00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية ( 1 ـ 10 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : تفسير كنز الدقائق ( الجزء الأول )   ||   تأليف : الميرزا محمد المشهدي

سورة البقرة

أي سورة تذكر فيها قصة البقرة.

وإنما سميت بها لغرابة قصتها، وامتياز هذه السورة بها عن سائر السور.

وهي مدنية، بل أول سورة نزلت بالمدينة إلا آية نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " الآية(1).

وآيها مائتان وسبع وثمانون.

في كتاب ثواب الاعمال بإسناده إلى أبي عبدالله (عليه السلام) قال: من قرأ سورة البقرة وآل عمران، جاء يوم القيامة تظلانه على رأسه مثل الغيابتين(2) و(3).

وفيه: عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قرأ أربع آيات من أول البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعدها، وثلاث آيات من آخرها، لم ير في نفسه وما له شيئا يكرهه، ولا يقربه الشيطان، ولا ينسى القرآن(4).

وفي مجمع البيان: وسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي سور القرآن

___________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 281.

(2) العرب تسمي ما لم تصبه الشمس من النبات كله، الغيبان بتخفيف الياء، والغيابة كالغيبان، لسان العرب: ج 1، ص 655، في لغة (غيب) .

(3) ثواب الاعمال: ص 130، وفيه: جاء_تا يوم. مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين. وفي بعض النسخ (العبايتين).

(4) ثواب الاعمال: ص 130. (*)

[72]

أفضل؟ قال: البقرة، قال: أي آيي القرآن أفضل؟ قال: آية الكرسي(1).

الآية: 1 - 10

[ بسم الله الرحمن الرحيم ]

[ الم(1) ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين(2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون(3) ]

بسم الله الرحمن الرحيم الم: وسائر الالفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها، وقد روعيت في التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت كأساميها، وهي حروف وحدان، والاسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى، فلم يغفلوها وجعلوا المسمى صدر كل اسم كما ترى في الالف، فإنهم استعاروا لهمزة مكان مسماها، لانه لا يكون إلا ساكنا، وإنما كانت أسماء لدخولها في حد الاسم، و اعتوار ما يختص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها، وبه صرح الخليل وأبوعلي(2).

وما روى ابن مسعود أنه (عليه السلام) قال: من قرأ حرفا من كتاب الله فله

___________________________________

(1) مجمع البيان: ج 1، ص 32 وفيه " آي البقرة " .

 (2) تفسير الكشاف: ج 1، ص 19، وفيه: " كما ترى الا في الالف ". (*)

[73]

حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف(1).

فالمراد فيه من الحرف الكلمة، فيحتمل أنه سبحانه أراد بها الحروف الملفوظة على قصد تعديدها أو تسمية بعض السور، أو القرآن، أو ذاته سبحانه بقسم أو غير قسم. فالنكتة في ذلك التعديد أو التسمية على هذا الوجه أمران:

الاول: أنه لما كانت مسميات هذه الاسماء بسائط الكلام التى يتركب منها، افتتحت السور بطائفة منها على وجه التعديد أو التسمية بها، تنبيها لمن تحدى بالقرآن على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن الاتيان بما يدانيه.

والثاني: أن تكون أول ما يقرع الاسماع مستقلا بنوع من الاعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مخصوص بمن خط ودرس، فأما الامي الذي لم يخالط أهل الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالتلاوة والكتابة، وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الاديب الاريب الفائق في فنه، من إيراد نصف أسماء الحروف بحيث ينطوي على أنصاف مسمياتها تحقيقا وتقريبا في تسعة وعشرين سورة على عدد الحروف، مع نكات اخر.

قيل: ويمكن أن تكون تلك الحروف الملفوظة باعتبار مخارجها إشارة إلى معان دقيقة لطيفة، كما يشيرون بالالف باعتبار مخرجها الذي هو أقصى الحلق إلى مرتبة الغيب، وبالميم باعتبار مخرجها الذي هو الشفة إلى مرتبة الشهادة، وبمخرج اللام الواقع بينهما إلى ما يتوسط من المراتب، فالمشار إليه (الم) مرتبة الغيب والشهادة وما بينهما، وذلك المشار إليه هو الكتاب الوجودي الذي لا يخرج منه شئ.

ويمكن حملها على معانيها الحسابية إشارة إلى مدد أقوام واجال أو غير ذلك بحساب ذلك.

___________________________________

(1) التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول: ج 4، ص 6. (*)

[74]

ويدل عليه ما روي أنه (عليه السلام) لما أتاه اليهود تلا عليهم (الم) البقرة، فحسبوا وقالوا: كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة؟ فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: وهل غيره؟ فقال: المص والر والمر.

فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ؟ !(1).

فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك.

وقيل: يمكن حمله على الاشارة بصورها الكتابية الرقمية إلى معان أخر، كما يشيرون بالالف إلى الوجود النازل من علو غيب الاطلاق إلى مراتب التقييد من غير انعطاف. وباللام إليه مع انعطاف من غير أن يتم دائرته، وبالميم إلى تمام دائرته، فيعم مراتب الوجود. ويمكن أن يجعل تلك الحروف إشارة إلى كلمات هي منها اقتصر عليها، فالالف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه. وروي أن (الم) معناه أنا الله أعلم(2).

وأن الالف من الله، واللام من جبرئيل، والميم من محمد، أي القرآن منزل من الله على لسان جبرئيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله)(3).

وقال الصادق (عليه السلام): الالف حرف من حروف قولك: (الله) دل بالالف على قولك: (الله)، ودل باللام على قولك: (الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين)، ودل بالميم على أنه (المجيد المحمود في كل افعاله)(4).

وروى علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن جميل بن صالح،

___________________________________

(1) معاني الاخبار: ص 23، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ح 3، والظاهر أن الحديث نقل ملخصا.

(2) معاني الاخبار: باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ص 22، ح 1، وفيه: أنا الله الملك.

(3) مجمع البيان: ج 1، ص 32، قال: وعنه أيضا أن (الم) الالف منه تدل على اسم الله، واللام تدل على جبرائيل، والميم تدل على اسم محمد (صلى الله عليه وآله).

(4) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 22، والحديث طويل. (*)

[75]

عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الم) وكل حرف في القرآن منقطعة من حروف اسم الله الاعظم الذي يؤلفه الرسول والامام (عليهما السلام) فيدعو فيجاب(1). ويحتمل أن يكون الكل مع احتمالات أخر لا تنافي الشرع، ليس هنا موضع ذكرها مرارا، والله أعلم بحقيقة الحال. وهذه الاسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وبكر، حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه. والدليل على أن سكونها وقف آية يقال: صلى الله عليه وآله و (ق) و (ن) مجموعا فيها بين الساكنين، وإذا وقفت على آخرها قصرت، لانها في تلك الحالة خليقة بالاخف الاوجز. ومدت في حال الاعراب، وهى إما مفردة كصلى الله عليه وآله، أو على زنة مفرد ك_(حم) فإنه كهابيل، أو لا، الاول يجوز فيه الاعراب والحكاية، والثاني ليس فيه إلا الثاني، فقوله (الم) في محل النصب على حذف حرف القسم وإعمال فعله، أو الجر على تقديمه، أو الرفع على أنه مبتدأ ما بعده خبره، أو خبر محذوف المبتدأ.

ذلك: اسم إشارة مركب من اسم وحرفين، فالاسم (ذا) للمذكر الواحد.

أما ذكورة المشار إليه، فلتأثيره في نفس المخاطب، وإنتاجه فيها معرفة الحق وصفاته سبحانه.

وأما إفراده فلان المشار إليه وإن كان متعددا في نفسه، لكنه ملحوظ من حيث أحدية الجمعية، كما يدل عليه الاخبار عنه بالكتاب المنبئ عن الجمعية أو توصيفه به. وأحد الحرفين (اللام) الدال بتوسطه بين اسم الاشارة والمخاطب على بعد المسافة بينه وبين المشار إليه، ووجه البعد عدم إمكان إحاطة فهم المخاطب بما

___________________________________

(1) معاني الاخبار: باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ص 23، ح 2، والحديث عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، ولفظ الحديث قال: الم هو حرف من حروف اسم الله الاعظم المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه وآله) والامام، فإذا دعا به أجيب. (*)

[76]

يقصد به.

والآخر (الكاف) الدال على ذكورة المخاطب وإفراده.

أما ذكورة المخاطب فلان المخاطب أولا هو النبي (صلى الله عليه وآله) بحسب حقيقة مرتبة الابوة بالنسبة إلى جميع أفراد الآدميين.

كما قيل بلسان مرتبته: وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي فيه معنى شاهد بابوتي - وأما إفراده فلانمحاء كثرته النسبية في الوحدة الحقيقية.

الكتب: الكتب الجمع، يقال: كتبت القربة أي جمعتها، ومنه الكتيبة للجيش، والكتاب بمعناه سمي به المفعول مبالغة، وقيل: بني للمفعول كاللباس ثم أطلق على العبارات المنظومة قبل الكتابة، لان من شأنها أن تكتب، والحقائق العلمية إن كانت معتبرة لا بأحوالها تسمى حروفا غيبية، ومع أحوالها كلمات عينية. والوجودية بلا أحوالها حروفا وجودية، ومع أحوالها كلمات وجودية. والدالة على جملة مفيدة آية، والبعض الجامع لتلك الجمل سورة، ومجموع تلك المعقولات والموجودات كتابا وفرقانا وقرآنا - أيضا - باعتباري التفصيل والجمع.

وفي تركيب قوله: (الم) مع ما بعده أوجه: إن جعلت (الم) اسما للسورة أو للقرآن، أن يكون (الم) مبتدأ، و (ذلك) مبتدا ثانيا و (الكتاب) خبره، والجملة خبر المبتدأ الاول. ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضي الخصال. وأن يكون (الم) خبر مبتدأ محذوف، أي هذه الم. ويكون (ذلك) خبرا ثانيا، أو بدلا، على أن (الكتاب) صفة. وأن يكون (هذه الم) جملة، و (ذلك الكتاب) جملة أخرى. وإن جعلت (الم) بمنزلة الصوت كان (ذلك) مبتدأ خبره (الكتاب) أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو (الكتاب) صفة وما بعده خبره. أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو، يعني المؤلف من هذه الحروف (ذلك الكتاب).

[77]

وقرأ عبدالله: الم تنزيل الكتاب، وتأليف هذا ظاهر. وليس شئ منها آية عند غير الكوفيين.

وأما عندهم: ف_الم في مواقعها، والمص وكهيعص وطه وطسم ويس وحم آية، و (حم عسق) آيتان والبواقي ليست بآيات.

قيل: إن المفسرين متفقون على أن (ذلك) في موضع الرفع، فإما أن يكون خبرا عن (الم) أو عن محذوف، أو مبتدأ وخبره (الم)(1).

وأقول: المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين، وجب تقديم المبتدأ، فالخبر في هذه الصورة مع كونه معرفة، كيف يجوز تقديمه. لا ريب فيه: الريب في الاصل مصدر (رابني) الشئ إذا حصل فيه الريبة.

وهي قلق النفس واضطرابها، قال (عليه السلام): " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "(2)، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة، أي يكون الامر مشكوكا فيه مما تقلق النفس له ولا تستقر، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن، ومنه ريبة الزمان لما يقلق النفوس من نوائبه، فالمراد به الشك، لا معناه المصدري. وضمير (فيه) راجع إلى الحكم السابق إن كان هناك حكم، أو إلى (الكتاب) أو إلى (ذلك). وإنما نفى الريب مع كثرة المرتابين، لان الريب مع وضوح مزيحه كلا ريب. ويحتمل أن يكون المراد أن القرآن ليس مظنة للريب، بمعنى أن العاقل إذا رجع إلى عقله وترك العناد، ظهرت حقيقته وصدقه عليه غاية الظهور، ولم يبق معه شك وريب أصلا.

وأن يكون أن (لا ريب فيه) (للمتقين) و (هدى) حالا عن الضمير المجرور.

___________________________________

(1) في هامش بعض النسخ: القائل مولانا محمد مؤمن السبزواري في تفسيره، منه (قدس سره).

(2) الوسائل: ج 18، كتاب القضاء، باب 12، من أبواب صفات القاضي، ص 122، ح 38، نقلا عن الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره الصغير، وص 127، ح 56، نقلا عن الشهيد في الذكرى، ومسند أحمد بن حنبل: ج 3، ص 153، والحاكم في المستدرك: ج 2، ص 13، كتاب البيوع، وتمامه (فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة) وفي عوالي اللئالي: ج 1، ص 394، وج 3، ص 330. (*)

[78]

وأن يكون الريب المنفى هو الريب بمعناه المصدري، أي ليس فيه إيقاع شك، بأن يكون فيه شئ يوقع في الشك، كالاختلاف المذكور في قوله تعالى: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا "(1).

وأن يكون أنه لا ريب فيه في الواقع، وإن كانوا مظهرين للريب، كما روي عن أبي محمد العسكري أنه قال (عليه السلام): لا ريب فيه، لا شك فيه، لظهوره عندهم كما أخبر أنبياؤهم أن محمدا ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، يقرؤه هو و أمته على سائر أحوالهم(2). ولم يقدم الظرف كما قدم في قوله: " لا فيها غول "(3) لانه لم يقصد هنا إنحصار نفي الريب فيه، كما قصد هناك إنحصار نفي الغول في خمور الجنة.

وقرأ أبوالشعثاء: لا ريب فيه بالرفع(4)، والفرق بينها وبين القراء_ة المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه. والوقف على (فيه) هو المشهور.

وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على (لا ريب) ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ليتم الكلام الاول، ونظيره قوله تعالى: " لا صير "(5)، و قول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير: لا ريب فيه فيه(6).

فعلى التقدير الاول يحتمل أن يكون (فيه) صفة للريبة والخبر محذوفا، وأن يكون هو الخبر والمجموع جملة وقعت مؤكدة ل_" ذلك الكتاب " أو جزاء بعد خبر ل_(ذلك) أو لقوله (الم). وعلى التقدير الثاني يحتمل أيضا تلك الاحتمالات، وأن يكون فيه الثاني خبر

___________________________________

(1) سورة النساء: الآية 82.

(2) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 22.

(3) سورة الصافات: الآية 47.

(4) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 19.

(5) سورة الشعراء: الاية 50.

(6) التفسير الكبير: ج 1، ص 19. (*)

[79]

الهدى مقدما عليه.

هدى: هو مصدر على فعل كالسرى والبكى. وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابله، قال الله تعالى: " اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى "(1) ويقال: مهدي في موضع المدح كمهتد، ولان اهتدى مطاوع هدى وأن يكون المطاوع في خلاف معناه، ألا ترى إلى نحو غمه فاغتم وكسره فانكسر وأشباه ذلك.

وهو إما مبتدأ خبره مقدم عليه، أو محذوف، وعلى التقديرين فهو على حقيقته، أو خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر، أو حال كما سبق، إما على المبالغة كأنه نفس الهدى، أو على حذف المضاف أي ذو هداية، أو على وقوع المصدر بمعنى اسم الفاعل.

قال أبوجعفر (عليه السلام): الكتاب أمير المؤمنين، لا شك فيه أنه إمام هدى(2).

