00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النازعات 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء العاشر)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

79 - سورة النازعات

مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي ست وأربعون آية في الكوفي وخمس وأربعون في البصري والمدنيين.

بسم الله الرحمن الرحيم

(والنازعات غرقا(1) والناشطات نشطا(2) والسابحات سبحا(3) فالسابقات سبقا(4) فالمدبرات أمرا(5) يوم ترجف الراجفة(6) تتبعها الرادفة(7) قلوب يومئذ واجفة(8) أبصارها خاشعة(9) يقولون ء‌إنا لمردودون في الحافرة(10) ء‌إذا كنا عظاما نخرة(11) قالوا تلك إذا كرة خاسرة(12) فإنما هي زجرة واحدة(13) فاذا هم بالساهرة(14))

أربع عشرة آية.

___________________________________

(1) سورة 69 الحاقة آية 25

[251]

قرأ أهل الكوفة إلا حفصا (عظاما ناخرة) بألف، الباقون (نخرة) بلا ألف من قرأ (ناخرة) اتبع رؤس الاي نحو (الساهرة، والحافرة) ومن قرأ نخرة - بلا ألف - قال لانه الاكثر في كلام العرب، ولما روي عن علي عليه السلام انه قرأ (نخرة) وقال النحويون: هما لغتان مثل ياخل وبخل، وطامع وطمع وقال الفراء النخرة البالية والناخرة المجوفة.

وقوله (والنازعات) قسم من الله تعالى بهذه الاشياء التي عددها.

وقال قوم: تقديره ورب النازعات وما ذكر بعدها، لانه لا يجوز اليمين إلا بالله تعالى. وهو ترك الظاهر.

وقد روينا عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام أن لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. وإنما كان كذلك، لانه من باب المصالح التي يجوز أن تختلف به العبادات، وإنما جاز أن يقسم هو تعالى بما شاء من خلقه، للتنبيه على موضع العبرة فيه إذ القسم يدل على عظم شأن المقسم به.

ومعنى (النازعات) الملائكة تنزع الارواح من الابدان، فالنازعات الجاذبات الشئ من أعماق ما هو فيه.

وقال الحسن وقتادة: هي النجوم أي تنزع من أفق السماء إلى أفق آخر.

وقال عطاء: هي القسى تنزع بالسهم.

وقال السدي: هي النفوس تنزع بالخروج من البدن.

[252]

وقوله (غرقا) معناه إغراقا أي ابعادا في النزع.

وقوله (والناشطات نشطا) قيل: هى الخارجات من بلد إلى بلد بعيد الاقطار ينشط كما ينشط الوحش بالخروج من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها أي تخرج به من حال إلى حال، قال هيبان بن قحافة:

أمست همومي تنشط المناشطا * الشام طورا ثم طورا واسطا(1)

وقال ابن عباس: هي الملائكة أي تنشط بأمر الله إلى حيث كان.

وقال قوم: هو ملك الموت ينشط روحه من خلقه، وقال قوم: هي النجوم تنشط من المشرق إلى المغرب.

وقال عطاء: هى الوحش تنشط من بلد إلى بلد قال رؤية: تنشط منها كل معلاه الوهق. يعني بقر الوحش.

قال الفراء: تنشط نفس المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير.

قال ابن خالويه، واكثر ما سمعته أنشطته بالالف، قالوا: كأنه انشط من عقال. فاذا شددت الحبل في يد البعير قلت: نشطته وإذا حللته قلت أنشطته.

وقوله (والسابحات سبحا) معناه المارات بغوص معظمها في المائع وقد يكون ذلك في الماء وقد يكون فيما جرى مجراه، وذلك كسبح دود الخل، وقد يكون السبح في الهواء تشبيها بالماء.

وقال مجاهد: السابحات الملائكة، لانها تسبح في نزولها بأمر الله كما يقال: الفرس يسبح في جريه إذا أسرع.

وقال قتادة: هي النجوم أي تسبح في فلكها.

وقال عطاء: هي السفن.

وقال قوم: هو ملك الموت يقبض روح المؤمن وحده سهلا سرحا كالسابح في الماء.

