مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء. انتهى فمعنى قوله: ﴿بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللَّهِ﴾ أي رجع و معه غضب من الله.
فمعنى الآيتين: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحف أو زاحفين للقتال فلا تفروا منهم و من يفر منهم يومئذ أي وقتئذ فقد رجع و معه غضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير إلا أن يكون فراره للتحرف لقتال أو التحيز إلى فئة فلا بأس به.
قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمىَ﴾ إلى آخر الآية، التدبر في السياق لا يدع شكا في أن الآية تشير إلى وقعة بدر و ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم من رميهم بكف من الحصى، و المؤمنون بوضع السيف فيهم و قتلهم القتل الذريع، و ذيل الآية أعني قوله: ﴿وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً﴾ يدل على أن الكلام جار مجرى الامتنان منه تعالى، و قد أثبت تعالى عين ما نفاه في جملة واحدة أعني قوله: ﴿وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾.
فمن جميع هذه الشواهد يتحصل أن المراد بقوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمىَ﴾ نفي أن تكون وقعة بدر و ما ظهر فيها من استئصال المشركين و الظهور عليهم و الظفر بهم جارية على مجرى العادة و المعروف من نواميس الطبيعة، و كيف يسع لقوم هم شرذمة قليلون ما فيهم على ما روي إلا فرس أو فرسان و بضعة أدرع و بضعة سيوف، أن يستأصلوا جيشا مجهزا بالأفراس و الأسلحة و الرجال و الزاد و الراحلة، هم أضعافهم عدة و لا يقاسون بهم قوة و شدة، و أسباب الغلبة عندهم، و عوامل البأس معهم، و الموقف المناسب للتقدم لهم.
إلا أن الله سبحانه بما أنزل من الملائكة ثبت أقدام المؤمنين و أرعب قلوب المشركين، و ألقى الهزيمة بما رماه النبي صلى الله عليه وآله و سلم من الحصاة عليهم فشملهم المؤمنين قتلا و أسرا فبطل بذلك كيدهم و خمدت أنفاسهم و سكنت أجراسهم.
فبالحري أن ينسب ما وقع عليهم من القتل بأيدي المؤمنين و الرمي الذي شتت شملهم و ألقى الهزيمة فيهم إليه سبحانه دون المؤمنين.
فما في الآية من النفي جار مجرى الدعوى بنوع من العناية، بالنظر إلى استناد
القتل بأطرافها إلى سبب إلهي غير عادي، و لا ينافي ذلك استنادها بما وقع فيها من الوقائع إلى أسبابها القريبة المعهودة في الطبيعة بأن يعد المؤمنون قاتلين لمن قتلوا منهم، و النبي صلى الله عليه وآله و سلم راميا لما رماه من الحصاة.
و قوله: ﴿وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَناً﴾ الظاهر أن ضمير ﴿مِنْهُ﴾ راجع إلى الله تعالى، و الجملة لبيان الغاية و هي معطوفة على مقدر محذوف، و التقدير: إنما فعل الله ما فعل من قتلهم و رميهم لمصالح عظيمة عنده، و ليبلي المؤمنين و يمتحنهم بلاء و امتحانا حسنا أو لينعم عليهم بنعمة حسنة، و هو إفناء خصمهم و إعلاء كلمة التوحيد بهم و إغناؤهم بما غنموا من الغنائم.
و قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تعليل لقوله: ﴿وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي إنه تعالى يبليهم لأنه سميع باستغاثتهم عليم بحالهم فيبليهم منه بلاء حسنا.
و التفريع الذي في صدر الآية: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ إلخ متعلق بما يتضمنه الآيات السابقة: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ إلى آخر الآيات من المعنى، فإنها تعد منن الله عليهم من إنزال الملائكة و إمدادهم بهم و تغشية النعاس إياهم و إمطار السماء عليهم و ما أوحي إلى الملائكة من تأييدهم و تثبيت أقدامهم و إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، فلما بلغ الكلام هذا المبلغ فرع عليه قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لَكِنَّ اَللَّهَ رَمىَ﴾.
و على هذا فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ﴾ إلى قوله: ﴿وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ﴾ معترضة متعلقة بقوله: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنَاقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ أو بمعناه المفهوم من الجمل المسرودة، و قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ إلخ متصل بما قبله بحسب النظم.
و ربما يذكر في نظم الآية وجهان آخران: أحدهما: أن الله سبحانه لما أمرهم بالقتل في الآية المتقدمة ذكر عقيبها أن ما كان من الفتح يوم بدر و قهر المشركين إنما كان بنصرته و معونته تذكيرا للنعمة.
ذكره أبو مسلم.
و الثاني: أنهم لما أمروا بالقتال ثم كان بعضهم يقول: أنا قتلت فلانا و أنا فعلت كذا نزلت الآية على وجه التنبيه لهم لئلا يعجبوا بأعمالهم. و ربما قيل: إن الفاء في
قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ لمجرد ربط الجمل بعضها ببعض. و الوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَ أَنَّ اَللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكَافِرِينَ﴾ قال في المجمع،: ﴿ذَلِكُمْ﴾ موضعه رفع، و كذلك ﴿أَنَّ اَللَّهَ﴾ في موضع رفع، و التقدير: الأمر ذلكم و الأمر أن الله موهن، و كذلك الوجه فيما تقدم من قوله: ﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ اَلنَّارِ﴾، و من قال: إن ﴿ذَلِكُمْ﴾ مبتدأ و ﴿فَذُوقُوهُ﴾ خبره فقد أخطأ لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا لمبتدإ، و لا يجوز: زيد فمنطلق، و لا: زيد فاضربه إلا أن تضمر «هذا» تريد: هذا زيد فاضربه. انتهى. فمعنى الآية: الأمر ذلكم الذي ذكرناه و الأمر أن الله موهن كيد الكافرين.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ اَلْفَتْحُ﴾ إلى آخر الآية. ظاهر الآية بما تشتمل عليه من الجمل المسرودة كقوله: ﴿وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ و قوله: ﴿وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾ إلخ أن تكون الخطاب فيه للمشركين دون المؤمنين باشتمال الكلام على الالتفات للتهكم، و هو المناسب لقوله في الآية السابقة: ﴿وَ أَنَّ اَللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكَافِرِينَ﴾.
فالمعنى: إن طلبتم الفتح و سألتم الله أيها المشركون أن يفتح بينكم و بين المؤمنين فقد جاءكم الفتح بما أظهر الله من الحق يوم بدر فكانت الدائرة للمؤمنين عليكم، و إن تنتهوا عن المكيدة على الله و رسوله فهو خير لكم و إن تعودوا إلى مثل ما كدتم نعد إلى مثل ما أوهنا به كيدكم، و لن تغني عنكم جماعتكم شيئا و لو كثرت كما لم تغن في هذه المرة و إن الله مع المؤمنين و لن يغلب من هو معه.
و بهذا يتأيد ما ورد أن أبا جهل قال يوم بدر حين اصطف الفريقان أو حين التقى الفئتان: اللهم إن محمدا أقطعنا للرحم و أتانا بما لا نعرف فانصر عليه و في بعض الروايات و هو الأنسب كما في المجمع عن أبي حمزة: قال أبو جهل: اللهم ربنا ديننا القديم و دين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك و أرضى عندك فانصر أهله اليوم.
و ذكر بعضهم: أن الخطاب في الآية للمؤمنين و وجهوا مضامين جملها بما لا يرتضيه الذوق السليم، و لا جدوى للإطالة بذكرها و المناقشة فيها فمن أراد ذلك فعليه بالمطولات.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ الضمير على ما يفيده السياق راجع إلى الرسول صلى الله عليه وآله و سلم، و المعنى، و لا تولوا عن الرسول
و أنتم تسمعون ما يلقياه إليكم من الدعوة الحقة و ما يأمركم به و ينهاكم عنه مما فيه صلاح دينك و دنياكم. و مصب الكلام أوامره الحربية و إن كان لفظه أعم.
قوله تعالى: ﴿وَ لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَ هُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ المعنى ظاهر و فيه نوع تعريض للمشركين إذ قالوا: سمعنا، و هو لا يسمعون، و قد حكى الله عنهم ذلك إذ قال بعد عدة آيات: ﴿وَ إِذَا تُتْلىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾: الأنفال: ٣١، لكنهم كذبوا و لم يسمعوا و لو سمعوا لاستجابوا كما قال الله تعالى: ﴿وَ لَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾: الأعراف: ١٧٩، و قال تعالى حكاية عن أصحاب السعير: ﴿وَ قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ اَلسَّعِيرِ﴾ الملك: ١٠ فالمراد بالسمع في الآية الأولى تلقي الكلام الحق الذي هو صوت من طريق الأذن، و في الآية الثانية الانقياد لما يتضمنه الكلام الحق المسموع.
و الآيتان كما ترى خطاب متعلق بالمؤمنين متصل نوع اتصال بالآية السابقة عليهما و تعريض للمشركين، فهو تعالى لما التفت إلى المشركين فذمهم و تهكم عليهم بسؤالهم الفتح، و ذكر لهم أن الغلبة دائما لكلمة الإيمان على كلمة الكفر و لدعوة الحق على دعوة الباطل، التفت إلى حزبه و هم المؤمنون فأمرهم بالطاعة له و لرسوله، و حذرهم عن التولي عنه بعد استماع كلمة الحق، و أن يكونوا كأولئك إذ قالوا: سمعنا و هم لا يسمعون.
