00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النحل 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التفسير البنائي للقرآن الكريم ـ الجزء الثاني   ||   تأليف : الدكتور محمود البستاني

سورة النحل

 

______________________________________________________

الصفحة 449

 

قال تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يُشركون * ينزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ان أنذروا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتقون * خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يُشركون * خلق الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيم مبين).

بدأت السورة المباركة بالإشارة إلى جملة من الظواهر، في مقدمتها: قيام الساعة ومطالبة المنحرفين بعدم الاستعجال في المطالبة الساخرة بذلك، ومنها: نزول الملائكة بالروح على من يشاء الله تعالى من عباده من خلال الإنذار والمطالبة بالتقوى، ومنها: خلق الكون من أجل هدف عبادي، ومنها: خلق الإنسان وكونه معانداً في ممارساته التي يواجه بها ظاهرة الكون أو رسالة السماء... كل أولئك طرحتها مقدمة السورة مع الإشارة إلى تنزيه الله تعالى عن الشرك.

إذاً، هدف الموضوعات سوف تنسحب دلالاتها على الهيكل العام للسورة، إلاّ أن الموضوعات الثانوية التي يستهدف النصُ توصيلها ضمن الفكرة العامة للسورة سوف تأخذ مجالاً كبيراً من مساحة السورة طالما نعرف (من الزاوية الفنية) أن الموضوعات الثانوية من الممكن أن تتسم بحجم أكبر من الأهمية الفكرية: كما لو جاء رسم البطل في القصة مثلاً ثانوياً في حين أن مبدع القصة يتخذ من البطل المذكور واجهة لهدفه الرئيس.

لذلك، نجد أن أوّل موضوع ثانويٍ للسورة يتمثّل في إحدى ظواهر الكون التي تحمل عطاءً مزدوجاً هو الفائدة والجمال: (الفائدة) الحيوانية والسمة الجمالية لها... ولنقرأ:

 

______________________________________________________

الصفحة 450

 

(والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ ومنافِعُ ومِنها تأكلون * ولكم فيها جَمال حِين تُرِيحون وحين تَسْرَحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالِغيهِ إلا بشِقِ الأنفس إنّ ربّكُم لرؤوفٌ رحيم). لنلاحظ أنّ (الأنعام) تشكل ثروة حيوانية ضخمة لا غنى للإنسان عنها، ولعل تعقيب الآية الكريمة على كون الأنعام ذات دفء ومنافع وغذاء وحمل أثقال، والتعقيب على ذلك بقوله تعالى (إن ربكم لرؤف رحيم) يشكّل مؤشراً واضحاً إلى المعطيات الضخمة للأنعام من حيث أن رأفة الله ورحمته تقفان وراء تقديم العطاء المذكور للآدميين.

إذاً، جاء الموضوع الثانوي الذي تضمنته سورة النحل منطوياً على عرض ظاهرةٍ لها خطورتها في حقل الحاجات الإنسانية وإشباعها، فالغذاء هو الإشباع الرئيس لأشد حاجات الإنسان التي لا مجال لممارسة أيّ تأجيل حيالها ونعني بها (الحاجة إلى الطعام)، وحينما يذكّرنا النصُ القرآني بظاهرة (الأنعام): إنما يستهدف لفت أنظارنا إلى أهمية الثروة المذكورة بصفتها تحقق إشباعاً لأهم حاجة إنسانية تتوقّف عليها استمرارية حياة الإنسان، وهذا ما يفسّر لنا خطورة الموضوع الذي طرحته السورة... من حيث البناء الهندسي للسورة التي عرضت مقدمتُها جملةً من الموضوعات التي أشرنا إليها، نجد أن استهلال وَسَطِها بالحديث عن (الأنعام) إنما يشكّل أهمية الثروة الحيوانية المذكورة، وهذا الاستهلال لم يجئ منعزلاً عن سياق الموضوعات التي طرحتها المقدمة بل جاء في سياق خلق السماوات والأرض والإنسان (خَلَقَ السماواتِ والأرضَ بالحق) (خلق الإنسان من نُطفة).