وقوله (فالسابقات سبقا) يعني الكائنات قبل غيرها على معنى صفة من الصفات.

وقال مجاهد: هي الملائكة، لانها سبقت إلى طاعة الله.

وقال قوم: لانها تسبق الشياطين إلى الوحي.

___________________________________

(1) القرطبي 19 / 190 ومجاز القرآن 2 / 284

[253]

وقال عطاء: هي الخيل السابقة.

وقيل: هي النجوم - ذكره قتادة - أي يسبق بعضها بعضا في السير.

وقوله (فالمدبرات أمرا) قال ابن عباس وقتادة وعطاء بن السائب: هي الملائكة تدبر الاشياء.

وقيل: تدبير الملائكة في ما وكلت به من الرياح والامطار ونحو ذلك من الامور.

وجواب القسم محذوف، كأنه قال: ليبعثن للجزاء والحساب ثم بين أي وقت يكون الجزاء والثواب والعقاب، فقال (يوم ترجف الراجفة) فالرجف حركة الشئ من تحت غيره بترديد واضطراب، وهي الزلزلة العظيمة رجف يرجف رجفا ورجفا ورجوفا، وأرجفوا إذا أزعجوا الناس باضطراب الامور، كما ينزعج الذي يرجف ما تحته، ومنه الرجفة وهي الزعزعة الشديدة من تحت ما كان من الحيوان.

وقيل: ان الارض مع الجبال تتزعزع.

وقوله (تتبعها الرادفة) ومعناه تتبع الراجفة الرادفة أي تجئ بعدها، وهي الكائنة بعد الاول في موضع الردف من الراكب، ردفهم الامر ردفا فهو رادف، وارتدف الراكب إذا اتخذ رديفا، وقال الحسن وقتادة: هما النفختان: أما الاولى فتميت الاحياء، وأما الثانية فتحي الموتى باذن الله.

وقوله (قلوب يومئذ واجفة) أي كائنة على الانزعاج والاضطراب، وجفت تجف وجفا ووجيفا وأوجف في السير إذا أزعج الركاب فيه. وقال ابن عباس: معنى (واجفة) أي خائفة.

وقوله (أبصارها خاشعة) أي خاضعة ذليلة من هول ذلك اليوم قال الشاعر:

لما اتى خبر الزبير تهدمت * سور المدينة والجبال الخشع(1)

وقوله (يقولون أإنا لمرددون في الحافرة) حكاية عما قاله الكافرون

___________________________________

(1) مر في 1 / 312، 204 و 7 / 152، 209 و 8 / 369

[254]

المنكرون للبعث والنشور، فانهم ينكرون النشر ويتعجبون من ذلك، ويقولون على وجه الانكار أئنا لمردودون في الحافرة.

وقيل: حافرة، بمعنى محفورة، مثل (ماه دافق)(1) بمعنى مدفوق.

وقال ابن عباس والسدي: الحافرة الحياة الثانية.

وقيل: الحافرة الارض المحفورة. أي نرد في قبور نابعد موتنا احياء؟ !

قال الشاعر:

احافرة على صلع وشيب * معاذ الله من جهل وعار(2)

فالحافرة الكائنة على حفر أول الكرة يقال: رجع في حافرته إذا رجع من حيث جاء، وذلك كرجوع القهقرى، فردوا في الحافرة أى ردوا كما كانوا أول مرة، ويقال: رجع فلان على حافرته أى من حين جاء.

وقولهم: النقد عند الحافرة معناه إذا قال بعتك رجعت عليه بالثمن.

وقال قوم: معناه النقد عند حافر الدابة.

وقوله (فانما هي زجرة واحدة) أى النفخة الثانية (فاذاهم بالساهرة) أى على وجه الارض، فالعرب تسمي وجه الارض من الفلاة ساهرة أى ذات سهر لانه يسهر فيها خوفا قال أمية بن أبي الصلت:

وفيها لحم ساهرة وبحر * وما فاهوا به لهم مقيم(3)

وقال آخر:

فانما قصرك ترب الساهره * ثم تعود بعدها في الحافره

من بعد ما كانت عظاما ناخره(4) وقال الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك: الساهرة وجه الارض.