للمتقين: المتقي: اسم فاعل من قولهم وقاه يقي. والوقاية فرط الصيانة وشدة الاحتراس من المكروه، ومنه فرس واق، إذا يقي حافره أذى شئ يصيبه. وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه عما يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب:

الاولى: التوقي عن الشرك المفضي إلى العذاب المخلد، وعليه قوله تعالى: (و ألزمهم كلمة التقوى)(3).

والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وقيل: الصحيح أنها لا يتناولها لانها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر.

والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره، عن الحق ويتبتل إليه بكلية، وهو التقوى

___________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 16.

(2) لم نعثر على حديث بهذه الالفاظ، ومما يناسبه ويماثله ما رواه أبوبصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: الكتاب علي (عليه السلام) لا شك فيه لاحظ تفسير القمي: ج 1، ص 30.

(3) سورة الفتح: الآية 26. (*)

[80]

الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: (واتقوا الله حق تقاته)(1).

قيل: ومن جملة معاني باب الافتعال، الاتخاذ، فمعنى إتقى على هذا إتخذ الوقاية، ولهذا قال بعض العلماء في قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم "(2): اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم، واجعلوا ما بطن منكم وهو ربكم وقاية، فإن الامر ذم وحمد، فكونوا وقايته في الذم واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا ادباء عالمين، فإن توحيد الافعال يقتضي إسناد المحامد والمذام إلى الله، فالسالك إذا أسندهما إليه قبل ذكاء النفس وطهارتها تقع في الاباحة وبعد طهارتها يكون مسيئا للادب، فعلى هذا المتقون هم الذين يتخذون ربهم وقاية لانفسهم وينسبون الكمالات إلى ربهم، لا إلى أنفسهم ليكون لهم إخلاص من ظهور أنياتهم وأنفسهم، ويتخذون أنفسهم وقاية لربهم وينسبون النقائص إلى أنفسهم لا إلى ربهم، ولو كانت في حقيقة التوحيد منسوبة إلى الله تعالى، لئلا يسيئوا الادب إليه سبحانه.

وإنما قال: (هدى للمتقين) مع أن المتقين مهتدون، إما بناء على أن المراد بالمتقين المشارفون على التقوى، أو المقصود زيادة وقايتهم، بأن يراد بالهدى زيادة الهدى إلى مطلب لهم، أو التثبت على ما كان حاصلا لهم.

ويحتمل أن يراد بالمتقي: الموحد مطلقا.

روى الصدوق في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير، عن ابي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (هو أهل التقوى وأهل المغفرة)(3) قال: قال الله تبارك وتعالى: أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي عبدي شيئا، وأنا أهل إن لم يشرك بي عبدي أن أدخله الجنة(4).

قال صاحب الكشف: الاظهر أنه لا يحتاج إلى أحد التجوزين، من حمل الهدى على الازدياد، والمتقى على المشارف، لانه إذا قيل: السلاح عصمة للمعتصم أو عصا

___________________________________

(1) سورة ال عمران: الآية 102.

(2) سورة الحج: الآية 1.

(3) سورة المدثر: الآية 56.

(4) التوحيد: باب 1، ثواب الموحدين والعارفين، ص 19، ح 6. (*)

[81]

له، والمال غنى للمغني، على معنى سبب غنائه، لم يلزم أن يكون سببي عصمة وغناء حادثين غير ما هما، أي المعتصم والغنى فيه، إذ لا دلالة له على الزمان.

واجيب بأن المتبادر إلى الفهم من تعلق الفعل بشئ، هو إتصاف ذلك المتعلق بما عبر عنه عند اعتبار المتعلق حتى يقال: فيه شفاء للمريض ومرض للصحيح، ولو عكس لم يصح إلا بتأويل.

وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن معناه بيان وشفاء للمتقين من شيعة محمد وعلي (عليهما السلام).

اتقوا أنواع الكفر فتركوها، واتقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، واتقوا أسرار الله وأسرار أزكياء عباده الاوصياء بعد محمد صلوات الله عليهم فكتموها، واتقوا سر العلوم عن أهلها المستحقين لها ففيهم نشروها(1).

الذين يؤمنون: يحتمل الرفع والنصب والجر، والظاهر الجر، على أنه صفة للمتقين كما هو الظاهر، أو بدل أو عطف بيان. فأما الرفع فإما على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين يؤمنون، أو مبتدأ خبره (اولئك على هدى). وأما النصب فعلى المدح بتقدير أعني.

وإذا كان صفة فهي إما مقيدة، إن فسر التقوى بترك ما لا ينبغي كما هو المناسب لمعناه اللغوي، وهو الاحتراز، فحينئذ يراد بالمتقي من يحترز عن المعاصي أي فعل القبائح والمنهيات، سواء يمتثل الاوامر ويأتي بالحسنات أم لا، فعلى هذا تكون الصفة مقيدة مخصصة. فإن قلت: إجتناب المعاصي كلها يستلزم الاتيان بالطاعات، لان ترك الطاعة معصية. قلت: إن المراد بالمعاصي كما هو المتبادر ما يتعلق به صريح النهي، وترك المأمور به منهي عنه ضمنا أو أن مبنى هذا الكلام على أن المعصية فعل ما نهي عنه، وأن الترك ليس بفعل. وكذا إن أريد بالتقوى الاولى من مراتبها الثلاث، فإن المراد بالمتقين حينئذ من يجتنبون عن الترك، فتوصيفهم بالذين يؤمنون لا يكون

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 24. (*)

[82]

إلا تقييدا أو تخصيصا، أو كاشفة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات، وحمل الذين يؤمنون إلى آخره على ما يساويه، والتقوى بهذا المعنى بعينه هي المرتبة الثانية من مراتبه، وهي حقيقة معناه عند الجمهور.

وأما إذا أريد بها المرتبة الثالثة التي لا يتحقق بها إلا الخواص، فيمكن أن تكون أيضا صفة كاشفة، يظهر وجهه للمتأمل الصادق فيما سيأتي من بعض بطون الآية. أو مادحة ذكرت لمجرد المدح والثناء، وتخصيص ما ذكر إظهارا لفضله على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى.

وقد فرق بين المدح صفة والمدح اختصاصا، بأن الوصف في الاول أصل والمدح تبع، وفي الثاني بالعكس.

وبأن المقصود الاصلي من الاول إظهار كمال الممدوح والاستلذاذ بذكره، ومن الثاني إظهار أن تلك الصفة أحق باستقلال المدح من باقي صفاته الكمالية، إما مطلقا أو بحسب ذلك المقام.

والايمان: إفعال من الامن من المتعدي إلى مفعول واحد، والهمزة للتعدية إلى مفعولين، تقول: أمنت عمروا وأمننيه زيد، أي جعلني آمنا منه.

وقيل: الهمزة للصيرورة نحو أعشب المكان، بمعنى صار ذا عشب، فمعنى أمن، صار ذا أمن.

وقيل: المطاوعة نحو كبه فأكبه، أي أمنه فأمن، ثم نقل إلى التصديق ووضع له لغة، ثم إنك إذا صدقت زيدا فقد اعترفت بكلامه فعدي بالباء على تضمين معنى الاعتراف.

وفي عرف الشرع: هو التصديق بما علم بالضرورة من دين محمد (صلى الله عليه وآله) كالتوحيد والنبوة والامامة والبعث والجزاء كما هو ظاهر.

وقيل: مجموع ثلاثة أمور، إعتقاد الحق، والاقرار به، والعمل بمقتضاه، وهذا مذهب المعتزلة والخوارج، فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومن أخل بالاقرار فكافر، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا، وكافر عند الخوارج، خارج من الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة.

واختلف القائلون بأن الايمان هو التصديق وحده، في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف في المقصود، أو لابد من انضمام الاقرار للمتمكن منه؟ ولعل الحق هو الثاني لانه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر.

وللمانع أن يجعل الذم

[83]

للانكار لا لعدم الاقرار. ولا بأس علينا أن نذكر معنى التضمين هنا فإنه يناسبه، فنقول: التضمين أن يقصد بفعل معناه الحقيقي ويلاحظ معه فعلا آخر يناسبه، ويدل عليه بذكر شئ من متعلقات الاخر، كقولك: " أحمد إليك فلانا "، فإنك لما جعلت فيه مع الحمد معنى الانهاء ودللت عليه بذكر صلته، أعني كلمة (إلى) كأنك قلت: أنهي حمده إليك. ثم إنهم اختلفوا فذهب بعضهم إلى أن اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي فقط، والمعنى الآخر مراد بلفظ محذوف يدل عليه ذكر ما هو من متعلقاته، فتارة يجعل المذكور أصلا والمحذوف قيدا على أنه حال، وتارة يعكس. وذهب آخرون إلى أن كلا المعنيين مراد بلفظ واحد على طريق الكناية، إذ يراد بها معناه الاصلي ليتوصل بفهمه إلى ما هو المقصود الحقيقي، فلا حاجة إلى تقدير، إلا لتصور المعنى. وفيه ضعف، لان المعنى المكنى به في الكناية قد لا يقصد ثبوته، وفي التضمين يجب القصد إلى ثبوت كل من المضمن والمضمن فيه.

والاظهر أن يقال: إن اللفظ مستعمل في معناه الاصلي، فيكون هو المقصود أصالة، لكن قصد بتبعية معنى آخر يناسبه من غير أن يستعمل فيه ذلك اللفظ و يقدر له لفظ آخر، فلا يكون من باب الكناية ولا من الاضمار، بل من قبيل الحقيقة التى قصد بمعناها الحقيقي معنى آخر يناسبه ويتبعه في الارادة. فاحفظ هذه المسألة فإنها مفيدة.

بالغيب: الغيب مصدر غاب غيبا، حمل على الغائب مبالغة، أو على حذف مضاف، أو على جعل المصدر بمعنى اسم الفاعل، وإما مخفف فيعل كهين وهين و أمثاله.

ورد ذلك بأن هذا لا يدعى إلا فيما يسمع مثقلا كنظائره، وذلك ليس من هذا القبيل، والمراد به الخفي الذي لا يكون محسوسا ولا في قوة المحسوس كالمعلومات ببديهة العقل، وذلك كذاته سبحانه وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأحوال الآخرة، إلى غير ذلك من كل ما يجب على العبد أن يؤمن به وهو غائب عنه لا

[84]

يشاهد ولا يعاينه، فالايمان لا يكون عن المؤمن إلا عن غيبه، سواء كان تقليدا أو نظرا أو استدلالا، فإذا ارتفع عن درجة الايمان كان عارفا مشاهدا.

ولهذا فرق جبرئيل بين درجة الايمان وما فوقه عند سؤاله النبى (صلى الله عليه وآله)، حيث قال: يا محمد، أخبرني ما الايمان وما فوقه؟ قال (عليه السلام): الايمان أن تؤمن بالله والملائكة والكتب والنبيين وتؤمن بالقدر كله.

ثم قال: يا محمد، أخبرني ما الاحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك(1)

___________________________________

(1) رواه جل أئمة الحديث بعبائر مختلفة وأسانيد متعددة، ونحن ننقل بعض أحاديثه مبسوطا من جامع الاصول لابن الاثير، ففيها إشارة إلى الاحاديث الاخر.

يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهنى، فانطلقت وحميد بن عبدالرحمن الحميري - حاجين أو معتمرين - فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه داخل المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبى سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبدالرحمن، إنه قد ظهر قبلنا اناس يقرؤون القرآن ويتفقرون العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الامر أنف، فقال: إذا لقيت اولئك فأخبرهم: أني برئ منهم وأنهم براء مني، والذى يحلف به عبدالله بن عمر، لو أن لاحدهم مثل احد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي (صلى الله عليه (وآله) وسلم) فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمد، أخبرني عن الاسلام؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم): الاسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الايمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الاحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.

قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الامة رتبها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق، فلبث مليا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم.

جامع الاصول لابن الاثير: ج 1، الفصل الاول من الباب الاول من الكتاب الاول، في الايمان والاسلام ص 128. (*)

[85]

فقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه " أي تعبده، حين تراه بعين بصيرتك وقوة يقينك كأنك تراه، فكما أن المبصر بعين البصر لا يحتاج إلى الاستدلال، فكذلك بعين البصيرة وقوة اليقين لا يحتاج إليه، فهو بالنسبة إليك بمنزله المشهود المحسوس، فدرجة الاحسان فوق الايمان. وإنما سمي ذلك إحسانا، لانه إنعام من الله تعالى وفضل، ليس للعبد فيه تسبب، بخلاف الايمان فإنه مكتسب. ويمكن أن يراد بالغيب غيب الغيوب، الذي هو ذاته المطلقة وهويته الغيبية السارية في الكل علما وعينا.

والباء على هذه التقادير: للتعدية، متعلقه المتضمن للايمان، ويمكن أن تكون للمصاحبة متعلقة بمحذوف يقع حالا. والغيب بمعناه المصدري، أي يؤمنون حال كونهم متلبسين بغيبتهم عن المؤمن به، أو بغيبة المؤمن به عنهم. أو المعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم، لا كالمنافقين الذين (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم)(1) وأن تكون للاستعانة أي يؤمنون باستعانة غيوبهم التي هي نفوسهم الناطقة و أرواحهم المجردة التي هي غيب وجوداتهم، فإن نسبة الحق سبحانه إلى العالم كنسبة النفس الناطقة إلى البدن، فبالقياس إليها يعرفون الحق سبحانه ويؤمنون به و بصفاته الكمالية، وعلى هذا حمل بعضهم قوله (عليه السلام): (من عرف نفسه فقد عرف ربه)(2).

وقيل: المراد بالغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لا كمن (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)(3) ومفعول يؤمنون على هذه التقادير محذوف يعم جميع ما يجب أن يؤمن به.

___________________________________

(1) سورة البقرة: الآية 14.

(2) عوالي اللئالي: ج 4، ص 102، ح 149، وفي الجواهر السنية في الاحاديث القدسية: ص 116.

(3) سورة آل عمران: الآية 167. (*)

[86]

ويحتمل أن يكون المراد بالغيب قيام القائم (عليه السلام)، ويدل عليه ما روي عن داود الرقي، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزوجل: (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) قال: من أقر بقيام القائم (عليه السلام) أنه حق(1).

وروى ايضا بإسناده عن يحيى بن أبي القاسم قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله عزوجل: (الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) فقال: المتقون شيعة علي (عليه السلام) والغيب هو الحجة الغائب(2).

ويقيمون الصلوة: القيام في الاصل الانتصاب، وإقامة الشئ جعله منتصبا، فكأنهم يجعلون الصلاة منتصبة من حضيض ذل العدم أو النقصان إلى ذروة عز الوجود أو الكمال، أي يحصلونها - أو يأتون بها - على ما ينبغي، وأيضا قيام الشئ وجوده، ومنه قولهم: إنه قائم بنفسه أو بغيره، وقولهم القيوم: هو القائم بنفسه المقيم لغيره، والقوام: لما يقام به الشئ أي يحصل.

فعلى هذا معنى إقامة الصلاة تحصيلها وإيجادها كما في الوجه الاول من الاقامة بمعنى الانتصاب، ويلائم الوجه الثاني جعله من أقام العود، إذا قومه أي سواه، على أن يستعار من تسوية الاجسام كالعود ونحوه لتعديل الاركان، نقلا من المحسوس إلى المعقول.

ويحتمل أن يجعل من قامت السوق إذا نفقت - أي راجت - وأقامها أي جعلها نافقة رائجة، ويقصد بها الدوام والمحافظة عليها، لانها إذا حوفظ عليها كانت كالشئ النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا عطلت وأضيعت كانت كالشئ الكاسد الذي لا يرغب فيه.