إذاً، من خلال عرض جملة من ظواهر الكون هي: السماء، الأرض، الإنسان: جاء عرضُ (الأنعام)، ثم جاء هذا العرض ليأخذ معالجةً مفصلةً في السورة بالنحو الذي أشرنا إليه، وهذا ما يكشف لنا جانباً من البناء الفنيّ للنص

 

______________________________________________________

الصفحة 451

 

يتّسم بالإحكام العضوي بين موضوعات النص.

والآن، خارجاً عن المبنى العماري المذكور، يعنينا أن نتحدث عن موضوع (الأنعام) ذاته من حيث انطواؤه على الفائدة المشار إليها من جانب ثم من حيث انطواؤه على فوائد أخرى تتصل بأكثر من دافع من الدوافع البشرية.

 

* * *

 

قال تعالى: (والأنعامَ خَلَقَها لكم فيها دفءٌ ومنافعُ ومنها تأكلون * ولكم فيها جَمال حين تُريحون وحين تَسْرَحُون * وتحمِلُ أثقالَكُم إلى بلدٍ لم تكونوا بالِغيهِ إلاّ بِشِقِّ الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم).

في هذا المقطع ـ كما أشرنا ـ طرحٌ لأحدِ معطياتِ السماءِ متمثلاً في الثروة الحيوانية (الأنعام) حيث أشار المقطع إلى عنصري (الفائدة) و(الجمال) فيها، أما الفائدة فتتمثل في كونها تسدّ (الحاجة إلى الطعام) كما تسد الحاجة إلى (الملبس) (لكم فيها دفء) مثلما تسدّ حاجاتٍ أخرى مثل (حمل الأثقال) أو الأمتعة، فضلاً عن حاجات متنوعة مثل الركوب وحرث الأرض وما إليه.

إذاً، استهلال السورة بعرض مثل هذا المعطى واستثماره للإنسان: يظل مفسّراً لنا أهمية هذه الظاهرة من حيث (الفائدة).

أما من حيث (الجمال)، فقد أشار المقطع بقوله (ولكم فيها جمالٌ حين تُريحون وحين تَسرحون) حيث أن تحركهما يستثير الحس الجمالي عند الإنسان... إن (الإحساس بالجمال) يظل إحدى الحاجات الثانوية لدى الشخصية، والمشرّع الإسلامي حينما يتيح للشخصية مجال الإشباع للحاجة المذكورة: إنما يقوّم ويثمّن هذه الحاجة دون أدنى شك بصفتها ـ مضافاً لما تقدم ـ تساهم في تخفيف أعباء الحياة، وتظل بمثابة استراحة يستعين بها الإنسان على مواصلة مهمته العبادية.

 

______________________________________________________

الصفحة 452

 

المهم، أن الإشارة إلى عنصري (الفائدة) و(الجمال) بالنسبة إلى (الأنعام) يكرر النصُ الحديث عنهما بالنسبة إلى أنماط حيوانية أخرى حينما نواجه مقطعاً جديداً يقول: (والخيلَ والبغالَ والحميرَ لِتَرْكَبُوها وزِينةً ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُون).

وتهمنا من هذه الآية: عمارتها الفنية من حيث تجانس موضوعها مع الموضوع السابق، فكما أن (الأنعام) تتضمن عنصري (الفائدة) و(الجمال) كذلك: الأنماط الحيوانية الثلاثة تتضمن نفس العنصرين (الفائدة والجمال) حيث يقول النص: (لتركبوها وزينة)، فالركوب هو المجسّد لعنصر (الفائدة)، والزينة هي المجسّد لعنصر (الجمال).

إذاً، ينبغي ألاّ نغفل عن جمالية هذه العمارة الفنية التي تتناغم خطوط مقاطعها بعضاً مع الآخر وفق الإشارة إلى عنصري الفائدة والجمال لظاهرة الحيوان الذي يستثمره الكائن الآدمي.

