00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص ( 312 ـ آخر الكتاب )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن ( الجزء السابع)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

 

[ 312 ]

(بيان)

 اتصال الايات بما قبلها واضح لا غبار عليه، والكلام مسرود في التوحيد. قوله تعالى: (اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين) أمر باتباع ما أوحى إليه من ربه من أمر التوحيد وأصول شرائع الذين من غير أن يصده ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحق والاعراض عن دعوة الدين. وفي قوله: (من ربك) المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصة الالهية إلا أن قوله: (من ربك) لما كان ملحوقا بقوله: (وأعرض عن المشركين) وكان ذلك ربما يوهم أن المراد: اتبع الوحى اعبد ربك، وأعرض عنهم يعبدوا أربابهم، ولا يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم وشركهم قدم على قوله: (وأعرض) الخ، قوله: لا إله إلا هو) ليندفع به هذا الوهم، ويجلو معنى قوله: (وأعرض) الخ، ويأخذ موضعه. فالمعنى: اتبع ما أوحى إليك من ربك الذى له العناية البالغة بك والرحمة المشتملة عليك إذ خصك بوحيه وأيدك بروح الاتباع، وأعرض عن هؤلاء المشركين لا بأن تدعهم وما يعبدون وتسكت راضيا بما يشركون فيكون ذلك إمضاء للوثنية فإنما إلاله واحد وهو ربك الذى يوحى إليك لا إله إلا هو بل أن تعرض عنهم فلا تجهد نفسك في حملهم على التوحيد ولا تتحمل شقا فوق طاقتك فإنما عليك البلاغ ولست عليهم بحفيظ ولا وكيل، وإنما الحفيظ الوكيل هو الله ولم يشأ لهم التوحيد ولو شاء ما أشركوا لكنه تركهم وضلالهم لانهم أعرضوا عن الحق واستنكفوا عن الخضوع له. قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل تطييب لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجد لشركهم ولا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم فإنهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنما المشية لله لو شاء ما أشركوا بل تلبسوا بالايمان عن طوع ورغبة كما تلبس من وفق للايمان، وذلك أنهم استكبروا في الارض واستعلوا على الله ومكروا به وقد أهلكوا بذلك أنفسهم فرد الله مكرهم إليهم وحرمهم التوفيق للايمان والاهتداء إذ كما أن السنة الجارية في التكوين هي سنة الاسباب وقانون العلية والمعلولية العام، والمشية إلالهية إنما تتعلق بالاشياء وتقع على الحوادث على وفقها فما تمت فيه العلل

[ 313 ]

والشرائط وارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الذى تتعلق بتحققه المشية الالهية وإن كان الله سبحانه له فيه المشية مطلقا إن لم يشأه لم يكن وإن شاء كان، كذلك السنة في نظام التشريع والهداية هي سنة الاسباب فمن استرحم الله رحمه ومن أعرض عن رحمته حرمه، والهداية بمعنى إراءة الطريق تعم الجميع فمن تعرض لهذه النفحة الالهية ولم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق والكفر والعناد شملته وأحيته بأطيب الحياة، ومن اتبع هواه وعاند الحق واستعلى على الله وأخذ يمكر بالله، ويستهزئ بآياته حرمه الله السعادة وأنزل الله عليه الشقوة وأضله على علم وطبع عليه بالكفر فلا ينجو أبدا. ولو لا جريان المشية الالهية على هذه السنة بطل نظام الاسباب وقانون العلية والمعلولية وحلت الارادة الجزافية محله ولغت المصالح والحكم والغايات، وأدى فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين لان التشريع ينتهى بالاخرة إلى التكوين بوجه ودبيب الفساد إليه يؤدى إلى فساد أصله. وهذا كما أن الله سبحانه لو اضطر المشركين على الايمان وخرج بذلك النوع الانساني عن منشعب طريقي الايمان والكفر، وسقط الاختيار الموهوب له ولازم بحسب الخلقة الايمان، واستقر في أول وجوده على أريكة الكمال، وتساوى الجميع في القرب والكرامة كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة ولغو التربية والتكميل، وارتفع الاختلاف بين الدرجات، وأدى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات والاعمال والاحوال والملكات وانقلب بذلك النظام الانساني وما يحيط به ويعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك. ومن هنا يظهر أن لا حاجة إلى حمل قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) على الايمان الاضطراري، وأن المراد أن لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهرا وإجبارا لاضطرهم إلى ذلك وذلك أن الذى تقدم من أن المراد تعلق المشية الالهية على تركهم الشرك اختيارا كما تعلقت بذلك في المؤمنين سواء هو الاوفق بكمال القدرة، والانسب بتسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب قلبه. فالمعنى: أعرض عنهم ولا يأخذك من جهة شركهم وجد ولا حزن فإن الله قادر أن يشاء منهم الايمان فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا. على أنك لست بمسئول

[ 314 ]

عن أمرهم لا تكوينا ولا غيره فلتطب نفسك. ويظهر من ذلك أيضا أن قوله: (وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل) أيضا مسوق سوق التسلية وتطييب النفس، وكأن المراد بالحفيظ القائم على إدارة شؤون وجودهم كالحياة والنشوء والرزق ونحوها، وبالوكيل القائم على إدراة الاعمال ليجلب بذلك المنافع ويدفع المضار المتوجهة إلى الموكل عنه من ناحيتها فمحصل المراد بقوله: (وما جعلناك) الخ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونية ولا أمر حياتهم الدينية حتى يحزنك ردهم لدعوتك وعدم إجابتهم إلى طلبتك. وربما يقال: إن المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممن يحفظه وبالوكيل من يجلب المنافع إلى من يتوكل عنه، ولا يخلو عن بعد فإن الحفيظ فيما يتبادر من معناه يختص بالتكوين والوكيل يعم التكوين وغيره، ولا كثير جدوى في حمل إحدى الجملتين على جهة تكوينية، والاخرى على ما يعمها وغيرها بل الوجه حمل الاولى على إحدى الجهتين، والاخرى على الاخرى. قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) السب معروف، قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز ومنافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة والمعاداة، وتارة بالمشى فيقال له العدو، وتارة في الاخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان والعدو قال: فيسبوا الله عدوا بغير علم وتارة بأجزاء المقر فيقال له العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الاجزاء. انتهى. والاية تذكر أدبا دينيا تصان به كرامة مقدسات المجتمع الدينى وتتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن الاهانة والازراء بشنيع القول والسب والشتم والسخرية ونحوها فإن الانسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، والمقابلة في التعدي على من يحسبه متعديا إلى نفسه، وربما حمله الغضب على الهجر والسب لما له عنده أعلى منزلة العزة والكرامة فلو سب المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسب ما له عندهم كرامة الالوهية وهو الله عز اسمه ففى سب آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه وكبريائه. وعموم التعليل المفهوم من قوله: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) يفيد عموم النهى

[ 315 ]

لكل قول سيئ يؤدى إلى ذكر شئ من المقدسات الدينية بالسوء بأى وجه أدى. قوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شئ ضما يجلب الرغبة إليه ويحببه عند طالبه فيتحرك نحو الزينة وينتهى إلى الشئ المتزين بها كاللباس المزين بهيئته الحسنة الذى يلبسه الانسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر والبرد. وقد أراد الله سبحانه أن يعيش الانسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب والفروع ويديم حياته الارضية الخاصة به من طريق أعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه وما يضره بحواسه الظاهرة ثم يتصرف ثم يتصرف فيها بحوايه وقواه الباطنه ثم يتعذى بأكل أشياء وشرب أشياء ويهيج إلى النكاح بأعمال خاصة ويلبس ويأوى ويجلب ويدفع وهكذا. وله في جميع هذه الاعمال وما يتعلق بها لذائذ يقارنها وغايات حيوتة ينتهى إليها وآخر ما ينتهى إليه الحياة السعيدة الحقيقية التى خلق لها أو الحياة التى يظنها الحياة السعيدة الحقيقية. وهو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء ولذة التقدم والانس والمدح والفخر والذكر الخالد والانتقام والثروة والامن وغير ذلك مما لا يحصى. وهذه اللذائذ أمور زينت بها هذه الاعمال ومتعلقاتها، وقد سخر الله سبحانه بها الانسان فهو يوقع الافعال ويتوخى الاعمال لاجلها، وبتحققها يتحقق الغايات الالهية والاغراض التكوينية كبقاء الشخص، ودوام النسل، ولو لا ما في الاكل والشرب والنكاح من اللذة المطلوبة لم يكن الانسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقة المتعبة لجسمه والثقيلة على روحه فاختل بذلك نظام الحياة، وفنى الشخص وانقطع النسل فانقرض النوع، وبطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك. وما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الاشياء كالطعوم اللذيذة التى في أنواع الاغذية ولذة النكاح فهى مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق الاشياء إلى غاياتها التكوينية، ولا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى. وما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الانسان في دنياه ولا تضره في آخرته فهى

[ 316 ]

منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لانها ناشئة عن الفطرة السليمة التى فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى: (حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم) (الحجرات: 7). وما كان منها لذة فكرية توافق الهوى وتشقى في الاخرى والاولى بإبطال العبودية وإفساد الحياة الطيبة فهى لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة الالهية التى نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة والاحكام الناشئة منها والافكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة ولم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية وعثرة نفسانية فهى منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهمية الشيطانية التى في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالاذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس: (لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين) (الحجر: 39) وقال تعالى: (فزين لهم الشيطان أعمالهم) (والنحل: 63). أما أنها لاتنسب إلى الله سبحانه بلا واسطه فانه تعالى هو الذى نظم نظام التكوين فساق الاشياء فيه إلى غاياتها وهداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الانسان الكونية السليمة عقائد وآراء فكرية يبنى عليها أعماله فتسعده وتحفظه عن الشقاء وخيبه المسعى، وجلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء وينهى عن المعروف ويبعث إلى كل قبيح شنيع فيأمر الناس جميعا بالحسن والقبيح معا وينهى الناس جميعا عن القبيح والحسن معا فيختل بذلك نظام التكليف والتشريع ثم الثواب والعقاب ثم يصف الدين الذى هذه صفته بأنه دين قيم فطرة الله التى فطر الناس عليها، والفطرة بريئة من هذا التناقض وأمثاله متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه والعتاهية.

[ 317 ]

فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة والمعصية إليه تعالى بمعنى أن النفوس التى تزينت بالتقوى وتجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة والعمل الصالح، والنفوس التى تلوثت بقذارة الفسوق واكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى الفجور والفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير والشر والباعث إلى الطاعة والمعصية جميعا هو الله سبحانه. قلت: هذا نظر آخر غير النظر الذى كنا نبحث عنه وهذا هو النظر في الطاعة والمعصية من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما وبينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي، وعلى تقديرها تنسب الطاعة والمعصية إليها بلا واسطة وإلى الله سبحانه بالاذن فالله سبحانه هو الذى أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه. وأما الذى نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة والمعصية من حيث تشريع الاحكام، ومن حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الاسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: أن الله سبحانه يدعو إلى الايمان والكفر جميعا أو يبعث إلى الطاعة والمعصية معا ؟ وهو الذى يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الانساني المبنى على الفطرة الالهية وهذه الشرائع الالهية ثم الدواعى النفسانية الموافقة لها كلها فطرية والدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لاحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذى فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون، قل أمر ربى بالقسط (الاعراف: 29). وأما أنها منسوبة إليه تعالى بالاذن فإن الملك عام والسلطنة الالهية مطلقة وحاشا أن يتأتى لاحد أن يتصرف في شئ من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك والفسق وجميع ما ينتهى بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهى تتم به سنة الامتحان والاختبار الذى لا يتم دونه نظام التشريع ومسلك الدعوة والهداية، قال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (يونس: 3) وقال: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) (آل عمران: 141). فتبين أن لزينة الاعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الاذن أو بلا واسطة، وعليه يجرى قوله تعالى: (كذلك زينا لكل امة عملهم) (الاية: 108) وأوضح منه في الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) (الكهف: 7). وللمفسرين بحسب اختلافهم في نسبة الافعال إليه تعالى أقوال في إلاية: منها: أن المراد هو التزيين بالامر والنهى وبيان الحسن والقبح فالمعنى: كما زينا لكم أيها المؤمنون أعمالكم زينا لكل امة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله وترك سب

[ 318 ]

الاصنام ونهيناهم أن يأتوا من الافعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق. وفيه أنه مخالف لظهور الاية في العموم، ولا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما ظهر مما تقدم. ومنها: أن المعنى: وكذلك زينا لكل امة عملهم بميل الطباع إليه ولكن قد عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق ويجتنبوا الباطل. وفيه أنه كما لا يصح أسناد الدعوة إلى الطاعة والمعصية والايمان والكفر ة ليه تعالى بلا واسطة كذلك لا تصح نسبة ميل الطباع إلى الاعمال الحسنة والسيئة على وتيرة واحدة إليه تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينية وما يشابهها وبين الدعوة التشريعية إلى القبائح والمساوي، ونسبة الاول إليه تعالى دون الثاني ليس في محله. ومنها: أن المراد هو التزيين بذكر الثواب فهو كقوله: (ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (الحجرات: 7) أي حبب إليكم الايمان بذكر ثوابه ومدح فاعليه على فعله، وكره الكفر بذكر عقابه وذم فاعليه. وفيه: أن فيه تقييدا للاعمال بالحسنة من غير مقيد. على أنه معنى بعيد من السياق ومن ظاهر لفظ التزيين. على أن التزيين بهذا المعنى لا يختص بالمؤمنين. ومنها: أن المراد التزيين لمطلق الاعمال حسناتها وسيئاتها ابتداء من غير واسطة والدعوة منه تعالى إلى الطاعة والمعصية جميعا بناء على أن الانسان مجبر في الافعال المنسوبة إليه. وفيه: أن ظاهر الاية أوفق بالاختيار منه بالاجبار فإن الشئ إنما تضم إليه الزينة ليرغب فيه الانسان ويحبب إليه فتكون مرجحة لتعلقه به وترك غيره، ولو لم تكن نسبة فعله وتركه إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما يرغب فيه الفاعل نوع من الحيلة يتوسل بها إلى وقوعه، وهو ينطبق في الطاعات وحسنات الاعمال على ما يسمى في لسان الشرع هداية وتوفيقا، وفي المعاصي وسيئات الاعمال على ما يعد إضلالا ومكرا إلهيا، ولا مانع من نسبة الاضلال والمكر إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون الاضلال والمكر الابتدائيين، وقد تقدم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا الكتاب وتقدم البحث عن الجبر وما يقابله من التفويض والامر بين الامرين في الجزء الاول من الكتاب. وقوله تعالى: (ثم إليه مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) يؤيد ما تقدم أن حكم

[ 319 ]

التزيين عام شامل لجميع الاعمال الباطنية كالايمان والكفر والظاهرية كأعمال الجوارح الحسنة والسيئة فإن ظاهر الاية أن الانسان إنما يقصد هذه الاعمال ويوقعها لاجل ما يرغب فيه من زينته غافلا عن الحقائق المستوره تحت هذه الزينات المضروب عليها بحجاب الغفلة ثم إذا رجعوا إلى ربهم نبأهم بحقيقة ما كانوا يعملونه، وعاينوا ما هم مصروفون عنه، أما أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم مما أخفى لهم من قرة أعين، وأما أولياء الشيطان فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فظهور حقائق الاعمال يوم القيامة لا يختص بأحد القبيلين من الحسنات والسيئات. قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد إيمانهم - إلى قوله - عند الله) الجهد بفتح الجيم الطاقة والايمان جمع يمين وهى القسم، وجهد الايمان أي ما تبلغه قدرتها وهو الطاقة، والمراد أنهم بالغوا في القسم وأكدوه ما استطاعوا، والمراد بكون الايات عند الله كونها في ملكه وتحت سلطته لا ينالها أحد إلا بإذنه. فالمعنى: وأقسموا بالله وبالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدل على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعو إليه ليؤمنن بتلك الاية - وهذا اقتراح منهم للاية كناية - قل إنما الايات عند الله وهو الذى يملكها ويحيط بها وليس إلى من أمرها شئ حتى أجيبكم إليها من تلقاء نفسي. قوله تعالى: (وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون) قرئ: لا يؤمنون بياء الغيبة وتاء الخطاب جميعا، والخطاب على القراءة الاولى للمؤمنين بنوع من الالتفات، وعلى القراءة الثانية للمشركين والكلام من تتمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ظاهر. والظاهر أن (ما) في قوله: (وما يشعركم) للاستفهام، والمعنى: وما هو الذى يفيد لكم العلم بواقع الامر وهو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الايات ؟ فالكلام في معنى قولنا: هؤلاء يحلفون بالله لئن جاءتكم الايات ليؤمنن بها فربما آمنتم وصدقتم بحلفهم وليس لكم علم بأنهم إذا جاءتهم الايات لا يؤمنون بها لان الله لم يشأ إيمانهم فالكلام من الملاحم. وربما قيل: إن (أن) في قوله: (إنها إذا جاءت) الخ، بمعنى لعل وهذا معنى شاذ لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة. قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الخ، ظاهر السياق أن الجملة عطف على قوله: (لا يؤمنون) وهى بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم، والمراد

[ 320 ]

بقوله: (أول مرة الدعوة الاولى قبل نزول الايات قبال ما يتصور له من المرة الثانية التى هي الدعوة مع نزول الايات. والمعنى أنهم لا يؤمنون لو نزلت عليهم الايات، وذلك أنا نقلب أفئدتهم فلا يعقلون بها كما ينبغى أن يعقلوه، وأبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقهم أن يبصروه فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة من الدعوة قبل نزول هذه الايات المفروضة ونذرهم في طغيانهم يترددون ويتحيرون. هذا ما يقضى به ظاهر سياق الاية. وللمفسرين في الاية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرض لها والبحث عنها، من شاء الاطلاع عليها فليراجع مظانها. قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى) إلى آخر الاية بيان آخر لقوله: (إنما الايات عند الله) وإن قولهم: (لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) دعوى كاذبة إجرأهم عليها جهلهم بمقام ربهم فليس في وسع الايات التى يظنون أنها أسباب مستقلة في إيجاد الايمان في قلوبهم وإقدارهم على التلبس به أن تودع في نفوسهم الايمان إلا بمشية الله. فهذا السياق يدل على أن في الكلام حذفا وإيجازا، والمعنى: ولو أننا أجبناهم في مسألتهم وآتيناهم أعاجيب الايات فنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم، وأحيينا لهم الموتى فواجهوهم وكلموهم وأخبروهم بصدق ما يدعون إليه، وحشرنا وجمعنا عليهم كل شئ قبيلا قبيلا و صنفا صنفا، أو حشرنا عليهم كل شئ قبلا ومواجهة فشهدوا لهم بلسان الحال أو القال، ما كانوا ليؤمنوا ولم يؤثر شئ من ذلك في استجابتهم للايمان إلا أن يشاء الله إيمانهم. فلا يتم لهم الايمان بشئ من الاسباب والعلل إلا بمشية الله فإن النظام الكونى على عرضه العريض وإن كان يجرى على طبق حكم السببية وقانون العلية العام غير أن العلل والاسباب مفتقرة في أنفسها متدلية إلى ربها غير مستقلة في شئ من شؤونها ومقتضياتها فلا يظهر لها حكم إلا بمشية الله ولا يحيى لها رسم إلا بإذنه. غير أن المشركين أكثرهم - ولعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم ويتعلقون بالاسباب على أنها مستقله في نفسها مستغنية عن ربها فيظنون أن لو أتاهم سبب الايمان - وهو الاية المقترحة - آمنوا واتبعوا الحق وقد اختلط عليهم الامر بجهلهم فأخذوا

[ 321 ]