و من الممكن أن يكون في الآية إشارة إلى عدة من أهل مكة آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله و سلم و لما تخلص قلوبهم من الشك خرجوا مع المشركين إلى بدر لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فابتلوا بما ابتلي به مشركو قريش، فقد ورد في الخبر: أن فئة من قريش أسلموا بمكة و احتبسهم آباؤهم فخرجوا مع قريش، يوم بدر، و هم قيس بن الوليد بن المغيرة، و علي بن أمية بن خلف، و العاص بن منبه بن الحجاج، و الحارث بن زمعة، و قيس بن الفاكه بن المغيرة و لما رأوا قلة المسلمين قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، و سيذكرهم الله بعد عدة آيات بقوله: ﴿إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ﴾ الآية.
و ربما قيل: إن المراد بالذين قالوا سمعنا و هم لا يسمعون هم أهل الكتاب من يهود قريظة و النضير. و هو بعيد.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ اَلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ إلى آخر الآيتين. تعريض و ذم للذين سبق ذكرهم من الكفار على ما يعطيه سياق الكلام و ما اشتملت عليه الآية من الموصول و الضمائر المستعملة في أولي العقل، و على هذا فالظاهر أن اللام في قوله: ﴿اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ﴾ للعهد الذكري، و يئول المعنى إلى أن شر جميع ما يدب على الأرض من أجناس الحيوان و أنواعها هؤلاء الصم البكم الذين لا يعقلون، و إنما لم يعقلوا لأنه لا طريق لهم إلى تلقي الحق لفقدهم السمع و النطق فلا يسمعون و لا ينطقون.
ثم ذكر تعالى أن الله إنما ابتلاهم بالصمم و البكمة فلا يسمعون كلمة الحق و لا ينطقون بكلمة الحق، و بالجملة حرمهم نعمة السمع و القبول، لأنه تعالى لم يجد عندهم خيرا و لم يعلم به و لو كان لعلم، لكن لم يعلم فلم يوفقهم للسمع و القبول، و لو أنه تعالى رزقهم السمع و الحال هذه لم يثبت السمع و القبول فيهم بل تولوا عن الحق و هم معرضون.
و من هنا يعلم أن المراد بالخير حسن السريرة الذي يثبت به الاستعداد لقبول الحق و يستقر في القلب، و أن المراد بقوله: ﴿وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ الأسماع على تقدير عدم الاستعداد الثابت المستقر فافهم ذلك فلا يرد أنه تعالى لو أسمعهم و رزقهم قبول الحق استلزم ذلك تحقق الخير فيهم و لا وجه مع ذلك لتوليهم و إعراضهم و ذلك أن الشرط في قوله: ﴿وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ على تقدير فقدهم الخير على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ لما دعاهم في قوله: ﴿أَطِيعُوا اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ﴾ إلخ إلى إطاعة الدعوة الحقة و عدم التولي عنها بعد استماعها أكده ثانيا بالدعوة إلى استجابة الله و الرسول في دعوة الرسول، ببيان حقيقة الأمر و الركن الواقعي الذي تعتمد عليه هذه الدعوة، و هو أن هذه الدعوة دعوة إلى ما يحيي الإنسان بإخراجه من مهبط الفناء و البوار، و موقفه في الوجود، أن الله سبحانه أقرب إليه من قلبه و أنه سيحشر إليه فليأخذ حذره و ليجمع همه و يعزم عزمه.
الحياة أنعم نعمة و أعلى سلعة يعتقدها الموجود الحي لنفسه كيف لا؟ و هو لا يرى وراءه إلا العدم و البطلان، و أثرها الذي هو الشعور و الإرادة هو الذي ترام
لأجله الحياة و يرتاح إليه الإنسان و لا يزال يفر من الجهل و افتقاد حرية الإرادة و الاختيار و قد جهز الإنسان و هو أحد الموجودات الحية بما يحفظ به حياته الروحية التي هي حقيقة وجوده كما جهز كل نوع من أنواع الخليقة بما يحفظ به وجوده و بقاءه.
و هذا الجهاز الإنساني يشخص له خيراته و منافعه، و يحذره من مواطن الشر و الضر.
و إذ كان هذه الهداية الإلهية التي يسوق النوع الإنسان إلى نحو سعادته و خيره و يندبه نحو منافع وجوده هداية بحسب التكوين و في طور الخلقة، و من المحال أن يقع خطأ في التكوين، كان من الحتم الضروري أن يدرك الإنسان سعادة وجوده إدراكا لا يقع فيه شك كما أن سائر الأنواع المخلوقة تسير إلى ما فيه خير وجوده و منافع شخصه من غير أن يسهو فيه من حيث فطرته، و إنما يقع الخبط فيما يقع من جهة تأثير عوامل و أسباب أخر مضادة تؤثر فيه أثرا مخالفا ينحرف فيه الشيء عما هو خير له إلى ما هو شر، و عما فيه نفعه إلى ما فيه ضرر يعود إليه، و ذلك كالجسم الثقيل الأرضي الذي يستقر بحسب الطبيعة الأرضية على بسيط الأرض ثم إنه يبتعد عن الأرض بالحركة إلى جهة العلو بدفع دافع يجبره على خلاف الطبع فإذا بطل أثر الدفع عاد إلى مستقره بالحركة نحو الأرض على استقامة إلا أن يمنعه مانع فيخرجه عن السير الاستقامي إلى انحراف و اعوجاج.
و هذا هو الذي يصر عليه القرآن الكريم أن الإنسان لا يخفى عليه ما فيه سعادته في الحياة من علم و عمل، و أنه يدرك بفطرته ما هو حق الاعتقاد و العمل قال تعالى: ﴿فِطْرَتَ اَللَّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللَّهِ ذَلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ﴾الروم: ٣٠ «و قال تعالى ﴿اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ اَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدىَ ﴾ إلى أن قال ﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ اَلذِّكْرىَ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشىَ وَ يَتَجَنَّبُهَا اَلْأَشْقَى﴾ الأعلى: ١١ و قال تعالى: ﴿وَ نَفْسٍ وَ مَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَ تَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَ قَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ الشمس: ١٠.
نعم ربما أخطأ الإنسان طريق الحق في اعتقاد أو عمل و خبط في مشيته لكن لا لأن الفطرة الإنسانية و الهداية الإلهية أوقعته في ضلالة و أوردته في تهلكة بل لأنه أغفل عقله و نسي رشده و اتبع هوى نفسه و ما زينه جنود الشياطين في عينه، قال
تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ مَا تَهْوَى اَلْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ اَلْهُدىَ﴾: النجم: ٢٣ و قال: ﴿أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلىَ عِلْمٍ﴾: الجاثية: - ٢٣.
فهذه الأمور التي تدعو إليها الفطرة الإنسانية من حق العلم و العمل لوازم الحياة السعيدة الإنسانية و هي الحياة الحقيقية التي بالحري أن تختص باسم الحياة و الحياة السعيدة تستتبعها كما أنها تستلزم الحياة و تستتبعها و تعيدها إلى محلها لو ضعفت الحياة في محلها بورود ما يضادها و يبطل رشد فعلها.
فإذا انحرف الإنسان عن سوي الصراط الذي تهديه إليه الفطرة الإنسانية و تسوقه إليه الهداية، الإلهية فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع و العمل الصالح، و لحق بحلول الجهل و فساد الإرادة الحرة و العمل النافع بالأموات و لا يحييه إلا علم حق و عمل حق، و هما اللذان تندب إليهما الفطرة و هذا هو الذي تشير إليه الآية التي نبحث عنها: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
و اللام في قوله: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. بمعنى إلى، و هو شائع في الاستعمال، و الذي يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وآله و سلم هو الدين الحق و هو الإسلام الذي يفسره القرآن الكريم باتباع الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع و عمل صالح.
و للحياة بحسب ما يراه القرآن الكريم معنى آخر أدق مما نراه بحسب النظر السطحي الساذج فإنا إنما نعرف من الحياة في بادئ النظر ما يعيش به الإنسان في نشأته الدنيوية إلى أن يحل به الموت، و هي التي تصاحب الشعور و الفعل الإرادي، و يوجد مثلها أو ما يقرب منها في غير الإنسان أيضا من سائر الأنواع الحيوانية لكن الله سبحانه يقول: ﴿وَ مَا هَذِهِ اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾: العنكبوت ٦٤ و يفيد ذلك أن الإنسان متمتع بهذه الحياة غير مشتغل إلا بالأوهام، و أنه مشغول بها عما هو أهم و أوجب من غايات وجوده و أغراض روحه فهو في حجاب مضروب عليه يفصل بينه و بين حقيقة ما يطلبه و يبتغيه من الحياة.
و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى و هو من خطابات يوم القيامة: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾: ق: - ٢٢.
فللإنسان حياة أخرى أعلى كعبا و أغلى قيمة من هذه الحياة الدنيوية التي يعدها الله سبحانه لعبا و لهوا، و هي الحياة الأخروية التي سينكشف عن وجهها الغطاء، و هي الحياة التي لا يشوبها اللعب و اللهو، و لا يدانيها اللغو و التأثيم، لا يسير فيها الإنسان إلا بنور الإيمان و روح العبودية قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمَانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾: المجادلة: ٢٢ و قال تعالى: ﴿أَ وَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَ جَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾: الأنعام ١٢٢.
