00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الجاثية 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع )   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

45 - سورة الجاثية

مكية في قول قتادة ومجاهد وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست في البصري والمدنيين.

بسم الله الرحمن الرحيم

(حم(1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم(2) إن في السموات والارض لآيات للمؤمنين(3) وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون(4) واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون(5))

خمس آيات في الكوفي واربع في الباقي، عد الكوفيون " حم " ولم يعده الباقون. قرأ اهل الكوفة إلا عاصما " لآيات " بالكسر في الثلاث مواضع. الباقون بالرفع في الثاني. والثالث. من خفض التاء فعلى أنه في موضع نصب ردا على (إن) وإنما كسرت التاء، لانها تاء جمع التأنيث.

وقال المبرد: هذا بعد الواو لانه عطف على عاملين على " إن " و " في " بحرف الواو، لانه يكون عطف " وإختلاف " على (في) وعطف على (إن) بهذه الواو وحدها، فأما " آيات " الثانية فأجاز عطفها على الاولى، لان معها (في) وتقديره إن في خلقكم.

[245]

قال ابن خالويه ليس ذلك لحنا، لان من رفع أيضا فقد عطف على عاملين، فيكون عطف جملة على جملة ويحتمل ان يكون عطف على موضع (إن) لان موضعها الرفع، والاخفش كان يجيز العطف على عاملين، فيقول مررت بزيد في الدار والحجرة عمرو، ويحتج بقول الشاعر:

اكل امرئ تحسبين امرأ *** ونار تأجج للحرب نارا(1)

عطف على ما عملت فيه (كل) وما عملت فيه (تحسبين) وأجود من العطف على عاملين أن يجعل (آيات) الثانية بدلا من الاول، فيكون غير عاطف على عاملين، وتقديره إن في السموات والارض لآيات للمؤمنين لآيات، كما تقول: ضربت زيدا زيدا، فلا يحتاج إلى حرف العطف، ومن رفع آيات الثانية حملها على الابتداء والخبر، وجعل الثالثة تكرير الثانية بالرفع، قال الزجاج: لانه يرفع (آيات) عطفا على ما قبلها، كما خفض (وإختلاف) عطفا على ما قبلها.

وقال ابو علي: وجه قراء‌ة الكسائي أنه لم يحمل على موضع (إن) كما حمله من رفع (آيات) في الموضعين أو قطعه واستأنف، لكنه حمله على لفظ (إن) دون موضعها، فحمل (آيات) في الموضعين على نصب (إن) في قوله " إن في السموات والارض لآيات للمؤمنين) ويكون على تقدير إن، وإن كانت محذوفة من اللفظ ويجعلها في حكم المثبت فيه، لان ذكره قد تقدم في قوله " إن في السموات " وقوله " وفي خلقكم " فلما تقدم الجار في هذين الموضعين قدر في الاثبات في اللفظ، وإن كان محذوفا منه كما قدر سيبويه في قوله:

اكل امرئ تحسبن امرء‌ا *** [ ونار تأجج للجر نارا ]

___________________________________

(1) قائله ابوذؤاد الايادي، تفسير القرطبى 16 / 157

[246]

وقيل (كل) في حكم الملفوظ به واستغني عن إظهاره بتقدم ذكره، وكذلك فعلت العرب في الجار ألا ترى أنهم لم يجيزوا (من تمرر أمرر) واجازوا (بمن تمرر أمرر) و (على أيهم تنزل انزل) فحذف الجار حسن لتقدم ذكر الجار، وعلى هذا قول الشاعر:

ان الكريم وأبيك يعتمل *** إن لم يجد يوما على من يتكل

لما ذكر (على) و (إن) كانت زائدة - في قول سيبويه - حسن حذف الجار من الصلة، ولو لم تذكر لم يجزه.

وحكي في بعض القراء‌ات عن أبي إنه قرأ في المواضع الثلاث " لآيات في خلقكم وما يبث من دابة لآيات " وكذلك الآخر فدخول اللام يدل على أن الكلام محمول على (إن) وإذا كان محمولا عليها حسن النصب على قراء‌ة حمزة والكسائي وصار كل موضع من ذلك كأن (إن) مذكورة فيه بدلالة دخول اللام، لان هذه اللام إنما تدخل على خبر (إن) أو اسمها، وحكي أن أبيا قرأ " لآيات " بالرفع مع إدخال اللام عليها، وهذا لا يجيزه اكثر النحويين كالكسائي وغيره، كما لا يجوز في الدار لزيد، واجازه الفراء وانشد لحميد بن ثور:

إن الخلافة بعدهم لذميمة *** وخلائف طرف لميما أحقر(1)

وحكى الفراء أنه يقول العرب (إن) لي عليك مالا وعلى أبيك مال بالرفع والنصب، وحكى ابوعلي: إنه يجوز أن يعمل الثاني على التأكيد للاول وكذلك في الثالث، ولا يكون عطفا على عاملين، كما قال بعض شيوخنا في قوله " ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فان له "(2) حمل الثاني على أنه تأكيد للاول. قد ذكرنا في ما تقدم ان (حم) اسم للسورة، وانه أجود الاقوال.