___________________________________

(1) كمال الدين وتمام النعمة: باب 33 ما روي عن الصادق (عليه السلام) من النص على القائم (عليه السلام) ص 340، ح 19.

(2) كمال الدين وتمام النعمة: باب 33، ما روي عن الصادق (عليه السلام) من النص على القائم (عليه السلام)، ص 340، ح 20. (*)

[87]

وأن يجعل من قولهم: قام بالامر، أي تجلد وتشمر له، فإقامة الصلاة على هذا جعلها متجلدة متشمرة، أي كالمتجلدة المتشمرة لاخراج المصلي عن عهدة أدائها، أو إنقاذها عن تبعة تركها، ولا يتيسر ذلك إلا بتجلد المصلي وتشمره لها، فجعل كناية عنه.

وبالجملة: فالمراد بإقامتها تحصيلها الذي هو أداؤها مطلقا، أو تعديل أركانها الظاهرة، وتقويم حقائقها الباطنة، أو الدوام والمحافظة عليها، أو التجلد والتشمر لادائها.

والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى، كتبت بالواو على لفظ المفخم اسم الفاعل، والتفخيم هنا إمالتها نحو الواو، وقيل: للدلالة على أنها واوية.

والمشهور أنها في اللغة بمعنى الدعاء، وورود الصلاة بمعنى الدعاء في كلام العرب قبل شرعية الصلاة المشتملة على الاركان المخصوصة، وفي كلام من لا يعرفها دليل على ذلك، ثم نقلت إلى ذات الاركان لاشتمالها على الدعاء، أو لانها دعاء بتمامها بالالسنة الثلاثة، القول والفعل والحال، ووجه إطلاق المصلي على الداعي ظاهر.

وقيل: إنها من صلى بمعنى حرك الصلوين، أي طرفي الاليين(1) وذلك لان أول ما يشاهد من أحوال الصلاة إنما هو تحريك الصلوين للركوع، فإن القيام لا يختص بالصلاة. وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخضعه بالراكع والساجد. وإقامة الصلاة أعم من المفروضات والمسنونات.

ومما رزقنهم ينفقون: الرزق في الاصل الاخراج، لان التركيب وقلبه أعني زرق يدلان عليه، وشاع في اللغة أولا على إخراج خط إلى آخر ينتفع به. وهذا يلائم ما يذهب إليه بعضهم حيث يجعلون الرزق عاما، بحيث يتناول كل غذاء جسماني كالاطعمة والاشربة وغيرهما، وروحاني كالعلوم والمعارف، ثم شاع استعمالا وشرعا على إعطاء الحيوان ما ينتفع به، ويستعمل بمعنى المرزوق كثيرا،

___________________________________

(1) لسان العرب: ج 14، ص 465، قال أهل اللغة في الصلاة: انها من الصلوين، وهما مكتنفا الذنب من الناقة وغيرها وأول موصل الفخذين من الانسان، فكأنهما في الحقيقة مكتنفا العصعص. (*)

[88]

والمعتزلة لما استحالوا من الله أن يمكن من الحرام - لانه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه - قالوا: الحرام ليس برزق. وأسند الرزق هنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال، فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح.

وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله بقوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا)(1).

والاشعرية جعلوا الاسناد للتعظيم، والتحريض على الانفاق، والذم لتحريم ما لم يحرم، واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة، وتمسكوا في شمول الرزق له بقوله (عليه السلام) في حديث عمرو بن قرة: لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله(2).

وبأنه لو يكن رزقا لم يكن المغتذي به طول عمره مرزوقا، وليس كذلك لقوله تعالى: " وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها "(3). وأنفق الشئ وأنفده أخوان، وكذا كل ما كان فاؤه نونا وعينه فاء يدل على معنى الذهاب والخروج. والمراد من إنفاق ما رزقهم الله: صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل.

ومن فسر بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والاصل فيه، أو خصصه بها لاقترانه بما

___________________________________

(1) سورة يونس: الاية 59.

(2) البحار: كتاب العدل والمعاد، ج 5، باب 5، الارزاق والاسعار، ص 150، ذيل حديث 13، ولفظ الحديث: عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ جاء عمر بن قرة فقال: يا رسول الله، إن لله كتب علي الشقوة فلا أراني ارزق إلا من دفي بكفي، فأذن في الغناء من غير فاحشة.

فقال (صلى الله عليه وآله): لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة، أي عدو الله، لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقالة ضربتك ضربا وجيعا.

ورواه الامام الفخر الرازي في التفسير الكبير: ج 2، ص 30، قال: " وأما السنة فما رواه أبوالحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله إذ جاء_ه عمرو بن قرة " إلى آخره.

(3) سورة هود: الآية 6. (*)

[89]

هو شقيقها.

وتقديم المفعول للاهتمام، أو لتخصيص الانفاق ببعض المال الحلال، تاكيدا لما يفيده من التبعيضية، أو للمحافظة على رؤوس الآي. وما المجرورة موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف، والتقدير رزقناهموه، أو رزقناهم إياه. وإنما حذف العائد الذي هو كناية عن الرزق، لا العائد إلى المرزوقين، ليكون الوجود اللفظي على طبق الوجود العيني، لانطواء الرزق في المرزوق واختفائه فيه.

ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول، وأن تكون (من) لابتداء الغاية لا للتبعيض.

أقول: إنما كني بضمير الجمع عن نفسه وهو واحد لا شريك له، لانه خطاب الملوك، وهو مالك الملوك.

ووجه ذلك عند بعضهم أن ما يصدر عن الله سبحانه من الافعال إنما هو بواسطة الاسماء، وللاسماء جهتان: جهة وحدة حقيقية من حيث الذات، وجهة كثرة نسبية من حيث النسب والاعتبارات، فإذا اقتضى المقام اعتبار الجهة الاولى أتى بما يدل على الوحدة، وإذا اقتضى المقام اعتبار الجهة الثانية أتى بما يدل على الكثرة.

ولما اعتبر هنا جانب المرزوقين روعيت الجهة الثانية، فإن لكل مرزوق استعدادا خاصا بطلب رزقه من اسم خاص يناسبه.

قيل: ولا يبعد أن يقال: المراد بالانفاق أنهم يتصدقون للفطر حين يصومون، و لاداء الزكاة عند وجود النصاب وحولان الحول، وينفقون لاداء الحج للزاد والراحلة لانفسهم ولرفقائهم، فيكون قوله تعالى: (بالغيب) إشارة إلى أول ركن من أركان الاسلام، وقوله: (ويقيمون) إلى ثانيها، وقوله: (ومما رزقناهم) إلى الثلاثة الباقية.

وروي في معنى الآية: أن (المتقين) هم الشيعة(1).

___________________________________

(1) البرهان: ج 1، ص 53، ح 2، والرواية: عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قوله: " الم ذلك الكتاب لا ريب فيه " قال: " كتاب علي لا ريب فيه هدى للمتقين، قال: المتقون شيعتنا. الخ ".

[90]

[ والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون(4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون(5) ]

الذين يؤمنون بالغيب: وهو البعث والنشور وقيام القائم والرجعة(1).

ومما رزقنهم ينفقون: مما علمناهم من القرآن يتلون(2).

والذين يؤمنون بما أنزل إليك: مرفوع أو منصوب عطفا على الذين يؤمنون بالغيب، أو مجرور عطفا عليه أو على المتقين. فعلى الاول يكون دخوله تحت المتقين دخول أخص تحت أعم، إذ المراد باولئك: الذين آمنوا عن شرك وإنكار، و بهؤلاء مقابلوهم، فتكون الآيتان تفصيلا للمتقين.

وعلى الثاني لا يكون مندرجا تحت المتقين، والمعنى: هدى للمتقين عن الشرك والذين آمنوا من أهل الملل، فعلى هذا يكون المراد بالاولين: المؤمنين من الشرك، وبالآخرين: المؤمنين من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، وعلى التقديرين يحتمل أن يراد بهم الاولون بأعيانهم ووسط العاطف، كما وسط في قوله:

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم(3) -

___________________________________

(1) البرهان: ج 1، ص 53، ح 5، والرواية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: " الذين يؤمنون بالغيب " قال: " والغيب فهو الحجة الغائب. الخ ".

وتفسير القمي: ج 1، ص 30، والرواية عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: " الذين يؤمنون بالغيب " قال: " يصدقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد. الخ ".

(2) البرهان: ج 1، ص 53، ح 1.

(3) جامع الشواهد: ص 57، باب الالف بعده اللام. لم سم قائله، الجار والمجرور متعلق بالمحذوف، أي أسوق مطيتي، والملك ككتف: السلطان المقتدر والقرم بالقاف والراء المهملة كفلس: السيد، والهمام كغراب: السيد الشجاع السخي، والليث بالياء والمثلثة كفلس: الاسد، والكتيبة بالمثناة والياء والموحدة كسفينة: الجيش، والمزدحم: اسم مفعول من الازدحام وهو بالزاء المعجمة والدال والهاء المهملتين: الجمعية.

[91]

وقوله:

يا لهف زيابة للحارث *** الصابح فالغانم فالآيب(1) -

والمعنى أنهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل جملة، والاتيان بما يصدقه من العبادات البدنية والمالية، وبين الايمان بما لا طريق إليه غير السمع.

وكرر الموصول، تنبيها على تباين السبيلين، أو طائفة منهم وهو مؤمنو أهل الكتاب ذكرهم مخصصين عن الجملة، كذكر جبرئيل وميكائيل بعد الملائكة تعظيما لشأنهم وترغيبا لامثالهم. ويحتمل أن يكون مع ما عطف عليه مبتدأ وأولئك خبره.

والانزال تحريك الشئ من العلو إلى السفل، فالمراد بالمنزل إن كان الكلام الذي هو صفته، فإنزاله تحريكه بالحركة المعنوية إلى مظاهره السفلية بعد ظهوره في المظاهر العلوية، فإنه يظهر أولا في المظاهر العقلية ثم النفسية ثم المثالية ثم الحسية.

وإن كان كلامه هو القرآن المنتظم من الحروف والكلمات، فإنزاله تحريكه من المعاني العلمية الالهية إلى العقلية ثم النفسية ثم إلى صور الحروف والكلمات المثالية ثم الحسية، وعلى هذا يكون الانزال مستعملا في معناه المجازي، فيكون من قبيل المجاز في المفرد.

ولك أن تجعله من قبيل المجاز في الاسناد، بأن يكون الانزال مستعملا في معناه الحقيقى، ويسند إلى القرآن باعتبار حامله الذي هو جبرئيل

___________________________________

(1) هو من أبيات لابن زيابة، واسمه مسلمة بن زهل، وزيابة امه، وكان الحارث قد أغار على قوم الشاعر ولم يكن حاضرا، فهو يتأسف من عدم ملاقاته، وقبله:

أنا ابن زيابة إن تدعني *** آتك والظن على لكاذب -

وبعده:

والله لو لاقيته وحده *** لآب سيفانا مع الغالب -

يعني أتاسف للحارث الذي صبح قومي بالغارة فغنم فرجع صحيحا بأن لا أكون أصادفه فأقتله، جامع الشواهد: ص 374، باب الياء بعده الالف. (*)

[92]

(صلوات الله عليه).

وإنما جاء بصيغة الماضي وإن كان بعضه مترقبا، تغليبا للموجود على ما لم يوجد، أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع ونظيره قوله تعالى: " إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى "(1)، فإن الجن لم يسمعوا جميعه، ولم يكن الكتاب كله حينئذ منزلا، والمعنى الذين يؤمنون بالقرآن الذي أنزل إليك بعد ظهورك بالوجود الجسماني الشهادي.

وإنما قيدنا بذلك، لانه بحسب الوجود الروحاني العيني مقدم على الكل، قال (صلى الله عليه وآله): (كنت نبيا) أي مبعوثا من عند الله في العالم الروحاني إلى الارواح البشريين والملكيين (وآدم بين الماء والطين)(2) أي لم يكمل بدنه الجسماني الشهادي بعد، فكيف من دونه من أنبياء أولاده؟ والايمان به - جملة - فرض عين، وتفصيلا - من حيث أنا متعبدون بتفاصيله - فرض لكن على الكفاية، لان وجوبه على كل أحد يوجب الحرج وفساد المعاش.

وما أنزل من قبلك: مجرور معطوف على ما أنزل قبله، اي قبل وجودك الجسماني الشهادي، والمراد به التوراة والانجيل وغيرهما، والايمان به - جملة - فرض عين.

وقرأ يزيد بن قطيب: بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، على لفظ ما سمي فاعله(3).

أقول: من جملة ما أنزل إلى النبي وإلى الانبياء قبله (عليهم السلام) - بل العمدة والاصل - خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه بلا واسطة أحد غيره. يدل على ذلك ما روي أنه قد حضر رجل عند علي بن الحسين (عليهما السلام) فقال: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل على محمد وما أنزل من قبل، ويؤمن بالآخرة، ويصلي، ويزكي، ويصل الرحم، ويعمل الصالحات، لكنه يقول مع

___________________________________

(1) سورة الاحقاف: الآية 30.

(2) عوالى اللئالي: ج 4، ص 121، ح 200، ولاحظ أيضا ما علقنا عليه.

(3) الكشاف: ج 1، ص 42 (*)

[93]

ذلك: لا أدري الحق لعلي أو لفلان؟ فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها إلا أنه يقول: لا أدري النبي محمد أو مسيلمة؟ هل ينتفع بشئ من هذه الافعال؟ فقال: لا.

فقال: فكذلك صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالآخرة، أو منتفعا بشئ، من لا يدري أمحمد النبي أم مسيلمة؟ فكذلك، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب وبالآخرة أو منتفعا بشئ من أفعاله، من لا يدري أعلي المحق أم فلان(1).

وبالاخرة هم يوقنون: معطوفة على (يؤمنون) أي يوقنون إيقانا زال معه ما كانوا عليه من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، واختلافهم في نعيم الجنة أو هو من جنس نعيم الدنيا أو غيره، وفي دوامه وانقطاعه؟ والآخر اسم فاعل من (أخر) بالتخفيف، بمعنى تأخر، إلا أنه لم يستعمل، والآخرة تأنيثها، وهي صفة الدار والنشأة، بدليل قوله: (تلك الدار الآخرة)(2)، و (ينشئ النشأة الآخرة)(3) وهي صفة غالبة على تلك الدار، والنشأة كالدنيا على هذه، حتى قلما تستعملان في غيرهما.

وقد جرتا مع تلك الغلبة مجرى الاسماء بترك موصوفيهما حتى كأنهما ليستا من قبيل الصفات.

وإنما سميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، كما سميت الدنيا دنيا لكونها أدنى و أقرب إلينا من الآخرة أو لكونها أقرب النشئات إلى الآخرة، وذلك لان للنفس الناطقة حالتين: حالة تقلقلها بالبدن واشتغالها بتدبيره، والاتيان بواسطته بالاعمال الحسنة والسيئة، وحالة انقطاعها عن البدن وعدم التمكن من الاشتغال بتدبيره، وترتب الاجزية على أعمالها من اللذات والآلام. ولا شك أن الانتقال من الحالة الاولى التي هي الدنيا إلى الثانية التي هي الآخرة، آني دفعي، لا زماني

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 32.

(2) سورة القصص: الآية 83.