فهذه حياة أخرى أرفع قدرا و أعلى منزلة من الحياة الدنيوية العامة التي ربما شارك فيها الحيوان العجم الإنسان، و يظهر من أمثال قوله تعالى: ﴿وَ أَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ﴾: البقرة: ٢٥٣ و قوله: ﴿وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا﴾ الآية الشورى: - ٥٢ أن هناك حياة أخرى فوق هاتين الحياتين المذكورتين سيوافيك البحث عنها فيما يناسبها من المورد إن شاء الله.
و بالجملة فللإنسان حياة حقيقية أشرف و أكمل من حياته الدينية الدنيوية يتلبس بها إذا تم استعداده بالتحلي بحلية الدين و الدخول في زمرة الأولياء الصالحين كما تلبس بالحياة الدنيوية حين تم استعداده للتلبس بها و هو جنين إنساني.
و على ذلك ينطبق قوله تعالى في الآية المبحوث عنها: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ فالتلبس بما تندب إليه الدعوة الحقة من الإسلام يجر إلى الإنسان هذه الحياة الحقيقية كما أن هذه الحياة منبع ينبع منه الإسلام و ينشأ منه العلم النافع و العمل الصالح، و في معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىَ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ:﴾ النحل: - ٩٧.
و الآية أعني قوله فيها: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ مطلق لا يأبى الشمول لجميع دعوته ص المحيية للقلوب، أو بعضها الذي فيه طبيعة الإحياء أو لنتائجها التي هي أنواع الحياة السعيدة الحقيقية كالحياة السعيدة في جوار الله سبحانه في الآخرة.
و من هنا يظهر أن لا وجه لتقييد الآية بما قيدها به أكثر المفسرين فقد قال بعضهم: إن المراد بقوله: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ بالنظر إلى مورد النزول: إذا دعاكم إلى الجهاد إذ فيه إحياء أمركم و إعزاز دينكم.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى الشهادة في سبيل الله في جهاد عدوكم فإن الله سبحانه عد الشهداء أحياء كما في قوله: ﴿وَ لاَ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾: آل عمران: - ١٦٩.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى الإيمان فإنه حياة القلب و الكفر موته أو إذا دعاكم إلى الحق.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى القرآن و العلم في الدين لأن العلم حياة و الجهل موت و القرآن نور و حياة و علم.
و قيل: المعنى إذا دعاكم إلى الجنة لما فيها من الحياة الدائمة و النعمة الباقية الأبدية.
و هذه الوجوه المذكورة يقبل كل واحد منها انطباق الآية عليه غير أن الآية كما عرفت مطلقة لا موجب لصرفها عما لها من المعنى الوسيع.
قوله تعالى: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ الحيلولة هي التخلل وسطا، و القلب العضو المعروف. و يستعمل كثيرا في القرآن الكريم في الأمر الذي يدرك به الإنسان و يظهر به أحكام عواطفه الباطنة كالحب و البغض و الخوف و الرجاء و التمني و القلق و نحو ذلك فالقلب هو الذي يقضي و يحكم، و هو الذي يحب شيئا و يبغض آخر، و هو الذي يخاف و يرجو و يتمنى و يسر و يحزن، و هو في الحقيقة النفس الإنسانية تفعل بما جهزت به من القوى و العواطف الباطنة.
و الإنسان كسائر ما أبدعه الله من الأنواع التي هي أبعاض عالم الخلقة مركب من أجزاء شتى مجهز بقوى و أدوات تابعة لوجوده يملكها و يستخدمها في مقاصد وجوده، و الجميع مربوطة به ربطا يجعل شتات الأجزاء و الأبعاض على كثرتها و تفاريق القوى و الأدوات على تعددها، واحدا تاما يفعل و يترك، و يتحرك و يسكن، بوحدته و فردانيته.
غير أن الله سبحانه لما كان هو المبدع للإنسان و هو الموجد لكل واحد واحد من أجزاء وجوده و تفاريق قواه و أدواته كان هو الذي يحيط به و بكل واحد من أجزاء وجوده و توابعه، و يملك كلا منها بحقيقة معنى الملك يتصرف فيه كيف يشاء، و يملك الإنسان ما شاء منها كيف شاء فهو المتوسط الحائل بين الإنسان و بين كل
جزء من أجزاء وجوده و كل تابع من توابع شخصه: بينه و بين قلبه، بينه و بين سمعه، بينه و بين بصره، بينه و من بدنه، بينه و بين نفسه. يتصرف فيها بإيجادها، و يتصرف فيها بتمليك الأسنان ما شاء منها كيف شاء، و إعطائه ما أعطي، و حرمانه ما حرم.
و نظير الإنسان في ذلك سائر الموجودات فما من شيء في الكون و له ذات و توابع ذات من قوى و آثار و أفعال إلا و الله سبحانه هو المالك بحقيقة معنى الكلمة لذاته و لتوابع ذاته، و هو المملك إياه كلا من ذاته و توابع ذاته فهو الحائل المتوسط بينه و بين ذاته و بينه و بين توابع ذاته من قواه و آثاره و أفعاله.
فالله سبحانه هو الحائل المتوسط بين الإنسان و بين قلبه و كل ما يملكه الإنسان و يرتبط و يتصل هو به نوعا من الارتباط و الاتصال و هو أقرب إليه من كل شيء كما قال تعالى: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ﴾: ق: - ١٦.
و إلى هذه الحقيقة يشير قوله: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فهو تعالى لكونه مالكا لكل شيء و من جملتها الإنسان ملكا حقيقيا لا مالك حقيقة سواه، أقرب إليه حتى من نفسه و قوى نفسه التي يملكها لأنه سبحانه هو الذي يملكه إياها فهو حائل متوسط بينه و بينها يملكه إياها و يربطها به فافهم ذلك.
و لذلك عقب الجملة بقوله: ﴿وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فإن الحشر و البعث هو الذي ينجلي عنده أن الملك الحق لله وحده لا شريك له، و يبطل عند ذلك كل ملك صوري و سلطنة ظاهرية إلا ملكه الحق جل ثناؤه كما قال سبحانه: ﴿لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلَّهِ اَلْوَاحِدِ اَلْقَهَّارِ:﴾ المؤمن: - ١٦، و قال: ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ:﴾ الإنفطار: - ١٩.
فكأن الآية تقول: و اعلموا أن الله هو المالك بالحقيقة لكم و لقلوبكم و هو أقرب إليكم من كل شيء، و أنه ستحشرون إليه فيظهر حقيقة ملكه لكم و سلطانه عليكم يومئذ فلا يغني عنكم منه شيء.
و أما اتصال الكلام أعني ارتباط قوله: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ﴾ إلخ بقوله: ﴿اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ فلأن حيلولته سبحانه بين المرء و قلبه، يقطع منبت كل عذر في عدم استجابته لله و الرسول إذا دعاه لما
يحييه، و هو التوحيد الذي هو حقيقة الدعوة الحقة فإن الله سبحانه لما كان أقرب إليه من كل شيء حتى من قلبه الذي يعرفه بوجدانه قبل كل شيء، فهو تعالى وحده لا شريك له أعرف إليه من قلبه الذي هو وسيلة إدراكه و سبب أصل معرفته و علمه.
فهو يعرف الله إلها واحدا لا شريك له قبل معرفته قلبه و كل ما يعرفه بقلبه، فمهما شك في شيء أو ارتاب في أمر فلن يشك في إلهه الواحد الذي هو رب كل شيء و لن يضل في تشخيص هذه الكلمة الحقة.
فإذا دعاه داعي الحق إلى كلمة الحق و دين التوحيد الذي يحييه لو استجاب له، كان عليه أن يستجيب داعي الله فإنه لا عذر له في ترك الاستجابة معللا بأنه لم يعرف حقية ما دعي إليه، أو اختلط عليه، أو أعيته المذاهب في الإقبال على الحق الصريح فإن الله سبحانه هو الحق الصريح الذي لا يحجبه حاجب، و لا يستره ساتر إذ كل حجاب مفروض فالله سبحانه أقرب منه إلى الإنسان، و كل ما يختلج في القلب من شبهة أو وسوسة فالله سبحانه متوسط متخلل بينه مع ما له من ظرف و هو القلب و بين الإنسان فلا سبيل للإنسان إلى الجهل بالله و الشك في توحده.
و أيضا فإن الله سبحانه لما كان حائلا بين المرء و قلبه فهو أقرب إلى قلبه منه كما أنه أقرب إليه من قلبه فإن الحائل المتوسط أقرب إلى كل من الطرفين من الطرف الآخر و إذا كان تعالى أقرب إلى قلب الإنسان منه فهو أعلم بما في قلبه منه.
فعلى الإنسان إذا دعاه داعي الحق إلى ما يحييه من الحق أن يستجيب دعاءه بقلبه كما يستجيبه بلسانه، و لا يضمر في قلبه ما لا يوافق ما لباه بلسانه و هو النفاق فإن الله أعلم بما في قلبه منه و سيحشر إليه فينبئه بحقيقة عمله و يخبره بما طواه في قلبه قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفىَ عَلَى اَللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ:﴾ المؤمن: - ١٦، و قال: ﴿وَ لاَ يَكْتُمُونَ اَللَّهَ حَدِيثاً﴾ النساء: - ٤٢.