___________________________________

(1) سورة 86 الطارق آية 8.

(2) تفسير القرطبي 19 / 195 والطبري 30 / 19.

(3) القرطبي 19 / 197.

(4) اللسان (نخر)

[255]

وقال قوم (بالساهرة) أي من بطن الارض إلى ظهرها. وقالوا أيضا منكرين للبعث (أئذا كنا عظاما نخرة) نرد ونبعث. والعظام جمع عظم، وهي مأخوذة من العظم وذلك لعظم صلابتها وعظمها في نفسها والنخرة البالية بما حدث فيها من التغيير وإختلال البنية، جذع نخر إذا كان بهذه الصفة، وإذا لم تختل بنيته لم يكن نخرا وإن بلي بالوهن والضعف وقيل: ناخرة مجوفة ينخر الرياح فيها بالمرور في جوفها وقيل: ناخرة ونخرة سواء، مثل ناخل ونخل، ونخرة أوضح في المعني، وناخرة اشكل برؤس الاى.

وقيل: نخرة بالية مجوفة بالبلى.

ثم حكى ايضا ما قالوه، فانهم (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) فالكرة المرة من المر وهي الواحدة من الكر، كر يكر كرة، وهي كالضربة الواحدة من الضرب، والخاسر الذاهب رأس ماله فتلك الكرة كأنه قد ذهب رأس المال منها، فكذلك الخسران.

وإنما قالوا (كرة خاسرة) أى لا يجئ منها شئ كالخسران الذى لا يجئ منه فائدة.

وكأنهم قالوا: هو كالخسران يذهاب رأس المال، فلا يجئ به تجارة، فكذلك لا يجئ بتلك الكرة حياة.

وقيل معنا (تلك إذا كرة خاسرة) على ما تعدنا من العذاب.

وقال الحسن: معناه كاذبة ليست كائنة.

[256]

قوله تعالى: (هل أتيك حديث موسى(15) إذ ناديه ربه بالواد المقدس طوى(16) إذهب إلى فرعون إنه طغى(17) فقل هل لك إلى أن تزكى(18) وأهديك إلى ربك فتخشى(19) فاريه الآية الكبرى(20) فكذب وعصى(21) ثم أدبر يسعى(22) فحشر فنادى(23) فقال أنا ربكم الاعلى(24) فأخذه الله نكال الاخرة والاولى(25))

احدى عشرة آية.

قرأ ابن كثير وابوعمرو ونافع (طوى اذهب) غير منونة. الباقون (طوى إذهب) منونة.

وقرأ نافع (تزكى) مشددة الزاي بمعنى تتزكى، فادغم التاء في الزاي. الباقون خفيفة الزاي، فحذفت احدى التاء‌ين.

قال ابوعمرو: يقال: تزكى مشددا إذا أردت تتصدق، ولم يدع موسى فرعون إلى ان يتصدق، وهو كافر.

وإنما قال له هل لك ان تصير زاكيا، قال: فالتخفيف هو الاختيار.

ومن نون (طوى) جعله اسم واد، ومن لم ينون جعله اسم الارض، لانه معدول من (طاو).

ومن كسر الطاء قال: قدس مرتين، وتبين فيه البركة مرتين، مثل ثنى وعدى.

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه واله يقول له (وهل اتاك) يامحمد (حديث موسى) فلفظه لفظ الاستفهام والمراد به التقرير (إذ ناداه ربه) أى حين ناداه الله (بالواد المقدس طوى) فالنداء الدعاء على طريقة يافلان، والندا مد الصوت بندائه، فمعنى (ناداه) قال له ياموسى.

ثم أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي و (الوادى المقدس) يعني المطهر و (طوى) قال مجاهد وقتادة: واد، وقيل طوى التقديس.

وقرأ الحسن (طوى) بكسر الطاء.

وقيل طوي بالبركة والتقديس بندائه مرتين، قال طرفة بن العبد:

أعاذل إن اللوم في غير كنهه * علي طوى من غيك المتردد(1)

أى اللوم المكرر، و (طوى) غير مصروف، لانه اسم البقعة من الوادي

___________________________________

(1) مر في 7 / 165

[257]

وهو معرفة، ويجوز أن يكون معدولا من (طاوى) في قول الزجاج.