(3) سورة العنكبوت: الآية 20. (*)

[94]

تدريجي، بخلاف سائر النشئات فإنه يتخلل بينها وبين الآخرة النشأة الدنيوية. وعن نافع أنه خفقها بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام.

والايقان: إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عنه بالاستدلال، ولهذا لا يوصف به علم الباري تعالى والعلوم الضرورية، لا يقال: أيقنت أن السماء فوقي، يقال: يقنت بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت وتيقنت كله بمعنى.

وهو في أصل اللغة ينبئ عن السكون والظهور.

يقال: يقن الماء إذا سكن فظهر ما تحته، وقرئ (يؤقنون) بقلب الواو همزة لضم ما قبلها، إجراء لها مجرى المضمومة في وجوه ووقنت، ونظيره:

لحب المؤقدان الي مؤسى *** وجعدة إذ أضاء_هما الوقود(1) -

وفي هذا الكلام تقديمان يفيد كل منهما القصر: أحدهما: تقديم الظرف، أعني (بالآخرة) للقصر عليه، كما في قوله تعالى: (لالى الله تحشرون)(2) يعني أنهم يوقنون بحقيقة الآخرة، لا بما هو على خلاف حقيقتها كما يزعم بعض اليهود.

وثانيهما: تقديم المسند إليه، أعني (هم) وبناء الفعل إليه، كما في قولك: " أنا سعيت في حاجتك " - يعني أن الايقان بالآخرة مقصور إليهم لا يتجاوزهم إلى أهل الكتاب. وفي هذين القصرين التعريض ببعض أهل الكتاب، وبما هم عليه من أمر الآخرة.

أولئك على هدى من ربهم: الجملة في محل الرفع إن جعل أحد الموصولين مفصولا عن المتقين خبر له، وكأنه لما قيل: (هدى للمتقين) قيل: ما بالهم خصوا

___________________________________

(1) الشعر لجرير على ما في الحواشي، وقيل: لابي حية النميري، ومؤسى وجعدة ابناه، وقوله: لحب الخ يروى بفتح الحاء وضمها، وأصله حبب على وزن شرف، والمؤقدان أراد أيقاد نار القرى فإنه المتبادر في استعمالات العرب خصوصا في مقام المدح، نقلا عن حاشية الكشاف للسيد شريف الجرجاني.

(2) سورة آل عمران: الآية 158. (*)

[95]

بذلك؟ فاجيب بقوله: (الذين) إلى آخره، وإلا فاستئناف لا محل لها، وكأنه نتيجة الاحكام والصفات المتقدمة، أو جواب سائل قال: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ ويحتمل أن يكون الموصول الاول موصولا بالمتقين، والثاني مفصولا عنه مبتدأ، و (أولئك) خبره.

و (أولئك) اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذكور والاناث، وهي هنا إشارة إلى المتقين الموصوفين بتلك الصفات، لا إلى ذواتهم المجردة، لانه مأخوذ في حد اسم الاشارة أن يكون المشار إليه محسوسا أو في حكم المحسوس، وإنما صار المشار إليه هنا في حكم المحسوس بإجراء هذه الاوصاف عليه وتميزه بها عما عداه، فيجب أن تكون ملحوظة في الاشارة، فإذن يكون قوله: " أولئك على هدى من ربهم " كالبناء على المشتق، ففيه إعلام بأن الاوصاف المذكورة قبل اسم الاشارة، علة لكون المذكورين على الهدى. وكلمة (اولئك) يمد ويقصر والمد أولى.

وكلمة (على) هذه إستعارة تبعية، وإنما كانت إستعارة، لانه شبه تمسك المتقين بالهدى باستقلال الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار، فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء، كما شبه إستعلاء المصلوب على الجذع باستقرار المظروف في الظرف لجامع، فاستعير له الحرف الموضوع للظرفية.

وإنما كانت تبعية، لان الاستعارة في الحرف تقع أولا في متعلق في معناه، كالاستعلاء والظرفية مثلا ثم تسري إليه بتبعية كما حقق في موضعه.

ولك أن تعتبر تشبيه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به، بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه، فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها، أو تعتبر تشبيهه بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتجعل كلمة (على) قرينة لها.

وتنكير (هدى) للتعظيم، أي هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدره، وكيف يبلغ؟ وقد منحوه من عند ربهم وأتوه من قبيله، أو للنوع.

[96]

و (من) للابتداء، وإنما قال: (من ربهم) لا من الله تنبيها على أن لكل أحد اسما خاصا من أحدية جمع الاسماء، هو ربه، ومنه يصل إليه ما يصل، وليس لاحد أحدية جمع الاسماء إلا للانسان الكامل، فإن ربه الخاص به هو الاسم الجامع، فمعنى قوله: (من ربهم) أن لكل أحد هدى من ربه الخاص لا من غيره.

والنكتة في إضافة الهدى إلى الكتاب أولا وإلى ربهم ثانيا، أن المتقين قبل كشف حجب المظاهر عن نظر شهودهم، كانوا يشاهدون الهدى عن مظاهر الاسم التي كان ذلك الكتاب واحدا منها، فلذلك أضيف إليه الهدى أولا، فلما تمكنوا في التقوى وتحققوا بالصفات الجارية عليهم كشف عنهم حجب المظاهر وشاهدوا فيها الظاهر، فلهذا أضيف إليه ثانيا.

وهو، أي قوله: " من ربهم " إما في محل الجر صفة لهدى، أو النصب على أنه حال من هدى.

وأولئك هم المفلحون: عطف على الجملة الاولى، وأصل الفلاح القطع والشق، ومنه سمي الزارع فلاحا، لانه يشق الارض، والزراعة فلاحة، ومنه المثل الحديد بالحديد يفل(1).

بل كل ما يشاركه في الفاء والعين يدل على ذلك المعنى، نحو فلق وفلذ وفلي وفلج بالجيم. والمفلح هو الفائز بالمطلوب، كأنه الذي انفتحت له وجوه الفوز والظفر ولم تستغلق عليه.

وكرر اسم الاشارة، للتنبيه على أن كل واحد من المسندين على انفراده يكفي في إثبات الفضيلة للمسند إليهم، فلا احتياج إلى انضمام الآخر ليعد من الفضائل، بخلاف ما لو اقتصر على واحد منهما، فإنه يمكن أن يتوهم حينئذ أن الفضيلة

___________________________________

(1) مجمع الامثال: ج 1، ص 11، وفيه: الفلح: الشق، ومنه الفلاح للحراث لانه يشق الارض: أي يستعان في الامر الشديد بما يشاكله ويقاويه.

وفي لسان العرب: ج 2، ص 548، في لغة (فلح)، الفلح الشق والقطع، فلح الشئ يفلحه فلحا: شقه، قال:

قد علمت خيلك أني الصحيح *** إن الحديد بالحديد يفلح (*)

[97]

في الجمع بينهما لا في كل واحد.

و " هم ": فصل، وفيه ثلاث فوائد وثلاث مذاهب: أما الفوائد:

فالاولى منها: الدلالة ابتداء على أن ما بعده خبر، لا نعت، ولذلك سمي فصلا.

والثانية: تأكيد الحكم لما فيه من زيادة الربط. وقيل: تأكيد المحكوم عليه، لانه راجع إليه فيكون تكريرا له.

والثالثة: إفادة قصر المسند على المسند إليه.

فإن قلت: إن هذا إنما يتم إذا ثبت القصر في مثل زيد هو أفضل من عمرو مما الخبر فيه نكرة، وإلا فتعريف الخبر بلام الجنس يفيد قصره على المبتدأ، وإن لم يكن هناك ضمير فصل، مثل زيد الامير.

قلت: ندعي القصر في صورة النكرة - أيضا - فإن قولك زيد هو أفضل من عمرو، معناه بالفارسية (زيد او است كه افضل است از عمرو) فعلى هذا قد اجتمع في قولك: زيد هو الامير، أمران يدلان على قصر المبتدأ، أحدهما تأكيد للآخر: تعريف المسند وضمير الفصل.

ونوقش: بأن تعريف المبتدأ بلام الجنس، يفيد قصره على الخبر دون قصر الخبر عليه وإن كان مع ضمير الفصل، كقولك: الكرم هو التقوى، أي لا كرم إلا التقوى.

وأجيب: بأن القول بإفادة الفصل قصر المسند على المسند عليه، إنما هو على تقدير أن لا يكون هناك معارض كتعريف المسند إليه، لافادة قصره على المسند، في هذه الصورة.

وأما المذاهب: فأحدها: أن ضمير الفصل حرف لا محل له، وفائدته ما مر.

وثانيهما: أنه اسم لا محل له، وهو سخيف، لانه ليس له نظير في كلام العرب من اسم لا يكون له محل.

وثالثها: أنه اسم مرفوع المحل، فعلى هذا يجوز أن يكون (هم) مبتدأ و

[98]

(المفلحون) خبره والجملة خبر (اولئك).

واللام: إما للعهد، أي المتقون هم الذين بلغك أنهم يفلحون واشتهروا بذلك، فإنهم حصة معينة من جنس المفلحين مطلقا. وإما للجنس، أي جنس المفلحين مقصور على المتقين لا يجاوزهم إلى غيرهم، والمبالغة في الثاني، لان قصر الجنس يستلزم قصر الحصة من غير عكس.

وهاهنا معنى آخر أدق وألطف ذكره الشيخ(1) في دلائل الاعجاز وهو أن نشير باللام إلى حقيقة، ثم نصور تلك الحقيقة في الوهم بصورة تناسب ما يحكم بها عليه، ثم نحكم بالاتحاد بين تلك الحقيقة المصورة بهذه الصورة الوهمية وبين المبتدأ، من غير ملاحظة الحصر من أحد الجانبين.

وإنما اعتبرت الصورة الوهمية المناسبة، لان الحقيقة لو تركت على حالها لم يكن إدعاء كون المبتدأ متحدا بها مستحسنا مقبولا، فالمراد بالمفلحين على هذا المعنى جنس المفلحين مصورا بصورة وهمية تلائم المتقين، يحكم بالاتحاد بينها وبين المتقين(2).

لا يقال: على هذا التقدير لم يتصور هناك حصر أصلا فكيف يستعمل فيه ضمير الفصل؟ قلنا: يجرد حينئذ لتميز الخبر من النعت وتأكيد الحكم دون القصر.

فإن قلت: قوله: " اولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " جملتان مصوغتان لمدح المتقين، فلم وقعت إحداهما بطريق القصر والحكم بالاتحاد، والاخرى بدونه؟ قلنا: لظهور التلازم بين مسنديهما، فقصر إحداهما في قوة قصر الاخرى، و كذلك الحكم بالاتحاد في إحداهما في قوة الحكم بالاتحاد في الاخرى. وإنما اختير ذلك في الجملة الاخيرة ليقع خاتمة صفاتهم على وجه أبلغ.

___________________________________

(1) هو عبد القاهر بن عبدالرحمن الجرجاني النحوي، كان من كبار أئمة العربية والبيان.

صنف كتبا عديدة منها: إعجاز القرآن الكبير، والصغير، والجمل، ودلائل الاعجاز، وغيرها، توفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة. بغية الوعاة: ص 310.

(2) راجع دلائل الاعجاز في المعاني والبيان: ص 141 وما بعدها. (*)

[99]

وفي التفسير المنسوب إلى أبي محمد العسكري (صلوات الله عليه وعلى آبائه)، قال الامام (عليه السلام): ثم أخبر عن جلالة هؤلاء الموصوفين بهذه الصفات الشريفة، فقال: " أولئك " أهل هذه الصفات " على هدى " وبيان وصواب " من ربهم " وعلم بما أمرهم به " واولئك هم المفلحون " الناجون مما منه يوجلون الفائزون بما يؤملون، قال: وجاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، إن بلالا كان يناظر اليوم فلانا فجعل يلحن في كلامه وفلان يعرب ويضحك من بلال ! فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا عبدالله، إنما يراد إعراب الكلام وتقويمه لتقويم الاعمال وتهذيبها، ماذا ينفع فلانا إعرابه وتقويمه لكلامه إذا كانت أفعاله ملحونة أقبح لحن ! وماذا يضر بلالا لحنه في كلامه إذا كانت أفعاله مقومة أحسن تقويم مهذبة أحسن تهذيب ! قال الرجل: يا أمير المؤمنين، وكيف ذلك؟ قال (عليه السلام): حسب بلال من التقويم لافعاله والتهذيب لها أنه لا يرى أحدا نظيرا لمحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لا يرى أحدا بعد محمد نظيرا لعلي بن أبي طالب، ويرى أن كل من عاند عليا فقد عاند الله ورسوله، ومن أطاعه فقد أطاع الله ورسوله، وحسب فلان من الاعوجاج واللحن في أفعاله التي لا ينتفع معها بإعرابه لكلامه بالعربية وتقويمه للسانه، أن يقدم الاعجاز على الصدور والاستاه على الوجوه، وأن يفضل الخل في الحلاوة على العسل، والحنظل في الطيب والعذوبة على اللبن، يقدم على ولي الله الذي لا يناسبه بشئ من الخصال في فضله، هل هو إلا كمن قدم مسيلمة على محمد في النبوة في الفضل، ما هو إلا من الذين قال الله تعالى: " قل هل أنبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "(1).

قال بعض الفضلاء: وإذا انتهى الكلام إلى ها هنا فحري بنا أن نشير إلى بعض بطون هذه الآيات، فنقول: هذا كلام من باطن الجمع إلى ظاهر الفرق، يخاطب أكمل صورة

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 33، ذيل قوله تعالى: " أولئك على هدى من ربهم ". (*)

[100]

[ إن الذين كفروا سواء عليهم ء_أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون(6) ]

أولا (صلى الله عليه وآله) ومتابعية آخرا، فيقول: (الم) أي أقسم بالاول وذي الامر والخلق أن (ذلك) الموجود المعلوم المشهود، أعني العالم، هو الكتاب، الجامع لحروف وكلمات مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور، للدلالة على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا ينتهي " لا ريب فيه "، لان تلك الدلالة قطعية عقلية أو كشفية لا مجال للشك والريب فيها، (هدى) للمشارفين على التوقي من الحجب المانعة عن التحقق بشهود الوحدة والكثرة، (الذين يؤمنون) بغيب الهوية وسريانها: أولا في الصور العلمية الباطنة التي هي الاعيان الثابتة ولها الاولية، وثانيا في الصور العينية الظاهرة التي هي أعيان الخارجية، ولها الآخرية، فهو الاول والآخر والظاهر والباطن.

وبعد الايمان بها يسلكون طريق الوصول إلى شهودها في تلك الصور بوحدتها، ف_(يقيمون الصلاة) التي هي العبادة التامة الجامعة الموصلة إلى شهود الجمعية الالهية، بتحريك صلويهم الروحانية والجسمانية للسير إليها والفناء فيها، ومما أفيض عليهم بعد الفناء من أنوار المعرفة وأسرار الوحدة يفيضون على من سواهم، لجعلهم بالتربية والكمال مستعدين لفيضانها، والذين يصدقون لصفاء استعدادهم بما انزل اليك وبما انزل إلى الانبياء والمرسلين من تلك الانوار والاسرار، حيث يفهمونها بلسان الاشارة عنك فيرغبون فيها و يسلكون للوصول إليها.