و أيضا فإن الله سبحانه لما كان هو الحائل بين الإنسان و قلبه و هو المالك للقلب بحقيقة معنى الملك كان هو المتصرف في القلب قبل الإنسان و له أن يتصرف فيه بما شاء فما يجده الإنسان في قلبه من إيمان أو شك أو خوف أو رجاء أو طمأنينة أو قلق و اضطراب أو غير ذلك مما ينسب إليه باختيار أو اضطرار، فله انتساب إليه ـ
تعالى بتصرفه فيما هو أقرب إليه من كل شيء تصرفا بالتوفيق أو الخذلان أو أي نوع من أنواع التربية الإلهية، يتصرف بما شاء و يحكم بما أراد من غير أن يمنعه مانع أو يهدده ذم أو لوم كما قال تعالى: ﴿وَ اَللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ:﴾ الرعد: - ٤١، و قال تعالى: ﴿لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ وَ هُوَ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ التغابن: - ١.
فمن الجهل أن يثق الإنسان بما يجد في قلبه من الإيمان بالحق أو التلبس بنية حسنة أو عزيمة على خير أو هم بصلاح و تقوى، بمعنى أن يرى استقلاله بملك قلبه و قدرته المطلقة على ما يهم به فإن القلب بين أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء و هو المالك له بحقيقة معنى الملك و المحيط به بتمام معنى الكلمة، قال تعالى: ﴿وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ:﴾ الأنعام: ١١٠، فمن الواجب عليه أن يؤمن بالحق و يعزم على الخير على مخافة من الله تعالى أن يقلبه من السعادة إلى الشقاء و يحول قلبه من حال الاستقامة إلى حال الانتكاس و الانحراف، و لا يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
و كذلك الإنسان إذا وجد قلبه غير مقبل على كلمة الحق و العزم على الخير و صالح العمل، عليه أن يبادر إلى استجابة الله و رسوله فيما يدعوه إلى ما يحييه، و لا ينهزم عما يهجم عليه من أسباب اليأس و عوامل القنوط من ناحية قلبه فإن الله سبحانه يحول بين المرء و قلبه، و هو القادر على أن يصلح سره و يحول قلبه إلى أحسن حال و يشمله بروح منه و رحمة فإنما الأمر إليه، و قد قال: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللَّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكَافِرُونَ﴾ يوسف: - ٨٧، و قال: ﴿وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضَّالُّونَ﴾ الحجر: - ٥٦.
فالآية الكريمة - كما ترى - من أجمع الآيات القرآنية تشتمل على معرفة حقيقية من المعارف الإلهية - مسألة الحيلولة - و هي تقطع عذر المتجاهلين في معرفة الله سبحانه من الكفار و المشركين، و تقلع غرة النفاق من أصلها بتوجيه نفوس المنافقين إلى مقام ربهم و أنه أعلم بما في قلوبهم منهم، و يلقي إلى المسلمين و الذين هم في طريق الإيمان بالله و آياته مسألة نفسية تعلمهم أنهم غير مستقلين في ملك قلوبهم و لا منقطعون في ذلك من ربهم فيزول بذلك رذيلة الكبر عمن يرى لنفسه استقلالا و سلطنة فيما يملكه فلا يغره ما يشاهده من تقوى القلب و إيمان السر، و رذيلة اليأس و القنوط عمن يحيط بقلبه
دواهي الهوى و دواعي أعراض الدنيا فيتثاقل عن الإيمان بالحق و الإقبال على الخير، و يورثه ذلك اليأس و القنوط.
و مما تقدم يظهر أن قوله: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ﴾ إلخ تعليل لقوله تعالى: ﴿اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ على جميع التقادير من وجوه معناه.
و بذلك يظهر أيضا أن الآية أوسع معنى مما أورده المفسرون من تفسيرها: كقول من قال: إن المراد أن الله سبحانه أقرب إلى المرء من قلبه نظير قوله: ﴿وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ﴾، و فيه تحذير شديد.
و قول من قال: إن المراد أن القلب لا يستطيع أن يكتم الله حديثا فإن الله أقرب إلى قلب الإنسان من نفسه، فما يعلمه الإنسان من قلبه يعلمه الله قبله.
و قول من قال: إن المراد أنه يحول بين المرء و بين الانتفاع بقلبه بالموت فلا يمكنه استدراك ما فات فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة و دعوا التسويف، و فيه حث على الطاعة قبل حلول المانع.
و قول من قال: معناه أن الله سبحانه يملك تقليب القلوب من حال إلى حال فكأنهم خافوا من القتال فأعلمهم الله سبحانه أنه يبدل خوفهم أمنا بأن يحول بينهم و بين ما يتفكرون فيه من أسباب الخوف.
و قد ورد في الحديث عن أئمة أهل البيت عليه السلام أن المراد بذلك أن الله سبحانه يحول بين الإنسان و بين أن يعلم أن الحق باطل أو أن الباطل حق، و سيجيء في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ﴾ قرأ علي و الباقر عليه السلام من أئمة أهل البيت و كذا زيد بن ثابت و الربيع بن أنس و أبو العالية على ما في المجمع: لتصيبن باللام و نون التأكيد الثقيلة، و القراءة المشهورة: لا تصيبن بلا الناهية و نون التأكيد الثقيلة.
و على أي تقدير كان، تحذر الآية جميع المؤمنين عن فتنة تختص بالظالمين منهم، و لا يتعداهم إلى غيرهم من الكفار و المشركين، و اختصاصها بالظالمين من المؤمنين و أمر
عامتهم مع ذلك باتقائها يدل على أنها و إن كانت قائمة ببعض الجماعة لكن السيئ من أثرها يعم الجميع ثم قوله تعالى: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ﴾ تهديد للجميع بالعقاب الشديد و لا دليل يدل على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا و كونه من العذاب الدنيوي من قبيل الاختلافات القومية و شيوع القتل و الفساد و ارتفاع الأمن و السلام و نحو ذلك.
و مقتضى ذلك أن تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم مما يوجب على عامة الأمة أن يبادروا على دفعها، و يقطعوا دابرها و يطفئوا لهيب نارها بما أوجب الله عليهم من النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف.
فيئول معنى الكلام إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم و توجب شق عصاهم و اختلاف كلمتهم، و لا تلبث دون أن تحزبهم أحزابا و تبعضهم أبعاضا، و و يكون الملك لمن غلب منهم، و الغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحق و الدين الحنيف الذي يشترك فيه عامة المسلمين.
فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة و هم الظالمون غير أن سيئ أثره يعم الكل و يشمل الجميع فيستوعبهم الذلة و المسكنة و كل ما يترقب من مر البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، و هم جميعا مسئولون عند الله و الله شديد العقاب.
و قد أبهم الله تعالى أمر هذه الفتنة و لم يعرفها بكمال اسمها و رسمها غير أن قوله فيما بعد: ﴿لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ و قوله: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ شَدِيدُ اَلْعِقَابِ﴾ كما تقدم يوضحها بعض الإيضاح، و هو أنها اختلاف البعض من الأمة مع بعض منها في أمر يعلم جميعه وجه الحق فيه فيجمح البعض عن قبول الحق و يقدم إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه و لا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، و ليس كل ظلم، بل الظلم الذي يسري سوء أثره إلى كافة المؤمنين و عامة الأمة لمكان أمره سبحانه الجميع باتقائه، فالظلم الذي هو لبعض الأمة و يجب على الجميع أن يتقوه ليس إلا ما هو من قبيل التغلب على الحكومة الحقة الإسلامية، و التظاهر بهدم القطعيات من الكتاب و السنة التي هي من حقوقها.
و أيا ما كان ففي الفتن الواقعة في صدر الإسلام ما ينطبق عليه الآية أوضح
انطباق و قد انهدمت بها الوحدة الدينية، و بدت الفرقة و نفدت القوة، و ذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل و السبي و النهب و هتك الأعراض و الحرمات و هجر الكتاب و إلغاء السنة، و قال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
و من شمول مشامتها و تعرق فسادها أن الأمة لا تستطيع الخروج من أليم عذابها حتى بعد التنبه منهم لسوء فعالهم و تفريطهم في جنب الله كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق.
و قد تفطن بعض المفسرين بأن الآية تحذر الأمة و تهددهم بفتنة تشمل عامتهم و تفرق جمعهم، و تشتت شملهم، و توعدهم بعذاب الله الشديد، و قد أحسن التفطن غير أنه تكلف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيوي، و تمحل في تقييد ما في الآية من إطلاق العقاب، و أنى لهم التناوش من مكان بعيد.
و لنرجع إلى لفظ الآية: أما على قراءة أهل البيت عليه السلام و زيد: «و اتقوا فتنة لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» فاللام في «لتصيبن» للقسم و النون الثقيلة لتأكيده، و التقدير: و اتقوا فتنة أقسم لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، و خاصة حال من الفتنة، و المعنى اتقوا فتنة تختص إصابته بالذين ظلموا منكم أيها المخاطبون و هم الذين آمنوا، و عليك أن تتذكر ما سلفبيانه أن لفظ: ﴿اَلَّذِينَ آمَنُوا﴾ في القرآن خطاب تشريفي للمؤمنين في أول البعثة و بدء انتشار الدعوة لو لا قرينة صارفة عن ذلك، ثم تذكر أن فتن صدر الإسلام تنتهي إلى أصحاب بدر، و الآية على أي حال يأمر الجميع أن يتقوا فتنة تثيرها بعضهم، و ليس إلا لأن أثرها السيئ يعم الجميع كما تقدم.