قال الرماني: وفي تسمية السورة ب‍ (حم) دلالة على ان هذا القرآن المعجز كله من

___________________________________

(1) تفسير الطبري 25 / 77.

(2) سورة التوبة إية 64

[247]

حروف المعجم، لانه سمي به ليدل عليه بأوصافه، ومن اوصافه انه مفصل قد فصلت كل سورة من اختها. ومن اوصافه أنه هدى ونور، فكأنه قيل: هذا اسمها الدال عليه بأوصافه.

ثم وصف تعالى الكتاب بأنه تنزيل من الله في مواضع من السور لاستفتاحه بتعظيم شأنه على تصريف القول بما يقتضي ذلك فيه من أضافته إلى الله تعالى من اكرم الوجوه وأجلها وما يتفق الوصف فيه يقتضى انه كالاول في علو المنزلة وجلالته عند الله وإذا أفاد هذا المعنى باقتضائه له لم يكن تكريرا، ويقول القائل: اللهم اغفر لي اللهم ارحمني اللهم عافني اللهم اوسع علي في رزقي فيأتى بما يؤذن أن تعظيمه لربه منعقد بكل ما يدعو به.

وقوله " من الله " يدل على ان ابتداء‌ه منه تعالى " العزيز " ومعناه القادر الذي لا يغالب " الحكيم " معناه العالم. وقد يكون بمعنى أن أفعاله حكمة وصواب ثم أخبر تعالى ان في السموات والارض لآيات للمؤمنين الذين يصدقون بالله ويقرون بتوحيده وصدق انبيائه وإنما اضاف الآيات إلى المؤمنين وإن كانت ادلة للكافرين ايضا، لان المؤمنين انتفعوا بها دون غيرهم من الكفار.

والآيات هي الدلالات والحجج. وفي السموات والارض دلالات على الحق من وجوه كثيرة، منها أنه يدل بخلقها على ان لها خالقا، وانه قادر لا يعجزه شئ وانه مخالف لها، فلا يشبهها وعلى انه عالم بما فيها من الاتقان والانتظام. وفي استحالة تعلق القدرة بها دلالة على ان صانعها قديم غير محدث وبوقوفها مع عظمها وثقل اجرامها بغير عمد ولا سند يدل على أن القادر عليها قادر على الاتيان بمالا يتناهى ولا يشبه احد من القادرين وانه خارج عن حد الطبيعة.

ثم بين تعالى ان في خلقنا آيات، والوجه في الدلالة في خلقنا ضروب كثيرة: منها خلق النفس على ما هو به من وضع كل شئ موضعه لما يصلح له.

[248]

وفي ذلك دلالة على أن صانعه عالم لانه فعل الحواس الخمس على البنية التي تصلح له مما يختص كل واحد منها بادراك شئ بعينه، لا يشركه فيه الآخر، لان العين لا تصلح إلا لادراك المبصرات وكذلك الفم يصلح للذوق، والانف للشم، والبشرة للمس، وكل شئ من ذلك يختص بمالا يشركه فيه الآخر وفى ذلك أوضح دلالة على ان صانعها عالم بها، وأنه لا يشبهه شئ، ولو لم يكن إلا خلق العقل الذي يهدي إلى كل أمر، ويتميز به العاقل من كل حيوان، ولا يشبهه شئ في جلالته وعظم منزلته لكان فيه كفاية على جلالة صانعه وعظم خالقه.

وقيل: معنى اختلاف الليل والنهار تعاقبهما.

وقيل: زيادتهما ونقصانهما، وإنزال الماء من السماء من الغيث والمطر واحياء الارض بالنبات بعد الجدب والقحط فيثبت الله بذلك رزق الحيوان.

وقوله " وبث فيها من كل دابة " أي فرق فيها من جميع الحيوان بأن خلقها وأوجدها، وتصريف الرياح بأن يجعلها تارة جنوبا وتارة شمالا ومرة دبورا ومرة صبا - في قول الحسن - وقال قتادة: يجعلها رحمة مرة وعذابا أخرى.

وقال الحسن: كثافة السماء مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء إلى سماء فتق مسيرة خمسمائة عام وبين كل أرضين فتق مسيرة خمسمائة عام، وكثافة الارض مسيرة خمسمائة عام.

[249]

قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون(6) ويل لكل أفاك أثيم(7) يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم(8) وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين(9) من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم(10))

خمس آيات بلاخلاف.

قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " تؤمنون " بالتاء على وجه الخطاب للكفار على تقدير قل لهم يا محمد. الباقون بالياء على وجه الاخبار عنهم والتعجب منهم.

