00989338131045
 
 
 
 
 
 

 الدرس السابع عشر 

القسم : علوم القرآن   ||   الكتاب : دروس منهجية في علوم القرآن ( الجزء الأول)   ||   تأليف : السيد رياض الحكيم

"الدرس السابع عشر"

 

3 ـ دور الوحي في مصير الإنسان

تتضح مدى أهمية الوحي ودوره في حياة ومصير الإنسان بملاحظة نقطتين:

 

النقطة الأولى: الإنسان اجتماعي بطبيعته

من الواضح انّ الإنسان اجتماعي لا يروم بل لا يمكنه العيش وحيداً من دون انضمام للمجتمع.

هنا يطرح تساؤل عن منشأ كون الإنسان اجتماعياً؟ يرى بعض الباحثين انّ الدافع الاجتماعي لدى الانسان ليس فطرياً بل فرضته عليه الضرورة والمصلحة الذاتية، ويفسّر هؤلاء تكوّن المجتمعات بأنّ الانسان يفكر في مصالحه الذاتية ويحاول استثمار كلّ شيء في سبيل تحقيق رغباته ومصالحه، وعندما أدرك أنّه لا يمكنه بمفرده توفير ذلك لنفسه وانّ تحقيق بعض هذه الرغبات والمصالح بل كثير منها مرهون بجهود الآخرين التي لا يمكن ضمانها إلاّ بالتعاون والتعايش معهم اضطرّ الى التعايش ولذلك تكوّنت المجتمعات.

ويستشهد أصحاب هذا الرأي على ذلك بأنّ الإنسان حيث كان همّه هو تحقيق رغباته لذلك فهو لا يتوانى عن الاعتداء على الآخرين وتسخيرهم والتجاوز على حقوقهم في سبيل ذلك، وانّه لا يحفظ حقوق الآخرين إلاّ عندما يعجز عن حفظ حقوقه ومصالحه من دون ذلك(1).

لكن الملاحظة التي نسجلها على هذه النظرية أن شعور الإنسان بالرغبة بل ضرورة الانخراط في المجتمع شعور فطري غريزي وليس بدافع المصلحة الذاتية، رغم إقرارنا بقضية اهتمام الإنسان وحرصه على مصلحته الشخصية.

وخير شاهد على ذلك ما نجده من الأمراض والمشاكل النفسية التي تواجه ابناء المجتمعات الغربية رغم الرخاء المادي الذي يعيشونه وتوفّر مستلزمات الحياة المترفة للأفراد، كل ذلك بسبب تفكك البنية الاجتماعية وفتور العلاقات والروابط الأسرية والاجتماعية بينهم، فكيف سيكون الحال لو افترضنا انهيار المجتمع بكامله؟!

ونلاحظ كذلك ان من أقسى الضغوط التي تمارسها السلطات ضد المعتقلين هو عزلهم في سجون انفرادية لكي لا تلبى هذه الحاجة الفطرية لديهم.

إذن فالعيش ضمن المجتمع من أهمّ حاجات الإنسان ومتطلباته التي فُطر عليها.

 

النقطة الثانية: تنوّع الآراء والحاجة الى القانون

بعد أن يتعايش البشر ضمن المجتمع ويشعرون بارتباط مصالحهم ببعضهم وتشابكها وضرورة تماسك مجتمعهم الذي يعيشون فيه تبرز مشكلتان:

الأولى: تنوّع الآراء المطروحة لحفظ الكيان الاجتماعي والمحافظة على حقوق أبناء المجتمع.

الثانية: ظهور بعض العناصر المنحرفة التي لا تكتفي بحقّها وتحاول سلب حقوق الآخرين والاعتداء عليهم، واختلاق امتيازات غير مبرَّرة لأنفسها.

هاتان المشكلتان تحتّمان إيجاد مرجعية تشرف على إدارة المجتمع وتشريع قوانين تحافظ على تماسك المجتمع وتحفظ حقوق الأفراد فيه ولو نسبياً وبأعلى نسبة ممكنة. وهذه هي الدولة ـ بمفاصلها واجهزتها المختلفة ـ في العصر الحديث.

ولكن يطرح السؤال عن المصدر الذي تعتمده الدولة في تشريعاتها وخطواتها؟

قد نجد من يجيب على ذلك بأن العقل البشري يصلح أساساً ومرجعاً لتمييز الخير من الشر، والنافع من غير النافع، فهو المَعين الذي يوجّه الدولة في قراراتها المختلفة. بل يهدي المجتمع الى اختيار طبيعة النظام الأفضل الذي يناسبه.

لكن نلاحظ في هذا الجواب ثغرتين:

الأولى: ان من الخطأ أن ننظر الى الإنسان نظرةً تجزيئية، بل لابدّ من شمولية النظر إليه، فنلاحظه بكل قواه وشخصيته وكل المؤثرات في سلوكه، ومن الواضح انّ الانسان لا ينحصر تأثره بالعقل، ولا يقتصر في سلوكه على ما يرسمه له عقله. بل هناك الهوى والرغبات والغرائز النفسية المختلفة التي تؤثر في سلوكه ويختلف الأفراد فى مدى التأثر بكلٍّ منها شدّة وضعفاً، بحيث نجد العقل يضعف أمامها في كثير بل في أكثر الأحيان. فتنهار الحدود التي رسمها العقل وضوابطه التي حدّدت فاعلية كل منها.