و أما على قراءة المشهور: ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ فقد ذكروا: أن لا في ﴿لاَ تُصِيبَنَّ﴾ ناهية و النون لتأكيد النهي، و ليس ﴿لاَ تُصِيبَنَّ﴾ جوابا للأمر في ﴿اِتَّقُوا﴾ بل الكلام جار مجرى الابتداء و الاستيناف كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَ جُنُودُهُ﴾ النمل: - ١٨ فقد قال أولا: ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً﴾ ثم استأنف و قال: ﴿لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ لاتصال الجملتين معنى.
و ربما جوز بعض النحاة أن يكون ﴿لاَ تُصِيبَنَّ﴾ نهيا واردا في جواب الأمر كما يقال: اتق زيدا لا يضربك أو لا يضربنك و التقدير: اتق زيدا فإنك إن اتقيته لا يضربك و لم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر.
و ربما قال بعضهم: إن لا زائدة و المعنى: اتقوا فتنة تصيبن الآية.
و ربما ذكر آخرون: أن أصل ﴿لاَ تُصِيبَنَّ﴾ «لتصيبن» أشبعت فتحة اللام حتى تولدت الألف، و إشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال:
فأنت من الغوائل حين ترمي *** و من ذم الرجال بمنتزاح
يريد: بمنتزح، و الوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى.
و مآل المعنى على هذا الوجه أي على قراءة ﴿لاَ تصِيبَنَّ﴾ أيضا إلى ما تفيده القراءة الأولى «لتصيبن» كما عرفت.
و الآية كما عرفت تتضمن خطابا اجتماعيا متوجها إلى مجموع الأمة و ذلك يؤيد كون الخطاب في الآية السابقة: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ خطابا اجتماعيا متوجها إلى كافة المؤمنين، و يتفرع عليه أن المراد بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتفاق على الاعتصام بحبل الله و إقامة الدين و عدم التفرق فيه كما قال: ﴿وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللَّهِ جَمِيعاً وَ لاَ تَفَرَّقُوا﴾: آل عمران: - ١٠٣ و قال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ الشورى: - ١٣ و قوله: ﴿وَ أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاَ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾: الأنعام: - ١٥٣.
و بهذا يتأيد بعض الوجوه المذكورة سابقا في قوله: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ و كذا في قوله: ﴿أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ﴾ و تختص الآية به بحسب السياق و إن كانت تفيد معنى أوسع من ذلك باعتبار أخذها في نفسها مفردة عن السياق، و الباحث الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك و الله الهادي.
قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ﴾ إلى آخر الآية. الاستضعافعد الشيء ضعيفا بتوهين أمره، و التخطف و الخطف و الاختطاف أخذ الشيء بسرعة انتزاع، و الإيواء جعل الإنسان ذا مأوى و مسكن يرجع إليه و يأوي، و التأييد من الأيد و هو القوة.
و السياق يدل على أن المراد بقوله: ﴿إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ﴾ الزمان الذي كان المسلمون محصورين بمكة قبل الهجرة و هم قليل مستضعفون، و بقوله: ﴿تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ﴾ مشركو العرب و صناديد قريش، و بقوله ﴿فَآوَاكُمْ﴾ أي بالمدينة و بقوله ﴿وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ﴾ ما أسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر، و بقوله: ﴿وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبَاتِ﴾ ما رزقهم من الغنائم و أحلها لهم.
و ما عده في الآية من أحوال المؤمنين و مننه عليهم بالإيواء و إن كانت مما يختص بالمهاجرين منهم دون الأنصار إلا أن المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين و الأنصار فإنهم أمة واحدة يوحدهم دين واحد. على أن فيما ذكره الله في الآية من مننه التأييد بالنصر و الرزق من الطيبات و هما يعمان الجميع، هذا بحسب ما تقتضيه الآية من حيث وقوعها في سياق آيات بدر، و لكن هي وحدها و باعتبار نفسها تعم جميع المسلمين من حيث إنهم أمة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدا ظهور الإسلام فيهم و هم قليل مستضعفون بمكة يخافون أن يتخطفهم الناس فآواهم بالمدينة و كثرهم بالأنصار و أيدهم بنصره في بدر و غيره و رزقهم من جميع الطيبات الغنائم و غيرها من سائر النعم لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إلى آخر الآيتين. الخيانة نقض الأمانة التي هي حفظ الأمن لحق من الحقوق بعهد أو وصية و نحو ذلك، قال الراغب: الخيانة و النفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد و الأمانة، و النفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، و نقيض الخيانة الأمانة يقال: خنت فلانا، و خنت أمانة فلان و على ذلك قوله: ﴿لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾. انتهى.
و قوله: ﴿وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ من الجائز أن يكون مجزوما معطوفا على تخونوا السابق، و المعنى: و لا تخونوا أماناتكم، و أن يكون منصوبا بحذف أن و التقدير: و أن تخونوا أماناتكم و يؤيد الوجه الثاني قوله بعده: ﴿وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
و ذلك أن الخيانة و إن كانت إنما يتعلق النهي التحريمي بها عند العلم فلا نهي مع جهل بالموضوع و لا تحريم غير أن العلم من الشرائط العامة التي لا ينجز تكليف من التكاليف المولوية إلا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهي عن الخيانة بالعلم مع
أن العلم لكونه شرطا عاما مستغنى عن ذكره، و ظاهر قوله: ﴿وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ بحذف متعلقات الفعل أن المراد: و لكم علم بأنه خيانة لا ما قيل: إن المعنى: و أنتم تعلمون مفاسد الخيانة و سوء عاقبتها و تحريم الله إياها فإن ذلك لا دليل عليه من جهة اللفظ و لا من جهة السياق.
فالوجه أن تكون الجملة بتقدير: و أن تخونوا أماناتكم، و يكون مجموع قوله: ﴿لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ نهيا واحدا متعلقا بنوع خيانة هي خيانة أمانة الله و رسوله و هي بعينها خيانة لأمانة المؤمنين أنفسهم فإن من الأمانة ما هي أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده و منها ما هي أمانة الرسول كسيرته الحسنة، و منها ما هي أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم أو أسرارهم، و منها ما يشترك فيه الله و رسوله و المؤمنون، و هي الأمور التي أمر بها الله سبحانه و أجراها الرسول و ينتفع بها الناس و يقوم بها صلب مجتمعهم كالأسرار السياسية و المقاصد الحربية التي تضيع بإفشائها آمال الدين و تضل بإذاعتها مساعي الحكومة الإسلامية فيبطل به حق الله و رسوله و يعود ضرره إلى عامة المؤمنين.
فهذا النوع من الأمانة خيانته خيانة لله و رسوله و للمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة من المؤمنين يخون الله و الرسول و هو يعلم أن هذه الأمانة التي يخونها أمانة لنفسه و لسائر إخوانه المؤمنين و هو يخون أمانة نفسه، و لن يقدم عاقل على الخيانة لأمانة نفسه فإن الإنسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للأمانة فكيف يخون أمانة نفسه.
فالمراد بقوله: ﴿وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ و الله أعلم و تخونوا في ضمن خيانة الله و الرسول أماناتكم و الحال أنكم تعلمون أنها أمانات أنفسكم و تخونونها، و أي عاقل يقدم على خيانة أمانة نفسه و الإضرار بما لا يعود إلا إلى شخصه فتذييل النهي بقوله: ﴿وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ لتهييج العصبية الحقة و إثارة قضاء الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف.
فكأن بعض أفراد المسلمين كان يفشي أمورا من عزائم النبي صلى الله عليه وآله و سلم المكتومة من المشركين أو يخبرهم ببعض أسراره فسماه الله تعالى خيانة و نهى عنه، و عدها خيانة لله و الرسول و المؤمنين.
و يؤيد ذلك قوله بعد هذا النهي: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَ أَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ إلخ
فإن ظاهر السياق أنه متصل بما قبله غير مستقل عنه، و يفيد حينئذ أن موعظتهم في أمر الأموال و الأولاد مع النهي عن خيانة الله و الرسول و أماناتهم إنما هو لإخبار المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة، استمالة منهم مخافة أن يتعدوا على أموالهم و أولادهم الذين تركوهم بمكة بالهجرة إلى المدينة، فصاروا يخبرونهم بالأخبار إلقاء للمودة و استبقاء للمال و الولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من أبي لبابة مع بني قريظة.
و هذا يؤيد ما ورد في سبب النزول أن أبا سفيان خرج من مكة بمال كثير فأخبر جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله و سلم بخروجه و أشار عليه بالخروج إليه و كتمان أمره فكتب إليه بعضهم بالخبر فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ و في نزول الآية بعض أحاديث أخر سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي التالي.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللَّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ﴾ الفرقان ما يفرق به بين الشيء و الشيء، و هو في الآية بقرينة السياق و تفريعه على التقوى الفرقان بين الحق و الباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الإيمان و الكفر و كل هدى و ضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة و المعصية و كل ما يرضي الله أو يسخطه، أو في الرأي و النظر بالفصل بين الصواب و الخطإ فإن ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى، و قد أطلق الفرقان في الآية و لم يقيده قد عد جمل الخير و الشر في الآيات السابقة و الجميع يحتاج إلى الفرقان.
و نظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَتَّقِ اَللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ و قد تقدم الكلام في معنى تكفير السيئات و المغفرة، و الآية بمنزلة تلخيص الكلام في الأوامر و النواهي التي تتضمنها الآيات السابقة أي إن تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضي الله في جميع ما تقدم بما يسخطه و يكفر عنكم سيئاتكم و يغفر لكم و الله ذو الفضل العظيم.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن عقيل الخزاعي: أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن الرعب و الخوف من جهاد المستحق للجهاد و المتوازرين على الضلال، ضلال في الدين و سلب للدنيا مع الذل و الصغار، و فيه استيجاب النار بالفرار من الزحف
عند حضرة القتال يقول الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبَارَ﴾
و في الفقيه، و العلل، بإسناده عن ابن شاذان: أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، و الاستخفاف بالرسل و الأئمة العادلة، و ترك نصرتهم على الأعداء، و العقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية و إظهار العدل، و ترك الجور و إماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، و ما يكون في ذلك من السبي و القتل و إبطال دين الله عز و جل و غيره من الفساد.
أقول: و قد استفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت عليه السلام أن الفرار من الزحف من المعاصي الكبيرة الموبقة، و قد تقدم طرف منها في البحث عن الكبائر في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾: النساء: ٣١ في الجزء الرابع من الكتاب.
و على ذلك روايات من طرق أهل السنة
كما في صحيحي البخاري، و مسلم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: و ما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق و السحر و أكل الربا و أكل مال اليتيم و التولي يوم الزحف و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، و هناك روايات أخرى عن ابن عباس و غيره تدل على كون الفرار من الزحف من الكبائر.
نعم قوله تعالى: ﴿اَلْآنَ خَفَّفَ اَللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ الآية يقيد إطلاق آية تحريم الفرار بما دون الثلاثة لواحد.
و قد روي من طرقهم عن عمر بن الخطاب و عبد الله بن عمر و ابن عباس و أبي هريرة و أبي سعيد الخدري و غيرهم كما في الدر المنثور :أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية خاص بيوم بدر. و ربما وجه ذلك بأن الآية نزلت يوم بدر، و أن الظرف في قوله ﴿وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ إشارة إلى يوم بدر، و قد عرفت أن سياق الآيات يشهد بنزولها بعد يوم بدر، و أن المراد بقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ هو يوم الزحف لا يوم بدر. على أنه لو
فرض نزولها يوم بدر لم يوجب خصوص السبب في عموم مدلول الآية شيئا كما في سائر الآيات التي جمعت بين عموم الدلالة و خصوص السبب.
قال صاحب المنار في تفسيره: و إنما قد يتجه بناء التخصيص على قرينة الحال لو كانت الآية قد نزلت قبل اشتباك القتال خلافا للجمهور مع ما لغزوة بدر من الخصائص ككونها أول غزوة في الإسلام لو انهزم فيها المسلمون و النبي صلى الله عليه وآله و سلم فيهم لكانت الفتنة كبيرة. و تأييد المسلمين بالملائكة يثبتونهم، و وعده تعالى بنصرهم و إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.
فإذا نظرنا إلى مجموع الخصائص و قرينة الحال في النهي اتجه كون التحريم المقرون بالوعيد الشديد الذي في الآية خاصا بها. أضف إلى ذلك أن الله تعالى امتحن الصحابة رض بالتولي و الإدبار في القتال مرتين مع وجوده ص معهم: يوم أحد و فيه يقول الله تعالى ٣:١٥٥ ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعَانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ و يوم حنين، و فيه يقول الله تعالى ٩:٢٥ ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ٢٦ ثُمَّ أَنْزَلَ اَللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلىَ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ﴾ إلخ، و هذا لا ينافي كون التولي حراما و من الكبائر، و لا يقتضي أن يكون كل تول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله و مأواه جهنم و بئس المصير بل قد يكون دون ذلك، و يتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، و بالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها كما تقدم في سورة البقرة و سيأتي تفصيله قريبا.
و قد روى أحمد و أصحاب السنن إلا النسائي من حديث ابن عمر قال : «كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فحاص الناس حيصة و كنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع و قد فررنا من الزحف و بؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا؟ ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم؟ فإن كان لنا توبة و إلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون. قال: بل أنتم العكارون إنا فئتكم و فئة المسلمين. قال: فأتينا حتى قبلنا يده.
«و لفظ أبي داود» فقلنا: ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب و لا يرانا أحد فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فإن كانت لنا توبة أقمنا و إن كان غير ذلك ذهبنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون إلخ. تأول بعضهم هذا الحديث بتوسع في معنى التحيز إلى فئة لا يبقى معه للوعيد معنى و لا للغة حكم، و قد قال الترمذي فيه: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد أقول: و هو مختلف فيه ضعفه الكثيرون، و قال ابن حبان كان صدوقا إلا أنه لما كبر ساء حفظه و تغير فوقعت المناكير في حديثه فمن سمع منه قبل التغير فسماعه صحيح، و جملة القول: أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا و لا سندا، و في معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يوضع في ميزان هذه المسألة. انتهى.
أقول: و الذي نقله في أول كلامه من الوجوه و القرائن المحتفة بغزوة بدر من كونه أول غزوة في الإسلام، و كون النبي صلى الله عليه وآله و سلم بينهم و نحو ذلك مشتركة بحسب حقيقة الملاك بينها و بين أمثال غزوة أحد و الخندق و خيبر و حنين، و الإسلام أيامئذ في حاجة شديدة إلى الرجال المقاتلين و ثباتهم في الزحوف، و النبي صلى الله عليه وآله و سلم بينهم، و الله وعدهم بالنصر و أنزل في بعضها الملائكة لتأييدهم و إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم.
و الذي ذكره من الآيات النازلة في فرارهم يوم أحد و يوم حنين لا دلالة فيها على عدم شمول وعيد آية الأنفال لهم إذ ذاك و أي مانع يمنع من ذلك و الآية مطلقة و ليس هناك مقيد يقيدها.
و من العجيب تسليمه كون فرارهم في اليومين كبيرة محرمة ثم قوله: إن ذلك لا يقتضي كونه مما يبوء صاحبه بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير بل قد يكون دون ذلك مع أن الكبائر الموبقة هي المعاصي التي أوعد الله عليها النار.
و أعجب منه قوله: إنه يتقيد بآية رخصة الضعف الآتية في هذه السورة، و بالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها! مع أن آية رخصة الضعف إنما تدل على الرخصة في الفرار إذا كان يربو عدد الزاحفين من الأعداء على الضعف.
و آية النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لو دلت بعمومها على أزيد مما يدل عليه
آية رخصة الضعف لغت آية الأنفال و بقيت بلا مصداق كما أن التأول في قوله تعالى: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىَ فِئَةٍ﴾ على حسب ما تقتضيه رواية ابن عمر يوجب إلغاء الآية كما ذكره صاحب المنار فقد تلخص أن لا مناص عن إبقاء الآية على ظاهر إطلاقها.
و في تفسير العياشي، عن موسى بن جعفر عليه السلام: في الآية: ﴿إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ﴾ قال متطردا يريد الكرة عليهم ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىَ فِئَةٍ﴾ يعني متأخرا إلى أصحابه من غير هزيمة، من انهزم حتى يجوز صف أصحابه فقد باء بغضب من الله. أقول: تشير الرواية إلى نكتة مهمة في لفظ الآية، و هي أن النهي إنما تعلقت في الآية على تولي الأدبار و هي أعم من الانهزام فإذا استثني الموردان أعني التحرف لقتال و التحيز إلى فئة و هي غير موارد الفرار عن هزيمة، بقيت موارد الهزيمة تحت النهي فكل انهزام عن أعداء الدين إذا لم يجوزوا الضعف عددا حرام محرم.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الثعلبي عن ضحاك عن عكرمة عن ابن عباس: في قوله تعالى: ﴿وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال لعلي: ناولني كفا من حصى و ناوله و رمى به في وجوه قريش فما بقي أحد إلا امتلأت عيناه من الحصى: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الطبراني و أبي الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس و روى العياشي في تفسيره حديث المناولة عن محمد بن كليب الأسدي عن أبيه عن الصادق عليه السلام و في خبر آخر عن علي عليه السلام. و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن محمد بن قيس و محمد بن كعب رضي الله عنهما قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، و قال: شاهت الوجوه فدخلت في أعينهم كلهم، و أقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقتلونهم، و كانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فأنزل الله: ﴿وَ مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ إلى قوله ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. أقول: و المراد بنزول الآية نزولها بعد ذلك و هي تقص القصة لا نزولها وقتئذ، و هو شائع في أسباب النزول. و قد ذكر ابن هشام في سيرته: أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم رماهم بالتراب ثم أمر أصحابه بالكرة فكانت الهزيمة.
و فيه أخرج ابن أبي الشيبة و أحمد و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و ابن منده و الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير:أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة فكان ذلك استفتاحا منه فنزلت: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ اَلْفَتْحُ﴾ الآية.