ولو ذهبنا نتابع المقطع الثالث من السورة لوجدناه يُصاغ فنيّاً بنفس الخط الهندسي الذي انتظم المقطعين السابقين، إلا أن المقطع الجديد يطرح موضوعاً آخر هو (المطر) من حيث كونه أيضاً (معطىً) سخّره الله للإنسان ليفيد منه في إشباع حاجاته الحيوية والجمالية، ولنقرأ: (هو الذي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لكُم مِنْهُ شَرَابٌ ومنه شجرٌ فِيْهِ تُسِيمون * يُنْبِتُ لكُم بِهِ الزرعَ والزيتون والنخيلَ والأعنابَ ومِنْ كُلِّ الثمراتِ إنَّ في ذلِك لآيةً لِقَومٍ يَتَفكَّرُون).

واضح، أن المعطى المذكور لا تنحصر أهميته في كونه مادة يستثمرها الإنسان لإشباع حاجاته، بل أن المعطيات جميعاً ـ الثروة الحيوانية والطبيعية ـ إنما ينبغي أن تُوظّف من أجل الإدراك العبادي لفلسفة الوجود. لذلك ما أن انتهى النص من ذكر المطر حتى عقّب عليه بقوله (إنَّ في ذلِكَ لآية لِقَومٍ

 

______________________________________________________

الصفحة 453

 

يتفكرون)، بمعنى أن المعطيات المذكورة ينبغي أن تحمل الإنسان على التفكّر في الله تعالى وإبداعه والهدف العبادي من وراء خلق الإنسان.

ويتأكد هذا الهدف حينما نلحظ أن المقطع الرابع والخامس من السورة يشدّد على الظاهرة المذكورة بقوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فتعقيبه تعالى على الآية الأولى (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وتعقيبه على الآية الثانية: (إن في دلك لآية لقوم يذّكّرون) يدلّنا على أن الهدف من عرض هذه المعطيات (العنصر الحيواني والطبيعي من مطر وشجر وشمس وثمر وليل ونهار وكل الثروات التي تفرزها الأرض)... إنما هي (آيات) ينبغي أن تحمل الإنسان على ممارسة هدفه الأوحد وهو (عبادة الله تعالى) وإلى أنها مجرد (وسائل) يتعيّن توظيفها من أجل الهدف المذكور، والأمر نفسه حينما تطالعنا المقاطع اللاحقة من السورة حيث يواصل النص عرض الخطوط العمارية المتصلة بعنصري (الفائدة) و(الجَمال) من خلال ظواهر كونية مختلفة.

 

* * *

 

قال تعالى: (وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها * وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون).

هذا المقطع من سورة النحل إمتدادٌ لمقاطع سابقة تحدثت عن الثروة الحيوانية والطبيعية التي سخّرها الله للآدميين. وها هو المقطع الذي نواجهه الآن يحدثنا عن الثروة الحيوانية والطبيعية أيضاً، لكن من خلال عيّنة خاصة هي البحر وثروته الحيوانية، إنه يشير إلى تسخير الله: البحرَ للآدميين ثم

 

______________________________________________________

الصفحة 454

 

استخراج السمك منه لتوفير الحاجة إلى الطعام، فضلاً عن إشباع الحاجة الجمالية التي يكتنزها البحر أيضاً من اللئالئ ونحوها.

من حيث عمارة السورة أو البناء الهندسي لها لابدّ أن نقف مليّاً عندها لنتبيّن مدى جماليّة هذه العمارة وإحكامها... فقد سبق أن لحظنا أن السورة الكريمة عندما تحدثت عن (الأنعام) أشارت إلى وجود عنصرين فيها هما عنصر (الفائدة) وعنصر (الجمال) (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع) (ولكم فيها جمال)... وعندما تحدثت السورة عن الدواب الثلاث (الخيلُ...الخ) أشارت أيضاً إلى عنصري (الفائدة) و(الجمال) فيها (لتركبوها وزينةً). وها هي الآن عندما تتحدث عن البحر والسمك تشير أيضاً إلى عنصري (الفائدة) و(الجمال) في ذلك حيث تقول الآية: (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) فالأكل هو تجسيد لعنصر الفائدة و(الحلية) تجسيد لعنصر الجمال.