و (بالآخرة) أي بعاقبة سلوكهم ومآل أمرهم إلى فيضان تلك الانوار والاسرار في أثناء سلوكهم لظهور آثارها، متيقنون، " اولئك على هدى من ربهم " الظاهر بالاسم الهادي في مظاهره، لا يحتجبون بالمظاهر عن الظاهر " واولئك هم المفلحون " الذين خرقوا حجب المظاهر وشقوها فيشاهدون مشهودهم كفاحا. إن الذين كفروا: لما ذكر خاصة أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم التي

[101]

أهلهم لاصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أهلهم لاصابة الزلفى عنده، وبين أن الكتاب هدى ولطف لهم خاصة، قفى على أثره بذكر أضدادهم، وهم العتاة المردة من الكفار الذين لا ينفع فيهم الهدى ولا يجدي عليهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه وإنذار الرسول وسكوته.

وروي عن الامام الحسن العسكري (عليه السلام) في معنى الآية: أنه لما ذكر المؤمنين ومدحهم، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم، فقال: إن الذين كفروا بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله تعالى، وبنبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبوصية علي أمير المؤمنين ولي الله ووصي رسول الله، وبالائمة الطيبين الطاهرين خيار عباده الميامين القوامين بمصالح خلق الله " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " أي خوفتهم أو لم تخوفهم، أخبر عن علم بأنهم " لا يؤمنون " انتهى كلامه (عليه السلام)(1). ولم يوسط العاطف بين الجملتين، لتباينهما في الغرض والاسلوب.

أما الغرض: فلان الغرض من الاولى بيان كون الكتاب بالغا في الهداية حد الكمال، ومن الثانية وصف الكفار بأنه لا يؤثر فيهم الانذار.

وأما في الاسلوب: فلان طريق الاولى الحكم على الكتاب بجملة محذوفة المبتدأ موصولة بغيرها من ذكر المتقين وأحوال المؤمنين، وطريق الثانية الحكم على الكافرين قصدا بجملة تامة، مصدرة ب_(إن) المشعرة بالاخذ في فن آخر لتجرد الاول عنها، بخلاف قوله: " إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم "(2) لتوافقهما في الغرض والاسلوب، وهو ظاهر.

ويحتمل أن يقال: لما كانت النسبة بين المؤمنين والكافرين كمال المباينة، و بين الكافرين والمنافقين كمال المناسبة، قطع ما كان في شأن الكافرين عما كان في شأن المؤمنين، وعطف ما كان في شأن المنافقين على ما هو في شأن الكافرين، تنبيها على تينك النسبتين.

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 33، في ذيل قوله تعالى: " ان الذين كفروا ".

(2) سورة الانفطار: الآية 13 و 14. (*)

[102]

و (إن) من الحروف التي شابهت الفعل في عدد الحروف، والبناء على الفتح، و لزوم الاسماء، وإعطاء معانيه، والمتعدي خاصة في دخولها على اسمين، ولذلك أعملت عمله الفرعي، وهو نصب الجزء الاول ورفع الثاني إيذانا بأنه فرع في العمل.

وقال الكوفيون: الخبر قبل دخولها كان مرفوعا بالخبرية، وهي بعد باقية مقتضيه للرفع، قضية للاستصحاب فلا يرفعه الحرف. ورد بأن اقتضاء الخبرية الرفع مشروط بالتجرد لتخلفه عنها في خبر كان، وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف. و فائدتها تأكيد النسبة وتحقيقها، ولذلك يتلقى بها القسم، وتصدر بها الاجوبة، و تذكر في معرض الشك(1).

روي أن الكندي(2) المتفلسف ركب إلى المبرد(3)، وقال: إني أجد في كلام العرب حشوا، أجد العرب تقول: عبدالله قائم، ثم تقول: إن عبدالله قائم، ثم تقول: إن عبدالله لقائم ! فقال المبرد: المعاني مختلفة، فقولهم: عبدالله قائم، إخبار عن قيامه، وقولهم: إن عبدالله قائم، جواب عن سؤال سائل وقولهم: إن عبدالله قائم، جواب عن إنكار منكر القيام(4).

والكفر لغه: ستر النعمة، وأصله الكفر بالفتح وهو الستر، ومنه سمي الليل كافرا لستره الاشياء بظلمته، والزارع كافرا لانه يستر الحب في التراب، وكمام الثمرة كافورا لسترها الثمرة.

___________________________________

(1) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 36.

(2) هو أبويوسف يعقوب بن إسحاق، فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، و يسمى فيلسوف العرب، له كتب في علوم مختلفة. توفي سنة 246 ه_. الكنى والالقاب: ج 1، ص 153 .

(3) هو أبوالعباس محمد بن يزيد المبرد البصري، اللغوي - الفاضل الامامي، صاحب كتاب الكامل، والروضة، ومعالي القرآن، وكتب اخرى نافعة، توفي سنة 285 ه_ببغداد. الكنى والالقاب: ج 3، ص 110.

(4) التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 1، ص 36. (*)

[103]

وفي الشرع: إنكار ما علم بالضرورة مجيئ الرسول (عليه السلام) به، كوجوب الصوم والصلاة والزكاة وغير ذلك.

وإنما عد لبس العيار(1) وشد الزنار كفرا؟ لانهما تدلان على التكذيب، فإن من صدق الرسول (عليه السلام) لا يجترئ عليهما، لا لانهما كفر في أنفسهما.

واحتجت المعتزلة بما جاء في القرآن بلفظ الماضي على حدوثه، لاستدعائه سابقة مخبر عنه، وحيث لا يصح الحكم على الكافرين مطلقا باستواء الانذار وتركه لتحقق الايمان من بعضهم، فتعريف الموصول: إما للعهد، والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود، فإن هؤلاء وأضرابهم أعلام الكفرة فهم كالحاضرين في الذهن، فإذا اطلق اللفظ التفت الخاطر إليهم أو لاستغراق الجنس، وهو الشائع في الاستعمال، إما مطلقا فيستغرق المصرين وغير المصرين وخص منه المصرين بقرينة الخبر، وإما مقيدا بالاصرار بهذه القرينة، فإنه أيضا جنس، فيستغرق أفراد جنس المصرين فقط، أو لبعض أفراد الجنس من غير عهد واستغراق، ويكون تعيين المصرين بقرينة الخبر.

أقول: ويحتمل أن يكون المراد به مالك بن الصيف وكعب بن الاشرف وحيي بن أخطب وتابعي أبي لبابة بن المنذر، يدل على إرادة ذلك ما روي عن محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قدم المدينة وظهرت آثار صدقه وآيات حقه وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد و قصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها وحجته ليبطلوها، فكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه مالك بن الصيف وكعب بن أشرف وحيي بن أخطب، وأبو لبابة بن المنذر، وشيعته.

فقال مالك لرسول الله (صلى الله عليه وآله): يا محمد، تزعم أنك رسول الله؟ قال رسول الله: كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين.

قال: يا محمد، لن نؤمن أنك لرسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتي، ولن نشهد

___________________________________

(1) العيار من الرجال: الذي يخلي نفسه وهواها، لا يردعها ولا يزجرها. المعجم الوسيط (معجم اللغة العربية بالقاهرة) ج 2، ص 639. (*)

[104]

لك أنك عن الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط.

وقال أبولبابة بن المنذر: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولا نشهد لك به، حتى يؤمن لك ويشهد لك هذا السوط الذي في يدي.

وقال كعب بن أشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به، حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليس للعباد الاقتراح على الله، بل عليهم التسليم لله، والانقياد لامره والاكتفاء بما جعل كافيا، أما كفاكم أن التوراة والانجيل والزبور وصحف إبراهيم حكم بنبوتي ودل على صدقي، وبين فيها ذكر أخي ووصيي وخليفتي في أمتي وخير من أتركه على الخلائق من بعدي علي بن أبي طالب، وأنزل علي هذا القرآن الباهر للخلق أجمعين، المعجز لهم عن أن يأتوا بمثله وإن تكلفوا شبهه، وأما الذي اقترحتموه فلست أقترحه على ربي عزوجل، بل أقول إن ما أعطاني ربي عزوجل من دلالة هو حسبي وحسبكم، فإن فعل عزوجل ما اقترحتموه فذلك زائد في تطوله علينا و عليكم، وإن منعنا ذلك فلعلمه بأن الذي فعله كاف فيما أراده منا، قال: فلما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كلامه هذا أنطق الله البساط، والحديث طويل، مضمونه أن كلا من البساط والسوط والحمار شهدوا بالوحدانية والنبوة والولاية، وظهر من كل منها آيات عجيبة، ولم يؤمن أحدهم إلا أبولبابة فإنه أظهر الاسلام ولم يحسن إسلامه، ثم قال (عليه السلام): فلما انصرف القوم من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يؤمنوا أنزل الله: يا محمد، " إن الذين كفروا سواء عليهم " في العظة، " أأنذرتهم " ووعظتهم وخوفتهم " أم لم تنذرهم لا يؤمنون "، لا يصدقونك بنبوتك وهم قد شاهدوا هذه الآيات وكفروا، فكيف يؤمنون(1).

سواء عليهم ء_أنذرتهم أم لم تنذرهم: سواء اسم مصدر بمعنى الاستواء، اجري على ما يتصف بالاستواء كما تجري المصادر على ما يتصف بها. وهو مرفوع على أنه خبر (إن) وقوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بتأويل المصدر، مرفوع على الفاعلية، أي إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو هو مرفوع بالابتداء وسواء خبره مقدما

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 33، في ذيل قوله تعالى: (إن الذين كفروا). (*)

[105]

عليه، والفعل إنما يمتنع الاخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو اطلق و أريد به اللفظ، أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتساع، فلا، وإنما عدل عنه إلى الفعل لما فيه من إبهام التجدد، وحسن دخول الهمزة.

قيل: لا يجوز أن يكون سواء خبرا، لان الجملة لما كانت مصدرة بالاستفهام لا يجوز تقديم ما في خبرها عليها. ورد بأن الهمزة ولم دخلتا عليه لتقرير معنى الاستواء وتأكيده، فإنهما جردتا عن معنى الاستفهام لمجرد الاستواء، كما جردت حرف النداء عن الطلب لمجرد التخصيص في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، بل هو أولى من أن يكون فاعلا للاستواء لانه لما كان اسما غير صفة فالاصل أن لا يعمل، وإذا جعله بمعنى اسم الفاعل فاتت المبالغة المقصودة من الوصف بالمصادر. ووجه إفراده على الاول ظاهر، وعلى الثاني لجهة مصدريته، ولما كان الاستواء المستفاد من الحرفين غير الاستواء المفهوم من سواء فلا تكرار.

وذهب بعض النحاة إلى أن سواء في مثل هذا المقام خبر مبتدأ محذوف، أي الامران سواء عليهم، وأن الهمزة بما بعدها بيان للامرين، والفعلان في معنى الشرط، على أن تكون الهمزة بمعنى أن الشائع استعمالها في غير المتيقن، وأم بمعنى أو، لان كليهما لاحد الامرين، والجملة الاسمية، أعني: الامران سواء، دالة على الجزاء، فعلى هذا يكون خبر إن هو الجملة الشرطية، والمعنى: إن الذين كفروا إن أنذرت أو لم تنذر فهما سواء عليهم، وعليهم متعلق بالاستواء. والانذار: التخويف، اريد به التخويف من عقاب الله. وإنما اقتصرت عليه دون البشارة، لانه أوقع في القلب وأشد تأثيرا في النفس، من حيث أن دفع الضرر أهم من جلب النفع، فإذا لم ينفع فيهم كانت البشارة بعدم النفع أولى.

وقرئ: أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وتخفيف الثانية بين بين وقلبها ألفا، وهو لحن، لان المتحركة لا تقلب، ولانه يؤدي إلى التقاء الساكنين على غير حده و بتوسيط ألف بينهما محققين، وبتوسيطها والثانية بين بين، وبحذف الاستفهامية، و بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها.

[106]

[ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة ولهم عذاب عظيم(7) ]

لا يؤمنون: تاكيد أو بيان للجملة التي قبلها، أعني سواء عليهم أأنذرتهم ام لم تنذرهم، وحينئذ يكون محله الرفع إن جعل ما قبله جملة من مبتدأ وخبر، لا صفة مع الفاعل، فإنه على هذا التقدير لم يكن لقوله (يؤمنون) محل، أو خبر بعد خبر، أو جملة مستأنفة، أو حال من مفعول أنذرتهم.

قيل: أو خبر، وقوله: (سواء) إلى آخره إعتراض بين المبتدأ والخبر، ورد بأن الاخبار عن المصرين على الكفر بعدم الايمان لا فائدة فيه. واحتجت المجوزة لتكليف ما لا يطاق بالآية، بأنه سبحانه أخبر عنهم بانهم لا يؤمنون وأمرهم بالايمان، فلو آمنوا إنقلب خبره كذبا، وشمل إيمانهم الايمان بأنهم لا يؤمنون فيجتمع الضدان.

والجواب: أن الاخبار بوقوع الشئ أو عدمه لا ينفي القدرة عليه، كإخباره تعالى عما يفعله هو والعبد باختياره.

وفائدة الانذار بعد العلم بأنه لا ينجع إلزام الحجة، وحيازة الرسول فضل الابلاغ، ولذلك قال: (سواء عليهم) ولم يقل سواء عليك، كما قال لعبدة الاصنام: " سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون "(1).

وقد حقق الكلام في هذا الجواب العلامة النحرير القزويني(2) في حاشيته الشريفة على العدة.

ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصرهم غشوة: بيان وتأكيد

___________________________________

(1) سورة الاعراف: الآية 193.

(2) هو المولى خليل بن الغازي القزويني المولود سنة 1001 ه_، والمتوفى سنة 1089 ه_. انظر الذريعة: ج 6، ص 148. (*)

[107]

للحكم السابق، أو تعليل له، والختم قريب من الكتم، لفظا، لتوافقهما في العين واللام، ومعنى، لان الختم على الشئ يستلزم كتم ما فيه، فيناسبه في اللازم. والغشاوة فعالة من غشاه إذا غطاه، بنيت لما يشتمل على الشئ، كالعصابة والعمامة، ولا ختم ولا تغشية ثم على الحقيقة، بل على سبيل المجاز والاستعارة.

فإن كان المشبه به في " ختم الله على قلوبهم " المعنى المصدري الحقيقي للختم، والمشبه إحداث حالة في قلوبهم مانعة من نفوذ الحق فيها، كان طرفا التشبيه مفردين والاستعارة مصرحة. وإن جعل المشبه به هيئة مركبة منتزعة من الشئ والختم الوارد عليه، ومنعه صاحبه من الانتفاع به، والمشبه هيئته منتزعة من القلب والحالة الحادثة فيه، و منعها صاحبها من الانتفاع به في الامور الدنيوية، كان طرفا التشبيه مركبين، والاستعارة تمثيلية قد اقتصر فيها من ألفاظ المشبه به على ما معناه عمدة في تصوير تلك الهيئة واعتبارها، أعني الختم، وباقي الالفاظ منوي مراد وإن لم يكن مقدرا في نظم الكلام، والاقتصار على بعض الالفاظ للاختصار في العبارة، وتكثير محتملاتها بأن تحمل تارة على التشبيه، وتارة على التمثيلية، واخرى على غيرهما، ولو صرح بالكل تعينت التمثيلية، وإن قصد تشبيه قلوبهم بأشياء مختومة وجعل ذكر الختم الذي هو من روادف المشبه به المسكوت عنه تنبيها عليه و رمزا، كان من قبيل الاستعارة بالكناية، وقس عليه قوله: " وعلى أبصارهم غشاوة ".

