إلى الله.

ويجوز أن يضيفه إلى التعليم - ذكره ابوعلي - ومن قرأ بالنون اسند الفعل إلى الله ليطابق قوله " وعلمناه ".

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله واذكر يا محمد " نوحا " حين " نادى من قبل " ابراهيم. والنداء الدعاء على طريقة (يا فلان) فأما على طريقة (افعل) و (لاتفعل) فلا يسمى نداء، وإن كان دعاء. والمعنى إذ دعا ربه، فقال: رب، أي

[267]

يارب نجني واهلي من الكرب العظيم فقال الله تعالى " فاستجبنا له " اي اجبناه إلى ما التمسه " فنجيناه واهله من الكرب العظيم ". والكرب الغم الذي يحمى به القلب، ويحتمل ان يكون غمه كان لقومه. ويجوز ان يكون من العذاب الذي نزل بهم.

وقوله " ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا " اي منعناه منهم ان يصلوا اليه بسوء. ومعنى نصرته عليه أعنته على غلبه.

ثم اخبر تعالى " انهم كانوا قوم سوء " فأغرقهم الله اجمعين بالطوفان. ثم قال واذكر يا محمد " داود وسلميان اذ يحكمان في الحرث إذ " في الوقت الذي " نفشت فيه غنم القوم " والنفش لايكون الا ليلا على ما قاله شريح.

وقال الزهري: الهمل والنشر بالنهار، والنفش بالليل، والحرث الذى حكاه فيه: قال قتادة: هو زرع وقعت فيه الغنم ليلا، فأكلته.

وقيل: كرم قد نبتت عناقيده - في قول ابن مسعود - وشريح.

وقيل: ان داود كان يحكم بالغنم لصاحب الكرم.

فقال سليمان: غير هذا يانبي الله.

قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى اذا عاد الكرم كما كان دفع كل واحد إلى صاحبه - ذكره ابن مسعود - وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (ع).

وقال ابوعلي الجبائي: أوحى الله إلى سليمان مما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل. ولم يكن ذلك عن اجتهاد، لان الاجتهاد لايجوز ان يحكم به الانبياء. وهذا هو الصحح عندنا.

وقال ابن الاخشاذ، والبلخي والرماني: يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد، لان رأي النبي افضل من رأي غيره، فكيف يجوز التعبد بالتزام حكم غيره من طريق الاجتهاد، ويمتنع من حكمه من هذا الوجه. والدليل على صحة الاول ان الانبياء (ع) يوحى اليهم، ولهم طريق إلى العلم بالحكم، فكيف

[268]

يجوز أن يعملوا بالظن؟ ! والامة لاطريق لها إلى العلم بالاحكام فجاز ان يكلفوا ما طريقه الظن؟ ! على ان عندنا لايجوز في الامة ايضا العمل على الاجتهاد. وقد بينا ذلك في غير موضع.

ومن قال: انهما اجتهدا، قال أخطأ داود وأصاب سليمان.

وذكروا في قوله " إذ يحكمان " ثلاثة أوجه: أحدها - إذ شرعا في الحكم فيه من غير قطع به في ابتداء الشرع.

وثانيها - ان يكون حكمه حكما معلقا بشرط لم يفعله بعد.

وثالثها - أن يكون معناه طلبا بحكم في الحرث، ولم يبتديا به بعد.

ويقوي ما قلناه قوله تعالى " ففهمناها سليمان " يعني علمنا الحكومة في ذلك سليمان.

وقيل: ان الله تعالى " فهم سليمان " قيمة ما أفسدت الغنم.

ثم أخبر تعالى بأنه آتى كلا حكما وعلما، فدل على ان ما حكم به داود كان بوحي الله، وتعليمه.

وقيل: معنى قوله " ففهمناها سليمان " أي فتحنا له طريق الحكومة، لما اجتهد في طلب الحق فيها، من غير عيب على داود فيما كان منه في ذلك، لانه اجتهد، فحكم بما أدى اجتهاده اليه.

وقوله " وسخرنا مع داود الجبال " معناه سير الله تعالى الجبال مع داود حيث سار، فعبر عن ذلك بالتسبيح، لما فيها من الآية العظيمة التي تدعو له بتعظيم الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق به، ولايجوز وصفه به. وكذلك سخر له الطير، وعبر عن ذلك التسخير بأنه تسبيح من الطير، لدلالته على أن من سخرها قادر لايجوز عليه العجز، كما يجوز على العباد.

وقوله " وكنا فاعلين " أي وكنا قادرين على ما نريده.

وقال الجبائي: اكمل الله تعالى عقول الطير حتى فهمت ما كان سليمان يأمرها به وينهاها عنه، وما يتوعدها به متى خالفت.

