00989338131045
 
 
 
 
 
 

 من ص 247 الى ص 328 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الميزان في تفسير القرآن (الجزء السادس عشر)   ||   تأليف : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (قده)

و قال بعضهم: إن دون بمعنى عند و الضمير في ﴿مِنْ دُونِهِ للعذاب، و المعنى:

ليس لكم من دون عذابه ولي، أي قريب ينفعكم و يرد عذابه عنكم و لا شفيع يشفع لكم.

و فيه أن إرجاع الضمير إلى العذاب تحكم من غير دليل، و يرد على جميع هذه الوجوه أنها تكلفات ناشئة من أخذ الشفيع غير المشفوع عنده و قد عرفت أن المعنى تحليلي و الشفيع و المشفوع عنده واحد.

و قوله: ﴿أَ فَلاَ تَتَذَكَّرُونَ استفهام توبيخي يوبخهم على استمرارهم على الإعراض عن أدلة العقول حتى يتذكروا أن الملك و التدبير لله سبحانه و هو المعبود بالحق ليس لهم دونه ولي و لا شفيع كما يزعمون ذلك لآلهتهم.

قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ تتميم لبيان أن تدبير أمر الموجودات قائم به سبحانه و هذا هو القرينة على أن المراد بالأمر في الآية الشأن دون الأمر المقابل للنهي.

و التدبير وضع الشي‏ء في دابر الشي‏ء و الإتيان بالأمر بعد الأمر فيرجع إلى إظهار وجود الحوادث واحدا بعد واحد كالسلسلة المتصلة بين السماء و الأرض و قد قال تعالى:

﴿وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ: الحجر: ٢١ و قال:

﴿إِنَّا كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ: القمر: ٤٩.

و قوله: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ بعد قوله: ﴿يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ لا يخلو من إشعار بأن ﴿يُدَبِّرُ مضمن معنى التنزيل و المعنى: يدبر الأمر منزلا أو ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض و لعله الأمر الذي يشير إليه قوله: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا: حم السجدة: ١٢.

و في قوله: ﴿يَعْرُجُ إِلَيْهِ إشعار بأن المراد بالسماء مقام القرب الذي تنتهي إليه أزمة الأمور دون السماء بمعنى جهة العلو أو ناحية من نواحي العالم الجسماني فإن الأمر قد وصف قبل العروج بالنزول فظاهر العروج أنه صعود من الطريق التي نزل منها، و لم يذكر هناك إلا علو هو السماء، و سفل هو الأرض و نزول و عروج فالنزول من السماء و العروج إلى الله يشعر بأن السماء هو مقام الحضور الذي يصدر منه تدبير ـ

 

 

الأمر أو أن موطن تدبير الأمر الأرضي هو السماء و الله المحيط بكل شي‏ء ينزل التدبير الأرضي من هذا الموطن، و لعل هذا هو الأقرب إلى الفهم بالنظر إلى قوله: ﴿وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا.

و قوله: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ معناه على أي حال أنه في ظرف لو طبق على ما في الأرض من زمان الحوادث و مقدار حركتها انطبق على ألف سنة مما نعده فإن من المسلم أن الزمان الذي يقدره ما نعده من الليل و النهار و الشهور و السنين لا يتجاوز العالم الأرضي.

و إذ كان المراد بالسماء هو عالم القرب و الحضور و هو مما لا سبيل للزمان إليه كان المراد أنه وعاء لو طبق على مقدار حركة الحوادث في الأرض كان مقداره ألف سنة مما تعدون.

و أما أن هذا المقدار هل هو مقدار النزول و اللبث و العروج أو مقدار مجموع النزول و العروج دون اللبث أو مقدار كل واحد من النزول و العروج أو مقدار نفس العروج فقط بناء على أن ﴿فِي يَوْمٍ قيد لقوله: ﴿يَعْرُجُ إِلَيْهِ فقط كما وقع في قوله:

﴿تَعْرُجُ اَلْمَلاَئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ: المعارج: ٤.

ثم على تقدير كون الظرف قيدا للعروج هل العروج مطلق عروج الحوادث إلى الله أو العروج يوم القيامة و هو مقدار يوم القيامة، و أما كونه خمسين ألف سنة فهو بالنسبة إلى الكافر من حيث الشقة أو أن الألف سنة مقدار مشهد من مشاهد يوم القيامة و هو خمسون موقفا كل موقف مقداره ألف سنة.

ثم المراد بقوله: ﴿مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ هل هو التحديد حقيقة أو المراد مجرد التكثير كما في قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ: البقرة: ٩٦ أي يعمر عمرا طويلا جدا و إن كان هذا الاحتمال بعيدا من السياق.

و الآية كما ترى تحتمل الاحتمالات جميعا و لكل منها وجه و الأقرب من بينها إلى الذهن كون ﴿فِي يَوْمٍ قيدا لقوله: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ و كون المراد بيوم عروج الأمر مشهدا من خمسين مشهدا من مشاهد يوم القيامة، و الله أعلم.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهَادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ تقدم تفسير مفردات الآية، و مناسبة الأسماء الثلاثة الكريمة للمقام ظاهرة.

 

 

 قوله تعالى: ﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ قال الراغب: الحسن‏ عبارة عن كل مبهج بصيغة الفاعل مرغوب فيه و ذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل و مستحسن من جهة الهوى و مستحسن من جهة الحس. انتهى. و هذا تعريف له من جهة خاصته و انقسامه بانقسام الإدراكات الإنسانية.

و حقيقته ملاءمة أجزاء الشي‏ء بعضها لبعض و المجموع للغرض و الغاية الخارجة منه فحسن الوجه تلاؤم أجزائه من العين و الحاجب و الأنف و الفم و غيرها، و حسن العدل ملاءمته للغرض من الاجتماع المدني و هو نيل كل ذي حق حقه، و هكذا.

و التدبر في خلقة الأشياء و كل منها في نفسه متلائم الأجزاء بعضها لبعض و المجموع من وجوده مجهز بما يلائم كماله و سعادته تجهيزا لا أتم و لا أكمل منه يعطي أن كلا منها حسن في نفسه حسنا لا أتم و أكمل منه بالنظر إلى نفسه.

و أما ما نرى من المساءة و القبح في الأشياء فلأحد أمرين: إما لكون الشي‏ء السيئ ذا عنوان عدمي يعود إليه المساءة لا لوجوده في نفسه كالظلم و الزنا فإن الظلم ليس بسيئ قبيح بما أنه فعل من الأفعال بل بما أنه مبطل لحق ثابت و الزنا ليس بسيئ قبيح من جهة نفس العمل الخارجي الذي هو مشترك بينه و بين النكاح بل بما أن فيه مخالفة للنهي الشرعي أو للمصلحة الاجتماعية.

أو بقياسه إلى شي‏ء آخر فيعرضه المساءة و القبح من طريق المقايسة كقياس الحنظل إلى البطيخ و قياس الشوك إلى الورد و قياس العقرب إلى الإنسان فإن المساءة إنما تطرأ هذه الأشياء من طريق القياس إلى مقابلاتها ثم قياسها إلى طبعنا، و يرجع هذا الوجه من المساءة إلى الوجه الأول بالحقيقة.

و كيف كان فالشي‏ء بما أنه موجود مخلوق لا يتصف بالمساءة و يدل عليه الآية ﴿اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ إذا انضم إلى قوله: ﴿اَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ: الزمر: ٦٢ فينتجان أولا: أن الخلقة تلازم الحسن فكل مخلوق حسن من حيث هو مخلوق.

و ثانيا: أن كل سيئ و قبيح ليس بمخلوق من حيث هو سيئ قبيح كالمعاصي و السيئات من حيث هي معاص و سيئات و الأشياء السيئة من جهة القياس.

قوله تعالى: ﴿وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ المراد بالإنسان النوع فالمبدو خلقه

 

 

 من طين هو النوع الذي ينتهي أفراده إلى من خلق من طين من غير تناسل من أب و أم كآدم و زوجه (عليه السلام)، و الدليل على ذلك قوله بعده: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين و المقابلة بين بدء الخلق و بين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الإنسان المخلوق من ماء مهين، و لو كان المراد ذلك لكان حق الكلام أن يقال: ثم جعله سلالة من ماء مهين فافهمه.

و قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ السلالة كما في المجمع، الصفوة التي تنسل أي تنزع من غيرها و يسمى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه، و المهين‏ من الهون و هو الضعف و الحقارة و ثم للتراخي الزماني.

و المعنى: ثم جعل ولادته بطريق الانفصال من صفوة من ماء ضعيف أو حقير.

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ التسوية التصوير و تتميم العمل، و في قوله: ﴿نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ استعارة بالكناية بتشبيه الروح بالنفس الذي يتنفس به ثم نفخة في قالب من سواه، و إضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريفية، و المعنى:

ثم صور الإنسان المبدو خلقه من الطين و المجعول نسله من سلالة من ماء مهين و نفخ فيه من روح شريف منسوب إليه تعالى.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصَارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ امتنان بنعمة الإدراك الحسي و الفكري فالسمع و البصر للمحسوسات و القلوب للفكريات أعم من الإدراكات الجزئية الخيالية و الكلية العقلية.

و قوله: ﴿قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ أي تشكرون شكرا قليلا، و الجملة اعتراضية في محل التوبيخ و قيل: الجملة حالية، و المعنى: جعل لكم الأبصار و الأفئدة و الحال أنكم تشكرون قليلا، و الجملة على أي حال مسوقة للبث و الشكوى و التوبيخ.

و الالتفات في قوله: ﴿وَ جَعَلَ لَكُمُ إلخ، من الغيبة إلى خطاب الجمع لتسجيل أن الإنعام الإلهي الشامل للجميع يربو على شكرهم فهم قاصرون أو أكثرهم مقصرون.

قوله تعالى: ﴿وَ قَالُوا أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ حجة من منكري البعث مبنية على الاستبعاد. و الضلال في الأرض قيل: هو الضيعة كما يقال: ضلت النعمة أي ضاعت، و قيل: هو بمعنى الغيبة، و كيف

 

 

 كان فمرادهم به أ إنا إذا متنا و انتشرت أجزاء أبداننا في الأرض و صرنا بحيث لا تميز لأجزائنا من سائر أجزاء الأرض و لا خبر عنا نقع في خلق جديد و نخلق ثانيا خلقنا الأول.؟ و الاستفهام للإنكار، و الخلق الجديد هو البعث.

و قوله: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ إضراب عن فحوى قولهم: ﴿أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ كأنه قيل: إنهم لا يجحدون الخلق الجديد لجحدهم قدرتنا على ذلك أو لسبب آخر بل هم كافرون بالرجوع إلينا و لقائنا و لذا جي‏ء في الجواب عن قولهم بما يدل على الرجوع.

قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏َ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ توفي الشي‏ء أخذه تاما كاملا كتوفي الحق و توفي الدين من المديون.

و قوله: ﴿مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ قيل: أي وكل بإماتتكم و قبض أرواحكم و الآية مطلقة ظاهرة في أعم من ذلك.

و قد نسب التوفي في الآية إلى ملك الموت، و في قوله: ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا: الزمر: ٤٢ إليه تعالى، و في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا: الأنعام: ٦١ و قوله: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ: النحل: ٢٨ إلى الرسل و الملائكة نظرا إلى اختلاف مراتب الأسباب فالسبب القريب الملائكة الرسل أعوان ملك الموت و فوقهم ملك الموت الآمر بذلك المجرى لأمر الله و الله من ورائهم محيط و هو السبب الأعلى و مسبب الأسباب فذلك بوجه كمثل كتابة الإنسان بالقلم فالقلم كاتب و اليد كاتبة و الإنسان كاتب.

و قوله: ﴿ثُمَّ إِلىَ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ هو الرجوع الذي عبر عنه في الآية السابقة باللقاء و موطنه البعث المترتب على التوفي و المتراخي عنه، كما يدل عليه العطف بثم الدالة على التراخي.

و الآية - على أي تقدير جواب عن الاحتجاج بضلال الموتى في الأرض على نفي البعث و من المعلوم أن إماتة ملك الموت لهم ليس يحسم مادة الإشكال فيبقى قوله:

﴿ثُمَّ إِلىَ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ دعوى خالية عن الدليل في مقابل دعواهم المدللة و الكلام

 

 

 الإلهي أنزه ساحة أن يتعاطى هذا النوع من المحاجة.

لكنه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنية على الاستبعاد بأن حقيقة الموت ليس بطلانا لكم و ضلالا منكم في الأرض بل ملك الموت الموكل بكم يأخذكم تامين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان و أرواحكم تمام حقيقتكم فأنتم أي ما يعني بلفظة «كم» محفوظون لا يضل منكم شي‏ء في الأرض و إنما يضل الأبدان و تتغير من حال إلى حال و قد كانت في معرض التغير من أول كينونتها. ثم إنكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث و رجوع الأرواح إلى أجسادها.

و بهذا يندفع حجتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء قررت على نحو الاستبعاد أو قررت على أن تلاشي البدن يبطل شخصية الإنسان فينعدم و لا معنى لإعادة المعدوم فإن حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها بقول «أنا» و هي غير البدن و البدن تابع لها في شخصيته و هي لا تتلاشى بالموت و لا تنعدم بل محفوظة في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب و الجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه.

و ظهر بما تقدم أولا وجه اتصال قوله: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ إلخ بقوله: ﴿أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ إلخ و أنه جواب حاسم للإشكال قاطع للشبهة، و قد أشكل الأمر على بعض من فسر التوفي بمطلق الإماتة من غير التفات إلى نكتة التعبير بلفظ التوفي فتكلف في توجيه اتصال الآيتين بما لا يرتضيه العقل السليم.

و ثانيا: أن الآية من أوضح الآيات القرآنية الدالة على تجرد النفس بمعنى كونها غير البدن أو شي‏ء من حالات البدن.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ تَرىَ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَ سَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ نكس‏ الرأس إطراقه و طأطأته، و المراد بالمجرمين بقرينة ذيل الآية خصوص المنكرين للمعاد فاللام فيه لا تخلو من معنى العهد أي هؤلاء الذين يجحدون المعاد و يقولون: ﴿أَ إِذَا ضَلَلْنَا فِي اَلْأَرْضِ إلخ.

و في التعبير عن البعث بقوله: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ محاذاة لما تقدم من قوله: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ أي واقفون موقفا من اللقاء لا يسعهم إنكاره، و قولهم: ﴿أَبْصَرْنَا

 

 

 وَ سَمِعْنَا و مسألتهم الرجوع للعمل الصالح لما ينجلي لهم أن النجاة في الإيمان و العمل الصالح و قد حصل لهم الإيمان اليقيني و بقي العمل الصالح و لذا يعترفون باليقين و يسألون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيتم لهم سببا النجاة.

و المعنى: و لو ترى إذ هؤلاء الذين يجرمون بإنكار لقاء الله مطرقوا رءوسهم عند ربهم في موقف اللقاء من الخزي و الذل و الندم يقولون ربنا أبصرنا بالمشاهدة و سمعنا بالطاعة فارجعنا نعمل عملا صالحا إنا موقنون و المحصل أنك تراهم يجحدون اللقاء و لو تراهم إذ أحاط بهم الخزي و الذل فنكسوا رءوسهم و اعترفوا بما ينكرونه اليوم و سألوا العود إلى هاهنا و لن يعودوا.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا إلى آخر الآية أي لو شئنا أن نعطي كل نفس أعم من المؤمنة و الكافرة الهدى الذي يختص بها و يناسبها لأعطيناه لها بأن نشاء من طريق اختيار الكافر و إرادته أن يتلبس بالهدى فيتلبس بها من طريق الاختيار و الإرادة كما شئنا في المؤمن كذلك فتلبس بالهدى باختيار منه و إرادة من دون أن ينجر إلى الإلجاء و الاضطرار فيبطل التكليف و يلغو الجزاء.

و قوله: ﴿وَ لَكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ أي و لكن هناك قضاء سابق مني محتوم و هو إملاء جهنم من الجنة و الناس أجمعين و هو قوله لإبليس لما امتنع من سجدة آدم و قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ:... ﴿فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ: ص: ٨٥ فقضى أن يدخل متبعي إبليس العذاب المخلد.

و لازم ذلك أن لا يهديهم لظلمهم و فسقهم بالخروج عن زي العبودية كما قال:

﴿إِنَّ اَللَّهَ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمِينَ ﴿وَ اَللَّهُ لاَ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفَاسِقِينَ: التوبة: ٨٠ إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ﴿فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ إلى آخر الآية، تفريع على قوله: ﴿وَ لَكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي و النسيان‏ ذهول صورة الشي‏ء عن الذاكرة و يكنى به عن عدم الاعتناء بما يهم الشي‏ء و هو المراد في الآية.

و المعنى: فإذا كان من القضاء إذاقة العذاب لمتبعي إبليس فذوقوا العذاب بسبب

 

 

عدم اعتنائكم بلقاء هذا اليوم حتى جحدتموه و لم تعملوا صالحا تثابون به فيه لأنا لم نعتن بما يهمكم في هذا اليوم من السعادة و النجاة، و قوله: ﴿وَ ذُوقُوا عَذَابَ اَلْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تأكيد و توضيح لسابقه أي إن الذوق الذي أمرنا به ذوق عذاب الخلد و نسيانهم لقاء يومهم هذا أعمالهم السيئة.

(بحث روائي)

في الدر المنثور، أخرج النحاس عن ابن عباس قال ":نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات ﴿أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً إلى تمام الآيات الثلاث.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة عن علي قال: عزائم سجود القرآن الم تنزيل السجدة، و حم تنزيل السجدة، و النجم، و اقرأ باسم ربك الذي خلق.

و في الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن العزائم أربع: اقرأ باسم ربك الذي خلق، و النجم، و تنزيل السجدة، و حم السجدة.

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن الشريد بن سويد قال: أبصر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) رجلا قد أسبل إزاره فقال له: ارفع إزارك، فقال: يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي. قال: ارفع إزارك كل خلق الله حسن. و في الفقيه،: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: ﴿اَللَّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا و عن قول الله عز و جل: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ و عن قول الله عز و جل: ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ و ﴿اَلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ اَلْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ و عن قول الله عز و جل: ﴿تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا و عن قوله عز و جل: ﴿وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلاَئِكَةُ و قد يموت في الدنيا في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلا الله عز و جل، فكيف هذا؟.

فقال: إن الله تبارك و تعالى جعل لملك الموت أعوانا من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجه فيتوفاهم الملائكة و يتوفاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، و يتوفاها الله تعالى من ملك الموت.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عند رأسه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال: أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق.

و اعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول: و الله ما لي من ذنب و إن لي لعودة و عودة الحذر الحذر و ما خلق الله من أهل بيت و لا مدر و لا شعر و لا وبر في بر و لا بحر إلا و أنا أتصفحهم في كل يوم و ليلة خمس مرات -حتى إني لأعرف بصغيرهم و كبيرهم منهم بأنفسهم. و الله يا محمد إني لا أقدر أن أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك و تعالى هو الذي يأمر بقبضه.

و في تفسير القمي،" :في قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا قال: لو شئنا أن نجعلهم كلهم معصومين لقدرنا.

أقول: العصمة لا تنافي الاختيار فلا تنافي بين مضمون الرواية و ما قدمناه في تفسير الآية.

(كلام في كينونة الإنسان الأولي)

تقدم في تفسير أول سورة النساء كلام في هذا المعنى و كلامنا هذا كالتكملة له.

قدمنا هناك أن الآيات القرآنية ظاهرة ظهورا قريبا من الصراحة في أن البشر الموجودين اليوم و نحن منهم ينتهون بالتناسل إلى زوج أي رجل و امرأة بعينهما و قد سمي الرجل في القرآن بآدم و هما غير متكونين من أب و أم بل مخلوقان من تراب أو طين أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن.