وقوله (إذهب إلى فرعون إنه طغى) اخبا رمن الله - عزوجل - عن حال فرعون بأنه طغى، ومعناه تجاوز الحد في الاستعلاء، والتمرد والفساد، يقال طغى يطغى طغيانا فهو طاغ، ونظيره البغي، بغى على الناس يبغي بغيا فهو باغ وهم البغاة والطغاة، ونظير الطغيان العدوان، وهو المجاوزة لحد الصغيرة، وكل من طغى فقد عتا واستدى. ثم ذكر ما أمره أن يقول له بأن قال (فقل هل لك إلى أن نزكى) أي ادعوه إلى الله وطريق الجنة، و (قل) على وجه التلطف في الكلام (هل لك إلى أن تزكى) وتطهر من المعاصي، فالتزكي طلب الطالب أن يصير زاكيا، تزكي يتزكى تزكيا، والزاكي النامي في الخير، والزكاء النماء في الخير، ولو نمى في الشر لم يكن زاكيا (وأهديك إلى ربك فتخشى) معناه وأهديك إلى طريق الحق الذي إذا سلكته وصلت إلى رضى الله وثوابه، فالهداية الدالة على طريق الرشد من الغي. وقد يكون دلالة على معنى ليس برشد ولاغي كالدلالة على الحركة فقط.

وقوله (فتخشى) فالخشية توقع المضرة من غير قطع بها لا محالة، والخشية والخوف والتقية نظائر، يقال: خشي يخشى خشية، فهو خاش، وذاك مخشي. وفى الكلام حذف وتقديره فأتاه فدعاه (فأراه الاية الكبرى)

وقوله (فكذب وعصى) حكايه عن فرعون أنه كذب موسى في ما دعاه اليه وجحد نبوته وعصاه في ما أمره به من طاعة الله (ثم أدبر يسعى) أي ولى فرعون الدبر بعد ذلك، فالادبار تولية الدبر، ونقيضة الاقبال وأقبل فلان إذا استقامت له الامور على المثل أي هو كالمقبل إلى الخير، وأدبر فلان إذا اضطربت عليه حاله، ففرعون ولى الدبر ليطلب ما يكسر به حجة

[258]

موسى عليه السلام في الاية الكبرى، وهي المعجزة العظيمة، فما ازداد إلا غواية، لانه لا يقاوم الضلال الحق.

وقوله (ثم ادبر يسعى، فالسعي الاسراع في المشي، وفي إدباره يسعى في هذه الحال دليل على خوفه.

وقيل: إنه لما رأى العصا انقلبت حية في عظمها خاف منه، فادبر يسعى.

وقوله (فحشر فنادى) فالحشر الجمع من كل جهة، وقد يكون الجمع بضم جزء إلى جزء، فلا يكون حشرا، فاذا جمع الناس من كل جهة، فذلك الحشر، ولهذا سمى يوم الحشر.

والحاشر الذي يجمع الناس من كل جهة إلى الخراج، وإنما طلب السحرة، فلما اجتمعوا ناداهم فقال لهم (أنا ربكم الاعلى) فالاعلى المختص بعلو معنى صفته على غيره مما لا يناله بكيد وينال هو به، ومن هنا خرج بالغلو إلى التعظيم، ولم يكن مثل ذلك في جهة من الجهات، وكأنه قال: أنا الذي أنال بالضرر من شئت ولا ينالني غيري. وكذب - لعنه الله - إنما هذه صفة الذي خلقه وخلق جميع الخلق، ومعنى (نادى) ههنا قال: يامعشر الناس أنا ربكم الاعلى، إذ نادى بهذا القول.

وقيل: كلمته الاولى (ما علمت لكم من إله غيرى)(1) وقوله الاخر هذا (أنا ربكم الاعلى) ذكره ابن عباس ومجاهد والشعبي والضحاك.