[269]

وقوله " وكنا لحكمهم شاهدين " انما جمعه في موضع التثنية، لان داود وسليمان كان معهما المحكوم عليه، ومن حكم له. فلا يمكن الاستدلال به على أن اقل الجمع اثنان.

ومن قال: إنه كناية عن الاثنين، قال: هو يجري مجرى قوله " فان كان له أخوة "(1) في موضع فان كان له أخوان. وهذا ليس بشئ، لان ذلك علمناه بدليل الاجماع، ولذلك خالف فيه ابن عباس، فلم يحجب ما قل عن الثلاثة.

وقوله " وعلمناه " يعني داود " صنعة لبوس لكم " اي علمناه كيف يصنع الدرع.

وقيل: ان اللبوس - عند العرب - هو السلاح كله، درعا كان، أو جوشنا، او سيفا، او رمحا، قال الهذلي.

ومعي لبوس للبنين كأنه *** روق بجبهة ذي نعاج مجفل(2)

يصف رمحا.

وقال قتادة، والمفسرون: المراد به في الآية الدروع.

والاحصان الاحراز، والباس شدة القتال.

وقوله " فهل أنتم شاكرون " تقرير للخلق على شكره تعالى على نعمه التي انعم بها عليهم بأشياء مختلفة.

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 10.

(2) تفسير القرطبى 11 / 320 والطبرى 17 / 37

[270]

قوله تعالى: (ولسليمن الريح عاصفة تجري بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين(81) ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين(82) وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين(83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين(84) وإسمعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين(85))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى وسخرنا " لسليمان الريح عاصفة " من رفع (الريح) وهو عبد الرحمن الاعرج: أضاف الريح إلى سليمان إضافه الملك، كأنه قال له الريح.

و " عاصفة " نصب على الحال في القراء‌تين، والريح هو الجو، يشتد تارة ويضعف أخرى.

وحد الرماني الريح بأن قال: هو جسم منتشر لطيف، يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر للحس بحركته.

وقولهم: سكنت الريح مثل قولهم: هبت الريح، وإلا فانها لاتكون ريحا إلا بالحركة.

ويقولون: أسرع فلان في الحاجة كالريح، وراح فلان إلى منزله.

و (العصوف) شدة حركة الريح، وعصفت تعصف عصفا وعصفة، وعصف عصفا وعصوفا إذا اشتد، والعصف التبن، لان الريح تعصفه بتطييرها.

وقيل: عصوف الريح شدة هبوبها.

وذكران الريح كانت تجري لسليمان إلى حيث شاء، فذلك هو التسخير " تجري بأمره " يعني بأمر سليمان " إلى الارض التي باركنا فهيا " يعني الشام، لانها كانت مأواه، فأي مكان شاء مضى اليه، وعاد اليها بالعشي.

وقوله " وكنا بكل شئ عالمين " معناه علمنا معه على ما يعلمه من صحة التدبير، فان ما أعطيناه من التسخير يدعوه إلى الخضوع له. ويدعو طالب الحق إلى الاستبصار في ذلك، فكان لطفا يجب فلعه.

وقوله " ومن الشياطين من يغوصون له " أي وسخرنا لسليمان قوما من الشياطين يغوصون له في البحر " ويعملون عملا دون ذلك " قال الزجاج: معناه سوى ذلك " وكنا لهم حافظين " أي يحفظهم الله من الافساد لما عملوه.

وقيل: كان حفظهم لئلا يهربوا من العمل.

[271]

وقال الجبائي: كشف الله تعالى أجسام الجن حتى تهيأ لهم تلك الاعمال، معجزة لسليمان (ع) قال: انهم كانوا يبنون له البنيان، والغوص في البحار، وإخراج ما فيه من اللؤلؤ وغيره، وذلك لايتأتى مع رقة أجسامهم.

قال: وسخر له الطير بأن قوى أفهامها، حتى صارت كصبياننا الذين يفهمون التخويف والترغيب.

ثم قال واذكر يا محمد " أيوب إذ نادى ربه " أي حين دعاه، فقال يا رب " أني مسني الضر " أي نالني الضر يعني ما كان ناله من المرض والضعف.

قال الجبائي: كان به السلعة " وأنت ارحم الراحمين " فارحمني. وقيل انما فعل ذلك بايوب، ليبلغ بصبره على ذلك المنزلة الجليلة التي أعدها الله - عزوجل - له ولكل مؤمن فيما يلحقه من مصيبة اسوة بايوب، قال الجبائي: لم يكن ما نزل به من المرض فعلا للشيطان، لانه لايقدر على ذلك، وإنما آذاه بالوسوسة وما جرى مجراها.