هذه الاسباب الناقصة المفتقرة إلى مشية الله أسبابا مستقلة تامة مستغنية عنه. قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن) إلى آخر الاية. الشياطين جمع شيطان وهو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس الذى يصفه القرآن وذريته، والجن من الجن بالفتح وهو الاستتار، وهو في عرف القرآن نوع من الموجودات ذوات الشعور والارادة مستور عن حواسنا بحسب طبعها وهم غير الملائكة. يذكر القرآن أن إبليس الشيطان من سنخهم. والوحى هو القول الخفى بإشارة ونحوها، والزخرف الزينة المزوقة أو الشئ المزوق فزخرف القول الكلام المزوق المموه الذى يشبه الحق وليس به، وغرورا مفعول مطلق لفعل مقدر من جنسه أو مفعول له. والمعنى: ومثل ما جعلنا لك جعلنا لكل نبى عدوا هم شياطين الانس والجن يشير بعضهم إلى بعض - وكأن المراد وحى شياطين الجن بالوسوسة والنزغة إلى شياطين الانس ووحى بعض شياطين الانس إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر والتسويل - بأقوال مزوقة وكلمات مموهة يغرونهم بذلك غرورا أو لغرورهم وإضلالهم بذلك. وقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) يشير بذلك إلى أن حكم المشية عام جار نافذ فكما أن الايات لا تؤثر في إيمانهم شيئا إلا بمشية الله كذلك معاداة الشياطين الانبياء ووحيهم زخرف القول غرورا كل ذلك بإذن الله ولو شاء الله ما فعلوه ولم يوحوا ذلك فلم يكونوا عدوا للانبياء، وبهذا المعنى يتصل هذه الاية بما قبلها لاشتراكهما في بيان توقف الامور على المشية. وقوله: (فذرهم وما يفترون) تفريع على نفوذ المشية أي إذا كانت هذه المعاداة والافساد بالوساوس كل ذلك بإذن الله ولم يكونوا بمعجزين لله في مشيته النافذة الغالبة فلا يحزنك ما تشاهد من إخلالهم بالامر وإفسادهم له بل اتركهم وما يفترونه على الله من دعوى الشريك ونحوها. فقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) إلى آخر الاية في معنى قوله في صدر الايات: (وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا). والكلام في قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن

[ 322 ]

الخ، حيث أسند ظاهرا جعلهم عدوا للانبياء - وفيه التسبب إلى الشر والبعث إلى الشرك والمعصية - إلى الله سبحانه وهو منزه من كل شر وسوء نظير الكلام في إسناده تزيين الاعمال إلى الله سبحانه في قوله: (كذلك زينا لكل امة عملهم) وقد تقدم الكلام فيه، وكذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الاية التالية: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة) الخ، حيث جعل هذه المظالم والاثام غايات إلهية للدعوة الحقة. وللمفسرين في هاتين الايتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الاعمال إلى الله سبحانه نظائر ما تقدم من أقوالهم في انتساب زينه الاعمال إليه تعالى. وقد عرفت أن الذى يفيده ظاهر الاية الكريمة أن كل ما يصدق عليه اسم شئ فهو مملوك له تعالى منسوب إليه من غير استثناء لكن الايات المنزهة لساحة قدسه تعالى من كل سوء وقبح تعطى أن الخيرات والحسنات جميعا مستندة إلى مشيته منسوبة إليه بلا واسطة أو معها، والشرور والسيئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان والنفس بلا واسطة، وإنما تنتسب إليه تعالى بالاذن فهى مملوكة له تعالى واقعه بإذنه ليستقيم أمر الامتحان الالهى ويتم بذلك أمر الدعوة الالهيه بالامر والنهى والثواب والعقاب ولو لا ذلك لبطلت ولغت السنة الالهية في تسيير الانسان كسائر الانواع نحو سعادته في هذا العالم الكونى الذى لا سبيل فيه إلى الكمال والسعادة إلا بالسلوك التدريجي. قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة) إلى آخر الاية. الاقتراف هو الاكتساب، وضمير المفرد للوحي المذكور في الاية السابقة، واللازم في قوله: (لتصغى) للغاية والجملة معطوفة على مقدر، والتقدير: فعلنا ما فعلنا وشئنا ما شئنا ولم نمنع عن وحى بعضهم لبعض زخرف القول غرورا لغايات مستورة ولتصغى وتجيب إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة وليرضوه وليكتسبوا ما هم مكتسبون لينالوا بذلك جميعا مايسألونه بلسان استعدادهم من شقاء الاخرة، فإن الله سبحانه يمد كلا من أهل السعادة أهل الشقاء بما يتم به سيرهم إلى منازلهم ويرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم قال تعالى: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) (الاسراء: 20).

[ 323 ]

(بحث روائي)

 في الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم عن السدى قال: لما حضرأبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيى أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبى ابنا خلف وعقبة بن أبى معيط وعمرو بن العاصى والاسود بن البخترى، وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا: استأذن لنا على أبى طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك فأذن لهم عليه فدخلوا: فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإالهه، فدعاه فجاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: ما يريدون ؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم الخراج ؟ قال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي ؟ قال: قولوا لا اله الا الله، فأبوا واشمأزوا. قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال: يا عم ما أنا بالذى أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدى ولو آتونى بالشمس فيضعوها في يدى ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فأنزل الله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم). أقول: والرواية - كما ترى - لا يلائم ذيلها صدرها فإن مقتضى صدرها أنهم كانوا يسألونه الكف عن آلهتهم أي لا يدعو الناس إلى رفضها وترك التقرب إليها حتى إذا يئسوا من إجابته هددوه بشتم ربه إن شتم آلهتهم وكان مقتضى جر الكلام أن يهددوه على دعوه إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك ويذكروا شتمه ويهددوه على ذلك وليس في الاية إشارة إلى صدر القصة وهو أصلها.

[ 324 ]

على أن وقار النبوة وعظيم الخلق الذى كان في عشرته صلى الله عليه وآله وسلم كان يمنعه من التفوه بالشتم الذى هو من لغو القول، والذى ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللهم العن فلانا وفلانا، وكذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله: (لعنهم الله بكفرهم) (النساء: 46) وقوله: (فقتل كيف قدر) (المدثر: 19) وقوله: (قتل الانسان) (عبس: 17) وقوله: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله) (الانبياء: 67) ونظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذى هو الذكر بالقبيح الشنيع للاهانة تخييلا، والذى ورد من قبيل قوله تعالى: (مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم) (القلم: 13) فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما أداهم المشاجرة والجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيرا بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك كما يشير إليه الحديث الاتى. وفي تفسير القمى قال: حدثنى أبى عن مسعدة بن صدقة عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سئل عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء) فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم. وفي تفسير العياشي عن عمرو الطيالسي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: (ولا تسبوا الاية. قال فقال يا عمرو هل رأيت أحدا يسب الله ؟ قال: فقلت: جعلني الله فداك فكيف ؟ قال من سب ولى الله فقد سب الله. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظى قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيى الموتى وأن ثمود كان لهم ناقة، فأتنا من الايات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي شئ تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا: تجعل لناالصفا ذهبا قال: فإن فعلت تصدقوني ؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو فجاء جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، وإن شئت

[ 325 ]

فاتركهم حتى يتوب تائبهم: فقال بل يتوب تائبهم فأنزل الله: (وأقسموا بالله جهد إيمانهم - إلى قوله - يجهلون). أقول: القصة المذكورة سببا للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الايات فقد تقدم أن ظاهرها الاخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الايات، وأنهم ليسوا بمفارقى الشرك وإن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الايمان ولم يشأ ذلك، وإذا كان هذا هو الظاهر من الايات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول جبرئيل: أن شئت صار ذهبا فإن لم يؤمنوا عذبوا، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، الخ. فالظاهر أن الايات في معنى قوله: (إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) (البقرة: 6) فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى القرآن وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن جاءتهم ليؤمنن بها فكذبهم الله بهذه الايات وأخبر أنهم لن يؤمنوا لانه تعالى لم يشأ ذلك نكالا عليهم. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) الاية في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام في الاية، يقول: وننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، ونعمى أبصارهم فلا يبصرون الهدى. وقال على بن أبى طالب عليه السلام إن ما تقلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر منكرا نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيرا أبدا. أقول: المراد بذلك تقلب النفس في إدراكها وانعكاس إحكامها من جهة اتباع الهوى والاعراض عن سليم العقل المعدل لمقترحات القوى الحيوانية الطاغية. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهم السلام عن قول الله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) إلى آخر الاية أما قوله: (كما لم يؤمنوا به أول مرة) فإنه حين أخذ عليهم الميثاق. أقول: سيأتي الكلام الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذريتهم) الاية (الاعراف: 172) لكن تقدم أن ظاهر السياق أن المراد بعدم إيمانهم به أول مرة عدم إيمانهم بالقرآن في أول الدعوة

[ 326 ]

* * *

أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين - 114. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم - 115. وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون - 116. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين - 117. فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم باياته مؤمنين - 118. وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين - 119. وذروا ظاهر الاثم وباطنه إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون - 120. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون - 121.

[ 327 ]

(بيان)

 الايات على ما لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: أفغير الله أبتغى حكما) الخ، لها فيما بينها أنفسها - وهى ثمان آيات - إتصال يرتبط به بعضها ببعض ويرجع بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله وقد فصل أحكامه في كتابه، ونهيا من اتباع الناس وإطاعتهم وأن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم الظن وبنائهم على الخرص والتخمين، وفي آخرها أن المشركين وهم أولياء الشياطين يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، وفيها الامر بأكل ما ذكر اسم الله عليه والنهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن ذلك هو الذى فصله في كتابه وارتضاه لعباده. وهذا كله يؤيد ما نقل عن ابن عباس: أن المشركين خاصموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في أمر الميتة قائلين: أتاكلون مما قتلتم أنتم ولا تأكلون مما قتله الله ؟ فنزلت، فالغرض من هذه الايات بيان الفرق وتثبيت الحكم. قوله تعالى: (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا) قال في المجمع: الحكم والحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لان معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضى إلا بالحق وقد يحكم الحاكم بغير حق. قال: ومعنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفى التخليط المعمى للمعنى، وينفى أيضا التداخل الذى يوجب نقصان البيان عن المراد، انتهى. وفي قوله: (أفغير الله أبتغى حكما) تفريع على ما تقدم من البصائر التى جاءت من قبله تعالى، وقد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذى بين يديه من التوراة والانجيل، والمعنى: أفغير الله من سائر من تدعون من الالهة أو من ينتمى إليهم أطلب حكما يتبع حكمه وهو الذى أنزل عليكم هذا الكتاب وهو القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، ولا يستحق الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالاية كقوله تعالى: (والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير) (المؤمن: 20). وقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى) (يونس: 35).

[ 328 ]

قوله تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون إلى آخر الاية رجوع إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يتأكد به يقينه ويزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففى الكلام التفات، وهو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه واطمئنان قلبه وليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره. وقوله: (بالحق) متعلق بقوله: (منزل من ربك) وكون التنزيل بالحق هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم) (الشعراء: 222) أو بتخليط الشياطين بعض الباطل بالوحى الالهى، وقد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم (الجن: 28). قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) الكلمة - وهى ما دل على معنى تام أو غيره - ربما استعملت في القرآن في القول الحق الذى قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله: (ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم) (يونس: 19) يشير إلى قوله لادم عند الهبوط: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة: 36) وقوله تعالى: (حقت عليهم كلمة ربك) (يونس: 96) يشير إلى قوله تعالى لابليس: (لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (ص: 85) وقد فسرها في موضع آخر بقوله: (وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) (هود: 119) وكقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى) وعلى بنى إسرائيل بما صبروا (الاعراف: 137) يشير إلى ما وعدهم إنه سينجيهم من فرعون ويورثهم الارض كما يشير إليه قوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (القصص: 5). وربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالانسان مثلا كقوله تعالى: (إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم) (آل عمران: 45) والعناية فيه إنه عليه السلام خرق عادة التدريج وخلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (آل عمران: 59). فظاهر سياق الايات فيما نحن فيه يعطى أن يكون المراد بقوله: (وتمت كلمة

[ 329 ]

ربك صدقا وعدلا) كلمة الدعوة الاسلامية وما يلازمها من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل على جوامع المعارف الالهية وكليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (البقرة: 129). وأشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل (الاعراف: 157) وبذلك يشعر قوله في الاية السابقة: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) وقوله: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) (البقرة: 146) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. فالمراد بتمام الكلمة - والله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعنى ظهور الدعوة الاسلامية بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، مرتبة الثبوت واستقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة وشريعة بعد شريعة فإن الايات الكريمة دالة على أن الشريعة الاسلامية تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع وتزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الشورى: 13). وبذلك يظهر معنى تمام الكلمة وأن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة الكمال ومصداقه الدين المحمدى قال تعالى: (والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (الصف: 9). وتمام هذه الكلمة الالهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التى بين بها، وعدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض وتزن الاشياء على النحو الذى من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف وظلم، ولذلك بين هذين القيدين أعنى (صدقا وعدلا) بقوله (لا مبدل لكلماته) فإن الكلمة الالهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل

[ 330 ]

إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره ويقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا، تقع كما قال، وعدلا لا تنحرف عن حالها التى كانت عليها وصفها الذى وصفت به فالجملة أعنى قوله: (لا مبدل لكلماته) بمنزلة التعليل يعلل بها قوله: (صدقا وعدلا). ومن أقوال المفسرين في الاية أن المراد بالكلمة والكلمات القرآن وقيل: إن المراد بالكلمة القرآن، وبالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ والله سبحانه يقول: (لا مبدل لكلماته وقيل: المراد بالكلمة الدين، وقيل: المراد الحجة، وقيل: الصدق ما كان في القرآن من الاخبار والعدل ما فيه من الاحكام، هذا. وقوله تعالى: (وهو السميع العليم) أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل، والعليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لاقوالكم، العليم بأفعالكم. قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله) إلى آخر الاية. الخرص الكذب والتخمين، والمعنى الثاني هو الانسب بسياق الاية فإن الجملة أعنى قوله: (وإن هم إلا يخرصون) والتى قبلها أعنى قوله: (إن يتبعون إلا الظن) واقعتان موقع التعليل لقوله: (وإن تطع أكثر من في الارض الخ، واتباع الظن والقول بالخرص والتخمين سببان بالطبع للضلال في الامور التى يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم واليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى والشرائع المأخوذة من قبله. وسير الانسان وسلوكه الحيوى في الدنيا وإن كان لا يتم دون الركون إلى الظن والاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الانسان الاعتبارية والعلل والاسباب التى تدعوه إلى صوغه لها وتقليبها في قالب الاعتبار، وارتباطها بشؤونه الحيوية وأعماله وأحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الانسان فيه إلى العلم الخالص واليقين المحض اللهم إلا بعض الكليات النظرية التى ينتهى إليها مما يضطر إلى الاذعان بها والاعتماد عليها. إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب والتخمين من جزئيات الامور في الحياة، وأما السعادة الانسانية التى فيه فوز هذا النوع وفلاحه، والشقاء الذى يرتبط به الهلاك الابدي والخسران الدائم، وما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم وصانعه

[ 331 ]

والغرض من إيجاده وما ينتهى إليه الامر من البعث والنشور وما يتعلق به من النبوة والكتاب والحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن والتخمين والله سبحانه لا يرتضى من عباده في ذلك إلا العلم واليقين، والايات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (الاسراء: 36). ومن أوضحها دلالة هذه الاية التى نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الارض لركونهم العام إلى الظن والتخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه ويأمرون به في سبيل الله وطريق عبوديته لان الظن ليس مما يكشف به الحق الذى يستراح إليه في أمر الربوبية والعبودية لملازمته الجهل بالواقع وعدم الاطمئنان إليه، ولا عبودية مع الجهل بالرب وما يريده من عبده. فهذا هو الذى يقضى به العقل الصريح، وقد إمضاه الله سبحانه كما في قوله في الاية التالية في معنى تعليل النهى عن الطاعة: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، وقد جمع سبحانه بين الطريقين جميعا في قوله: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن و إن الظن لا يغنى من الحق شيئا وهذا أخذ بحكم العقل - فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) (النجم: 30) وفي ذيل الاية استناد إلى علم الله سبحانه وحكمه. قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) ذكروا أن (أعلم) إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل وربما استعمل بمعنى الصفة خالية عن التفضيل، والاية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين والمهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه، وإن اريد مطلق العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان التصافه به بعطية منه تعالى كان المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال والمهتدى قدر ما أفاضه الله عليه من العلم. وتعدى أعلم بالباء في قوله: (أعلم بالمهتدين) يدل على أن قوله: (من يضل) منصوب بنزع الخافض والتقدير: (أعلم بمن يضل) ويؤيده ما نقلناه آنفا من آية سورة النجم.

[ 332 ]

قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) لما تمهد ما قدمه من البيان الذى هو حجه على أن الله سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره استنتج منه وجوب الاخذ بالحكم الذى شرعه وهو الذى يدل عليه هذه الاية، ووجوب رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم ويجادل المؤمنين فيه بوحى الشياطين إليه، وهو الذى يدل عليه قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الاية. ومن هنا يظهر أن العناية الاصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في الاية إلى تمام أربع آيات، وسائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه المطلوب بجهاته فأصل الكلام: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي فرقوا بين المذكى والميتة فكلوا من هذه ولا تأكلوا من ذاك، وإن كان المشركون يجادلونكم في أمر التفريق. فقوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله) تفريع للحكم على البيان السابق، ولذاأردفه بقوله: (إن كنتم بآياته مؤمنين) والمراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكاة. قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) إلى آخر الاية، بيان تفصيلي لاجمال التفريع الذى في الاية السابقة، والمعنى: أن الله فصل لكم ما حرم عليكم واستثنى صورة الاضطرار وليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده وهؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم وما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا الجميع. ويظهر بما مر أن معنى قوله: (وما لكم أن لا تأكلوا) ما لكم من نفع في أن لا تأكلوا، وما للاستفهام التعجيبى، وقيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، وما للنفي. ويظهر من الاية أن محرمات الاكل نزلت قبل سورة الانعام وقد وقعت في سورة النحل من السور المكية فهى نازلة قبل الانعام. قوله تعالى: (وذروا ظاهر الاثم وباطنه) إلى آخر الاية، وإن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامة الاثم ظاهرة وباطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل الذى لسابقتها ولاحقتها يقضى بكونها تمهيدا للنهى الاتى في قوله: (ولا تأكلوا مما لم

[ 333 ]

يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) ولازم ذلك أن يكون الاكل مما لم يذكر اسم الله عليه من مصاديق الاثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الاثم الظاهر أو الباطن لكن التأكيد البليغ الذى في قوله: (وإنه لفسق) يفيد أنه من الاثم الباطن وإلا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الاكيد. وبهذا البيان يظهر أن المراد بظاهر الاثم المعصية التى لا ستر على شؤم عاقبته ولا خفاء في شناعة نتيجته كالشرك والفساد في الارض والظلم، وبباطن الاثم ما لا يعرف منه ذلك في بادئ النظر كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وإنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهى وربما أدركه العقل، هذا هو الذى يعطيه السياق من معنى ظاهر الاثم وباطنه. وللمفسرين في تفسيرهما أقوال أخر، من ذلك: أن ظاهر الاثم وباطنه هما المعصية في السر والعلانية، وقيل: أريد بالظاهر أفعال الجوارح، وبالباطن أفعال القلوب، وقيل: الظاهر من الاثم هو الزنا، والباطن اتخاذ الاخدان، وقيل: ظاهر الاثم نكاح امرأة الاب، وباطنه الزنا، وقيل: ظاهر الاثم الزنا الذى اظهر به، وباطنه الزنا إذا استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به إذا لم يتجاهر به، وإنما الفحشاء هو الذى أظهره صاحبه، وهذه الاقوال - كما ترى - على أن جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الاية عن حكم السياق. وقوله تعالى: (إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون) تعليل للنهى وإنذار بالجزاء السيئ. قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) نهى هو زميل قوله: (وكلوا مما ذكر اسم الله عليه) كما تقدم. وقوله: (وإنه لفسق) إلى آخر الاية، بيان لوجه النهى وتثبيت له أما قوله: (وإنه لفسق) فهو تعليل والتقدير: إنه لفسق وكل فسق يجب اجتنابه فالاكل مما لم يذكر اسم الله عليه واجب الاجتناب. وأما قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ففيه رد ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، والمراد بأولياء الشياطين هم المشركون، ومعناه أن ما يجادلكم به المشركون وهو قولهم: إنكم تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله

[ 334 ]

يعنون الميتة، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، والفارق أن أكل الميتة فسق دون أكل المذكى، وأن الله حرم أكل الميتة ولم يحرم أكل المذكى فليس فيما حرمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه. وأما قوله و: (إن أطعتموهم إنكم لمشركون) فهو تهديد وتخويف بالخروج من الايمان، والمعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الذى يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إما لانكم استننتم بسنه المشركين، أو لانكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51). ووقوع هذه الجملة أعنى قوله: (وإن أطعتموهم) الخ، في ذيل النهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الامر باكل ما ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور: أخرج ابن مردويه عن أبى اليمان جابر بن عبد الله قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا بالفؤوس - حتى يكسرونه ويطرحونه خارجا من المسجد والنبى صلى الله عليه وآله وسلم يقول: وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. وفيه: أخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) قال: لا إله إلا الله. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الامام ليسمع في بطن امه فإذا ولد خط بين كتفيه: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) فإذا صار الامر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة. أقول: وروى هذا المعنى بطرق اخرى عن عده من أصحابنا عن أبى عبد الله عليه السلام ورواه أيضا القمى والعياشي في تفسيريهما عنه عليه السلام، وفي بعضها: أن الاية تكتب

[ 335 ]

بين عينيه، وفي بعضها: على عضده الايمن. واختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم الالهى به عليه السلام واختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها، وبكتابتها بين كتفيه حملها عليه وإظهاره وتأييده بها وبكتابتها على عضده الايمن جعلها طابعا على عمله وتقويته وتأييده بها. وهذه الرواية والروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الاية كون المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الاسلامية بما يلازمها من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن والامامة من ذلك. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) الاية عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلل أو يسبح أو يحمد ويكبرقال: هذا كله من أسماء الله. وفيه عن ابن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن ذبيحة المرأة والغلام هل تؤكل ؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة وذكرت اسم الله حلت ذبيحتها، وإذا كان الغلام قويا على الذبح وذكر اسم الله حلت ذبيحته، وإن كان الرجل مسلما فنسى أن يسمى فلا بأس بأكله إذا لم تتهمه. أقول وفي هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنة. وفيه عن حمران قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: في ذبيحة الناصب واليهودى قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، إما سمعت قول الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه). وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والبيهقي في سننه وابن مردويه عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) فنسخ واستثنى من ذلك فقال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم. أقول وروى النسخ عن أبى حاتم عن مكحول وقد تقدم في أول المائدة: أن الاية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط الاسلام في المذكى - اسم فاعل - دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه ولا تنافى بين الايتين في ذلك وللمسألة ارتباط بالفقه.

[ 336 ]

* * *

أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون - 122. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون - 123. وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله ألله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون - 124. فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون - 125. وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الايات لقوم يذكرون 126. لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون - 127.

(بيان)

 قوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الاية واضحة المعنى وهى بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط الساذج مثل مضروب لكل من المؤمن والكافر يظهر بالتدبر فيه حقيقة حاله في الهدى والضلال.

[ 337 ]

فالانسان قبل أن يمسه الهدى الالهى كالميت المحروم من نعمة الحياة الذى لا حس له ولا حركة فإن آمن بربه إيمانا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، وجعل له نورا يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شره ونفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه ويدع ما يضره وهكذا يسير في مسير الحياة. وأما الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها ولا مناص له عنها ظلمة الموت وما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضار، ونظير هذه الاية في معناها بوجه قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) (الانعام: 36) وقال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) (النحل: 97). ففى الكلام استعارة الموت للضلال واستعارة الحياة للايمان أو الاهتداء والاحياء للهداية إلى الايمان والنور للتبصر بالاعمال الصالحة، والظلمة للجهل كل ذلك في مستوى التفهيم والتفهم العموميين لما أن اهل هذا الظرف لا يرون للانسان بما هو إنسان حياة وراء الحياة الحيوانية التى هي المنشا للشعور باللذائذ المادية والحركة الارادية نحوها. فهؤلاء يرون أن المؤمن والكافر لا يختلفان في هذه الموهبة وهى فيهما شرع سواء فلا محالة عد المؤمن حيا بحياة الايمان ذا نور يمشى به في الناس، وعد الكافر ميتا بميتة الضلال في ظلمات لا مخرج منها ليس إلا مبتنيا على عناية تخييلية واستعارة تمثيلية يمثل بها حقيقة المعنى المقصود. لكن التدبر في أطراف الكلام والتأمل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطى للاية معنى وراء هذا الذى يناله الفهم العامي فإن الله سبحانه ينسب للانسان الالهى في كلامه حياة خالدة أبدية لا تنقطع بالموت الدنيوي هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون بصيانته لا يمسه نصب ولا لغوب، ولا يذله شقاء ولا تعب، مستغرب في حب ربه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلا خيرا، ولا يواجه إلا سعادة وهو في أمن وسلام لا خوف معه ولا خطر، وسعادة وبهجة ولذة لا نفاذ لها ولا نهاية لامدها. ومن كان هذا شأنه فإنه يرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لا يسمعونه، ويعقل

[ 338 ]

ما يعقلونه، ويريد ما لا يريدونه وإن كانت ظواهر أعماله وصور حركاته وسكناته تحاكي أعمال غيره وحركاتهم وسكناتهم وتشابهها فله شعور وإرادة فوق ما لغيره من الشعور والارادة فعنده من الحياة التى هي منشأ الشعور والارادة ما ليس عند غيره من الناس فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره. فكما أن العاة ه من الانسان في عين أنها تشارك سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة والحركة الارادية نحوها، ويشاركها الحيوان لكنا مع ذلك لا نشك أن الانسان نوع أرقي من سائر الانواع الحيوانية وله حياة فوق الحياة التى فيها لما نرى في الانسان آثاره العجيبة المترشحة من أفكار الكلية وتعقلاته المختصة به، ولذلك نحكم في الحيوان إذا قسناه إلى النبات وفي النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الكون أن لكل منهما كعبا أعلى وحياة هي أرقي من حياة ما قبله. فلنقض في الانسان الذى أوتى العلم والايمان واستقر في دار الايقان واشتغل بربه وفرغ واستراح من غيره وهو يشعر بما ليس في وسع غيره ويريد ما لا يناله سواه أن له حياة فوق حياة غيره، ونورا يستمد به في شعوره، وإرادة لا توجد إلا معه وفي ظرف حياته. يقول الله سبحانه: (فلنحيينه حياة طيبة) (النحل: 97) فلهم الحياة لكنها بطبعها طيبة وراء مطلق الحياة (ويقول: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الاعراف: 179) فيثبت لهم أمثال القلوب والاعين والاذان التى في المؤمنين لكنه ينفى كمال آثارها التى في المؤمنين، ولم يكتف بذلك حتى أثبت لهم روحا خاصا بهم فقال: (أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) (المجادلة: 22). فتبين بذلك أن للحياة وكذا للنور حقيقة في المؤمن واقعية وليس الكلام جاريا على ذاك التجوز الذى لا يتعدى مقام العناية اللفظية فما في خاصة الله من المؤمنين من الصفة الخاصة بهم احق باسم الحياة مما عند عامة الناس من معنى الحياة كما أن حياة الانسان كذلك بالنسبة إلى حياة الحيوان، وحياة الحيوان كذلك بالنسبة إلى حياة النبات. فقوله: (أو من كان ميتا فأحييناه) أي ضالا من حيث نفسه أو ضالا كافرا قبل

[ 339 ]

أن يؤمن بربه وهو نوع من الموت فأحييناه بحياة الايمان أو الهداية - والمال واحد - وجعلناله نورا أي علما متولدا من إيمانه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان: (من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم أو علمه الله ما لم يعلم). فإن روح الايمان إذا تمكنت من نفس الانسان واستقرت فيها حولت الاراء والاعمال إلى صور تناسبها ولا تخالفها وكذلك سائر الملكات أعم من الفضائل والرذائل إذا استقرت في باطن الانسان لم تلبث دون أن تحول آراءه وأعماله إلى أشكال تحاكيها. وربما قيل: أن المراد بالنور هو الايمان أو القرآن وهو بعيد من السياق. وهذا النور أثره في المؤمن إنه يمشى به في الناس) أي يتبصر به في مسير حياته الاجتماعية المظلمة ليأخذ من الاعمال ما ينفعه في سعادة حياته ويترك ما يضره. فهذا هو حال المؤمن في حياته ونوره فهل هو (كمن مثله) ووصفه أنه (في الظلمات ظلمات الضلال وفقدان نور الايمان (ليس بخارج منها) لان الموت لا يستتبع آثار الحياة البتة فلا مطمع في أن يهتدى الكافر إلى أعمال تنفعه في أخراه وتسعده في عقباه. وقد ظهر مما تقدم أن قوله: (كمن مثله في الظلمات) الخ، في تقدير: هو في الظلمات ليس بخارج منها، ففى الكلام مبتدأ محذوف هو الضمير العائد إلى الموصول، وقيل: التقدير: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، ولا بأس به لو لا كثرة التقدير. قوله تعالى: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) ظاهر سياق صدر الاية أن يكون التشبيه في قوله: (كذلك) من قبيل تشبيه الفرع بالاصل بعناية إعطاء القاعدة الكلية كقوله تعالى: (كذلك يضرب الله الحق والباطل) وقوله: (كذلك يضرب الله الامثال) (الرعد: 17) أي اتخذ ما ذكرناه من المثل أصلا وقس عليه كل ما عثرت به من مثل مضروب فمعنى قوله: (كذلك زين) الخ، على هذا المثال المذكور أن الكافر لا مخرج له من الظلمات، زين للكافرين أعمالهم فقد زينت لهم اأمالهم زينة تجذبهم إليها وتحبسهم ولا تدعهم يخرجوا منها إلى فضاء السعادة وفسحة النور أبدا والله لا يهدى القوم الظالمين. وقيل: إن وجه التشبيه في قوله: (كذلك زين) الخ، أنه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لاولئك الايمان فعملوه. فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه

[ 340 ]

(انتهى) وهو بعيد من سياق الصدر. قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) إلى آخر الاية، كأن المراد بالاية أنا أحيينا جمعا وجعلنا لهم نورا يمشون به في الناس، وآخرين لم نحيهم فمكثوا في الظلمات فهم غير خارجين منها ولا أن عمالهم المزينة تنفعهم وتخلصهم منها كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها بالدعوة الدينية والنبى والمؤمنين لكنه لا ينفعهم فإنهم في ظلمات لا يبصرون بل إنما يمكرون بأنفسهم ولا يشعرون. وعلى هذا فقوله: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) مسوق لبيان أن أعمالهم المزينة لهم لا تنفعهم في استخلاصهم من الظلمات التى هم فيها، وقوله: (وكذلك جعلنا في كل قرية) الخ، مسوق لبيان أن أعمالهم ومكرهم لا يضر غيرهم إنما وقع مكرهم على أنفسهم وما يشعرون لمكان ما غمرهم من الظلمة. وقيل: معنى التشبيه في الاية أن مثل ذلك الذى قصصنا عليك زين للكافرين عملهم، ومثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، وجعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بهم إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لان في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الاول باللطف والثانى بالتمكين من المكر (انتهى). ولا يخلو من بعد من السياق. والجعل في قوله: (جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) كالجعل في قوله: (وجعلنا له نورا) فالانسب أنه بمعنى الخلق، والمعنى: خلقنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وكون مكرهم غاية للخلقة وغرضا للجعل نظير كون دخول النار غرضا إلهيا في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس) (الاعراف: 179) وقد مر الكلام في معنى ذلك في مواضع من هذا الكتاب. وإنما خص بالذكر أكابر مجرميها لان المطلوب بيان رجوع المكر إلى ما كره، والمكر بالله وآياته إنما، يصدر منهم وأما أصاغر المجرمين وهم العامة من الناس فإنما هم أتباع وأذناب. وأما قوله: (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) فذلك أن المكر هو العمل الذى يستبطن شرا وضرا يعود إلى الممكور به فيفسد به غرضه المطلوب ويضل به سعيه ويبطل نجاح عمله، ولا غرض لله سبحانه في دعوته الدينية، ولا نفع فيها إلا ما

[ 341 ]

يعود إلى نفس المدعوين فلو مكر الانسان مكرا بالله وآياته ليفسد بذلك الغرض من الدعوة ويمنع عن نجاح السعي فيها فإنما مكر بنفسه من حيث لا يشعر: واستضر بذلك هو نفسه دون ربه. قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن - إلى قوله - رسالته) قولهم: (لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) يريدون به أن يؤتوا نفس الرسالة بماها من مواد الدعوة الدينية دون مجرد المعارف الدينية من أصول وفروع وإلا كان اللفظ المناسب له أن يقال: (مثل ما أوتى أنبياء الله) أو ما يشاكل ذلك كقولهم: (لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية) (البقرة: 118) وقولهم: (لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) (الفرقان: 21). فمرادهم أنا لن نؤمن حتى نؤتى الرسالة كما أوتيها الرسل، وفيه شئ من الاستهزاء فإنهم ما كانوا قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم: (لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (الزخرف: 31) كما أن جوابه نظير جوابه وهو قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك) (الزخرف: 32) كقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). ومما تقدم يظهر أن الضمير في قوله: (وإذا جاءتهم آية قالوا) الخ، عائد إلى (أكابر مجرميها) في الاية السابقة، إذلو رجع إلى عامة المشركين لغى قولهم: (حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) إذ لا معنى لرسالة جميع الناس حيث لا أحد يرسلون إليه، ولم يقع قوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) موقعه بل كان حق الجواب أنه لغو من القول كما عرفت. ويؤيده الوعيد الذى في ذيل الاية: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) حيث وصفهم بالاجرام وعلل الوعيد بمكرهم، ولم ينسب المكر في الاية السابقة إلا إلى أكابر مجرميها، والصغار الهوان والذلة. قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الشرح هو البسط وقد ذكر الراغب في مفرداته أن أصله بسط اللحم ونحوه، وشرح الصدر الذى يعد في الكلام وعاء للعلم والعرفان هو التوسعة فيه بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقة ولا يدفع كلمة الحق إذا ألقيت إليه كما يدل عليه ما ذكر في وصف الاضلال بالمقابلة وهو

[ 342 ]

قوله: (يجعل صدره ضيقا حرجا) الخ، فمن شرح الله صدره للاسلام وهو التسليم لله سبحانه فقد بسط صدره ووسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حق أو عمل دينى صالح فلا يلقى إليه قول حق إلا وعاه ولا عمل صالح إلا أخذ به وليس إلا أن لعين بصيرته نورا يقع على الاعتقاد الحق فينوره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين قلبه فلا يميز حقا من باطل ولا صدقا من كذب قال تعالى: (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور) (الحج: 46). وقد بين تعالى شرح الصدر بهذا البيان في قوله: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) فوصفه فعرفه بأن صاحبه راكب نور من الله يشرق قدامه في مسيره ثم عرفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله ولا يدفعه لقسوة ثم قال: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) (الزمر: 23) فذكر لين القلب إلى ذكر الله وطوعه للحق وأفاد أن ذلك هو الهدى الالهى الذى يهدى به من يشاء، وعند ذلك يرجع الايتان أعنى آية الزمر والاية التى نحن فيها إلى معنى واحد وهو أن الله سبحانه عند هدايته عبدا من عباده يبسط صدره فيسع كل اعتقاد حق وعمل صالح ويقبله بلين ولا يدفعه بقسوة وهو نوع من النور المعنوي الذى ينور القول الحق والعمل الصالح وينصر صاحبه فيمسك بما نوره فهذا معرف يعرف به الهداية الالهية. ومن هنا يظهر أن الاية أعنى قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) بمنزلة بيان آخر لقوله: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) التفريع الذى في قوله. (فمن يرد الله) الخ، من قبيل تفريع أحد البيانين على الاخر بدعوى أنه نتيجته كأن التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتبة وفرعا متفرعا على الاخر، وهو عناية لطيفة. والمعنى: فإذا كان من أحياه الله بعد ما كان ميتا على هذا الصفة وهى أنه على نور من ربه يستضئ به لواجب الاعتقاد والعمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسع صدره لان يسلم لربه ولا يستنكف عن عبادته فالاسلام نور من الله، والمسلمون لربهم على نور من ربهم.

[ 343 ]

قوله تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا) إلى آخر الاية، الاضلال مقابل الهداية، ولذا كان أثره مقابلا لاثرها وهو التضييق المقابل للشرح والتوسعة وأثره أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق، والصدق، يتحرج عن دخولهما فيه، ولذا أردف كون الصدر ضيقا بكونه حرجا. والحرج على ما في المجمع أضيق الضيق، وقال في المفردات: أصل الحرج والحراج مجتمع الشئ وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللاثم حرج. انتهى. فقوله: (حرجا كأنما يصعد في السماء) في محل التفسير لقوله: (ضيقا) وإشارة إلى أن ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيق والتحرج الذى يشاهد من الظروف والاوعية إذا أريد إدخال ما هو أعظم منها ووضعه فيها. وقوله: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) إعطاء ضابط كلى في إضلال الذين لا يؤمنون إنهم يفقدون حال التسليم لله والانقياد للحق، وقد أطلق عدم الايمان وإن كان مورد الايات عدم الايمان بالله سبحانه وهو الشرك به لكن الذى سبق من البيان في الاية يشمل عدم الايمان بالله وهو الشرك، وعدم الايمان بآيات الله وهو رد بعض ما أنزله الله من المعارف والاحكام فقد دل على ذلك كله بقوله: (يشرح صدره للاسلام) الخ، وبقوله سابقا: (وجعلنا له نورا يمشى به) إلخ، وقوله: (يجعل صدره ضيقا حرجا) إلخ، وبقوله سابقا: (في الظلمات ليس بخارج منها). وقد سمى في الاية الضلال الذى يساوق عدم الايمان رجسا والرجس هو القذر غير إنه اعتبر فيه نوعا من الاستعلاء الدال عليه قوله: (على الذين لا يؤمنون) كأن الرجس يعلوهم ويحيط بهم فيحول بينهم وبين غيرهم فيتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر. وقد استدل بالاية على أن الهدى والضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى وهو خطأ فإن الاية - كما عرفت - في مقام بيان حقيقة الهدى والضلال اللذين من الله ونوع تعريف لهما وتحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه وانتفائهما عن غيره كما هو المدعى وهو ظاهر. ونظير ذلك ما ذكره بعضهم: أن الاية كما تدل بلفظها على قولنا: إن الهداية

[ 344 ]