يكفينا أن نلقي نظرة على المجتمعات الغربية فبرغم توفر كل الوسائل الكفيلة بسعادتهم إلاّ انّ فاعلية قوى الشر والرذيلة أدّت الى سلبهم هذه السعادة، وزجّهم في متاهات لا نهاية لها، حيث ضعفت عندهم المثل الروحية وتبددت الأسرة وتفكّك المجتمع وانتشرت الفحشاء والمخدرات والجرائم المتنوّعة، وفقدت الحياة طعمها وحيوّيتها، فصارت عبئاً على كثير منهم فعمّهم اليأس والاحباط ولجأوا الى الخمور والمخدّرات وحتى الانتحار للتخلص منها، رغم التطور التكنولوجي والجوانب المشرقة الأخرى بالإضافة الى توفّر الوسائل المادية لديهم الكفيلة بحياة الرخاء والهناء.

الثانية: انّه لو كانت مساحة الحياة محصورة في هذه الدنيا فلربّما أمكن ادعاء الرجوع للعقل، ولو باعتباره المرجعية الممكنة في هذه الحياة، إلاّ انّه حيث كنا نستقبل حياة أخرى بمعايير وقوانين تختلف عمّا في هذه الحياة، وبما ان الإنسان في هذه الحياة بعيد تماماً عن طبيعة ومتطلبات السعادة في ذلك العالم، ولا يعرف بالضبط ما ينفعه هناك وما لا ينفعه أو يضره فمن الطبيعي أن يتجه الإنسان لربّه ليمنّ عليه برسم الخطوط العريضة له، ومنحه الآلية التي تساعده في بلوغ السعادة والمقام الرفيع في الآخرة، وذلك من خلال الوحي الى الأنبياء ليُخرجوا الناس من الظلمات الى النور، وليوقظوا الناس في هذه الحياة، لأنّ "الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا" كما جاء في الحديث. قال تعالى: (هو الذي بعث فى الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانو من قبل لفي ظلال مبين) (2).

إذن للوحي دور حاسم في مصير الإنسان وتحديد ورسم الخطوط العريضة ـ على الأقل ـ في مسير حياته.

وقد تنبّه الى أهمية الوحي ـ ولو ضمن تصوره ـ الفيلسوف الفرنسي المعروف جان جاك روسو، فقال: "... لاكتشاف أفضل أنواع قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم، لابدّ من توفّر عقل ممتاز يرى جميع أهواء الناس ولا يعاني من أي هوى، ولا تكون له أيّة علاقة مع طبيعتنا، لكنّه يدركها حتى أعماقها وتكون سعادته مستقلة عنّا، ومع ذلك يريد الاهتمام بسعادتنا، وأخيراً كيف يستطيع هذا العقل ـ وهو يراعي مجداً بعيداً لنفسه في تقدّم العصور ـ العمل في قرن ليحصد ثماره في قرن آخر.

وبعبارة أخرى لابدّ من آلهة، لتمنح القوانين للبشر... ولكن لا يحقّ لكلّ انسان أن يجعل الآلهة تتكلّم، ولا أن يكون مصدَّقاً عندما ينبىء الناس انّه ترجمانها فإنّ روح المشرّع العظيمة هي المعجزة التي يجب أن تثبت رسالته... انّ الشريعة اليهودية ما زالت باقية، وشريعة ابن إسماعيل "محمد" التي تحكم العالم منذ عشرة قرون ما برحت تنبىء حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها، وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيّز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فإنّ السياسة الحقيقية تُعجَب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تُشرف على منشآتهم الدائمة"(3).

 

4 ـ كيفية وحي القرآن

بعد ملاحظة المعاني السّابقة للوحي والطرق المختلفة للإيحاء يبدو من بعض آيات القرآن والنصوص والأحداث التاريخيّة انّ القرآن الكريم أُنزل على الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) عن طريق أحد الملائكة المقرّبين وانّه جبرئيل(عليه السلام)، قال تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنّه نزّله على قلبك بإذن الله) (4). (وانّه لتنزيل ربّ العالمين * نزل به الرّوح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) (5). وقال عزَّ من قال: (قل نزّله روح القدس من ربّك بالحقّ ليثبّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين) (6).

وقد نصّت بعض التفاسير على انّ المقصود من روح القدس هو جبرئيل(عليه السلام).

لكن مجموعة من الباحثين(7) يرون انّ بعض القرآن قد أوحي الى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلّم) بشكل مباشر من دون توسط جبرئيل، ويستشهدون ببعض النّصوص المروية، إلاّ انّ الملاحظ ـ بالإضافة إلى ضعف سند أكثرها ـ انّها ليست صريحة في وحي القرآن. فلا تصلح دليلاً واضحاً في مقابل هذه الآيات القرآنية الكريمة وغيرها، والله العالم.

 

ـــــــــــــــــــ

(1) يراجع كتاب (قرآن در إسلام): 128/132.

(2) سورة الجمعة: 2.

(3) يراجع كتاب "في العقد الإجتماعي" ص 82 و 85 ـ 86 تأليف جان جاك روسو، ترجمة ذوقان قرقوط. طبع دار القلم.

(4) سورة البقرة: 97.

(5) سورة الشعراء: 192 ـ 195.

(6) سورة النحل: 102.

(7) يراجع تلخيص التمهيد: 1 / 22. وكذا غيره.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335994

  • التاريخ : 28/03/2024 - 19:26

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net