00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المؤمنون 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السابع)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

23 - سورة المؤمنون

مكية بلا خلاف، وهو قول قتادة ومجاهد: وهي مئة وثمان عشرة آية في الكوفي، وتسع عشرة في البصري، والمدنيين، وليس فيها ناسخ ولامنسوخ، إلا ما روي أنهم كانوا يجيزون الالتفات يمينا وشمالا وإلى ما وراء نسخ ذلك بقوله " في صلاتهم خاشعون " فلم يجيزوا أن ينظر المصلي إلا إلى موضع سجوده.

الآية: 1 - 25

بسم الله الرحمن الرحيم

(قد أفلح المؤمنون(1) ألذين هم في صلاتهم خاشعون(2) والذين هم عن اللغو معرضون(3) والذين هم للزكوة فاعلون(4) والذين هم لفروجهم حافظون(5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فانهم غير ملومين(6) فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون(7))

سبع آيات يقول الله تعالى (قد أفلح المؤمنون) أي فازوا بثواب الله، الذين صدقوا بالله واقروا بواحدانيته وصدقوا رسله.

[348]

وقيل: معناه، قد سعدوا، قال لبيد:

فاعقلي ان كنت لما تعقلي *** ولقد أفلح من كان عقل(1)

وقيل معنى (أفلح) بقي أي بقيت أعمالهم الصالحة، ومنه قولهم (حي على الفلاح) أي على بقاء أعمال الخير، ومعنى (قد) تقريب الماضي من الحال، فدل على أن فلاحهم قد حصل بما هم عليه في الحال، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفعل.

ثم وصف هؤلاء المؤمنين بأوصاف، فقال (الذين هم في صلاتهم خاشعون) أي خاضعون متذللون لله فيها.

وقيل: معناه يسعون، مقبلون على الصلاة بالخضوع والتدلل لربهم.

وقيل: معناه خائفون.

وقال مجاهد: هو غض الطرف وخفض الجناح.

وقيل: أن ينظر المصلي إلى موضع سجوده.

وكان النبي صلى الله عليه وآله برفع بصره إلى السماء. فلما نزلت هذه الآية طأطأ رأسه، ونظر إلى مصلاه. والخشوع في الصلاة هو الخضوع بجمع الهمة لها، والاعراض عما سواها، لتدبر ما يجري فيها: من التكبير، والتسبيح، والتحميد لله، وتلاوة القرآن. وهو موقف الخاضع لربه الطالب لمرضاته بطاعاته. ثم زاد في صفاتهم فقال (والذين هم عن اللغو معرضون) واللغو هو القول والفعل الذي لا فائدة فيه يعتد بها، وهو قبيح على هذا الوجه.

وقال ابن عباس: اللغو - ههنا - الباطل.

وقال السدي: هو الكذب.

وقال الكلبي هو الحلف.

وحكى النقاش: انهم نهوا عن سباب الكفار إذا سبوهم، وعن محادثتهم.

ثم قال (والذين هم للزكاة فاعلون) أي يؤدون ما يجب عليهم في أموالهم من الصدقات، وسميت زكاة، لانه يزكوبها المال عاجلا وآجلا.

ثم قال (والذين هم لفروجهم حافظون) قيل عنى بالفروج - ههنا - فرج الرجل خاصة بدلالة قوله (الاعلى أزواجهم

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1 / 59 من هذا الكتاب

[349]

او ما ملكت ايمانهم) ثم استثنى من الحافظين لفروجهم من لا يحفظ فرجه عن زوجته، أو ما تملك يمينه من الاماء على ما أباحه الله له، لان التزويج ينبغي أن يكون، على وجه اباحة الله تعالى.

و (ملك اليمين) في الآية المراد به الاماء لان الذكور من المماليك لاخلاف في وجوب حفظ الفرج منهم. ومن ملك الايمان، لا يجمع بين الاختين في الوطئ، ولابين الام والبنت. وكل ما لم يجز الجمع بينهم في العقد، فلا يجوز الجمع بينهم في الوطئ بملك اليمين.

ولايخرج من الآية وطؤ المتمتع بها، لانها زوجة عندنا، وإن خالف حكمها حكم الزوجات في احكام كثيرة، كما أن حكم الزوجات مختلف في نفسه. وذكره تعالى هذه الاوصاف ومدحه عليها يكفي ويغني عن الامربها، لمافيها من الترغيب كالترغيب في الامر، وأنها مرادة، كما أن المامور به مراد، وكلها واجب.

وانما قيل للجارية (ملك يمين) ولم يقل في الدار (ملك يمين) لان ملك الجارية أخص من ملك الدار إذ له نقض بنية الدار، وليس له نقض بنية الجارية، وله عارية الدار، وليس له عارية الجارية، حتى توطأ بالعارية، فلذلك خص الملك في الامة، وانما قال " إلا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فانهم غير ملومين " مع تحريم وطئها على وجوه: كتحريم وطئ الزوجة.

والامة في حال الحيض، ووطئ الجارية إذا كان لها زوج، أو كانت في عدة من زوج.

وتحريم وطئ المظاهرة قبل الكفارة، لان المراد بذلك على ما يصح ويجوز، مما بينه الله، وبينه رسوله في غير هذا الموضع، وحذف لانه معلوم، وهي من الامور العارضة في هذه الوجوه ايضا، فان من وطأ الزوجة أو الامة في الاحوال التي حرم عليه وطؤها، فانه لايلزمه اللوم من حيث كانت زوجة أو ملك يمين وإنما يستحق اللوم من وجه آخر. واللوم والذم واحد، وضدهما الحمد والمدح.

[350]

ثم قال تعالى " فمن ابتغى وراء ذلك " ومعناه من طلب سوى ذلك يعني الزوجية، وملك اليمين، فهو عاد. والابتغاء والبغية الطلب.

والبغاء طلب الزنا، والباغي طالب الاعتداء.

و (العادون) هم الذين يتعدون الحلال إلى الحرام.

وقوله " وراء " - ههنا - قيل: معناه غير.

وقال الفراء معناه " إلا على أزواجهم " إلا من أزواجهم " أو ما ملكت أيمانهم " في موضع خفض.

قوله تعالى: (والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون(8) والذين هم على صلواتهم يحافظون(9) أولئك هم الوارثون(10) ألذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون(11))

أربع آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وحده " لامانتهم " على التوحيد. الباقون " لاماناتهم " على الجمع، لقوله " إن الله يأمركم أن تؤدوا الآمانات إلى أهلها "(1) وقرأ ابن كثير ذلك اختيارا ليطابق قوله (وعهدهم).

وقرأ حمزة والكسائي (على صلاتهم) على التوحيد، لان الصلاة اسم جنس يقع على القليل والكثير، فكذلك قوله (أمانتهم) والاصل فيه المصدر كالعمل. الباقون (صلواتهم) على الجمع، ومن جمع جعله بمنزلة الاسم، لاختلاف انواعها، لقوله (حافظوا على الصلوات)(2) قال ابو علي النحوي: الجمع أقوى، لانه صار اسما شائعا شرعيا، وقد بينا الوجه فيه.

ثم زاد الله تعالى في صفات المؤمنين الذين وصفهم بالفلاح فقال والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون) ومعناه الذين يراعون الامانات التي يؤتمنون عليها ولا

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 57.

(2) سورة 2 البقرة آية 238

[351]

يحزنون فيها، ويحفظون ما يعاهدون عليه من الايمان والنذور، فلا يحنثون ولا ينكثون. والمراعات قيام الراعي باصلاح ما يتولاه.

ثم قال (والذين هم على صلواتهم يحافظون) أي لا يضيعونها. ويواظبون على أدائها. وفى تفسير أهل البيت إن معناه: الذين يحافظون على مواقيت الصلوات فيؤدونها في أوقاتها، ولا يؤخرونها حتى يخرج الوقت. وبه قال مسروق وجماعة من المفسرين. وانما أعيد ذكر الصلاة - ههنا - لانه أمر - ههنا - بالمحافظة عليها، كما امر بالخشوع فيها، في ما تقدم، كما أعيد ذكر الفلاح، لانه يجب بالخصال المذكورة بعده كما وجب في - سورة البقرة -(1) بالخصال المذكورة قبله.

ثم اخبر تعالى عمن اجتمعت فيه هذه الخصال، فقال " أولئك هم الوارثون " وقيل في معناه قولان: احدهما - انه يؤل أمره إلى النعيم في الجنة، ويملك ما يعطيه الله، كما يؤل أمر الواورث الثاني - روى أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (ما منكم أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فان مات على الضلال ورث منزله أهل الجنة، وإن مات على الايمان، ورث هو منزل اهل النار).

وقال مجاهد: يهدم منزله في النار، ثم وصف الله تعالى الوارثين، فقال (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) وحقيقة الارث ملك ما يتركه الميت لمن بعده، ممن هو أولى به في حكم الله، فهذا أصله، ثم يشبه به، فيقال: ورث فلان علم فلان أي صار اليه، ومعنى (يرثون الفردوس) اي يصيرون اليها بعد الاحوال المتقدمة. والفردوس البستان الذي يجمع محاسن النبات. وقيل اصله رومي.

وقيل: بل هو عربي ووزنه (فعلول) وقيل الفردوس البستان.

___________________________________

(3) انظر 1 / 48 في تفسير آية 5 من سورة البقرة

[352]

الذي فيه كرم قال جرير: ما بعد يبرين ما باب الفراديس(1) وقال الجبائي (يرثون الفردوس) على التشبيه بالميراث المعروف من جهة الملك الذي ينتهي اليه أمره.

قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين(12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين(13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين(14) ثم إنكم بعد ذلك لميتون(15) ثم إنكم يوم القيمة تبعثون(16))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن عامر وابوبكر عن عاصم " عظما " في الموضعين على التوحيد. الباقون على الجمع. فمن وحد، فلانه اسم جنس يقع على القليل والكثير.

ومن جمع، فلقوله " أ إذا كنا عظاما ورفاتا "(2) وقوله " أ إذا كنا عظاما نخرة "(3) وقوله " من يحيي العظام "(4) وما أشبه ذلك.

___________________________________

(1) ديوانه 250 وصدره: (فقلت للرحل إذ جد الرحيل بنا) ويبرين اسم بلد من بلاد بني سعد. وباب الفراديس بدمشق.

(2) سورة 17 الاسرى آية 49، 98.

(3) سورة 79 النازعات آية 11.

(4) سورة 36 يس آية 78

[353]

يقول الله تعالى على وجه القسم، انه: خلق " الانسان من سلالة من طين " فقال ابن عباس ومجاهد: المراد بالانسان كل انسان، لانه يرجع إلى آدم الذي خلق من سلالة.

وقال قتادة: المراد بالانسان آدم، لانه استل من أديم الارض.

وقيل: استل من طين.

والسلالة صفوة الشئ التي تخرج منه، كأنها تستل منه. والسلالة صفوة الشئ التي تجري قبل ثفله، وكدره، لانها متقدمة على ثفله، كتقديم السلف والاجر على الآخرة. وقد تسمى النطفة سلالة والولد أيضا سلالة وسليلة. والجمع سلالات، وسلائل، قال الشاعر:

وهل كنت إلا مهرة عربية *** سليلة أفراس تجللها بغل(1)

وقال آخر:

فجاء‌ت به عضب الاديم غضنفرا *** سلالة فرج كان غير حصين(2)

وقال آخر: يقذفن في أسلابها بالسلائل(3) وقال آخر:

إذا نتجت منها المهارى تشابهت *** على القود لا بالانوف سلائله(4)

وفي الآية دلالة على أن الانسان هو هذا الجسم المشاهد، لانه المخلوق من نطفة، والمستخرج من سلالة، دون ما يذهب اليه قوم: من انه الجوهر البسيط، او شئ لايصح عليه النركيب والانقسام، على ما يذهب اليه معمر وغيره.

___________________________________

(1) تفسير القرطبي 12 / 109 والطبرى 18 / 6.

(2) تفسير الطبري 18 / 6 وتفسير القرطبي 12 / 109 وقد نسبه لحسان، وروايته (حملت) بدل (فجاء‌ت).

(3، 4) تفسير الطبرى 18 / 6

[354]

وقوله " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " المعنى جعلنا الانسان، وهو من ولد من نسل آدم " نطفة " وهي القطرة من ماء المني التي يخلق الله منها الحيوان، على مجرى العادة في التناسل، فيخلق الله من نطفة الانسان إنسانا ومن نطفة كل حيوان ما هو من جنسه. ومعنى " مكين " أي مكين لذاك، بأن هيئ لاستقراره فيه إلى بلوغ أمده الذي جعل له.