لما اخبر الله تعالى عن القرآن بأنه تنزيل من الله وأن في السموات والارض آيات ودلالات لمن نظر فيها تدل على الحق وأن في أنفس الخلق وإنزال الماء من السماء وإخراج النبات وبث انواع الحيوان أدلة لخلقه تدلهم على توحيدالله وحكمته لمن انعم النظر فيها، بين ههنا أن ما ذكره أدلة الله التي نصبها لخلقه المكلفين لازاحة علتهم وانه يتلوها بمعنى يقرؤها على نبيه محمد ليقرء‌ها عليهم بالحق دون الباطل.

والتلاوة الاتيان بالثانى في أثر الاول في القراء‌ة، فتلاوة الحروف بعضها بعضا يكون في الكتابة والقراء‌ة، وفلان يتلو فلانا أي يأتي بعده، وفلان يتلو القرآن أي يقرؤه، والحق الذي تتلى به الآيات هو كلام مدلوله على ما هو به في جميع أنواعه.

والفرق بين حديث القرآن وإياته ان حديثه فصص تستخرج منه عبر تدل على الحق من الباطل، والآيات هي الادلة التي تفصل بين الصحيح والفاسد فهو مصروف في الامرين ليسلك الناظر فيه الطريقين، لما له في كل واحد منهما من الفائدة في القطع بأحد الحالين في أمور الدين.

ثم قال على وجه التهجين لهم إن هؤلاء الكفار إن لم يصدقوا بما تلوناه فبأي شئ بعده يؤمنون.

[250]

ثم قال مهددا لهم " ويل لكل أفاك أثيم " فالويل قيل: إنه واد سائل من جهنم صديد أهلها.

وقيل: إن الويل كلمة يتلقى بها الكفار والفساق تتضمن استحقاقهم العقاب، والافاك الكذاب ويطلق ذلك على من يكثر كذبه او يعظم كذبه وإن كان في خبر واحد، ككذب مسيلمة في ادعاه النبوة. والاثيم ذو الاثم، وهو صاحب المعصية التي يستحق بها العقاب. ثم وصف هذا الافاك الاثيم، فقال " يسمع آيات الله " أي حججه " تتلى عليه " أي تقرأ " ثم يصر " أي يقيم مصرا على كفره " مستكبرا " متجبرا عن النظر في آيات الله لا ينظر فيها ولا يعتبر بها " كأن لم يسمعها " أصلا. ثم أمر نبيه صلى الله عليه واله أن يبشر من هذه صفته فقال " فبشره بعذاب اليم " أي مؤلم موجع.

ثم عاد تعالى إلى وصفه فقال (وإذا علم من آياتنا شيئا) اتخذها هزوا أي إذا علم هذا الافاك الاثيم من حجج الله تعالى وأدلته شيئا وسمعها (اتخذها هزوا) أي سخر منها وتلهى بها، كما فعل ابوجهل حين سمع قوله (إن شجرة الزقوم طعام الاثيم)(1) ثم قال أولئك يعني من هذه صفته (لهم عذاب مهين) أي مذل لهم.

ثم قال (من وارئهم جهنم) أي من بين أيديهم يعني يوم القيامة (جهنم) معدة لهم وإنما قيل: لما بين ايديهم من ورائهم، والوراء هو الخلف، لانه يكون مستقبل أوقاتهم بعد تقضيهم ومعناه ما توارى عنهم قد يكون قداما وخلفا فهو لهذه العلة يصلح فيه الوجهان ثم قال تعالى " ولا يغني عنهم " إذا جعلوا في جهنم ما كسبوه في دار الدنيا من جمع الاموال (ولا شيئا يغني عنهم أيضا (ما اتخذوا من دون الله أولياء) يتولونهم ويحبونهم لينصروهم ويدفعوا عنهم (ولهم عذاب عظيم) ووصفه بأنه عظيم، لانه مؤبد نعوذ بالله منه.

___________________________________

(1) سورة 44 الدخان آية 44

[251]

قوله تعالى: (هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم(11) ألله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(12) وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون(13) قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون(14) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون(15))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ ابن كثير وحفص (من رجز اليم) بالرفع جعلاه صفة للعذاب. الباقون بالخفض جعلوه صفة للرجز، فكأن قال: من رجز اليم، والرجز هو العذاب فلذلك صح وصفه بأنه أليم.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (لنجزي) قوما بالنون على وجه الاخبار من الله عن نفسه بأنه يجازيهم، الباقون بالياء ردا إلى (الله) على الاخبار عنه.

معنى قوله (هذا هدى) أي هذا القرآن الذي تلوناه والكلام الذي ذكرناه (هدى) أي دلالة موصلة إلى الفرق بين ما يستحق به الثواب والعقاب، ويفرق به بين الحق والباطل من امر الدين والدنيا.

ثم قال تعالى (والذين كفروا بآيات الله) وجحدوها " لهم عذاب " من عندالله جزاء على كفرهم (من رجز اليم).