قال الحسن: وكان الله تعالى أعطاه ما لا وولدا، فهلك ما له ومات ولده، فصبر، فأثنى الله عليه.

ثم قال تعالى " فاستجبنا له " يعني أجبنا دعاء‌ه ونداء‌ه " فكشفنا ما به من ضر " أي أزلنا عنه ذلك المرض " وآتيناه أهله ومثلهم معهم " قيل: رد الله اليه أهله الذين هلكوا بأعيانهم، وأعطاه مثلهم معهم - في قول ابن مسعود وابن عباس - وقال الحسن وقتادة: إن الله أحيا له أهله بأعيانهم وزاده اليهم مثلهم.

وقال عكرمة ومجاهد - في رواية - أنه خبر فاختار إحياء أهله في الآخرة، ومثلهم في الدنيا، فأوتي على ما اختار.

وقال ابن عباس: أبد له الله تعالى بكل شئ ذهب له ضعفين " رحمة من عندنا " أي نعمة منا عليه " وذكرى للعابدين " اي عظة يتذكر به العابدون لله تعالى مخلصين.

وقوله " واسماعيل وإدريس وذا الكفل " أي اذكر هؤلاء الذين عددتهم لك من الانبياء، وما أنعمت عليهم من فنون النعمة. ثم أخبر أنهم كانوا كلهم

[272]

" من الصابرين " يصبرون على بلاء الله، والعمل بطاعته. دون معاصيه.

وأختلفوا في ذي الكفل، فقال ابوموسى الاشعري، وقتادة، ومجاهد: كان رجلا صالحا، كفل لنبي بصوم النهار، وقيام الليل، وألا يغضب، ويقضي بالحق، فوفى لله بذلك، فأثنى الله عليه.

وقال قوم: كان نبيا، كفل بأمر وفى به.

وقال الحسن: هو نبي اسمه ذو الكفل.

وقال الجبائي: هو نبي، ومعنى وصفه بالكفل أنه ذو الضعف أي ضعف ثواب غيره، ممن في زمانه لشرف عمله.

قوله تعالى: (وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين(86) وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين(87) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين(88) وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين(89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين(90))

خمس آيات.

قرأ يعقوب " فظن ان لن يقدر عليه " بالياء مضمومة. وفتح الدال. الباقون بالنون، وكسر الدال، والمعنيان متقاربان.

[273]

يقول الله تعالى إنا ادخلنا هؤلاء الذين ذكرناهم من الانبياء " في رحمتنا " أي في نعمتنا، ومعنى (أدخلناهم في رحمتنا) غمرناهم بالرحمة.

ولو قال رحمناهم لما أفاد الاغمار، بل أفاد انه فعل بهم الرحمة، التي هي النعمة.

وقوله (انهم من الصالحين) معناه إنما ادخلناهم في رحمتنا، لانهم كانوا ممن صلحت أعمالهم، وفعلوا الطاعات، وتجنبوا المعاصي. و (صالح) صفة مدح في الشرع.

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله واذكر (ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه) والنون الحوت، وصاحبها يونس بن متى، غضب على قومه - في قول ابن عباس والضحاك - فذهب مغاضبا لهم، فظن ان الله لا يضيق عليه، لانه كان ندبه إلى الصبر عليهم والمقام فيهم من قوله " ومن قدر عليه رزقه "(1) أي ضيق، وقوله " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر "(2) أي يضيق، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك، واكثر المفسرين.

وقال الزجاج والفراء: معناه " ظن أن لن نقدر عليه " ما قدرناه.

وقال الجبائي: ضيق الله عليه الطريق حتى ألجأه إلى ركوب البحر حتى قذف فيه، وابتلعته السمكة.

ومن قال: ان يونس (ع) ظن أن الله لايقدر عليه من القدرة، فقد كفر. وقيل إنما عوتب على ذلك، لانه خرج مغاضبا لهم قبل أن يؤذن له، فقال قوم: كانت خطيئة، من جهة تأويله أنه يجوز له ذلك.

وقد قلنا: انه كان مندوبا إلى المقام فلم يكن ذلك محظورا، وانما كان ترك الاولى. فأما ما روي عن الشعبي وسعيد بن جبير من انه خرج مغاضبا لربه فلا يجوز ذلك على نبي من الانبياء، وكذلك لا يجوز أن يغضب لم عفى الله عنهم إذ آمنوا، لان هذا اعتراض على الله بما لايجوز في حكمته.

___________________________________

(1) سورة 65 الطلاق آية 7.

(2) سورة 13 الرعد آية 28

[274]

وقوله " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فالظلمات قيل: إنها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، على ما قاله ابن عباس وقتادة.