وقوله " ثم خلقنا النطفة علقة " فالعلقة القطعة من الدم إذا كانت جامدة، فبين الله تعالى أنه يصير تلك النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، وهي القطعة من اللحم. ثم اخبر انه يجعل المضغة " عظاما ".

وقرئ " عظما " وهي قراء‌ة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم.

فمن قرأ " عظاما " أراد ما في الانسان من أقطاع العظم.

ومن قرأ " عظما " فلانه اسم جنس يدل على ذلك.

ثم بين تعالى انه يكسو تلك " العظام لحما " ينشئه فوقها، كما تكسى الكسوة.

وقوله ثم " انشأناه خلقا آخر " يعني بنفخ الروح فيه - في قول ابن عباس ومجاهد - وقيل: نبات الاسنان والشعر، واعطاء العقل والفهم.

وقيل " خلقا آخر " معناه ذكر او انثى.

ثم قال " فتبارك الله أحسن الخالقين " ومعنى (تبارك) استحق التعظيم بأنه قديم لم يزل، ولا يزال، وهو مأخوذ من البروك، وهو الثبوت.

وقوله " احسن الخالقين " فيه دلالة على ان الانسان قد يخلق على الحقيقة، لانه لو لم يوصف بخالق إلا الله، لما كان لقوله " أحسن الخالقين " معنى.

وأصل الخلق التقدير، كما قال الشاعر:

ولانت تفري ما خلقت وبع‍ *** ض القوم يخلق ثم لايفري(1)

ثم خاطب الخلق.

فقال (ثم إنكم) معاشر الخلق بعد هذا الخلق والاحياء

___________________________________

(1) * مر تخريجه في 6 / 369

[355]

(لميتون) أي تموتون عند انقضاء آجالكم.

يقولون لمن لم يمت ويصح عليه الموت: ميت ومائت. ولا يقولون لمن مات: مائت. وكذلك في نظائره سيد وسائد.

وقوله (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) أي تحشرون إلى الموقف والحساب والجزاء بعد أن كنتم أمواتا، ولايدل ذلك على أنه لايحييهم في القبور للمسألة، لان قوله: انه يميتهم عند فناء آجالهم ويبعثهم يوم القيامة، لا يمنع من أن يحييهم فيما بين ذلك، ألا ترى أن القائل لو قال: دخلت بغداد في سنة مئة. وخرجت منها في سنة عشر ومئة، لم يدل على أنه لم يخرج فيما بينهما وعاد، فكذلك الآية. على ان الله تعالى اخبر انه أحيا قوما، فقال لهم الله موتوا، ثم أحياهم، فلابد من تقدير ما قلناه للجميع. وفيه دلالة على بطلان قول معمر، والنظام في الانسان.

قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وماكنا عن الخلق غافلين(17) وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون(18) فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون(19) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للاكلين(20))

أربع آيات بلا خلاف.

قرأ اين كثير ونافع وابوعمرو " سيناء " بكسر السين، ولم يصرف، لانه إسم البقعة. الباقون بفتح السين. وقرأ ابن كثير وابوعمرو " تنبت " بضم التاء وكسر الباء. الباقون بفتح التاء وضم الياء.

[356]

من كسرالسين من " سيناء "، فلقوله " طور سينين "(1) والسيناء الحسن، وكل جبل ينبت الثمار فهو سينين. ومن فتح السين، فلانه لغتان. وأصله سرياني، ومن فتح السين لايصرفه في المعرفة ولا النكرة، لان الهمزة في هذا البناء لاتكون إلا للتأنيث، ولا تكون للالحلاق، لان (فعلال) لا يكون إلا في المضاعف مثل (الزلزال والقلقال) ومن كسر السين، فالهمزة عنده منقلبة عن الياء ك‍ (علياء، وحوباء) وهي التي تظهر في قولك (سيناية) لما بنيت للتأنيث. وانما لم يصرف على هذا القول، وإن كان غير مؤنث، لانه جعل اسم بقعة أو ارض، فصار بمنزلة امرأة سميت ب‍ (جعفر).

ومن ضم التاء من " تنبت " لم يعده بالباء، وأراد تنبت الدهن.

قال ابوعلي الفارسي: ويحتمل أن يكون الباء متعلقا بغير هذا الفعل الظاهر، وتقدر مفعولا محذوفا، وتقديره: تنبت ثمرها وفيها دهن وصبغ. ومن فتح التاء عدى الفعل بالباء. كقولهم: ذهبت يزيد وأذهبت زيدا، ويجوز أن يكون الباء في موضع الحال، ولايكون للتعدي. مثل ما قلناه في الوجه الاول وتقديره تنبت وفيها دهن.

يقول الله تعالى " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق " يعني سبع سماوات، خلقها الله فوق الخلائق، وسماها طرائق، لان كل طبقة طريقة.

وقال الجبائي: لانها طرائق للملائكة، وقال ابن زيد: الطرائق السماوات الطباق.

وقال الحسن: ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام وكذلك ما بين السماء والارض.

وقوله " وما كنا عن الخلق غافلين " معناه ما كنا غافلين ان ينزل عليهم ما يحييهم من المطر. ويحتمل أن يكون أراد ما كنا غافلين عن أفعالهم، وما يستحقون بها من الثواب والعقاب، بل نحن عالمون بجميع ذلك. وقيل " وما كنا عن الخلق

___________________________________

(1) سورة 95 التين آية 2

[357]

غافلين " بل كنا حافظين للسماء من أن تسقط عليهم، فتهلكهم. والغفلة ذهاب المعنى عن النفس. ومثله السهو، فالعالم لنفسه لايجوز عليه الغفلة، لانه لاشئ إلا وهو عالم به. وإنما ذكر الغفلة بعد الطرائق، لان من جاز عليه الغفلة عن العباد جاز عليه الغفلة عن الطرائق التي فوقهم، فتسقط عليهم، فأمسك الله تعالى طرائق السموات أن تقع على الارض إلا باذنه. ولولا إمساكه لها لم تقف طرفة عين.

وقوله " وأنزلنا من السماء ماء بقدر " أي أنزلنا المطر والغيث بقدر الحاجة، لايزيد على قدر الحاجة، فيفسد، ولا ينقص عنها فيهلك، بل وفق الحاجة.

وقوله " فاسكناه في الارض " يعني انه تعالى أسكن الماء المنزل من السماء في الارض واثبته في العيون والاودية.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (أربعة أنهار من الجنة: النيل، والفرات، وسيحان، وجيحان).

ثم قال تعالى " وإنا على ذهاب به لقادرون " لا يعجزنا عن ذلك شئ، ولو فعلناه لهلك جميع الحيوان، فنبههم بذلك على عظم نعمة الله على خلقه، بانزال الماء من السماء.

ثم اخبر تعالى انه ينشئ للخلق بذلك الماء (جنات) وهي البساتين (من نخيل وأعناب) لتنتفعوا بها معاشر الخلق (لكم فيها فواكه كثيرة) تفكهون بها (ومنها تأكلون) وانما خص النخيل والاعناب، لانها ثمار الحجاز، من المدنية والطائف. فذكرهم الله تعالى بالنعم التي يعرفونها.

وقوله (وشجرة تخرج من طور سيناء) انما خص الشجرة التي تخرج من طور سيناء، لما في ذلك من العبرة، بأنه لا يتعاهدها إنسان بالسقي، ولا يراعيها احد من العباد، تخرج الثمرة التي يكون فيها الدهن الذي تعظم الفائدة وتكثر المنفعة به.

وسيناء البركة، كأنه قال جبل البركة - وهو قول ابن عباس ومجاهد - وقال قتادة

[358]

والضحاك: معناه الحسن.

وقال ابن عباس: طور سيناء إسم الجبل الذي نودي منه موسى (ع) وهو كثير الشجر قال العجاج: دانى جناحيه من الطور فمر(1) وقيل يحتمل ان يكون (سيناء: فيعالا) من السنة، وهو الارتفاع. والشجرة قيل انها شجرة الزيتون.

وقوله (تنبت بالدهن) أي تنبت ثمرها بالدهن. ومن فتح التاء فمعناه تنبت بثمر الدهن.

وقيل نبت وأنبت لغتان قال زهير:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطينا بها حتى إذا أنبت البقل(2)

وقيل الباء زائدة، والمعنى تنبت ثمر الدهن، كما قال الراجز:

نحن بنو جعدة أرباب الفلج *** نضرب بالبيض ونرجوا بالفرج(3)

أي نرجوا الفرج.

وقوله (وصبغ للآكلين) أي وجعلناه مما يتأدم به الانسان ويصطبغون به من الزيت والزيتون. والاصطباغ ان يغمز فيه ثم يخرجه ويأكله.

___________________________________

(1) مر هذا الرجز في 1 / 286.

(2) ديوانه (دار بيروت) 62.

(3) تفسير الطبري 18 / 10 والقرطبي 12 / 115

[359]

قوله تعالى: (وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون(21) وعليها وعلى الفلك تحملون(22) ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون(23) فقال الملؤ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملئكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين(24) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين(25))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن عامر ونافع وابوبكر عن عاصم " نسقيكم " بفتح النون. الباقون بضمها.

قال بعضهم: هم لغتان سقيت وأسقيت، قال الشاعر:

سقى قومي بني مجد واسقى *** نميرا والقبائل من هلال(1)

ولا يجوز ان يكون المراد في البيت (وأسقى) مثل قوله " وأسقيناكم ماء فراتا "(2) لانه لايكون قد دعا لقومه وخاصته بدون ما دعا للاجنبي البعيد عنه. والصحيح ان سقيت للشفة واسقيت للانهار والانعام تقول: دعوت الله ان يسقيه.

ومن قرأ بضم النون أراد: انا جعلنا ما في ضروعها من الالبان سقيا لكم، كما يقال: أسقيناهم نهرا إذا جعلته سقيا لهم، وهذا كأنه اعم، لان ما هو سقيا لا يمتنع أن يكون للشفة، وما يكون للشفة - فقط - يمتنع أن يكون سقيا. وما أسقانا الله من البان الانعام أكثر مما يكون للشفة ومن فتح النون جعل ذلك مختصا به الشفاه دون المزارع والمراعي، فلم يكن مثل الماء في قوله " فأسقينا كموه "(3) وقوله " وأسقيناكم ماء فراتا " لان ذلك يصلح للامرين، ومن ثم قال " وسقاهم ربهم شرابا طهورا "(4) وانما قال ههنا " مما في بطونها " وفي النحل " بطونه "(5) لانه إذا أنث، فلا كلام لرجوع ذلك إلى الانعام.

وإذا ذكر فلان النعم والانعام بمعنى واحد، ولئن التقدير:

___________________________________

(1) مرتخريجه في 6 / 399.

(2) سورة 77 المرسلات آية 27.

(3) سورة 15 الحجر آية 22.

(4) سورة 76 الدهر آية 21.

(5) سورة 16 النحل آية 66

[360]

ونسقيكم من بعض ما في بطونه.

يقول الله تعالى " وإن لكم " معاشر العقلاء " في الانعام " وهي الماشية التي تمشي على نعمة في مشيها، خلاف الحافر في وطئها، وهي الابل والبقر والغنم (لعبرة) يعني دلالة تستدلون بها على توحيد الله، وصفاته التي يختص بها دون سواه.

وقوله (نسقيكم مما في بطونها) فالسقي اعطاء ما يصلح للشرب، فلما كان الله تعالى قد أعطى العباد ألبان الانعام، باجرائه في ضروعها، وتمكينهم منها، من غير حظر لها، كان قد سقاهم اياها.

ثم قال (ولكم فيها) يعني في الانعام " منافع كثيرة " ولذات عظيمة، ببيعها والتصرف فيها وأكل لحومها، وشرب ألبانها، وغير ذلك من الانتفاع باصوافها وأوبارها، واشعارها، وغير ذلك (ومنها تأكلون) يعني اللحم، وغيره من الالبان وما يعمل منها.

ثم قال: ومن منافعها انكم تحملون عليها الاثقال في اسفاركم بأن تركبوها وتحملوا عليها اثقالكم. ومثل ذلك على الفلك، وهي السفن. ثم اقسم تعالى انه أرسل نوحا إلى قومه، يدعوهم إلى الله، ويقول لهم (اعبدوا الله) وحده لا شريك له، فانه لا معبود لكم غيره. ويحذرهم من عقابه، ويقول (أفلا تتقون) نقمة الله بالاشراك معه في العبادة.

ثم حكى أن الملا وهم - جماعة اشراف قومه - الكفار، قال بعضهم لبعض: ليس نوح هذا إلا مخلوقا مثلكم، وبشر مثلكم، وليس بملك (يريد أن يتفضل عليكم) فيسودكم ويترأسكم وان يكون افضل منكم " ولو شاء الله " ما قاله من توحيده واختصاصه بالعبادة (لانزل ملائكة) عليكم يدعونكم إلى ذلك.