ثم حكى تعالى ما عامله به من العقاب فقال (فأخذه الله نكال الاخرة والاولى) فالنكال عقاب بنكل من الاقدام على سببه بشدته، نكل به تنكيلا إذا شوه به في عقابه بما يكون زاجرا لغيره عن مثل حذيه أشد الزجر الذي يزعج النفس.

وقال الحسن وقتادة: معناه عذاب الدنيا وعذاب الاخرة.

وقال مجاهد: أول عمله وآخره وقال بعضهم: نكاله فعلته الاولى، وهو قوله (ما علمت لكم من إله غيري)

___________________________________

(1) سورة 28 القصص آية 38

[259]

وفعلته الاخيرة هو قوله (أنا ربكم الاعلى) وقال قوم: معناه نكال الدنيا بالغرق ونكال الاخرة ما صار اليه بعد الموت من العقاب.

وقال الحسن (الاية الكبرى) اليد البيضاء.

وقال غيره: قلب العصا حية.

قوله تعالى: (إن في ذلك لعبرة لمن يخشى(26) ء‌أنتم أشد خلقا أم السماء بنيها(27) رفع سمكها فسويها(28) وأغطش ليلها وأخرج ضحيها(29) والارض بعد ذلك دحيها(30) أخرج منها ماء‌ها ومرعيها(31) والجبال أرسيها(32) متاعا لكم ولأنعامكم(33))

ثمان آيات.

يقول الله تعالى بعد ما ذكر ما تقدم من قصة موسى وفرعون وما فعله الله بقوم فرعون من الاهلاك والدمار (إن في ذلك لعبرة) يعني فيما قصه واخبر به دلالة يمكن أن يعتبر بها العامل العاقل، فيعرف الحق ويميز بينه وبين الباطل، يقال: اعتبرته اعتبارا وعبرة، ومنه العبارة لانه يعبر بالمعنى فيها إلى نفس المخاطب للافهام، ومنه عبور النهر وتعبير الرؤيا باخراج ما فيها بعبورها المعنى إلى النفس السائلة عنها.

وقوله (لمن يخشى) إنما خص من يخشى بالعبرة، لانه الذي يعتبر بها وينتفع بالنظر فيها دون الكافر الذي لا يخشى عذاب الله، كما قال (هدى للمتقين)(1).

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 2

[260]

ثم خاطب الكفار الجاحدين بالله تعالى على وجه التبكيت لهم والتوبيخ (أأنتم اشد خلقا) ومعناه أانتم اشد أمرا بصغر حالكم (أم السماء) في عظم جرمها وشأنها في وقوفها وسائر نجومها وافلاكها.

قال بعض النحويين (بناها) من صلة السماء. والمعنى أم التي بناها.

وقال آخرون (السماء) ليس مما يوصل، ولكن المعنى أأنتم اشد خلقا أم السماء اشد خلقا.

ثم بين كيف خلقها فقال (بناها) والله تعالى لا يكبر عليه خلق شئ اشد من خلق غيره، وإنما أراد انتم أشد خلقا عندكم وفى ظنكم مع صغركم أم السماء مع عظمها وشدة إحكامها؟ وبين انه تعالى بنى السماء و (رفع سمكها) يعني ارتفاعها، فالسمك مقابل للعمق، وهو ذهاب الجسم بالتأليف في جهة العلو، وبالعكس منه العمق. والطول ذهاب الجسم في جهة الطول. والعرض ذهابه في جهة العرض، وهو بالاضافة إلى ما يضاف اليه.

وقوله (فسواها) فالتسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الاخر على نفسه او في حكمه، وكل ما جعل في حقه على ترتيبه مع غيره فقد سوي، فلما كان كل شئ من السماء مجعولا في صفة على ترتيبه مع غيره كانت قد سويت على هذا الوجه.

وقوله (واغطش ليلها) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: معناه اظلم ليلها.

وقال ابوعبيدة: كل أغطش لا يبصر.

وقال: ليلها اضاف الظلام إلى السماء لان فيها ينشأ الظلام والضياء بغروف الشمس وطلوعها على ما دبرها الله.

وقوله (واخرج ضحاها) قال مجاهد والضحاك أخرج نورها.