والمعتزلة لما اضطرت في معنى ظاهر الآية، ذكروا له وجوها من التأويل: منها: إن القوم لما أعرضوا وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه.

ومنها: إن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة، فيبغضونهم و يتنفرون عنهم. وعلى هذا يحمل كل ما يضاف إلى الله من طبع وإضلال.

[108]

يدل على هذا التأويل ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما دعا هؤلاء المعنيين في الآية المقدمة، وأظهرهم تلك الآيات فقابلوها بالكفر، أخبر الله عزوجل بأنه ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ختما يكون علامة الملائكة المقربين القراء لما في اللوح المحفوظ من أخبار هؤلاء المذكورين فيه أحوالهم، حتى إذا نظروا إلى أحوالهم وقلوبهم و أسماعهم وأبصارهم شاهدوا ما هنالك من ختم الله عزوجل عليها ازدادوا بالله معرفة وعلموا ما يكون قبل أن يكون يقينا.

قال: فقالوا: يا رسول الله، فهل من عباد الله من يشاهد هذا الختم كما يشاهده الملائكة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بلى، محمد رسول الله يشاهدها بشهادة الله عز وجل، ويشاهده من أمته أطوعهم لله عزوجل وأشدهم في طاعة الله وأفضلهم في دين الله، فقالوا: من هو يا رسول الله؟ وكل منهم تمنى أن يكون هو، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): دعوه يكن من شاء الله، فليس الجلالة في المراتب عند الله عزوجل بالتمني ولا بالتظني ولا بالاقتراح، ولكنه فضل من الله عزوجل على من يشاء يوفقه للاعمال الصالحة يكرمه لها، فيبلغه أفضل الدرجات وأشرف المراتب، إن الله سيكرم بذلك من يريكموه في غد، فجدوا في الاعمال الصالحة فمن وفق الله له ما يوجب عظيم كرامته، فلله عليه بذلك الفضل العظيم.

قال: فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغص مجلسه بأهله، وقد جد بالامس كل من خيارهم في خير عمله وإحسانه إلى ربه، وقدم يرجو أن يكون هو ذلك الخير الافضل، قالوا يا رسول الله: من هذا؟ عرفناه بصفته وإن لم تنص لنا على اسمه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا الجامع للمكارم الحاوي للفضائل المشتمل على الجميل، ثم بعد ذكر كلام طويل مشتمل على كرامات ومجاهدات وقعت في تلك الليلة من أمير المؤمنين (عليه السلام) وذكر أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أنظر إلى عبدالله بن أبي وإلى سبعة من اليهود، فقال: شاهدت ختم الله على قلوبهم وأسماعهم،

[109]

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت يا علي أفضل شهداء الله في الارض بعد محمد رسول الله، قال: فذلك قوله: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة " تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها، ويبصرها رسول الله محمد، و يبصرها خير خلق الله بعده علي بن أبي طالب(1). وعلى سمعهم: يحتمل أن يكون معطوفا على قلوبهم، ومعطوفا عليه ل_" على أبصارهم ". ورجح الاول بقوله: " وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوه " و بالوقف على سمعهم إتفاقا، ولانهما لما كان إدراكهما من جميع الجوانب جعل المانع عنه بما يكون كذلك، لظهور أن الغشاء يكون بين المرئي والرائي، و كرر الجار للدلالة على أن الختم يتعلق على كل واحد منهما بالاستقلال، فيكون أشد، ولان تعلق فعل بمجموع أمرين لا يستلزم تعلقه بكل واحد.

وإفراد السمع للامن من اللبس مع الخفة والتفنن، أو لانه مصدر وهو لا يجمع، أو على تقدير مضاف أي مواضع سمع، أو لرعاية المناسبة بين المدرك والمدرك، فان مدرك السمع واحد وهو الصوت ومدركاتها أنواع.

وقرئ " وعلى أسماعهم ".

ووجه الترتيب: أنه تعالى لما ذكر هذه الطائفة بالكفر، وثانيا باستواء الانذار عليهم، فالختم على قلوبهم ناظر إلى كفرهم، لان الكفر والايمان من صفات القلب، والختم على سمعهم ناظر إلى ذلك الاستواء لان محل ورود الانذار ليس إلا السمع.

ولما حكم عليهما بالختم، فصار مكان أن يقال: علمنا وقوع الختم عليهما، ألم تكن لهم أبصار يبصرون بها الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة، فقال: وعلى أبصارهم غشاوة، ولما لم يكن في نظم الكلام ما ينظر إليه التغشية، غير الاسلوب.

والبصر: قوة أودعت في ملتقى العصبتين المجوفتين النابتين من مقدم

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 36 - 41 في ذيل قوله تعالى: " ختم الله على قلوبهم ". (*)

[110]

الدماغ. وقد يطلق على العضو.

وكذلك السمع، وهو قوة أودعت في باطن الصماخ.

وغشوة: مرفوع مبتدأ، و " على أبصارهم " خبره عند سيبويه(1)، وفاعل الظرف عند الاخفش(2) لاعتماده على ما قبله، ويؤيده العطف على الجملة الفعلية.

وقرئ بالنصب على معنى: وجعل على أبصارهم غشاوة، أو على حذف الجار وإيصال الفعل نفسه إليها.

والمعنى: وختم على أبصارهم بغشاوة.

وقرئ بالضم والرفع، وبالفتح والنصب، وغشوة بالكسر مرفوعة، وبالفتح مرفوعة ومنصوبة.

وعشاوة بالعين الغير المعجمة من العشا مصدر الاعشى، وهو الذي لا يبصر بالليل.

ولهم عذاب عظيم: وعيد وبيان لما يستحقونه. والعذاب كالنكال بناء ومعنى، يقال: أعذب عن الشئ ونكل إذا امسك عنه، ومنه الماء العذب، لانه يقمع العطش ويردعه، فسمي العذاب عذابا، لانه يردع الجاني عن المعاودة إلى الجناية، ثم اتسع فأطلق على كل ألم شديد وإن لم يكن نكالا، أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة.

وقيل: اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب كالتغذية والتمريض، أو من العذبة وهي القذاة، وماء ذو عذب أي كثير القذى، فكما أن القذاة تنقص الماء كذلك العذاب ينقص العيش، أو من أعذب حوضك أي أنزع ما فيه من قذى، فكذلك العذاب نزع من الجاني ما فيه من الجناية، أو من العذوبة لان عذاب كل أحد يستعذبه ضده، فعذاب الكافر مما يستعذبه المؤمنون.

(والعظيم): ضد الحقير، والكبير: ضد الصغير، فالعظيم فوق الكبير، قيل: ومعنى التوصيف به أنه إذا قيس بسائر ما يجانسه قصر عنه جميعه وحقر بالاضافة

___________________________________

(1 و 2) تفسير أبي السعود: ج 1، ص 38. (*)

[111]

إليه، ومعنى التنكير في الآية: أن على أبصارهم غشاوة ليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامي عن الآيات، ولهم من الآلام العظام نوع يعلم كنهه الله تعالى أي في الآخرة.

وقال بعضهم: إن لهم عذابا في الدنيا والآخرة، لان عذابهم الاخروي ليس إلا صور اعتقاداتهم ونتائج أعمالهم من دركات النيران وما فيها من الآلام، كان في الدنيا معاني ; فصار في الآخرة صورا، فهم دائمون فيها لكنهم لا يتألمون بها في الدنيا لكثافتهم. والذين صاروا في الدنيا أهل الآخرة يرونهم داخلين في النار وما فيها من أنواع العذاب.

قال بعض الصوفية: وإذ قد علمت ما بين لك من المعاني الظاهرة فالق سمعك تسمع بطنا من بطونها، فنقول: إن الذين كفروا أي خرجوا من الايمان الرسمي المنوط بغيبهم عن المؤمن به، ودخلوا في الكفر الحقيقي بستر وجوداتهم في الفناء في الله، إن أنذرتهم بسوء عاقبة إرتدادهم من هذا الكفر إلى ذلك الايمان أم لم تنذرهم، فهما سيان عليهم لانهم لا يؤمنون، أي لا يرجعون إلى الايمان الرسمي أبدا، لان الفاني لا يرد، وكأنه إلى هذا الايمان والكفر أشار من قال:

كفرت بدين الله والكفر واجب *** لدي وعند المسلمين قبيح(1) -

ختم الله على قلوبهم: فلا يدخل فيها شئ مما سوى الله، وإن دخل فيها شئ فهو صورة من صور تجلياته انخلعت من لباس الغيرية، وختم على أسماعهم فلا يسمعون شيئا مما سواه، فإنه المتكلم على ألسنة الموجودات، فكلما يسمعونه بلسان الحال أو المقال فهو من صور كلامهم لا غير، وعلى أبصارهم غشاوة مانعة من رؤية غيره سبحانه فكلما يرونه ليس إلا من صور تجلياته، تجلى به على نظر شهودهم، ولهم عذاب، أي أمر يعده المحجوبون عذابا، وهو استهلاكهم في الوجود الحق، وإمساكهم عن اللذات العاجلة والراحات الآجلة، عظيم، أي

___________________________________

(1) لم نعرف قائله. (*)

[112]

[ ومن الناس من يقول_ء_امنا بالله وباليوم الاخر وما هم بمؤمنين(8) يخادعون الله والذين ء_امنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون(9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون(10) ]

جليل قدره لا يعرفه إلا من ذاقه. ومن الناس من يقول_ء_امنا: لانشاء الايمان أو للاخبار بوقوعه فيما مضى.

و إفراد الضمير في (يقول) بالنظر إلى اللفظ وجمعه فيما بعد بالنظر إلى المعنى، لانهم في قولهم آمنا بمنزلة شخص واحد لاتفاقهم عليه من غير اختلاف، وأما إتيانهم بما ينافي الايمان فالتعدد فيه ممكن، بل واقع، فلذلك لوحظ فيه جهة كثرتهم بإيراد ضمير الجماعة. و (الناس) اشتقاقه من الاناس، حذفت همزته تخفيفا، ومنه إنسان وأناس و إنس. وحذفها مع لام التعريف واجب، لا يكاد يقال: الاناس. وهو مأخوذ من الانس بالضم ضد الوحشة، لانهم مدنيون بالطبع يستأنسون بأمثالهم أشد استئناس. أو من الانس بالكسر بمعنى الايناس وهو الابصار.

قيل: وهذا أشبه ليناسب المقابل أعني الجن، لانهم سموا به لاجتنانهم، ويوافق اسمه الآخر أعني البشر، لانه من البشرة: ظاهر الجلد.

وذهب الكسائي إلى أنه من نون وواو وسين، والاصل نوس، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، والنوس الحركة(1).

وقيل: من نسي فقلبت اللام إلى موضع العين فصار نيسا، ثم قلبت الياء ألفا، سموا بذلك لنسيانهم.

فوزنه

___________________________________

(1) تفسير القرآن الكريم، للشهيد مصطفى الخميني: ج 3، ص 12. (*)

[113]

على الاول: عال، وعلى الثاني: فعل، وعلى الثالث: فلع.

قيل: لا يجب في كل لفظ أن يكون مشتقا من شئ آخر وإلا لزم التسلسل، وعلى هذا لا حاجة إلى جعل لفظ الانسان مشتقا من شئ آخر.

ورد: بأن المقصود من ذلك تقليل اللغات بحسب الوسع، ولا شك، أن الالفاظ المتعددة إذا ردت إلى أصل واحد صارت اللغات أقل.

واللام فيه لتعريف الجنس، أو العهد، إشارة إلى الذين كفروا، أي المصرين على الكفر مطلقا، أو مقيدا بكونهم غير ماحضين، أو جماعة معهودين منهم، فلها أربع احتمالات. و (من) في من يقول، إما موصولة أو موصوفة، إما لتعريف الجنس، أو العهد، إشارة إلى جماعة معهودين كابن ابي وأضرابه، ففيها ثلاث إحتمالات يحصل من ضربها في الاربع إحتمالات، إثنا عشر وجها، فعليك بالتأمل حتى يظهر وجهها.

ثم المراد " بالذين كفروا " إن كان ناسا معهودين ماحضين للكفر غير منافقين، أو الجنس المخصوص مما عدا المنافقين، إما بقرينة المقابلة، أو لتبادر الفهم إليه من إطلاق المعرف بلام الجنس، فالمقصود من هذه الآيات استيفاء الاقسام، حيث ذكر أولا المؤمنين ثم الماحضين ثم المنافقين.

وإن كان المراد بهم ما يعم الماحضين والمنافقين، فذكر المنافقين من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لكمال الاهتمام بالنداء على تفاصيل صفاتهم الذمية وأعمالهم الخبيثة، لكونهم أخبث الكفرة وأبغضهم إليه تعالى.

لانهم خلطوا الايمان بالكفر تمويها وتدليسا، وبالشرك إستهزاء وخداعا.

والقول هو التلفظ بما يفيد، ويقال بمعنى المقول، وللمعنى المتصور في النفس، والمعبر عنه باللفظ والرأي والمذهب مجازا.

وقصة المنافقين معطوفة على قصة الذين كفروا، وليس ذلك من باب عطف جملة على جملة، ليطلب مناسبة الثانية مع السابقة، بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض إلى أخرى مسوقة الآخر، وشرطه المناسبة بين الغرضين، فكلما كانت المناسبة أشد وأمكن، كان العطف بينهما أشد وأحسن.

[114]

قال بعض المفسرين(1): هذه الآية مع الاثني عشر الآيات التي بعدها انزلت في ذم المنافقين الذين أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر لمصالح دعتهم إلى ذلك، ثم قال: ودخل فيهم من كان على صفة النفاق حالة نزول الآية واشتهر به، أو كان ولم يشتهر وظهر بعد ذلك نفاقه وخبثه، أو حدث النفاق بعد ذلك في زمان النبي عليه وآله السلام أو بعد زمانه، فإن كل هؤلاء مصداق هذه الآيات، ثم قال: ولا يتوهم أنه يلزم في الدخول تحت المخاطبات التي ذكرت في الآيات الآتية، فيخرج من لم يتحقق فيه تلك الاقوال، فلا يمكن أن يقال: إن الآيات نزلت فيهم، لان الشرطية لا تقتضي وقوع الطرفين.

أقول: يظهر من كلام ذلك الفاضل أن (إذا) الواقعة في تلك الآيات شرطية، ويرد احتمالها التأمل الصادق في تلك الآيات. ويحتمل أن يكون المراد منه الخلفاء الثلاثة مع شيعتهم.

يدل على ذلك ما روي عن أبي محمد العسكري (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما أوقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثم قال: يا عباد الله انسبوني، فقالوا: أنت محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، ثم قال: أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم وأنا مولاكم وأولى بكم منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فنظر إلى السماء وقال: اللهم اشهد، يقول ذلك ثلاثا، ويقولون ذلك ثلاثا، ثم قال: ألا من كنت مولاه وأولى به فهذا علي مولاه وأولى به، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.

ثم قال: قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع له، ثم قال: قم يا عمر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع.

ثم قال بعد ذلك لتمام التسعة، ثم لرؤساء المهاجرين والانصار فبايعوه كلهم، فقام بين جماعتهم عمر بن الخطاب فقال: بخ بخ يابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كل مؤمن ومؤمنة.