إذاً، نحن الآن أمام عمارة فنية مُحكمة تتناغم خطوطها من حيث الوحدة والتباين، الوحدة في عنصري الفائدة والجمال، والتباين في عناصر المادة المتضمنة لذينك العنصرين.

أما المادة الموضوعية ذاتها فإنها بدورها تخضع لبناء هندسي من نمط آخر هو إخضاعها بعامة إلى عنصرين آخرين هما: كون المادة (مسخّرة) لصالح الإنسان بتضمنها عنصري الفائدة والجمال، وكونها وسيلة للتفكّر في إبداع الله ومن ثمَ استثمارها للعمل العبادي.

وهذا ما يمكن ملاحظته في مقاطع سابقة أشارت إلى ذلك من نحو (إن في ذلك لآيةً لِقَومٍ يتفكَّرُون) (... إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لقومٍ يعقلون) (... إنَّ في ذلك لآية لِقومٍ يَذَّكَّرُون). وها هو المقطع الذي نواجهه الآن يحدثنا بنفس اللغة: حيث يشير إلى كلٍ من عمليتي (العطاء) و(التفكّر). يقول

 

______________________________________________________

الصفحة 455

 

النص مواصلاً عرض المعطيات الأخرى بعد أن انتهى من عطاء البحر من حيث ثروته الحيوانية والطبيعية:

(وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) إن قوله تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) وقوله (أفلا تَذَّكَّرُون) يظل مؤشراً لما قلناه من أن النص يؤكد قضيتي العطاء واستثماره من أجل الهدف العبادي، وهو أمرٌ يأخذ منحىً هندسياً جميلاً بالنسبة إلى عمارة السورة التي تتلاقى خطوطها وتتباين عبر وحدة فكرية تجمع بين خطوط التلاقي والتباين.

والآن، بعد أن لحظنا جمالية الهيكل الفكري للسورة، يتعيّن علينا أن نشير إلى انعكاسات هذه العمارية على دلالات النص وأفكاره، فالنص عندما يشير إلى عطاء الله بالنحو المتقدم، يبدأ بعد ذلك ليؤكد أوّلاً أهمية العطاء المذكور بقوله (وإن تَعُدُّوا نِعمَة الله لا تُحْصُوها)، ولينتقل من بعد ذلك ثانياً إلى الحديث عن المنحرفين الذين ينكرون العطاء المذكور، حيث يتجهون إلى عبادة غير الله تعالى (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة...الخ).

إن الإشارة إلى هؤلاء المنحرفين تجيء وفق تدرّج فني ينتقل من الحديث عن المعطيات التي ينبغي استثمارها عبادياً إلى الحديث عن المنحرفين الذين لا يستثمرون ذلك: كما لحظنا. وسنرى أيضاً أن المقاطع اللاحقة سوف تنتقل إلى موضوعات جديدة تحوم على عرض مستويات السلوك المنحرف وفق التدرّج الفني الذي أشرنا إليه، فيما نتبيّنه بنحوٍ أشد وضوحاً عندما ننتقل إلى الحديث عن المقاطع اللاحقة.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطيرُ الأولين *

 

______________________________________________________

الصفحة 456

 

لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علمٍ ألا ساء ما يزرون * قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين * الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السَلَم ما كنا نعمل من سوء بلى ان الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبّرين).