و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللَّهِ﴾ الآية قال قال الباقر عليه السلام: هم بنو عبد الدار لم يكن أسلم منهم غير مصعب بن عمير و حليف لهم يقال له: سويبط.
و في جامع الجوامع،: قال الباقر عليه السلام: هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير و سويد بن حرملة، و كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد و قد قتلوا جميعا بأحد و كانوا أصحاب اللواء. أقول: و روي في الدر المنثور، ما في معناه بطرق عن ابن عباس و قتادة، و الرواية من قبيل الجري و الانطباق، و الآية عامة.
و في تفسير القمي، :في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ الآية. قال: قال الحياة الجنة.
و في الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز و جل: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ قال: نزلت في ولاية علي عليه السلام: أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن مردويه عن رجاله مرفوعا إلى الإمام محمد بن علي الباقر، عليه السلام و كذا عن أبي الجارود عنه عليه السلام كما رواه القمي في تفسيره، و الرواية من قبيل الجري و كذا الرواية السابقة عليها و قد قدمنا في الكلام على الآية أنها عامة.
و في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ﴾ يقول: بين المرء و معصيته أن يقوده إلى النار، و يحول بين الكافر و طاعته أن يستكمل بها الإيمان، و اعلموا أن الأعمال بخواتيمها.
و في المحاسن، بإسناده عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام: في قول الله تبارك و تعالى: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ﴾ قال: يحول بينه و بين أن يعلم أن الباطل حق: أقول: و رواه الصدوق في المعاني، عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عنه عليه السلام.
و في تفسير العياشي، عن يونس بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا يستيقن القلب أن الحق باطل أبدا، و لا يستيقن أن الباطل حق أبدا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله و سلم عن هذه الآية: ﴿يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ﴾ قال: يحول بين المؤمن و الكفر، و يحول بين الكافر و بين الهدى. أقول: و هو قريب من الخبر المتقدم عن أبي الجارود عن الباقر عليه السلام في معنى الآية.
و في تفسير العياشي، عن حمزة الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام: ﴿وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ﴾ قال: هو أن يشتهي الشيء بسمعه و بصره و لسانه و يده أما إنه لا يغشى شيئا منها و إن كان يشتهيه فإنه لا يأتيه إلا و قلبه منكر لا يقبل الذي يأتي يعرف أن الحق ليس فيه: أقول: و رواه البرقي في المحاسن بإسناده عن حمزة الطيار عنه عليه السلام و روى ما يقرب منه العياشي في تفسيره عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، و يئول معنى الرواية إلى الروايتين المتقدمتين عن هشام بن سالم و يونس بن عمار عن الصادق عليه السلام.
و في تفسير العياشي، عن الصيقل: سئل أبو عبد الله عليه السلام ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ قال: أخبرت أنهم أصحاب الجمل.
و في تفسير القمي، قال: قال :نزلت في الطلحة و الزبير لما حاربا أمير المؤمنين عليه السلام و ظلماه.
و في المجمع، عن الحاكم بإسناده عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً﴾ قال النبي صلى الله عليه وآله و سلم: من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي و نبوة الأنبياء من قبلي.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و نعيم بن حماد في الفتن و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن الزبير رضي الله عنه قال :لقد قرأنا زمانا و ما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها: ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾.
و فيه، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن السدي في الآية قال :هذه نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا فكان من المقتولين طلحة و الزبير و هما من أهل بدر.
و فيه، أخرج أحمد و البزاز و ابن المنذر و ابن مردويه و ابن عساكر عن مطرف قال :قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و أبي بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم ﴿وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ و لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. و فيه، أخرج عبد بن حميد و أبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال : علم و الله ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله و سلم أنه سيكون فتن. و فيه: أخرج أبو الشيخ و أبو نعيم و الديلمي في مسند الفردوسي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: في قوله: ﴿وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ﴾ قيل: يا رسول الله و من الناس؟ قال: أهل فارس. أقول: و الرواية لا تلائم سياق الآية.
و فيه، :في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ﴾ الآية :أخرج ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه :أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرائيل النبي صلى الله عليه وآله و سلم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا و كذا فاخرجوا إليه و اكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله: ﴿لاَ تَخُونُوا اَللَّهَ وَ اَلرَّسُولَ﴾ الآية. أقول: و معنى الرواية قريب الانطباق على ما استفدناه من الآية في البيان المتقدم.
و فيه،: أخرج ابن جرير عن المغيرة بن شعبة قال" :نزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه. أقول: و الآية لا تنطبق عليه بسياقها البتة و في المجمع، عن الباقر و الصادق عليه السلام و الكلبي و الزهري: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، و ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم حاصر يهود قريظة إحدى و عشرين ليلة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحات من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة و كان مناصحا لهم لأن عياله و ماله و ولده كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة؟ أ ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: أنه الذبح فلا تفعلوا فأتاه جبرائيل فأخبره بذلك .
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله و رسوله فنزلت الآية فيه فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد، و قال: و الله لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما و لا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك فقال: لا و الله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني فجاءه و حله بيده .
ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب و إن انخلع من مالي. فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم : يجزيك الثلث أن تصدق به.
أقول: قصة أبي لبابة و توبته صحيحة قابلة الانطباق على مضمون الآيتين غير أنها وقعت بعد قصة بدر بكثير، و ظاهر الآيتين إذا اعتبرتا و قيستا إلى الآيات السابقة عليهما أن الجميع في سياق واحد نزلت بعد وقعة بدر بقليل. و الله أعلم.
[سورة الأنفال ٨: الآیات ٣٠ الی ٤٠]
﴿وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللَّهُ وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ٣١ وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ اَلسَّمَاءِ أَوِ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣٢ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ٣٣ وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ وَ مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٣٤ وَ مَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ٣٥ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىَ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ٣٦ لِيَمِيزَ اَللَّهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ اَلْخَاسِرُونَ ٣٧ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ ٣٨ وَ قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٣٩ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ ٤٠﴾
بيان
الآيات في سياق الآيات السابقة و هي متصلة بها و منعطفة على آيات أول السورة إلا قوله: ﴿وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ﴾ الآية و الآية التي تليها، فإن ظهور اتصالها دون بقية الآيات، و سيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ إلى آخر الآية، قال الراغب: المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة، و ذلك ضربان: ضرب محمود و ذلك أن يتحرى به فعل جميل و على ذلك قال: ﴿وَ اَللَّهُ خَيْرُ اَلْمَاكِرِينَ﴾، و مذموم و هو أن يتحرى به فعل قبيح قال: ﴿وَ لاَ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾. ﴿وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾. ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾، و قال في الأمرين﴿: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنَا مَكْراً﴾، و قال بعضهم: من مكر الله إمهال العبد و تمكينه من أعراض الدنيا،
و لذلك قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: من وسع عليه دنياه و لم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع عن عقله. انتهى.
و في المجمع: الإثبات الحبس يقال: رماه فأثبته أي حبسه مكانه، و أثبت الحرب أي جرحه جراحة مثقلة. انتهى.
و مقتضى سياق الآيات إن يكن قوله: ﴿وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية معطوفة على قوله سابقا: ﴿وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللَّهُ إِحْدَى اَلطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ فالآية مسوقة لبيان ما أسبغ الله عليهم من نعمته، و أيدهم به من أياديه التي لم يكن لهم فيها صنع.
و معنى الآية: و اذكر أو و ليذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا من قريش لإبطال دعوتك أن يوقعوا بك أحد أمور ثلاثة: إما أن يحبسوك و إما أن يقتلوك و إما أن يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين.
و الترديد في الآية بين الحبس و القتل و الإخراجبيانا لما كانوا يمكرونه من مكر يدل أنه كان منهم شورى يشاور فيها بعضهم بعضا في أمر النبي صلى الله عليه وآله و سلم و ما كان يهمهم و يهتمون به من إطفاء نور دعوته، و بذلك يتأيد ما ورد من أسباب النزول أن الآية تشير إلى قصة دار الندوة على ما سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذَا تُتْلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ إلى آخر الآية الأساطير الأحاديث جمع أسطورة و يغلب في الأخبار الخرافية، و قوله حكاية عنهم: ﴿قَدْ سَمِعْنَا﴾ و قوله: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا﴾ و قوله: ﴿مِثْلَ هَذَا﴾ و لم يقل: مثل هذه أو مثلها كل ذلك للدلالة على إهانتهم بآيات الله و إزرائهم بمقام الرسالة، و نظيرها قولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ﴾.
و المعنى: و إذا تتلى عليهم آياتنا التي لا ريب في دلالتها على أنها من عندنا و هي تكشف عن ما نريده منهم من الدين الحق لجوا و اعتدوا بها و هونوا أمرها و أزروا برسالتنا و قالوا قد سمعنا و عقلنا هذا الذي تلي علينا لا حقيقة له إلا أنه من أساطير الأولين، و لو نشاء لقلنا مثله غير أنا لا نعتني به و لا نهتم بأمثال هذه الأحاديث الخرافية.
قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ إلى آخر الآيتين. الإمطار هو إنزال الشيء من فوق، و غلب في قطرات الماء من المطر أو هو استعارة إمطار المطر لغيره كالحجارة و كيف كان فقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء بالتصريح باسم السماء للدلالة على كونه بنحو الآية السماوية و الإهلاك الإلهي محضا.