وقيل: حوت في بطن حوت، في قول سالم بن أبي حفصة.

وقيل: ان أكثر دعائه كان في جوف الليل في الظلمات. والاول أظهر في اقوال المفسرين.

وقال الجبائي: الغضب عداوة لمن غضب عليه، وبقاؤه في بطن الحوت حيا معجز له.

ولم يكن يونس في بطن الحوت على جهة العقوبة، لان العقوبة عداوة للمعاقب، لكن كان ذلك على وجه التأديب، والتأديب يجوز على المكلف وغير المكلف، كتأديب الصبي وغيره.

وقال قوم: معنى قوله " فظن أن لن نقدر " الاستفهام، وتقديره أفظن. وهذا ضعيف، لانهم لا يحذفون حرف الاستفهام إلا وفي الكلام عوض عنه من (أم) أو غيرها.

وقوله " اني كنت من الظالمين " أي كنت من الباخسين نفسي ثوابها، لو أقمت، لانه كان مندوبا اليه، ومن قال يجوز الصغائر على الانبياء، قال: كان ذلك صغيرة نقصت ثوابه. فأما الظلم الذي هو كبيرة، فلا يجوزها عليهم إلا الحشوية الجهال، الذين لا يعرفون مقادير الانبياء، الذين وصفهم الله بأنه اصطفاهم واختارهم. ثم اخبر تعالى انه استجاب دعاء‌ه ونجاه من الغم الذي كان فيه. ووعد مثل ذلك أن ينجي المؤمنين.

وقد قرأ ابوبكر عن عاصم " نجى المؤمنين " بنون واحدة مشددة الجيم. الباقون بنونين.

وهي في المصحف بنون واحدة حذف الثانية كراهة الجمع بين المثلين في الخط، ولان النون الثانية تخفى مع الجيم، ومع حروف الفم، ولا تظهر، ولذلك ظن قوم أنها ادغمت في الجيم، فقرؤها مدغما، وليس بمدغم. ولا وجه لقراء‌ة عاصم هذه

[275]

ولا لقول أبي عبيدة حاكيا عن أبي عمرو: ان النون مدغمة، لانها لا تدغم في الجيم.

وقال الزجاج: هذا لحن، ولا وجه لمن تأوله: نجى النجا المؤمنين، كما لايجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا.

وقال الفراء: هو لحن.

وقال قوم - محتجين لابي بكر - انه أراد فعلا ماضيا، على ما لم يسم فاعله، فاسكن الياء، كما قرأ الحسن " وذروا ما بقي من الربا "(1) أقام المصدر مقام المعفول الذي لايذكر فاعله، فكذلك نجى النجا المؤمنين، واحتجوا بأن أبا جعفر قرأ " لنجزى قوما "(2) في الجاثية على تقدير لنجزي الجراء قوما قال الشاعر.

ولو ولدت قفيرة جر وكلب *** لسب بذلك الجر والكلابا(3)

ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله واذكر " زكريا إذ نادى ربه " أي دعاه، فقال يا " رب لا تذرني فردا " أي وحيدا، بل ارزقني ولدا.

ثم قال " وأنت خير الوارثين " ومعناه أنت خير من يرث العباد من الاهل والولد، فقال الله تعالى إنا استجبنا دعاء‌ه " وهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه " قال قتادة: إنها كانت عقيما فجعلها الله ولودا.

وقيل: كانت سيئة الخلق، فرزقها الله حسن الخلق.

ثم اخبر " انهم كانوا يسارعون في الخيرات " أي يبادرون في فعل الطاعات " ويدعون " الله " رغبة " في ثوابه " ورهبة " من عقابه " وكانوا " لله " خاشعين " متواضعين.

وقال الجبائي: إجابة الدعاء لا تكون إلا ثوابا.

وقال ابن الاخشاذ: يجوز أن تكون استصلاحا لاثوابا، ولذلك لا يمتنع أن يجيب الله دعاء الكافر والفاسق.

فأما قولهم: فلان مجاب الدعوة، فلا يجوز اطلاقه على الكفار والفساق، لان فيه تعظيما وأن له منزلة جليلة عند الله. والامر بخلاف ذلك.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 278.

(2) سورة 45 الجاثية آية 13.

(3) تفسير القرطبى 11 / 335

[276]

قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين(91) إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون(92) وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون(93) فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون(94) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون(95))

خمس آيات.