ثم قال تفرقوا عن ذلك وقد أكدت عليهم العهود

___________________________________

(1) وهو مولانا محمد مؤمن السبزواري، منه (قدس سره) كذا في هامش النسخ التي عندنا. (*)

[115]

والمواثيق، ثم إن قوما من متمرديهم وجبابرتهم وطؤوا بينهم، لئن كانت لمحمد كائنة لندفعن هذا الامر عن علي ولا نتركه له، فعرف الله تعالى من قلوبهم وكانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون: لقد أقمت عليا أحب الخلق إلى الله و إليك وإلينا فكفيتنا به مؤونة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا، وعلم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الامر عن مستحقه مؤثرون فأخبر الله عزوجل محمدا عنهم، فقال: يا محمد، ومن الناس من يقول آمنا بالله الذي أمرك بنصب علي إماما وسائسا ولامتك مدبرا، وما هم بمؤمنين بذلك ولكنهم يتواطؤون على هلاكك وهلاكه، ويوطؤون أنفسهم على التمرد على علي إن كانت بك كائنة(1).

بالله وباليوم الاخر: أي بالمبدأ والمعاد الذين هما المقصود الاعظم من الايمان، ولهذا اختصا بالذكر.

والمراد باليوم الذي هو اسم لبياض النهار، زمان ممتد من وقت الحشر إلى الابد وإلى زمان استقرار كل في مستقره من الجنة والنار، وهذا أشبه باليوم الحقيقي في تحقق الحد من الطرفين. وأما كونه آخرا، فلتأخر هذين الزمانين عن الايام الدنيوية المنقضية.

وقيل في الثاني: لانه آخر الاوقات المحدودة الذي لا وقت بعده. ورد بأنه لاشك أن في كل من الجنة والنار أحوالا وحوادث كلية يمكن تحديد الاوقات بها، وقد شهدت الكلمات النبوية بوجودها(2). اللهم إلا أن يقال: المنفي هو الحد المشهور غاية الاشتهار. وفي تكرير الباء، إدعاء الايمان بكل واحد على الاصالة والاستحكام.

___________________________________

(1) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 41، في ذيل قوله تعالى: " ومن الناس من يقول آمنا " .

(2) مسند احمد بن حنبل: ج 3، ص 70، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخر من يخرج من النار رجلان، يقول الله لاحدهما: يا بن آدم ما أعددت لهذا اليوم؟ الحديث. (*)

[116]

وما هم بمؤمنين: نفي لما ادعوا، والاصل يقتضي أن يقول: وما آمنوا، ليطابق قولهم، لكنه قدم المسند إليه وجعل المسند صفة فصارت الجملة إسمية غير دالة على ذات زمان، لان في ذلك سلوكا لطريق الكناية في رد دعواهم الكاذبة، فإن انخراطهم في سلك المؤمنين وكونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الايمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم دل على انتفاء الملزوم، ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء.

وأيضا فيه مبالغة في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضا، وأطلق الايمان لزيادة التأكيد، على معنى أنهم ليسوا من الايمان في شئ، أو أراد وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، بقرينة ما أجيب به عنه. ولما اعتبر التأكيد والاستمرار بعد ورود النفي لم يفد إلا تأكيد النفي. واستدل من ذهب إلى أن الايمان ليس هو الاقرار فقط بالآية.

وأقول: الآية تدل على أن من ادعى الايمان وخالف قلبه لسانه بالاعتقاد لم يكن مؤمنا، ولا تدل على أن من تكلم بالشهادتين بدون الاعتقاد لم يكن مؤمنا، وهو المتنازع فيه.

وقوله: " وما هم بمؤمنين " جملة متعلق خبره محذوف، والتقدير وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر أو بشئ من الاشياء. فعلى الاول: وجهه ظاهر(1). وعلى الثاني: توجيهه أن نفي الايمان منهم مطلقا مع أن منافقي أهل الكتاب كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، بناء على إيمانهم كلا إيمانهم، لاعتقاد التشبيه، و اتخاذ الولد، وأن الجنة لا يدخلها غيرهم، وأن النار لن تمسسهم إلا أياما معدودة. فلو قالوا ما قالوه لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم هذه، لم يكن

___________________________________

(1) في هامش بعض النسخ ما لفظه (لان المراد بهم حينئذ من يقول: آمنا بالله واليوم الآخر ولم يؤمن بهما بقرينة إخباره تعالى عنهم بذلك، وأما على التقدير الثاني، فلشموله ذلك وغيرهم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فقط، فنفي الايمان عنهم رأسا يحتاج إلى التوجيه، منه). (*)

[117]

إيمانا، كيف وقد قالوه تمويها على المسلمين وتهكما بهم.

فظهر من ذلك أن إطلاق رفع الايجاب الكلي والسلب الكلي في هذه الحملية مسامحة ارتكبها العلامة السبزواري.

حيث قال في توجيه التقدير الثاني: إن قولهم: هذا كناية عن تصديقهم بجميع الشرائع، فإذا لم يؤمنوا ببعض صدق رفع الايجاب الكلي، مع أنه يمكن أن يقال: عدم الايمان بالبعض كاشف عن عدم الايمان بالكل فيصح السلب الكلي، على أنه يرد احتمال أن لا يكون قولهم هذا كناية عن الايمان بالجميع، وأيضا لو قدر المتعلق خاصا بقرينة سابقة كان رفعا للايجاب الكلي، فلا حاجة حينئذ إلى تقدير عمومه، فليتأمل.

وأقول: يحتمل أن يكون قوله: " بمؤمنين " غير متعد إلى شئ أصلا، والمعنى ليس لهم وجد حقيقة الايمان.

يخدعون الله والذين ء_امنوا: الخدع أن توهم صاحبك خلاف ما تريد به من المكروه وتصيبه به مع خوف واستحياء من المخادعة به.

وقيل: للاصابة، لان مجرد الارادة لا يكفي في تحقق الخدع، وقوله: " مع خوف أو استحياء " ليخرج الاستدراج الذي هو من أفعال الله تعالى، لعدم جواز الخوف أو الحياء عليه سبحانه.

وهو من قولهم: ضب خادع، أو خدع، إذا أحس بالحارش(1) أي الصائد على باب جحره أوهمه إقباله عليه من هذا الباب، ثم خرج من باب آخر، وأصله الاخفاء، ومنه المخدع، على صيغة المفعول، للخزانة.

والاخدعان لعرقين خفيين في العنق.

وصيغة المخادعة تقتضي صدور الفعل من كل واحد من الجانبين متعلقا بالآخر، وخداعهم مع الله ليس على ظاهره، لانه لا يخفى عليه خافية، ولانهم لم يقصدوا خديعته، بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول

___________________________________

(1) وخدع الضب يخدع خدعا: استروح ريح الانسان فدخل في جحره لئلا يحترش. ومعنى الحرش أن يمسح الرجل على فم جحر الضب يتسمع الصوت فربما أقبل وهو يرى أن ذلك حية، وربما أروح لا ريح الانسان فخدع في جحره ولم يخرج، لسان العرب: ج 8، ص 65، في لغة (خدع). (*)

[118]

معاملة الله من حيث أنه خليفته، كما قال تعالى: " من يطع الرسول فقد أطاع الله "(1) " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله "(2).

ويدل على ذلك ما روي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام): لما اتصل ذلك من مواطأتهم وقبلهم في علي وسوء تدبيرهم عليه برسول الله (صلى الله عليه وآله)، دعاهم وعاتبهم فاجتهدوا في الايمان، فقال أولهم: يا رسول الله، والله ما اعتددت بشئ كاعتدادي بهذه البيعة، ولقد رجوت أن يفسح الله بها لي في قصور الجنان، و يجعلني فيها من أفضل النزال والسكان.

وقال ثانيهم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة، والله ما يسرني أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسي ما أعطيت، ولو أن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لآلي رطبة وجواهر فاخرة.

وقال ثالثهم: والله يا رسول الله، لقد صرت من الفرح بهذه البيعة والسرور والفسح من الآمال في رضوان الله، وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الارض كلها علي لمحضت عني بهذه البيعة، وحلف على ما قال من ذلك، ولعن من بلغ عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) خلاف ما حلف عليه، ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمردين، قال الله عز وجل لمحمد: يخادعون الله، يعني يخادعون رسول الله بأيمانهم خلاف ما في جوانحهم، والذين آمنوا كذلك أيضا، الذين سيدهم وفاضلهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)(3) ويحتمل أن يقال: المقصود أن بينهما حالة شبيهة بالمخادعة، لا حقيقة المخادعة.

فإن صورة صنعهم مع الله من إظهار الايمان واستبطان الكفر، وصنع الله معهم بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أخبث الكفار استدراجا لهم، وامتثال الرسول والمؤمنين أمر الله في إخفاء حالهم وإجراء حكم الاسلام عليهم صورة صنع المخادعين، فشبهت تلك الصورة بهذه الصورة، فاستعمال لفظ هذه فيها إن وقع كان

___________________________________

(1) سورة النساء: الآية 80.

(2) سورة الفتح: الآية 10.

(3) تفسير الامام العسكري (عليه السلام): ص 42، ذيل قوله تعالى: " يخادعون الله والذين آمنوا ". (*)

[119]

استعارة تصريحية، واشتقاق يخادعون منه استعارة تبعية. أو يقال: المخادعة محمولة على حقيقتها، لكنها ترجمة عن معتقدهم الباطل وظنهم الفاسد، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون، وأنه يخدعهم، وكذلك المؤمنون يخدعونهم.

أو يقال: المراد يخدعون الذين آمنوا، وذكر الله ليس لتعليق الخدع به، بل لمجرد التوطئة، وفائدتها التنبيه على قوة اختصاص المؤمنين بالله وقربهم منه، حتى كان الفعل المتعلق بهم دونه يصح أن يعلق به أيضا.

وكذا الحال في أعجبني زيد وكرمه، فإن ذكر زيد توطئة وتنبيه على أن الكرم قد شاع فيه وتمكن بحيث يصح أن يسند إليه أيضا الاعجاب الذي في كرمه، ومثل هذا العطف يسمى جاريا مجرى التفسير.

ووجه العدول عن خدع إلى خادع، قصد المبالغة، لان المفاعلة في الاصل المغالبة، وهي أن يفعل كل من الجانبين مثل صاحبه ليغلبه، وحينئذ يقوى الداعي إلى الفعل ويجيئ أبلغ وأحكم.

و (يخادعون) بدل أو بيان ل_(يقول) لانه وإن كان واضحا في نفسه، ففيه خفاء بالنسبة إلى الغرض، ولما كان خفاؤه باعتبار الغرض منه، اكتفى في بيانه بذكره، وهو الخداع. ويجوز أن يكون مستأنفا، كأنه قيل: ولم يدعون الايمان كاذبين؟ فقيل: يخادعون. وكأن غرضهم من المخادعة إما دفع المضرة عن أنفسهم كالقتل والاسر، أو جذب المنفعة كأخذ الغنائم، أو إيصال المضرة إلى المؤمنين كإفشاء أسرارهم إلى أعدائهم من الكفار.

أقول: ويحتمل أن يكون معنى يخادعون، يريدون أن يخدعوا، إما لدلالة جوهر الصيغة عليه، وإما باعتبار أن الافعال التي من شأنها أن تصدر بالارادة والاختيار إذا نسبت إلى ذوي الاختيار فهم إرادتها. وما يخدعون إلا أنفسهم: قراء_ة نافع(1) وابن كثير(2) وأبي عمرو(3).

___________________________________

(1 و 2 و 3) مجمع البيان: ج 1، ص 46. (*)

[120]

والمعنى أن دائرة المخادعة التي سبقت، وهي المخادعة المستعارة للمعاملة الجارية بينهم وبين الله والمؤمنين المشبهة بمعاملة المخادعين، أو المخادعة المحمولة على حقيقتها لكن في ظنهم الفاسد، أو المخادعة الواقعة بينهم وبين الرسول، أو بينهم وبين المؤمنين، راجعة إليهم وضررها يحيق بهم لا يعدوهم أو أنهم في ذلك خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك، وخدعتهم أنفسهم حيث حدثتهم بالاماني الفارغة، وحملتهم على مخادعة من لا تخفى عليه خافية.

فعلى الاول: تكون العبارة الدالة على قصة المخادعة مجازا، أو كناية عن إنحصار ضررها فيهم. ويحتمل أن يجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الاولى أو الثانية.

وعلى الثاني: تكون المخادعة مستعملة في معناها حقيقة. وقرأ الباقون (وما يخدعون) قيل: لان المخادعة لا تتصور إلا بين اثنين.

أقول: نعم، لكن الاثنين أعم من أن يكون اثنين حقيقة أو اعتبارا، اللهم إلا أن يقال: الاثنينية الحقيقية مشروطة بحسن المخادعة. وقرئ (يخدعون) من خدع. ويخدعون بفتح الياء، والاصل يختدعون، بمعنى يخدعون، كيقتدرون بمعنى يقدرون، فأدغم. ويخدعون ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله، وحينئذ يكون (إلا أنفسهم) معناه إلا أنفسهم على حذف حرف الجر، يقال: خدعت زيدا نفسه، أي عن نفسه، نحو " واختار موسى قومه "(1).

ويحتمل النصب على التمييز عند من يجوز كونه معرفة، واستعمال الخدع بناء على تضمينه معنى الصدور، أي ما يخدعون إلا خدعا صادرا عن أنفسهم منشئ عنهما. والنفس: الذات. ويقال للقلب بمعنى العضو الصنوبري: نفس، لان قوام النفس بمعنى الذات، بذلك. ولهذا المعنى أيضا يقال للروح الدم: نفس، وللماء لفرط حاجتها إليه. وللرأي في قولهم فلان يؤامر نفسه، أي يشاورها، لانه ينبعث عنها،

___________________________________

(1) سورة الاعراف: الآية 155. (*)

[121]

تسمية للمسبب باسم السبب، أو يشبه ذاتا تأمره وتشير عليه، فيكون استعارة مبنية على التشبيه.

والمراد بالانفس هنا ذواتهم. ويحتمل حملها على أرواحهم وآرائهم.

قيل: إن المختار عند المحققين من الفلاسفة وأهل الاسلام من الصوفية وغيرهم، أنها أي النفس - جوهر مجرد في ذاته، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف. و متعلقه أولا هو الروح الحيواني القلبي المتكون في جوفه الايسر من بخار الغذاء ولطيفه، ويفيد قوة لها تسري في جميع البدن فيفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه.

وقد يطلق على هذا الجوهر المجرد القلب والروح أيضا. فعلى هذا يمكن أن يراد بالانفس، النفوس المتعلقة بأبدانهم على سبيل الحقيقة، بأن يكون موضوعا لهذا الجوهر المجرد، كما للذات. وعلى تقدير وضعه للذات فقط. إطلاقه عليه إما بالحقيقة أو المجاز، فإن الذات لو كانت عبارة من مجموع الجثة والروح المجرد، فإطلاق النفس عليها من إطلاق اسم الكل على الجزء. وإن كانت عبارة عن الجثة فقط، فإطلاقه عليها لعلاقة واقعة بينهما.

وإن كانت عبارة عن الروح المجرد فقط، وهو الظاهر، فإن الذات في الحقيقة ما يعبر عنه بلفظ (أنا) وهو الباقي من أول العمر إلى آخره، وما عداه كالعوارض بالنسبة إليه، ولا شك أن هذا الامر هو الروح المجرد، لا الجثة فإنها كل يوم تبدل. فعلى هذا إطلاق النفس بمعنى الذات عليه، حقيقة، وفيما عداه مجاز.