في هذا المقطع طرحٌ لسلوك المنحرفين حيث سبقته مقاطع تتحدث عن موضوع آخر هو: عطاء الله من حيث الظواهر الإبداعية التي سخرها الله للآدميين وطالب باستثمارها وسيلةً عبادية لمعرفة الله وتوحيده. أما المنحرفون، فإن سلوكهم سوف لن يفيد من المعطيات المذكورة بل يستكبرون عن ذلك، ويرفضون تحريك عقولهم: حيث ينسبون رسالة السماء إلى كونها أساطِير الأولين، ويُحمّلهم مسؤولية سلوكهم مضافاً إلى مسؤولية إضلالهم الآخرين، ويذكّرهم بالجزاء الدنيوي أيضاً حيث لحق سابقيهم في الإنحراف، مقدّماً في تحديد ذلك: صورة فنية هي: (فأتى الله بنيانَهُم من القواعِدِ فخرَّ عليهِم السَّقْفُ مِنْ فوقِهم وأتاهُم العذابُ مِنْ حيثُ لا يشعرون).

والسؤال: ما هي الأسرار الفنية الكامنة وراء هذه الصورة؟ إن النص يتحدث عن المنحرفين الذين لحقهم جزاء دنيوي بسبب استكبارهم، موضحاً أن مكرهم ـ يتجسّد في بُنيان بنوه فهدّمه الله من قواعده (فأتى الله بنيانهم من القواعد) وهذا هو القسم الأول من الصورة. أما القسم الآخر فهو قوله تعالى (فخرَّ عليهم السقف من فوقهم)، ثم هناك القسم الثالث اللاحق بها وهو تعقيبه تعالى على ذلك بقوله (وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون).

إن النص كان من الممكن ـ كما هو الحال في نصوص قرآنية أخرى ـ أن

 

______________________________________________________

الصفحة 457

 

يكتفي من ذلك بالتعقيب الأخير وهو أن العذاب قد أتاهم من حيث لا يشعرون، كما كان من الممكن أيضاً أن يقدّم صوراً أخرى وردت في نصوص القرآن مثل تشبيه مصائرهم باعجاز النخل المنقعر، أو الخاوي الخ، حينئذٍ فما هو سرّ تقديم الصورة في هذا المقطع من خلال التشبيه بالبنيان، والقواعد، والسقف ... الخ؟.

الملاحَظ أن النص شدد على ظاهرة (المكر) لدى المنحرفين، حيث كرر ذلك في أكثر من مقطع، فهنا أشار إلى ذلك بقوله (قد مكر الذين من قبْلِهم) وفي مقطع لاحق يقول (أفأمِنَ الذين مَكَروا السيئاتِ). كما أنّ التجسيد الموضوعي لظاهرة المكر قد عرضها النص من خلال أقوال المنحرفين أنفسهم مثل قولهم (لو شاء الله ما عَبدنا مِنْ دونِه مِن شيء نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِن شيءٍ) ومثل (وأقْسَمُوا بالله جَهْدَ أيمانِهمْ لا يَبْعَثُ الله مَنْ يَموت). إن أمثلة هذا الاستدلال الهزيل القائم على ممارسة المكر في إضلال الآخرين وإضلال أنفسهم: من خلال المبالغة في القَسَم ومن خلال الذهاب إلى أن الله لو شاء ألاّ نعبد الأصنام من دونه: لفعل ذلك... الخ.

إن أمثلة هذا الكلام قائم على اللعب بالحقائق، أي: المكر الشديد، مما يتطلب جواباً يتناسب مع حجم المكر المذكور، حينئذٍ فإن تقديم صورة فنيّة توضّح كيف أن المكر الشديد سوف يعود على أصحابه بنتائج تمحق أمثلة هذا المكر من أساسه، يظل أمراً له مسوغاته الفنية دون أدنى شك.