والضلال من الله، كذلك تدل بلفظها على الدليل العقلي القاطع في هذه المسأله. بيانه: أن العبد قادر على الايمان والكفر معا على حد سواء فيمتنع صدرأحدهما عنه بدلا من الاخر إلا إذا اقترن بمرجح يستدعى صدور ما يرجح به وهو الداعي القلبى الذى ليس إلا العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة من غير ضرر زائد أو مفسدة راجحة، وقد بينا بالدليل أن حصول هذه الدواعى في القلب إنما يكون من الله تعالى، وأن مجموع القدره والداعى يوجب العمل. إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل صدور الايمان من العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد رجحان الايمان، ومعه يحصل من القلب ميل إليه ومن النفس رغبة فيه وهذا هو انشراح الصدر، ويمتنع الكفر إلا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب، ويحصل حينئذ النفرة عنه والاشمئزاز منه وهو المراد بجعل القلب ضيقا حرجا فصار تقدير الاية: أن من أراد الله منه الايمان قوى دواعيه إليه، ومن أراد منه الكفرقوى صوارفه عن الايمان وقوى دواعيه إلى الكفر، ولما ثبت بالدليل العقلي أن الامر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية. انتهى ملخصا. وفيه أولا: أن انتساب الشئ إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده ومقدماته لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى وإلا أوجب ذلك بطلان قانون العلية العام وببطلانه يبطل القضاء العقلي من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية والضلال إلى غيره تعالى استنادا حقيقيا في حين أنهما يستندان إليه تعالى استنادا حقيقيا من غير تناقض. وثانيا: أن الذى ذكرته الاية من صنعه تعالى في موردى هدايته وإضلاله هو سعة القلب وضيقة، وهما غير رغبة النفس ونفرته البتة فالاية أجنبية عما ذكره أصلا، ومجرد استلزام إرادة الفعل من العبد رغبته وكراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من سعة القلب وضيقة الارادة والكراهة بالنسبة إلى الاعمال، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد المقارنين مكان الاخر ومن عجيب الكلام قوله: إن انطباق الدليل العقلي الذى إقامة بزعمه على الاية يوجب دلالة لفظ الاية عليه. وثالثا: أنك عرفت أن الاية إنما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا أراد هدايته أو ضلالته، وأما أن كل هداية أو ضلالة فهى من الله تعالى دون غيره فذلك

[ 345 ]

أمر أجنبي عن غرض الاية فالاية لا دلالة لها على أن الهداية والضلال من الله سبحانه وإن كان ذلك هو الحق. قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما) إلى آخر الاية الاشارة إلى ما تقدم بيانه في الاية السابقة من صنعه عند الهداية والاضلال وقد تقدم معنى الصراط واستقامته، وقد بين تعالى في الاية أن ما ذكره من شرح الصدر للاسلام إذا أراد الهداية ومن جعل الصدر ضيقا حرجا عند إرادة الاضلال هو صراطه المستقيم وسنته الجارية التى لا تختلف ولا تتخلف فما من مؤمن إلا وهو منشرح الصدر للاسلام بالله وغير المؤمن بالعكس من ذلك. فقوله: (وهذا صراط ربك مستقيما) بيان ثان وتأكيد لكون المعرف المذكور في الاية السابقة معرفا جامعا مانعا للهداية والضلالة ثم أكد سبحانه البيان بقوله: (قد فصلنا الايات لقوم يذكرون) أي إن القول حق بين عند من تذكر ورجع إلى ما أودعه الله في نفسه من المعارف الفطرية والعقائد الاولية التى بتذكرها يهتدى الانسان إلى معرفة كل حق وتمييزه من الباطل، والبيان مع ذلك لله سبحانه فإنه هو الذى يهدى الانسان إلى النتيجة بعد هدايته إلى الحجة. قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) المراد بالسلام هو معناه اللغوى - على ما يعطيه ظاهر السياق - وهو التعري من الافات الظاهرة والباطنه، ودار السلام هي المحل الذى لا آفة تهدد من حل فيه من موت وعاهة ومرض وفقر وأى عدم وفقد آخر وغم وحزن، وهذه هي الجنة الموعودة ولا سيما بالنظر إلى تقييده بقوله: (عند ربهم). نعم أولياء الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام لانهم يرون الملك لله فلا يملكون شيئا حتى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى: (إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (يونس: 62) وهم لا شغل لهم إلا بربهم خلوا به في حياتهم فلهم دار السلام عند ربهم - وهم قاطنون في هذه الدنيا - وهو وليهم بما كانوا يعملون وهو سيرهم في الحياة بنور الهداية الالهية الذى جعله في قلوبهم، ونور به أبصارهم وبصائرهم.

[ 346 ]

وربما قيل: المراد بالسلام هو الله، وداره الجنة، والسياق يأباه وضمائر الجمع في الاية راجعة إلى القوم في قوله: (لقوم يذكرون) - على ما قيل - لانه أقرب المراجع لرجوعها إليها غير أن التدبر في الايات يؤيد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما أن الكلام فيهم والايات مسوقة لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب أن يعود إليهم، وأما القوم المتذكرون فإنما ذكروا ودخلوا في غرض الكلام بالتبع.

(كلام في معنى الهداية الالهية)

 الهداية بالمعنى الذى نعرفه كيفما اتخذت هي من العناوين التى تعنون بها الافعال وتتصف بها، تقول هديت فلانا إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته الطريق الذى ينتهى إليه، وهذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق، أو أخذت بيده وصاحبته في الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة، وهذه هي الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب. فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو اقسام الافعال التى تأتى بها من ذكر الطريق أو إراءته أو المشى مع المهدى وأما الهداية فهى عنوان للفعل يدور مدار القصد كما أن ما يأتيه المهدى من الفعل في إثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من الهداية ويسمى لاجله هاديا وهو أحد الاسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله تعالى كالرحمة والرزق ونحوهما. وهدايته تعالى نوعان: أحدهما الهداية التكوينية وهى التى تتعلق بالامور التكوينية كهدايته كل نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الذى خلق لاجله وإلى أفعاله التى كتبت له، وهدايته كل شخص من أشخاص الخليقة إلى الامر المقدر له والاجل المضروب لوجوده قال تعالى: (الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه: 50) وقال: (الذى خلق فسوى، والذى قدر فهدى) (الاعلى: 3). والنوع الثاني: الهداية التشريعية وهى التى تتعلق بالامور التشريعية من الاعتقادات الحقة والاعمال الصالحة التى وضعها الله سبحانه للامر والنهى والبعث والزجر ووعد على الاخذ بها ثوابا وأو عد على تركها عقابا.

[ 347 ]

ومن هذه الهداية ما هي إراءة الطريق كما في قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (الدهر: 3). ومنها ما هي بمعنى الايصال إلى المطلوب كما في قوله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه) (الاعراف: 176) وقد عرف الله سبحانه هذه الهداية تعريفا بقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) (الاية: 125) فهى انبساط خاص في القلب يعى به القول الحق والعمل الصالح من غير أن يتضيق، به وتهيؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لامر الله ولا يتحرج عن حكمه. وإلى هذا المعنى يشير تعالى بقوله: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه - إلى أن قال - ذلك هدى الله يهدى به من يشاء) (الزمر: 23) وقد وصفه في الاية بالنور لانه ينجلى به للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحق القول وصدق العمل عما يجب عليه أن لا يعيه ولا يقبله وهو باطل القول وفاسد العمل. وقد رسم الله سبحانه لهذه الهداية رسما آخر وهو ما في قوله عقيب ذكره هدايته أنبياءه الكرام وما خصهم به من النعم العظام: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده) (الانعام: 88) فقد أوضحنا في تفسير الاية أن الاية تدل على أن من خاصة الهداية الالهية أنها تورد المهتدين بها صراطا مستقيما وطريقا سويا لا تخلف فيه ولا اختلاف. فلا بعض أجزاء صراطه الذى هو دينه بما فيه من المعارف والشرائع يناقض البعض الاخر لما أن الجميع يمثل التوحيد الخالص الذى ليس إلا حقيقة ثابتة واحدة، ولما أن كلها مبنية على الفطرة الالهية التى لا تخطئ في حكمها ولا تتبدل في نفسها ولا في مقتضياتها. ولا بعض الراكبين عليه السائرين فيه يالفون بعضا آخر فالذي يدعو إليه نبى من أنبياء الله هو الذى يدعو إليه جميعهم، والذى يندب إليه خاتمهم وآخرهم هو الذى يندب إليه آدمهم وأولهم من غير أي فرق إلا من حيث الاجمال والتفصيل.

(بحث روائي)

 في الكافي بإسناده عن زيد قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول الله تبارك وتعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) فقال: ميت لا

[ 348 ]

يعرف شيئا (نورا يمشى به في الناس) إماما يأتم به (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) قال: الذى لا يعرف الامام. أقول: وهو من قبيل الجرى والانطباق فسياق الاية يأبى إلا أن تكون الحياة هو الايمان والنور هو الهداية الالهية إلى القول الحق والعمل الصالح. وقد روى السيوطي في الدر المنثورعن زيد بن أسلم أن الاية نزلت في عمار بن ياسر، وروى أيضا عن ابن عباس وزيد بن أسلم أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبى جهل بن هشام والسياق يأبى كون الاية خاصة. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت هذه الاية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) قال: إذا أدخل الله النور القلب انشرح وانفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها ؟ قال: الانابة إلى دار الخلود - والتجافى عن دارالغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت. أقول: ورواه أيضا عدة من المفسرين عن جمع من التابعين كأبى جعفر المدائني والفضل والحسن وعبد الله بن السور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي العيون بإسناده عن حمدان بن سليمان النيشابوري قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) قال: فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنته ودار كرامته في الاخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعد من ثوابه حتى يطمئن إاليه، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الاخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره (1) ويضطرب عن اعتقاده حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. أقول: وفي الحديث نكات حسنة تشير إلى ما شرحناه في البيان المتقدم. وفي الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال: إن

_________________________________

(1) ايمانه ظ. (*)

[ 349 ]

الله عزوجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، وفتح مسامع قلبه، ووكل به ملكا يسدده وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه، ووكل به شيطانا يضله ثم تلا هذه الاية: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. أقول: ورواه العياشي في التفسير مرسلا والصدوق في التوحيد مسندا عنه عليه السلام. وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن القلب يتلجلج في الجوف يطلب الحق فإذا جاء به اطمأن وقر ثم تلا: (فمن يرد الله أن يهديه - إلى قوله - في السماء). أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن أبى جميلة عن عبد الله بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن خيثمة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ثم ضم أصابعه ثم قرأ هذه الاية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره في الاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا). قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام لموسى بن أشيم: أتدرى ما الحرج ؟ قال: قلت: لا فقال (1) بيده وضم أصابعه ؟ كالشئ المصمت - لا يدخل فيه شئ ولا يخرج منه شئ. أقول: وروى ما يقرب منه في تفسير البرهان عن الصدوق وروى صدر الحديث البرقى في المحاسن عن خيثمة عن أبى جعفر عليه السلام وما فسر به الحرج يناسب ما تقدم نقله من الراغب. وفي الاختصاص بإسناده عن آدم بن الحرقال: سأل موسى بن أشيم أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر عن آية في كتاب الله فخبره بها فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك الاية بعينها فخبره بخلاف ما خبر به موسى بن أشيم. ثم قال ابن أشيم: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبى يشرح بالسكاكين

_________________________________

(1) كأن القو ل مضمن معنى الايماء والمعنى: أومأ بيده وضم اصابعه قائلا: كاشئ الصمت الخ. (*)

[ 350 ]

وقلت: تركنا أبا قتادة لا يخطئ في الحرف الواحد: الواو وشبهها، وجئت لمن يخطئ هذا الخطا كله فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الاية بعينها فخبر بخلاف ما خبرني وخلاف الذى خبر به الذى سأله بعدى فتجلى عنى وعلمت أن ذلك بعمد فحدثت نفسي بشئ. فالتفت إلى أبو عبد الله عليه السلام فقال: يا بن أشيم لا تفعل كذا وكذا فبان حديثى عن الامر الذى حدثت به نفسي ثم قال: يا بن أشيم إن الله فوض إلى سليمان بن داود فقال: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وفوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد فوض إلينا يا بن أشيم فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا، أتدرى ما الحرج: فقلت لا، فقال بيده وضم أصابعه: هو الشئ المصمت الذى لا يخرج منه شئ ولا يدخل فيه شئ. أقول: مسألة التفويض إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من ولده وإن وردت في تفسيره عدة أحاديث لكن الذى يدل عليه هذا الحديث معناه إنباؤهم من العلم بكتاب الله ما لا ينحصر في وجه ووجهين وتسليطهم عليه بالاذن في بث ما شاءوا منها، يستفاد ذلك من تطبيق ما ذكره عليه السلام في أمر سليمان بن داود من التفويض المستفاد من الاية الكريمة، ولا يبعد أن يكون المراد من تلاوة الاية الاشارة إلى ذلك، وإن كان الظاهر أن المراد به بيان حال القلوب بمناسبة ما ابتلى به موسى بن أشيم من اضطراب القلب وقلقه. وفي تفسير القمى في الاية قال: قال: مثل شجرة حولها أشجار كثيرة فلا تقدر أن تلقى أغصانها يمنة ويسرة فتمر في السماء ويستمر حرجه. أقول: وذلك أيضا يناسب ما فسر به الراغب معنى الحرج. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) قال: هو الشك. أقول: وهو من قبيل التطبيق وبيان بعض المصاديق.

[ 351 ]

* * *

ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا اجلنا الذى أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم - 128. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضنا بما كانوا يكسبون - 129. يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتى وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحيوه الدنيا وشهدوا على أنفسهم إنهم كانوا كافرين - 130. ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون - 131. ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون - 132. وربك الغنى ذو الرحمة أن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشاكم من ذرية قوم آخرين - 133. إن ما توعدون لات وما أنتم بمعجزين - 134. قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبه الدار إنه لا يفلح الظالمون - 135.

(بيان)

 الايات متصلة بما قبلها وهى تفسر معنى ولاية بعض الظالمين بعضا المجعولة من الله سبحانه كتولية الشياطين للكافرين، وأن ذلك ليس من الظلم في شئ فإنهم سيعترفون

[ 352 ]

يوم القيامة أنهم إنما أشركوا واقترفوا المعاصي بسوء اختيارهم واغترارهم بالحياة الدنيا بعد البيان الالهى وإنذارهم باليوم الاخر حتى تلبسوا بالظلم، والظالمون لا يفلحون. فالقضاء الالهى لا يسلب عنهم الاختيار الذى عليه مدار المؤاخذة والمجازاة، ولا الاختيار الانساني الذى عليه مدار السعادة والشقاوة يزاحم القضاء الالهى فمتابعة الانسان أولياء من الشياطين باختياره وإرادته هي المقضية لا أن القضاء يبطل اختيار الانسان في فعله أولا ثم يضطره إلى اتباع الشياطين فيجبره الله أو يجبره الشياطين على سلوك طريق الشقاء وانتخاب الشرك واقتراف الذنوب والاثام بل الله سبحانه غنى عنهم لا حاجة له إلى شئ مما بأيديهم حتى يظلمهم لاجله، وإنما خلقهم برحمته وحثهم عليها لكنهم ظلموا فلم يفلحوا. قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن - إلى قوله - أجلت لنا) يقال: أكثر من الشئ أو الفعل واستكثر منه إذا أتى بالكثير، واستكثار الجن من الانس ليس من جهة أعيانهم فإن الاتى بأعيانهم في الدنيا والمحضر لهم يوم القيامة هو الله سبحانه، وإنما للشياطين الاستكثار مما هم مسلطون عليه وهو إغواء الانس من طريق ولايتهم عليهم وليست بولاية إجبار واضطرار بل من قبيل التعامل من الطرفين يتبع التابع المتبوع ابتغاء لما يرى في اتباعه من الفائدة، ويتولى المتبوع أمر التابع ابتغاء لما يستدر من النفع في ولايته عليه وإدارة شؤونه، فللجن نوع التذاذ من إغواء الانس والولاية عليهم، وللانس نوع التذاذ من اتباع الوساوس والتسويلات ليستدروا بذلك اللذائذ المادية والتمتعات النفسانية. وهذا هو الذى يعترف به أولياء الجن من الانس بقولهم: ربنا استمتع بعضنا ببعض فتمتعنا بوساوسهم وتسويلاتهم من متاع الدنيا وزخارفها، وتمتعوا منا بما كانت تشتهيه أنفسهم حتى آل أمرنا ما آل إليه. ومن هنا يظهر - كما يعطيه السياق - أن المراد بالاجل في قولهم: (وبلغنا أجلنا الذى أجلت لنا) الحد الذى قدر لوجودهم والدرجة التى حصلت لهم من أعمالهم دون الوقت الذى ينتهى إليه أعمارهم وبعبارة اخرى آخر درجة نالوها من فعلية الوجود لا الساعة التى ينتهى إليها حياتهم فيرجع المعنى إلى أن بعضنا استمتع ببعض بسوء اختياره وسيئ علمه فبلغنا بذلك السير الاختياري ما قدرت لنا من الاجل، وهو أنا ظالمون كافرون.

[ 353 ]

فمعنى الاية: ويوم يحشرهم جميعا ليتم أمر الحجاج عليهم فيقول للجن: يا معشر الجن قد استكثرتم من ولاية الانس وإغوائهم، وقال أولياؤهم من الانس في الاعتراف بحقيقة الامر: ربنا استمتع بعضنا ببعض فاستمتعنا معشر الانس من الجن بأن تمتعنا بزخارف الدنيا وما تهواه أنفسنا بتسويلاتهم، وتمتع الجن منا باتباع ما كانوا يلقون إلينا من الوساوس وكنا على ذلك حتى بلغنا آخر ما بلغنامن فعلية الحياة الشقية ودرجة العمل. فهذا اعتراف منهم بأن الاجل وإن كان بتأجيل الله سبحانه لكنهم إنما بلغوه بطيهم طريق تمتع البعض، من البعض، وهو طريق سلكوه باختيارهم. ولا يعبد أن يستظهر من هنا أن المراد بالجن الشياطين الذين يوسوسون في صدور الناس من الجن. قوله تعالى: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) الخ، هذا جواب منه سبحانه وقضاء عليهم، ومتن ما قضى به قوله: (النار مثواكم) الخ. والمثوى اسم مكان من قولهم: ثوى يثوى ثواء أي أقام مع استقرار فقوله: النار مثواكم أي مقامكم الذى تستقرون فيه من غير خروج ولذا أكده بقوله ؟ (خالدين فيها) وقوله: (إلا ما شاء الله) استثناء يفيد أن القدرة الالهية باقية مع ذلك على ما كانت فله مع ذلك أن يخرجكم منها وإن كان لا يفعل. ثم تمم الاية بقوله: (إن ربك حكيم عليم) وهو يفيد تعليل البيان الواقع في الاية والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون) فيه بيان أن جعله تعالى بعض الظالمين أولياء يجرى على الحقيقة المبينة في الاية السابقة، وهو أن التابع يستمتع المتبوع من طريق تسويله وإغوائه فيكسب بذلك الذنوب والاثام حتى يجعل الله المتبوع وليا عليه ويدخل التابع في ولايته. وقوله: (بما كانوا يكسبون) الباء للسببية أو المقابلة، وهو يفيد أن هذه التولية إنما هي بنحو المجازاة يجازى بها الظالمين في قبال ما اكتسبوه من المظالم لا تولية ابتدائية من غير ذنب سابق نظير ما في قوله: (يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (البقرة: 26). وقد التفت في الاية من الغيبة إلى التكلم ليختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان هذه الحقيقة فإنهم غير لائقين بتلقيها وإنما التفت إلى التكلم لان التكلم

[ 354 ]

هو المناسب للمسارة هذا وفي الايات موارد أخر من الالتفات لا يخفى وجهها على المتدبر. قوله تعالى: (يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم) إلى آخر الاية. في هذا الخطاب دفع دخل يمكن أن يتوجه إلى الحجة السابقة المأخوذة من اعترافهم بأنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه من ولاية الشياطين بسوء اختيارهم. وهو أنهم وإن ابتلوا بذلك من طريق الاختيار لكنهم لو يكونوا يعلمون أن هذه المعاصي والتمتعات سوف توردهم مورد الهلكة وتسجل عليهم ولاية الظالمين والشياطين ويخسرهم بالشقاء الذى لا سعادة بعده أبدا فهم كانوا على غفلة من ذلك وإن كانوا على علم في الجملة بمساءة أعمالهم وشناعة أفعالهم ومؤاخذة الغافل ظلم. فدفعه الله سبحانه بهذا الخطاب الذى يسألهم فيه عن إتيان الرسل وذكرهم آيات الله وإنذارهم بيوم الجمع والحساب فلما شهدوا على أنفسهم بالكفر بما جاء به الرسل تمت الكلمة ولزمت الحجة. فمعنى الاية: أنا نخاطبهم جميعا فنقول لهم: يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم أرسلناهم إليكم يقصون عليكم آياتى التى تدل على الدين الحق، وينذرونكم لقاء يومكم هذا وهو يوم القيامة وإن الله سيوقفكم موقف المسألة فيحاسبكم على اعمالكم ثم يجازيكم بما عملتم إن خيرافخيرا وإن شرا فشرا فإذا سألناهم عن ذلك أجابونا وقالوا: شهدنا على أنفسنا أن الرسل أتونا وقصوا علينا آياتك، وأنذرونا لقاء يومنا هذا، وشهدوا على أنفسهم إنهم كانوا كافرين بما جاء به الرسل رادين عليهم عن علم وما كانوا غافلين. وبذلك تبين أولا أن قوله: (منكم لا يدل على أزيد من كون الرسل من جنس المخاطبين وهم مجموع الجن والانس لا من غيرهم كالملائكة حتى يتوحشوا منهم ولا يستأنسوا بهم ولا يفقهوا قولهم، وأما أن من كل من طائفتي الجن والانس رسلا منهم فلا دلالة في الاية على ذلك. وثانيا: أن تكرار لفظ الشهادة إنما هو لاختلاف متعلقها فالمراد بالشهادة الاولى الشهادة بإتيان الرسل وقصهم آيات الله وإنذارهم بيوم القيامة، وبالشهادة الثانية الشهادة بكفرهم بما جاء به الرسل من غير غفلة.