فهذا هو الذي يفيده الآيات ظهورا معتدا به و إن لم تكن نصة صريحة لا تقبل التأويل و لا المسألة من ضروريات الدين نعم يمكن عد انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضروريا من القرآن و أما أن آدم هذا هل أريد به آدم النوعي أعني الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأشخاص أو عدة معدودة من الأفراد هم أصول النسب و الآباء و الأمهات الأولية أو فرد إنساني واحد بالشخص؟.

 

 

 و على هذا التقدير هل هو فرد من نوع الإنسان تولد من نوع آخر كالقردة مثلا على طريق تطور الأنواع و ظهور الأكمل من الكامل و الكامل من الناقص و هكذا أو هو فرد من الإنسان كامل بالكمال الفكري تولد من زوج من الإنسان غير المجهز بجهاز التعقل فكان مبدأ لظهور النوع الإنساني المجهز بالتعقل القابل للتكليف و انفصاله من النوع غير المجهز بذلك فالبشر الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان ينتهي أفراده إلى الإنسان الأول الكامل الذي يسمى بآدم، و ينشعب هذا النوع الكامل بالتولد تطورا من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقل و هو يسير القهقرى في أنواع حيوانية مترتبة حتى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزا و أنقصها كمالا و إن أخذنا من هناك سائرين لم نزل ننتقل من ناقص إلى كامل و من كامل إلى أكمل حتى ننتهي إلى الإنسان غير المجهز بالتعقل ثم إلى الإنسان الكامل كل ذلك في سلسلة نسبية متصلة مؤلفة من آباء و أعقاب.

أو أن سلسلة التوالد و التناسل تنقطع بالاتصال بآدم و زوجه و هما متكونان من الأرض من غير تولد من أب و أم فليس شي‏ء من هذه الصور ضروريا.

و كيف كان فظاهر الآيات القرآنية هو الصورة الأخيرة و هي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه المتكونين من الأرض من غير أب و أم.

غير أن الآيات لم تبين كيفية خلق آدم من الأرض و أنه هل عملت في خلقه علل و عوامل خارقة للعادة؟ و هل تمت خلقته بتكوين إلهي آني من غير مهل فتبدل الجسد المصنوع من طين بدنا عاديا ذا روح إنساني أو أنه عاد إنسانا تاما كاملا في أزمنة معتد بها يتبدل عليه فيها استعداد بعد استعداد و صورة و شكل بعد صورة و شكل حتى تم الاستعداد فنفخ فيه الروح و بالجملة اجتمعت عليه من العلل و الشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم.

و من أوضح الدليل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: آل عمران: ٥٩ فإن الآية نزلت جوابا عن احتجاج النصارى على بنوة عيسى بأنه ولد من غير أب بشري و لا ولد إلا بوالد فأبوه هو الله سبحانه، فرد في الآية بما محصله أن صفته كصفة آدم حيث خلقه الله من أديم

 

 

 الأرض بغير والد يولده فلم لا يقولون بأن آدم ابن الله؟.

و لو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته كسائر المتكونين من النطف إلى الأرض كان المعنى: أن صفة عيسى و لا أب له كمثل آدم حيث تنتهي خلقته كسائر الناس إلى الأرض، و من المعلوم أن لا خصوصية لآدم على هذا المعنى حتى يؤخذ و يقاس إليه عيسى فيفسد معنى الآية في نفسه و من حيث الاحتجاج به على النصارى.

و بهذا يظهر دلالة جميع الآيات الدالة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك، على المطلوب كقوله: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ: ص: ٧١ و قوله: ﴿وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ: الم السجدة: ٧.

و أما قول من قال: إن المراد بآدم هو آدم النوعي دون الشخصي بمعنى الطبيعة الإنسانية الخارجية الفاشية في الأفراد، و المراد ببنوة الأفراد له تكثر الأشخاص منه بانضمام القيود إليه و قصة دخوله الجنة و إخراجه منها لمعصيته بإغواء من الشيطان تمثيل تخييلي لمكانته في نفسه و وقوفه موقف القرب ثم كونه في معرض الهبوط باتباع الهوى و طاعة إبليس.

ففيه أنه مدفوع بالآية السابقة و ظواهر كثير من الآيات كقوله: ﴿اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً: النساء: ١ فلو كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعي لم يبق لفرض الزوج لها محل و نظير الآية الآيات التي تفيد أن الله أدخله و زوجه الجنة و أنه و زوجه عصيا الله بالأكل من الشجرة.

على أن أصل القول بآدم النوعي مبني على قدم الأرض و الأنواع المتأصلة و منها الإنسان و أن أفراده غير متناهية من الجانبين و الأصول العلمية تبطل ذلك بتاتا.

و أما القول بكون النسل منتهيا إلى أفراد معدودين كأربعة أزواج مختلفين ببياض اللون و سواده و حمرته و صفرته أو أزواج من الإنسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة و بعضهم بالدنيا الحديثة و الأراضي المكشوفة أخيرا و فيها بشر قاطنون كإمريكا و أستراليا.

فمدفوع بجميع الآيات الدالة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه فإن المراد بآدم فيها إما شخص واحد إنساني و إما الطبيعة الإنسانية الفاشية في الأفراد و هو آدم

 

 

 النوعي و أما الأفراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك البتة.

على أنه مبني على تباين الأصناف الأربعة من الإنسان: البيض و السود و الحمر و الصفر و كون كل من هذه الأصناف نوعا برأسه ينتهي إلى زوج غير ما ينتهي إليه الآخر أو كون قارات الأرض منفصلا بعضها عن بعض انفصالا أبديا غير مسبوق بالعدم، و قد ظهر بطلان هذه الفرضيات اليوم بطلانا كاد يلحقها بالبديهيات.

و أما القول بانتهاء النسل إلى زوج من الإنسان أو أزيد انفصلا أو انفصلوا من نوع آخر هو أقرب الأنواع إليه كالقرد مثلا انفصال الأكمل من الكامل تطورا.

ففيه أن الآيات السابقة الدالة على خلق الإنسان الأول من تراب من غير أب و أم تدفعه.

على أن ما أقيم عليه من الحجة العلمية قاصر عن إثباته كما سنشير إليه في الكلام على القول التالي.

و أما القول بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكري من طريق التولد ثم انشعابهما و انفصالهما بالتطور من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكري ثم انقراض الأصل و بقاء الفرع المتولد منهما على قاعدة تنازع البقاء و انتخاب الأصلح.

فيدفعه قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسىَ عِنْدَ اَللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ على التقريب المتقدم و ما في معناه من الآيات.

على أن الحجة التي أقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته فإنها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقي و أجنة الحيوان و الآثار الحفرية الدالة على التغير التدريجي في صفات الأنواع و أعضائها و ظهور الحيوان تدريجا آخذا من الناقص إلى الكامل و خلق ما هو أبسط من الحيوان قبل ما هو أشد تركيبا.

و فيه أن ظهور النوع الكامل من حيث التجهيزات الحيوية بعد الناقص زمانا لا يدل على أزيد من تدرج المادة في استكمالها لقبول الصور الحيوانية المختلفة فهي قد استعدت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة و الشريفة بعد الخسيسة و أما كون الكامل من الحيوان منشعبا من الناقص بالتولد و الاتصال النسبي فلا و لم يعثر هذا الفحص و البحث على غزارته و طول زمانه على فرد نوع كامل متولد من فرع نوع آخر على أن

 

 

يقف على نفس التولد دون الفرد و الفرد.

و ما وجد منها شاهدا على التغير التدريجي فإنما هو تغير في نوع واحد بالانتقال من صفة لها إلى صفة أخرى لا يخرج بذلك عن نوعيته و المدعى خلاف ذلك.

فالذي يتسلم أن نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة بالكمال و النقص و الشرف و الخسة و أعلى مراتبها الحياة الإنسانية ثم ما يليها ثم الأمثل فالأمثل و أما أن ذلك من طريق تبدل كل نوع مما يجاوره من النوع الأكمل، فلا يفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج.

نعم يوجب حدسا ما غير يقيني بذلك فالقول بتبدل الأنواع بالتطور فرضية حدسية تبتني عليها العلوم الطبيعية اليوم و من الممكن أن يتغير يوما إلى خلافها بتقدم العلوم و توسع الأبحاث.

و ربما استدل على هذا القول بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ اِصْطَفىَ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى اَلْعَالَمِينَ: آل عمران: ٣٣ بتقريب أن الاصطفاء هو انتخاب صفوة الشي‏ء و إنما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يختار المصطفى من بينهم و يؤثر عليهم كما اصطفي كل من نوح و آل إبراهيم و آل عمران من بين قومهم و لازم ذلك أن يكون مع آدم قوم غيره فيصطفى من بينهم عليهم، و ليس إلا البشر الأولي غير المجهز بجهاز التعقل فاصطفي آدم من بينهم فجهز بالعقل فانتقل من مرتبة نوعيتهم إلى مرتبة الإنسان المجهز بالعقل الكامل بالنسبة إليهم ثم نسل و كثر نسله و انقرض الإنسان الأولي الناقص.

و فيه أن ﴿اَلْعَالَمِينَ في الآية جمع محلى باللام و هو يفيد العموم و يصدق على عامة البشر إلى يوم القيامة فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم و الجائين بعدهم كمثل قوله:

﴿وَ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فما المانع من كون آدم مصطفى مختارا من بين أولاده ما خلا المذكورين منهم في الآية؟.

و على تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين و عليهم ما هو المانع من كونه مصطفى مختارا من بين أولاده المعاصرين له و لا دلالة في الآية على كون اصطفائه أول خلقته قبل ولادة أولاده.

 

 

 على أن اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأولي كما يذكره المستدل كان ذلك بما أنه مجهز بالعقل و كان ذلك مشتركا بينه و بين بني آدم جميعا على الإنسان الأولي فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصيصا من غير مخصص.

و ربما استدل بقوله: ﴿وَ لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ الآية: الأعراف: ١١ بناء على أن «ثم» تدل على التراخي الزماني فقد كان للنوع الإنساني وجود قبل خلق آدم و أمر الملائكة بالسجدة له.

و فيه أن ﴿ثُمَّ في الآية للترتيب الكلامي و هو كثير الورود في كلامه تعالى على أن هناك معنى آخر أشرنا إليه في تفسير الآية في الجزء الثامن من الكتاب.

و ربما استدل بقوله: ﴿وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ الآيات و تقريبه أن الآية الأولى المتعرضة لأول خلق الإنسان تذكر خلقته الأولية من تراب التي يشترك فيها جميع الأفراد، و الآية الثالثة تذكر تسويته و نفخ الروح فيه و بالجملة كماله الإنساني و العطف بثم تدل على توسط زمان معتد به بين أول خلقته من تراب و بين ظهوره بكماله.

و ليس هذا الزمان المتوسط إلا زمان توسط الأنواع الأخر التي تنتهي بتغيرها التدريجي إلى الإنسان الكامل و خاصة بالنظر إلى تنكر ﴿سُلاَلَةٍ المفيد للعموم.

و فيه أن قوله: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ عطف على قوله ﴿بَدَأَ و الآيات في مقام بيان ظهور النوع الإنساني بالخلق و أن بدأ خلقه و هو خلقه و هو خلق آدم كان من طين ثم بدل سلالة من ماء في ظهور أولاده، ثم تمت الخلقة سواء كان فيه أو في أولاده بالتسوية و نفخ الروح.

و هذا معنى صحيح يقبل الانطباق على اللفظ و لا يلزم منه حمل قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ على أنواع متوسطة بين الخلق من الطين و بين التسوية و نفخ الروح، و كون ﴿سُلاَلَةٍ نكرة لا يستلزم العموم فإن إفادة النكرة للعموم إنما هو فيما إذا وقعت في سياق النفي دون الإثبات.

و قد استدل بآيات أخر مربوطة بخلقه الإنسان و آدم بنحو مما مر يعلم الجواب عنها بما قدمناه فلا موجب لنقلها و إطالة الكلام بالجواب عنها.

 

 

[سورة السجده (٣٢): الآیات ١٥ الی ٣٠]

﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ١٥ تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ١٦ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٧ أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ ١٨ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ اَلْمَأْوى‏ نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ١٩ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢٠ وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْأَدْنى‏ دُونَ اَلْعَذَابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٢١ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ٢٢ وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٢٣ وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ٢٤ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ٢٥ أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَ فَلاَ يَسْمَعُونَ ٢٦ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ اَلْمَاءَ

 

 

إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلاَ يُبْصِرُونَ ٢٧ وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هَذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ٢٨ قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ٢٩ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ٣٠

(بيان)

الآيات تفرق بين المؤمنين بحقيقة معنى الإيمان و بين الفاسقين و الظالمين و تذكر لكل ما يلزمه من الآثار و التبعات ثم تنذر الظالمين بعذاب الدنيا و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بانتظار الفتح و عند ذلك تختم السورة.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ لما ذكر شطرا من الكلام في الكفار الذين يجحدون لقاءه و يستكبرون في الدنيا عن الإيمان و العمل الصالح أخذ في صفة الذين يؤمنون بآيات ربهم و يخضعون للحق لما ذكروا و وعظوا.

فقوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا حصر للإيمان بحقيقة معناه فيهم و معناه أن علامة التهيؤ للإيمان الحقيقي هو كذا و كذا.

و قوله: ﴿اَلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً ذكر سبحانه شيئا من أوصافهم و شيئا من أعمالهم، أما ما هو من أوصافهم فتذللهم لمقام الربوبية و عدم استكبارهم عن الخضوع لله و تسبيحه و حمده و هو قوله: ﴿إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أي الدالة على وحدانيته في ربوبيته و ألوهيته و ما يلزمها من المعاد و الدعوة النبوية إلى الإيمان و العمل الصالح ﴿خَرُّوا سُجَّداً أي سقطوا على الأرض ساجدين لله تذللا و استكانة ﴿وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي نزهوه مقارنا للثناء الجميل عليه. و السجدة و التسبيح و التحميد و إن كانت من الأفعال لكنها مظاهر لصفة التذلل و الخضوع لمقام الربوبية و الألوهية، و لذا أردفها بصفة تلازمها فقال: ﴿وَ هُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ.

 

 

قوله تعالى: ﴿تَتَجَافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ هذا معرفهم من حيث أعمالهم كما أن ما في الآية السابقة كان معرفهم من حيث أوصافهم.

فقوله: ﴿تَتَجَافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ التجافي‏ التنحي و الجنوب‏ جمع جنب و هو الشق، و المضاجع‏ جمع مضجع و هو الفراش و موضع النوم، و التجافي عن المضاجع كناية عن ترك النوم.

و قوله: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً حال من ضمير جنوبهم و المراد اشتغالهم بدعاء ربهم في جوف الليل حين تنام العيون و تسكن الأنفاس لا خوفا من سخطه تعالى فقط حتى يغشيهم اليأس من رحمة الله و لا طمعا في ثوابه فقط حتى يأمنوا غضبه و مكره بل يدعونه خوفا و طمعا فيؤثرون في دعائهم أدب العبودية على ما يبعثهم إليه الهدى و هذا التجافي و الدعاء ينطبق على النوافل الليلية.

و قوله: ﴿وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ عمل آخر لهم و هو الإنفاق لله و في سبيله.

قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تفريع لما لهم من الأوصاف و الأعمال يصف ما أعد الله لهم من الثواب.

و وقوع نفس و هي نكرة في سياق النفي يفيد العموم، و إضافة قرة إلى أعين لا أعينهم تفيد أن فيما أخفي لهم قرة عين كل ذي عين.

و المعنى: فلا تعلم نفس من النفوس أي هو فوق علمهم و تصورهم ما أخفاه الله لهم مما تقر به عين كل ذي عين جزاء في قبال ما كانوا يعملون في الدنيا.

قوله تعالى: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ الإيمان‏ سكون علمي خاص من النفس بالشي‏ء و لازمه الالتزام العملي بما آمن به و الفسق‏ هو الخروج عن الالتزام المذكور من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها و مآل معناه الخروج عن زي العبودية.

و الاستفهام في الآية للإنكار، و قوله: ﴿لاَ يَسْتَوُونَ نفي لاستواء الفريقين تأكيدا لما يفيده الإنكار السابق.

قوله تعالى: ﴿أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ اَلْمَأْوى‏ نُزُلاً بِمَا كَانُوا

 

 

 يَعْمَلُونَ المأوى‏ المكان الذي يأوي إليه و يسكن فيه الإنسان، و النزل‏ بضمتين كل ما يعد للنازل في بيت من الطعام و الشراب، ثم عمم كما قيل لكل عطية، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ اَلنَّارُ إلى آخر الآية، كون النار مأواهم لازمه خلودهم فيها و لذلك عقبه بقوله: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا، و قوله: ﴿وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ اَلنَّارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ دليل على أن المراد بالذين فسقوا هم منكرو المعاد و خطابهم و هم في النار بهذا الخطاب شماتة بهم و كثيرا ما كانوا يشمتون في الدنيا بالمؤمنين لقولهم بالمعاد.

قوله تعالى: ﴿وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْأَدْنىَ دُونَ اَلْعَذَابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لما كان غاية إذاقتهم العذاب رجوعهم المرجو و الرجوع المرجو هو الرجوع إلى الله بالتوبة و الإنابة كان المراد بالعذاب الأدنى هو عذاب الدنيا النازل بهم للتخويف و الإنذار ليتوبوا دون عذاب الاستئصال و دون العذاب الذي بعد الموت و حينئذ المراد بالعذاب الأكبر عذاب يوم القيامة.

و المعنى: أقسم لنذيقنهم من العذاب الأدنى أي الأقرب مثل السنين و الأمراض و القتل و نحو ذلك قبل العذاب الأكبر يوم القيامة لعلهم يرجعون إلينا بالتوبة من شركهم و جحودهم.

قيل: سمي عذاب الدنيا أدنى و لم يقل: الأصغر، حتى يقابل الأكبر لأن المقام مقام الإنذار و التخويف و لا يناسبه عد العذاب أصغر، و كذا لم يقل دون العذاب الأبعد حتى يقابل العذاب الأدنى لعدم ملاءمته مقام التخويف.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ كأنه في مقام التعليل لما تقدم من عذابهم بالعذاب الأكبر بما أنهم مكذبون فعلله بأنهم ظالمون أشد الظلم بالإعراض عن الآيات بعد التذكرة فيكونون مجرمين و الله منتقم منهم.

فقوله: ﴿وَ مَنْ أَظْلَمُ إلخ تعليل لعذابهم بأنهم ظالمون أشد الظلم ثم قوله: ﴿إِنَّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ، تعليل لعذاب الظالمين بأنهم مجرمون و العذاب انتقام منهم، و الله منتقم من المجرمين.

 

 

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى اَلْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ المراد بالكتاب التوراة و المرية الشك و الريب.

و قد اختلفوا في مرجع الضمير في قوله: ﴿مِنْ لِقَائِهِ و معنى الكلمة فقيل:

الضمير لموسى و هو مفعول اللقاء و التقدير فلا تكن في مرية من لقائك موسى و قد لقيه ليلة المعراج كما وردت به الروايات فإن كانت السورة نازلة بعد المعراج فهو تذكرة لما قد وقع و إن كانت نازلة قبله فهو وعد منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه سيراه.

و قيل: الضمير لموسى و المعنى: فلا تكن في مرية من لقائك موسى يوم القيامة.

و قيل: الضمير للكتاب و التقدير فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب.

و قيل: التقدير من لقائك الكتاب أو من لقاء الكتاب إياك.