ثم قالوا " ما سمعنا بهذا " يعني بما قال نوح، وبمثل دعوته.

وقيل بمثله بشرا أتى برسالة من ربه في اسلافنا الماضين وابائنا واجدادنا الذين تقدمونا.

ثم قالوا: (إن هو الا رجل به جنة) اي ليس

[361]

هذا - يعنون نوحا - إلا رجلا به جنة أي تعتاده غمرة تنفي عقله حتى يتخيل اليه ما يقوله ويخرجه عن حال الصحة وكمال العقل، فكان اشراف قومه يصدون الناس عن اتباعه، بما حكى الله عنهم، وقالوا: انه لمجنون يأتي بجنونه بمثل هذا. ويحتمل أن يكونوا أرادوا كأنه في طعمه فيما يدعو اليه مجنون.

ثم قال بعضهم لبعض: (تربصوا به حتى حين) اي إلى وقت ما، كأنهم قالوا لهم تربصوا به الهلاك وتوقعوه.

الآية: 26 - 50

قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون(26) فاوحينا إليه أن اصنع الفلك باعيننا ووحينا فاذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولاتخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون(27) فاذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجينا من القوم الظالمين(28) وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين(29) إن في ذلك لايات وإن كنا لمبتلين(30))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ أبوبكر عاصم (منزلا) بفتح الميم. الباقون بضمها.

من فتح الميم جعله اسم المكان أو مصدرا ثلاثيا.

ومن ضم الميم، فلانه مصدر (أنزل إنزالا)

[362]

لقوله (انزلني) ومثله (ادخلني مدخل صدق)(1) ولو قرئ.

(وأنت خير المنزلين) لكان صوابا بتقدير أنت خير المنزلين به، كما تقول: أنزلت حوائجي بك. وقرا حفص عن عاصم (من كل زوجين) منونا على تقدير اسلك فيها زوجين اثنين من كل، اي من كل جنس، ومن كل الحيوان، كما قال تعالى (ولكل وجهة) اي لكل انسان قبلة (هو موليها(2)) لان (كلا، وبعضا) يقتضيان مضافا إليهما.

الباقون بالاضافة إلى (زوجين) ونصب (اثنين) على انه مفعول به يقول الله تعالى ان نوحا (ع) لما نسبه قومه إلى الجنة، وذهاب العقل، ولم يقبلوا منه، دعا الله تعالى، فقال " رب انصرني بما كذبون " أي اعني عليهم، فالنصرة المعونة على العدو. فأجاب الله تعالى دعاء‌ه. وأهلك عدوه، فأغرقهم ونجاه من بينهم بمن معه من المؤمنين.

وقوله " بما كذبون " يقتضي أن يكون دعا عليهم بالاهلاك جزاء على تكذيبهم إياه.

فقال الله تعالى انا " أوحينا اليه أن اصنع الفلك " وهو السفينة " باعيننا " وقيل في معناه قولان: احدهما - بحيث نراها، كما يراها الرائي من عبادنا بعينه، ليتذكر انه يصنعها، والله (عزوجل) يراه. الثاني - بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين، فانهم يحرسونك من منع مانع لك.

وقوله " ووحينا " أي باعلامنا إياك كيفية فعلها.

وقوله " فاذا جاء أمرنا " يعني إذا جاء وقت اهلاكنا لهم " وفار التنور " روي انه كان جعل الله تعالى علامة وقت الاهلاك فوران التنور بالماء.

___________________________________

(1) سورة 17 الاسراء آية 80.

(2) سورة 2 البقرة آية 148

[363]

فقال له: اذا جاء ذلك الوقت " فاسلك فيها " يعني في السفينة، وكان فوران الماء من التنور المسجور بالنار، معجزة لنوح (ع) ودلالة على صدقه، وأكثر المفسرين على أنها التنور التي يخبز فيها.

وروي عن علي (ع) انه أراد طلوع الفجر.

ويقال: سلكته وأسلكته، فيه لغتان، كما قال الشاعر:

وكنت لزاز خصمك لم أعرد *** وقد سلكوك في يوم عصيب(1)

وقال الهذلي:

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة *** شلا كما تطرد الجمالة الشردا(2)

وقيل: سلكته فيه حذف، لان تقديره سلكت به فيه.

ومعنى " فأسلك فيها " احمل فيها وادخل إلى السفينة " من كل زوجين اثنين " أي من كل زوجين، من الحيوان. اثنين: ذكرا وانثى. والزوج واحد له قرين من جنسه وقوله " واهلك " أي اجمل اهلك معهم، يعني الذين آمنوا معك (إلا من سبق عليه القول) بالاهلاك منهم (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) اي لا تسلني في الظالمين أنفسهم بالاشراك معي ف‍ (إنهم مغرقون) هالكون.

ثم قال له (فاذا استويت انت) يا نوح (ومن معك على الفلك) واستقررتم فيه وعلوتم عليه، وتمكنتم منه فقل شكرا لله (الحمد لله الذيي نجانا) وخلصنا (من القوم الظالمين) لنفوسهم بجحدهم توحيد الله.

وقل داعيا (رب أنزلني منزلا مباركا وانت خير المنزلين) وقال الجبائي: المنزل المبارك هو السفينة.

وقال مجاهد: قال ذلك حين خرج من السفينة.

وقال الحسن: كان في السفينة. سبعة انفس من المؤمنين، ونوح ثامنهم.

وقيل: ستة. وقيل: ثمانين.

___________________________________

(1) انظر 6 / 38، 321.

(2) مر تخريجه في 1 / 128، 149 و 6 / 322، 459

[364]

وقيل: انه هلك كل ما كان على وجه الارض إلا من نجامع نوح في السفينة.

وقال الحسن: كان طول السفينة الفا ومئتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع. وكانت مطبقة تسير بين ماء السماء وبين ماء الارض.

ثم قال تعالى (ان في ذلك) يعني فيما اخبرناك به وقصصنا عليك (لآيات) ودلالات للعقلاء، يستدلون بها على توحيد الله وصفاته (وإن كنا لمبتلين) أي وإن كنا مختبرين عبادنا بالاستدلال على خالقهم بهذه الآيات، ومعرفته وشكره على نعمه عليهم، وبعبادته وطاعته وتصديق رسله.

قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين(31) فارسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون(32) وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الاخرة وأترفناهم في الحيوة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون(33) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون(34) أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون(35) هيهات هيهات لما توعدون(36))

ست آيات بلا خلاف.

قرأ ابوجعفر (هيهات هيهات) بكسر التاء. الباقون بفتحها. ولا خلاف في ترك التنوين فيهما.

[365]

يقول الله تعالى (انا انشانا) واخترعنا، من بعد إهلاك قوم نوح بالطوفان (قوما آخرين) والانشاء والاختراع واحد، وكلما يفعل الله تعالى، فهو إنشاء واختراع. وقد يفعل الله تعالى الفعل عن سبب بحسب ما تقتضيه المصلحة. والقرن أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض، ومنه قرن الكبش لمقارنته القرن الآخر، ومنه القرينة، وهي الدلالة التي تقارن الكلام.

وقوله " فارسلنا فيهم رسولا منهم " اخبار منه تعالى انه أرسل رسولا في القرن الذي انشاهم من بعد قوم نوح.

وقال قوم: هو صالح وقيل: هود، لانه المرسل بعد نوح " ان اعبدو الله ما لكم من اله غيره " أي ارسلناه بأن يقول لهم: اعبدوا الله وحده لاشريك له.

ويقول لهم: مالكم معبود سواه، وأن يخوفهم إذا خالفوه.

ويقول لهم " أفلا تتقون " عذاب الله، واهلاكه بارتكاب معاصيه، فموضع (أن) من الاعراب نصب.

وتقديره بأن اعبدوا الله، فلما حذفت الباء نصب ب‍ (أرسلنا).

وقوله " وقال الملا من قومه " يعني - الاشراف، ووجوههم - قالوا لغيرهم " الذين كفروا " بالله وكذبوا بآياته وحججه وبيناته، وجحدوا " وكذبوا بلقاء الآخرة " والبعث والنشور يوم القيامة.

وقوله " واترفناهم في الحياة الدنيا " والاتراف التنعم بضروب الملاذ، وذلك أن التنعيم قد يكون بنعيم العيش، وقد يكون بنعيم الملبس، فالاتراف بنعيم العيش قال الراجز: وقد أراني بالديار مترفا وقوله " ما هذا إلا بشر مثلكم " أي ليس هذا الذي يدعي النبوة من قبل الله إلا بشرا مثلكم " يأكل مما تأكلون منه " من الاطعمة " ويشرب مما تشربون منه " من الاشربة. ثم قالوا لهم " لئن أطعتم بشرا مثلكم " وعلى هيئتكم وأحوالكم " إنكم

[366]

اذا لخاسرون " فجعلوا اتباع الرسول خسرانا، لانه بشر مثلهم، ولم يجعلوا عبادة الصنم خسرانا، لانه جسم مثلهم، وهذا مناقضة ظاهرة.

ثم حكى انهم قالوا لغيرهم " ايعدكم " هذا الذي يدعي النبوة من قبل الله " أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما " ورفاتا " انكم مخرجون " وقيل في خبر (ان) الاول قولان: احدهما - انه قوله (مخرجون) وتكون الثانية للتأكيد. والثاني - ان يكون الخبر الجملة، وتقديره: أيعدكم انكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما إخراجكم.

ونظير تكرير (ان) قوله " ألم يعلموا انه من يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم "(1) يعني فله نار جهنم - ذكره الزجاج - إلا ان هذه الثانية عملت في غير ما عملت فيه الاولى. وإنما هي بمنزلة المكرر في المعنى.

وموضع " انكم " الاولى نصب، وتقديره: ايعدكم بأنكم.

وموضع (ان) الثانية كموضع الاولى، وانما ذكرت تأكيدا، والمعنى: أيعدكم أنكم تخرجون إذا متم، فلما بعد ما بين (ان) الاولى، والثانية بقوله " إذا كنتم ترابا وعظاما " أعيد ذكر (أن).

ثم قالوا لهم " هيهات هيهات لما توعون " من البعث، والنشور، والجزاء بالثواب والعقاب. ومعنى " هيهات " بعد الامر جدا حتى امتنع، وهو بمنزلة صه.

ومه) إلا ان هذه الاصوات الاغلب عليهاالامر والنهي وهذا في الخبر ونظيره (شتان) أي بعدما بينهما جدا، وانما لم تتمكن هذه الاصوات في الاسماء يخروجها إلى شبه الافعال التي هي معانيها، وليست مع ذلك افعالا، لانه لا يضمر فيها، ولا لها تصرف الافعال في أصلها، وانما جعلت هكذا، للافهام بما تفهم به البهيمة من الزجر بالاصوات، على هذه الجملة.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 64

[367]

وقال ابن عباس: معنى (هيهات) بعيد بعيد.

والعرب تقول: (هيهات) لما تبغي، وهيهات ما تبعي، قال جرير:

فهيهات هيهات العقيق ومن به *** وهيهات وصل بالعقيق نواصله(1)

ويروى أيهات.

وكان الكسائي: يقف بالهاء، فيقول: هيهاة، على قياس هاء التأنيث في الواحد زائدة نحو (علقاة) واختار الفراء الوقف بالتاء، لان قبلها ساكنا، فصارت كما تقول: بنت وأخت.

قال: ولان من العرب من يخفض التاء، فدل ذلك على انها ليست بهاء التأنيث، وانما هي بمنزلة دراك، ونظار ماله. ومن وقف بالهاء جعلها كالادارة وقال الزجاج: يجوز هيهات وهيهتا وهيهاتا بالتنوين، وترك التنوين.

قال الاخفش: يجوز فتح التاء وكسرها ومنهم من يجعل بدل الهاء همزة، فيقول: أيهات، وهي لغة تميم، غير انهم يكسرون التاء.

ومن العرب من إذا جعلها في موضع إسم قال: لم أره مذ أيهات من النهار - بضم التاء - وتنوينها.

ومنهم من يجعل مكان التاء نونا، فيقول: ايهان واحدها أيها، قال الشاعر:

ومن دوني الاعيار والقيع كله *** وكتمان أيهانا أشت وأبعدا(2)

قوله تعالى: (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين(37) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين(38) قال رب انصرني بما كذبون(39) قال عما قليل ليصبحن نادمين(40))

أربع آيات بلا خلاف.

حكى الله تعالى عن الملا الذين قالوا " هيهات هيهات لما توعدون " لقومهم

___________________________________

(1) ديوانه 385 " دار بيروت ".