وقوله (والارض بعد ذلك دحاها) قال مجاهد والسدي: معناه دحاها مع ذلك، كما قال (عتل بعد ذلك) أي مع ذلك.

وقال ابن عباس: ان الله دحا الارض بعد السماء، وإن كانت الارض خلقت قبل السماء، ومعنا دحاها بسطحها دحا يدحو دحوا ودحيت ادحي دحيا لغتان، قال أمية بن أبي الصلت:

[261]

دار دحاها ثم أعمر بابها * واقام بالاخرى التي هي أمجد(1)

وقال اوس بن حجر:

ينفي الحصا عن جديد الارض مبترك * كأنه فاحص أو لاعب داح(2)

وقوله (اخرج منها) يعني من الارض (ماء‌ها) يعني المياه التي تخرج من الارض وفيها منافع جميع الحيوان، وبه قوام حياتهم كما قال (وجعلنا من الماء كل شئ حي)(3) (ومرعاها) أي واخرج المرعى من الارض، وهو النبات الذي يصلح أن ترعاه الماشية، فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه، رعت ترعى رعيا ومرعى، وسمي النبات الذي يصلح أن يرعى به.

وقوله (والجبال أرساها) أي واثبت الجبال في الارض. والارساء الاثبات بالثقل. فالسفينة ترسو أي تثبت بثقلها فلا تزول عن مكانها، وربما ارست بالبحر بما يطرح لها. فأما الجبال فانها أوتاد الارض، وأرسيت بثقلها، وفى جعلها على الصفة التي هي عليها اعظم العبرة.

وقوله (متاعا لكم ولا نعامكم) أي خلقنا ما ذكرناه من الارض وما يخرج منها من المياه والمراعي نفعا ومتعة تنتفعون بها معاشر الناس وينتفع بها أنعامكم: الابل والبقر والغنم، ففي الاشياء التي عددها اعظم دلالة واوضح حجة على توحيد الله، لان الارض مع ثقلها الذي من شأنه ان يذهب سفلا هي واقفة بامساك الله تعالى، وهي على الماء. ومن شأن الماء أن يجري في المنحدر، وهي وافقة بامساك الله تعالى فقد خرجت عن طبع الثقيل، وذلك لا يقدر عليه غير القادر لنفسه الذي يخترع

___________________________________

(1) تفسير الطبري 30 / 26.

(2) ديوانه 16 ومقاييس اللغة 1 / 230.

(3) سورة 21 الانبياء آية 30

[262]

الاشياء إختراعا، دون القادر بقدرة الذى لا يقدر أن يفعل في غيره إلا على وجه التولية بأن يعتمد عليه، فدل ذلك على ان الفاعل لهذه الاشياء لا يشبه الاشياء ولا تشبهه. وفى اخراج الماء من الارض عبر لا تحصى كثرة بما فيه من المنفعة، وما له من المادة على موضع الحاجة، وسد الخلة مع ما فيه من المنفعة والتوفيق في السير إلى المكان البعيد بالسهولة، كل ذلك من الله تعالى به على خلقه وأنعم به عليهم.

وقوله (متاعا) نصب على المفعول له، وتقديره اخرج منها ماء‌ها ومرعاها للامتاع لكم لان معنى أخرج منها ماء‌ها ومرعاها امتع بذلك.

قوله تعالى: (فاذا جاء‌ت الطامة الكبرى(34) يوم يتذكر الانسان ما سعى(35) وبرزت الجحيم لمن يرى(36) فأما من طغى(37) وآثر الحيوة الدنيا(38) فان الجحيم هي المأوى(40) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى(40) فان الجنة هي المأوى(41) يسئلونك عن الساعة أيان مرسيها(42) فيم أنت من ذكريها(43) إلى ربك منتهيها(44) إنما أنت منذر من يخشيها(45) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحيها(46))

ثلاث عشرة آية.

قرأ ابوجعفر وعياش عن أبي عمرو (إنما أنت منذر من يخشاها) بالتنوين. الباقون على الاضافة. والمعنى واحد. فمن نون جعل (من) في موضع النصب.