و قيل: الضمير لما لقي موسى من الأذى من قومه و المعنى: فلا تكن في مرية من لقاء الأذى كما لقيه موسى من قومه و أنت خبير بأن الطبع السليم لا يقبل شيئا من هذه الوجوه - على أنها لا تفي لبيان وجه اتصال الآية بما قبلها.

و من الممكن و الله أعلم أن يرجع ضمير لقائه إليه تعالى و المراد بلقائه البعث بعناية أنه يوم يحضرون لربهم لا حجاب بينه و بينهم كما تقدم، و قد عبر عنه باللقاء قبل عدة آيات في قوله: ﴿بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ، ثم عبر عنه بما في معناه في قوله: ﴿نَاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ.

فيكون المعنى: و لقد آتينا موسى الكتاب كما آتيناك القرآن فلا تكن في مرية من البعث الذي ينطق به القرآن بالشك في نفس القرآن و قد أيد نزول القرآن عليه (ص) بنزول التوراة على موسى في مواضع من القرآن، و يؤيده قوله بعد: ﴿وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا إلخ.

و يمكن أن يكون المراد بلقائه الانقطاع التام إليه تعالى عند وحي القرآن أو بعضه كما في بعض الروايات، فيكون رجوعا إلى ما في صدر السورة من قوله: ﴿تَنْزِيلُ اَلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، و ذيل الآية أشد تأييدا لهذا الوجه من سابقه و الله أعلم.

و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أي هاديا فالمصدر بمعنى اسم الفاعل

 

 

 أو بمعناه المصدري مبالغة.

قوله تعالى: ﴿وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ أي و جعلنا من بني إسرائيل أئمة يهدون الناس بأمرنا و إنما نصبناهم أئمة هداة للناس حين صبروا في الدين و كانوا قبل ذلك موقنين بآياتنا.

و قد تقدم البحث عن معنى الإمامة و هداية الإمام بأمر الله في تفسير قوله:

﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً: البقرة: ١٢٤ و قوله: ﴿وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا: الأنبياء: ٧٣ و غير ذلك من الموارد المناسبة.

و قد تضمنت هاتان الآيتان من الرحمة المنبسطة بالتوراة أنها هدى في نفسه يهدي من اتبعه إلى الحق، و أنها أنشأت في حجر تربيتها أناسا اجتباهم الله للإمامة فصاروا يهدون بأمره فهي مباركة للعمل بها و مباركة بعد العمل.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يريد اختلافهم في الدين و إنما كان ذلك بغيا بينهم كما يذكره في مواضع من كلامه كقوله:

﴿وَ لَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْكِتَابَ إلى أن قال ﴿فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ: الجاثية: ١٧.

فالمراد بقوله: ﴿يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ القضاء الفاصل بين الحق و الباطل و المحق و المبطل و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إلخ، العطف على محذوف كأنه قيل: أ لم يبين لهم كذا و كذا، ﴿أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ إلخ، و الهداية بمعنى التبيين أو هو مضمن معنى التبيين و لذا عدي باللام.

و قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ مشير إلى الفاعل قائم مقامه، و المعنى:

أ و لم يبين لهم كثرة من أهلكنا من القرون و الحال أنهم يمشون في مساكنهم.

و قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَ فَلاَ يَسْمَعُونَ المراد بالسمع سمع المواعظ المؤدي إلى طاعة الحق و قبوله.

قوله تعالى: ﴿أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ اَلْمَاءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ إلخ، قال في المجمع:، السوق‏ الحث على السير من ساقه يسوقه،

 

 

 و قال: الجرز الأرض اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها. انتهى.

و الزرع مصدر في الأصل و المراد به هنا المزروع.

و الآية تذكر آية أخرى من آيات الله سبحانه تدل على حسن تدبيره للأشياء و خاصة ذوي الحياة منها كالأنعام و الإنسان، و المراد بسوق الماء إلى الأرض الخالية من النبات سوق السحب الحاملة للأمطار إليها، ففي نزول ماء المطر منها حياة الأرض و خروج الزرع و اغتذاء الإنسان و الأنعام التي يسخرها و يربيها لمقاصد حياته.

و قوله: ﴿أَ فَلاَ يُبْصِرُونَ تنبيه و توبيخ و تخصيص هذه الآية بالإبصار، و الآية السابقة بالسمع لما أن العلم بإهلاك الأمم الماضين إنما هو بالأخبار التي تنال من طريق السمع و أما العلم بسوق الأمطار إلى الأرض الجرز و إخراج الزرع و اغتذاء الأنعام و الإنسان فالطريق إليه حاسة البصر.

قوله تعالى: ﴿وَ يَقُولُونَ مَتىَ هَذَا اَلْفَتْحُ إلى قوله ﴿وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ قال الراغب: الفتح‏ إزالة الإغلاق و الإشكال إلى أن قال و فتح القضية فتاحا فصل الأمر فيها و أزال الإغلاق عنها، قال: ﴿رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ انتهى.

و قد تقدم في الآيات السابقة مما يصدق عليه الفتح بمعنى الفصل أمران: أحدهما فصل بينهم يوم القيامة، و الآخر إذاقة العذاب الأدنى أو الانتقام منهم في الدنيا و لذا فسر الفتح بعضهم بيوم القيامة فيكون معنى قولهم: ﴿مَتىَ هَذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ هو معنى قولهم المحكي كرارا في كلامه تعالى: ﴿مَتىَ هَذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.

و فسره بعضهم بيوم بدر فإنه لم ينفع الذين قتلوا من المشركين إيمانهم بعد القتل.

و ذكر بعضهم أن المراد به فتح مكة و لا يلائمه الجواب المذكور في قوله: ﴿قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَ لاَ هُمْ يُنْظَرُونَ إلا أن يقول قائل: إن إيمانهم يومئذ و قد عاندوا الحق و قاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) سنين و جاهدوا في إطفاء نور الله لم يكن إيمانا إلا نفاقا من غير أن يدخل في قلوبهم و ينتفع به نفوسهم و قد ألزموا بالإيمان و لم ينظروا.

و يمكن أن يكون المراد هو القضاء بين النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و بين الأمة و يكون ذلك في

 

 

 آخر الزمان كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله: ﴿وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ الآية: يونس: ٤٧.

و كيف كان فالمراد بالآيتين استعجال المشركين بالفتح و الجواب أنه فتح لا ينفع حال الذين كفروا إيمانهم لأنه ظرف لا ينفع نفسا إيمانها و لا أن العذاب يمهلهم و ينظرهم.

قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أمر بالإعراض عنهم و انتظار الفتح كما أنهم ينتظرون و إنما كانوا منتظرين موته أو قتله (ص) و بالجملة انقطاع دابر دعوته الحقة فلينتظر هو كما هم ينتظرون حتى يظهر الله الحق على الباطل و المحق على المبطل.

و من هذا السياق يظهر أن المراد بالفتح الفتح الدنيوي.

(بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: ﴿تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ، قال: هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقتها قبل أن ينام الصغير و يكسل الكبير.

أقول: و رواها أيضا فيه بطرق أخر موصولة و موقوفة، و روى صدر الحديث الشيخ في أماليه بالإسناد عن الصادق (عليه السلام) في الآية و لفظه كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة.

 و في الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أ لا أخبرك بالإسلام أصله و فرعه و ذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك. قال: أما أصله فالصلاة و فرعه الزكاة و ذروة سنامه الجهاد.

ثم قال: إن شئت أخبرتك بأبواب الخير: قلت: نعم جعلت فداك. قال:

الصوم جنة و الصدقة تذهب بالخطيئة و قيام الرجل في جوف الليل يذكر الله ثم قرأ:

﴿تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ

 

 

أقول: و روى هذا المعنى في المحاسن، بإسناده عن علي بن عبد العزيز عن الصادق (عليه السلام) و في المجمع، عن الواحدي بالإسناد عن معاذ بن جبل عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و رواه في الدر المنثور، عن الترمذي و النسائي و ابن ماجة و غيرهم عن معاذ عنه (ص). و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: ذكر لنا رسول الله قيام الليل ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه فقال: ﴿تَتَجَافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم و الطبراني و ابن جرير و الحاكم و صححه و ابن مردويه و محمد بن نصر في كتاب الصلاة من طريق أبي صخر عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يصف الجنة حتى انتهى .

ثم قال: فيها ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ثم قرأ:

﴿تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ الآيتين.

 و في المجمع، و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: ما من حسنة إلا و لها ثواب مبين في القرآن إلا صلاة الليل فإن الله عز اسمه لم يبين ثوابها لعظم خطرها قال: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ الآية.

و في تفسير القمي، حدثني أبي عن عبد الرحمن بن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من عمل حسن يعمله العبد إلا و له ثواب في القرآن إلا صلاة الليل - فإن الله عز و جل لم يبين ثوابها لعظيم خطره عنده، فقال جل ذكره:

﴿تَتَجَافىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ إلى قوله ﴿يَعْمَلُونَ ثم قال: إن لله عز و جل كرامة في عباده المؤمنين في كل يوم جمعة فإذا كان يوم الجمعة بعث الله إلى المؤمن ملكا معه حلتان فينتهي إلى باب الجنة فيقول: استأذنوا لي على فلان فيقال له هذا رسول ربك على الباب فيقول لأزواجه: أي شي‏ء ترين علي أحسن؟ فيقلن يا سيدنا و الذي أباحك الجنة ما رأينا عليك أحسن من هذا الذي قد بعث إليك ربك فيتزر بواحدة و يتعطف بالأخرى فلا يمر بشي‏ء إلا أضاء له حتى ينتهي إلى الموعد.

فإذا اجتمعوا تجلى لهم الرب تبارك و تعالى فإذا نظروا إليه أي إلى رحمته خروا

 

 

 سجدا فيقول: عبادي ارفعوا رءوسكم ليس هنا يوم سجود و لا عبادة قد رفعت عنكم المئونة فيقولون: يا ربنا و أي شي‏ء أفضل مما أعطيتنا؟ أعطيتنا الجنة فيقول: لكم مثل ما في أيديكم سبعين مرة.

فيرجع المؤمن في كل جمعة بسبعين ضعفا مثل ما في يديه و هو قوله: ﴿وَ لَدَيْنَا مَزِيدٌ و هو يوم الجمعة إن ليلها ليلة غراء و يومها يوم أزهر فأكثروا من التسبيح و التهليل و التكبير و الثناء على الله عز و جل و الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

قال: فيمر المؤمن فلا يمر بشي‏ء إلا أضاء له حتى ينتهي إلى أزواجه فيقلن:

و الذي أباحنا الجنة، يا سيدنا ما رأيناك أحسن منك الساعة. فيقول: إني نظرت إلى نور ربي إلى أن قال : قلت جعلت فداك زدني. فقال: إن الله تعالى خلق جنة بيده و لم يرها عين و لم يطلع عليها مخلوق يفتحها الرب كل صباح فيقول: ازدادي ريحا ازدادي طيبا و هو قول الله: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

 أقول: ذيل الرواية تفسير لصدرها و قوله: أي إلى رحمة ربه. من كلام الراوي.

 و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله جل و عز ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا الله رب العالمين.

 و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى:

﴿أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ قال: إن علي بن أبي طالب و الوليد بن عقبة بن أبي معيط تشاجرا فقال الفاسق وليد بن عقبة: أنا و الله أبسط منك لسانا و أحد منك سنانا و أمثل منك جثوا في الكتيبة. فقال علي (عليه السلام): اسكت إنما أنت فاسق فأنزل الله ﴿أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ.

أقول: و رواه في المجمع، عن الواحدي عن ابن عباس و في الدر المنثور، عن كتاب الأغاني و الواحدي و ابن عدي و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر عنه و أيضا عن ابن إسحاق و ابن جرير عن عطاء بن يسار و عن ابن أبي حاتم عن السدي عنه و أيضا عن ابن أبي حاتم عن ابن أبي ليلى مثله.

 

 

و في الاحتجاج، عن الحسن بن علي (عليه السلام): في حديث يحاج فيه رجالا عند معاوية:

و أما أنت يا وليد بن عقبة فوالله ما ألومك أن تبغض عليا و قد جلدك في الخمر ثمانين جلدة و قتل أباك صبرا بيده يوم بدر أم كيف تسبه و قد سماه الله مؤمنا في عشر آيات من القرآن و سماك فاسقا و هو قول الله عز و جل: ﴿أَ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ.

و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال: سألت عبادة بن الصامت عن قول الله: ﴿وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذَابِ اَلْأَدْنى‏ دُونَ اَلْعَذَابِ اَلْأَكْبَرِ فقال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عنها فقال: هي المصائب و الأسقام و الأنصاب عذاب للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت: يا رسول الله فما هي لنا؟ قال:

زكاة و طهور. و في المجمع، في الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): أن العذاب الأدنى الدابة و الدجال.

 

 

(٣٣) (سورة الأحزاب مدنية، و هي ثلاث و سبعون آية) (٧٣)

[سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ١ الی ٨]

﴿بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ١ وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحى‏ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ٢ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ وَكِيلاً ٣ مَا جَعَلَ اَللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ مَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اَللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ ٤ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ٥ اَلنَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى‏ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً ٦ وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ

 

 

نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ٧ لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ٨

(بيان)

تتضمن السورة تفاريق من المعارف و الأحكام و القصص و العبر و المواعظ و فيها قصة غزوة الخندق و إشارة إلى قصة بني القريظة من اليهود، و سياق آياتها يشهد بأنها مما نزلت بالمدينة.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً أمر للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتقوى الله و فيه تمهيد للنهي الذي بعده ﴿وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ.

و في سياق النهي و قد جمع فيه بين الكافرين و المنافقين و نهى عن إطاعتهم كشف عن أن الكافرين كانوا يسألونه أمرا لا يرتضيه الله سبحانه و كان المنافقون يؤيدونهم في مسألتهم و يلحون، أمرا كان الله سبحانه بعلمه و حكمته قد قضى بخلافه و قد نزل الوحي الإلهي بخلافه، أمرا خطيرا لا يؤمن مساعدة الأسباب على خلافه إلا أن يشاء الله فحذر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن إجابتهم إلى ملتمسهم و أمر بمتابعة ما أوحى الله إليه و التوكل عليه.

و بهذا يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن عدة من صناديد قريش بعد وقعة أحد دخلوا المدينة بأمان من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سألوا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يتركهم و آلهتهم فيتركوه و إلهه فنزلت الآيات و لم يجبهم النبي إلى ذلك و سيأتي في البحث الروائي التالي.

و بما تقدم ظهر وجه تذييل الآية بقوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً و كذا تعقيب الآية بالآيتين بعدها.

قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً

 

 

الآية عامة في حد نفسها لكنها من حيث وقوعها في سياق النهي تأمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) باتباع ما نزل به الوحي فيما يسأله الكافرون و المنافقون و أتباعه إجراؤه عملا بدليل قوله: ﴿إِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً.

قوله تعالى: ﴿وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللَّهِ وَ كَفىَ بِاللَّهِ وَكِيلاً الآية كالآية السابقة في أنها عامة في حد نفسها، لكنها لوقوعها في سياق النهي السابق تدل على الأمر بالتوكل على الله فيما يأمره به الوحي و تشعر بأنه أمر صعب المنال بالنظر إلى الأسباب الظاهرية لا يسلم القلب معه من عارضة المخافة و الاضطراب إلا التوكل على الله سبحانه فإنه السبب الوحيد الذي لا يغلبه سبب مخالف.

قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اَللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ كناية عن امتناع الجمع بين المتنافيين في الاعتقاد فإن القلب الواحد أي النفس الواحدة لا يسع اعتقادين متنافيين و رأيين متناقضين فإن كان هناك متنافيان فهما لقلبين و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه فالرجل الواحد لا يسعه أن يعتقد المتنافيين و يصدق بالمتناقضين و قوله: ﴿فِي جَوْفِهِ يفيد زيادة التقرير كقوله: ﴿وَ لَكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ: الحج: ٤٦.

قيل: الجملة توطئة و تمهيد كالتعليل لما يتلوها من إلغاء أمر الظهار و التبني فإن في الظهار جعل الزوجة بمنزلة الأم و في التبني و الدعاء جعل ولد الغير ولدا لنفسه و الجمع بين الزوجية و الأمومة و كذا الجمع بين بنوة الغير و بنوة نفسه جمع بين المتنافيين و لا يجتمعان إلا في قلبين و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

و لا يبعد أن تكون الجملة في مقام التعليل لقوله السابق: ﴿لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ وَ اَلْمُنَافِقِينَ ﴿وَ اِتَّبِعْ مَا يُوحىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فإن طاعة الله و ولايته و طاعة الكفار و المنافقين و ولايتهم متنافيتان متباينتان كالتوحيد و الشرك لا يجتمعان في القلب الواحد و ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اَللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ كان الرجل في الجاهلية يقول لزوجته أنت مني كظهر أمي أو ظهرك علي كظهر أمي فيشبه ظهرها بظهر أمه و كان يسمى ذلك ظهارا و يعد طلاقا لها، و قد ألغاه الإسلام.

فمفاد الآية أن الله لم يجعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن بقول ظهرك علي

 

 

 كظهر أمي أمهات لكم و إذ لم يجعل ذلك فلا أثر لهذا القول و الجعل تشريعي.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ الأدعياء جمع دعي و هو المتخذ ولدا المدعو ابنا و قد كان الدعاء و التبني دائرا بينهم في الجاهلية و كذا بين الأمم الراقية يومئذ كالروم و فارس و كانوا يرتبون على الدعي أحكام الولد الصلبي من التوارث و حرمة الازدواج و غيرهما و قد ألغاه الإسلام.

فمفاد الآية أن الله لم يجعل الذين تدعونهم لأنفسكم أبناء لكم بحيث يجري فيهم ما يجري في الأبناء الصلبيين.

قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ الإشارة بقوله: ﴿ذَلِكُمْ إلى ما تقدم من الظهار و الدعاء أو إلى الدعاء فقط و هو الأظهر و يؤيده اختصاص الآية التالية بحكم الدعاء فحسب.

و قوله: ﴿قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ أي إن نسبة الدعي إلى أنفسكم ليس إلا قولا تقولونه بأفواهكم ليس له أثر وراء ذلك فهو كناية عن انتفاء الأثر كما في قوله: ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا: المؤمنون: ١٠٠.

و قوله: ﴿وَ اَللَّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ معنى كون قوله: هو الحق أنه إن أخبر عن شي‏ء كان الواقع مطابقا لما أخبر به و إن أنشأ حكما ترتب عليه آثاره و طابقته المصلحة الواقعية.

و معنى هدايته السبيل أنه يحمل من هداه على سبيل الحق التي فيها الخير و السعادة و في الجملتين تلويح إلى أن دعوا أقوالكم و خذوا بقوله.

قوله تعالى: ﴿اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ إلى آخر الآية. اللام في ﴿لِآبَائِهِمْ للاختصاص أي ادعوهم و هم مخصوصون بآبائهم أي انسبوهم إلى آبائهم و قوله:

﴿هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللَّهِ، الضمير إلى المصدر المفهوم من قوله: ﴿اُدْعُوهُمْ نظير قوله:

﴿اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىَ و «أقسط» صيغة تفضيل من القسط بمعنى العدل.

و المعنى: انسبوهم إلى آبائهم إذا دعوتموهم لأن الدعاء لآبائهم أعدل عند الله.

و قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ، المراد بعدم

 

 

 علمهم آباءهم عدم معرفتهم بأعيانهم، و الموالي هم الأولياء، و المعنى: و إن لم تعرفوا آباءهم فلا تنسبوهم إلى غير آبائهم بل ادعوهم بالإخوة و الولاية الدينية.

و قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي لا ذنب لكم في الذي أخطأتم به لسهو أو نسيان فدعوتموهم لغير آبائهم و لكن الذي تعمدته قلوبكم ذنب أو و لكن تعمد قلوبكم بذلك فيه الذنب.

و قوله: ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً راجع إلى ما أخطئ به.

قوله تعالى: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ أنفس المؤمنين هم المؤمنون فمعنى كون النبي أولى بهم من أنفسهم أنه أولى بهم منهم: و معنى الأولوية هو رجحان الجانب إذا دار الأمر بينه و بين ما هو أولى منه فالمحصل أن ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ و الكلاءة و المحبة و الكرامة و استجابة الدعوة و إنفاذ الإرادة فالنبي أولى بذلك من نفسه و لو دار الأمر بين النبي و بين نفسه في شي‏ء من ذلك كان جانب النبي أرجح من جانب نفسه.

ففيما إذا توجه شي‏ء من المخاطر إلى نفس النبي فليقه المؤمن بنفسه و يفده نفسه و ليكن النبي أحب إليه من نفسه و أكرم عنده من نفسه و لو دعته نفسه إلى شي‏ء و النبي إلى خلافه أو أرادت نفسه منه شيئا و أراد النبي خلافه كان المتعين استجابة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و طاعته و تقديمه على نفسه.

و كذا النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أولى بهم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية أو الدينية كل ذلك لمكان الإطلاق في قوله: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾.

و من هنا يظهر ضعف ما قيل: إن المراد أنه أولى بهم في الدعوة فإذا دعاهم إلى شي‏ء و دعتهم أنفسهم إلى خلافه كان عليهم أن يطيعوه و يعصوا أنفسهم، فتكون الآية في معنى قوله: ﴿وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ: النساء: ٥٩ و قوله: ﴿وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اَللَّهِ: النساء: ٦٤ و ما أشبه ذلك من الآيات و هو مدفوع بالإطلاق.

و كذا ما قيل إن المراد أن حكمه فيهم أنفذ من حكم بعضهم على بعض كما في قوله:

﴿فَسَلِّمُوا عَلىَ أَنْفُسِكُمْ: النور: ٦١ و يئول إلى أن ولايته على المؤمنين فوق ولاية بعضهم على بعض المدلول عليه بقوله: ﴿اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ: براءة: - ٧١.

و فيه أن السياق لا يساعد عليه.

 

 

 و قوله: ﴿وَ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ جعل تشريعي أي أنهن منهم بمنزلة أمهاتهم في وجوب تعظيمهن و حرمة نكاحهن بعد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما سيأتي التصريح به في قوله:

﴿وَ لاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً.

فالتنزيل إنما هو في بعض آثار الأمومة لا في جميع الآثار كالتوارث بينهن و بين المؤمنين و النظر في وجوههن كالأمهات و حرمة بناتهن على المؤمنين لصيرورتهن أخوات لهم و كصيرورة آبائهن و أمهاتهن أجدادا و جدات و إخوتهن و أخواتهن أخوالا و خالات للمؤمنين.

قوله تعالى: ﴿وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏َ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اَللَّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ إلخ، الأرحام‏ جمع رحم و هي العضو الذي يحمل النطفة حتى تصير جنينا فيتولد، و إذ كانت القرابة النسبية لازمة الانتهاء إلى رحم واحدة عبر عن القرابة بالرحم فسمي ذوو القرابة أولي الأرحام.

و المراد بكون أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، الأولوية في التوارث، و قوله:

﴿فِي كِتَابِ اَللَّهِ المراد به اللوح المحفوظ أو القرآن أو السورة، و قوله: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ مفضل عليه و المراد بالمؤمنين غير المهاجرين منهم، و المعنى: و ذوو القرابة بعضهم أولى ببعض من المهاجرين و سائر المؤمنين الذين كانوا يرثون بالمؤاخاة الدينية، و هذه الأولوية في كتاب الله و ربما احتمل كون قوله: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهَاجِرِينَ بيانا لقوله: ﴿وَ أُولُوا اَلْأَرْحَامِ.

و الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة و الموالاة في الدين.

و قوله: ﴿إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى‏َ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً الاستثناء منقطع، و المراد بفعل المعروف إلى الأولياء الوصية لهم بشي‏ء من التركة، و قد حد شرعا بثلث المال فما دونه، و قوله:

﴿كَانَ ذَلِكَ فِي اَلْكِتَابِ مَسْطُوراً أي حكم فعل المعروف بالوصية مسطور في اللوح المحفوظ أو القرآن أو السورة.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ أَخَذْنَا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‏َ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً إضافة الميثاق إلى ضمير النبيين دليل على أن المراد بالميثاق ميثاق خاص بهم كما أن ذكرهم بوصف النبوة مشعر بذلك فالميثاق

 

 

 المأخوذ من النبيين ميثاق خاص من حيث إنهم نبيون و هو غير الميثاق المأخوذ من عامة البشر الذي يشير إليه في قوله: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏َ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‏َ: الأعراف: ١٧٢.

و قد ذكر أخذ الميثاق من النبيين في موضع آخر و هو قوله: ﴿وَ إِذْ أَخَذَ اَللَّهُ مِيثَاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى‏َ ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا: آل عمران: ٨١.

و الآية المبحوث عنها و إن لم تبين ما هو الميثاق المأخوذ منهم و إن كانت فيها إشارة إلى أنه أمر متعلق بالنبوة لكن يمكن أن يستفاد من آية آل عمران أن الميثاق مأخوذ على وحدة الكلمة في الدين و عدم الاختلاف فيه كما في قوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ: الأنبياء: ٩٢ و قوله: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ مَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‏َ وَ عِيسى‏َ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ: الشورى: ١٣.

و قد ذكر النبيين بلفظ عام يشمل الجميع ثم سمى خمسة منهم بأسمائهم بالعطف عليهم فقال: ﴿وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرَاهِيمَ وَ مُوسى‏َ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ و معنى العطف إخراجهم من بينهم و تخصيصهم بالذكر كأنه قيل: و إذ أخذنا الميثاق منكم أيها الخمسة و من باقي النبيين.

و لم يخصهم بالذكر على هذا النمط إلا لعظمة شأنهم و رفعة مكانهم فإنهم أولوا عزم و أصحاب شرائع و كتب و قد عدهم على ترتيب زمانهم: نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى بن مريم (عليه السلام)، لكن قدم ذكر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو آخرهم زمانا لفضله و شرفه و تقدمه على الجميع.

و قوله: ﴿وَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً تأكيد و تغليظ للميثاق نظير قوله: ﴿وَ لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ: هود: ٥٨.

قوله تعالى: ﴿لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً اللام في ﴿لِيَسْئَلَ للتعليل أو للغاية و هو متعلق بمحذوف يدل عليه قوله: ﴿وَ إِذْ أَخَذْنَا و قوله: ﴿وَ أَعَدَّ معطوف على ذلك المحذوف، و التقدير فعل ذلك أي أخذ الميثاق

 

 

ليتمهد له سؤال الصادقين عن صدقهم و أعد للكافرين عذابا أليما.

و لم يقل: و ليعد للكافرين عذابا، إشارة أن عذابهم ليس من العلل الغائية لأخذ الميثاق و إنما النقص من ناحيتهم و الخلف من قبلهم.

و أما سؤال الصادقين عن صدقهم فقيل: المراد بالصادقين الأنبياء و سؤالهم عن صدقهم هو سؤالهم يوم القيامة عما جاءت به أممهم و كأنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اَللَّهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَا ذَا أُجِبْتُمْ: المائدة: ١٠٩.

و قيل: المراد سؤال الصادقين في توحيد الله و عدله و الشرائع عن صدقهم أي عما كانوا يقولون فيه، و قيل: المراد سؤال الصادقين في أقوالهم عن صدقهم في أفعالهم، و قيل: المراد سؤال الصادقين عما قصدوا بصدقهم أ هو وجه الله أو غيره؟ إلى غير ذلك من الوجوه و هي كما ترى.

و التأمل فيما يفيده قوله: ﴿لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ يرشد إلى خلاف ما ذكروه، ففرق بين قولنا: سألت الغني عن غناه و سألت العالم عن علمه، و بين قولنا:

سألت زيدا عن ماله أو عن علمه، فالمتبادر من الأولين أني طالبته أن يظهر غناه و أن يظهر علمه، و من الأخيرين أني طالبته أن يخبرني هل له مال أو هل له علم؟ أو يصف لي ما له من المال أو من العلم.

و على هذا فمعنى سؤال الصادقين عن صدقهم مطالبتهم أن يظهروا ما في باطنهم من الصدق في مرتبة القول و الفعل و هو عملهم الصالح في الدنيا فالمراد بسؤال الصادقين عن صدقهم توجيه التكليف على حسب الميثاق إليهم ليظهر منهم صدقهم المستبطن في نفوسهم و هذا في الدنيا لا في الآخرة فأخذ الميثاق في نشأة أخرى قبل الدنيا كما يدل عليه آيات الذر ﴿وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏َ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلى‏َ الآيات.

و بالجملة الآيتان من الآيات المنبئة عن عالم الذر المأخوذ فيه الميثاق و تذكر أن أخذ الميثاق من الأنبياء (عليه السلام) و ترتب شأنهم و عملهم في الدنيا على ذلك في ضمن ترتب صدق كل صادق على الميثاق المأخوذ منه.

و لمكان هذا التعميم ذكر عاقبة أمر الكافرين مع أنهم ليسوا من قبيل النبيين

 

 

 و الكلام في الميثاق المأخوذ منهم فكأنه قيل: أخذنا ميثاقا غليظا من النبيين أن تتفق كلمتهم على دين واحد يبلغونه ليسأل الصادقين و يطالبهم بالتكليف و الهداية إظهار صدقهم في الاعتقاد و العمل ففعلوا فقدر لهم الثواب و أعد للكافرين عذابا أليما.

و من هنا يظهر وجه الالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: ﴿لِيَسْئَلَ اَلصَّادِقِينَ إلخ، و ذلك لأن الميثاق على عبادته وحده لا شريك له و إن كان أخذه منه تعالى بوساطة من الملائكة المصحح لقوله: ﴿أَخَذْنَا ﴿وَ أَخَذْنَا فالمطالب لصدق الصادقين و المعد لعذاب الكافرين بالحقيقة هو تعالى وحده ليعبد وحده فتدبر.

(بحث روائي)

في المجمع، ":في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللَّهَ الآيات نزلت في أبي سفيان بن حرب و عكرمة بن أبي جهل و أبي الأعور السلمي قدموا المدينة و نزلوا على عبد الله بن أبي بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ليكلموه فقاموا و قام معهم عبد الله بن أبي و عبد الله بن سعيد بن أبي سرح و طعمة بن أبيرق فدخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالوا: يا محمد ارفض ذكر آلهتنا اللات و العزى و مناة و قل: إن لها شفاعة لمن عبدها و ندعك و ربك. فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم). فقال عمر بن الخطاب: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: إني أعطيتهم الأمان و أمر فأخرجوا من المدينة و نزلت الآية ﴿وَ لاَ تُطِعِ اَلْكَافِرِينَ من أهل مكة أبا سفيان و أبا الأعور و عكرمة ﴿وَ اَلْمُنَافِقِينَ ابن أبي و ابن سعيد و طعمة:

أقول: و روي إجمال القصة في الدر المنثور، عن جرير عن ابن عباس، و روي أسباب أخر لنزول الآيات لكنها أجنبية غير ملائمة لسياق الآيات فأضربنا عنها.

 و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: ﴿وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ: حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة و رأى زيدا يباع و رآه غلاما كيسا حصينا فاشتراه فلما نبئ رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) دعاه إلى الإسلام فأسلم و كان يدعى زيد مولى محمد.

 

 

 فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة و كان رجلا جليلا فأتى أبا طالب فقال: يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي و بلغني أنه صار إلى ابن أخيك تسأله إما أن يبيعه و إما أن يفاديه و إما أن يعتقه.

فكلم أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال رسول الله: هو حر فليذهب حيث شاء فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بني الحق بشرفك و حسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله، فقال له أبوه: فتدع حسبك و نسبك و تكون عبدا لقريش؟ فقال زيد: لست أفارق رسول الله ما دمت حيا، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش اشهدوا أني قد برئت منه و ليس هو ابني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): اشهدوا أن زيدا ابني أرثه و يرثني. فكان زيد يدعى ابن محمد - و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يحبه و سماه زيد الحب.

فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى المدينة زوجه زينب بنت جحش و أبطأ عنه يوما فأتى رسول الله منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها يستحق طيبها بفهر لها فدفع رسول الله الباب و نظر إليها و كانت جميلة حسنة فقال: سبحان الله رب النور و تبارك الله أحسن الخالقين، ثم رجع رسول الله إلى منزله و وقعت زينب في قلبه موقعا عجيبا.

و جاء زيد إلى منزله فأخبرته زينب بما قال رسول الله فقال لها زيد: هل لك أن أطلقك حتى يتزوج بك رسول الله؟ فقالت: أخشى أن تطلقني و لا يتزوجني رسول الله. فجاء زيد إلى رسول الله فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله أخبرتني زينب بكذا و كذا فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال له رسول الله: لا اذهب و اتق الله و أمسك عليك زوجك، ثم حكى الله فقال: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضى‏ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا إلى قوله ﴿وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً فزوجه الله من فوق عرشه.

فقال المنافقون: يحرم علينا نساء أبنائنا و يزوج امرأة ابنه زيد فأنزل الله في هذا ﴿وَ مَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ إلى قوله ﴿يَهْدِي اَلسَّبِيلَ.

أقول: و روى قريبا منه مع اختلاف ما في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عباس.

 

 

 و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و ابن مردويه عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أنه كان يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات و ترك دينا فالي، و من ترك مالا فهو لورثته.

أقول: و في معناه روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة.

 و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و النسائي عن بريدة قال: غزوت مع على اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تغير و قال: يا بريدة أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه.

 و في الاحتجاج، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في حديث طويل قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. من كنت أولى به من نفسه فأنت أولى به من نفسه و علي بين يديه في البيت:

أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن جعفر عنه (ص) و الأحاديث في هذا المعنى من طرق الفريقين فوق حد الإحصاء.

 و في الكافي، بإسناده عن حنان قال *: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي شي‏ء للموالي؟ فقال: ليس لهم من الميراث إلا ما قال الله عز و جل: ﴿إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلىَ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قيل: يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: و آدم بين الروح و الجسد. أقول: و هو بلفظه مروي بطرق مختلفة عنه (ص) و معناه كون الميثاق مأخوذا في نشأة غير هذه النشأة و قبلها.

[سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٩ الی ٢٧ ]

﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَ كَانَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ

 

 

بَصِيراً ٩ إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ اَلْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنَاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ اَلظُّنُونَا ١٠ هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ١١ وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ١٢ وَ إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ اَلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَ مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ١٣ وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا اَلْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَ مَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً ١٤ وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اَللَّهِ مَسْؤُلاً ١٥ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٦ قُلْ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اَللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً ١٧ قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَ لاَ يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ١٨ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى‏ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً ١٩

 

 

يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي اَلْأَعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَ لَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً ٢٠ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اَللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللَّهَ كَثِيراً ٢١ وَ لَمَّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً ٢٢ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ٢٣ لِيَجْزِيَ اَللَّهُ اَلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ٢٤ وَ رَدَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ وَ كَانَ اَللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ٢٥ وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً ٢٦ وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيَارَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهَا وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ٢٧

(بيان)

قصة غزوة الخندق و ما عقبها من أمر بني قريظة و وجه اتصالها بما قبلها ما فيها من ذكر حفظ العهد و نقضه.

 

 

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ إلخ، تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم أيام الخندق بنصرهم و صرف جنود المشركين عنهم و قد كانوا جنودا مجندة من شعوب و قبائل شتى كغطفان و قريش و الأحابيش و كنانة و يهود بني قريظة و النضير أحاطوا بهم من فوقهم و من أسفل منهم فسلط الله عليهم الريح و أنزل ملائكة يخذلونهم.

و هو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ ظرف للنعمة أو لثبوتها ﴿جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ من طوائف كل واحدة منهم جند كغطفان و قريش و غيرهما ﴿فَأَرْسَلْنَا بيان للنعمة و هو الإرسال المتفرع على مجيئهم ﴿عَلَيْهِمْ رِيحاً و هي الصبا و كانت باردة في ليال شاتية ﴿وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا و هي الملائكة لخذلان المشركين ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً.

قوله تعالى: ﴿إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إلخ الجاءون من فوقهم و هو الجانب الشرقي للمدينة غطفان و يهود بني قريظة و بني النضير و الجاءون من أسفل منهم و هو الجانب الغربي لها قريش و من انضم إليهم من الأحابيش و كنانة فقوله: ﴿إِذْ جَاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ عطف بيان لقوله: ﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ.

و قوله: ﴿إِذْ زَاغَتِ اَلْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنَاجِرَ، عطف بيان آخر لقوله:

﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ إلخ، و زيغ الأبصار ميلها و القلوب‏ هي الأنفس و الحناجر جمع حنجر و هو جوف الحلقوم.

و الوصفان أعني زيغ الأبصار و بلوغ القلوب الحناجر كنايتان عن كمال غشيان الخوف لهم حتى حولهم إلى حال المحتضر الذي يزيغ بصره و تبلغ روحه الحلقوم.

و قوله: ﴿وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ اَلظُّنُونَا أي يظن المنافقون و الذين في قلوبهم مرض الظنون فبعضهم يقول: إن الكفار سيغلبون و يستولون على المدينة، و بعضهم يقول:

إن الإسلام سينمحق و الدين سيضيع، و بعضهم يقول: إن الجاهلية ستعود كما كانت، و بعضهم يقول: إن الله غرهم و رسوله إلى غير ذلك من الظنون.

قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً هنالك‏ إشارة بعيدة إلى زمان أو مكان و المراد الإشارة إلى زمان مجي‏ء الجنود و كان شديدا عليهم

 

 

 لغاية بعيدة، و الابتلاء الامتحان، و الزلزلة و الزلزال‏ الاضطراب، و الشدة القوة و تختلفان في أن الغالب على الشدة أن تكون محسوسا بخلاف القوة، قيل: و لذلك يطلق القوي عليه تعالى دون الشديد.

و المعنى في ذلك الزمان الشديد امتحن المؤمنون و اضطربوا خوفا اضطرابا شديدا.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنَافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً الذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان من المؤمنين و هم غير المنافقين الذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر، و إنما سمي المنافقون الرسول لمكان إظهارهم الإسلام.

و الغرور حمل الإنسان على الشر بإراءته في صورة الخير و الاغترار احتماله له.

قال الراغب: يقال: غررت فلانا أصبت غرته و نلت منه ما أريد، و الغرة بكسر الغين غفلة في اليقظة. انتهى.

و الوعد الذي يعدونه غرورا من الله و رسوله لهم بقرينة المقام هو وعد الفتح و ظهور الإسلام على الدين كله و قد تكرر في كلامه تعالى كما ورد أن المنافقين قالوا:

يعدنا محمد أن يفتح مدائن كسرى و قيصر و نحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا يثرب اسم المدينة قبل الإسلام ثم غلب عليه اسم مدينة الرسول بعد الهجرة ثم المدينة، و المقام بضم الميم الإقامة، و قولهم: ﴿لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا أي لا وجه لإقامتكم هاهنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة فارجعوا ثم أتبعه بحكاية ما قاله آخرون فقال عاطفا على قوله: قالت طائفة: ﴿وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ أي من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض ﴿اَلنَّبِيَّ في الرجوع ﴿يَقُولُونَ استئذانا ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ أي فيها خلل لا يأمن صاحبها دخول السارق و زحف العدو ﴿وَ مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ أي ما يريدون بقولهم هذا ﴿إِلاَّ فِرَاراً.