[ 355 ]

وأما ما قيل: أن المراد بالشهادة الاولى الشهادة بالكفر والمعصية حال التكليف، وبالثانية الشهادة في الاخرة على كونهم كافرين في الدنيا فهو غير مفيد لان الشهادتين بالاخرة راجعتان إلى شهادة واحدة بالكفر في الدنيا فيبقى تكرار اللفظ على حاجته إلى وجه يقتضيه. وثالثا: أن قوله: (وغرتهم الحياة الدنيا) معترضة وضعت ليندفع بها ما يمكن أن يختلج ببال السامع وهو أنهم إذ كانوا يستمتع بعضهم من بعض، وكانوا غير غافلين عن إتيان الرسل وبيانهم الايات وإنذارهم باليوم الاخر فما بالهم وردوا مورد التهلكة وأهلكوا أنفسهم عن علم واختيار ؟ فاجيب بأن الحياة الدنيا غرتهم كلما لاح لقلوبهم شئ من الحق وبرقت فيها بارقة من الخير هجمت عليهم الاهواء وأسدلت عليهم ظلمات الرذائل حتى ضربت حجابا بينهم وبين الحق وأعمت أبصارهم عن رؤيته ومشاهدته. قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الاشارة بقوله: (ذلك) إلى مضمون ما تقدم من البيان - على ما يعطيه السياق - وقوله: (أن لم يكن) بتقدير لام التعليل فالمعنى أن الذى بيناه من إرسال الرسل والتذكير بالايات والانذار بيوم القيامة إنما هو لان الله سبحانه ليس من سنته أن يهلك أهل القرى ويوردهم مورد السخط والعذاب وهم غافلون عما يريده منهم من الطاعة ويفعله بهم على تقدير المخالفة، وذلك ظلم منه تعالى. فهم وإن نزلوا منزل الشقاء بتأجيل الله سبحانه وقضائه وجعله بعضهم أولياء بعض لكنه تعالى لم يسلبهم القدرة على الطاعة ولم يبطل منهم الاختيار فاختاروا الشرك والمعصية ثم أرسل إليهم رسلا منهم يقصون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم الحساب فكفروا بهم ومكثوا على بغيهم وعتوهم فجزاهم بولاية بعضهم بعضا وقضى عليهم بأن النار مثواهم فهم أنفسهم استدعوا الهلاك عن علم وإرادة ولم يهلكم الله وهم غافلون حتى يكون يظلمهم فهو الحكم العدل تبارك اسمه. وقد بان بذلك أولا: أن المراد بقوله: (لم يكن ربك نفى أن يكون ذلك من سنته تعالى فإنه تعالى لا يفعل شيئا إلا بسنة جارية وصراط مستقيم، قال تعالى: (إن ربى على صراط مستقيم) (هود: 56) وفي اللفظ دلالة على ذلك. وثانيا: أن المراد بإهلاك القرى القضاء بشقائهم في الدنيا وعذابهم في الاخرة على

[ 356 ]

ما يفيده السياق دون الهلاك بإنزال العذاب في الدنيا. وثالثا: أن المراد بالظلم في الاية هو الظلم منه تعالى لو أهلكهم وهم غافلون دون الظلم من أهل القرى. قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) متعلق الكل محذوف وهو والضمير الراجع إلى الطائفتين، والمعنى: ولكل طائفة من طائفتي الجن والانس درجات من أعمالهم فإن الاعمال مختلفة وباختلافها يختلف ما توجبه من الدرجات وما ربك بغافل عن أعمالهم بيان قوله تعالى: (وربك الغنى ذو الرحمة إلى) آخر الاية. بيان عام لنفى الظلم عنه تعالى في الخلقة. وتوضيحه: أن الظلم وهو وضع الشئ في غير موضعه الذى ينبغى أن يوضع عليه وبعبارة أخرى إبطال حق إنما يتحقق من الظلم بأخذ شئ أو تركه لاحد أمرين إما لحاجة منه إليه بوجه من الوجوه كان يعود إليه إو إلى من يهواه منه نفع أو يندفع عنه أو عما يعود إليه بذلك ضرر، وإما لا لحاجة منه إليه بل لشقوة باطنية وقسوة نفسانية لا يعبأ بها بما يقاسيه المظلوم من المصيبة ويكابده من المحنة، وليس ذلك منه لحاجة بل من آثار الملكة المشومة. والله سبحانه منزه من هاتين الصفتين السيئتين فهو الغنى الذى لا تمسه حاجة ولا يعرضه فقر، وذو الرحمة المطلقة التى ينعم بها على كل شئ بما يليق بحاله فلا يظلم سبحانه أحدا، وهذا هو الذى يدل عليه قوله: (وربك الغنى ذو الرحمة) الخ، ومعنى الاية: وربك هو الذى يوصف بالغنى المطلق الذى لا فقر معه ولا حاجة، وبالرحمة المطلقة التى وسعت كل شئ ومقتضى ذلك أنه قادر على أن يذهبكم بغناه ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق برحمته والشاهد عليه أنه أنشأكم برحمته من ذرية قوم آخرين أذهبهم بغناه عنهم. وفي قوله: (ما يشاء) دون أن يقال: من يشاء، إبهام للدلالة على سعة القدرة. قوله تعالى: (إنما توعدون لات وما أنتم بمعجزين) أي الامر الالهى من البعث والجزاء وهو الذى توعدون من طريق الوحى لات البتة وما أنتم بمعجزين لله حتى تمنعوا

[ 357 ]

شيئا من ذلك أن يتحقق ففى الكلام تأكيد للوعد والوعيد السابقين. قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل) إلى آخر الاية. المكانة هي المنزلة والحالة التى يستقر عليها الشئ، وعاقبة الشئ ما ينتهى إليه، وهى في الاصل مصدر كالعقبى على ما قيل، وقولهم: كانت له عاقبه الدار كناية عن نجاحه في سعيه وتمكنه مما قصده، وفي الاية انعطاف إلى ما بدئ به الكلام، وهو قوله تعالى قبل عدة آيات: (اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين). والمعنى: قل للمشركين: يا قوم اعملوا على منزلتكم وحالتكم التى أنتم عليها من الشرك والكفر - وفيه تهديد بالامر - ودوموا على ما أنتم عليه من الظلم إنى عامل ومقيم على ما أنعم عليه من الايمان والدعوة إلى التوحيد فسوف تعلمون من يسعد وينجح في عمله، وأنا الناجح دونكم فإنكم ظالمون بشرككم والظالمون لا يفلحون في ظلمهم. وربما قيل: إن قوله (إنى عامل) إخبار عن الله سبحانه أنه يعمل بما وعد به من البعث والجزاء، وهو فاسد يدفعه سياق قوله: (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار).

(بحث روائي)

 في تفسير القمى في قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) الاية، قال: قال: نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى جعفر عليه السلام قال: ماأانتصر الله من ظالم إلا بظالم وذلك قول الله عزوجل ؟ (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا). أقول: دلالة الاية على ما في الرواية من الحصر غير واضحة. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى الدنيا في كتاب الامل وابن أبى حاتم والبيهقي في الشعب عن أبى سعيد الخدرى قال: اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إلا تعجبون من أسامة المشترى إلى شهر ؟ أن أسامة لطويل الامل، والذى فسى بيده ما طرفت عيناى وظننت أن شفرى يلتقيان حتى أقبض، ولا

[ 358 ]

رفعت طرفي وظننت أنى واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة فظننت أنى أسبغها حتى أغص بالموت يا بنى آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم في الموتى، والذى نفسي بيده إن ما توعدون لات وما أنتم بمعجزين

* * *

وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون - 136. - وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون - 137. وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون - 138. وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميته فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم - 139. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين - 110. وهو الذى أنشا جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا

[ 359 ]

تسرفوا إنه لا يحب المسرفين - 111. ومن الانعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين - 112. ثمانية أزواج من الضان اثنين ومن المعز اثنين قل ء آلذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الانثيين نبئونى بعلم إن كنتم صادقين - 123. ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين قل ء آلذكرين حرم أم الانثيين أما اشتملت عليه أرحام الانثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى القوم الظالمين - 111. قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميته أو دما مسفوحا أو لحم خنزيز فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم - 115. وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون - 116. فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين - 147. سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه

[ 360 ]

لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون - 148. قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين - 149. قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالاخرة وهم بربهم يعدلون - 150.

(بيان)

 الايات تحاج المشركين في عدة من الاحكام في الاطعمة وغيرها دائرة بين المشركين وتذكر حكم الله فيها. قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا) إلى آخر الاية، الذرء الايجاد على وجه الاختراع وكأن الاصل في معناه الظهور، والحرث الزرع، وقوله: (بزعمهم) في قوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم) نوع من التنزيه كقوله: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه) (الانبياء: 26). والزعم الاعتقاد ويستعمل غالبا فيما لا يطابق الواقع منه. وقوله: (وهذا لشركائنا) أضاف الشركاء إليهم لانهم هم الذين أثبتوها واعتقدوا بها نظير أئمة الكفر وأئمتهم وأوليائهم، وقيل: أضيفت الشركاء إليهم لانهم كانوا يجعلون بعض أموالهم لهم فيتخذونهم شركاء لانفسهم. وكيف كان فمجموع الجملتين أعنى قوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) من تفريع التفصيل على الاجمال يفسر به جعلهم لله نصيبا من خلقه، وفيه توطئة وتمهيد لتفريع حكم آخر عليه، وهو الذى يذكره في قوله: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. وإذ كان هذا الحكم على بطلانه من أصله وكونه افتراء على الله لا يخلو عن إزراء بساحته تعالى بتغليب جانب الاصنام على جانبه قبحه بقوله: (ساء ما يحكمون) ومعنى الاية ظاهر.

[ 361 ]

قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم (إلى آخر الاية. قرأ غير ابن عامر (زين) بفتح الزاى فعل معلوم، و (قتل) بنصب اللام مفعول (زين) وهو مضاف إلى (أولادهم) بالجر وهو مفعول (قتل) أضيف إليه، و (شركاؤهم) فاعل (زين). والمعنى أن الاصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين والحب الوهمي في نفوسهم زينت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم ويجعلوهم قرابين يتقربون بذلك إلى الالهة كما يضبطه تاريخ قدماء الوثنيين والصابئين، وهذا غير مسالة الوأد التى كانت بنو تميم من العرب يعملون به فإن المأخوذ في سياق الاية الاولاد دون البنات خاصة. وقيل: المراد بالشركاء الشياطين، وقيل: خدمة الاصنام، وقيل: الغواة من الناس. وقرأ ابن عامر: (زين) بضم الزاى مبنيا للمفعول (قتل) بضم اللام نائب عن فاعل زين (أولادهم) بالنصب مفعول المصدر أعنى (قتل) تخلل بين المضاف والمضاف إليه (شركائهم) بالجر مضاف إليه وفاعل للمصدر. وقوله تعالى: (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) الارداء: الاهلاك، والمراد به إهلاك المشركين بالكفر بنعمة الله والبغى على خلقه، وخلط دينهم عليهم بإظهار الباطل في صورة الحق، فضمير (هم) في المواضع الثلاث جميعا راجع إلى كثير من المشركين. وقيل: المراد به الاهلاك بظاهر معنى القتل، لازمه رجوع أول الضمائر إلى الاولاد والثانى والثالث إلى الكثير، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) إلى آخر الاية. الحجر بكسر الحاء المنع ويفسره قوله بعده: (لا يطعمها إلا من نشاء) أي هذه الانعام والحرث حرام إلا على من نشاء أن نأذن لهم، وروى: أنهم كانوا يقدمونها لالهتهم ولا يحلون أكلها إلا لمن كان يخدم آلهتهم من الرجال دون النساء بزعمهم. وقوله: (و أنعام حرمت ظهورها) أي وقالوا: (هذه أنعام حرمت ظهورها أو ولهم أنعام حرمت ظهورها، وهى السائبة والبحيرة والحامي التى نفاها الله تعالى في قوله:

[ 362 ]

(ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) (المائدة: 103) وقيل: هي بعض هؤلاء على الخلاف السابق في معناها في تفسير آية المائدة. وقوله: (وانعام لا يذكرون إسم الله عليها) أي ولهم أنعام (الخ) وهى الانعام التى كانوا يهلون عليها بأصنام لا باسم الله، وقيل: هي التى كانوا لا يركبونها في الحج، وقيل: أنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شأن من شؤونها، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: (وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا) إلى آخر الاية، المراد بما في البطون أجنة البحائر والسيب، فقد كانوا يحلونها إذا ولدت حية للرجال دون النساء وإن ولدت ميتة أكلة الرجال والنساء جميعا، وقيل: المراد بها الالبان، وقيل: الاجنة والالبان جميعا. والمراد بقوله: (سيجزيهم وصفهم) سيجزيهم نفس وصفهم فإنه يعود وبالا وعذابا عليهم ففيه نوع من العناية، وقيل: التقدير: سيجزيهم بوصفهم، وقيل: التقدير: سيجزيهم جزاء وصفهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) الخ، رد لما حكى عنهم في الايات السابقة من الاحكام المفتراة وهى قتل الاولاد وتحريم أصناف من الانعام والحرث وذكر أن ذلك منهم خسران وضلال من غير اهتداء. وقد وصف قتل الاولاد بأنه سفه بغير علم، وكذلك بدل الانعام والحرث من قوله ما رزقهم الله ووصف تحريمها بأنه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على خسرانهم في ذلك كأنه قيل: خسروا في قتلهم أولادهم لانهم سفهوا به سفها بغير علم، وخسروا في تحريمهم أصنافا من الانعام والحرث افتراء على الله لانها من رزق الله وحاشاه تعالى أن يرزقهم شيئا ثم يحرمه عليهم. ثم بين تعالى ضلالهم في تحريم الحرث والانعام مع كونها من رزق الله بيانا تفصيليا بالاحتجاج من ناحية العقل ومصلحة معاش العباد بقوله: (وهو الذى أنشأ جنات) إلى تمام أربع آيات، ثم من ناحية السمع ونزول الوحى بقوله: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه) إلى تمام الاية.

[ 363 ]

فيكون محصل الايات الخمس أن تحريمهم أصنافا من الحرث والانعام ضلال منهم لا يساعدهم على ذلك حجة فلا العقل ورعاية مصلحة العباد يدلهم على ذلك، ولا الوحى النازل من الله سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه. قوله تعالى: (وهو الذى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات - إلى قوله - وغير متشابه). الشجرة المعروشة هي التى ترفع أغصانها بعضا على بعض بدعائم كالكرم وأصل العرش الرفع فالجنات المعروشات هي بساتين الكرم ونحوها، والجنات غير المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على أصولها من غير دعائم. وقوله: (والزرع مختلفا أكله) أي ما يؤكل منه من الحبات كالحنطة والشعير والعدس والحمص. وقوله: (والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه) أي متشابه كل منها وغير متشابه على ما يفيده السياق، والتشابه بين الثمرتين باتحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون أو غير ذلك. قوله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر) إلى آخر الاية، الامر للاباحة لوروده في رفع الحظر الذى يدل عليه إنشاء الجنات والنخل والزرع وغيرها، والسياق يدل على أن تقدير الكلام: وهو الذى أنشأ جنات والنخل والزرع الخ، وأمركم بأكل ثمر ما ذكر وأمركم بإيتاء حقه يوم حصاده، ونهاكم عن الاسراف. فأى دليل أدل من ذلك على إباحتها ؟ وقوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) أي الحق الثابت فيه المتعلق به فالضمير راجع إلى الثمر وأضيف إليه الحق لتعلقه به كما يضاف الحق إيضا إلى الفقراء لارتباطه بهم وربما احتمل رجوع الضمير إلى الله كالضمير الذى بعده في قوله: إنه لا يحب المسرفين) وإضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله. وهذا إشارة إلى جعل حق ما للفقراء في الثمر من الحبوب والفواكه يؤدى إليهم يوم الحصاد يدل عليه العقل ويمضيه الشرع وليس هو الزكاة المشرعة في الاسلام إذ ليست في بعض ما ذكر في الاية زكاة، على أن الاية مكية وحكم الزكاة مدنى. نعم لا يبعد أن يكون أصلا لتشريعها فإن أصول الشرائع النازلة في السور المدنية

[ 364 ]

نازلة على وجه الاجمال والابهام في السور المكية كقوله تعالى بعد عدة آيات عند تعداد كليات المحرمات: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم إلى أن قال - ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) (الانعام: 151). وقوله: (ولا تسرفوا) الخ، أي لا تتجاوزوا الحد الذى يصلح به معاشكم بالتصرف فيه فلا يتصرف صاحب المال منكم بالاسراف في أكله أو التبذير في بذله أو وضعه في غير موضعه من معاصي الله وهكذا، ولا يسرف الفقير الاخذ بتضييعه ونحو ذلك، ففى الكلام إطلاق، والخطاب فيه لجميع الناس. وأما قول بعضهم: إن الخطاب في (لا تسرفوا) مختص بأرباب الاموال، وقول بعض آخر: إنه متوجه إلى الامام الاخذ للصدقة، وكذا قول بعضهم: إن معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدى إلى بخس حق الفقراء، وقول بعض آخر: إن المعنى: لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، وقول ثالث: إن المعنى لا تنفقوه في المعصية، كل ذلك مدفوع بالاطلاق والسياق. قوله تعالى: (ومن الانعام حمولة وفرشا) إلى آخر الاية، الحمولة أكابر الانعام لاطاقتها الحمل، والفرش أصاغرها لانها كأنها تفترش على الارض أو لانها توطا كما يوطا الفرش، وقوله: (كلوا مما رزقكم الله) إباحة للاكل وإمضاء لما يدل عليه العقل نظير قوله في الاية السابقة: (كلوا من ثمره) وقوله: (لا تتبعوا خطوات الشيطان) إنه لكم عدو مبين) أي لا تسيروا في هذا الامر المشروع إباحته باتباع الشيطان بوضع قدمكم موضع قدمه بأن تحرموا ما أحله، وقد تقدم أن المراد باتباع خطوات الشيطان تحريم ما أحله الله بغير علم. قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) إلى آخر الاية، تفصيل للانعام بعدالاجمال والمراد به تشديد اللوم والتوبيخ عليهم ببسطه على كل صورة من الصور والوجوه، فقوله: (ثمانية أزواج) عطف بيان من (حموله وفرشا) في الاية السابقة. والازواج جمع زوج، ويطلق الزوج على الواحد الذى يكون معه آخر وعلى الاثنين، وأنواع الانعام المعدودة أربعة: الضأن والمعز والبقر والابل، وإذا لوحظت

[ 365 ]