وإذا اريد ب_" أنفسهم " النفوس الناطقة المتعلقة بأبدانهم، أو القلوب، أو الارواح بمعناه، فلا شك أن ضرر المخادعة الواقعة بينهم وبين الله والمؤمنين، راجع إليها، مقصور عليها، لكن قصرا إضافيا، فإن ذلك الضرر يعود إلى جثتهم وقلوبهم الصنوبرية وأرواحهم الحيوانية أيضا، فإن عذابهم لا يكون روحانيا فقط.

وما يشعرون: معطوف على قوله: " وما يخدعون " أو على قوله " يخادعون ".

وقيل: معترضة من الشعور، وهو إدراك الشئ بالحاسة، مشتق من الشعار، وهو ثوب على شعر الجسد، ومنه مشاعر الانسان، أي حواسه الخمس التى يشعر بها، لانها متلبسة بجسده كالشعار. أو من الشعر وهو إدراك الشئ من وجه يدق و

[122]

يخفى.

والاول أبلغ وأنسب بالمقام، لان فيه إشعارا بانحطاطهم عن مرتبة البهائم حيث لا يدركون أجلى المعلومات، أعني المحسوسات التي تدركها البهائم، ولذلك اختاره على ما يعلمون. ومفعوله محذوف، فإما أن يقدر العلم به، والمعنى وما يشعرون أن وبال خداعهم راجع إلى أنفسهم، أو اطلاع الله عليهم. أو ينزل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول، وحينئذ إما أن لا يجعل كناية عنه متعلقا بمفعول خاص، أو بجعل، والثاني أبلغ، والثالث أبلغ منه.

في قلوبهم مرض: جملة مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق. ويحتمل أن تكون مقررة لعدم شعورهم.

وقرئ " مرض " بسكون الراء، وهو صفة توجب الخلل في الافعال الصادرة من موضع تلك الصفة، ويمكن اتصاف القلب به. وذلك لان الانسان إذا صار مبتليا بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك صار سببا لتغيير مزاج القلب وتألمه، واتصاف قلوب المنافقين بهذا التفسير غير معلوم، فالمراد به هنا المعنى المجازي هو آفته كسوء الاعتقاد والكفر، أو هيئة باعثة على ارتكاب الرذائل كالغل والحسد والبغض، أو مانعة عن اكتساب الفضائل كالضعف والجبن والخور(1)، لان قلوبهم كانت متصفة بهذه الاعراض كلها.

وفي تقديم الخبر فائدتان، تخصيص المبتدأ النكرة، وإفادة الحصر إدعاء. فزادهم الله مرضا: معطوف على الجملة السابقة، والمعنى أنه لما كان في قلوبهم مرض واستعداد للمرض، فزيد مرضهم.

والمراد بالزيادة الختم على قلوبهم حتى لا يخرج شئ من هذه النقائص، ولا يدخل شئ مما لها من الفضائل، بل وإنما أتى بالجملة الفعلية في المعطوف دون المعطوف عليه لتجدد ذلك الزائد يوما فيوما، بخلاف أصل المرض، فإنه كان ثابتا مستقرا في قلوبهم.

___________________________________

(1) خار يخور: ضعف. المصباح المنير: ص 183. (*)

[123]

ويمكن أن يراد بالزيادة زيادته بحسب زيادة التكاليف وتكرير الوحي و تضاعف النصر، فحينئذ يكون إسناد الزيادة إلى الله من حيث أنه مسبب من فعله أو دعائية، والمتعين حينئذ هو المعنى الاول. والزيادة يجئ لازما ومتعديا إلى مفعولين كما في الآية أيضا، فحينئذ يكون مفعوله الثاني مرضا، أو محذوفا، أي فزادهم الله مرضهم، وقيل: الاول محذوف، وهو تكلف. ولهم عذاب أليم: قال البيضاوي:(1) أي مؤلم، يقال: ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، وصف به العذاب للمبالغة، كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع(2). ورد بأن فعيل بمعنى مفعل اسم فاعل غير ثابت، على ما سيجئ في قوله: " بديع السموات والارض "(3) فهو بمعنى المؤلم اسم مفعول، كوجع فهو وجيع بمعنى الموجع. وإنما اسند إلى العذاب لانه من ملابسات فاعله الذي هو المعذب، كما اسند الربح إلى التجارة في قوله تعالى: " فما ربحت تجارتهم "(4) لانها من ملابسات التاجر.

وفيه مبالغة وتنبيه على أن الالم بلغ الغاية، بحيث عرض لصفة المعذب كما عرض له، وعلى هذا يكون المجاز في الاسناد. ولو جعل بمعنى ما يلابسه الالم، لانهما متلاقيان في موصوف واحد، فيكون المجاز في المفرد، لكن تفوت المبالغة. ووجه أنه تعالى قال في حق المصرين على الكفر: " ولهم عذاب عظيم " ولم يذكر له سببا، وفي حق المنافقين " ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " وبين أن سببه الكذب - إن الكافرين المصرين هم المطرودون، فينبغي أن يكون عذابهم عظيما، لكنهم لا يجدون شدة ألمه، لعدم صفاء قلوبهم، كحال العضو الميت

___________________________________

(1) هو القاضي ناصر الدين عبدالله بن عمر بن محمد الفارسي الاشعري الشافعي، المفسر المتكلم الاصولي، صاحب التفسير المسمى بأنوار التنزيل. توفى بتبريز سنة 685 هجرية. الكنى والالقاب: ج 2، ص 100.

(2) تفسير البيضاوي: ج 1، ص 24.

(3) سورة البقرة: الآية 117.

(4) سورة البقرة: الآية 16. (*)

[124]

أو المفلوج إذا وقع عليه القطع.

والمنافقون لثبوت استعدادهم في الاصل وبقاء إدراكهم في الجملة، يجدون شدة الالم، فيكون عذابهم مؤلما مسببا من الكذب و لواحقه بخلاف عذاب المصرين، فإنه ذاتي لهم لا لامر عارض.

وفي تقديم الخبر ها هنا أيضا فائدتان: زيادة تخصيص المبتدأ النكرة، وإفادة الحصر إدعاء.

بما كانوا يكذبون: قراء_ة عاصم وحمزة والكسائى(1).

والكذب: الاخبار عن الشئ بغير ما هو عليه.

وقرئ: يكذبون، من كذبه، نقيض صدقه، أو من كذب الذي هو للمبالغة والتكثير، أو من كذب الوحشي إذا جرى شوطا ووقف لينظر ما وراء_ه، فإن المنافق متحير متردد.

" والباء " للسببية أو البدلية متعلقة بالظرف في قوله: " لهم عذاب أليم "، و " ما " مصدرية، ويحتمل الموصولية والموصوفية. واستدل الذاهبون إلى قبح الكذب مطلقا بالآية، بأنه جعل عذابهم الاليم مسببا لكذبهم.

وتخصيصه بالذكر من بين جهات استحقاقهم إياه، مع كثرتها، مبالغة في قبح الكذب لينزجر السامعون منه.

وقيل: نمنع قبحه مطلقا، فإنه قد يمكن أن يتضمن عصمة دم مسلم، بل نبي، ولا يتيسر التعريض، فيحسن.

ورد بأن الحسن العارضي لا يمنع القبح الذاتي، وهو المراد بالقبح ها هنا، فعلى هذا يحرم الكذب سواء تعلق به غرض أو لم يتعلق. أما إذا لم يتعلق فظاهر. وأما إذا تعلق فلان في المعاريض لمندوحة عنه، والتعريض: ليس بكذب إذا كان المعرض به مطابقا للواقع، فإن مرجع الصدق والكذب إلى المراد من الكلام الخبري، لا إلى مطلق مدلوله. وما ينسب إلى إبراهيم (عليه السلام) من الكذبات الثلاث:

___________________________________

(1) تفسير القرآن الكريم: للشهيد مصطفى الخميني: ج 3، ص 79، وفيه: عن الكوفيين وهم حمزة و عاصم والكسائي تخفيف الذال يكذبون. (*)

[125]

من قوله: " إني سقيم "(1) وأراد سأسقم، وقد علمه بأمارة من النجوم، أو إني سقيم الآن بسبب غيظى وحنقي من اتخاذكم الآلهة.

وقوله: " بل فعله كبيرهم "(2) والمراد به: أنه إذا لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه وغيره فكيف يصلح إلها، أو أن تعظيمه كان هو الحامل له على كسرها.

وقوله لملك الشام: إن سارة اختي، ومراده الاخوة في الدين.

وقيل: كذباته الثلاث، قوله في الكواكب: " هذا ربي "(3) ثلاث مرات، وقصد به الحكاية، أو الفرض ليرشدهم إلى عدم صلاحيتها للالوهية. فمحمول على التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به.

ووجه إيراد كان " الدالة " على المضي، ويقولون: " ويخادعون ويخدعون " للحال، ووقوع كلام المنافقين قبلها، ليس بمعلوم أن كذبهم سبب لثبوت العذاب لهم في الاستقبال، أو للحكم به في الحال، فينبغي أن يكون متقدما على ما هو سبب له، فالمراد بالمضي هذا التقدم سواء كان بالزمان أو بالذات.

قال بعض الفضلاء: وإذ قد أوقعتنا المباحث اللفظية في وادي التفرقة، فلابد أن نستريح باستشمام روائح الجمعية.

فنقول: ومن الناس الناسي اعترافهم في معهد ألست بربكم بربوبية ربهم بتجليه العلمي أولا بصور أعيانهم الثابتة على نفسه، وتجليه الوجودي ثانيا بصور أعيانهم الخارجية، وترتيبه إياهم طورا بعد طور، ومرتبة بعد مرتبة إلى أن وصلوا إلى هذه النشأة الجسمانية العنصرية من يقولون بألسنة أفواههم: آمنا بالله أحدية جمع الاسماء الالهية السارية بالكل في الكل، فلا فاعل، بل لا موجود في الوجود إلا هو، فهو الفاعل في كل عين، إذ لا فعل للعين، بل الفعل له ولكن فيها، وباليوم الآخر، أي بتجليه النوري الوجودي آخرا بالاسم المجازي لجزاء الاعمال، فلا

___________________________________

(1) سورة الصافات: الآية 89.

(2) سورة الانبياء: الآية 63.

(3) سورة الانعام: الآية 76 - 77 - 78. (*)

[126]

مجازي إلا هو فهو العامل، وهو المجازي على العمل، فهم وإن كانوا مؤمنين بالقول صورة، فما هم بمؤمنين بالحال حقيقة، إذ حقيقة الايمان بالله سبحانه تقتضي أن لا تسند الآثار إلا إليه، بل لا يرى في الوجود إلا هو، فحيث قالوا آمنا وما قالوا تجلى الحق في صورة منوطة باسمه المؤمن، اشتقوا الايمان لانفسهم، وهذا شركة في التوحيد، " يخادعون الله " أي يظهرون بألسنة أقوالهم الظاهرة ما لم يتحققوا به في بواطنهم وهو الايمان بالله، فلا يوافق ظاهرهم باطنهم.

وكذلك يخادعون الذين آمنوا، أي الذين تجلى عليهم بالاسم المؤمن، فسرى هذا التجلي في ظاهرهم وباطنهم، فآمنوا صورة وحقيقة.

" وما يخدعون إلا أنفسهم " إذ الاشياء في الحقيقة الوحدة الجمعية الالهية متحدة بعضها مع بعض، ومع تلك الحقيقة أيضا، فكل شئ نفس الاشياء الاخر، ونفس تلك الحقيقة أيضا من هذه الحيثية، ولكنهم ما يشعرون بذلك الاتحاد، لاغتشاء مشاعرهم بصورة التعينات الحجابية، والتعددات المظهرية.

في قلوبهم التي من صفتها صحة التقلب مع الشؤون الالهية بحيث لا يحجبها شأن من شهوده تعالى، مرض يضاد هذه الصحة ويمنعها عن الظهور، فزادهم الله مرضا، على مرض بازدياد أضداد تلك الصحة وتتابعها، ولهم عذاب أليم بسبب كذبهم في قولهم: آمنا، وتكذيبهم إياه بحسب حالهم.

والغرض من نقل أمثال هذه المباحث الاطلاع على الآراء الكاسدة والاهواء المضلة، فإن الحق يعرف بضده.

وقد جاء في هذه الآية منقبة عظيمة وفضيلة جسيمة لمولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في تفسير الامام العسكري (عليه السلام)، قال: قال موسى بن جعفر (عليهما السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما اعتذر إليه هؤلاء المنافقون بما اعتذروا، وتكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم وأوكل بواطنهم إلى ربهم، لكن جبرئيل أتاه فقال: إن العلي الاعلى يقرأ عليك السلام ويقول: أخرج هؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في علي ونكثهم لبيعته، وتوطينهم نفوسهم على مخالفته ما اتصل، حتى يظهر من عجائب ما أكرمه الله به من طاعة الارض والجبال والسماء له وسائر ما خلق الله لما أوقفه موقفك وأقامه مقامك، ليعلموا أن ولي الله

[127]

علي غني عنهم، وأنه لا يكف عنهم انتقامه إلا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير الذي هو بالغه، والحكمة التي هو عامل بها وممض لما يوجبها.

فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الجماعة بالخروج، ثم قال لعلي لما استقر عند سفح بعض جبال المدينة: يا علي، إن الله عزو جل أمر هؤلاء بنصرتك و مساعدتك والمواظبة على خدمتك والجد في طاعتك، فإن أطاعوك فهو خير لهم يصيرون في جنان الله ملوكا خالدين ناعمين، وإن خالفوك فهو شر لهم يصيرون في جهنم خالدين معذبين. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتلك الجماعة: اعلموا أنكم إن أطعتم عليا سعدتم، وإن خالفتموه شقيتم وأغناه الله عنكم بمن سيريكموه. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي، سل ربك بجاه محمد وآله الطيبين الذي أنت بعد محمد سيدهم، أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت، فسأل ربه فانقلبت الجبال فضة، ونادته الجبال يا علي يا وصي رسول رب العالمين، إن الله قد أعدنا لك، فإن أردت إنفاقنا في أمرك فمتى دعوتنا أجبناك لتمضي فينا حكمك، وأنفذ فينا قضاء_ك. ثم انقلبت ذهبا كلها، فقالت مثل مقالة الفضة، ثم انقلبت مسكا وعنبرا وجواهر ويواقيت، وكل شئ ينقلب منها يناديه: يا أبا الحسن يا أخا رسول الله، نحن المسخرات لك إدعنا متى شئت لتنفقنا فيما شئت نجبك ونتحول لك إلى ما شئت. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي سل الله بمحمد وآله الطيبين الذين أنت سيدهم، أن يقلب لك أشجارها رجالا شاكين الاسلحة، وصخورها اسودا ونمورا وأفاعي، فدعا الله علي (عليه السلام) بذلك، فامتلات الجبال والهضبات وقرار الارض من الرجال الشاكين الاسلحة الذين لا يفي الواحد منهم عشرة آلاف من الناس المعدودين، ومن الاسود والنمور والافاعي، وكل ينادي يا علي يا وصي رسول الله، ها نحن قد سخرنا الله لك وأمرنا باجابتك كلما دعوتنا إلى اصطلام كل من سلطتنا عليه، فسمنا ما شئت، وادعنا نجبك، وأمرنا نطعك، يا علي يا وصي رسول الله، إن لك عند الله من الشأن إن سألت الله أن يصير لك

[128]

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335816

  • التاريخ : 28/03/2024 - 18:00

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net