قوله تعالى: ﴿وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا اَلْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَ مَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً ضمائر الجمع للمنافقين و المرضى القلوب و الضمير في ﴿دُخِلَتْ للبيوت و معنى دخلت عليهم دخل الجنود البيوت حال كونه دخولا عليهم، و الأقطار جمع قطر و هو الجانب، و المراد بالفتنة بقرينة المقام الردة و الرجعة من الدين و المراد بسؤالها

 

 

 طلبها منهم، و التلبث‏ التأخر.

و المعنى: و لو دخل جنود المشركين بيوتهم من جوانبها و هم فيها ثم طلبوا منهم أن يرتدوا عن الدين لأعطوهم مسئولهم و ما تأخروا بالردة إلا يسيرا من الزمان بمقدار الطلب و السؤال أي إنهم يقيمون على الدين ما دام الرخاء فإذا هجمت عليهم الشدة و البأس لم يلبثوا دون أن يرجعوا.

قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ وَ كَانَ عَهْدُ اَللَّهِ مَسْؤُلاً اللام للقسم، و قوله: ﴿لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ أي لا يفرون عن القتال و هو بيان للعهد و لعل المراد بعهدهم من قبل هو بيعتهم بالإيمان بالله و رسوله و ما جاء به رسوله و مما جاء به: الجهاد الذي يحرم الفرار فيه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً إذ لا بد لكل نفس من الموت لأجل مقضي محتوم لا يتأخر عنه ساعة و لا يتقدم عليه فالفرار لا يؤثر في تأخير الأجل شيئا.

و قوله: ﴿وَ إِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً أي و إن نفعكم الفرار فمتعتم بتأخر الأجل فرضا لا يكون ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو في زمان قليل لكونه مقطوع الآخر لا محالة.

قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اَللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً كانت الآية السابقة تنبيها لهم على أن حياة الإنسان مقضي مؤجل لا ينفع معه فرار من الزحف و في هذه الآية تنبيه - على أن الشر و الخير تابعان لإرادة الله محضا لا يمنع عن نفوذها سبب من الأسباب و لا يعصم الإنسان منها أحد فالحزم إيكال الأمر إلى إرادته تعالى و القرار على أمره بالتوكل عليه.

و لما كانت قلوبهم مرضى أو مشغولة بكفر مستبطن عدل عن أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بتكليمهم إلى تكليم نفسه فقال: ﴿وَ لاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَلِيًّا وَ لاَ نَصِيراً.

قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اَللَّهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ إلى قوله ﴿يَسِيراً التعويق‏ التثبيط و الصرف، و هلم‏ اسم فعل بمعنى أقبل، و لا يثنى و لا يجمع في لغة الحجاز، و البأس‏ الشدة و الحرب، و أشحة جمع شحيح بمعنى البخيل، و الذي يغشى عليه هو الذي أخذته

 

 

 الغشوة فغابت حواسه و أخذت عيناه تدوران، و السلق‏ بالفتح فالسكون الضرب و الطعن.

و معنى الآيتين: إن الله ليعلم الذين يثبطون منكم الناس و يصرفونهم عن القتال و هم المنافقون و يعلم الذين يقولون من المنافقين لإخوانهم من المنافقين أو ضعفة الإيمان تعالوا و أقبلوا و لا يحضرون الحرب إلا قليلا بخلاء عليكم بنفوسهم.

فإذا جاء الخوف بظهور مخائل القتال تراهم ينظرون إليك من الخوف نظرا لا إرادة لهم فيه و لا استقرار فيه لأعينهم تدور أعينهم كالمغشي عليه من الموت فإذا ذهب الخوف ضربوكم و طعنوكم بألسنة حداد قاطعة حال كونهم بخلاء على الخير الذي نلتموه.

أولئك لم يؤمنوا و لم يستقر الإيمان في قلوبهم و إن أظهروه في ألسنتهم فأبطل الله أعمالهم و أحبطها و كان ذلك على الله يسيرا.

قوله تعالى: ﴿يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا إلى آخر الآية، أي يظنون من شدة الخوف أن الأحزاب و هم جنود المشركين المتحزبون على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) لم يذهبوا بعد ﴿وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزَابُ مرة ثانية بعد ذهابهم و تركهم المدينة ﴿يَوَدُّوا و يحبوا ﴿أَنَّهُمْ بَادُونَ أي خارجون من المدينة إلى البدو ﴿فِي اَلْأَعْرَابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ و أخباركم ﴿وَ لَوْ كَانُوا فِيكُمْ و لم يخرجوا منها بادين ﴿مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً أي و لا كثير فائدة في لزومهم إياكم و كونهم معكم فإنهم لن يقاتلوا إلا قليلا لا يعتد به.

قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اَللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللَّهَ كَثِيراً الأسوة القدوة و هي الاقتداء و الاتباع، و قوله: ﴿فِي رَسُولِ اَللَّهِ أي في مورد رسول الله و الأسوة التي في مورده هي تأسيهم به و اتباعهم له و التعبير بقوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ الدال على الاستقرار و الاستمرار في الماضي إشارة إلى كونه تكليفا ثابتا مستمرا.

و المعنى: و من حكم رسالة الرسول و إيمانكم به أن تتأسوا به في قوله و فعله و أنتم ترون ما يقاسيه في جنب الله و حضوره في القتال و جهاده في الله حق جهاده.

و في الكشاف:، فإن قلت: فما حقيقة قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ و قرئ أسوة بالضم. قلت: فيه وجهان: أحدهما أنه في نفسه أسوة حسنة

 

 

 أي قدوة و هو المؤتسى أي المقتدى به كما تقول: في البيضة عشرون منا حديد أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. و الثاني: أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها و تتبع و هي المواساة بنفسه انتهى و أول الوجهين قريب مما قدمناه.

و قوله: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اَللَّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللَّهَ كَثِيراً بدل من ضمير الخطاب في ﴿لَكُمْ للدلالة على أن التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خصلة جميلة زاكية لا يتصف بها كل من تسمى بالإيمان، و إنما يتصف بها جمع ممن تلبس بحقيقة الإيمان فكان يرجو الله و اليوم الآخر أي تعلق قلبه بالله فآمن به و تعلق قلبه باليوم الآخر فعمل صالحا و مع ذلك ذكر الله كثيرا فكان لا يغفل عن ربه فتأسى بالنبي في أفعاله و أعماله.

و قيل: قوله: ﴿لِمَنْ كَانَ إلخ، صلة لقوله: ﴿حَسَنَةٌ أو صفة له للمنع عن الإبدال من ضمير الخطاب و مآل الوجوه الثلاثة بحسب المعنى واحد.

قوله تعالى: ﴿وَ لَمَّا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ، وصف لحال المؤمنين لما شاهدوا الأحزاب و نزول جيوشهم حول المدينة فكان ذلك سبب رشدهم و تبصرهم في الإيمان و تصديقهم لله و لرسوله على خلاف ما ظهر من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض من الارتياب و سيئ القول، و بذلك يظهر أن المراد بالمؤمنين المخلصون لإيمانهم بالله و رسوله.

و قوله: ﴿قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ الإشارة بهذا إلى ما شاهدوه مجردا عن سائر الخصوصيات، كما في قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَى اَلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي» ،: الأنعام: ٧٨.

و الوعد الذي أشاروا إليه قيل: هو ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قد وعدهم أن الأحزاب سيتظاهرون عليهم فلما شاهدوهم تبين لهم أن ذلك هو الذي وعدهم.

و قيل: إنهم كانوا قد سمعوا قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسَاءُ وَ اَلضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏َ نَصْرُ اَللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اَللَّهِ قَرِيبٌ: البقرة: ٢١٤ فتحققوا

 

 

 أنهم سيصيبهم ما أصاب الأنبياء و المؤمنين بهم من الشدة و المحنة التي تزلزل القلوب و تدهش النفوس فلما رأوا الأحزاب أيقنوا أنه من الوعد الموعود و أن الله سينصرهم على عدوهم.

و الحق هو الجمع بين الوجهين نظرا إلى جمعهم بين الله و رسوله في الوعد إذ قالوا:

هذا ما وعدنا الله و رسوله.

و قوله: ﴿وَ صَدَقَ اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ شهادة منهم على صدق الوعد، و قوله: ﴿وَ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً أي إيمانا بالله و رسوله و تسليما لأمر الله بنصرة دينه و الجهاد في سبيله.

قوله تعالى: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏َ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً قال الراغب: النحب‏ النذر المحكوم بوجوبه، يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره قال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏َ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، و يعبر بذلك عمن مات كقولهم: قضى أجله و استوفى أكله و قضى من الدنيا حاجته. انتهى.

و قوله: ﴿صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ أي حققوا صدقهم فيما عاهدوه أن لا يفروا إذا لاقوا العدو، و يشهد على أن المراد بالعهد ذلك أن في الآية محاذاة لقوله السابق في المنافقين و الضعفاء الإيمان: ﴿وَ لَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اَللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبَارَ كما أن في الآية السابقة محاذاة لما ذكر سابقا من ارتياب القوم و عدم تسليمهم لأمر الله.

و قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏َ نَحْبَهُ إلخ، أي منهم من قضى أجله بموت أو قتل في سبيل الله و منهم من ينتظر ذلك و ما بدلوا شيئا مما كانوا عليه من قول أو عهد تبديلا.

قوله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ اَللَّهُ اَلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً اللام للغاية و ما تتضمنه الآية غاية لجميع من تقدم ذكرهم من المنافقين و المؤمنين.

فقوله: ﴿لِيَجْزِيَ اَللَّهُ اَلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ المراد بالصادقين المؤمنين و قد ذكر صدقهم قبل، و الباء في ﴿بِصِدْقِهِمْ للسببية أي ليجزي المؤمنين الذين صدقوا عهدهم بسبب صدقهم.

 

 

و قوله: ﴿وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي و ليعذب المنافقين إن شاء تعذيبهم و ذلك فيما لو لم يتوبوا أو يتوب عليهم إن تابوا إن الله كان غفورا رحيما.

و في الآية من حيث كونها بيان غاية نكتة لطيفة هي أن المعاصي ربما كانت مقدمة للسعادة و المغفرة لا بما أنها معاص بل لكونها سائقة للنفس من الظلمة و الشقوة إلى حيث تتوحش النفس و تتنبه فتتوب إلى ربها و تنتزع عن معاصيها و ذنوبها فيتوب الله عليها في الغاية.

قوله تعالى: ﴿وَ رَدَّ اَللَّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ وَ كَانَ اَللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً الغيظ الغم و الحنق و المراد بالخير ما كان يعده الكفار خيرا و هو الظفر بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و المؤمنين.

و المعنى: و رد الله الذين كفروا مع غمهم و حنقهم و الحال أنهم لم ينالوا ما كانوا يتمنونه و كفى الله المؤمنين القتال فلم يقاتلوا و كان الله قويا على ما يريد عزيزا لا يغلب.

قوله تعالى: ﴿وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ إلى قوله ﴿قَدِيراً المظاهرة المعاونة، و الصياصي‏ جمع صيصية و هي الحصن الذي يمتنع به و لعل التعبير بالإنزال دون الإخراج لأن المتحصنين يصعدون بروج الحصون و يشرفون منها و من أعالي الجدران على أعدائهم في خارجها و محاصريهم.

و المعنى: ﴿وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ أي عاونوا المشركين و هم بنو قريظة ﴿مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ و هم اليهود ﴿مِنْ صَيَاصِيهِمْ و حصونهم ﴿وَ قَذَفَ و ألقى ﴿فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ و الخوف ﴿فَرِيقاً تَقْتُلُونَ و هم الرجال ﴿وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً و هم الذراري و النساء ﴿وَ أَوْرَثَكُمْ أي و ملككم بعدهم ﴿أَرْضَهُمْ وَ دِيَارَهُمْ وَ أَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهَا و هي أرض خيبر أو الأرض التي أفاء الله مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، و أما تفسيرها بأنها كل أرض ستفتح إلى يوم القيامة أو أرض مكة أو أرض الروم و فارس فلا يلائمه سياق الآيتين ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ عَلى‏َ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً.

(بحث روائي)

 في المجمع، ذكر محمد بن كعب القرظي و غيره من أصحاب السير قالوا ":كان من

 

 

 حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق و حيي بن أخطب في جماعة من بني النضير الذين أجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا: إنا سنكون معكم عليهم حتى نستأصلهم.

فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فديننا خير أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه فأنتم أولى بالحق منه فهم الذين أنزل الله فيهم ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدى‏ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً إلى قوله ﴿وَ كَفى‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً فسر قريشا ما قالوا و نشطوا لما دعوهم إليه فأجمعوا لذلك و اتعدوا له.

ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أخبروهم أنهم سيكونون عليه و أن قريشا قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم.

فخرجت قريش و قائدهم أبو سفيان بن حرب، و خرجت غطفان و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة و الحارث بن عوف في بني مرة و مسعر بن جبلة الأشجعي فيمن تابعه من الأشجع و كتبوا إلى حلفائهم من بني أسد - فأقبل طليحة فيمن اتبعه من بني أسد و هما حليفان أسد و غطفان و كتب قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل أبو الأعور السلمي فيمن اتبعه من بني سليم مددا لقريش.

فلما علم بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ضرب الخندق على المدينة و كان الذي أشار إليه سلمان الفارسي و كان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو يومئذ حر قال:

يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمون حتى أحكموه. فما ظهر من دلائل النبوة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المزني قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة فاختلف المهاجرون و الأنصار في سلمان الفارسي و كان رجلا قويا فقال الأنصار: سلمان منا، و قال المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): سلمان منا أهل البيت.

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا و سلمان و حذيفة بن اليمان و النعمان بن مقرن

 

 

 و ستة من الأنصار نقطع أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الثرى أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة فكسرت حديدنا و شقت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأخبره عن الصخرة، فأما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب و إما أن يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و هو مضروب عليه قبة فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدورة فكسرت حديدنا و شقت علينا حتى ما يحك فيها قليل و لا كثير فمرنا فيها بأمرك فهبط رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) مع سلمان في الخندق و أخذ المعول و ضرب بها ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها يعني لابتي المدينة حتى لكان مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تكبيرة -فتح فكبر المسلمون ثم ضرب ضربة أخرى فلمعت برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى.

فقال سلمان: بأبي أنت و أمي يا رسول الله ما هذا الذي أرى؟ فقال: أما الأولى فإن الله عز و جل فتح علي بها اليمن - و أما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام و المغرب و أما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك و قالوا: الحمد لله موعد صادق.

قال: و طلعت الأحزاب فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله، و قال المنافقون: ألا تعجبون؟ يحدثكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنه يبصر في يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق و لا تستطيعون أن تبرزوا.[1]

و مما ظهر فيه أيضا من آيات النبوة ما رواه أبو عبد الله الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي قال حدثني، أيمن المخزومي قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: كنا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية و هي الجبل فقلنا: يا رسول الله إن كدية عرضت فيه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) رشوا عليها ماء ثم قام و أتاها و بطنه معصوب الحجر[2] من الجوع فأخذ المعول أو المسحاة فسمى ثلاثا - ثم ضرب فعادت كثيبا[3]

 

 

 

 أهيل فقلت: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل ففعل فقلت للمرأة هل عندك من شي‏ء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق‏[4] فطحنت الشعير فعجنته و ذبحت العناق و سلختها و خليت بين المرأة و بين ذلك.

ثم أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجلست عنده ساعة ثم قلت: ائذن لي يا رسول الله ففعل فأتيت المرأة فإذا العجين و اللحم قد أمكنا فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقلت:

إن عندنا طعيما لنا فقم يا رسول الله أنت و رجلان من أصحابك فقال: و كم هو؟ فقلت:

صاع من شعير و عناق فقال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله فقلت: جاء بالخلق إلى صاع شعير و عناق.

فدخلت على المرأة و قلت قد افتضحت جاءك رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالخلق أجمعين فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم. فقالت: الله و رسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا فكشفت عني غما شديدا.

فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: خذي و دعيني من اللحم فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يثرد و يفرق اللحم ثم يحم هذا و يحم هذا فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين و يعود التنور و القدر أملأ ما كانا.

ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): كلي و أهدي -فلم نزل نأكل و نهدي قومنا أجمع أورده البخاري في الصحيح.

قالوا: و لما فرغ رسول الله من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بين الجرف‏[5]

و الغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من بني كنانة و أهل تهامة، و أقبلت غطفان و من تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و المسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع‏[6] في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره و الخندق بينه و بين القوم و أمر بالذراري و النساء فرفعوا في الآطام‏[7]

 

 

 

 و خرج عدو الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة و كان قد وادع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على قومه و عاهده على ذلك فلما سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه يا كعب افتح لي فقال: ويحك يا حيي إنك رجل مشئوم، إني قد عاهدت محمدا و لست بناقض ما بيني و بينه، و لم أر منه إلا وفاء و صدقا. قال: ويحك افتح لي حتى أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: إن أغلقت دوني إلا على جشيشة تكره أن آكل منها معك.

فأحفظ[8] الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر و ببحر طام‏[9]

جئتك بقريش على قادتها و سادتها و بغطفان على سادتها و قادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا و من معه. فقال كعب: جئتني و الله بذل الدهر بجهام‏[10] قد أهراق ماءه يرعد و يبرق و ليس فيه شي‏ء فدعني و محمدا و ما أنا عليه فلم أر من محمد إلا صدقا و وفاء.

فلم يزل حيي بكعب يفتل منه في الذروة[11] و الغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا و ميثاقا لئن رجعت قريش و غطفان و لم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك فنقض كعب عهده -و برى‏ء مما كان عليه فيما بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).

فلما انتهى الخبر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل و هو يومئذ سيد الأوس و سعد بن عبادة أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج و هو يومئذ سيد الخزرج -و معهما عبد الله بن رواحة و خوات بن جبير فقال: انطلقوا حتى تنظروا أ حق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن

 

 

 كان حقا فالحنوا لنا لحنا نعرفه و لا تفتوا أعضاد الناس و إن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.

و خرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث مما بلغهم عنهم. قالوا: لا عقد بيننا و بين محمد و لا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة و شاتموه، و قال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فإن ما بيننا و بينهم أعظم من المشاتمة.

ثم أقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قالوا: عضل و القارة لغدر عضل و القارة بأصحاب رسول الله خبيب بن عدي و أصحابه أصحاب الرجيع فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، و عظم عند ذلك البلاء و اشتد الخوف و أتاهم عدوهم من فوقهم و من أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن و ظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و أقام المشركون عليه بضعا و عشرين ليلة - لم يكن بينهم قتال إلا الرمي بالنبال إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود أخو بني عامر بن لوي و عكرمة بن أبي جهل و ضرار بن الخطاب و هبيرة بن أبي وهب و نوفل بن عبد الله قد تلبسوا للقتال و خرجوا على خيولهم حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا:

تهيئوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان؟ ثم أقبلوا تعنق‏[12] بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: و الله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق و سلع و خرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي منها اقتحموا - و أقبلت الفرسان نحوهم.

و كان عمرو بن عبد ود فارس قريش و كان قد قاتل يوم بدر حتى ارتث و أثبته الجراح و لم يشهد أحدا - فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده، و كان يعد بألف فارس و كان يسمى فارس يليل لأنه أقبل في ركب من قريش حتى إذا كانوا بيليل و هو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا فمضوا فقام في وجوه بني بكر حتى منعهم أن يصلوا إليه فعرف بذلك.