ذكرا وانثى كانت ثمانية أزواج. والمعنى: أنشأ ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر والانثى ومن المعز زوجين اثنين كالضأن قل آلذكرين من الضأن والمعز حرم الله أم الانثيين منهما أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الانثيين من الضأن والمعز نبئونى ذلك بعلم إن كنتم صادقين. قوله تعالى: (ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين - إلى قوله - الانثيين) معناه ظاهر مما مر، وقيل: المراد بالاثنين في المواضع الاربعة من الايتين الاهلى والوحشي. قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) إلى آخر الاية، هذا شق من ترديد حذف شقه الاخر على ما يدل عليه الكلام، وتقديره: أعلمتم ذلك من طريق الفكر كعقل أو سمع أم شاهدتم تحريم الله ذلك وشافهتموه فادعيتم ذلك. وقوله: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) الخ، تفريع على ما قبله باعتبار دلالته على انقطاعهم عن الجواب وعلى ذلك فمعناه: فمن أظلم منكم، ويكون قوله: (ممن افترى) الخ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير الخطاب الراجع إليهم ليدل به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الانكارى والتقدير: لا أظلم منكم لانكم افتريتم على الله كذبا لتضلوا الناس بغير علم، وإذ ظلمتم فانكم لا تهتدون إن الله لا يهدى القوم الظالمين. قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه) الخ، معنى الاية ظاهر، وقد تقدم في نظيرة الاية من سورة المائدة آية 3، وفي سورة البقرة آية 173 ما ينفع في المقام. قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر) الخ، الظفر واحد الاظفار وهو العظم النابت على رؤوس الاصابع، والحوايا المباعر قال في المجمع: موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعا عطفا على الظهور وتقديره: أو ما حملت الحوايا، ويحتمل أن يكون نصبا عطفا على ما في قوله: (إلا ما حملت) فأما قوله: أو ما اختلط بعظم) فإن ما هذه معطوفة على ما الاولى (انتهى) والوجه الاول أقرب. ثم قال: ذلك في قوله - ذلك جزيناهم - يجوزأن يكون منصوب الموضع بأنه مفعول ثان لجزيناهم التقدير: جزيناهم ذلك ببغيهم، ولا يجوز أن يرفع بالابتداء لانه

[ 366 ]

يصير التقدير: ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم: زيد ضربت أي ضربته، وهذا إنما يجوز في ضرورة الشعر انتهى. والاية كأنها في مقام الاستدراك ودفع الدخل ببيان أن ما حرم الله على بنى إسرائيل من طيبات ما رزقهم إنما حرمه جزاء لبغيهم فلا ينافى ذلك كونه حلا بحسب طبعه الاولى كما يشير إلى ذلك قوله: (كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة) (آل عمران: 93) وقوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا) (النساء: 160). قوله تعالى: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) إلى آخر الاية، معنى الاية ظاهر، وفيها أمر بإنذارهم وتهديدهم إن كذبوا بالبأس الالهى الذى لا مرد له لكن لا ببيان يسلط عليهم اليأس والقنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء، ولذلك قدم عليه قوله: (ربكم ذو رحمة واسعة. قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ) الاية تذكر احتجاجهم بهذه الحجة ثم ترد عليهم بأنهم جاهلون بها وإنما يركنون فيها إلى الظن والتخمين، والكلمة كلمة حق وردت في كثير من الايات القرآنية لكنها لا تنتج ما قصدوه منها. فإنهم إنما احتجوا بها لاثبات أن شركهم وتحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله سبحانه لا بأس عليهم في ذلك فحجتهم أن الله لو شاء منا خلاف ما نحن عليه من الشرك والتحريم لكنا مضطرين على ترك الشرك والتحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذنا في الشرك والتحريم فلا بأس بهذا الشرك والتحريم. وهذه الحجة لا تنتج هذه النتيجة وإنما تنتج أن الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك لم يوقعهم موقع الاضطرار والاجبار فهم مختارون في الشرك والكف عنه وفي التحريم وتركه فله تعالى أن يدعوهم إلى الايمان به ورفض الافتراض فلله الحجة البالغة ولا حجة لهم في ذلك إلا اتباع الظن والتخمين. قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) كأن الفاء الاولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدم من قولهم (لو شاء الله ما أشركنا) الخ، والفاء الثانية

[ 367 ]

للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجة على الخصم بعد بيان مقتضاها. والمعنى ان نتيجه الحجة قد التبست عليكم بجهلكم واتباعكم الظن وخرصكم في المعارف الالهية فحجتكم تدل على أن لا حجة لكم في دعوته إياكم إلى رفض الشرك وترك الافتراء عليه، وإن الحجة إنما هي لله عليكم فإنه لو شاء لهداكم أجمعين وأجبركم على الايمان وترك الشرك والتحريم، وإذ لم يجبركم على ذلك وأبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك والتحريم. وبعبارة أخرى: يتفرع على حجتكم أن الحجة لله عليكم لانه لو شاء لاجبر على الايمان فهداكم أجمعين، ولم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه. وقد بين تعالى في طائفة من الايات السابقة أنه تعالى لم يضطر عباده على الايمان ولم يشأ منهم ذلك بالمشية التكوينية حتى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه وهذا الاذن الذى هو رفع المانع التكويني هو اختيار العباد وقدرتهم على جانبى الفعل والترك، وهذا الاذن لا ينافى الامر التشريعي بترك الشرك مثلا بل هو الاساس الذى يبتنى عليه الامر والنهى. قوله تعالى: (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون) إلى آخر الاية، هلم شهداءكم أي هاتوا شهداءكم وهو اسم فعل يستوى فيه المفرد والمثنى والمجموع، والمراد بالشهادة شهادة الاداء والاشارة بقوله: (هذا) إلى ما ذكر من المحرمات عندهم، والخطاب خطاب تعجيزى أمر به الله سبحانه ليكشف به أنهم مفترون في دعواهم أن الله حرم ذلك فهو كناية عن عدم التحريم. وقوله: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) في معنى الترقي، والمعنى: لا شاهد فيهم يشهد بذلك فلا تحريم حتى أنهم لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم ولا يعبا بشهادتهم فإنهم قوم يتبعون أهواءهم. فقوله: (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) الخ، عطف أتفسير لقوله: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) أي أن شهادتك اتباع لاهوائهم كما أن شهادتهم من اتباع الاهواء وكيف لا ؟ وهم قوم كذبوا بايات الله الباهرة، ولا يؤمنون بالاخرة ويعدلون بربهم

[ 368 ]

غيره من خلقه كالاوثان، ولا يجترئ على ذلك مع كمال البيان وسطوع البرهان إلا الذين يتبعون الاهواء.

(بحث روائي)

 في المجمع في قوله تعالى: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) الاية قال: إنه كان إذا اختلط ما جعل للاصنام بما جعل لله تعالى ردوه، وإذا اختلط ما جعل لله بما جعل للاصنام تركوه وقالوا: الله أغنى، وإذا تخرق الماء من الذى لله في الذى للاصنام لم يسدوه، وإذا تخرق من الذى للاصنام في الذى لله سدوه وقالوا: الله أغنى. عن ابن عباس وقتادة، وهو المروى عن أئمتنا عليهم السلام. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين) الاية قال: قال: يعنى أن أسلافهم زينوا لهم قتل أولادهم. وفيه في قوله تعالى: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر، قال: قال: الحجر المحرم. وفيه في قوله تعالى: (وهو الذى أنشأ جنات الايات) قال: قال: البساتين. وفيه في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) الاية، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدثنا أحمد بن محمد عن على بن الحكم عن أبان بن عثمان عن شعيب العقرقوفى قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: الضغث من السنبل والكف من التمر إذا خرص. قال: وسألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته ؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته. وفيه عن أحمد بن إدريس عن البرقى عن سعد بن سعد عن الرضا عليه السلام أنه سئل: إن لم يحضر المساكين وهو يحصد كيف يصنع ؟ قال: ليس عليه شئ. وفي الكافي عن على بن إبراهيم عن ابن أبى عمير عن معاوية بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: في الزرع حقان: حق تؤخذ به، وحق تعطيه. قلت: وما الذى أخذ به ؟ وما الذى أعطيه ؟ قال: أما الذى تؤخذ به فالعشر ونصف العشر، وأما الذى تعطيه فقول الله عزوجل: (وآتوا حقه يوم حصاده) يعنى من حصدك الشئ بعد الشئ ولا أعلمه إلا قال: الضغث تعطيه ثم الضغث حتى تفرغ.

[ 369 ]

وفيه بإسناده عن أبى نصر عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن قوله الله عز وجل: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا) قال: كان أبى يقول: من الاسراف في الحصاد والجذاذ أن يتصدق الرجل بكفيه جميعا، وكان أبى إذا حضر شيئا من هذا فراى أحدا من غلمانه يتصدق بكفيه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة والضغث بعد الضغث من السنبل. وفيه بإسناده عن مصادف قال: كنت مع أبى عبد الله عليه السلام في أرض له وهم يصرمون فجاء سأئل يسأل فقلت: الله يرزقك فقال: مه ليس ذلك لكم حتى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم وإن أمسكتم فلكم. وفيه بإسناده عن ابن أبى عمير عن هشام بن المثنى قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام عن قوله الله عزوجل: (وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فقال: كان فلان بن فلان الانصاري وسماه وكان له حرث، وكان إذا أجذ يتصدق به ويبقى هو وعياله بغير شئ فجعل الله عزوجل ذلك إسرافا. أقول: المراد إنطباق الاية على عمله دون نزولها فيه فإن الاية مكية، ولعل المراد بالانصارى المذكور ثابت بن قيس بن شماس وقد روى الطبري وغيره عن ابن جريح قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له تمرة فأنزل الله: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، والاية كما تقدم مكية غير مدنية فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلا بالجرى والانطباق. وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في الاية قال: أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك إلا مشرك فأعط. أقول: والروايات في هذه المعاني عن أبى جعفر وأبى عبد الله وأبى الحسن الرضا عليهم السلام كثيرة جدا. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: ما سقط من السنبل.

[ 370 ]

وفيه اخرج سعيد بن منصور ابن ابى شيبه وابن المنذر وابن ابى حاتم والنحاس والبيهقي في سننه عن ابن عباس ": وآتوا حقه يوم حصاده - قال نسخها العشر ونصف العشر. اقول ليست النسبه بين الايه وآيه الزكاة نسبه النسخ إذ لا تنافى يؤدى إلى النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها. وفيه اخرج ابو عبيد وابن ابى شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك قال ": نسخت الزكاة كل صدقه في القرآن. اقول الكلام فيه كسابقه. وفيه اخرج ابن ابى شيبه وعبد بن حميد وابن المنذر وابو الشيخ عن ميمون بن مهران ويزيد بن الاصم قال ": كان اهل المدينة إذا صرموا النخل - يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد - فيجئ السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه - فهو قوله وآتوا حقه يوم حصاده). وفي تفسير القمى في قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين) الاية: فهذه التى أحلها الله في كتابه في قوله: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) ثم فسرها في هذه الاية فقال: (من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين) فقال: صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (من الضأن اثنين) عنى الاهلى والجبلي (ومن المعز اثنين) عنى الاهلى والوحشي الجبلى (ومن البقر اثنين) عنى الاهلى والوحشي الجبلى (ومن الابل اثنين) يعنى البخاتى والعراب، فهذه أحلها الله. أقول: وروى ما يؤيد ذلك في الكافي والاختصاص وتفسير العياشي عن داود الرقى وصفوان الجمال عن الصادق عليه السلام. ويبقى البحث في أن معنى الزوج في قوله: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) الاية هو الذى في قوله: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) أو غيره، وسيوافيك إن شاء الله تعالى. وفي تفسير العياشي عن حريز عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل فقال: ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام، وقال: قرء هذه الايات (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير

[ 371 ]

فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به). أقول: وفي معناه أخبار أخر مروية عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام وفي عدة منها: إنما الحرام ما حرمه الله في كتابه ولكنهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها، وهنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من الحيوان كذوات الانياب من الوحش وذوات المخالب من الطير وغير ذلك، والامر في روايات أهل السنة على هذا النحو والمسألة فقهية مرجعها الفقه، وإذا تمت حرمة ما عدا المذكورات في الاية فإنما هي مما حرمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخباثا له وقد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقه، قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) الاية (الاعراف: 157.) وفي المجمع في قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر) الاية: إن ملوك بنى إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم. ذكره على بن إبراهيم في تفسيره. وفي أمالى الشيخ بإسناده عن مسعدة بن زياد قال سمعت جعفر بن محمد عليه السلام وقد سئل عن قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة) فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة عبدى كنت عالما ؟ فإن قال: نعم قال له: أفلا عملت بما علمت ؟ وإن قال: كنت جاهلا قال: أفلا تعلمت حتى تعمل ؟ فيخصمه فتلك الحجة البالغة. أقول: وهو من بيان المصداق.

* * *

قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون - 151. ولا تقربوا مال اليتيم إلا

[ 372 ]

بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون - 152. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون - 153. ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون - 154. وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه لعلكم ترحمون - 155. أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين - 156. أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينه من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون - 157.

(بيان)

تبين الايات المحرمات العامة التى لا تختص بشريعة من الشرائع الالهية، وهى الشرك بالله، وترك الاحسان بالوالدين، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة بغير حق ويدخل فيه قتل الاولاد خشية إملاق وإقتراب مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن وعدم إيفاء الكيل والميزان بالقسط، والظلم في القول، وعدم الوفاء بعهد الله، واتباع غير سبيل الله المؤدى إلى الاختلاف في الدين. ومن شواهد أنها شرائع عامة إنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الانبياء

[ 373 ]

أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذى نقل من نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام، وقد قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى: 13) ومن ألطف الاشارة التعبير عما أوتى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام بالتوصية ثم التعبير في هذه الايات الثلاث التى تقص اصول المحرمات الالهية أيضا بالتوصية حيث قال: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). على أن التأمل فيها يعطى أن الدين الالهى لا يتم أمره ولا يستقيم حاله بدون شئ منها وإن بلغ من الاجمال والبساطة ما بلع وبلغ الانسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ. قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئا قيل تعال مشتق من العلو وهو أمر بتقدير أن الامر في مكان عال وإن لم يكن الامر على ذلك بحسب الحقيقة، والتلاوة قريب المعنى من القراءة، وقوله: (عليكم) متعلق بقوله: (أتل أو قوله: (حرم) على طريق التنازع في المتعلق، وربما قيل: إن (عليكم) اسم فعل بمعنى خذوا وقوله: (أن لا تشركوا) معموله والنظم ج عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالولدين إحسانا (الخ)، وهو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق. ولما كان قوله: (تعالوا أتل ما حرم) الخ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام عين ما جاء به الوحى في مورد المحرمات من النهى في بعضها والامر بالخلاف في بعضها الاخر فقال: (إلا تشركوا به شيئا) كما قال: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ولا تقربوا الفواحش) الخ، وقال: (وبالوالدين إحسانا) كما قال: (وأوفوا الكيل والميزان) (وإذا قلتم فاعدلوا) الخ. وقد قدم الشرك على سائر المحرمات لانه الظلم العظيم الذى لا مطمع في المغفرة الالهية معه قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (النساء: 48) وإليه ينتهى كل معصيه كما ينتهى إلى التوحيد بوجه كل حسنة. قوله تعالى: (وبالوالدين إحسانا) أي أحسنوا بالوالدين إحسانا، وفي المجمع: أي وأوصى بالوالدين إحسانا، ويدل على ذلك أن في (حرم كذا) معنى أوصى بتحريمه

[ 374 ]

وأمر بتجنبه. انتهى. وقد عد في مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تاليا للتوحيد ونفى الشرك فامر به بعد الامر بالتوحيد أو النهى عن الشرك به كقوله: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (الاسراء: 23) وقوله: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الانسان بوالديه) (لقمان: 14) وغير ذلك من الايات. ويدل ذلك على أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم، والاعتبار يهدى إلى ذلك فإن المجتمع الانساني الذى لا يتم للانسان دونه حياة ولا دين هو أمر وضعي اعتباري لا يحفظه في حدوثه وبقائه إلا حب النسل الذى يتكئ على رابطة الرحمة المتكونة في البيت القائمة بالوالدين من جانب وبالاولاد من جانب آخر، والاولاد إنما يحتاجون إلى رحمتهما وإحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو ا لاولاد بحسب الطبع، وكفى به داعيا ومحرضا لهما إلى الاحسان إليهم بخلاف حاجتهم إلى رافة الاولاد ورحمتهم فإنها بالطبع يصادف كبرهما ويوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجب حياتهما وشباب الاولاد وقوتهم على ما يعنيهم. وجفاء الاولاد للوالدين وعقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم ورجائهما منهم وانتشار ذلك بين النوع يؤدى بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد والتربية، ويدعو ذلك من جهة إلى ترك التناسل وانقطاع النسل، ومن جهة إلى كراهية تأسيس البيت والتكاهل في تشكيل المجتمع الصغير، والاستنكاف عن حفظ سمة الابوة والامومة، وينجر إلى تكون طبقة من الذرية الانسانية لا قرابة بينهم ولا أثر من رابطه الرحم فيهم، ويتلاشى عندئذ أجزاء المجتمع، ويتشتت شملهم، ويتفرق جمعهم، ويفسد أمرهم فسادا لا يصلحه قانون جار ولا سنة دائرة، ويرتحل عنهم سعادة الدنيا والاخرة، وسنقدم إليك بحثا ضافيا في هذه الحقيقة الدينية إن شاء الله. قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) الاملاق الافلاس من المال والزاد ومنه التملق، وقد كان هذا كالسنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع الجدب والقحط إلى بلادهم فكان الرجل إذا هدده الافلاس بادر إلى قتل أولاده تأنفا من أن يراهم على ذلة العدم والجوع.