[252]

ثم نبه تعالى خلقه على وجه الدلالة على توحيده، فقال (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بامره) ووجه الدلالة من تسخير البحر لتجري الفلك فيه بأمره، لنبتغي بتسخيره من فضل الله، فهو محسن في فعله يستحق الشكر به على وجه لا يجوز لغيره، وإن احسن، لانه أعظم من كل نعمة. وبين انه إنما فعل ذلك لكي يشكروه على نعمه.

ثم قال (وسخر لكم) معاشر الخلق (ما في السموات وما في الارض جميعا) من شمس وقمر ونجم وهواء وغيث وغير ذلك وجعل السماء سقفا مزينا وجوهرا كريما وسخر الارض للاستقرار عليها وما يخرج من الاقوات منها من ضروب النبات والثمار والبر فيها إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من ضروب نعمه مما لا يحاط به علما، وسهل الوصول إلى الانتفاع به تفضلا (منه) على خلقه. ثم بين (إن في ذلك) يعني في ما بينه (لآيات) ودلالات (لقوم يتفكرون) فيه ويعتبرون به.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (قل الذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) أي لا يخافون عذاب الله إذا أنالوكم الاذى والمكروه، ولا يرجون ثوابه بالكف عنكم. وقيل: معناه لا يرجون ثواب الله للمؤمنين، إن الله يعرفهم عقاب سيآتهم بما عملوا من ذلك وغيره.

ومعنى (يغفروا) ههنا يتركوا مجازاتهم على أذاهم ولا يكافوهم ليتولى الله مجازاتهم.

وقال ابن عباس وقتادة وابن زيد والضحاك: هو من المنسوخ.

وقال ابوصالح: نسخها قوله (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)(1) و (يغفروا) جواب أمر محذوف دل عليه الكلام، وتقديره: قل لهم اغفروا يغفروا وصار (قل لهم) على هذا الوجه يغني عنه.

وقال الفراء: معناه في الاصل حكاية بمنزلة الامر كقولك: قل للذين آمنوا اغفروا، وإذا ظهر الامر مصرحا فهو مجزوم

___________________________________

(1) سورة 22 الحجج آية 39

[253]

لانه أمر وإن كان على الخبر مثل قوله (قل للذين آمنوا يغفروا) (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة)(1) فهذا مجزوم تشبيها بالجزاء.

وقوله (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) يحتمل معنيين: احدهما - قل لهم يغفروا لهم، فان الله يجازيهم يعني الكفار، فانهم اليه يرجعون. الثاني - ان يكون المعنى ليجزيهم الله يعني المؤمنين، ويعظم أجرهم على احتمالهم وصبرهم ولن يفوتوه يعني الكافرين بل اليه مرجعهم.

ثم قال تعالى (من عمل صالحا) يعني طاعة وخيرا (فلنفسه) لان ثواب ذلك عائد عليه (ومن اساء) بأن فعل المعصية (فعليها) أي على نفسه لان عقاب معصيته يناله دون غيره.

ثم قال (ثم إلى ربكم ترجعون) الذي خلقكم ودبركم تردون يوم القيامة اليه أي إلى حيث لا يملك أحد الامر والنهي والضر والنفع غيره، فيجازي كل إنسان على قدر علمه.

___________________________________

(1) سورة 14 ابراهيم آية 31

[254]

قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين(16) وآتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاء‌هم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون(17) ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون(18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين(19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون(20))

خمس آيات بلا خلاف.

هذا قسم به من الله تعالى بأنه أعطى بني إسرائيل الكتاب يعني التوارة وآتاهم الحكم، وهو العلم بالفصل بين الخصمين وبين المحق والمبطل، يقال: حكم في الامر يحكم حكما، وحكمته في أمري تحكيما، واحكم العمل إحكاما، واستحكم الشئ استحكاما، وحاكمته إلى الحاكم محاكمة (ورزقناهم من الطيبات) فالرزق العطاء الجاري على توقيت وتوظيف في الحكم، وإنما قلنا في الحكم، لانه لو حكم بالعطاء الموقت في الاوقات الدائرة على الاستمرار لكان رازقا وإن أقتطعه ظالم عن ذلك العطاء.

ثم قال (وفضلناهم على العالمين) والتفضيل جعل الشئ أفضل من غيره باعطائه من الخير مالم يعط غيره أو بالحكم لانه افضل منه، فالله تعالى فضل بني إسرائيل بما أعطاهم على عالمي زمانهم.

قال الحسن: فضلهم الله على أهل زمانهم وقال قوم: فضلهم بكثرة الانبياء منهم على سائر الامم، وإن كانت أمة محمد صلى الله عليه واله أفضل في كثرة المطيعين لله، وكثرة العلماء منهم، كما تقول هذا أفضل في علم النحو، وذاك في علم الفقه، فأمة محمد صلى الله عليه واله افضل في علو منزلة نبيها عند الله على سائر الانبياء، وكثرة العلماء منهم والعاملين بالحق لقوله تعالى (كنتم خير أمة اخرجت للناس)(1) فأولئك خالف اكثرهم أنبياء‌هم ووافق كثير من هؤلاء علماء‌هم واخذوا عنهم واقتبسوا من نورهم، والفضل الخير الزائد على غيره وأمة محمد صلى الله عليه واله أفضل بفضل نبيها.