 

 

 

 و كان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق المذاد و كان أول من طفره عمرو و أصحابه فقيل في ذلك.

عمرو بن عبد كان أول فارس *** جزع المذاد و كان فارس يليل

 و ذكر ابن إسحاق أن عمرو بن عبد ود كان ينادي: من يبارز؟ فقام علي و هو مقنع في الحديد فقال: أنا له يا نبي الله، فقال: إنه عمرو اجلس. و نادى عمرو:

أ لا رجل؟ و هو يؤنبهم و يقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ و قام علي فقال: أنا له يا رسول الله. ثم نادى الثالثة فقال:

و لقد بححت عن النداء *** بجمعكم هل من مبارز؟

 و وقفت إذ جبن المشجع *** موقف البطل المناجز

إن السماحة و الشجاعة في *** الفتى خير الغرائز

 فقام علي فقال: يا رسول الله أنا له، فقال: إنه عمرو، فقال: و إن كان عمرا فاستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فأذن له .

قال ابن إسحاق: فمشى إليه و هو يقول:

لا تعجلن فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

 ذو نية و بصيرة *** والصدق منجي كل فائز

 إني لأرجو أن أقيم *** عليك نائحة الجنائز

 من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز

 قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك. فقال علي: لكني و الله ما أكره أن أهريق دمك. فغضب عمرو و نزل و سل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي مغضبا فاستقبله علي بدرقته‏[13] فضربه عمرو بالدرقة فقدها و أثبت فيها السيف و أصاب رأسه فشجه، و ضربه علي على حبل العاتق فسقط.

 

 

 

و في رواية حذيفة: و تسيف على رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه و ثارت بينهما عجاجة فسمع علي يكبر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قتله و الذي نفسي بيده فكان أول من ابتدر العجاج عمرو بن الخطاب و قال: يا رسول الله قتله فجز على رأسه و أقبل نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و وجهه يتهلل.

قال حذيفة: فقال النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : أبشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمد لرجح عملك بعملهم و ذلك أنه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا و قد دخله وهن بقتل عمرو، و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلا و قد دخله عز بقتل عمرو.

و عن الحاكم أبي القاسم أيضا بالإسناد عن سفيان الثوري عن زبيد الثاني عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال ":كان يقرأ ﴿وَ كَفَى اَللَّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتَالَ بعلي».

و خرج أصحابه منهزمين حتى طفرت خيولهم الخندق و تبادر المسلمون فوجدوا نوفل بن عبد العزى جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام، و ذكر ابن إسحاق: أن عليا طعنة في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق.

و بعث المشركون إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي:

هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، و ذكر علي أبياتا منها:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه *** و نصرت رب محمد بصواب

 فضربته و تركته متجدلا *** كالجذع بين دكادك و رواب

 و عففت عن أثوابه لو أنني *** كنت المقطر بزني أثوابي‏

قال ابن إسحاق: و رمى حنان بن قيس بن العرفة سعد بن معاذ بسهم و قال:

خذها و أنا ابن العرفة فقطع أكحله فقال سعد: عرف الله وجهك في النار اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا - فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك و كذبوه و أخرجوه، و إن كنت وضعت الحرب بيننا و بينهم فاجعله لي شهادة و لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.

قال: و جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت و لم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : إنما أنت فينا

 

 

 رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإنما الحرب خدعة.

فانطلق نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة فقال لهم: إني لكم صديق، و الله ما أنتم و قريش و غطفان من محمد بمنزلة واحدة إن البلد بلدكم و به أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم و إنما قريش و غطفان بلادهم غيرها و إنما جاءوا حتى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها و إن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم و خلوا بينكم و بين الرجل و لا طاقة لكم به فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتى يناجزوا محمدا. فقالوا له: قد أشرت برأي.

ثم ذهب فأتى أبا سفيان و أشراف قريش فقال: يا معشر قريش إنكم قد عرفتم ودي إياكم و فراقي محمدا و دينه و إني قد جئتكم بنصيحة فاكتموا علي. فقالوا: نفعل ما أنت عندنا بمتهم. قال: تعلمون أن بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم و بين محمد فبعثوا إليه أنه لا يرضيك عنا إلا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم و ندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ثم نكون معك عليهم حتى نخرجهم من بلادك. فقال: بلى فإن بعثوا إليكم يسألونك نفرا من رجالكم فلا تعطوهم رجلا واحدا و احذروا.

ثم جاء غطفان و قال: يا معشر غطفان إني رجل منكم، ثم قال لهم ما قال لقريش.

فلما أصبح أبو سفيان و ذلك يوم السبت في شوال سنة خمس من الهجرة بعث إليهم أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش أن أبا سفيان يقول لكم: يا معشر اليهود إن الكراع و الخف قد هلكا و إنا لسنا بدار مقام فاخرجوا إلى محمد حتى نناجزه.

فبعثوا إليه أن اليوم السبت و هو يوم لا نعمل فيه شيئا و لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا و تدعونا حتى نناجز محمدا فقال أبو سفيان: و الله لقد حذرنا هذا نعيم فبعث إليهم أبو سفيان: أنا لا نعطيكم رجلا واحدا فإن شئتم أن تخرجوا و تقاتلوا و إن شئتم فاقعدوا، فقالت اليهود: هذا و الله الذي قال لنا نعيم. فبعثوا إليهم أنا و الله لا نقاتل حتى تعطونا رهنا، و خذل الله بينهم و بعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتى انصرفوا راجعين.

 

 

 قال محمد بن كعب قال حذيفة بن اليمان و الله لقد رأيتنا يوم الخندق و بنا من الجهد و الجوع و الخوف ما لا يعلمه إلا الله و قام رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يصلي ما شاء الله من الليل ثم قال: أ لا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنة. قال حذيفة: فوالله ما قام منا أحد مما بنا من الخوف و الجهد و الجوع، فلما لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدا من إجابته. قلت: لبيك قال: اذهب فجي‏ء بخبر القوم و لا تحدثن شيئا حتى ترجع.

قال: و أتيت القوم فإذا ريح الله و جنوده تفعل بهم ما تفعل ما يستمسك لهم بناء و لا تثبت لهم نار و لا يطمئن لهم قدر فإني لكذلك إذ خرج أبو سفيان من رحله ثم قال: يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه؟ قال حذيفة: فبدأت بالذي عن يميني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.

ثم عاد أبو سفيان براحلته فقال: يا معشر قريش و الله ما أنتم بدار مقام هلك الخف و الحافر و أخلفتنا بنو قريظة و هذه الريح لا يستمسك لنا معها شي‏ء ثم عجل فركب راحلته و إنها لمعقولة ما حل عقالها إلا بعد ما ركبها.

قال: قلت في نفسي: لو رميت عدو الله و قتلته كنت قد صنعت شيئا فوترت قوسي - ثم وضعت السهم في كبد القوس و أنا أريد أن أرميه فأقتله فذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) لا تحدثن شيئا حتى ترجع. قال فحططت القوس ثم رجعت إلى رسول الله و هو يصلي فلما سمع حسي فرج بين رجليه فدخلت تحته، و أرسل على طائفة من مرطة[14] فركع و سجد ثم قال: ما الخبر؟ فأخبرته.

و عن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين أجلى عنه الأحزاب: الآن نغزوهم و لا يغزوننا فكان كما قال فلم يغزهم قريش بعد ذلك و كان هو يغزوهم حتى فتح الله عليهم مكة":

أقول: هذا ما أورده الطبرسي في مجمع البيان، من القصة أوردناه ملخصا و روى القمي في تفسيره، قريبا منه و أورده في الدر المنثور، في روايات متفرقة. و في المجمع، أيضا روى الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال ":

 

 

 لما انصرف النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الخندق و وضع عنه اللأمة و اغتسل و استحم تبدي له جبريل فقال: عذيرك من محارب أ لا أراك أن قد وضعت عنك اللأمة و ما وضعناها بعد.

فوثب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس و اختصم الناس فقال بعضهم: إن رسول الله عزم علينا أن لا نصلي حتى نأتي قريظة فإنما نحن في عزمة رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فليس علينا إثم، و صلى طائفة من الناس احتسابا و تركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين جاءوا بني قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) واحدا من الفريقين.

و ذكر عروة أنه بعث علي بن أبي طالب على المقدم و دفع إليه اللواء و أمره أن ينطلق حتى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل و خرج رسول الله على آثارهم فمر على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فزعموا أنه قال: مر بكم الفارس آنفا فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج - فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ليس ذلك بدحية و لكنه جبرائيل أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم و يقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا: و سار علي حتى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فرجع حتى لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث قال: أظنك سمعت لي منهم أذى؟ فقال: نعم يا رسول الله فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من حصونهم قال: يا إخوة القردة و الخنازير! هل أخزاكم الله و أنزل بكم نقمته؟ فقالوا: يا أبا لقاسم ما كنت جهولا.

و حاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خمسا و عشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار و قذف الله في قلوبهم الرعب، و كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش و غطفان فلما أيقنوا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون و إني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم قالوا: ما هن؟.

 

 

 قال: نبايع هذا الرجل و نصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل و أنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم و أموالكم و نسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم علي هذا فهلموا فلنقتل أبناءنا و نساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف و لم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا و بين محمد فإن نهلك نهلك و لم نترك وراءنا نسلا يهمنا و إن نظهر لنجدن النساء و الأبناء. فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير في العيش بعدهم.

قال: فإن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت و عسى أن يكون محمد و أصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا فلعلنا نصيب منهم غرة. فقالوا: نفسد سبتنا؟ و نحدث فيه ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ؟ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.

قال الزهري: و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا:

اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بسلاحهم فجعل في قبته و أمر بهم فكتفوا و أوثقوا و جعلوا في دار أسامة، و بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى سعد بن معاذ فجي‏ء به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلوهم و تسبى ذراريهم و نساؤهم و تغنم أموالهم و أن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار و قال للأنصار: إنكم ذو عقار و ليس للمهاجرين عقار، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) و قال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز و جل، و في بعض الروايات: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة و أرقعة جمع رقيع اسم سماء الدنيا.

فقتل رسول الله مقاتليهم، و كانوا فيما زعموا: ستمائة مقاتل، و قيل: قتل منهم أربعمائة و خمسين رجلا و سبى سبعمائة و خمسين، و روي أنهم قالوا لكعب بن أسد و هم يذهب بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إرسالا: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب:

أ في كل موطن تقولون؟ أ لا ترون أن الداعي لا ينزع و من يذهب منكم لا يرجع هو و الله القتل.

 

 

 و أتي بحيي بن أخطب عدو الله عليه حلة فاختية قد شقها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما بصر برسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: أما و الله ما لمت نفسي على عداوتك و لكنه من يخذل الله يخذل ثم قال: يا أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب الله و قدرة ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه.

ثم قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) نساءهم و أبناءهم و أموالهم على المسلمين و بعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاري فابتاع بهم خيلا و سلاحا، قالوا: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد.

و روي عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبرائيل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال:

من هذا العبد الصالح الذي مات فتحت له أبواب السماء و تحرك له العرش فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فإذا سعد بن معاذ قد قبض.

أقول: و روى القصة القمي في تفسيره، مفصلة و فيه" :فأخرج كعب بن أسيد مجموعة يداه إلى عنقه فلما نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قال له: يا كعب أ ما نفعك وصية ابن الحواس الحبر الذكي الذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر و الخمير و جئت إلى البئوس و التمور لنبي يبعث مخرجه بمكة و مهاجرته في هذه البحيرة يجتزي بالكسيرات و التميرات، و يركب الحمار العري، في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف و الحافر فقال قد كان ذلك يا محمد و لو لا أن اليهود يعيروني أني جزعت عند القتل لآمنت بك و صدقتك و لكني على دين اليهود عليه أحيا و عليه أموت. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم):

قدموه و اضربوا عنقه فضربت.

و فيه أيضا: فقتلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في البردين بالغداة و العشي في ثلاثة أيام و كان يقول: اسقوهم العذب و أطعموهم الطيب و أحسنوا أساراهم حتى قتلهم كلهم فأنزل الله عز و جل فيهم: ﴿وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ إلى قوله ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً.

 

 

 و في المجمع،: روى أبو القاسم الحسكاني عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن علي (عليه السلام) قال: فينا نزلت ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ فأنا و الله المنتظر ما بدلت تبديلا.

[سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٢٨ الی ٣٥]

﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ٢٨ وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ٢٩ يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً ٣٠ وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ٣١ يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ٣٢ وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجَاهِلِيَّةِ اَلْأُولى‏ وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاَةَ وَ آتِينَ اَلزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ٣٣ وَ اُذْكُرْنَ مَا يُتْلى‏ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ٣٤ إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ اَلْقَانِتِينَ

 

 

وَ اَلْقَانِتَاتِ وَ اَلصَّادِقِينَ وَ اَلصَّادِقَاتِ وَ اَلصَّابِرِينَ وَ اَلصَّابِرَاتِ وَ اَلْخَاشِعِينَ وَ اَلْخَاشِعَاتِ وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقَاتِ وَ اَلصَّائِمِينَ وَ اَلصَّائِمَاتِ وَ اَلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحَافِظَاتِ وَ اَلذَّاكِرِينَ اَللَّهَ كَثِيراً وَ اَلذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ٣٥

(بيان)

آيات راجعة إلى أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) تأمره أولا: أن ينبئهن أن ليس لهن من الدنيا و زينتها إلا العفاف و الكفاف إن اخترن زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ، ثم تخاطبهن ثانيا:

أنهن واقفات في موقف صعب على ما فيه من العلو و الشرف فإن اتقين الله يؤتين أجرهن مرتين و إن أتين بفاحشة مبينة يضاعف لهن العذاب ضعفين و يأمرهن بالعفة و لزوم بيوتهن من غير تبرج و الصلاة و الزكاة و ذكر ما يتلى في بيوتهن من الآيات و الحكمة ثم يعد مطلق الصالحين من الرجال و النساء وعدا بالمغفرة و الأجر العظيم.

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إلى تمام الآيتين، سياق الآيتين يلوح أن أزواج النبي أو بعضهن كانت لا ترتضي ما في عيشتهن في بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من الضيق و الضنك فاشتكت إليه ذلك و اقترحت عليه أن يسعدهن في الحياة بالتوسعة فيها و إيتائهن من زينتها.

فأمر الله سبحانه نبيه أن يخيرهن بين أن يفارقنه و لهن ما يردن و بين أن يبقين عنده و لهن ما هن عليه من الوضع الموجود.

و قد ردد أمرهن بين أن يردن الحياة الدنيا و زينتها و بين أن يردن الله و رسوله و الدار الآخرة، و هذا الترديد يدل أولا: أن الجمع بين سعة العيش و صفائها بالتمتع من الحياة و زينتها و زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و العيشة في بيته مما لا يجتمعان.

 

 

 و ثانيا: أن كلا من طرفي الترديد مقيد بما يقابل الآخر، و المراد بإرادة الحياة الدنيا و زينتها جعلها هي الأصل سواء أريدت الآخرة أو لم يرد، و المراد بإرادة الحياة الآخرة جعلها هي الأصل في تعلق القلب بها سواء توسعت معها الحياة الدنيا و نيلت الزينة و صفاء العيش أو لم يكن شي‏ء من ذلك.

ثم الجزاء أعني نتيجة اختيارهن كلا من طرفي الترديد مختلف فلهن على تقدير اختيارهن الحياة الدنيا و زينتها بمفارقة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يطلقهن و يمتعهن جمعاء من مال الدنيا، و على تقدير بقائهن على زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اختيار الآخرة على الحياة الدنيا و زينتها الأجر العظيم عند الله لكن لا مطلقا بل بشرط الإحسان و العمل الصالح.

و يتبين بذلك أن ليس لزوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من حيث هي زوجية كرامة عند الله سبحانه و إنما الكرامة لزوجيته المقارنة للإحسان و التقوى و لذلك لما ذكر ثانيا علو منزلتهن قيده أيضا بالتقوى فقال: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ و هذا كقوله في النبي و أصحابه: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللَّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً إلى أن قال ﴿وَعَدَ اَللَّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً حيث مدحهم عامة بظاهر أعمالهم أولا ثم قيد وعدهم الأجر العظيم بالإيمان و العمل الصالح.

و بالجملة فإطلاق قوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ: الحجرات: ١٠ على حاله غير منتقض بكرامة أخرى بسبب أو نسب أو غير ذلك.

فقوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ أمر النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أن يبلغ الآيتين أزواجه و لازمه أن يطلقهن و يمتعهن إن اخترن الشق الأول و يبقيهن على زوجيته إن اخترن الله و رسوله و الدار الآخرة.

و قوله: ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا إرادة الحياة الدنيا و زينتها كناية بقرينة المقابلة عن اختيارها و تعلق القلب بتمتعاتها و الإقبال عليها و الإعراض عن الآخرة.

و قوله: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً قال في الكشاف:، أصل تعال‏ أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطأ ثم كثرت حتى استوت في

 

 

 استعماله الأمكنة، و معنى تعالين أقبلن بإرادتكن و اختياركن لأحد أمرين و لم يرد نهوضهن بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني و ذهب يكلمني و قام يهددني. انتهى.

و التمتيع‏ إعطاؤهن عند التطليق مالا يتمتعن به و التسريح‏ هو التطليق و السراح الجميل‏ هو الطلاق من غير خصومة و مشاجرة بين الزوجين.

و في الآية أبحاث فقهية أوردها المفسرون و الحق أن ما تتضمنه من الأحكام الشخصية خاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و لا دليل من جهة لفظها على شموله لغيره و تفصيل القول في الفقه.

و قوله: ﴿وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدَّارَ اَلْآخِرَةَ فقد تقدم أن المقابلة بين هذه الجملة و بين قوله: ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا إلخ، تقيد كلا منهما بخلاف الأخرى و عدمها، فمعنى الجملة: و إن كنتن تردن و تخترن طاعة الله و رسوله و سعادة الدار الآخرة مع الصبر على ضيق العيش و الحرمان من زينة الحياة الدنيا و هي مع ذلك كناية عن البقاء في زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الصبر على ضيق العيش و إلا لم يصح اشتراك الإحسان في الأجر الموعود و هو ظاهر.

فالمعنى: و إن كنتن تردن و تخترن البقاء على زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الصبر على ضيق العيش فإن. الله هيأ لكن أجرا عظيما بشرط أن تكن محسنات في أعمالكن مضافا إلى إرادتكن الله و رسوله و الدار الآخرة فإن لم تكن محسنات لم يكن لكن إلا خسران الدنيا و الآخرة جميعا.

قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ إلخ، عدل عن مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيهن إلى مخاطبتهن أنفسهن لتسجيل ما لهن من التكليف و زيادة التوكيد، و الآية و التي بعدها تقرير و توضيح بنحو لما يستفاد من قوله: ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً إثباتا و نفيا.

فقوله: ﴿مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الفاحشة الفعلة البالغة في الشناعة و القبح و هي الكبيرة كإيذاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و الافتراء و الغيبة و غير ذلك، و المبينة هي الظاهرة.

و و قوله: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ أي حال كونه ضعفين و الضعفان المثلان

 

 

 و يؤيد هذا المعنى قوله في جانب الثواب بعد: ﴿نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ فلا يعبأ بما قيل إن المراد بمضاعفة العذاب ضعفين تعذيبهم بثلاثة أمثاله بتقريب أن مضاعفة العذاب زيادته و إذا زيد على العذاب ضعفاه صار المجموع ثلاثة أمثاله.