(2) تفسير القرطبي 12 / 123

[368]

الذين أغووهم، وقالوا أيضا ليست الحياة " إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين " أي لسنا نبعث يوم القيامة على ما يقول هذا المدعي للنبوة من قبل الله.

ومعنى " نموت ونحيا " أي يموت منا قوم ويحيا قوم، لانهم لم يكونوا يقرون بالنشأة الثانية، فلذلك قالوه على هذا الوجه، وشبههتم في انكار البعث طول المدة في القرون الخالية، فظنوا أنه ابدا على تلك الصفة، وهذا أبلغ، لانه إذا اقتضت الحكمة طول المدة لما في ذلك من المصلحة للمكلفين، فلا بد منه، لان الحكيم لا يخالف مقتضى الحكمة، فقال النبي المرسل عند ذلك يا " رب انصرني بما كذبون " أي اهلك هؤلاء جزاء على تكذيبي ونصرة لي، ومعونة على صحة قولي.

فقال الله تعالى له " عما قليل " أي عن قليل و (ما) زائدة " ليصبحن " هؤلاء القوم " نادمين " على ما فعلوه من تكذيب الرسل، وجحد وحداينة الله، والاشراك مع الله في عبادته غيره واللام في قوله " ليصبحن " لام القسم يجوز أن يقدم ما بعدها عليها وتقدير الكلام: ليصبحن هؤلاء نادمين عن قليل.

[369]

قوله تعالى: (فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين(41) ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين(42) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون(43) ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون(44) ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون باياتنا وسلطان مبين(45) إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما عالين(46))

ست آيات في الكوفي والبصري، وسبع في المدنيين

عدوا قوله ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون " آية. لما قال الله تعالى لصالح (ع) انه عما قليل يصبح هؤلاء الكفار نادمين، على ما فعلوا. حكى الله أنهم " أخذتهم الصيحة بالحق " والصيحة الصوت الشديد الذي يفزع منها، فأهلك الله تعالى (ثمود) بالصيحة وهي صيحة تصدعت منها القلوب.

وقوله " بالحق " معناه على وجه الحق، وهو أخذهم بالعذاب من أجل ظلمهم، باذن ربهم وهو وجه الحق. ولو أخذوا بغير هذا، لكان أخذا بالباطل، وهو كأخذ كل واحد بذنب غيره.

وقوله " فجعلناهم غثاء " فالغثاء القش الذي يجئ به السيل على رأس الماء: قصب وحشيش وعيدان شجر وغير ذلك. وقيل: الغثاء البالي من ورق الشجر، إذا جرى السيل رأيته مخالطا زبده.

وقوله " فبعدا لقوم لا يؤمنون " معناه بعدا لهم من الرحمة، وهي كاللعنة التي هي ابعاد من رحمة الله، وقالوا في الدعاء على الشئ: بعدا له، ولم يقولوا في الدعاء له قربا له أي من الرحمة لانهم طلبوا الانغماس في الرحمة، فتركوا التقابل لهذه العلة.

وقال ابن عباس ومجاهد.

وقتادة: الغثاء المتفتت البالي من الشجر يحمله السيل.

وقيل: ان الله بعث ملكا صاح بهم صيحة ماتوا عندها عن آخرهم.

ثم اخبر تعالى فقال " وانشأنا من بعدهم " يعني بعد هؤلاء الذين أهلكهم بالصيحة " قرونا " أي أمما " آخرين " واخبر انه " ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " وهذا وعيد لهؤلاء المشركين، ومعناه إن كل أمة لها أجل ووقت مقدر قدره الله لها إذا بلغته لا تؤخر عنه ولا تقدم عليه، بل تهلك عنده.

[370]

والاجل: هو الوقت المضروب لحدوث أمر من الامور، وليس الاجل الوقت المعلوم أنه يحدث فيه أمر من الامور، لان التأجيل فعل يكون به الوقت أجلا لامر، وما في المعلوم ليس بفعل.

والاجل المحتوم لا يتأخر ولايتقدم.

والاجل المشروط بحسب الشرط.

والمعنى في الاجل المذكور - في الآية - الاجل المحتوم.

ثم اخبر تعالى انه ارسل بعد ان أهلك من ذكره (رسلا تترا) وقرأ ابن كثير وأبوعمرو بالتنوين. الباقون بغير تنوين، ولاخلاف في الوقف انه بألف. فمن نون لم يمل في الوقف، ومن لم ينون فمنهم من يميل، ومنهم من لا يميل. والمواترة المتابعة.

وقيل: هي المواصلة يقال: واترت بين الخبرين أي تابعت بينهما.

وقال ابن عباس ومجاهد، وابن زيد: معنى " تترا " أي متواترين يتبع بعضهم بعضا، وهي (فعلى) من المواترة فمن صرفها جعل الالف للالحاق، ومن لم يصرفها للتأنيث، ويقال: جاء‌ت كتبه تترى.

وأصل (تترى، وترى) من وترت، فقلبت الواو تاء لكراهتهم الواو أولا، حتى لم يزيدوها هناك البتة مع شبهها بالتاء في اتساع المخرج، والقرب في الموضع.

وأصله في المعنى الاتصال، فمنه الوتر الفرد عن الجمع المتصل، ومنه الوتر لاتصاله بمكانه من القوس. ومنه وترت الرجل أي قطعته بعد اتصال.

ثم اخبر تعالى انه " كلما جاء أمة رسولها " الذي بعثه الله اليهم " كذبوه " ولم يقروا بنبوته.

وقوله " فاتبعنا بعضهم بعضا " يعني في الاهلاك أي أهلاكنا قوما بعد قوم " وجعلناهم أحاديث " يتحدثون بهم على وجه المثل في الشر، وهو جمع احدوثة.

ولايقال في الخيرلان الناس يفسرون في الحديث بأسباب الشر أكثر وأغلب.

ثم قال تعالى " فبعدا " من رحمة الله ورسوله " لقوم لايؤمنون " أي لا يصدقون بواحدنيته فيقرون بالبعث والنشور والجزاء.

[371]

ثم اخبر تعالى انه أرسل - بعد إهلاك من ذكره - " موسى وهارون " نبيين " بآياتنا وسلطان مبين " بأدلة من الله وحجج ظاهرة " إلى فرعون وملائه " يعني قومه " فاستكبروا وكانو قوما عالين " والملا الجماعة التي تملا الصدر هيبتهم، وهم أشراف القوم ورؤساؤهم، وخصوا بالذكر، لان من دونهم أتباع لهم. فلما استكبروا وردوا دعوة الحق تبعهم غيرهم ممن هو دونهم.

وقوله " فاستكبروا " اى تكبروا وتجبروا عن الاجابة لهما، وطلبوا بذلك الكبر، فكل مستكبر من العباد جاهل، لانه يطلب أن يعظم بما فوق العبد، وهو عبد لله مملوك يلزمه التذلل له والخضوع، فهي صفة ذم للعبد. وكذلك جبار ومتجبر، وهو مدح في صفات الله تعالى، لان صفته تجل عن صفات المخلوقين، وتعلو فوق كل صفة.

وقوله " وكانوا قوما عالين " أي كانوا قاهرين للناس بالبغي والتطاول عليهم ولهذا كانت صفة ذم. والعالي القاهر القادر الذي مقدوره فوق مقدور غيره لعظمه يقال: علا فلان إذا ترفع وطغا وتجاوز، ومنه قوله " ألا تعلوا علي "(1) وقوله " إن فرعون علا في الارض "(2) وقوله " قد أفلح اليوم من استعلى "(3) أي من علا على صاحبه وقهره بالحجة.

___________________________________

(1) سورة 27 النمل آية 31.

(2) سورة 28 القصص آية 4.

(3) سورة 20 طه آية 64

[372]

قوله تعالى: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون(47) فكذبوهما فكانوا من المهلكين(48) ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون(49) وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين(50))

أربع آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى حكاية عن فرعون وقومه بعد ما أخبر عنهم بالاستكبار، والعلو على موسى وهارون، وترك اجابتهما انهم " قالوا أنؤمن " أي نصدق " لبشرين مثلنا " أي انسانين خلقهم مثل خلقنا، وسمي الانسان بشرا، لانكشاف بشرته، وهي جلدته الظاهرة، حتى احتاج إلى لباس يكنه، لان غيره من الحيوان مغطى البشرة بريش أو صوف أو شعر أو وبر أو صدف، لطفا من الله تعالى لهم إذ لم يكن هناك عقل يدبر أمره مع حاجته إلى ما يكنه. وهدى الانسان إلى ما يستغني به في هذا الباب.

وقوله " وقومهما لنا عابدين " معناه انهم لنا مطيعون طاعة العبد لمولاه.

وقال قوم: معناه إنهم يذلون لنا ويخضعون.

وقال ابوعبيدة: كل من دان لملك، فهو عابد له، ومنه سمي أهل الحيرة العباد، لانهم كانوا يطيعون ملوك العجم.

قال الحسن: كان بنوا إسرائيل يعبدون فرعون. وفرعون يعبد الاوثان.

ثم اخبر عنهم انهم كذبوا موسى وهارون، فكان عاقبة تكذيبهما أن اهلكهم الله وغرقهم.

والاهلاك إلقاء الشئ بحيث لا يحس به، فهؤلاء هلكوا بالعذاب ويقال للميت: هالك من هذا المعنى.

ثم اقسم تعالى انه آتى موسى الكتاب يعني التوراة التى فيها ما يحتاجون اليه لكي يهتدوا إلى طريق الحق، من معرفة الله وخلع الانداد.

وقوله " وجعلنا ابن مريم وأمه آية " معناه جعلناهما حجة، على أنه تعالى قادر على اختراع الاجسام من غير شئ، كما اخترع عيسى من غير أب. والاية - ههنا - في عيسى (ع) أنه ولد من غير فحل، ونطق في المهد. وفى أمه أنها حملته

[373]

من غير ذكر وبرأها كلامه في المهد من الفاحشة.

وقوله " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " يقال: آوى اليه يأوي، وآواه غيره ويؤويه ايواء أي جعله مأوى له.

(والربوة) المكان المرتفع على ما حوله، ويجوز ضم الراء وفتحها وكسرها، وبالفتح قرأ عاصم وابن عامر. الباقون بالضم أيضا. ولم يقرأ احد بالجر.

ويقال: رباوة بفتح الراء وكسرها والف بعد الباء. فصار خمس لغات. والربوة التي أويا اليها هي الرملة - في قول ابي هريرة - وقال سعيد بن المسيب: هي دمشق، وقال ابن زيد: هي مصر.

وقال قتادة هي بيت المقدس.

وقال ابوعبيدة: يقال: فلان في ربوة من قومه أي في عز وشرف، وعدد.

وقوله " ذات قرار " أي تلك الربوة لها ساحة وسعة أسفل منها. و " ذات معين " أي ماء جار، ظاهر بينهم. وقيل: معنى " ذات قرار " ذات استواء يستقر عليه.

ومعين ماء جار ظاهر للعيون - في قول سعيد والضحاك - وقال قتادة " ذات قرار " ذات ثمار، ذهب إلى انه لاجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.

ومعين (مفعول) من عنته اعينه، ويجوز أن يكون (فعيلا) من معن يمعن، وهو الماعون، وهي الشئ القليل - في قول الزجاج - قال الراعي:

قوم على الاسلام لما يمنعوا *** ما عونهم ويبدلوا التنزيلا

قيل معناه وفدهم. وقيل: زكاتهم. وأمعن في كذا إذا لم يترك منه إلا القليل.

وقال الفراء: المعن الاستقامة.

قال عبيد بن الابرص:

واهية او معين ممعن *** أو هضبة دونها لهوب(1)

واحدها لهب، وهو شق في الجبل، واهية أي وهت. ومطر ممعن أي مار.

___________________________________

(1) ديوانه " دار بيروت " 25

الآية: 51 - 75

قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم(51) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون(52) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون(53) فذرهم في غمرتهم حتى حين(54) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين(55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون(56))

ست آيات.

قرأ اهل الكوفة وابن عامر (وإن) بكسر الهمزة، وخفف ابن عامر النون وسكنها. وقرأ الباقون بفتح الهمزة مشددة النون.

قال قوم: هذا خطاب لعيسى (ع) حكاه الله تعالى، قالوا: وذلك لما جرى ذكره كأنه قال: يا عيسى " كلوا من الطيبات " وقال: آخرون: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله خاصة خاطبه بلفظ الجمع، كما يقال للرجل الواحد: أيها القوم كفوا عنا.