فإمطار الحجارة من السماء عليهم على ما سألوا أحد أقسام العذاب و يبقى الباقي تحت قولهم: ﴿أَوِ اِئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ و لذلك نكر العذاب و أبهم وصفه ليدل على باقي أقسام العذاب، و يفيد مجموع الكلام: أن أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب آخر غيره يكون أليما، و إنما أفرد إمطار الحجارة من بين أفراد العذاب الأليم بالذكر لكون الرضخ بالحجارة مما يجتمع فيه عذاب الجسم بما فيه من تألم البدن و عذاب الروح بما فيه من الذلة و الإهانة.
ثم قوله: ﴿إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ يدل بلفظه على أن الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله و سلم بلسان القال أو الحال بدعوته هو قوله: «هذا هو الحق من عند الله» و فيه شيء من معنى الحصر، و هذا غير ما كان يقوله لهم: هذا حق من عند الله فإن القول الثاني يواجه به الذي لا يرى دينا سماويا و نبوة إلهية كما كان يقوله المشركون و هم الوثنية: ما أنزل الله على بشر من شيء، و أما القول الأول فإنما يواجه به من يرى أن هناك دينا حقا من عند الله و رسالة إلهية يبلغ الحق من عنده ثم ينكر كون ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله و سلم أو بعض ما أتى به هو الحق من عند الله تعالى فيواجه بأنه هو
الحق من عند الله لا غيره ثم، يرد بالاشتراط في مثل قوله. اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
فالأشبه أن لا يكون هذا حكاية عن بعض المشركين بنسبته إلى جميعهم لاتفاقهم في الرأي أو رضا جميعهم بما قاله هذا القائل بل كأنه حكاية عن بعض أهل الردة ممن أسلم ثم ارتد أو عن بعض أهل الكتاب المعتقدين بدين سماوي حق فافهم ذلك.
و يؤيد هذا الآية التالية لهذه الآية: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أما قوله: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ﴾ فإن كان المراد به نفي تعذيب الله كفار قريش بمكة قبل الهجرة و النبي فيهم كان مدلوله أن المانع من نزول العذاب يومئذ هو وجود النبي صلى الله عليه وآله و سلم بينهم، و المراد بالعذاب غير العذاب الذي جرى عليهم بيد النبي صلى الله عليه وآله و سلم من القتل و الأسر كما سماه الله في الآيات السابقة عذابا و قال في مثلها: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ التوبة: - ٥٢، بل عذاب الاستئصال بآية سماوية كما جرى في أمم الأنبياء الماضين لكن الله سبحانه هددهم بعذاب الاستئصال في آيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَ ثَمُودَ﴾ حم السجدة: - ١٣، و كيف يلائم أمثال هذه التهديدات قوله: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ﴾ لو كان المراد بالمعذبين هم كفار قريش و مشركو العرب ما دام النبي صلى الله عليه وآله و سلم بمكة.
و لو كان المراد بالمعذبين جميع العرب أو الأمة، و المراد بقوله: ﴿وَ أَنْتَ فِيهِمْ﴾ حياة النبي صلى الله عليه وآله و سلم ، و المعنى: و لا يعذب الله هذه الأمة و أنت فيهم حيا كما ربما يؤيده قوله بعده: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ كان ذلك نفيا للعذاب عن جميع الأمة و لم يناف نزوله على بعضهم كما سمي وقوع القتل بهم عذابا كما في الآيات السابقة، و كما ورد أن الله تعالى عذب جمعا منهم كأبي لهب و المستهزءين برسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ، و على هذا لا تشمل الآية القائلين: ﴿اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ إلى آخر الآية و خاصة باعتبار ما روي أن القائل به أبو جهل كما في صحيح البخاري أو النضر بن الحارث بن كلدة كما في بعض روايات أخر و قد حقت عليهما كلمة العذاب و قتلا يوم بدر فلا ترتبط الآية: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ الآية، بهؤلاء القائلين: اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك الآية مع أنها مسوقة سوق الجواب عن قولهم.
و يشتد الإشكال بناء على ما وقع في بعض أسباب النزول أنهم قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ و سيجيء الكلام فيه و في غيره من أسباب النزول المروية في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و الذي تمحل به بعض المفسرين في توجيه مضمون الآية بناء على حملها على ما مر من المعنى أن الله سبحانه أرسل محمدا ص رحمة للعالمين و نعمة لهذه الأمة لا نقمة و عذابا. فيه أنه ليس مقتضى الرحمة للعالمين أن يهمل مصلحة الدين، و يسكت عن مظالم الظالمين و إن بلغ ما بلغ و أدي إلى شقاء الصالحين و اختلال نظام الدنيا و الدين، و قد حكى الله سبحانه عن نفسه بقوله: ﴿وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ و لم يمنع ذلك من حلول غضبه على من حل به من الأمم الماضية و القرون الخالية كما ذكره في كلامه.
على أنه تعالى سمى ما وقع على كفار قريش من القتل و الهلاك في بدر و غيره عذابا و لم يناف ذلك قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ الأنبياء: - ١٠٧، و هدد هذه الأمة بعذاب واقع قطعي في سور يونس و الإسراء و الأنبياء و القصص و الروم و المعارج و غيرها و لم يناف ذلك كونه ص رحمة للعالمين فما بال نزول العذاب على شرذمة تفوهت بهذه الكلمة: ﴿اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ﴾ إلخ، ينافي قول النبي صلى الله عليه وآله و سلم نبي الرحمة مع أن من مقتضى الرحمة أن يوفى لكل ذي حق حقه، و أن يقتص للمظلوم من الظالم و أن يؤخذ كل طاغية بطغيانه.
و أما قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فظاهره النفي الاستقبالي على ما هو ظاهر الصفة: ﴿مُعَذِّبَهُمْ﴾ و كون قوله: ﴿يَسْتَغْفِرُونَ﴾ مسوقا لإفادة الاستمرار و الجملة حالية، و المعنى: و لا يستقبلهم الله بالعذاب ما داموا يستغفرونه.
و الآية كيفما أخذت لا تنطبق على حال مشركي مكة و هم مشركون معاندون لا يخضعون لحق و لا يستغفرون عن مظلمة و لا جريمة، و لا يصلح الأمر بما ورد في بعض الآثار أنهم قالوا ما قالوا ثم ندموا على ما قالوا فاستغفروا الله بقولهم: «غفرانك اللهم».
و ذلك مضافا إلى عدم ثبوته أنه تعالى لا يعبأ في كلامه باستغفار المشركين
و لا سيما أئمة الكفر منهم، و اللاغي من الاستغفار لا أثر له، و لو لم يكن استغفارهم لاغيا و ارتفع به ما أجرموه بقولهم: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية لم يكن وجه لذمهم و تأنيبهم بقوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالُوا اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ﴾ في سياق هذه الآيات المسوقة لذمهم و لومهم و عد جرائمهم و مظالمهم على النبي صلى الله عليه وآله و سلم و المؤمنين.
على أن قوله تعالى بعد الآيتين: ﴿وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ﴾ الآية لا يلائم نفي العذاب في هاتين الآيتين فإن ظاهر الآية أن العذاب المهدد به هو عذاب القتل بأيدي المؤمنين كما يدل عليه قوله بعده: ﴿فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ و حينئذ فلو كان القائلون: ﴿اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ اَلْحَقَّ﴾ الآية مشركي قريش أو بعضهم و كان المراد من العذاب المنفي العذاب السماوي لم يستقم إنكار وقوع العذاب عليهم بالقتل و نحوه فإن الكلام حينئذ يئول إلى معنى التشديد: و محصله: أنهم كانوا أحق بالعذاب و لهم جرم آخر وراء ما أجرموه و هو الصد عن المسجد الحرام، و هذا النوع من الترقي أنسب بإثبات العذاب لهم لا لنفيه عنهم.
و إن كان المراد بالعذاب المنفي هو القتل و نحوه كان عدم الملاءمة بين قوله: ﴿وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ﴾ و قوله: ﴿فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ و بين قوله: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ إلخ، أوضح و أظهر.
و ربما وجه الآية بهذا المعنى بعضهم بأن المراد بقوله: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ﴾ عذاب أهل مكة قبل الهجرة، و بقوله: ﴿وَ مَا كَانَ اَللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ عذاب الناس كافة بعد هجرته ص إلى المدينة و إيمان جمع و استغفارهم و لذا قيل: إن صدر الآية نزلت قبل الهجرة، و ذيلها بعد الهجرة!.
و هو ظاهر الفساد فإن النبي صلى الله عليه وآله و سلم لما كان فيهم بمكة قبل الهجرة كان معه جمع ممن يؤمن بالله و يستغفره، و هو ص بعد الهجرة كان في الناس فما معنى تخصيص صدر الآية بقوله: ﴿وَ أَنْتَ فِيهِمْ﴾ و ذيلها بقوله: ﴿وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
و لو فرض أن معنى الآية أن الله لا يعذب هذه الأمة ما دمت فيهم ببركة وجودك، و لا يعذبهم بعدك ببركة استغفارهم لله و المراد بالعذاب عذاب الاستئصال لم يلائم الآيتين التاليتين: ﴿وَ مَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اَللَّهُ﴾ إلخ مع ما تقدم من الإشكال عليه.
|