و ختم الآية بقوله: ﴿وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اَللَّهِ يَسِيراً للإشارة إلى أنه لا مانع من ذلك من كرامة الزوجية و نحوها إذ لا كرامة إلا للتقوى و زوجية النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) إنما تؤثر الأثر الجميل إذا قارن التقوى و أما مع المعصية فلا تزيد إلا بعدا و وبالا.

قوله تعالى: ﴿وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ إلخ، القنوت‏ الخضوع، و قيل: الطاعة و قيل: لزوم الطاعة مع الخضوع، و الاعتاد التهيئة، و الرزق الكريم مصداقه الجنة.

و المعنى: و من يخضع منكن لله و رسوله أو لزم طاعة الله و رسوله مع الخضوع و يعمل عملا صالحا نعطها أجرها مرتين أي ضعفين و هيأنا لها رزقا كريما و هي الجنة.

و الالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله: ﴿نُؤْتِهَا و ﴿أَعْتَدْنَا للإيذان بالقرب و الكرامة، خلاف البعد و الخزي المفهوم من قوله: ﴿يُضَاعَفْ لَهَا اَلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ.

قوله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ إلخ، الآية تنفي مساواتهن لسائر النساء إن اتقين و ترفع منزلتهن على غيرهن ثم تذكر أشياء من النهي و الأمر متفرعة على كونهن لسن كسائر النساء كما يدل عليه قوله: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ﴾﴿وَ قَرْنَ ﴾﴿وَ لاَ تَبَرَّجْنَ إلخ، و هي خصال مشتركة بين نساء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و سائر النساء.

فتصدير الكلام بقوله: ﴿لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسَاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ ثم تفريع هذه التكاليف المشتركة عليه، يفيد تأكد هذه التكاليف عليهن كأنه قيل: لستن كغيركن فيجب عليكن أن تبالغن في امتثال هذه التكاليف و تحتطن في دين الله أكثر من سائر النساء.

و تؤيد بل تدل على تأكد تكاليفهن مضاعفة جزائهن خيرا و شرا كما دلت عليها الآية السابقة فإن مضاعفة الجزاء لا تنفك عن تأكد التكليف.

و قوله: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ بعد ما بين علو

 

 

 منزلتهن و رفعة قدرهن لمكانهن من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و شرط في ذلك التقوى فبين أن فضيلتهن بالتقوى لا بالاتصال بالنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) نهاهن عن الخضوع في القول‏ و هو ترقيق الكلام و تليينه مع الرجال بحيث يدعو إلى الريبة و تثير الشهوة فيطمع الذي في قلبه مرض و هو فقدان قوة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء.

و قوله: ﴿وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً أي كلاما معمولا مستقيما يعرفه الشرع و العرف الإسلامي و هو القول الذي لا يشير بلحنه إلى أزيد من مدلوله معرى عن الإيماء إلى فساد و ريبة.

قوله تعالى: ﴿وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجَاهِلِيَّةِ اَلْأُولى‏َ إلى قوله ﴿وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ «قرن» من قر يقر إذا ثبت و أصله اقررن حذفت إحدى الرائين أو من قار يقار إذا اجتمع كناية عن ثباتهن في بيوتهن و لزومهن لها، و التبرج‏ الظهور للناس كظهور البروج لناظريها. و الجاهلية الأولى‏ الجاهلية قبل البعثة فالمراد الجاهلية القديمة، و قول بعضهم: إن المراد به زمان ما بين آدم و نوح (عليه السلام) ثمان مائة سنة، و قول آخرين إنها ما بين إدريس و نوح، و قول آخرين زمان داود و سليمان و قول آخرين إنه زمان ولادة إبراهيم، و قول آخرين إنه زمان الفترة بين عيسى (عليه السلام) و محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أقوال لا دليل يدل عليها.

و قوله: ﴿وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاَةَ وَ آتِينَ اَلزَّكَاةَ وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ أمر بامتثال الأوامر الدينية و قد أفرد الصلاة و الزكاة بالذكر من بينها لكونهما ركنين في العبادات و المعاملات ثم جمع الجميع في قوله: ﴿وَ أَطِعْنَ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ.

و طاعة الله‏ هي امتثال تكاليفه الشرعية و طاعة رسوله فيما يأمر به و ينهى بالولاية المجعولة له من عند الله كما قال: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلى‏َ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً كلمة ﴿إِنَّمَا تدل على حصر الإرادة في إذهاب الرجس و التطهير و كلمة أهل البيت سواء كان لمجرد الاختصاص أو مدحا أو نداء يدل على اختصاص إذهاب الرجس و التطهير بالمخاطبين بقوله: ﴿عَنْكُمُ، ففي الآية في الحقيقة قصران قصر الإرادة في إذهاب الرجس و التطهير و قصر إذهاب الرجس و التطهير في أهل البيت.

 

 

و ليس المراد بأهل البيت نساء النبي خاصة لمكان الخطاب الذي في قوله: ﴿عَنْكُمُ و لم يقل: عنكن فأما أن يكون الخطاب لهن و لغيرهن كما قيل: إن المراد بأهل البيت أهل البيت الحرام و هم المتقون لقوله تعالى: ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ أو أهل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) أو أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و هم الذين يصدق عليهم عرفا أهل بيته من أزواجه و أقربائه و هم آل عباس و آل عقيل و آل جعفر و آل علي أو النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أزواجه، و لعل هذا هو المراد مما نسب إلى عكرمة و عروة أنها في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة.

أو يكون الخطاب لغيرهن كما قيل: إنهم أقرباء النبي من آل عباس و آل عقيل و آل جعفر و آل علي.

و على أي حال فالمراد بإذهاب الرجس و التطهير مجرد التقوى الديني بالاجتناب عن النواهي و امتثال الأوامر فيكون المعنى أن الله لا ينتفع بتوجيه هذه التكاليف إليكم و إنما يريد إذهاب الرجس عنكم و تطهيركم على حد قوله: ﴿مَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ: المائدة: ٦ و هذا المعنى لا يلائم شيئا من معاني أهل البيت السابقة لمنافاته البينة للاختصاص المفهوم من أهل البيت لعمومه لعامة المسلمين المكلفين بأحكام الدين.

و إن كان المراد بإذهاب الرجس و التطهير التقوى الشديد البالغ و يكون المعنى:

أن هذا التشديد في التكاليف المتوجهة إليكن أزواج النبي و تضعيف الثواب و العقاب ليس لينتفع الله سبحانه به بل ليذهب عنكم الرجس و يطهركم و يكون من تعميم الخطاب لهن و لغيرهن بعد تخصيصه بهن، فهذا المعنى لا يلائم كون الخطاب خاصا بغيرهن و هو ظاهر و لا عموم الخطاب لهن و لغيرهن فإن الغير لا يشاركهن في تشديد التكليف و تضعيف الثواب و العقاب.

لا يقال: لم لا يجوز أن يكون الخطاب على هذا التقدير متوجها إليهن مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و تكليفه شديد كتكليفهن.

لأنه يقال: إنه (ص) مؤيد بعصمة من الله و هي موهبة إلهية غير مكتسبة بالعمل فلا معنى لجعل تشديد التكليف و تضعيف الجزاء بالنسبة إليه مقدمة أو سببا لحصول

 

 

 التقوى الشديد له امتنانا عليه على ما يعطيه سياق الآية و لذلك لم يصرح بكون الخطاب متوجها إليهن مع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فقط أحد من المفسرين و إنما احتملناه لتصحيح قول من قال: إن الآية خاصة بأزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) .

و إن كان المراد إذهاب الرجس و التطهير بإرادته تعالى ذلك مطلقا لا بتوجيه مطلق التكليف و لا بتوجيه التكليف الشديد بل إرادة مطلقة لإذهاب الرجس و التطهير لأهل البيت خاصة بما هم أهل البيت كان هذا المعنى منافيا لتقييد كرامتهن بالتقوى سواء كان المراد بالإرادة الإرادة التشريعية أو التكوينية.

و بهذا الذي تقدم يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآية نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و علي و فاطمة و الحسنين (عليه السلام) خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم.

و هي روايات جمة تزيد على سبعين حديثا يربو ما ورد منها من طرق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة فقد روتها أهل السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة و عائشة و أبي سعيد الخدري و سعد و وائلة بن الأسقع و أبي الحمراء و ابن عباس و ثوبان مولى النبي و عبد الله بن جعفر و علي و الحسن بن علي (عليه السلام) في قريب من أربعين طريقا.

و روتها الشيعة عن علي و السجاد و الباقر و الصادق و الرضا (عليه السلام) و أم سلمة و أبي ذر و أبي ليلى و أبي الأسود الدؤلي و عمرو بن ميمون الأودي و سعد بن أبي وقاص في بضع و ثلاثين طريقا.

فإن قيل: إن الروايات إنما تدل على شمول الآية لعلي و فاطمة و الحسنين (عليه السلام) و لا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) كما يفيده وقوع الآية في سياق خطابهن.

قلنا: إن كثيرا من هذه الروايات و خاصة ما رويت عن أم سلمة و في بيتها نزلت الآية تصرح باختصاصها بهم و عدم شمولها لأزواج النبي و سيجي‏ء الروايات و فيها الصحاح.

فإن قيل: هذا مدفوع بنص الكتاب على شمولها لهن كوقوع الآية في سياق خطابهن.

قلنا: إنما الشأن كل الشأن في اتصال الآية بما قبلها من الآيات فهذه الأحاديث على كثرتها البالغة ناصة في نزول الآية وحدها، و لم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات نساء النبي و لا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الآية بأزواج

 

 

النبي كما ينسب إلى عكرمة و عروة، فالآية لم تكن بحسب النزول جزءا من آيات نساء النبي و لا متصلة بها و إنما وضعت بينها إما بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أو عند التأليف بعد الرحلة، و يؤيده أن آية ﴿وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ على انسجامها و اتصالها لو قدر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، فموقع آية التطهير من آية ﴿وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ كموقع آية ﴿اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من آية محرمات الأكل من سورة المائدة، و قد تقدم الكلام في ذلك في الجزء الخامس من الكتاب.

و بالبناء على ما تقدم تصير لفظة أهل البيت اسما خاصا في عرف القرآن بهؤلاء الخمسة و هم النبي و علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) لا يطلق على غيرهم، و لو كان من أقربائه الأقربين و إن صح بحسب العرف العام إطلاقه عليهم.

و الرجس بالكسر فالسكون صفة من الرجاسة و هي القذارة، و القذارة هيئة في الشي‏ء توجب التجنب و التنفر منها، و تكون بحسب ظاهر الشي‏ء كرجاسة الخنزير، قال تعالى: ﴿أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ: الأنعام: ١٤٥ و بحسب باطنه و هو الرجاسة و القذارة المعنوية كالشرك و الكفر و أثر العمل السيئ، قال تعالى:

﴿وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ مَاتُوا وَ هُمْ كَافِرُونَ: التوبة:

 ١٢٥ و قال: ﴿وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اَللَّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ: الأنعام: ١٢٥.

و أيا ما كان فهو إدراك نفساني و أثر شعوري من تعلق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيئ و إذهاب الرجس و اللام فيه للجنس إزالة كل هيئة خبيثة في النفس تخطئ حق الاعتقاد و العمل فتنطبق على العصمة الإلهية التي هي صورة علمية نفسانية تحفظ الإنسان من باطل الاعتقاد و سيئ العمل.

على أنك عرفت أن إرادة التقوى أو التشديد في التكاليف لا تلائم اختصاص الخطاب في الآية بأهل البيت، و عرفت أيضا أن إرادة ذلك لا تناسب مقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من العصمة.

فمن المتعين حمل إذهاب الرجس في الآية على العصمة و يكون المراد بالتطهير في قوله: ﴿وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و قد أكد بالمصدر إزالة أثر الرجس بإيراد ما يقابله

 

 

 بعد إذهاب أصله، و من المعلوم أن ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحق فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك الحق في الاعتقاد و العمل، و يكون المراد بالإرادة أيضا غير الإرادة التشريعية لما عرفت أن الإرادة التشريعية التي هي توجيه التكاليف إلى المكلف لا تلائم المقام أصلا.

و المعنى: أن الله سبحانه تستمر إرادته أن يخصكم بموهبة العصمة بإذهاب الاعتقاد الباطل و أثر العمل السيئ عنكم أهل البيت و إيراد ما يزيل أثر ذلك عليكم و هي العصمة.

قوله تعالى: ﴿وَ اُذْكُرْنَ مَا يُتْلى‏َ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ظاهر السياق أن المراد بالذكر ما يقابل النسيان إذ هو المناسب لسياق التأكيد و التشديد الذي في الآيات فيكون بمنزلة الوصية بعد الوصية بامتثال ما وجه إليهن من التكاليف، و في قوله ﴿فِي بُيُوتِكُنَّ تأكيد آخر.

و المعنى: و احفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة و ليكن منكن في بال حتى لا تغفلن و لا تتخطين مما خط لكم من المسير.

و أما قول بعضهم: إن المراد و اشكرن الله إذ صيركن في بيوت يتلى فيهن القرآن و السنة فبعيد من السياق و خاصة بالنظر إلى قوله في ذيل الآية: ﴿إِنَّ اَللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً.

قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ إلخ، الإسلام لا يفرق بين الرجال و النساء في التلبس بكرامة الدين و قد أشار سبحانه إلى ذلك إجمالا في مثل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏َ وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللَّهِ أَتْقَاكُمْ: الحجرات: ١٣ ثم صرح به في مثل قوله:

﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏َ: آل عمران: ١٩٥ ثم صرح به تفصيلا في هذه الآية.

فقوله: ﴿إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ المقابلة بين الإسلام و الإيمان تفيد مغايرتهما نوعا من المغايرة و الذي يستفاد منه نحو مغايرتهما قوله تعالى:

﴿قَالَتِ اَلْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَ لَمَّا يَدْخُلِ اَلْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ

 

 

إلى أن قال ﴿إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ: الحجرات: ١٥ يفيد أولا أن الإسلام هو تسليم الدين بحسب العمل و ظاهر الجوارح و الإيمان أمر قلبي. و ثانيا: أن الإيمان الذي هو أمر قلبي اعتقاد و إذعان باطني بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح.

فالإسلام هو التسليم العملي للدين بإتيان عامة التكاليف و المسلمون و المسلمات هم المسلمون لذلك و الإيمان هو عقد القلب على الدين، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح و المؤمنون و المؤمنات هم الذين عقدوا قلوبهم على الدين بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح فكل مؤمن مسلم و لا عكس.

و قوله: ﴿وَ اَلْقَانِتِينَ وَ اَلْقَانِتَاتِ القنوت على ما قيل لزوم الطاعة مع الخضوع و قوله: ﴿وَ اَلصَّادِقِينَ وَ اَلصَّادِقَاتِ﴾ الصدق‏ مطابقة ما يخبر به الإنسان أو يظهره، للواقع. فهم صادقون في دعواهم صادقون في قولهم صادقون في وعدهم.

و قوله: ﴿وَ اَلصَّابِرِينَ وَ اَلصَّابِرَاتِ فهم متلبسون بالصبر عند المصيبة و النائبة و بالصبر على الطاعة و بالصبر عن المعصية، و قوله: ﴿وَ اَلْخَاشِعِينَ وَ اَلْخَاشِعَاتِ الخشوع‏ تذلل باطني بالقلب كما أن الخضوع تذلل ظاهري بالجوارح.

و قوله: ﴿وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقَاتِ و الصدقة إنفاق المال في سبيل الله و منه الزكاة الواجبة، و قوله: ﴿وَ اَلصَّائِمِينَ وَ اَلصَّائِمَاتِ بالصوم الواجب و المندوب، و قوله:

﴿وَ اَلْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحَافِظَاتِ أي لفروجهن و ذلك بالتجنب عن غير ما أحل الله لهم، و قوله: ﴿وَ اَلذَّاكِرِينَ اَللَّهَ كَثِيراً وَ اَلذَّاكِرَاتِ أي الله كثيرا حذف لظهوره و هم الذين يكثرون من ذكر الله بلسانهم و جنانهم و يشمل الصلاة و الحج.

و قوله: ﴿أَعَدَّ اَللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً التنكير للتعظيم.

(بحث روائي)

 في تفسير القمي، ":في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ كان سبب نزولها أنه لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) من غزوة خيبر و أصاب كنز آل أبي الحقيق قلن أزواجه أعطنا ما أصبت فقال لهن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) قسمته بين المسلمين على ما أمر الله عز و جل

 

 

 فغضبن من ذلك، و قلن: لعلك ترى أنك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجونا؟.

فأنف الله عز و جل لرسوله فأمره أن يعزلهن فاعتزلهن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) في مشربة أم إبراهيم تسعة و عشرين يوما حتى حضن و طهرن ثم أنزل الله عز و جل هذه الآية و هي آية التخيير فقال: ﴿يَا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إلى قوله ﴿أَجْراً عَظِيماً فقامت أم سلمة أول من قامت فقالت: قد اخترت الله و رسوله فقمن كلهن فعانقنه و قلن مثل ذلك‏ الحديث.

أقول: و روي ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة و فيها أن أول من اختارت الله و رسوله منهن عائشة.

 و في الكافي، بإسناده عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن زينب بنت جحش قالت: يرى رسول الله إن خلى سبيلنا أن لا نجد زوجا غيره و قد كان اعتزل نساءه تسعة و عشرين ليلة فلما قالت زينب الذي قالت بعث الله جبرائيل إلى محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ الآيتين كلتيهما فقلن: بل نختار الله و رسوله و الدار الآخرة.

 و فيه، بإسناده عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها بانت؟ قال: لا. إنما هذا شي‏ء كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) خاصة أمر بذلك ففعل، و لو اخترن أنفسهن لطلقهن و هو قول الله عز و جل: ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً.

 و في المجمع، روى الواحدي بالإسناد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) جالسا مع حفصة فتشاجرا بينهما فقال لها: هل لك أن أجعل بيني و بينك رجلا؟ قالت: نعم.

فأرسل إلى عمر فلما أن دخل عليهما قال لها: تكلمي، فقالت: يا رسول الله تكلم و لا تقل إلا حقا فرفع عمر يده فوجأ وجهها ثم رفع يده فوجأ وجهها .

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) : كف فقال عمر: يا عدوة الله النبي لا يقول إلا حقا و الذي بعثه بالحق، لو لا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي فقام النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فصعد

 

 

 إلى غرفة فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نسائه يتغدى و يتعشى فيها فأنزل الله تعالى هذه الآيات.

 و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال : تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بخمس عشرة امرأة و دخل بثلاث عشر امرأة منهن، و قبض عن تسع فأما اللتان لم يدخل بهما فعمرة و سنا. و أما الثلاث عشرة اللاتي دخل بهن فأولهن خديجة بنت خويلد ثم سودة بنت زمعة ثم أم سلمة و اسمها هند بنت أبي أمية ثم أم عبد الله عائشة بنت أبي بكر ثم حفصة بنت عمر ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش ثم أم حبيب رملة بنت أبي سفيان ثم ميمونة بنت الحارث ثم زينب بنت عميس ثم جويرية بنت الحارث ثم صفية بنت حيي بن أخطب و التي وهبت نفسها للنبي خولة بنت حكيم السلمي .

و كان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطية و ريحانة الخندفية .

و التسع اللاتي قبض عنهن عائشة و حفصة و أم سلمة و زينب بنت جحش و ميمونة بنت الحارث و أم حبيب بنت أبي سفيان و جويرية و سودة و صفية. و أفضلهن خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة ثم ميمونة.

 و في المجمع،: في قوله: ﴿يَا نِسَاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ الآيتين: روى محمد بن أبي عمير عن إبراهيم بن عبد الحميد عن علي بن عبد الله بن الحسين عن أبيه عن علي بن الحسين (عليه السلام): أنه قال رجل إنكم أهل بيت مغفور لكم. قال: فغضب و قال: نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النبي من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر و لمسيئنا ضعفين من العذاب.