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 110

[255]

ثم قال (وآتيناهم) يعني اعطيناهم (بينات من الامر) أي دلالات وبراهين واضحات من الامر ثم قال (فما اختلفوا) أي لم يختلفوا (إلا من بعد ما جاء‌هم العلم بغيا بينهم) فالاختلاف اعتقاد كل واحد من النفيسين ضد ما يعتقده الآخر إذا كان اختلافا في المذهب، وقد يكون الاختلاف في الطريق بأن يذهب احدهما يمنة، والآخر يسرة، وقد يكون الاختلاف في المعاني بأن لا يسد احدهما مسد الآخر في ما يرجع إلى ذاته. وإختلاف بني إسرائيل كان في ما يرجع إلى المذاهب.

وقوله (بغيا بينهم) نصب على المصدر، ويجوز ان يكون على انه مفعول له أي اختلفوا للبغي وطلب الرياسة. ومعنى البغي الاستعلاء بالظلم، وهو خلاف الاستعلاء بالحجة. والبغي يدعو إلى الاختلاف لما فيه من طلب الرفعة بما لا يرجع إلى حقيقة ولا يسوغ في الحكمة، وإنما كان ذلك طلبا الرياسة والامتناع من الانقياد للحق بالانفة، ثم قال (إن ربك) يا محمد (يقضي بينهم يوم القيامة) أي يحكم ويفصل بين المحق منهم والمبطل في ما كانوا يختلفون في دار التكليف، وقيل: الحكم العلم بالفصل بين الناس في الامور.

ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه واله (ثم جعلناك) يا محمد (على شريعة من الامر) فالشريعة السنة التي من سلك طريقها أدته إلى البغية كالشريعة التي هي طريق إلى الماء، وهي علامة منصوبة على الطريق إلى الجنة كأداء هذا إلى الوصول إلى الماء، فالشريعة العلامات المنصوبة من الامر والنهي المؤدية إلى الجنة، ثم قال (فاتبعها) يعني اعمل بهذه الشريعة (ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون) الحق ولا يفصلون بينه وبين الباطل.

ثم اخبر النبي صلى الله عليه واله فقال (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) يعني هؤلاء

[256]

الكفار لا يغنون عنك شيئا (وإن الظالمين) نفوسهم (بعضهم أولياء بعض) بفعل المعاصي (والله ولي المتقين) الذين يجتنبون معاصيه ويفعلون طاعاته. ثم قال (هذا) يعني هذا الذي ذكرناه (بصائر للناس) أي ما يتبصرون به واحدها بصيرة (وهدى) أي ودلالة واضحة (ورحمة) أي ونعمة من الله عليهم (لقوم يوقنون) بحقيقة ذلك. وإنما اضافه إلى المؤمنين لانهم الذين انتفعوا به دون الكفار الذين لا يفكروا فيه.

قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيآت أن تجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون(21) وخلق الله السموات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون(22) أفرأيت من اتخذ إلهه هويه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون(23) وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون(24) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين(25))

خمس آيات بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا أبابكر (سواء) نصبا. الباقون بالرفع. وقرأ اهل

[257]

الكوفة إلا عاصما (غشوة) على التوحيد الباقون (غشاوة) على الجمع.

من رفع (سواء) جعله مبتدأ وما بعده خبرا عنه، ويكون الوقف على قوله (وعملوا الصالحات) تاما. ويجعل الجملة في موضع النصب، لانها خبر ل‍ (جعل) ورفع (سواء) لانه اسم جنس لا يجري على ما قبله كما لا تجري الصفة المشبهة بالمشبهة إذا كانت لسبب الاول كذلك نحو قولك: مررت بزيد خير مه أبوه. فمثل هذا في الحال والخبر والصفة سبيلة واحد إذا كانت لسبب الاول.

ومن نصب (محياهم ومماتهم) جعل (سواء) في موضع (مستو) وعامله تلك المعاملة، فجعل في موضع المفعول الثاني (أن نجعلهم) والهاء والميم المفعول الاول، وإن جعلت (كالذين آمنوا) المفعول الثاني نصب (سواء) على الحال وهو وقف حسن.

ويرفع (محياهم) بمعنى استوى محياهم ومماتهم.

ومن قرأ (غشوة) جعله كالرجفة والخطفة.

ومن قرأ (غشاوة) جعله مصدرا مجهولا، والفعلة المرة الواحدة، وقال قوم هما لغتان بمعنى واحد. وحكي الضم ايضا.