قرأ اهل الكوفة إلا حفصا عن عاصم " وحرم " بكسر الحاء بلا الف. الباقون بفتح الحاء. وإثبات الالف، وهما بمعنى واحد.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله واذكر ايضا " التي أحصنت فرجها " يعني مريم بنت عمران. والاحصان إحراز الشئ من الفساد، فمريم أحصنت فرجها بمنعه من الفساد فأثنى الله عليها، ورزقها ولدا عظيم الشأن، لا كالاولاد المخلوقين من النطفة. وجعله نبيا.

وقوله " فنفخنا فيها من روحنا " معناه أجرينا فيها روح المسيح، كما يجري الهواء بالنفخ، وأضاف الروح إلى نفسه، على وجه الملك تشريفا له في الاختصاص بالذكر.

وقيل: إن الله تعالى أمر جبرائيل بنفخ الروح في فرجها، وخلق المسيح في رحمها.

وقوله " وجعلناها وابنها آية للعالمين " معناه إنا جعلنا مريم وابنها عيسى آية للعالمين.

وانما قال " آية " ولم يثن، لانه في موضع دلالة لهما، فلا يحتاج أن يثنى.

والآية فيهما أنها جاء‌ت به من غير فحل، فتكلم في المهد بما يوجب

[277]

براء‌ة ساحتها من العيب، وفي ذلك دليل واضح على سعة مقدوراته تعالى، وأنه يتصرف كيف شاء.

وقوله " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " قال ابن عباس ومجاهد والحسن: معناه دينكم دين واحد. واصل الامة الجماعة التي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة، لاجتماعهم بها على مقصد واحد.

وقيل: معناه جماعة واحدة في أنها مخلوقة مملوكة لله.

ونصب " أمة " على الحال، ويسميه الكوفيون قطعا.

ثم قال " وأنا ربكم " الذي خلقكم " فاعبدوني " ولا تشركوا بي احدا.

وقوله " وتقطعوا أمرهم بينهم " معناه اختلفوا في الدين بما لا يسوغ، ولا يجوز - في قول ابن زيد - ثم قال مهددا لهم " كل الينا راجعون " أي إلى حكمنا، في الوقت الذي لا يقدر على الحكم فيه سوانا، كما يقال: رجع أمرهم إلى القاضي أي إلى حكمه.

وقوله " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " قيل: الصالحات - ههنا - صلة الرحم، ومعونة الضعيف، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، والكف عن الظلم، ونحو ذلك من اعمال الخير، وانما شرط الايمان، لان هذه الاشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند الله.

وقوله " فلا كفران لسعيه " معناه لاجحود لاحسانه في عمله، وهو مصدر كفر كفرا وكفرانا، قال الشاعر:

من الناس ناس لا تنام خدودهم *** وخدي ولاكفران لله نائم(1)

وقوله " وإنا له كاتبون " أي ملائكتنا يثبتون ذلك ويكتبونه، فلا يضيع له لديه شئ.

وقوله " وحرام على قرية أهلكناها انهم لايرجعون " قيل: (لا) صلة،

___________________________________

(1) تفسير الطبري 17 / 61

[278]

والمعنى: حرام رجوعهم.

وقيل " انهم لا يرجعون " أي حال قبول التوبة.

وقال قوم: حرام على قرية أهلكناها، لانهم لا يرجعون.

وقال الزجاج: المعنى وحرام على قرية أهلكناها أن نتقبل منهم عملا لانهم لا يرجعون، أي لايتوبون أبدا.

وحرم وحرام لغتان مثل حل وحلال.

وقيل: في معنى " وحرام على قرية " معناه واجب عليهم ألا يرجعون إلى تلك القرية أبدا.

وقال الجبائي: معناه وحرام على قرية أهلكناها عقوبة لهم ان يرجعوا إلى دار الدنيا.

قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون(96) واقترب الوعد الحق فاذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ياويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين(97) إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون(98) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون(99) لهم فيها زفير وهم فيها لايسمعون(100))

خمس آيات.

قرأ ابن عامر " فتحت " مشددة، على التكثير. الباقون بالتخفيف.

يقول الله تعالى: إنه حرام على أهل قرية أهلكناها رجوعهم، " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " أي ينفرج السدان (يأجوج وماجوج) ويظهروا، والتقدير فتحت

[279]

جهة يأجوج ومأجوج، والفتح أنفراج الشئ عن غيره.

وقوله " وهم من كل حدب ينسلون " قال مجاهد: ان قوله " وهم " كناية عن الناس، يحشرون إلى أرض الموقف يوم القيامة.

وقال عبدالله بن مسعود: هو كناية عن يأجوج ومأجوج. ويأجوج ومأجوج إسمان أعجميان، وهما قبيلان. ولو كانا عربيين لكانا من أج النار، أو الماء الاجاج.

وقال قتادة: الحدب الاكم.