وقال قوم: لما ذكر بعض الانبياء، كأنه قال: وقلنا لهم " يا ايها الرسل كلوا من الطيبات " والاكل تناول الطعام بالفم، ومضغه وابتلاعه.

وصورة " كلوا " صورة الامر، والمراد به الاباحة.

وأصل " كلوا " أؤ كلوا، فحذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال. والمعنى مفهوم، لانه من الاكل.

و (الطيبات) الحلال، وقيل: هو المستلذ. فعلى الوجه الاول يكون أمرا بنفل. لان تقديره كلوا من الحلال على الوجه الذي يستحق به الحمد. وعلى الثاني يكون على الاباحة، كما قال

[375]

تعالى " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق "(1).

وقوله " واعملوا صالحا " أمر من الله لهم بأن يعملوا الطاعات، واجباتها ونوافلها. والصلاح الاستقامة، على ما تدعو اليه الحكمة.

وقال قوم: انما هذا حكاية لما قيل لجميع الرسل. وهو الوجه.

وقال آخرون: المعنى وقلنا لعيسى " يا أيها الرسل " على الجمع على ما ذكرناه من المثال.

وقوله " وإن هذه أمتكم " موضع (ان) نصب، لان تقديره، ولان (هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فاتقون) أي لهذه فاتقون: وقيل: موضعه الجر بالعطف على (بما تعملون عليم).

ومن كسر الهمزة استأنف الكلام.

ومعنى الامة - ههنا - الملة سماها بذلك للاجماع عليها بأمر الله.

وقال الحسن وابن جريج: معنى (وإن هذه امتكم أمة واحدة) أي دينكم دين واحد.

وقيل: جماعتكم جماعة واحدة في الشريعة التي نصبها الله لكم.

ونصب (أمة واحدة) على الحال.

وقال الجبائي: معناه (وإن هذه امتكم امة واحدة) في أنهم عبيد الله، وخلقه وتدبيره.

وقوله " فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا " فالزبر الكتب - في قول الحسن وقتادة ومجاهد وابن زيد - وهو جمع زبور، كرسول ورسل.

والمعنى تفرقوا كتبا دانوا بها، وكفروا بما سواها، كاليهود دانوا بالتوراة وكفروا بالانجيل، والقرآن. وكالنصارى دانوا بالانجيل وكفروا بالقرآن.

ومن قرأ (زبرا) بفتح الباء، وهو ابن عامر فمعناها جماعات، لانه جمع زبرة، وزبر، كبرمة وبرم.

وقوله (كل حزب بما لديهم فرحون) أي كل طائفة بما عندها تفرح لاعتقادها بأن الحق معها.

فقال الله تعالى لنبيه (فذرهم) يا محمد (في غمرتهم) أي جهلهم وضلالتهم.

وقيل: في حيرتهم. وقيل: في غفلتهم. والمعاني متقاربة (حتى حين)

___________________________________

(1) سورة 7 الاعراف آية 31

[376]

أي حين وقت الموت. وقيل: حين العذاب.

ثم قال تعالى منكرا عليهم (أيحسبون) أي يظنون هؤلاء الكفار (أنما نمدهم به من مال وبنين) تمام الكلام أحد شيئين: احدهما - أيحسبون ان الذي نمدهم به من اجل مالهم وبنيهم، بل إنما نفعل ذلك لما فيه من المصلحة. والثاني - أن يكون فيه حذف، وتقديره أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين حق لهم لكرامتهم عندنا، لا، بل نفعل ذلك لما فيه من المصلحة التي ذكرناها، ويكون قوله (نسارع لهم في الخيرات) ابتداء كلام، ولايجوز أن يكون الانكار وقع لظنهم ان ذلك مسارعة لهم في الخيرات، لانه تعالى قد سارع لهم في الخيرات، بما فعل بهم من الاموال والبنين، لما لهم في ذلك من اللطف والمصلحة.

والغرض في ذلك ان يعرفوا الله ويؤدوا حقوقه (بل لا يشعرون) أي وهم لا يشعرون بذلك، ولا يفهمونه لتفريطهم في ذلك. والمسارعة تقديم العمل في اوقاته التي تدعوا الحكمة إلى وقوعه فيه، وهي سرعة العمل. ومثله المبادرة. وانما بني على (مفاعلة) لان الفعل كأنه يسابق فعلا آخر.

والخيرات المنافع التي يعظم شأنها، ونقيضها الشرور. وهي المضار التي يشتد أمرها.

والشعور العلم الذي يدق معلومه، وفهمه على صاحبه دقة الشعر.

وقيل: هو العلم من جهة المشاعر، وهي الحواس، ولهذا لا يوصف الله تعالى به.

وقيل: نسارع لهم في الخيرات أي نقدم لهم ثواب اعمالهم لرضانا عنهم، ومحبتنا إياهم، كلا، ليس الامر كذلك، بل نفعله ابتلاء في التعبد لهم.

[377]

قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون(57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون(58) والذين هم بربهم لا يشركون(59) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون(60) أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون(61))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى (إن الذين هم من خشية ربهم) اي خوفا من عقابه (مشفقون) والخشية ظن لحوق المضرة. ومثلها المخافة، ونقيضها الامنة، فالخشية إنزعاج النفس بتوهم المضرة، والظن كذلك يزعج النفس، فيسمى باسمه على طريق البلاغة، والخشية من الله خشية من عقابه وسخطه على معاصيه، (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) وبحججه من القرآن وغيره يصدقون (والذين هم بربهم لايشركون) أي لايشركون بعباة الله غيره، من الاصنام والاوثان، لان خصال الايمان لاتتم إلا بترك الاشراك دون ما يقول أهل الجاهلية إنا نؤمن بالله.

وقوله (والذين يؤتون ما آتوا) اي يعطون ما اعطوا، من الزكاة والصدقة، وينفقونه في طاعة الله (وقلوبهم وجلة) أي خائفة من عقاب الله لتفريط يقع منهم.

قال الحسن: المؤمن جمع إحسانا وشفقة.

وقال ابن عمر: ما آتوا من الزكاة (وقلوبهم وجلة) أي خائفة (انهم إلى ربهم راجعون) اي يخافون من رجوعهم إلى الله يوم القيامة، والى مجازاته اي يخافون ذلك، لانهم لا يأمنون التفريط.

[378]

ثم أخبر عمن جمع هذه الصفات وكملت فيه، فقال (اولئك يسارعون في الخيرات) أي يبادرون إلى الطاعات، ويسارعون اليها: من الايمان بالله، ويجتهدون في السبق اليها رغبة فيها ولعلمهم بما لهم بها من حسن الجزاء.

وقوله (وهم لها سابقون) قيل في معناه ثلاثة اقوال: احدها - قال ابن عباس انهم: سبقت لهم السعاة.

الثاني - وهم من اجل تلك الخيرات سابقون إلى الجنة.

الثالث - وهم إلى الخيرات سابقون.

قوله تعالى: (ولانكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون(62) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون(63) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجئرون(64) لاتجئروا اليوم إنكم منا لا تنصرون(65) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون(66) مستكبرين به سامرا تهجرون(67))

ست آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه " لانكلف نفسا إلا وسعها " يعنى إلا على قدر طاقتها وقوتها، ومثله قوله تعالى " لايكلف الله نفسا إلا وسعها "(1) والوسع

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 286

[379]

الحال التي يتسع بها السبيل إلى الفعل.

وقيل: إن الوسع دون الطاقة.

والتكليف تحميل ما فيه المشقة بالامر والنهي والاعلام، وهو مأخوذ من الكلفة في الفعل، والله تعالى مكلف عباده تعريضا لهم للنفع الذي لا يحسن الابتداء بمثله، وهو الثواب. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة: في تكليف ما لا يطاق، لانه لو كلف ما لا يطيقه العبد لكان قد كلفه ما ليس في وسعه. والآية تمنع من ذلك.

وقوله " ولدينا كتاب ينطق بالحق " يريد الكتاب الذي فيه اعمال العباد مكتوبة من الطاعة والمعصية تكتبه عليه الملائكة الموكلون به كما قال " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد "(1) ثم أخبر تعالى " انهم لا يظلمون " أي لا يؤاخذون بما لا يفعلونه ولاينقصون عما استحقوه.

ثم اخبرتعالى فقال " بل قلوبهم في غمرة من هذا " اى في غفلة من هذا اليوم، وهذه المجازاة.

وقال الحسن: معناه في حيرة.

وهذا اخبار منه تعالى بما يكون منهم في المستقبل من الاعمال القبيحة، زائدة على ما ذكره وحكاه أنه فعلهم " ولهم اعمال من دون ذلك هم لها عاملون " قيل في معناه قولان: احدهما - قال قتادة وابوالعالية - وفى رواية عن مجاهد - ان لهم خطايا من دون الحق. والثاني - قال الحسن وابن زيد - وفى رواية عن مجاهد - ايضا: أعمالا من دون ما هم عليه لابد من ان يعملوها.

وقوله " حتى اذا أخذنا مترفيهم بالعذاب اذا هم يجأرون " فالمترف المتقلب في لين العيش ونعومته.

ومنه قوله " واترفناهم في الحياة الدنيا "(2) و (يجأرون) معناه يضجون، لشدة العذاب.

وقال ابن عباس: يستغيثون.

___________________________________

(1) سورة 50 ق آية 18.

(2) سورة 23 المؤمنون آية 33

[380]

وقال مجاهد: كان ذلك بالسيوف يوم بدر، والجؤار: رفع الصوت، كما يجأر الثور، قال الاعشى:

يراوح من صلوات الملي‍ *** ك طورا سجودا وطورا جؤارا(1)

وقيل معنى " يجأرون " يصرخون بالتوبة، فيقول الله لهم " لا تجأروا اليوم " أي لاتصرخوا في هذا اليوم " إنكم منا لاتنصرون " بقبول التوبة، ولا لكم من يدفع عنكم ما أفعله من العذاب. ثم يقول الله تعالى لهم " قد كانت آياتي " أي حججي وبراهيني " تتلى عليكم " من القرآن وغيره " فكنتم على أعقابكم تنكصون " فالنكص الرجوع القهقرى وهو المشي على الاعقاب إلى خلف، وهو أقبح مشية. مثل شبه الله به أقبح حال في الاعراض عن الداعي إلى الحق.

وقال سيبويه: لانه يمشي ولا يرى ما وارء‌ه، فهو النكوص.

وقال مجاهد: ينكصون معناه يستأخرون. وقيل: يدبرون.

وقوله " مستكبرين " نصب على الحال، ومعناه " تنكصون " في حال تكبركم عن الانقياد للحجج الله، والاجابة لانبيائه.

وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك: " مستكبرين به " أي يحرم الله أنه لا يظهر عليكم فيه أحد.

وقوله " سامرا تهجرون " فالسامر الذي يحدث بالسمر ليلا، ومنه السمرة والسمار، لان جميع ذلك من اللون الذي بين السواد والبياض.

وقيل: السمر ظل القمر، ويقال له الفخت، ومعنى " سامرا " أي سمارا، فوضع الواحد موضع الجمع لانه في موضع المصدر، كما يقال قوموا قائما أي قياما قال الشاعر:

من دونهم إن جئتم سمرا *** عزف القيان ومجلس غمر(2)

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 84 وقد مر في 1 / 263.

(2) اللسان (سمر). وتفسير الطبري 18 / 26 والقرطبي 12 / 137

[381]

وكانوا يسمرون حول الكعبة بالليل.

وقيل: انما وحد، لانه في موضع الوقت وتقديره لئلا تهجرون، والهجر الكلام المرفوض، وهو المهجور منه، لانه لاخير فيه. والنائم يهجر في نومه أي يأتي بكلام مختلط لا فائدة فيه.

وفى معنى تهجرون قولان: احدهما - تهجرون الحق بالاعراض عنه، في قول ابن عباس. الثاني - تقولون الهجر، وهو السئ من القول، في قول سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد.

وقرأ نافع وحده " تهجرون " بضم التاء أراد من الهجر، وهو الكلام السئ. الباقون بفتح التاء وضم الجيم، على ما فسرناه، يقال: هجر يهجر هجرا إذا هذى.

قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول أم جاء‌هم ما لم يات آباء‌هم الاولين(68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون(69) أم يقولون به جنة بل جاء‌هم بالحق وأكثرهم للحق كارهون(70))

ثلاث آيات بلا خلاف

يقول الله تعالى منكرا على هؤلاء الكفار " أفلم يدبروا القول " الذي أتاهم به من القرآن ويتفكروا فيه، فيعلموا انه من قبل الله، لعجز الجميع عن الاتيان بمثله.