وقيل: في الضمير في قوله (سواء محياهم ومماتهم) قولان: احدهما - إنه ضمير للكفار دون الذين آمنوا. والثاني - انه ضمير للقبيلين.

فمن جعل الضمير للكفار قال (سواء) على هذا القول مرتفع بأنه خبر ابتداء متقدم وتقديره محياهم ومماتهم سواء أي محياهم محيا سواء ومماتهم كذلك، فعلى هذا لا يجوز النصب في (سواء) لانه إثبات الخبر بأن محياهم ومماتهم يستويان في الذم والبعد من رحمة الله.

ومن قال الضمير يرجع إلى القبيلين قال يجوز ان ينتصب (سواء) على انه مفعول ثان لانه ملتبس بالقبيلين جميعا، وليس كذلك الوجه الاول، لانه للكفار دون المؤمنين، فلا يلتبس بالمؤمن حيث كان للكفار دونهم

[258]

يقول الله تعالى على وجه التوبيخ للكفار على معاصيهم بكفرهم بلفظ الاستفهام (أم حسب) ومعنى (أم) يحتمل ان تكون الهمزة وتقديره أحسب الذين اجترحوا السيئات، والحسبان هو الظن. وقد بيناه في ما مضى.

والاجتراح الاكتساب اجترح السيئة اجتراحا أي اكتسبها من الجراح، لان له تأثيرا كتأثير الجراح. ومثله الاقتراف، وهو مشتق من قرف القرحة.

والسيئة التي يسواء صاحبها، وهي الفعلة القبيحة التي يستحق بها الذم، والحسنة هي التي يسر صاحبها بأستحقاق المدح بها عليها، ووصفها بهذا يفيد هذا المعنى.

وقال الرماني: القبيح ما ليس للقادر عليه ان يفعله.

والحسن هو ما للقادر عليه أن يفعله قال: وكل فعل وقع لا لامر من الامور، فهو لغو لا ينسب إلى الحكمة ولا السفه.

والجعل تصيير الشئ على صفة لم يكن عليها، وهو انقلاب الشئ عما كان قادرا عليه.

والمعنى أيظن هؤلاء الكفار المرتكبون للمعاصي الذين اكتسبوا القبائح أن يحكم لهم بحكم المؤمنين المعترفين بتوحيد الله المصدقين لرسله العاملين بطاعته؟ !. ثم اخبر عن الكفار فقال (سواء محياهم ومماتهم) أي هم متساون حال كونهم أحياء وحال كونهم أمواتا، لان الحي متى لم يفعل الطاعات فهو بمنزلة الميت وقال مجاهد: المؤمن يموت على ايمانه ويبعث عليه. والكافر يموت على كفره ويبعث عليه.

ثم قال (ساء ما يحكمون) أي بئس الشئ الذي يحكمون به في هذه القصة. وإنما قال (يحكمون) مع ان الحكم مأخوذ من الحكمة، وهي حسنة لان المراد على ما يدعون من الحكمة، كما قال (حجتهم داحضة عند ربهم)(1) وقوله (وما كان حجتهم الا أن قالوا ائتوا بآبائنا ان كنتم صادقين).

___________________________________

(1) سورة 42 الشورى آية 16

[259]

ثم قال تعالى (وخلق الله السموات والارض بالحق) أي للحق لم يخلقهما عبثا، وانما خلقهما لمنافع خلقه بأن يكلفهم فيها ويعرضهم للثواب الجزيل (ولتجزى كل نفس بما كسبت) من ثواب طاعة او عقاب على معصية (وهم لا يظلمون) أي لا يبخسون حقوقهم.

ثم قال (أفرايت من اتخذ) يا محمد (الهه هواه) وانما سمي الهوى إلها من حيث أن العاصي يتبع هواه ويرتكب ما يدعوه اليه ولم يريد انه يعبد هواه أو يعتقد أنه يحق له العبادة، لان ذلك لا يعتقده احد.

قال الحسن: معناه اتخذ إلهه بهواه، لان الله يحب أن يعرف بحجة العقل لا بالهوى.

وقال سعيد بن جبير كانوا يعبدون العزى وهو حجر أبيض حبنا من الدهر، فاذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الاول وعبدوا الآخر.

وقال ابن عباس: معناه أفرايت من اتخذ دينه ما يهواه لانه يتخذه بغير هدى من الله ولا برهان.

وقوله (وأضله الله على علم) معناه حكم الله بضلاله عالما بعدوله عن الحق. ويحتمل ان يكون المعنى يعدل الله به عن طريق الجنة إلى طريق النار جزاء على فعله، عالما بأنه يستحق ذلك (وختم على سمعه وقلبه) وقد فسرناه في ما مضى. ومعناه أنه يجعل عليهما علامة تدل على كفره وضلاله واستحقاقه للعقاب، لا أنه يفعل فيهما ما يمنع من فعل الايمان والطاعات (وجعل على بصره غشاوة) شبهه بمن كان على عينه غشاوة تمنعه من الابصار، لان الكافر إذا كان لا ينتفع بما يراه ولا يعتبر به، فكأنه لم يره، ثم قال (فمن يهديه) إلى طريق الجنة او من يحكم بهدايته (من بعدالله) إن حكم الله بخلافه (أفلا تذكروه) أي افلا تتفكرون فتعلمون ان الامر على ما قلناه.