وقيل: هو الارتفاع من الارض بين الانخفاض، ومعناهما واحد.

والحدبة خروج الظهر، يقال: رجل أحدب إذا احدودب كبرا.

وقوله " ينسلون " فالنسول الخروج عن الشئ الملابس، يقال: نسل ينسل وينسل نسولا، قال امرؤ القيس:

وان كنت قد ساء‌تك مني خليقة *** فسلي ثيابي من ثيابك تنسل(1)

ونسل ريش الطائر إذا سقط.

وقيل: النسول الخروج باسراع مثل نسلان الذئب، قال الشاعر:

عسلان الذئب أمسى قاريا *** برد الليل عليه فنسل(2)

وقوله تعالى " واقترب الوعد الحق " قال قوم: الواو مقحمة والتقدير اقترب الوعد الحق، يعني القيامة.

وقال آخرون: ليست مقحمة، بل الجواب محذوف، وهو الاجود، والتقدير على قول الاولين " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون... اقترب الوعد الحق " ذكره الفراء قال: وهومثل قوله " وتله للجبين وناديناه "(3) وكقوله (حتى إذا جاؤها وفتحت)(4) والمعنى فتحت.

وعلى قول البصريين الواو مرادة والتقدير حتى إذا فتحت، واقترب الوعد الحق، قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة.

وقيل: خروج يأجوج ومأجوج من اشراط الساعة.

___________________________________

(1) شرح ديوانه 147.

(2) تفسير الطبري 17 / 66.

(3) سورة 37 الصافات آية 103.

(4) سورة 39 الزمر آية 73

[280]

وقوله (فاذا هي شاخصة) قيل ان الضمير في قوله (فاذا هي) عائد إلى معلوم ينبه عليه ابصار الذين كفروا، كما قال الشاعر:

لعمر ابيها لا تقول ظعينتي *** إلا فرعني مالك ابن أبي كعب(1)

فكنى في ابيها ثم بين ذكرها.

وقال قوم: إضمار العماد على شروط التفسير كقوله تعالى (فانها لاتعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(2) وقوله (يا ويلنا) أي يقول الكفار الذين شخصت أبصارهم: الويل لنا إناقد كنا في غفلة من هذا اليوم، وهذا المقام، بل كنا ظالمين لنفوسنا بارتكاب معاصي الله، فيقول الله تعالى لهم (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم انتم لها واردون) والمعنى انكم ايها الكافرون والذي عبدتموه من الاصنام والاوثان حصب جهنم.

وقال ابن عباس: وقودها.

وقال مجاهد: حطبها.

وقيل: انهم يرمون فيها، كما يرمى بالحصباء - في قول مجاهد، وقال: إنما يحصب بهم أي يرمى بهم.

وقرأ (على) (ع)، وعائشة (حطب). وقرأ الحسن (حضب) بالضاد. ومعناه ما تهيج به النار وتذكابه. والحضب الحية.

وقوله (انتم لها واردون) خطاب لجميع الكفار انهم يردون جهنم ويدخونها لا محالة، فالورود قد يكون الدخول، كقولهم وردت الدار، أي دخلتها، ويكون بالاشراف، كقوله (ولما ورد ماء مدين)(3) ومعناه أشرف عليه. والمراد في الآية الدخول، لان الكفار يدخلون النار لامحالة.

ثم قال تعالى: لو كان هذه الاصنام والاوثان آلهة لم يردوا جهنم. ويحتمل:

___________________________________

(1) تفسير الطبرى 17 / 66 والقرطبى 11 / 342.

(2) سورة 22 الحج آية 46.

(3) سورة 28 القصص آية 22

[281]

أن يكون أراد ما وردت الاصنام جهنم، لانه كان يكون عبادتهم واقعة موقعها، ولكانوا يقدرون على الدفاع عنهم والنصرة لهم. ثم اخبر تعالى ان كل في جهنم خالدون، مؤبدون فيها. وأن لهم في جهنم زفيرا، وهو شدة التنفس.

وقيل: هو الشهيق لهول ما يرد عليهم من النار (وهم فيها) يعني في جهنم (لا يسمعون) قال الجبائي: لا يسمعون ما ينتفعون به، وإن سمعوا ما يسؤهم.

وقال ابن مسعود: يجعلون في توابيت من نار، فلا يسمعون شيئا.

وقال قوم: المراد بقوله (وما يعبدون من دون الله) الشياطين الذين دعوهم إلى عبادة غير الله، فأطاعوهم، فكأنهم عبدوهم، كما قال (يا أبت لا تعبد الشيطان)(1) أي لا تطعه.