[263]

وإنما اختار ذلك، لانه جعله (منذرا) في الحال. ومن اضافه استخف ذلك كما استخف في قوله (عارضا مستقبل اوديتهم)(1) والتنوين مقدر، لان المعنى إنه منذر في الحال، وفيما بعد. ومن اضاف جعلها في موضع جر.

والمنذر النبي صلى الله عليه واله قال الله تعالى (انما انت منذر ولكل قوم هاد)(2) قال قوم: المنذر النبي صلى الله عليه واله والهادي علي عليه السلام. وقيل (لكل قوم هاد) داع يدعوهم إلى الخلق.

يقول الله تعالى مهددا للمكلفين من خلقه (فاذا جاء‌ت الطامة الكبرى) قال ابن عباس: الطامة القيامة.

وقال الحسن: الطامة هي النفخة الثانية.

وقيل: هي الصيحة التي تطم على كل شئ، وهى الصيحة التي يقع معها البعث والحساب والعقاب والثواب وقيل هى الطامة الغامرة الهائلة، وفى المثل: ما من طامة إلا وفوقها طامة قال الفراء: يقال: تطم على كل شئ يطم.

وقال قوم: الطامة الغامرة، لما يتدفق بغلظها وكثرتها.

وقيل: هي الغاشية المجللة التي تدفق الشئ بالغلظ، ثم بين متى مجيئها فقال (يوم يتذكر الانسان ما سعى) ومعناه تجيئ الطامة في يوم يتذكر الانسان ما عمله في دار التكليف من خير او شر وسعى فيه، ويعلم ما يستحقه من ثواب وعقاب (وبرزت الجحيم لمن يرى) أي لمن يراها ويبصرها شاهدا، فالتبريز اظهار الشئ بمثل التكشيف الذي يقضي اليه بالاحساس، ويقال: فلان مبرز في الفضل إذا ظهر به اتم الظهور، وبارز قرنه أي ظهر اليه من بين الجماعة.

ثم قسم احوال الخلق في ذلك اليوم من العصاة والمطيعين، فقال (فأما من طغى) بأن تجاوز الحد الذي حده الله، وارتكب المعاصي والطغيان والعصيان بمجاوزة الحد فيه إلى الافراط فيه، فكل كافر طاغ بافراطه في ظلم نفسه، وظلم النفس كظلم غيرها في التعاظم، وقوله (وآثر الحياة الدنيا) معناه اختار منافع الحياة الدنيا

___________________________________

(1) سورة 46 الاحقاف آية 24.

(3) سورة 13 الرعد آية 8

[264]

بارتكاب المعاصي وترك ما وجب عليه، فالايثار إرادة الشئ على طريقة التفضيل له على غيره، ومثله الاختيار، لانه يختاره على انه خير من غيره، فمن آثر الادنى على الاولى فهو منقوص بالحاجة، كما ان من آثر القبيح على الحسن كان منقوصا.

وقيل: المعنى من آثر نعيم الحياة الدنيا على نعيم الاخرة والحياة حياتان: حياة الدنيا وهى المنقطعة الفانية، وحياة الاخرة، وهي الدائمة، فمن آثر الباقي الدائم على الفاني المنقطع كان حسن الاختيار، ومن آثر الفاني على الباقي كان سيئ الاختيار مقبحا.

ثم بين تعالى ما له في الاخرة فقال (فان الجحيم هي المأوى) اي النار مثواه ومستقره وموضع مقامه. ثم ذكر من هو بضد ذلك فقال (وأما من خاف مقام ربه) ومعناه من خاف مقام مسألة ربه عما يجب فعله أو تركه وعمل بموجب ذلك بأن فعل الطاعة وأمتنع من المعصية (ونهى نفسه عن الهوى) وما تدعو اليه شهواته، فالهوى اريحية في النفس تدعو إلى ما لا يجوز في العقل، فاتباع الهوى مذموم، وليس يجوز أن يعمل شيئا لداعي الهوى وإن عمل لداعي العقل على موافقة الهوى لم يضره.

وقيل: هم قوم صغرت الدنيا في عينهم حين رأوا الاخرة - ذكره قتادة - وقيل: الزهد في الدنيا، والرغبة في الاخرة هو التمسك بطاعة الله وأجتناب معصيته.