ثم حكى تعالى عن الكفار أنهم (قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي ليس الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها في دار الدنيا (نموت ونحيا) وقيل في

[260]

معناه ثلاثة اقوال: احدها - انه على التقديم والتأخير وتقديره ونحيا ونموت من غير رجوع ولا بعث على ما تدعون. والثاني - ان يكون المراد نموت ويحيا أولادنا كما يقال ما مات من خلف ابنا مثل فلان والثالث - ان يكون المعنى يموت بعضنا ويحيا بعضنا، كما قال تعالى (فاقتلوا أنفسكم)(1) أي ليقتل بعضكم بعضا.

ثم حكى انهم يقولون (وما يهلكنا إلا الدهر) يعنون مرور الليل والنهار والشهور والاعوام ثم اخبر تعالى فقال (وما لهم بذلك من علم) أي ليس لهم بما يقولونه علم (إن هو إلا يظنون) أي وليس هم في ما يذكرونه إلا ظانين وإنما الامر فيه بخلافه.

ثم قال تعالى (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) أي إذا قرئت عليهم حججنا الظاهرة (ما كان حجتهم إلا أن قالوا) يعني لم يكن لهم في مقابلتها حجة إلا قولهم (ائتوا بآبائنا) الذين ماتوا وبادوا (إن كنتم صادقين) في أن الله يعيد الاموات ويبعثهم يوم القيامة. وإنما لم يجبهم الله إلى ذلك، لانهم قالوا ذلك متعنتين مقترحين لا طالبين الحجة.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 54

[261]

قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيمة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون(26) ولله ملك السموات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون(27) وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها أليوم تجزون ما كنتم تعملون(28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون(29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين(30))

خمس آيات بلا خلاف.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله (قل) لهم يا محمد (الله يحييكم) في دار الدنيا، لانه لا يقدر على الاحياء احد سواه تعالى لانه قادر لنفسه (ثم يميتكم) بعد هذا (ثم يجمعكم إلى يوم القيامة) بأن يبعثكم ويعيدكم أحياء، وإنما احتج بالاحياء في دار الدنيا، لان من قدر على فعل الحياة في وقت قدر عليها في كل وقت. ومن عجز عنها في وقت وتعذرت عليه مع كونه حيا ومع إرتفاع الموانع عجز عنها في كل وقت. ثم بين أن يوم القيامة (لا ريب فيه) أي لاشك في كونه (ولكن اكثر الناس لا يعلمون) ما قلناه لعدولهم عن النظر الموجب للعلم بصحة ذلك.

ثم قال تعالى (ولله ملك السموات والارض ويوم تقوم) أي وله الملك يوم تقوم (الساعة يخسر فيه المبطلون) ثواب الله. والمبطل هو من فعل الباطل وعدل عن الحق. ثم اخبر تعالى عن حال يوم القيامة فقال (وترى كل أمة جاثية) فالامة الجماعة التي على مقصد، واشتقاقه من أمه يؤمه أما إذا قصده، والامم أمم الانبياء (جاثية) وقال مجاهد والضحاك وابن زيد: معناه باركة مستوفرة على ركبها والجثو البروك. والجثو البروك على طرف الاصابع، فهو ابلغ من الجثو.

[262]

وقوله (كل أمة تدعى إلى كتابها) قيل معناه إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها ويثبت فيه أعمالها.

وقال بعضهم: كتابها الذي انزل على رسولها - حكي ذلك عن الجاحظ - والاول الوجه. ثم حكى إنه يقال لهم (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) من طاعة او معصية على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب.

ثم قال تعالى (هذا كتابنا) يعني الذي أستنسخ (ينطق عليكم بالحق) جعل ثبوت ما فيه وظهوره بمنزلة النطق، وإنه ينطق بالحق دون الباطل.

ثم قال تعالى " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " قال الحسن: نستنسخ ما حفظت عليكم الملائكة الحفظة.

وقيل: الحفظة تستنسخ ما هو مدون عندها من أحوال بني آدم الجزائية في قول ابن عباس - وروي عن علي عليه السلام أن الله ملائكة ينزلون في كل يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم، ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب وعقاب ونلقي ما عداه مما أثبته الحفظة، لانهم يثبتون جميعه.

ثم قسم تعالى الخلق فقال " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي صدقوا بواحدانيته وصدقوا رسله وعملوا الاعمال الصاحات " فيدخلهم ربهم في رحمته " من الثواب والجنة. ثم بين ان " ذلك هو الفوز المبين " أي الفلاح الظاهر.