[ 375 ]

وقد علل النهى بقوله: (نحن نرزقكم وإياهم) أي إنما تقتلونهم مخافه أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم ولستم برازقين لهم بل الله يرزقكم وإياهم جميعا فلا تقتلوهم. قوله تعالى: (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) الفواحش جمع فاحشة وهى الامر الشنيع المستقبح، وقد عد الله منها في كلامه الزنا واللواط وقذف المحصنات، والظاهر أن المراد مما ظهر ومما بطن العلانية والسر كالزنا العلنى واتخاذ الاخدان والاخلاء سرا. وفي استباحة الفاحشة إبطال فحشها وشناعتها، وفي ذلك شيوعها لانها من أعظم ما تتوق إليه النفس الكارهة لان يضرب عليها بالحرمان من ألذ لذائذها وتحجب عن أعجب ما تتعلق به وتعزم به شهوتها، وفى شيوعها انقطاع النسل وبطلان المجتمع البيتى وفي بطلانه بطلان المجتمع الكبير الانساني، وسوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما يناسبه من المحل. وكذلك إستباحة القتل وما في تلوه من الفحشاء إبطال للامن العام وفي بطلانه انهدام بنية المجتمع الانساني وتبدد أركانه. قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق) أي حرم الله قتلها أو حرمها بالحرمة المشرعة لها التى تقيها وتحميها من الضيعة في دم أو حق، قيل: إنه تعالى أعاد ذكر القتل وإن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه وتعظيما لامره، ونظيره الكلام في قتل الاولاد خشية الاملاق اختص بالذكر عناية به، وقد كانت العرب تفعل ذلك بزعمهم أن خشية الاملاق تبيح للوالد أن يقتل أولادة، ويصان به ماء وجهه من الابتذال، والابوة عندهم من أسباب الملك. وقد استثنى الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة التى هي نفس المسلم والمعاهد قتلها بالحق وهو القتل بالقود والحد الشرعي. ثم أكد تحريم المذكورات في الاية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) سيجئ الوجه في تعليل هذه المناهى الخمس بقوله: (لعلكم تعقلون). قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن حتى يبلغ أشده) النهى عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحل أكل ماله ولا استعماله ولا أي تصرف فيه إلا بالطريقة التى هي أحسن الطرق المتصورة لحفظه، ويمتد هذا النهى وتدوم الحرمة إلى أن

[ 376 ]

يبلغ أشده فإذا بلغ أشده لم يكن يتيما قاصرا عن إدارة ماله وكان هو المتصرف في مال نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الولى لماله. ومن هنا يظهر أن المراد ببلوغه أشده هو البلوغ والرشد كما يدل عليه أيضا قوله: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) (النساء: 6). ويظهر أيضا أنه ليس المراد بتحديد حرمة التصرف في مال اليتيم بقوله: (حتى يبلغ أشده) رفع الحرمة بعد بلوغ الاشد وإباحة التصرف حينئذ بل المراد بيان الوقت الذى يصلح للاقتراب من ماله، وإرتفاع الموضوع بعده فإن الكلام في معنى: وأصلحوا مال اليتيم الذى لا يقدر على إصلاح ماله وإنمائه حتى يكبر ويقدر. قوله تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها) الايفاء بالقسط هو العمل بالعدل فيهما من غير بخس وقوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) بمنزلة دفع الدخل كأنه: قيل إن الايفاء بالقسط والوقوع في العدل الحقيقي الواقعي لا يمكن للنفس الانسانية التى لا مناص لها عن أن تلتجئ في أمثال هذه الامور إلى التقريب فاجيب بأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها، ومن الجائز أن يتعلق قوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) بالحكمين جميعا أعنى قوله: (ولا تقربوا مال اليتيم) الخ، وقوله: (وأوفوا الكيل والميزان. قوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) ذكر ذى القربى وهو الذى تدعو عاطفة القرابة والرحم إلى حفظ جانبه وصيانته من وقوع الشر والضرر في نفسه وماله يدل على أن المراد بالقول هو القول الذى يمكن أن يترتب عليه انتفاع الغير أو تضرره كما أن ذكر العدل في القول يؤيد ذلك، ويدل على أن هناك ظلما، وإن القول متعلق ببعض الحقوق كالشهادة والقضاء والفتوى ونحو ذلك. فالمعنى: وراقبوا أقوالكم التى فيها نفع أو ضرر للناس واعدلوا فيها، ولا يحملنكم رحم. ة أو رأفة أو أي عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرفوا الكلام وتجاوزوا الحق فتشهدوا أو تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبونه وإبطال حق من تكرهونه. قال في المجمع: وهذا من الاوامر البليغة التى يدخل فيها مع قلة حروفها الاقارير

[ 377 ]

والشهادات، والوصايا، والفتاوى، والقضايا، والاحكام، والمذاهب، والامر بالمعروف، والنهى عن المنكر. قوله تعالى: (وبعهد الله أوفوا) قال الراغب في المفردات: العهد حفظ الشئ ومراعاته حالا بعد حال. انتهى. ولذا يطلق على الفرامين والتكاليف المشرعة والوظائف المحولة وعلى العهد الذى هو الموثق وعلى النذر واليمين. وكثرة استعماله في القرآن الكريم في الفرامين الالهية وإضافته في الاية إلى الله سبحانه، ومناسبة المورد وفيه بيان الاحكام والوصايا الالهية العامة كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بقوله: (وبعهد الله أوفوا) التكاليف الدينية الالهية، وإن كان من الممكن أن يكون المراد بالعهد هو الميثاق المعقود بمثل قولنا: عاهدت الله على كذا وكذا، قال تعالى: (وأوفوا بالعهد أن العهد كان مسؤولا) (الاسراء: 34) فيكون إضافته إلى الله نظير إضافة الشهادة إليه في قوله: (ولا نكتم شهادة الله) (المائدة: 106) للاشارة إلى أن المعاملة فيه معه سبحانه. ثم أكد التكاليف المذكورة في الاية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) إلى آخر الاية. قرئ: (وأن) بفتح الهمزة وتشديد النون وتخفيفها وكأنه بالعطف على موضع قوله: (إلا تشركوا به شيئا) وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف. والذى يعطيه سياق الايات أن يكون مضمون هذه الاية أحد الوصايا التى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتلوها عليهم ويخبرهم بها حيث قيل: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ولازم ذلك أن يكون قوله: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) مسوقا لا لتعلق الغرض به بنفسه لان كليات الدين قد تمت في الايتين السابقتين عليه بل ليكون توطئه وتمهيدا لقوله بعده: (ولا تتبعوا السبل) كما أن هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله: (فتفرق بكم عن سبيله) فالمراد بالاية أن لا تتفرقوا عن سبيله ولا تختلفوا فيه، فتكون الاية مسوقة سوق قوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى: 13) فالامر في الاية بإقامة الدين هو ما وصى من الدين المشروع كأنه أعيد ليكون تمهيدا للنهى عن التفرق بالدين.

[ 378 ]

فالمعنى: ومما حرم ربكم عليكم ووصاكم به أن لا تتبعوا السبل التى دون هذا الصراط المستقيم الذى لا يقبل التخلف والاختلاف وهى غير سبيل الله فإن اتباع السبل دونه يفرقكم عن سبيله فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا اختلاف بين أجزائه ولا بين سالكيه. ومقتضى ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: (صراطي) صراط النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه هو الذى يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربه إذ يقول: (قل تعالوا أتل) الخ، فهو المتكلم معهم المخاطب لهم، ولله سبحانه في الايات مقام الغيبة حتى في ذيل هذه الاية إذ يقول: (فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم) به ولا ضير في نسبة الصراط المستقيم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عبادة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم) (الحمد: 7). لكن المفسرين كأنهم تسلموا أن ضمير التكلم في قوله: (صراطي) لله سبحانه ففى الاية نوع من الالتفات لكن لا في قوله: (صراطي) بل في قوله: (عن سبيله) فإن معنى الاية: تعالوا أتل عليكم ما وصاكم به ربكم وهو أنه يقول لكم: (إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) أو وصيته (أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلى) فالالتفات - كما مر - إنما هو في قوله: (عن سبيله). وكيف كان فهو تعالى في الاية يسمى ما ذكره من كليات الدين بأنه صراطه المستقيم الذى لا تخلف في هداية سالكية وإيصالهم إلى المقصد ولا اختلاف بين أجزائه ولا بين سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرقون البتة ثم ينهاهم عن اتباع سائر السبل فإن من شأنها إلقاء الخلاف والتفرقة لانها طرق الاهواء الشيطانية التى لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله المبنى على الفطرة والخلقة ولا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم. ثم أكد سبحانه حكمه في الاية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). وقد اختلفت الخواتيم في الايات الثلاث فختمت الاية الاولى بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) والثانية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) والثالثة بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).

[ 379 ]

ولعل الوجه في ذلك أن الامور المذكورة في الاية الاولى وهى الشرك بالله العظيم وعقوق الوالدين وقتل الاولاد من إملاق وقربان الفواحش الشنيعة وقتل النفس المحترمة من غير حق مما تدرك الفطرة الانسانية حرمتها في بادئ نظرها ولا يجترئ عليها الانسان الذى يتميز من سائر الحيوان بالعقل إلا إذا اتبع الاهواء وأحاطت به العواطف المظلمة التى تضرب بحجاب ثخين دون العقل. فمجرد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة والخروج عن خالصة الاهواء يكشف للانسان عن حرمتها وشآمتها على الانسان بما هو إنسان، ولذلك ختمت بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون). وما ذكر منها في الاية الثانية وهى الاجتناب عن مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط، والعدل في القول، والوفاء بعهد الله أمور ليست بمثابة ما تليت في الاية الاولى من الظهور بل يحتاج الانسان مع تعبيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكر وهو الرجوع إلى المصالح والمفاسد العامة المعلومة عند العقل الفطري حتى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعه المشرفة به وبسائر بنى نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير في مجتمع إنساني لا يرحم فيه الصغير والضعيف، ويطفف فيه الكيل والوزن، ولا يعدل فيه في الحكم والقضاء، ولا يصغى فيه إلى كلمة الحق، ولهذه النكتة ختمت الاية بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). والغرض المسوق له الاية الثالثة هو النهى عن التفرق والاختلاف في الدين باتباع سبل غير سبيل الله، واتباع هاتيك السبل من شأنه أن التقوى الدينى لا يتم إلا بالاجتناب عنه. وذلك أن التقوى الدينى إنما يحصل بالتبصر في المناهى الالهية والورع عن محارمه بالتعقل والتذكر، وبعبارة اخرى بالتزام الفطرة الانسانية التى بنى عليها الدين، وقد قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) (الشمس: 8) وقد وعد الله المتقين إن اتقوا يمددهم بما يتضح به سبيلهم ويفرق به بين الحق والباطل عندهم فقال: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) (الطلاق: 2) وقال: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) (الانفال: 29). فهو على صراط التقوى ما دام ملازما لطريق التعقل والتذكر جاريا على مجرى الفطرة، وإذا إنحرف إلى الخارج من هذا الصراط وليس إلا اتباع الاهواء والاخلاد إلى

[ 380 ]

الارض والاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الاهواء والعواطف إلى الاسترسال والعكوف على مخالفة العقل السليم وترك التقوى الدينى من غير مبالاة بما يهدده من شؤم العاقبة كالسكران لا يدرى ما يفعل ولا ما يفعل به. والاهواء النفسانية مختلفة لا ضابط يضبطها ولا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها ولذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الاهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، وقد عد الله سبحانه لهم في كلامه سبلا شتى كقوله: (ولتستبين سبيل المجرمين) (الانعام: 55) وقوله: (ولا تتبع سبيل المفسدين) (الاعراف: 142) وقوله: (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) (يونس: 89) وقوله في المشركين: (إن يتبعون إلا الظن وماتهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (النجم: 23) وأنت إن تتبعت آيات الهدى الضلال والاتباع والاطاعة وجدت في هذا المعنى شيئا كثيرا. وبالجملة التقوى الدينى لا يحصل بالتفرق والاختلاف، والورود في أي مشرعة شرعت، والسلوك من أي واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الذى لا تخلف فيه ولا اختلاف فذلك هو الذى يرجى معه التلبس بلباس التقوى ولذلك عقب الله سبحانه قوله: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.) وقال في روح المعاني: وختمت الاية الاولى بقوله سبحانه: (لعلكم تعقلون) وهذه - يعنى الثانية - بقوله: (لعلكم تذكرون) لان القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الاولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاء الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازي. انتهى. وأنت خبير بأن الذى ذكره من اتصافهم بحفظ أموال اليتامى وإيفاء الكيل والعدل في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهلية، على أن الذى فسر به التذكر إنما هو معنى الذكر دون التذكر في عرف القرآن. ثم قال: وقال الامام - يعنى الرازي - في التفسير الكبير - السبب في ختم كل آية

[ 381 ]

بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الاية الاولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الاربعة المذكورة في هذة الاية - يعنى الثانية - أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضوع الاعتدال وهو التذكر. انتهى. وما ذكره من الوجه قريب المأخذ مما قدمناه غير أن الامور الاربعة المذكورة في الاية الا ثانية مما يناله الانسان بأدنى تأمل، وليست بذالك الخفاء والغموض الذى وصفه، ولذا التجأ إلى إرجاع التذكر إلى الوقوف على حد الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك معنى الاية فإن مقتضى السياق رجوع رجاء التذكر إلى أصل ما وصى به فيها، والذى يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حد اعتداله هما الامران الاولان أعنى قربان مال اليتيم وإيفاء الكيل والوزن، وقد تدورك أمرهما بقوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) فافهم ذلك. ثم قال في الاية الثالثة: قال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التى هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الابدية، وحصل على السعادة السرمدية انتهى. وهو مبنى على جعل الامر باتباع الصراط المستقيم في الاية مما تعلق به القصد بالاصالة وقد تقدم أن مقتضى السياق كونه مقدمة للنهى عن التفرق باتباع السبل الاخرى. وتوطئة لقوله: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله). قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن) إلى آخر الاية، لما كان ما ذكره ووصى به من كليات الشرائع تكاليف مشرعة عامة لجميع ما أوتى الانبياء من الدين، وهى أمور كلية مجملة صحح ذلك الالتفات إلى بيان أنه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالا فصلها حيث اقتضت تفصيلها لموسى عليه السلام أولا فيما أنزل عليه من الكتاب، وللنبى صلى لله عليه وآله وسلم ثانيا فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذى أحسن وتفصيلا لكل شئ) الخ. فمعنى الاية: أنا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينية آتينا موسى الكتاب تماما تتم به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الاجمالي وتفصيلا يفصل به كل شئ من فروع هذه الشرائع الاجمالية مما يحتاج إليه بنو إسرائيل وهدى ورحمة لعلهم

[ 382 ]

بلقاء ربهم يؤمنون. هذا هو الذى يعطيه سياق الاية المتصل بسياق الايات الثلاث السابقة. فقوله: (ثم آتينا موسى الكتاب) رجوع إلى السياق السابق الذى قبل قوله: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الايات، وهو خطاب الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة المتكلم مع الغير، وقد افيد بالتأخير المستفاد من لفظة (ثم) أن هذا الكتاب إنما انزل ليكون تماما وتفصيلا للاجمال الذى في تلك الشرائع العامة الكلية. وقد وجه المفسرون قوله: (ثم آتينا موسى الكتاب) بوجوه غريبة: منها: أن في الكلام حذفا والتقدير: ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب. ومنها: أن التقدير: ثم أخبركم أن موسى أعطى الكتاب. ومنها: أن التقدير: ثم أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب. ومنها: أنه متصل بقوله في قصة إبراهيم: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) والنظم: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب ثم آتينا موسى الكتاب.) والذى دعاهم إلى هذه التكلفات أن التوراة قبل القرآن ولفظة (ثم) تقتضي التراخي ولازمه نزول التوراة بعد القرآن وقد قيل قبل ذلك: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم). وما تقدم من البيان يكفيك مؤنة هذه الوجوه. وقوله: (تماما على الذى أحسن) يبين أن إنزال الكتاب لتتم به نقيصة الذين أحسنوا من بنى إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلية العامة، وقد قال تعالى في قصة موسى بعد نزول الكتاب: (وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) (الاعراف: 145) وقال: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين) (البقرة: 58) وعلى هذا فالموصول في قوله: (على الذى أحسن) يفيد الجنس. وقد ذكروا في معنى الجملة وجوها اخرى فقيل: المعنى: تماما على إحسان موسى بالنبوة والكرامة، وقيل: المعنى: إتماما للنعمة على الذين أحسنوا من المؤمنين، وقيل: المعنى: إتماما للنعمة على الانبياء الذين أحسنوا، وقيل: المعنى: تماما لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا، وقيل: المعنى تماما على الذى أحسن الله إلى موسى من الكرامة

[ 383 ]

بالنبوة وغيرها، وقيل: إنه متصل بقصة إبراهيم والمعنى: تماما للنعمة على إبراهيم. وضعف الجميع ظاهر. وقوله: (وتفصيلا لكل شئ) أي مما يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم ممن بعدهم، وهدى يهتدى به ورحمة ينعمون بها. وقوله: (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) فيه إشارة إلى أن بنى إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الايمان بلقاء الله واليوم الاخر، ومما يؤيده أن التوراة الحاضرة التى يذكر القرآن أنها محرفة لا يوجد فيها ذكر من لبعث يوم القيامة، وقد ذكر بعض المؤرخين منهم أن شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد. قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) إلى آخر الاية، أي وهذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتبعوه (الخ). قوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) الخ، أن تقولوا) معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، وهو شائع في الكلام، وهو متعلق بقوله في الاية السابقة: (أنزلناه). وقوله: (طائفتين من قبلنا) يراد به اليهود والنصارى أنزل عليهما التوراة والانجيل، وإما كتب الانبياء النازلة قبلهما مما يذكره القرآن مثل كتاب نوح وكتاب إبراهيم عليه السلام فلم يكن فيها تفصيل الشرائع وإن اشتملت على أصلها، وأما سائر ما ينسب إلى الانبياء عليهم السلام من الكتب كزبور داود عليه السلام وغيره فلم تكن فيها شرائع ولا لهم بها عهد. والمعنى أنا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إن الكتاب الالهى المفصل لشرائعه إنما انزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود والنصارى وإنا كنا غافلين عن دراستهم وتلاوتهم، ولا بأس علينا مع الغفلة. قوله تعالى: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) إلى آخر الاية، أي من الذين أنزل إليهم الكتاب قبلنا، وقوله: (فقد جاءكم بينة من ربكم) تفريع لقوليه: (أن تقولوا) (أو تقولوا) جميعا، وقد بدل الكتاب من البينة ليدل به على ظهور حجته ووضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر ولا علة لمتعلل، والصدف

[ 384 ]

الاعراض ومعنى الاية ظاهر

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن أبى بصير قال: كنت جالسا عند أبى جعفر عليه السلام وهو متك على فراشه إذ قأا الايات المحكمات التى لم ينسخهن شئ من الانعام قال: شيعها سبعون ألف ملك: (قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا). وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردودية والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيكم ة يبايعني على هؤلاء الايات الثلاث ؟ ثم تلاه ؟ (قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم) إلى ثلاث آيات. ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الاخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفى عنه. أقول: والرواية لا تخلو عن شئ فإن فيما ذكر في الايات الشرك بالله ولا تكفى فيه عقوبة الدنيا ولا تناله مغفرة في الاخرة بنص القرآن، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (النساء: 48) وقال: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار اولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) (البقرة: 162). على أن ظاهر الرواية كون هذه الاحكام مما يختص بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة والتابعين كالذى رواه في الدر المنثور عن جمع عن ابن مسعود قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد التى عليها خاتمه فليقرء هؤلاء الايات: قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم - إلى قوله لعلكم تتقون، ونظيره ما روى عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم. وفي تفسير العياشي عن عمرو بن أبى المقدام عن أبيه عن على بن الحسين عليه السلام: الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال: ما ظهر من نكاح امرأة الاب وما بطن منهاالزنا. أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق.

[ 385 ]

وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والنسائي والبزاز وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما: ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرا: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه - ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. وفيه أخرج أحمد وابن ماجه وابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخط خطا هكذا أمامه: فقال هذا سبيل الله، وخطين عن يمينه وخطين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثم وضع يده في الخط الاوسط وقرأ: (وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) الاية. وفي تفسير القمى: أخبرنا الحسن بن على عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمد بن سنان عن أبى خالد القماط عن أبى بصير عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: (هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) قال: نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر. أقول: وهو من الجرى، والذى ذكره عليه السلام مستفاد من قوله تعالى: (قل لا ما أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (الشورى: 23). إذا انضم إلى قوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) (الفرقان: 57). وقد وردت عدة روايات من طرق الشيعة وأهل السنة أن عليا هو الصراط المستقيم، وقد تقدمت الاشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الاول من الكتاب.

* * *

هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا

[ 386 ]

منتظرون - 158. إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون - 159. من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئه فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون - 160.