___________________________________

(1) سورة 19 مريم آية 44

[282]

قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسني أولئك عنها مبعدون(101) لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون(102) لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقيهم الملئكة هذا يومكم الذي كنتم توعدن(103) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين(104) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون(105))

خمس آيات.

قرأ اهل الكوفة إلا ابا بكر (للكتب) على الجمع. الباقون (للكتاب) على التوحيد.

وقرأ حمزة وحده (الزبور) بضم الزاي. من ضم الزاي أراد الجمع. ومن فتحها اراد الواحد.

يقال: زبرت الكتاب أزبره زبرا إذا كتبته.

لما اخبر الله تعالى: ان الكفار حصب جهنم وانهم واردون النار، وداخلون فيها مؤبدين، اخبر (ان الذين سبقت لهم منا الحسنى) يعني الوعد بالجنة.

وقيل: الحسنى الطاعة لله تعالى يجازون عليها قي الآخرة بما وعدهم الله به.

واخبر تعالى ان من هذه صفته مبتعد عن النار ناء عنها، ويكونون بحيث (لا يسمعون حسيسها) يعني صوتها، الذي يحس، وإنهم في ما تشتهيه أنفسهم من الثواب والنعيم خالدون والشهوة طلب النفس للذة يقال: اشتهى شهوة وتشهى تشهيا، ونقيض الشهوة تكره النفس، فالغذاء يشتهى والدواء يتكره.

وقيل: الحسنى الجنة التي وعد الله بها المؤمنين.

وقال ابن زيد: الحسنى السعادة لاهلها من الله، وسبق الشقاء لاهله، كأنه يذهب إلى ان معنى الكلمة انه: سيسعد أو أنه سيشقى.

وقال الحسن ومجاهد: الذين سبقت لهم منا الحسنى عيسى، وعزير، والملائكة الذين عبدوا من دون الله، وهم كارهون، استثناهم من جملة من اخبر انهم مع الكفار في جهنم.

وقوله " لا يحزنهم الفزع الاكبر " معناه لا يغم الذين سبقت لهم من الله الحسنى الفزع الاكبر. ومن ضم الياء أراد لا يفزعهم الفزع الاكبر.

قال ابن جبير، وابن جريج: هو عذاب النار، على أهلها.

وقال ابن عباس: هي النفخة الاخيرة.

وقال الحسن: هو حين يؤمر بالعبد إلى النار " وتتلقاهم الملائكة " قيل تتلقاهم الملائكة بالتهنئة ويقولون لهم " هذا يومكم الذي كنتم توعدون " به أي تخوفون بما فيه من العقاب، وترغبون فيما فيه من الثواب.

[283]

وقوله " يوم نطوي السماء " يحتمل نصب (يوم) وجهين: احدهما - أن يكون بدلا من (توعدون) لان تقديره توعدونه. الثاني - انه نعدكم يوم نطوي السماء.

وقوله " كطي السجل للكتاب " فالسجل الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة، فشبه الله تعالى طي السماء يوم القيامة بطي الكتاب - في قول ابن عباس ومجاهد - وقال ابن عمر، والسدي: السجل ملك يكتب اعمال العباد.

وقال ابن عباس - في رواية أخرى - السجل كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وآله والتقدير كطي الكتاب السجل، واللام مؤكدة. ويحتمل أن يكون المعنى كطي السجل، وقدتم الكلام.

ثم قال للكتب أي لما كتبناه وعلمناه، فعلنا ذلك، كما قال " ولو لا كلمة سبقت "(1) وقوله " كما بدأنا أول خلق نعيده " المعنى نعيد الخلق كما بدأناه.

قال ابن عباس: معناه انه يهلك كل شئ، كما كان أول مرة.

ثم قال: إن الذي ذكرناه وعيد منا لازم نفعله لا محالة.

ثم قال تعالى " ولقد كتبنا في الزبور " قيل الزبور كتب الانبياء " من بعد الذكر " من بعد كتبه في أم الكتاب - في قول سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد.

وقيل: الزبور، زبور داود، من بعد الذكر في توراة موسى - في قول الشعبي - وقال قوم " من بعد الذكر " معناه قبل الذكر الذي هو القرآن، حكاه ابن خالوية.

وقوله " ان الارض يرثها عبادي الصالحون " قال ابن عباس وسعيد بن جبير وابن زيد: يعني أرض الجنة يرثها الصالحون من عباد الله، كما قال " وأورثنا الارض

___________________________________

(1) سورة 10 يونس آية 19، وسورة 11 هود آية 111، وسورة 20 طه آية 129، وسورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 45، وسورة، 24 الشورى آية 14

[284]

نتبوأ من الجنة حيث نشاء "(1) وقيل: هي الارض في الدنيا تصير للمؤمنين في أمة محمد صلى الله عليه وآله من بعد اجلاء الكفار عنها - في رواية اخرى - عن ابن عباس.