[263]

قوله تعالى: (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبر ثم وكنتم قوما مجرمين(31) وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين(32) وبدا لهم سيئآت ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن(33) وقيل اليوم ننسيكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأويكم النار وما لكم من ناصرين(34) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحيوة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون(35) فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين(36) وله الكبرياء في السموات والارض وهو العزيز الحكيم(37))

سبع آيات بلا خلاف

قرأ حمزة وحده " والساعة لا ريب فيها " نصبا عطفا على " ان وعده " وتقديره ان وعدالله حق وإن الساعة آتية. الباقون بالرفع على الاسيئناف او عطفا على موضع (إن).

لما اخبر الله تعالى عن حال المؤمنين العاملين بطاعة الله وانه يدخلهم الجنة أخبر عن حال الكفار، فقال " واما الذين كفروا " أي جحدوا وحدانيتي وكذبوا رسلي، يقال لهم " افلم تكن آياتي " وحججي " تتلى عليكم " قال الزجاج: جواب (إما) محذوف والفاء في " أفلم " دلالة عليه بتقدير فيقال لهم " أفلم " ومثله قوله " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم "(1) وتقديره فيقال لهم اكفرتم بعد إيمانكم.

وقال قوم: جواب " اما " الفاء في " أفلم تكن آياتي " إلا أن الالف تقدمته، لان لها صدر الكلام.

وقوله (فاستكبرتم) فالاستكبار هو طلب التعظيم في أعلى المراتب فهو صفة

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 106

[264]

ذم في العباد وكذلك متكبر، لانها تقتضي التعظيم في أعلى المراتب، ولا يستحق التعظيم في اعلى المراتب إلا من لا يجوز عليه صفة النقص بوجه من الوجوه " وكنتم قوما مجرمين " أي عاصين، فالاجرام الانقطاع إلى الفساد، واصله قطع الفعل عما تدعو اليه الحكمة.

ثم حكى تعالى انه " إذا قيل ان وعدالله حق " أي ما وعدوا به من الثواب والعقاب كائن لامحة " وان الساعة لا ريب فيها " أي لاشك في حصولها " قلتم " معاشر الكفار " ما ندري ما الساعة " أي لا نعرفها " إن نظن إلا ظنا " ليس نعلم ذلك " وما نحن بمستيقنين " أى لسنا بمستيقنين ذلك.

ثم اخبر تعالى فقال " وبدالهم سيئات ما عملوا " ومعناه ظهر لهم جزاء معاصيهم التي عملوها في دار التكليف من العقاب " وحاق بهم، أي حل بهم جزاء " ما كانوا به يستهزؤن " باخبار الله واخبار نبيه " وقيل " لهم " اليوم ننساكم " أى نترككم في العقاب - في قول ابن عباس - ونحرمكم ثواب الجنة " كما نسيتم " أى كما تركتم التأهب ل‍ " لقاء يومكم هذا " فلم تعملوا الطاعات وارتكبتم المعاصي وقال مجاهد: كنسيانكم يومكم " ومأواكم النار " أي مستقركم جهنم " ومالكم من ناصرين " يدفعون عنكم عذاب الله ولا لكم من مستنقذ من عذاب الله.

ثم بين تعالى لم فعل بهم ذلك بان قال " ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا " يعني حججه وآياته (هزوا) أي سخرية تسخرون منها " وغرتكم الحياة الدنيا " أي خدعتكم زينتها ومعناه اغتررتم بها، " فاليوم لا تخرجون منها " يعني من النار.

وقرأ اهل الكوفة إلا عاصما " يخرجون " بفتح الياء وبضم الراء. الباقون بضم الياء وفتح الراء. ومن فتح الياء، فلقوله " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها "(1) ومن ضم فلقوله " ولا هم يستعتبون " وطابق بينهما

___________________________________

(1) سورة 5 المائدة آية 40

[265]

ومعنى " ولا هم يستعتبون " أي لايطلب منهم العتبى والاعتذار، لان التكليف قد زال.

وقيل: معناه لا يقبل منهم العتبى.

وقيل: الوجه في ظهور أحوالهم وسيئاتهم في الآخرة التبكيت بها والتقريع بالتكذيب لما كان يمكنهم معرفته لظهور حججه على خلقه.

ثم قال تعالى " فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين " أي الشكر التام والمدحة التي لا يوازيها مدحة لله الذي خلق السموات والارض ودبرهما وخلق العالمين " وله الكبرياء في السموات والارض " أي له السلطان القاهر وله العظمة العالية التي هي في أعلى المراتب لا يستحقها سواه " وهو العزيز " أي القادر الذي لا يغالب " الحكيم " في جميع أفعاله.

وقيل: (عزيز) في انتقامه من الكفار (حكيم) في ما يفعل بهم وبالمؤمنين من الثواب.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404217

  • التاريخ : 20/04/2024 - 05:35

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net