من هنا نجد أن صورة (البنيان) تجسّد شدّة المكر الذي خُيّل للمنحرفين إحكام قواعده، وحينما يقول النص بأن الله قد أتى (بنيانهم من القواعد) فهذا يعني أن المكر من أساسه قد تهدم نهائياً، وحينما يقول النص بأنه قد (خرَّ عليهم السقف من فوقهم) فهذا يعني أن الأمل أو اليقين الذي بنوا عليه مكرهم قد باغته الهدم بنحوٍ يجدون من خلاله أن (السقف) وهو رمزٌ فني للاطمئنان

 

______________________________________________________

الصفحة 458

 

الذي غشيَهم قد خرّ عليهم من فوقهم.

طبيعياً، أن السقف لابدّ أن يخرّ من (الفوق) إلا أن تأكيد ذلك: ينطوي على سرّ فنيّ هو أن المكر يمحق بأهله قبل غيرهم، بمعنى أن سقوط السقف من فوقهم هو بمثابة مَن ينظر بوضوح إلى عملية السقوط بنحو يتناسب مع نظره سابقاً إلى إحكام البنيان الذي بناه.

المهم، إن هذه الصورة الفنية ـ كما سنلاحظ ذلك في المقاطع اللاحقة من السورة ـ وظّفت فنياً لإحكام الربط بين موضوعات السورة التي ستتردد أصداؤها وتتجاوب عمارتها بعضها مع الآخر.

 

* * *

 

قال تعالى: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلِموا لنُبوئنّهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون).

في هذا المقطع من السورة طرحٌ ثانوي في سياق الأفكار العامة للنص، هذا الطرح يتمثل في ظاهرة (المهاجرة من أجل الله) وما يواكب ذلك من عمليتي (الصبر) و(التوكل).

إن (المهاجرة) تمثّل واحداً من أنماط السلوك العبادي المقترن بأهمية كبيرة. فالمهاجر يفارق أهله وأرضه وممتلكاته من أجل المحافظة على دينه مبتغياً بذلك مرضاته تعالى... انه عملية (تأجيل) لشهوات الإنسان، انه مكابدةٌ لشدائد الحياة التي جعلها الله محكاً واختباراً للسلوك البشري. بيد أن هذه الشدائد سوف تُعوَّض ـ ليس أخروياً فحسب ـ بل دنيوياً أيضاً حيث يشير المقطع إلى أن المهاجرين عن أوطانهم في سبيل الله سوف يمنحهم الله تعالى (في الدنيا حسنة) أي: سوف يظفرون بنتائج إيجابية في هذه الحياة، وهذه النتائج قد تتمثّل في الوطن الجديد من حيث توفير الوسائل المطلوبة. وقد

 

______________________________________________________

الصفحة 459

 

تتمثل في عملية (النصر) بحيث يعود المهاجر إلى وطنه الأول: وقد تحرّر من الظالمين، فيحيا حياة حرّة تُوفّر له الإشباع المطلوب.

إذاً، المهاجرة في سبيل الله سوف تقترن بتعويضٍ دنيويٍ حَسَنٍ في نهاية المطاف... لكن ينبغي أن تقترن المهاجرة قبل ذلك بسمتَين من السلوك أشار المقطع إليهما ونعني بهما (الصبر) و(التوكل) (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)...

إن (الصبر) أساساً يُعدّ السمة الرئيسة للسلوك العبادي، فما دامت الحياة قائمة على التجاذب بين الخير والشر، فإن (الصبر) ـ أي مصارعة الشرّ بما يحمله من الشهوات ـ يُعدّ: السمة الوحيدة لمصارعة الشهوات.

وأمّا (التوكل)، فإنه يجسّد العنصر الذي تتقوّم به عملية (الصبر)، بمعنى أن (التوكل) على الله سوف يدفع الشخصية إلى أن تمارس (الصبر) على شدائد الحياة، مفوضةً أمرها إلى الله تعالى.

إذاً، الجديد في المقطع الذي نتحدث عنه هو: تثمين الله تعالى لشخصية المهاجر في سبيل الله ولفت الانتباه على أهميتها مقترنة مع (الصبر) و(التوكل)...