وقيل: يعني أرض الشام، يرثها الصالحون من بني اسرائيل ذكره الكبي.

وعن ابي جعفر (ع) إن ذلك وعد للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الارض.

قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين(106) وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين(107) قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون(108) فان تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بيعد ما توعدون(109) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون(110) وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين(111) قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون(112))

سبع آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى " إن في هذا " المعنى الذي أخبرتكم به، مما توعدنا به الكفار، من النار والخلود فيها، وما وعدنا به المؤمنين من الجنة والكون فيها " لبلاغا " وقيل: " ان في هذا " يعني القرآن " لبلاغا " أي لما يبلغ إلى البغية من أخذ به، وعمل عليه. والبلوغ الوصول. والبلاغ سبب الوصول إلى الحق، ففي البرهان بلاغ، والقرآن دليل وبرهان.

___________________________________

(1) سورة 39 الزخرف آية 74

[285]

وقيل: معناه إنه يبلغ رضوان الله ومحبته وجزيل ثوابه " لقوم عابدين " لله مخلصين له.

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله (وما أرسلناك) يا محمد (إلا رحمة للعالمين) أي نعمة عليهم، ولان ترحمهم.

وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة في أنه: ليس لله على الكافرين نعمة. لانه تعالى بين ان إرسال الله رسوله نعمة على العالمين. وعلى كل من أرسل اليهم.

ووجه النعمة على الكافر انه عرضه للايمان ولطف له في ترك معاصيه.

وقيل: هي نعمة على الكافر بأن عوفي مما اصاب الامم قبلهم من الخسف والقذف - في قول ابن عباس - ثم قال له صلى الله عليه وآله قل لهم (انما يوحي الي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون) اي مسلمون لهذا الوحي الذي أوحي الي، من اخلاص الالهية والعبادة لله تعالى.

ثم قال (فان تولوا) يعني إن اعرضوا عن هذا الذي تدعوهم اليه من إخلاص التوحيد، فقل لهم (آذنتكم على سواء) أي اعلمتكم على سواء في الايذان تتساوون في العلم به لم اظهر بعضكم على شئ كتمته عن غيره، وهو دليل على بطلان قول أصحاب الرموز، وأن للقرآن بواطن خص بالعلم بها اقوام.

وقيل على سواء (في العلم اني صرت مثلكم، ومثله قوله " فانبذ اليهم على سواء)(1) أي ليستوي علمك وعلمهم. وقيل معناه: لتستووا في الايمان به.

وقوله (وإن أدري اقريب أم بعيد ما توعدون) معناه لست اعلم ان ما وعدكم الله به من العقاب اقريب مجيؤه ام بعيد.

وقوله (وإن ادري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) اي لست ادري لعل التأخير شدة في عبادتكم يظهر بها ما هو كالسر فيكم من خير أو شر، فيخلص الجزاء بحسب العمل. واصل الفتنة التخليص

___________________________________

(1) سورة 8 الانفال آية 59. وما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

[286]

بالشدة، كتخليص الذهب بشدة النار من كل شائب من غيره.

وقيل (فتنة لكم) اي اختبار لكم (ومتاع إلى حين) أي تتمتعون إلى الوقت الذي قدره الله لاهلاككم.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (قل) يا محمد (رب احكم بالحق) انما أمره أن يدعو بما يعلم انه لابد أن يفعله تعبدا، لانه إذا دعا بهذا ظهرت رغبته في الحق الذي دعا به.

وقال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وآله اذا شهد قتالا قال (رب احكم بالحق) بيني وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع. وقرأ حفص وحده (قال رب أحكم) على الخبر. الباقون على الامر، وضم الباء ابوجعفر اتباعا لضم الكاف. الباقون بكسرها على أصل حركة إلتقاء الساكين.

وقوله (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) أي على ما تذكرون، مما ينافي التوحيد. وحكي عن الضحاك انه قرأ (قال ربي أحكم) باثبات الياء، وهو خلاف ما في المصاحف، ويكون على هذا (ربي) مبتدأ و (أحكم) خبره، كقوله (الله احسن الخالقين)(1).

وقرا ابن ذكران عن ابن عامر (عما يصفون) بالياء يعني على ما يكذب هؤلاء الكفار من انكار البعث. الباقون بالتاء على الخطاب لهم بذلك.

___________________________________

(1) سورة 13 المؤمنين آية 14




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21400194

  • التاريخ : 18/04/2024 - 20:45

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net