(بيان)

 الايات متصلة بما قبلها وهى تتضمن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط المستقيم وتفرق شيعا، وتبرئة النبي على الله عليه وآله وسلم من المفرقين دينهم، ووعدا حسنا لمن جاء بالحسنة وإنجازا للجزاء. قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك) استفهام إنكارى في مقام لا تنفع فيه عظة ولا تنجح فيه دعوة فالامور المذكورة في الاية لا محالة امور لا تصحب إلا القضاء بينهم بالقسط والحكم الفصل بإذهابهم وتطهير الارض من رجسهم. ولازم هذا السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدل عليه قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون، لو ما تأتينا بالملائكة أن كنت من الصادقين، ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (الحجر: 8). ويكون المراد بإتيان الرب هو يوم اللقاء وهو الانكشاف التام لاية التوحيد بحيث لا يبقى عليه ستر كما هو شأن يوم القيامة المختص بانكشاف الغطاء، والمصحح لاطلاق الاتيان على ذلك هو الظهور بعد الخفاء والحضور بعد الغيبة جل شأنه عن الاتصاف بصفات الاجسام. وربما يقال: إن المراد إتيان أمر الرب وقد مر نظيره في قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) (البقرة: 210) في الجزء الثاني من الكتاب. ويكون المراد بإتيان بعض آيات الرب إتيان آية تلازم تبدل نشأة الحياة عليهم

[ 387 ]

بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت التى تبدل نشأة العمل نشأة الجزاء البرزخى أو تلازم استقرار ملكة الكفر والجحود في نفوسهم استقرارا لا يمكنهم معه الاذعان بالتوحيد والاقبال بقلوبهم إلى الحق إلا ما كان بلسانهم خوفا من شمول السخط والعذاب كما ربما دل عليه قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) (النمل: 82). وكذا قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين، قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) (السجدة: 29) فإن الظاهر أن المراد بالفتح هو الفتح للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بالقضاء بينه وبين أمته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام في قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) (الاعراف: 89) وحكاه عن رسله في قوله: (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) (إبراهيم: 15). أو تلازم بأسا من الله تعالى لا مرد له ولا محيص عنه فيضطرهم الله الايمان ليتقوا به أليم العذاب لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الايمان إلا ما كان عن اختيار كما يدل عليه قوله تعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت في عباد ه وخسر هنالك الكافرون) (المؤمن: 85). فهذه أعنى إتيان الملائكة أو إتيان الرب أو إتيان بعض آياته أمور تصاحب القضاء بينهم بالقسط وهم لكونهم لا تؤثر فيهم حجة ولا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلا ذلك وإن ذهلوا عنه فإن الواقع أمامهم علموا أو جهلوا. وربما قيل: إن الاستفهام للتهكم، فإنهم كانوا يقترحون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل عليهم الملائكة أو يروا ربهم أو يأتيهم بآية كما أرسل الاولون فكأنه قيل: هؤلاء لا يريدون حجة وإنما ينتظرون ما اقترحوه من الامور. وهذا الوجه غير بعيد بالنسبة إلى صدر الاية لكن ذيلها أعنى قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك) الخ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإن التهكم لا يتعدى فيه إلى بيان الحقائق وتفصيل الاثار. قوله تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك) إلى آخر الاية، يشرح خاصة يوم ظهور

[ 388 ]

هذه الايات، وهى في الحقيقة خاصة نفس الايات وهى أن الايمان لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع واختيار أو آمنت قبله ولم تكن كسبت في إيمانها خيرا ولم تعمل صالحا بل انهمكت في السيئات والمعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الانسان، قال تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الان) (النساء: 18)، فالنفس التى لم تؤمن من قبل إيمان طوع ورضى أو آمنت بالله وكذبت بآيات الله ولم تعتن بشئ من شرائع الله واسترسلت في المعاصي الموبقة ولم تكتسب شيئا من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ثم شاهدت البأس الالهى فحملها الاضطرار إلى الايمان لترد به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك، ولم يرد عنها بأسا ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين. وفي الاية من بديع النظم ولطيف السياق أنه كرر فيها (لفظ ربك) ثلاث مرات وليس إلا لتأييد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجاه خصمه وهم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم ويباهون بأوثانهم ليعتز بربه ويثبت به قلبه ويربط جأشه في دعوته إن نجحت وإلا فبالقضاء الفصل الذى يقضى به ربه بينه وبين خصمه ثم أكد ذلك وزاد في طمانه نفسه بقوله في ختام الاية (قل انتظروا إنا منتظرون) أي فانتظر أنت ما هم منتظرون، وأخبرهم إنك في انتظاره، ومرهم أن ينتظروه فهو الفصل وليس بالهزل. ومن هنا يظهر أن الاية تتضمن تهديدا جديا لا تخويفا صوريا وبه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في دفع قول القائل: إن الاستفهام في الاية للتهكم فقال: إن هذه الايات الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الامر فلا يصح أن يراد بهذا البعض شئ مما اقترحوه لان إيتاء الايات المقترحة على الرسل يقتضى في سنة الله هلاك الامة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به، والله لا يهلك أمة نبى الرحمة. انتهى. وفيه: أن دلالة الايات القرآنية على أن هذه الامة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط والحكم الفصل مما لا سترة عليها كقوله: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل - إلى أن قال - ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) إلى آخر الآية (يونس: 47 - 53). وقد استدل بالاية على أن الايمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل وهو حق في الجملة

[ 389 ]

لا مطلقا فإن الاية في مقام بيان أن من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن أو في وسعه أن يؤمن ويعمل صالحا فآمن ولم يعمل صالحا حتى لحقه البأس الالهى الشديد الذى يضطره إلى ذلك فإنه لا ينتفع بإيمانه، وإما من آمن طوعا فأدركه الموت ولم يمهله الاجل حتى يعمل صالحا ويكسب في إيمانه خيرا فإن الاية غير متعرضة لبيان حاله بل الاية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على أن النافع إنما هو الايمان إذا كان عن طوع ولم يحط به الخطيئة ولم تفسده السيئة. وفي قوله: (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت) الفصل بين الموصوف والوصف بفاعل الفعل وهو إيمانها وكأنه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل وفاعله، واجتماع (في إيمانها) وإيمانها) في اللفظ. قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) الخ، وجه الكلام السابق، وإن كان مع المشركين وقد ابتلوا بتفريق الدين الحنيف، وكان أيضا لاهل الكتاب نصيب من الكلام وربما لوح إليهم بعض التلويح ولازم ذلك أن ينطبق قوله: (الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) على المشركين بل عليهم وعلى اليهود والنصارى لاشتراك الجميع في التفرق والاختلاف في الدين الالهى. لكن اتصال الكلام بالايات المبينة للشرائع العامة الالهية التى تبتدئ بالنهي عن الشرك وتنتهى إلى النهى عن التفرق عن سبيل الله يستدعى أن يكون قوله: (الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) موضوعا لبيان حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع من كان هذا وصفه فالاتيان بصيغة الماضي في قوله: (فرقوا دينهم) لبيان أصل التحقق سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل لا تحقق الفعل في الزمان الماضي فحسب. ومن المعلوم أن تمييز النبي صلى الله على وآله وسلم وإخراجه من أولئك المختلفين في الدين المتفرقين شيعة شيعة كل شيعة يتبع إماما يقودهم ليس إلا لانه رسول يدعو إلى كلمة الحق ودين التوحيد، ومثال كامل يمثل بوجوده الاسلام ويدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله: (لست منهم في شئ) إلى أنهم ليسوا على دينك الذى تدعو إليه، ولا على مستوى طريقك الذى تسلكه. فمعنى الاية أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات التى هي لا محالة ناشئة عن العلم

[ 390 ]

- ما اختلف الذين أوتوه إلا بغيا بينهم - والانشعابات المذهبية ليسوا على طريقتك التى بنيت على وحدة الكلمة ونفى الفرقة إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم لا يماسك منهم شئ فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون ويكشف لهم حقيقة أعمالهم التى هم رهناؤها. وقد تبين بما مر أن لا وجه لتخصيص الاية بتبرئته صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين أو منهم ومن اليهود والنصارى، أو من المختلفين بالمذاهب والبدع من هذه الامة فالاية عامة تعم الجميع. قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) الاية تامة في نفسها تكشف عن منة إلهية يمتن بها على عباده إنه يجازى الحسنة بعشر أمثالها، ولا يجازى السيئة إلا بمثلها أي يحسب الحسنة عشرة والسيئة واحدة ولا يظلم في الايفاء فلا ينقص من تلك ولا يزيد في هذه، إن أمكن أن يزيد في جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدل عليه قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) (البقرة: 261) وأمكن أن يعفو عن السيئة فلا يحسب حق المثل الواحد. لكنها أعنى الاية باتصالها بما تقدمها وانتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر كأنه قيل بعد سرد الكلام في الايات السابقة في الاتفاق والاجتماع على الحق والتفرق فيه: فهاتان خصلتان حسنة وسيئة يجزى فيهما ما يماثلهما ولا ظلم فإن الجزاء يماثل العمل فمن جاء بالحسنة فله مثلها ويضاعف له ومن جاء بالسيئة وهى الاختلاف المنهى عنه فلا يجزى إلا سيئة مثلها ولا يطمعن في الجزاء الحسن، وعاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله: (وجزاء سيئة سيئه مثلها) (الشورى: 40) أن المراد به بيان مماثلة جزاء السيئة لها في كونها سيئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة ونفى المضاعفة.

(بحث روائي)

 في تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام في قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها) قال: طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة والدخان، والرجل يكون مصرا ولم يعمل عمل الايمان ثم تجئ الايات فلا ينفعه إيمانه.

[ 391 ]

أقول: (وقوله: الرجل يكون مصرا (الخ) تفسير لقوله: (أو كسبت في إيمانها خيرا) على ما قدمناه ويدل عليه الرواية الاتية. وفيه عن أبى بصير عن أحدهما عليهما السلام في قوله: أو كسبت في إيمانها خيرا) قال: المؤمن العاصى حالت بينه وبين إيمانه كثرة ذنوبه وقلة حسناته فلم يكسب في إمانه خيرا. وفي تفسير القمى حدثنى أبى عن صفوان عن ابن مسكان عن أبى جعفر عليه السلام في قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك) الاية قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكل من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك) قال طلوع الشمس من مغربها. أقول: (والظاهر أن الرواية من قبيل الجرى وكذا ما تقدم من الروايات ويمكن أن يكون من التفسير، وكيف كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الالهية التى تلجئ الناس إلى الايمان ولا ينفعهم. وقد ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدا من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ومن طرق أهل السنة عن جمع من الصحابة كأبى سعيد الخدرى وابن مسعود وأبى هريرة وعبد الله بن عمر وخذيفة وأبى ذر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن أبى أوفى وصفوان بن عسال وانس وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية وأبى أمامة وعائشة وغيرهم وإن اختلفت في مضامينها اختلافا فاحشا. والانظار العلمية اليوم لا تمنع تبدل الحركة الارضية على خلاف ما هي عليه اليوم من الحركة الشرقية أو تبدل القطبين بصيرورة الشمالي جنوبيا وبالعكس إما تدريجا كما يبينه الارصاد الفلكية أو دفعة لحادثة جوية كلية هذا كله إن لم يكن الكلمة رمزا أشير بها إلى سر من أسرار الحقائق. وقد عدت في الروايات من تلك الايات خروج دابة الارض والدخان وخروج يأجوج ومأجوج وهذه أمور ينطق بها القرآن الكريم، وعد منها غير ذلك كخروج المهدى عليه السلام ونزول عيسى بن مريم وخروج الدجال وغيرها، وهى وإن كانت من حوادث

[ 392 ]

آخر الزمان لكن كونها مما يغلق بها باب التوبة غير واضح. وفى البرهان عن البرقى بإسناده عن عبد الله بن سليمان العامري عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ما زالت الارض إلا ولله فيها حجة يعرف فيها الحلال والحرام، ويدعو إلى سبيل الله، ولا تنقطع الحجة من الارض إلا أربعين يوما قبل يوم القيامة فإذا رفعت الحجة وأغلق باب التوبة لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجة، وأولئك من شرار خلق الله، وهم الذين تقوم عليهم القيامة. أقول: ورواه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر عن أبى عبد الله عليه السلام. وفي تفسير القمى عن أبيه عن النضر عن الحلبي عن معلى بن خنيس عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا) قال: فارق القوم والله دينهم. أقول: أي باختلاف المذاهب، وقد مر حديث اختلاف الامة ثلاثا وسبعين فرقة. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في الاية قال: كان على عليه السلام يقرؤها: فارقوا دينهم. أقول: والقراءة مروية عنه عليه السلام من بعض طرق أهل السنة أيضا على ما في الدر المنثور وغيره. وفي البرهان عن البرقى عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبي عن ابن مسكان عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام وأنا جالس عن قول الله تبارك وتعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) يجرى لهؤلاء ممن لا يعرف منهم هذا الامر ؟ فقال: إنما هي للمؤمنين خاصة. قلت له أصلحك الله أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب ؟ فقال: إن الله يدخل أولئك الجنة برحمته. أقول والرواية تدل على أن الاجر بقدر المعرفة، وفي هذا المعنى روايات واردة من طرق الفريقين. وهناك روايات كثيرة في معنى قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) الاية رواها الفريقان وأوردوها في تفسير الاية غير أنها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم

[ 393 ]

والصلاة وغيرها، تركنا إيرادها لذلك.

* * *

قل إننى هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين - 161. قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله رب العالمين - 162. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين - 163. قل أ غير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازره وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون - 164. وهو الذى جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم - 165.

(بيان)

 الايات ختام السورة وهى تحتوى على خلاصة الغرض من دعوته صلى الله عليه وآله وسلم في السورة وأنه متلبس بالعمل بما يدعو إليه، وفيها خلاصة الحجج التى أقيمت فيها لابطال عقيدة الشرك. قوله تعالى: (قل إننى هداني ربى إلى صراط مستقيم) إلى آخر الآيتين. القيم بالكسر فالفتح مخفف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، وقيل: وصف بمعنى القيم على الامر. يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأن ربه الذى يدعو إليه هداه بهداية إلهية إلى صراط مستقيم وسبيل واضح قيم على سالكيه لا تخلف فيه ولا اختلاف دينا قائما على مصالح الدنيا والاخرة أحسن القيام - لكونه مبنيا على الفطرة - ملة إبراهيم حنيفا مائلا عن

[ 394 ]

التطرف بالشرك إلى اعتدال التوحيد وما كان من المشركين، وقد تقدم توضيح هذه المعاني في تفسير الايات السابقة من السورة. قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله - إلى قوله - أول المسلمين) النسك مطلق العبادة، وكثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقربا إلى الله سبحانه. أمره صلى الله عليه وآله وسلم ثانيا أن يخبرهم بأنه عامل بما هداه الله إليه متلبس به كما أنه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم وأقرب إلى تلقيهم بالقبول فإن من إمارة الصدق أن يعمل الانسان بما يندب إليه، ويطابق فعله قوله. فقال: قل: إننى جعلت صلاتي ومطلق عبادتي - واختصت الصلاة بالذكر استقلالا لمزيد العناية بها منه تعالى - ومحياى بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلى من أعمال وأوصاف وأفعال وتروك، ومماتي بجميع ما يعود إلى من اموره وهى الجهات التى ترجع منه إلى الحياة - كما قال: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به فيها أحدا فأنا عبد في جميع شؤوني في حياتي ومماتي لله وحده وجهت وجهى إليه لا أقصد شيئا ولا أتركه إلا له ولا أسير في مسير حياتي ولا أرد مماتي إلا له فإنه رب العالمين، يملك الكل ويدبر أمرهم. وقد أمرت بهذا النحو من العبودية، وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهة. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: (إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله) إظهار الاخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شؤون العبادة والحياة والموت دون الاخبار عن الاخلاص في العبادة والاعتقاد بأن مالك الموت والحياة هو الله تعالى، والدليل على ما ذكرنا قوله: (وبذلك أمرت) فظاهر إنه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الاولين له إخلاصا وتسليما والاعتقاد بأن الاخيرين له إلا بتكلف. وفي قوله: (وإنا أول المسلمين) دلاله على أنه صلى الله عليه وآله وسلم أول الناس من حيث درجه الاسلام ومنزله فإن قبله زمانا غيره من المسلمين، وقد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قاو: وأمرت أن أكون من المسلمين) (يونس: 72) وعن إبراهيم في قوله: (أسلمت لرب العالمين) (البقرة: 131) وعنه وعن أبنه إسماعيل في قولهما: (ربنا واجعلنا

[ 395 ]

مسلمين لك) (البقرة: 128) وعن لوط في قوله: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (الذاريات: 36) وعن ملكة سبأ في قوله: (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين) (النمل: 42) أن كان مرادها الاسلام لله. وقولها: (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) (النمل: 44) ولم ينعت بأول المسلمين أحد في القرآن إلا ما يوجد في هذه الاية من أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبر قومه بذلك، وما في سورة الزمر من قوله: (قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لان أكون أول المسلمين) (الزمر: 12). وربما قيل: إن المراد أول المسلمين من هذه الامة فان إبراهيم كان أول المسلمين ومن بعده تابع له في الاسلام، وفيه أن التقييد لا دليل عليه، وأما كون إبراهيم أول المسلمين فيدفعه ما تقدم من الايات المنقولة. وأما قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل في دعائهما: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (البقرة: 128) وقوله ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين) (الحج: 78) فلا دلالة فيهما على شئ. قوله تعالى: (قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ) الخ، هذه الاية والتى بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، وهى الحجة من طريق بدء الخلقة، والحجة من طريق عودها، والحجة من حال الانسان وهو بينهما وبعبارة أخرى الحجة من نشأة الحياة الدنيا والنشأة التى قبلها والتى بعدها. فالحجة من طريق البدء ما في قوله: (أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ) ومن المعلوم أنه إذا كان رب كل شئ كان كل شئ مربوبا له فلا رب غيره على الاطلاق يصلح أن يعبد. والحجة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) إلى آخر الاية، أي أن كل نفس لا تعمل عملا ولا تكسب شيئا إلا حمل عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى حتى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثم المرجع إلى الله وإليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد، وإذا كان لا محيص عن الجزاء وهو المالك ليوم الدين فهو الذى تتعين عبادته لا غيره ممن لا يملك شيئا.

[ 396 ]

والحجة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله: (وهو الذى جعلكم خلائف) الخ، ومحصله أن هذا النظام العجيب الذى يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا وهو مبنى على خلافتكم في الارض واختلاف شؤونكم بالكبر والصغر والقوة والضعف والذكورية والانوثية والغنى والفقر والرئاسة والمرؤوسية والعلم والجهل وغيرها وإن كان نظاما اعتباريا لكنه ناش من عمل التكوين منته إليه فالله سبحانه هو ناظمه، وإنما فعل ذلك لامتحانكم وابتلائكم فهو الرب الذى يدبر أمر سعادتكم، ويوصل من إطاعه إلى سعادته المقدرة له ويذر الظالمين فيها جثيا، فهو الذى يحق عبادته. وقد تبين بما مر أن مجموع الجملتين: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى) سيق لافادة معنى واحد وهو أن ما كسبته نفس يلزمها ولا بتعداها، وهو مفاد قوله: (كل نفس بما كسبت رهينة) (المدثر: 38). قوله تعالى: (وهو الذى جعلكم خلائف الارض) الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في الارض وقد مر كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى: (إنى جاعل في الارض خليفة) (البقرة: 30) في الجزء الاول وقد تبين بما مر أن مجموع الجملتين: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى) سيق لافادة معنى واحد وهو أن ما كسبته نفس يلزمها ولا بتعداها، وهو مفاد قوله: (كل نفس بما كسبت رهينة) (المدثر: 38). قوله تعالى: (وهو الذى جعلكم خلائف الارض) الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضا أو استخلفكم لنفسه في الارض وقد مر كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى: (إنى جاعل في الارض خليفة) (البقرة: 30) في الجزء الاول من الكتاب، ومعنى الاية ظاهر بما مر من البيان، وقد ختمت السورة بالمغفرة والرحمة.

(بحث روائي)

 في الكافي بإسناده عن ابن مسكان عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: (حنيفا مسلما) قال: خالصا مخلصا ليس فيه شئ من عبادة الاوثان. أقول: ورواه في البرهان البرقى بإسناده عن ابن مسكان عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفيه: (خالصا مخلصا لا يشوبه شئ) وهو بيان المراد لا تفسير بالمعنى. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام قال: لا يقول: درجة واحدة إن الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالاعمال. أقول: وهو من نقل الاية بالمعنى فإن الاية هكذا: (ورفع بعضكم فوق بعض

[ 397 ]

درجات وفي موضع آخر ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) (الزخرف: 32) والظاهر أن قوله: (بعضها فوق بعض) من كلامة عليه السلام والحديث إنما ورد في تفسير مثل قوله: (تعالى هم درجات عند الله) لا في تفسير الاية التى نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الاية من سهو الراوى، وذلك أن قوله عليه السلام في ذيله: (إنما تفاضل القوم بالاعمال) لا ينطبق على الاية كما لا يخفى تم والحمد لله

* * *

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21403500

  • التاريخ : 19/04/2024 - 23:03

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net