وقوله " أم جاء‌هم ما لم يأت آباء‌هم الاولين " توبيخ لهم على انكار الدعوة من هذه الجهة، ومع ذلك، فقد جاء‌ت الرسل الامم قبله، متواترة، فهو عيب وخطأ من كل جهة " ألم لم يعرفوا رسولهم " لكونه غريبا فيهم، فلا يعرفون صدقه، ولا أمانته

[382]

" فهم له منكرون " لذلك؟ ! ثم اخبر تعالى أن النبي صلى الله عليه وآله " جاء‌هم بالحق " من عند الله " واكثرهم " يعني اكثر الناس " للحق كارهون " أي يكرهونه بمجيئه بما ينافي عادتهم.

قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواء‌هم لفسدت السموات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون(71) أم تسئلهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين(72) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم(73) وإن الذين لا يؤمنون بالاخرة عن الصراط لناكبون(74) ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون(75))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وابوعمرو، ونافع، وعاصم " خرجا " بلا ألف " فخراج " بألف. وقرأ حمزة والكسائي " خراجا فخراج " بالالف فيهما. وقرأ ابن عامر " خرجا فخرج " بلا ألف فيهما.

معنى قوله " ولو اتبع الحق أهواء‌هم " ان الحق لما كان يدعو إلى الافعال الحسنة. والاهواء تدعو إلى الافعال القبيحة، فلو اتبع الحق داعي الهوى لدعاه إلى قبيح الاعمال والى ما فيه الفساد والاختلاط، ولو جرى الامر على ذلك " لفسدت السماوات والارض ومن فيهن " ووجه فساد العالم بذلك: انه يوجب بطلان الادلة وامتناع الثقة بالمدلول عليه، وانه لايؤمن وقوع الظلم، الذي لا ينصف منه، وتختلط

[383]

الامور أقبح الاختلاط ولايوثق بوعد، ولاوعيد، ولا يؤمن إنقلاب عدل الحكيم. وهذا معنى عجيب.

وقال قوم من المفسرين: إن الحق - في الآية - هو الله والتقدير: ولو اتبع الحق أعني الله أهواء هؤلاء الكفار، وفعل ما يريدونه لفسدت السموات والارض.

وقال الجبائي: المعنى لو اتبع الحق - الذى هو التوحيد - أهواء‌هم في الاشراك معه معبودا سواه، لوجب ان يكون ذلك المعبود مثلا له ولصح بينهما الممانعة، فيؤدي ذلك إلى الفساد، كما قال تعالى " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "(1). والهوى ميل النفس إلى المشتهى من غير داعي الحق، كما قال تعالى " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى "(2)، فلا يجوز لاحد أن يفعل شيئا لانه يهواه. ولكن يفعله لانه صواب، على انه يهواه أو لانه يهواه مع أنه صواب حسن جائز.

وقال ابوصالح. وابن جريج: الحق هو الله، وقال الجبائي معنى " ولو اتبع الحق أهواء‌هم " فيما يعتقدون من الآلهة " لفسدت السماوات والارض " كقوله " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ".

وقوله " بل اتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ". قال ابن عباس: معنى الذكر البيان الحق. وقال غيره: الذكر الشرف. كقوله " وانه لذكر لك ولقومك "(3) ولك ذلك يراد به القران.

ثم قال " أم تسألهم " يا محمد " خرجا " أي اجرا على العمل - في قول الحسن - وأصل الخرج والخراج واحد، وهو الغلة التي تخرج على سبيل الوظيفة منه. ومنه خراج الارض، وهما مصدران لا يجمعان.

ثم قال " فخراج ربك " أي أجر ربك " خير وهو خير الرازقين " يعني الله خير من يرزق. وفى ذلك دلالة على أن

___________________________________

(1) سورة 21 لانبياء آية 22.

(2) سورة 79 النازعات آية 41.

(3) سورة 43 الزخرف آية 44

[384]

غير الله قد يرزق باذنه، ولولا لم يجز (خير الرازقين).

ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله (وانك) يا محمد (لتدعوهم) أي هؤلاء الكفار (إلى صراط مستقيم) من التوحيد، واخلاص العبادة، والعمل بالشريعة (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة) يعني من لا يصدقون بالبعث يوم القيامة (عن الصراط) صراط الحق (لناكبون) أي عادلون عن دين الحق.

وقال الجبائي: معناه لناكبون في الآخرة عن طريق الجنة، بأخذهم يمنة ويسرة إلى النار.

ثم قال تعالى (ولو رحمناهم) في الاخرة ورددناهم إلى دار الدنيا، وكلفناهم فيها (للجوا في طغيانهم يعمهون) كما قال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه)(1) وقال ابن جريج يريد في الدنيا أي (لوانا رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) وجوع ونحوه (للجوا في طغيانهم) أي في غوايتهم (يعمهون) أي يترددون.

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام اية 28

الآية: 76 - 118

قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون(76) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون(77) وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون(78) وهو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون(79) وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون(80))

خمس آيات.

يقول الله تعالى انا اخذنا هؤلاء الكفار الذين ذكرناهم بالعذاب. وقيل:

 [385]

هو الجدب وضيق الرزق، والقتل بالسيف (فما استكانوا لربهم) أي لم يذلوا عند هذه الشدائد، ولم يتضرعوا اليه، فيطلبوا كشف البلاء منه تعالى عنهم بالاستكانة له، والاستكانة طلب السكون خوفا من السطوة.

يقال: استكان الرجل استكانة إذا ذل عند الشدة.

وقوله (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون) فالفتح فرج الباب بطريق يمكن السلوك فيه، فكأنه فتح عليهم بابا أتاهم منه العذاب.

وقيل: ان ذلك حين دعا النبي صلى الله عليه وآله فقال: (اللهم سنين كسني يوسف) فجاعوا حتى أكلوا العلهز وهو الوبر بالدم في قول مجاهد.

وقال ابن عباس: هو القتل يوم بدر.

وقال الجبائي فتحنا عليهم بابا من عذاب جهنم في الآخرة.

والابلاس الحيرة لليأس من الرحمة، يقال: أبلس فلان إبلاسا إذا بهت عند انقطاع الحجة.

وقوله (وهو الذي أنشأكم) أي أوجدكم، واخترعكم من غير سبب " وجعل لكم السمع والابصار " أي وخلق لكم السمع تسمعون به الاصوات والابصار تبصرون بها المرئيات وخلق لكم (الافئدة) وهو جمع فؤاد، وهو القلب (قليلا ما تشكرون) نصب (قليلا) على المصدر و (ما) صلة، وتقديره تشكرون قليلا لهذه النعم التي أنعم بها عليكم.

ثم قال (وهو الذي ذرأكم) اي خلقكم وأوجدكم (وفى الارض واليه تحشرون) يوم القيامة، فيجازيكم على أعمالكم إما الثواب أو العقاب. والمراد إلى الموضع الذي يختص تعالى بالتصرف فيه، ولا يبقى لاحد هناك ملك.

وقال الفراء: وهو الذي خلق السماوات والارض أي اختراعهما، وانشأهما، وقدرهما على ما فيهما

[386]

من انواع المخلوقات، ليدل بها على توحيده وألا إله سواه " وله اختلاف الليل والنهار " اي له مرورهما يوما بعد ليلة. وليلة بعد يوم، كما يقال إذا اتى الرجل الدار مرة بعد مرة: هويختلف إلى هذه الدار.

وقيل: معناه وله تدبيرهما بالزيادة والنقصان.

ثم قال (افلا تعقلون) فتفكرون في جميع ذلك، فتعلمون انه لا يستحق الالهية سواه، ولا تحسن العبادة إلا له.

قوله تعالى: (بل قالوا مثل ما قال الاولون(81) قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أ إنا لمبعوثون(82) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين(83) قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون(84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون(85) قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم(86) سيقولون لله قل أفلا تتقون(87) قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولايجار عليه إن كنتم تعلمون(88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون(89) بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون(90))

عشر آيات بلا خلاف.

قرأ ابوعمرو " سيقولون الله " في الاخيرتين. الباقون " لله " بغير الف،

[387]

ولا خلاف في الاولى أنها بغير الف.

اخبر الله تعالى حاكيا عن الكفار ممن عاصر النبي صلى الله عليه وآله أنهم لم يؤمنوا بالله ولم يصدقوا رسوله في اخلاص العبادة له تعالى " بل قالوا مثل ما قال الاولون " أي مثل الذي قاله الكفار الاولون: من انكار البعث والنشور والحساب والجنة والنار، فأقوال هؤلاء مثل أقوال أولئك. وانما دخلت عليهم الشبهة في انكار البعث، لانهم لم يشاهدوا ميتا عاش، ولاجرت به العادة، وشاهد والنشأة الاولى من ميلاد من لم يكن موجودا. ولو فكروا في أن النشأة الاولى أعظم منه لعلموا أن من انكره فقد جهل جهلا عظيما، وذهب عن الصواب ذهابا بعيدا، لان من قدر على اختراع الاجسام لامن شئ، قدر على إعادتها إلى الصفة التي كانت عليها، مع وجودها.

ثم حكى ما قال كل منهم، فانهم قالوا منكرين " أ اذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " أي كيف نصير أحياء بعد ان صرنا ترابا ورمما وعظاما نخرة؟ ! ثم قالوا " لقد وعدنا " بهذا الوعد " نحن وآباؤنا " من قبل هذا الموعد، فلم نر لذلك صحة، ولا لهذا الوعد صدقا، وليس " هذا إلا أساطير الاولين " أي ما سطره الاولون مما لا حقيقة له، وانما يجري مجرى حديث السمر الذي يكتب للاطراف به. والاساطير هي الاحاديث المسطرة في الكتب، واحدها أسطورة.

فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله " قل " يامحمد لهؤلاء المنكرين للبعث والنشور " لمن الارض ومن فيها " أي من يملك الارض ويملك من فيها من العقلاء (وقوله " إن كنتم تعلمون " موافقة لهم في دعواهم. ثم قال في الجواب " سيقولون لله " أي سيقولون إن السموات والارض ومن فيهما الله، لانهم لم يكونوا يجحدون الله. وانما كذبوا الرسول.

وقوله " قل افلا تذكرون " أي افلا تتفكرون في مالكها. وتتذكرون قدرته وانه لا يعجزه شئ عن إعادتكم بعد الموت، مرة ثانية (كما انشأكم

[388]

أول مرة)(1) ثم قال له " قل " يا محمد لهم ايضا " من رب السماوات السبع " أي من مالكها والمتصرف فيها؟ ولولاه لبطل كل شئ سواه، لانه لايصح إلا مقدوره او مقدور مقدوره، فقوام كل ذلك به، ولا تستغني عنه طرفة عين لانها ترجع إلى تدبيره على مايشاء (عزوجل) وكذلك هو تعالى " رب العرش العظيم " وانما وجب أن يكون رب السماوات والعرش، من حيث كانت هذه الاشياء جميعها محدثة، لا بدلها من محدث اخترعها وانشأها، ولابد لها من مدبر يدبرها ويمسكها، ويصرفها على ما تتصرف عليه، ولابد أن يختص بصفات: من كونه قادرا عالما لنفسه ليتأتى منه جميع ذلك، على ما دبره. ولو لا كونه على هذه الصفات، لما صح ذلك.

ثم اخبر أنهم يقولون في الجواب عن ذلك رب السماوات ورب العرش هو " الله " ومن قرأ بلا ألف فمعناه انهم يقولون إنها " لله " فعند ذلك " قل " لهم " افلا تتقون " الله، ولا تخافون عقابه على جحد توحيده والاشراك في عبادته؟ ! ثم أمره بان يقول لهم أيضا " من بيده ملكوت كل شئ " والملكوت عظم الملك ووزنه (فعلوت) وهو من صفات المبالغة نحو (جبروت) ومن كلامهم (رهبوت خير من رحموت) أي ترهب خير من ان ترحم.

وقال مجاهد: ملكوت كل شئ خزائن كل شئ، والمعنى أنه قادر على كل شئ إذا صح أن يكون مقدورا له.

وقوله " وهو يجير " معناه أنه يعيذ بالمعنع من السوء، لما يشاء " ولايجار عليه " أي لايمكن منع من أراده بسوء منه. وقيل " هو يجير " من العذاب " ولا يجار عليه " منه. والاجارة الاعاذة، والجار المجير المعيذ، وهو الذي يمنعك ويؤمنك ومن استجار بالله اعاذه، ومن أعاذه الله لم يصل اليه احد. فانهم " سيقولون الله " الذي له

___________________________________

(1) ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.

[389]

ملكوت كل شئ وهو يجير ولايجار عليه. فقل لهم عند ذلك " أنى تسحرون " ومعناه كيف يخيل اليكم الحق باطلا، والصحيح فاسدا، مع وضوح الحق وتمييزه عن الباطل.