بعد ذلك يتقدم النص بمقطع آخر يعود من خلاله إلى الأفكار العامة التي طرحتها مقدمة سورة النحل، ومنها: فكرة أن الله (ينزّل الملائكةَ بالروح من أمرِهِ على مَن يَشَاءُ مِنْ عبادِه أنْ أنذِرُوا أنَّه لا إله إلا أنا فاتقون) حيث يعود المقطع الجديد إلى صياغة هذه الفكرة: لكن من خلال بُعد جديد لها. (وما أرسلنا مِن قبلِك إلاّ رجالاً نُوحِي إليهم فاسألوا أهلَ الذكِر إن كنتم لا تعلمون). فهنا تفصيل لما أجملته المقدمة التي قالت بأنّ إنزال الملائكة بالروح إنما هو من أجل إنذار الناس ومطالبتهم بالتوحيد، حيث يفصّل المقطع الجديد هذا الجانب بقوله (أفأمِنَ الذين مَكَرُوا السيئات أن يخسِفَ اللهُ بِهِمُ الأرضَ

 

______________________________________________________

الصفحة 460

 

أو يأتِيَهُمُ العذابُ مِن حيثُ لا يشعرون * أو يأخُذَهُمْ في تقلّبِهم فما هم بِمُعْجِزينَ أو يأخُذَهُم على تخوّفٍ فإنَّ ربّكُمْ لرؤوفٌ رحيم).

إن هذا التفصيل قائم على عمارة بالغة الإحكام من حيث البناء الهندسي للسورة، فقد سبق للنص أن تحدّث عن معطيات الله تعالى: من حيث تسخيره كل شيء للإنسان، وها هو النص يحذّر هؤلاء الذين انحرفوا عن مبادئ الله تعالى، يحذّرهم من إمكانية أن يخسف بهم الأرض (بما تحمله من معطياتٍ قد سُخِّرت لهم) أو يحرمهم منها في مختلف مجالات الحياة.

وهذا بالنسبة إلى المعطيات.

وأمّا بالنسبة لتوحيد الله تعالى حيث طالبت المقدمةُ بقولها (أنه لا إله إلا أنا فاتقون)... بالنسبة لهذا الجانب يفصّل المقطع الجديدُ ذلك بقوله (وقال الله لا تتخذوا إلهَين اثنَينِ إنما هو إلهٌ واحِدٌ فايّايَ فارْهَبُونِ * ولهُ ما في السماواتِ والأرضِ ولهُ الدِّينُ واصباً أَفَغَيَرَ الله تَتَّقُون).

فالجديد هنا هو: المطالبة بعدم الشرك؛ وهو تجسيد لقوله (لا إله إلاّ أنا) ثم تجسيد لقوله (فاتقون) حيث يُنكر النص على المنحرفين إتقّاءَهم غير الله تعالى (أفغير الله تتقون).

إذاً، جاء هذا المقطعُ مفصلاً للإجمال الذي طرحته مقدمة السورة مما يُفصح عن إحكام البناء الهندسي للسورة وتلاحم موضوعاتها بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وما بكم من نعمةٍ فمن الله، ثم إذا مسّكم الضرّ فإليه تجئرون * ثم إذا كشف الضرَّ عنكم إذا فريق منكم بربهم يُشركون * ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون).

 

______________________________________________________

الصفحة 461

 

هذا المقطع من سورة النحل يطرح إحدى ظواهر التركيبة النفسية للآدميين وهي ظاهرة (الشدائد) التي تواجه الإنسان والطريقة التي يستجيب لها من خلال علاقته بالله تعالى.

فأولاً يطرح المقطع قضية التوازن النفسي عند الإنسان فيشير إلى أن (النعمة) أو (الراحة) أو (الإشباع) أو (التوازن الداخلي) للإنسان: إنما يوفّرها الله تعالى (ما بكم من نعمة فمن الله).

وهذه هي القاعدة العامة.