 و في تفسير القمي، مسندا عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام): في هذه الآية ﴿وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجَاهِلِيَّةِ اَلْأُولى‏ قال: أي ستكون جاهلية أخرى. أقول: و هو استفادة لطيفة.

 و في الدر المنثور، أخرج الطبراني عن أم سلمة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): قال لفاطمة: ائتيني بزوجك و ابنيه فجاءت بهم فألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهل محمد و في لفظ آل محمد فاجعل صلواتك

 

 

و بركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .

قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي و قال: إنك على خير:

أقول: و رواه في غاية المرام، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه بإسناده عن أم سلمة.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت ":نزلت هذه الآية في بيتي ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و في البيت سبعة جبريل و ميكائيل و علي و فاطمة و الحسن و الحسين و أنا على باب البيت. قلت: يا رسول الله أ لست من أهل البيت؟ قال: إنك على خير إنك من أزواج النبي.

 و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة زوج النبي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): ادعي زوجك و ابنيك حسنا و حسينا فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بفضلة إزاره فغشاهم إياها ثم أخرج يده من الكساء و أومأ بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي و خاصتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، قالها ثلاث مرات.

قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله و أنا معكم؟ فقال:

إنك إلى خير مرتين.

أقول: و روى الحديث في غاية المرام، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بثلاث طرق عن أم سلمة و كذا عن تفسير الثعلبي.

و فيه، أخرج ابن مردويه و الخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: كان يوم أم سلمة أم المؤمنين فنزل جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بهذه الآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قال: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بحسن و حسين و فاطمة و علي فضمهم إليه و نشر عليهم الثوب، و الحجاب على أم سلمة مضروب، ثم

 

 

 قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: فأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك و إنك على خير.

 و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): نزلت هذه الآية في خمسة في و في علي و فاطمة و حسن و حسين ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً:

أقول: و رواه أيضا في غاية المرام، عن الثعلبي في تفسيره. و فيه، أخرج الترمذي و صححه و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ و في البيت فاطمة و علي و الحسن و الحسين فجللهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

 و في غاية المرام، عن الحميدي قال: الرابع و الستون من المتفق عليه من الصحيحين عن البخاري و مسلم من مسند عائشة عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: خرج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ذات غداة و عليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً:

أقول: و الحديث مروي عنها بطرق مختلفة. و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما دخل علي بفاطمة جاء النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أربعين صباحا إلى بابها يقول: السلام عليكم أهل البيت و رحمة الله و بركاته الصلاة رحمكم الله ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أنا حرب لمن حاربتم أنا سلم لمن سالمتم.

 و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم و رحمة الله و بركاته أهل البيت ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أقول: و رواه أيضا عن الطبراني عن أبي الحمراء و لفظه: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)

 

 

 يأتي باب علي و فاطمة ستة أشهر فيقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ الآية. و أيضا

 عن ابن جرير و ابن مردويه عن أبي الحمراء و لفظه: حفظت من رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى إلى باب علي فوضع يده على جنبتي الباب ثم قال: الصلاة الصلاة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ الآية.

و رواه أيضا عن ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسنه و ابن جرير و ابن المنذر و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أنس و لفظه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر و يقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اَللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

 أقول: و الروايات في هذه المعاني من طرق أهل السنة كثيرة و كذا من طرق الشيعة، و من أراد الاطلاع عليها فليراجع غاية المرام للبحراني و العبقات.

 و في غاية المرام، عن الحمويني بإسناده عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن أرقم فقال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقال: ألا إني تركت فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله عز و جل من اتبعه كان على هدى و من تركه كان على ضلالة، ثم أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاث مرات .

قلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا أهل بيته عصبته الذين حرموا الصدقة بعده آل علي و آل عباس و آل جعفر و آل عقيل.

 و فيه، أيضا عن مسلم في صحيحة بإسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم): إني تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى و من تركه كان على ضلالة، فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال:

لا أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر ثم الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أهلها و قومها. أهل بيته أصله و عصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

 أقول: فسر البيت بالنسب كما يطلق عرفا على هذا المعنى، يقال: بيوتات العرب بمعنى الأنساب، لكن الروايات السابقة عن أم سلمة و غيرها تدفع هذا المعنى و تفسير أهل البيت بعلي و فاطمة و ابنيهما (عليه السلام).

 و في المجمع، قال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع

 

 

 زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: هل نزل فينا شي‏ء من القرآن؟ قلن: لا .

فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة و خسار، فقال (ص): و مم ذلك؟ قالت: لأنهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمَاتِ إلخ. أقول: و في روايات أخر أن القائلة هي أم سلمة.

[سورة الأحزاب (٣٣): الآیات ٣٦ الی ٤٠]

﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ٣٦ وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضى‏ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً ٣٧ مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ٣٨ اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ حَسِيباً ٣٩ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ٤٠  

 

 

 (بيان)

الآيات أعني قوله: ﴿وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ إلى قوله ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً في قصة تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) بزوج مولاه زيد الذي كان قد اتخذه ابنا، و لا يبعد أن تكون الآية الأولى أعني قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ الآية، مرتبطة بالآيات التالية كالتوطئة لها.

قوله تعالى: ﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ إلخ، يشهد السياق على أن المراد بالقضاء هو القضاء التشريعي دون التكويني فقضاء الله تعالى حكمه التشريعي في شي‏ء مما يرجع إلى أعمال العباد أو تصرفه في شأن من شئونهم بواسطة رسول من رسله، و قضاء رسوله هو الثاني من القسمين و هو التصرف في شأن من شئون الناس بالولاية التي جعلها الله تعالى له بمثل قوله: ﴿اَلنَّبِيُّ أَوْلىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

فقضاؤه (ص) قضاء منه بولايته و قضاء من الله سبحانه لأنه الجاعل لولايته المنفذ أمره، و يشهد سياق قوله: ﴿إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً حيث جعل الأمر الواحد متعلقا لقضاء الله و رسوله معا، على أن المراد بالقضاء التصرف في شئون الناس دون الجعل التشريعي المختص بالله.

و قوله: ﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ أي ما صح و لا يحق لأحد من المؤمنين و المؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاءوا و قوله: ﴿إِذَا قَضَى اَللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً ظرف لنفي الاختيار.

و ضميرا الجمع في قوله: ﴿لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ للمؤمن و المؤمنة المراد بهما جميع المؤمنين و المؤمنات لوقوعهما في حيز النفي و وضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل:

﴿مِنْ أَمْرِهِمْ و لم يقل: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشإ توهم الخيرة و هو انتساب الأمر إليهم.

و المعنى: ليس لأحد من المؤمنين و المؤمنات إذا قضى الله و رسوله بالتصرف في

 

 

أمر من أمورهم أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم و كونه أمرا من أمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله و رسوله بل عليهم أن يتبعوا إرادة الله و رسوله.

و الآية عامة لكنها لوقوعها في سياق الآيات التالية يمكن أن تكون كالتمهيد لما سيجي‏ء من قوله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ الآية، حيث يلوح منه أن بعضهم كان قد اعترض على تزوج النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بزوج زيد و تعييره بأنها كانت زوج ابنه المدعو له بالتبني و سيجي‏ء في البحث الروائي بعض ما يتعلق بالمقام.

قوله تعالى: ﴿وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ إلى آخر الآية المراد بهذا الذي أنعم الله عليه و أنعم النبي عليه زيد بن حارثة الذي كان عبدا للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) ثم حرره و اتخذه ابنا له و كان تحته زينب بنت جحش بنت عمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) أتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) عن الطلاق ثم طلقها زيد فتزوجها النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و نزلت الآيات.

فقوله: ﴿أَنْعَمَ اَللَّهُ عَلَيْهِ أي بالهداية إلى الإيمان و تحبيبه إلى النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و قوله: ﴿وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي بالإحسان إليه و تحريره و تخصيصه بنفسك، و قوله:

﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللَّهَ كناية عن الكف عن تطليقها، و لا يخلو من إشعار بإصرار زيد على تطليقها.

و قوله: ﴿وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ أي مظهره ﴿وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ذيل الآيات أعني قوله: ﴿اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ دليل على أن خشيته (ص) الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لو أظهره عابه الناس و طعن فيه بعض من في قلبه مرض فأثر ذلك أثرا سيئا في إيمان العامة، و هذا الخوف كما ترى ليس خوفا مذموما بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه.

و قوله: ﴿وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ الظاهر في نوع من العتاب ردع عن نوع من خشية الله و هي خشيته عن طريق الناس و هداية إلى نوع آخر من خشيته تعالى و أنه كان من الحري أن يخشى الله دون الناس و لا يخفي ما في نفسه ما الله مبديه و هذا نعم الشاهد على أن الله كان قد فرض له أن يتروج زوج زيد الذي كان تبناه

 

 

 ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوج بأزواج الأدعياء و هو (ص) كان يخفيه في نفسه إلى حين مخافة سوء أثره في الناس فآمنه الله ذلك بعتابه عليه نظير ما تقدم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إلى قوله ﴿وَ اَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنَّاسِ الآية.

فظاهر العتاب الذي يلوح من قوله: ﴿وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ مسوق لانتصاره و تأييد أمره قبال طعن الطاعنين ممن في قلوبهم مرض نظير ما تقدم في قوله:

﴿عَفَا اَللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكَاذِبِينَ: التوبة: ٤٣.

و من الدليل على أنه انتصار و تأييد في صورة العتاب قوله بعد: ﴿فَلَمَّا قَضى‏ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا حيث أخبر عن تزويجه إياها كأنه أمر خارج عن إرادة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و اختياره ثم قوله: ﴿وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً.

فقوله: ﴿فَلَمَّا قَضى‏ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا متفرع على ما تقدم من قوله:

﴿وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ و قضاء الوطر منها كناية عن الدخول و التمتع، و قوله:

﴿لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً تعليل للتزويج و مصلحة للحكم، و قوله: ﴿وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ مَفْعُولاً مشير إلى تحقق الوقوع و تأكيد للحكم.

و من ذلك يظهر أن الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن يتزوجها لا هواها و حبه الشديد لها و هي بعد مزوجة كما ذكره جمع من المفسرين و اعتذروا عنه بأنها حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا: منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهية، و ثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه و إخفائه في نفسه فلا مجوز في الإسلام لذكر حلائل الناس و التشبب بهن.

قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اَللَّهُ لَهُ إلخ، الفرض‏ هو التعيين و الاسهام يقال: فرض له كذا أي عينه له و أسهمه به، و قيل: هو في المقام بمعنى الإباحة و التجويز، و الحرج‏ الكلفة و الضيق، و المراد بنفي الحرج نفي سببه و هو المنع عما فرض له.

و المعنى: ما كان على النبي من منع فيما عين الله له أو أباح الله له حتى يكون عليه حرج في ذلك.

 

 

 و قوله: ﴿سُنَّةَ اَللَّهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ اسم موضوع موضع المصدر فيكون مفعولا مطلقا و التقدير سن الله ذلك سنة، و المراد بالذين خلوا من قبل هم الأنبياء و الرسل الماضون بقرينة قوله بعد: ﴿اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ إلخ.

و قوله: ﴿وَ كَانَ أَمْرُ اَللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي يقدر من عنده لكل أحد ما يلائم حاله و يناسبها، و الأنبياء لم يمنعوا مما قدره الله و أباحه لغيرهم حتى يمنع النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) من بعض ما قدر و أبيح.

قوله تعالى: ﴿اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللَّهَ إلخ، الموصول بيان للموصول المتقدم أعني قوله: ﴿اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ.

و الخشية هي تأثر خاص للقلب عن المكروه و ربما ينسب إلى السبب الذي يتوقع منه المكروه، يقال: خشيت أن يفعل بي فلان كذا أو خشيت فلانا أن يفعل بي كذا، و الأنبياء يخشون الله و لا يخشون أحدا غيره لأنه لا مؤثر في الوجود عندهم إلا الله.

و هذا غير الخوف الذي هو توقع المكروه بحيث يترتب عليه الاتقاء عملا سواء كان معه تأثر قلبي أو لا فإنه أمر عملي ربما ينسب إلى الأنبياء كقوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ: الشعراء: ٢١ و قوله في النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) :

﴿وَ إِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً: الأنفال: ٥٨ و هذا هو الأصل في معنى الخوف و الخشية و ربما استعملا كالمترادفين.

و مما تقدم يظهر أن الخشية منفية عن الأنبياء (عليه السلام) مطلقا و إن كان سياق قوله: ﴿يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اَللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ إلخ، يلوح إلى أن المنفي هو الخشية في تبليغ الرسالة. على أن جميع أفعال الأنبياء كأقوالهم من باب التبليغ فالخشية في أمر التبليغ مستوعبة لجميع أعمالهم.

و قوله: ﴿وَ كَفى‏َ بِاللَّهِ حَسِيباً أي محاسبا يحاسب على الصغيرة و الكبيرة فيجب أن يخشى و لا يخشى غيره.

قوله تعالى:» ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ إلخ، لا شك في أن الآية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) بأنه تزوج زوج ابنه و محصل الدفع أنه ليس أبا زيد و لا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتى يكون

 

 

 تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا بزوج ابنه فالخطاب في قوله: ﴿مِنْ رِجَالِكُمْ للناس الموجودين في زمن نزول الآية، و المراد بالرجال ما يقابل النساء و الولدان و نفي الأبوة نفي تكويني لا تشريعي و لا تتضمن الجملة شيئا من التشريع.

و المعنى: ليس محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) أبا أحد من هؤلاء الرجال الذين هم رجالكم حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا منه بزوج ابنه و زيد أحد هؤلاء الرجال فتزوجه بعد تطليقه ليس تزوجا بزوج الابن حقيقة و أما تبنيه زيدا فإنه لا يترتب عليه شي‏ء من آثار الأبوة و البنوة و ما جعل أدعياءكم أبناءكم.

و أما القاسم و الطيب و الطاهر[15] و إبراهيم فإنهم أبناؤه حقيقة لكنهم ماتوا قبل أن يبلغوا فلم يكونوا رجالا حتى ينتقض الآية و كذا الحسن و الحسين و هما ابنا رسول الله فإن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قبض قبل أن يبلغا حد الرجال.

و مما تقدم ظهر أن الآية لا تقتضي نفي أبوته (ص) للقاسم و الطيب و الطاهر و إبراهيم و كذا للحسنين لما عرفت أنها خاصة بالرجال الموجودين في زمن النزول على نعت الرجولية.

و قوله: ﴿وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ الخاتم‏ بفتح التاء ما يختم به كالطابع و القالب‏ بمعنى ما يطبع به و ما يقلب به و المراد بكونه خاتم النبيين أن النبوة اختتمت به (ص) فلا نبي بعده.

و قد عرفت فيما مر معنى الرسالة و النبوة و أن الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس و النبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين و حقائقه و لازم ذلك أن يرتفع الرسالة بارتفاع النبوة فإن الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة.

و من هنا يظهر أن كونه (ص) خاتم النبيين يستلزم كونه خاتما للرسل.

و في الآية إيماء إلى أن ارتباطه (ص) و تعلقه بكم تعلق الرسالة و النبوة و أن ما فعله كان بأمر من الله سبحانه.

و قوله: ﴿وَ كَانَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً أي ما بينه لكم إنما كان بعلمه.

 

 

 (بحث روائي)

 في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه و قالت: أنا خير منه حسبا و كانت امرأة فيها حدة فأنزل الله ﴿وَ مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاَ مُؤْمِنَةٍ الآية كلها. أقول: و في معناها روايات أخر.

 و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال ":نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي و أخوها و قالت إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده فنزلت. أقول: و الروايتان أشبه بالتطبيق منهما بسبب النزول.

 و في العيون،: في باب مجلس الرضا (عليه السلام) عند المأمون مع أصحاب الملل في حديث يجيب فيه عن مسألة علي بن الجهم في عصمة الأنبياء:.

قال: و أما محمد (صلى الله عليه وآله و سلم) و قول الله عز و جل: ﴿وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فإن الله عز و جل عرف نبيه (صلى الله عليه وآله و سلم)أسماء أزواجه في دار الدنيا و أسماء أزواجه في الآخرة و أنهن أمهات المؤمنين و أحد من سمي له زينب بنت جحش و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى (ص) اسمها في نفسه و لم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين: أنه قال في امرأة في بيت رجل: إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين و خشي قول المنافقين .

قال الله عز و جل: ﴿وَ تَخْشَى اَلنَّاسَ وَ اَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ يعني في نفسك‏ الحديث.

أقول: و روي ما يقرب منه فيه عنه (عليه السلام) في جواب مسألة المأمون عنه في عصمة الأنبياء.

 و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ قيل: إن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه و أن زيدا سيطلقها فلما جاء زيد و قال له: أريد أن أطلق زينب قال له: أمسك عليك زوجك، فقال

 

 

 سبحانه: لم قلت: أمسك عليك زوجك و قد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك؟:

و روي ذلك عن علي بن الحسين (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري و الترمذي و ابن المنذر و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) يقول: اتق الله و أمسك عليك زوجك فنزلت: ﴿وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللَّهُ مُبْدِيهِ.

قال أنس: فلو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) كاتما شيئا لكتم هذه الآية، فتزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم)‏ الحديث.

أقول: و الروايات كثيرة في المقام و إن كان كثير منها لا يخلو من شي‏ء و في الروايات: ما أولم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) على امرأة من نسائه ما أولم على زينب ذبح شاة و أطعم الناس الخبز و اللحم، و في الروايات أنها كانت تفتخر على سائر نساء النبي بثلاث أن جدها و جد النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) واحد فإنها كانت بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) و أن الذي زوجها منه هو الله سبحانه و أن السفير جبريل.

و في المجمع،: في قوله تعالى: ﴿وَ لَكِنْ رَسُولَ اَللَّهِ وَ خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ: و صح‏- الحديث عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) قال: إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها و نظر إليها فقال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة. قال (ص): فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء: أورده البخاري و مسلم في صحيحيهما. أقول: و روى هذا المعنى غيرهما كالترمذي و النسائي و أحمد و ابن مردويه عن غير جابر كأبي سعيد و أبي هريرة.

 و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كنت أقرئ الحسن و الحسين فمر بي علي بن أبي طالب و أنا أقرئهما فقال لي:

أقرئهما و خاتم النبيين بفتح التاء.

 

 

[1]  أي تقضوا حاجتكم بالتخلي.

[2]  الحجر حضن الإنسان و هو ما دون الإبط إلى الكشح.

[3]  أي تلا من الرمل.

[4]  الأنثى من أولاد المعز.

[5]  مكان خارج المدينة.

[6]  جبل بالمدينة.

[7]  حصون لأهل المدينة.

[8]  أحفظ الرجل: أغضبه.

[9]  الطام: البحر العظيم.

[10]  السحاب الذي لا ماء فيه.

[11]  الذروة و الغارب أعلى الشي‏ء و أصله مثل مأخوذ من فتل ذروة البعير المصعب و غاربه لوضع الخطام في أنفه.

[12]  أعنق به فرسه: سار به سيرا واسعا فسيحا مسيطرا ممتدا.

[13]  الدرقة: الجنة.

[14]  كساء من صوف و نحوه يؤتزر به.

[15]  هذا على ما هو المعروف و قال بعضهم: إن الطيب و الطاهر لقبان للقاسم.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (7)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 216

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22683353

  • التاريخ : 9/05/2025 - 04:39

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net