ومن قرأ (الله) باثبات الالف، فلانه يطابق السؤال في قوله (من رب السموات السبع ورب الارض... ومن بيده ملكوت كل شئ) لان جواب ذلك على اللفظ أن يقولوا (الله).

ومن قرأ " لله " باسقاط الالف، حمله على المعنى دون اللفظ، كقول القائل لمملوك: من مولاك؟ فيقول انا لفلان، وانشد الفراء لبعض بني عامر:

واعلم انني سأكون رمسا *** إذا سار النواعج لايسير

فقال السائلون لمن حفرتم *** فقال المخبرون لهم وزير(1)

لانه بمنزلة من قال: من الميت؟ فقالوا له: وزير، وذكر أنها في مصاحف أهل الامصار بغير الف، ومصحف أهل البصرة فانها بالف.(2) فأما الاولى فلا خلاف أنها بلا ألف لمطابقة السؤال في قول (قل لمن الارض) والجواب يقتضي أن يقولوا: لله.

وإنما أخبر الله تعالى عنهم، بأنهم يقولون في جواب السؤال: لله، لانهم لو أحالوا على غير الله في انه مالك السموات والارض، وأن غيره بيده ملكوت كل شئ وأن غيره رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، لظهر كذبهم. ولعلم كل احد بطلان قولهم، لظهور الامر في ذلك. وقربه من دلائل العقول.

وقوله (فأنى تسحرون) أي كيف تعمهون عن هذا، وتصدون عنه، من قولهم: سحرت أعيننا عن ذلك، فلم نبصره. وقيل معنى ذلك: فأنى تخدعون، كقول امرئ القيس:

___________________________________

(1) تفسير الطبري 18 / 32.

(2) وفي المخطوطة (في مصاحف اهل الشام بغير الف وفى مصاحف أهل الامصار بالالف)

[390]

ونسحر بالطعام وبالشراب(1) أي نخدع، وقيل معناه أنى تصرفون، يقال: ما سحرك عن هذا الامر أي ما صرفك عنه.

ثم أخبر تعالى إنه أتى هؤلاء الكفار بالحق الواضح: من توحيد الله وصفاته وخلع الانداد دونه وأنه يبعث الخلق بعد موتهم، ويجازيهم على طاعاتهم بالثواب، وعلى معاصيهم بالعقاب، وان الكفار كاذبون فيما يخبرون بخلافه.

قال المبرد: معنى (أنى) كيف، ومن أين.

قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون(91) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون(92) قل رب إما تريني ما يوعدون(93) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين(94) وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون(95))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ (عالم الغيب) بالجر ابن كثير وأبوعمرو، وابن عامر وحفص عن عاصم. الباقون بالرفع.

من جر رده على قوله (سبحان الله.... عالم الغيب) فجعله صفة لله. ومن رفعه، فعلى تقدير هو (عالم الغيب). يقول الله تعالى مخبرا أنه لم يتخذ ولدا اي لم يجعل ولد غيره ولد نفسه، لاستحالة ذلك عليه، لانه محال أن يكون له ولد، فلا يجوز التشبيه بما هومستحيل ممتنع إلا على النفي والتبعيد.

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1 / 372 و 5 / 268 و 6 / 485

[391]

واتخاذ الولد: أن يجعل الجاعل ولد غيره يقوم مقام ولده لوكان له.

وكذلك التبني إنما هو جعل الجاعل ابن غيره يقوم مقام ابنه الذي يصح أن يكون ولدا له.

ولذلك لايقال: تبنى شاب شيخا، ولا تبنى الانسان بهيمة، لما استحال ان يكون ذلك ولدا له، ولايجوز أن يقال: اتخذه ولدا، اذا اختصه بضرب من المحبة، لان في ذلك إخراج الشئ عن حقيقته كما أن تسمية ما ليس بطويل عريض عميق جسما إخراج له عن حقيقته. ثم اخبر انه كما لم يتخذ ولدا، لو يكن معه إله. وهذا جواب لمحذوف، وتقديره: لو كان معه إله آخر " اذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض " وفيه إلزام لمن يعبد الاصنام.

وقوله " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا "(1) دليل عام في نفي مساو للقديم فيما يقدر عليه من جميع الاجناس والمعاني. ومعنى " اذا لذهب كل إله بما خلق " أي لا نفرد به ولحوله من خلق غيره، لانه لايرضى أن يضاف خلقه وانعامه إلى غيره.

فان قيل: لم لايكون كل واحد منهم حكيما، فلا يستعلي على حكيم غيره؟ قلنا: لانه إذا كان جسما وكل جسم محتاج، جاز منه أن يستعلي لحاجته، بل لابد من أن يقع ذلك منه، لانه ليس له مدبر يلطف له حتى يمتنع من القبيح الذي يحتاج اليه، كما يلطف الله لملائكته وانبيائه بما في معلومه انهم يصلحون به. ثم نزه نفسه تعالى عن اتخاذ الولد وأن يكون معه إله غيره، فقال " سبحان الله عما يصفون " من الاشراك معه، واتخاذ الولد له.

وقوله " عالم الغيب والشهادة " فلذلك يأتي بالحق، وهم يأتون بالجهل. ويحتمل ان يكون معناه إن عالم الغيب والشهادة لايكون له شريك، لانه أعلى من كل شئ في صفته.

___________________________________

(1) سورة 21 انبياء آية 22

[392]

قال الحسن: هو رد لقول المشركين: الملائكة بنات الله.

وقال الجبائي: في الآية دلالة على انه يجوز ان يدعو الانسان بما يعلم انه يكون لا محالة وأن الله لابد أن يفعله.

ثم قال تعالى (فتعالى عما يشركون) أي تعاظم الله عن ان يشرك هؤلاء الكفار معه من الاصنام والاوثان.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (قل رب اما تريني ما يوعدن) ومعناه إن أريتني ما وعد هؤلاء الكفار به من العذاب والاهلاك. فقل يا (رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) أي لا تجعلني في جملة من يشملهم العذاب بظلمهم، وتقديره: إن انزلت بهم النقمة، فاجعلني خارجا منهم.

فقال الله تعالى (وإنا على ان نريك ما نعدهم لقادرون) معناه إن ما وعدتهم به من العذاب والاهلاك على كفرهم قادر عليه، لكني لا أفعله وأؤخره إلى يوم القيامة لما في تأخيره من المصلحة.

قوله تعالى: (إدفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون(96) وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين(97) وأعوذ بك رب أن يحضرون(98) حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون(99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون(100))

خمس آيات بلا خلاف.

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن يدفع السيئة من إساء‌ة الكفار اليه بالتي هي أحسن منها.

[393]

ومعنى ذلك انهم إذا ذكروا المنكر من القول - الشرك - ذكرت الحجة في مقابلته وذكرت الموعظة التي تصرف عنه إلى ضده من الحق، على وجه التلطف في الدعاء اليه، والحث عليه، كقول القائل: هذا لايجوز، وهذا خطأ، وعدول عن الحسن. وأحسن منه أن يوصل بذكر الحجة والموعظة كما بينا.

وقال الحسن: " بالتي هي أحسن " الاغضاء والصفح.

وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به الامة، والمعنى إدفع الافعال السيئة بالافعال الحسنة التي ذكرها.

وقوله " نحن اعلم بما يصفون " معناه نحن اعلم منهم بما يستحقون به من الجزاء في الوقت الذي يصلح الاخذ بالعقوبة إذا انقضى الاجل المضروب بالامهال.

ثم قال له " قل " يا محمد، وادع فقل يا " رب اعوذ بك من همزات الشياطين " أي نزغاتهم ووساوسهم، فمعنى (أعوذ) اعتصم بالله من شر الشياطين، في كل ما يخاف من شره. والمعاذة هي التي يستدفع بها الشر، والهمزات دفعهم بالاغواء إلى المعاصي، والهمز شدة الدفع. ومنه الهمزة: الحرف الذي يخرج من أقصى الحلق باعتماد شديد. والعياذ طلب الاعتصام من الشر " واعوذ بك رب أن يخضرون " هؤلاء الشياطين فيوسوسون لي ويغووني عن الحق.

وقوله " حتى اذا جاء احدهم الموت قال رب ارجعون " اخبار من الله تعالى عن أحوال هؤلاء الكفار، وانه إذا حضر أحدهم الموت، واشرف عليه سأل الله عند ذلك و " قال رب ارجعون " أي ردني إلى دار التكليف " لعلي أعمل صالحا " من الطاعات وأتلافى ما تركته، وانما قال " رب ارجعون " على لفظ الجمع لاحد امرين: احدهما - انهم استعانوا أولا بالله، ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة بالرجوع إلىالله - في رواية ابن جريج.

[394]

والثاني - انه جرى على تعظيم الذكر في خطاب الواحد بلفظ الجمع لعظم القدر كما يقول ذلك المتكلم، قال الله تعالى " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون "(1) وقال " ولقد خلقنا الانسان "(2) وما جرى مجراه. وروى النضر بن سمأل قال: سئل الخليل عن قوله " رب ارجعون " ففكر ثم قال: سألتموني عن شئ لا أحسنه ولا أعرف معناه، والله أعلم، لانه جمع، فاستحسن الناس منه ذلك.

فقال الله تعالى في الجواب عن سؤالهم " كلا " وهي كلمة ردع وزجر أي حقا " إنها كلمة " فالكناية عن الكلمة والتقدير: ان الكلمة التي قالوها " كلمة هو قائلها " بلسانه. وليس لها حقيقة، كما قال " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه "(3) وقوله " ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون " فالبرزخ الحاجز - وههنا - هو الحاجز بين الموت والبعث - في قول ابن زيد - وقال مجاهد: هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا.

وقال الضحاك: هو الحاجز بين الدنيا والاخرة: وقيل البرزخ الامهال.

وقيل: كل فصل بين شيئين برزخ. وفى الآية دلالة على أن احدا لايموت حتى يعرف اضطرارا منزلته عند الله وانه من أهل الثواب أو العقاب - في قول الجبائي وغيره - وفيها دلالة أيضا على انهم في حال التكليف يقدرون على الطاعة بخلاف ما تقول المجبرة.

ومعنى " ومن وارئهم " أي أمامهم وقد امهم، وقال الشاعر:

ايرجو بنو مروان سمعي وطاعتي *** وقومي تميم والفلاة ورائيا

ومعنى " يبعثون " يوم يحشرون للحساب والمجازاة، وأضيف إلى الفعل لان ظرف الزمان يضاف إلى الافعال.

___________________________________

(1، 2) سورة 15 الحجر آية 9، 26.

(3) سورة 6 الانعام آية 28

 

[395]

قوله تعالى (فاذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساء‌لون(101) فمن ثقلت موازينة فأولئك هم المفلحون(102) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون(103) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون(104) ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون(105))

خمس آيات بلا خلاف.

قوله تعالى " فاذا نفخ في الصور " ليوم الحشر والجزاء ومعنى نفخ الصور: هو علامة لوقت اعادة الخلق. وفي تصورهم الاخبار عن تلك الحال صلاح لهم في الدنيا، لانهم على ما اعتادوه في الدنيا من بوق الرحيل والقدوم.

وقال الحسن: الصور جمع صورة أي إذا نفخ فيها الارواح واعيدت احياء.

وقال قوم: هوقرن بنفخ فيه إسرافيل بالصوت العظيم الهائل، على ما وصفه الله.

وقوله " فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساء‌لون " اخبار منه تعالى عن هول ذلك اليوم، فانهم لا يتواصلون هناك بالانساب، ولا يحنون اليها، لشغل كل انسان بنفسه.

وقيل معناه: انهم لا يتناسبون في ذلك اليوم، ليعرف بعضهم بعضا من أجل شغله بنفسه عن غيره.

وقال الحسن: معناه لا أنساب بينهم يتعاطفون بها، وإن كانت المعرفة بأنسابهم حاصلة بدلالة قوله " يوم يفر المرء من اخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه "(1) فاثبت انهم يعرفون أقاربهم وإن هربهم منهم لاشتغالهم بنفوسهم، والنسب هو إضافة إلى قرابة في الولادة.

___________________________________

(1) سورة 80 عبس آية 34 - 36

[396]

وقوله " ولا يتساء‌لون " معناه لا يسأل بعضهم بعضا عن خبره وحاله، كما كانوا في الدنيا، لشغل كل واحد منهم بنفسه.

وقيل: لايسأل بعضهم بعضا أن يحمل عنه من ذنوبه شيئا. ولايناقض ذلك قوله " وأقبل بعضهم على بعض يتساء‌لون "(1) لان هناك مواطن، فمنها ما يشغلهم من عظيم الامر الذي ورد عليهم عن المسألة، ومنها حال يفيقون فيها فيتساء‌لون.