ثم بين تعالى ما له في مقابلة ذلك من الثواب فقال (فان الجنة هي المأوى) أي هي مقره ومأواه، فالالف واللام تعاقب الضمير كقولهم مررت بحسن الوجه أي حسن وجهه.

وقال الزجاج: تقديره هي المأوى له ولا يكون بدلا من الهاء كما لا يكون بدلا من الكاف في قولك غض الطرف، وقال: وقال الشاعر:

فغض الطرف إنك من نمير * فلا سعدا بلغت ولا كلابا(1)

___________________________________

(1) مر في 9 / 341

[265]

ويروى (فلا كعبا) والجنة البستان الذي يجنه الشجر فجنة الخلد بهذه الصفة على ما فيها من القصور والابنية الحسنة التي قد جمعت كل تحفة وطرفة مما تشتهي الانفس وتلذ الاعين، من غير أذى ملحق بحال في عاجل ولا آجل.

وروي أن قصورها مبنية بفاخر الجوهر من الياقوت والزبرجد، ومنه ما هو بلبنة من فضة ولبنة من ذهب، فتعظيم الله لها وتشويقه اليها يدل على أنها على اجل حال تشتهي فيها مع أنه لا يتعاظم في مقدور الله - عزوجل -.

ثم خاطب النبي صلى الله عليه واله، فقال (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) أى متى يكون قيامها على ما وصفها ف‍ (أيان) بمعنى (متى) الا أن (متى) أكثر استعمالا في السؤال عن الزمان ونظيرها (أين) في السؤال عن المكان. ولذلك فسرت (أيان) ب‍ (متى) والارساء الثبوت من قولهم: رست السفينة ترسو رسوا فهي راسية إذا ثبتت ومنه. قوله (أرساها) ويجوز أن يكون المراد بالمرسى المصدر. ويجوز أن يكون وقت الارساء والمعنى متى ثبت أمرها بقيامها.

وقوله (فيم أنت من ذكراها) أى انه ليس عندك علم متى تكون، وإنما عندك علم أنها تكون - ذكره الحسن - وقال غيره: هي حكاية قولهم، أى قد اكثرت من ذكرها، فمتى تكون؟.

وقوله (إلى ربك منتهاها) أى قل لهم إلى الله تعالى إجراؤها، فالمنتهى موضع بلوغ الشئ، وكأنه قيل: إلى ربك منتهى أمرها باقامتها لان منتهى أمرها بذكرها ووصفها والاقرار بها إلى الرسول باقامتها، ومنتهى أمرها اقامتها إلى الله تعالى لا يقدر عليه إلا الله تعالى.

وقيل: المعنى إلى ربك منتهى علمها أى لا يعلم إلا هو متى وقت قيامها - ذكره الحسن - وقوله (إنما انت منذر من يخشاها) خطاب من الله للنبي صلى الله عليه واله بأنه إنما

[266]

يخوف من يخاف ذلك اليوم وهو يوم القيامة، وإنما خص الانذار بمن يخشى، لانه لما كان المنتفع بالانذار من يخشى فكأنه خص بالانذار. والكافر لما لم ينتفع بذلك فكأنه لم ينذر أصلا.

ثم بين تعالى سرعة مجيئها وقرب حضورها فقال (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أوضحاها) وقال قتادة: معناه إنهم إذا رأوا الاخرة صغرت الدنيا في أعينهم حتى كأنهم لم يقيموا بها إلا مقدار عشية أو مقدار ضحاها يعني ضحى العشية. وأضيف الضحى إلى العشية، وضحوة الضحى اليوم الذي يكون فيه، فاذا قلت أتيتك صباحا ومساء، فالمعنى أتيتك العشية أو غداتها، قال الفراء: وانشدني بعض بني عقيل:

نحن صبحنا عامرا في دارها * عشية الهلال أو سرارها

قبل اصفرار الشمس واحمرارها(1) أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية فهذا أشد من ذلك،

___________________________________

(1) القرطبي 19 / 208 والطبري 30 / 28

[267]




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21331332

  • التاريخ : 28/03/2024 - 09:55

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net