وقال ابن عباس: قوله " فاذا نفخ في الصور، يعني النفخة الاولى التي يهلك عندها الخلق، فلا احد يبقى، ولا نسب هناك ولا تساؤل.

وقوله (وأقبل بعضهم على بعض يتساء‌لون) فذلك عند دخولهم الجنة، فانه يسأل بعضهم بعضا، وهو قول السدي.

وقوله " فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون " اخبار منه تعالى أن من عظمت طاعاته وسملت من الاحباط - في قول من يقول بذلك - ومن لايقول بالاحباط فمعناه عندهم: إن من كثرت طاعاته، وهو غير مستحق للعقاب، فان اولئك هم المفلحون الفائزون.

" ومن خفت موازينه " بأن يكون احبطت طاعاته، لكثرة معاصيه. ومن لايقول بالاحباط، قال: معناه من لم يكن معه شئ من الطاعات وإنما معهم المعاصي، لان الميزان إذا لم يكن فيه شئ يوصف بالخفة، كما يوصف بالخفة إذا كان فيه شئ يسير في مقابلته ما هو أضعافه، فان من هذه صورته (فأولئك الذين خسروا انفسهم) لانهم أهلكوها بالمعاصي التي استحقوا بها العقاب بالدائم، وهم (في جهنم) مؤبدون (خالدون).

وقال الحسن والجبائي وغيرهما: هناك ميزان له كفتان ولسان. واختلفوا:

___________________________________

(1) سورة 37 الصافات آية 27

[397]

فمنهم من قال: يوزن بها صحف الاعمال. وقال بعضهم: يظهر في احدى الكفتين النور، وفي الاخرى الظلمة، فأيهما رجح تبينت الملائكة المستحق للثواب من المستحق للعقاب.

وقال قتادة والبلخي: الميزان عبارة عن معادلة الاعمال بالحق. وبيان أنه ليس هناك مجازفة ولا تفريط.

ثم اخبر تعالى بأن النار التي يجعلون فيها (تلفح وجوههم) وانهم فيها (كالحون) يقال: لفح ونفح بمعنى واحد، غير أن اللفح أعظم من النفخ. واشد تأثيرا، وهو ضرب من السموم للوجه، والنفح ضرب الريح للوجه، والكلوح تقلص الشفتين عن الاسنان حتى تبدو الاسنان، قال الاعشى:

وله المقدم لامثل له *** ساعة الشدق عن الناب كلح(1)

قوله تعالى: (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين(106) ربنا أخرجنا منها فان عدنا فانا ظالمون(107) قال اخسؤا فيها ولا تكلمون(108) إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين(109) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون(110))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما (شقاوتنا) باثبات الالف. الباقون (شقوتنا).

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 40 وروايته " في الحرب " بدل " لا مثل له "

[398]

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما ونافع (سخريا) بضم السين. الباقون بكسرها.

حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار انهم يعترفون على نفوسهم بالخطأ، ويقولون (ربنا غلبت علينا شقوتنا) والشقوة المضرة اللاحقة في العاقبة. والسعادة المنفعة اللاحقة في العاقبة، وقد يقال لمن حصل في الدنيا على مضرة فادحة: شقي، من حيث أنه يؤدي إلى أمر شديدة، فالمعاصي شقوة، تؤدي إلى العقاب الدائم. ويجوز أن يكون المراد بالشقوة العذاب الذي يفعل الله بهم ويغلب عليهم.

وقوله " وكنا قوما ضالين " اعتراف منهم على نفوسهم أنهم ضلوا عن الحق في الدنيا وزمان التكليف، ويسألون الله تعالى فيقولون " ربنا أخرجنا منها " أى من هذه النار " فان عدنا فانا ظالمون " ولايجوز أن يكونوا لو أخرجوا إلى دار التكليف لما عادوا، لان الشهوة العاجلة والاغترار بالامهال يعود اليهم فلا يكونون ملجئين.

وقد قال الله تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وانهم لكاذبون "(1).

وقال الحسن: هو آخر كلام يتكلمون به أهل النار، فيقول الله تعالى لهم في جوابهم " اخسئوا فيها " يعني في النار " ولا تكلمون " أي ابعدوا، بعد الكلب.

واذا قيل للكلب اخسأ، فهو زجر بمعنى ابعد بعد غيرك من الكلاب، واذا خوطب به انسان، فهو إهانة له، ولايكون ذلك إلا عقوبة، وخسأت فلانا أخسأه خسأ، فهو خاسئ إذا أبعدته بمكروه، ومنه قوله " كونوا قردة خاسئين "(2) وقوله " ولا تكلمون " قيل في معناه قولان: احدهما - ان ذلك على وجه الغضب اللازم لهم، فذكرذلك ليدل على هذا المعنى، لان من لا يكلم اهانة له وغضبا، فقد بلغ به الغاية في الاذلال. والثاني - ولا تكلمون في رفع العذاب عنكم، فاني لا أرفعه عنكم، ولا افتره

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 28 " 2 " سورة 2 البقرة آية 65

[399]

وهو على صيغة النهي، وليس بنهي. ثم يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار على وجه التهجين لهم والتوبيخ (انه كان فريق من عبادي) يعني المؤمنين في دار الدنيا (يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الراحمين) أي يدعون بهذه الدعوات، عبادة لله، وطلبا لما عنده من الثواب (فاتخذتموهم) انتم يا معشر الكفار (سخريا) اي كنتم تستهزؤن بهم وتسخرون منهم.

وقيل (السخري) بضم السين من التسخير و (السخري) بكسر السين من الهزء. وقيل: هما لغتان.

وقوله (حتى انسوكم ذكري) معناه لتشاغلكم بالسخرية نسيتم ذكري (وكنتم منهم تضحكون) فلذلك نسب اليهم انهم انسوهم ذكر الله، لما كان بسببهم، والاشغال باغوائهم نسوا ذكر الله.

[400]

قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون(111) قال كم لبثتم في الارض عدد سنين(112) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين(113) قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون(114) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون(115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم(116) ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فانما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون(117) وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين(118))

ثمان آيات بلا خلاف.

قرأ حمزة والكسائي وخارجة عن نافع " انهم هم الفائزون " بكسر الهمزة. الباقون بفتحها.

وقرأ ابن كثير " قل كم لبثتم " على الامر. الباقون " قال كم لبثتم " على الخبر.

وقرأ حمزة والكسائي " قل " فيهما على الامر. الباقون " قال " فيهما على الخبر.

وقرأ " ترجعون " بفتح التاء وكسر الجيم حمزة والكسائي. الباقون بضم التاء وفتح الجيم.

اخبر الله تعالى " اني جزيتهم اليوم " يعني المؤمنين الذين سخر منهم الكفار في دار التكليف، وأكافيهم على صبرهم ومضضهم في جنب الله، على أقوال الكفار وهزؤهم بهم ب‍ " أنهم هم الفائزون " وحذف الباء، ونصب الهمزة، وقيل: إنها في موضع جر، وتقديره جزيتهم بفوزهم بالجنة.

وقيل تقديره: لانهم هم الفائزون.

ومن خفض الهمزة فاستأنف، فالجزاء مقابلة العمل بما يستحق عليه من ثواب أو عقاب كما يقال: الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.

والصبر حبس النفس عما تنازع اليه مما لايحسن، أو ليس بأولى، لان الصبر طاعة الله لما وعد عليه من الجزاء، والطاعة قد تكون فرضا، وقد تكون نفلا.

وقوله " اليوم " يريد به أيام الجزاء لا يوما بعينه، لان اليوم هو ما بين طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس وليس المراد في الآية ذلك.

قوله " قال كم لبثتم في الارض عدد سنين " فمن قرأ " قال " فمعناه قال الله لهم كم لبثتم. ومن قرأ " قل " معناه قل لهم يامحمد، واللبث هو المكث وهو حصول الشئ على الحال اكثر من وقت واحد، والابث هو الكائن على الصفة، على مرور الاوقات.

والعدد عقد يظهر به مقدار المعدود، يقال: عده يعده عدا وعددا، فهو عاد.

[401]

والحساب واخراج المقدار في الكمية وهي العدة، وهذا السؤال لهم على وجه التوبيخ لانكارهم البعث والنشور، فيقول الله لهم اذا بعثهم (كم لبثتم في الارض عدد سنين) اي اين ما كنتم تنكرون من اجابت الرسل وما جاء‌ت به وتكذبون به.

وقوله (قالوا لبثنا يوما او بعض يوم) فسأل العادين قال مجاهد: معناه فسأل العادين من الملائكة لانهم يحصون أعمال العباد.

وقال قتادة: العادين هم الحساب الذين يعدون الشهور والسنين، ولا يدل ذلك على بطلان عذاب القبر، لانهم لم يكونو يعدون كاملي العقول، وقد صح عذاب القبر بتضافر الاخبار عن النبي صلى الله عليه وآله واجماع الامة عليه - ذكره الرماني - ولايحتاج إلى هذا، لانه لايجوزأن يعاقب الله العصاة إلا وهم كاملوا العقول ليعلموا أن ذلك واصل إليهم على وجه الاستحقاق.

ووجه اخبارهم بيوم او بعض يوم، هو الاخبار عن قصر المدة، وقلته، لما مضى لسرعة حصولهم في ما توعدهم الله تعالى، فيقول الله تعالى في الجواب (ان لبثتم الا قليلا) اي لم تلبثوا إلا قليلا، والمراد ما قلناه من قصر المدة كما قال (اقترب للناس حسابهم)(1) وكما قال (اقتربت الساعة)(2) وكما قال (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب)(3) وقال الحسن: معناه (إن لبثتم إلا قليلا) في طول لبثكم في النار، والقلة والكثرة يتغير ان بالاضافة، فقد يكون الشئ قليلا بالاضافة إلى ما هو أكثر منه، ويكون كثيرا بالاضافة إلى ما هو أقل منه (لو انكم كنتم تعلمون) صحة ما أخبرناكم به.

ثم قال لهم (أفحسبتم) معاشر الجاحدين للبعث والنشور (أنما خلقناكم عبثا) لا لغرض !؟ ! أي ظنتتم، والحسبان والظن واحد، أحد ظننتم انا خلقناكم لا لغرض،

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء آية 1.

(2) سورة 54 القمر آية 1.

(3) سورة 16 النحل آية 77

[402]

وحسبتم (أنكم الينا لا ترجعون) أي إلى الحال التي لا يملك نفعكم وضركم فيها إلا الله، كما كنتم في ابتداء خلقكم قبل أن يملك أحدا شيئا من أمركم. ثم نزه تعالى نفسه عن كل دنس، واخبرانه (فتعالى الله الملك الحق) ومعناه: علا معنى صفته، فوق كل صفة لغيره، فهو تعظيم الله تعالى بأن كل شئ سواه يصغر مقداره عن معنى صفته.

(والملك الحق) هو الذي يحق له الملك، بأنه ملك غير مملك، وكل ملك غيره، فملكه مستعار له، وانما يملك ما ملكه الله، فكأنه لا يعتد بملكه في ملك ربه، والحق هو الشئ الذي من اعتقده كان على ما اعتقده، فالله الحق، لانه من اعتقد انه لا إله إلا هو، فقد اعتقد الشئ على ما هو به.

وقوله (رب العرش الكريم) أي خالقه، ووصفه العرش بأنه كريم تعظيم له باتيان الخير من جهته، بما دبره الله لعباده، والكريم في أصل اللغة القادر على التكرم من غير مانع.

ثم قال " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به " ومعناه إن من دعا مع الله إلها سواه لا يكون له على ذلك برهان ولا حجة، لانه باطل، ولو دعا الله ببرهان لكان محقا، واجري على ذلك قوله " ويقتلون النبيين بغير حق "(1) وقول الشاعر: على لاحب لا يهتدى بمناره(2) وقوله " فانما حسابه على ربه " يعني الله الذي يبين له مقدار ما يستحقه من ثواب او عقاب.

ثم اخبر تعالى بأنه " لا يفلح الكافرون " يعني الجاحدين لنعم الله، والمنكرين لتوحيده، والدافعين للبعث والنشور. ثم امرنبيه صلى الله عليه وآله فقال له " قل " يا محمد " رب اغفر وارحم " أي اغفر الذنوب، وانعم على خلقك.

" وانت خير الراحيم " معناه افضل من رحم وانعم على غيره، واكثرهم نعمة وأوسعهم فضلا.

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 21.

(2) انظر 2 / 356، 423 و 6 / 213

 

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334007

  • التاريخ : 28/03/2024 - 11:59

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net