بيد أن (الشدائد) بصفة عامة أيضاً تظل هي السمة والمحك للشخصية (وهي ما تناولها مقطع سابق)، والفكرة التي تنتظم هذا المقطع تطرح أمامنا قضية الشدائد وصلة ذلك بما يقابلها وهي (النعمة) ثم صلتهما بالإستجابة أو ردود الفعل التي تصدر الشخصية عنها حيال ذلك من خلال علاقة الشخصية بالله.

إن الشخصية تتجه بالدعاء إلى الله حينما تواجه شدائد الحياة (ثم إذا مسّكم الضرّ فإليه تجئرُون) ... فإذا كشف الله الشدائد عن الشخصية (ثم إذا كشف الضرّ عنكم إذا فريق منكم بربّهم يشركون).

هذه العملية النفسية التي ألمح المقطع إليها، تشكّل سمة ملحوظة لدى الآدميين، وهي سمة ذات طابع مَرَضي خطير لأنها ـ ببساطة ـ تفصح عن كفران الشخص بالنِعَم وعدم تثمينها أي تكشف عن موت الجهاز القيمي عند الشخص، فلو استعرنا مثالاً عادياً من حياتنا اليومية للحظنا مثلاً أن الشخص عندما يواجه شدة كبيرة يفرّجها عنه أحد إخوانه بعد أن يتجه إليه بطلب مُلح، ثم يُعرض الشخص عن أخيه الذي أنجز حاجته: حينئذٍ فإن حكماً على وساخة هذا الشخص يظل موضع إجماعٍ من الكلّ طالما يكشف مثل هذا السلوك عن موت جهاز القِيَم لديه ويتحوّل إلى كائنِ لا صلة له بالإنسان. فإذا نقلنا هذه

 

______________________________________________________

الصفحة 462

 

الحقيقة إلى صلة الشخص بالله تعالى (حيث أن كشف الشدائد تنحصر فاعليتها بالله تعالى) حينئذٍ أمكننا أن ندرك مدى وساخة الشخص الذي يعرض عن الله تعالى بعد أن يستجيب تعالى لدعاء الشخص.

وأياً كان، فإن هذه العملية النفسية التي أشار المقطع إليها، تظل (من حيث عمارة السورة وتنامي موضوعاتها فنيّاً) مقدمةً لطرح آخر هو (الشرك) حيث يشكل هذا الموضوع واحداً من الأفكار العامة التي طرحتها مقدمة السورة، وجاء وسطُها ليفصّل الكلام فيها.

لذلك نجد أن النص ما أن ينتهي من هذا المقطع الذي ختمه بقوله تعالى (إذا فريق منكم بربهم يُشركون) حتى يطرح موضوعاً يتصل بظاهرة (الشرك) من حيث المفهوم العام... فالشخص الذي واجه إحدى الشدائد، ثم اتجه إلى الله، ثم كشف الله الشدائد عنه، ثم أعرض الشخص عن الله بعد ذلك: إنما هو يصدر عن عملية (شرك) بالله: حيث يُخيّل إليه أن مصدراً آخر ساهم في كشف الضرّ عنه.

من هنا، فإن النص ما أن ينتهي من تحديد هذا النمط من (الشرك) حتى يتجه ـ كما قلنا ـ إلى نمط آخر منه يحدده بالنحو التالي: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون * ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى...الخ).

إن هذا المقطع وَصَل بين مفهوم (الشرك) المتمثل في تخيّل الشخص أنّ كشف الشدائد غير منحصرٍ في فاعلية الله تعالى، وبين (الشرك) المتمثّل في جعْل الأصنام ذات نصيب في الرزق مثلاً، كما يصل المقطعُ ذلك بنمط ثالث من (الشرك) هو: الفصم بين الأناث والذكور حيث يجعلون الأول لله تعالى والآخر لهم.

ويُلاحظ أن المقطع وَصَل (عمارياً) بين ظاهرة (الأناث) المذكورة وبين

 

______________________________________________________

الصفحة 463

 

التعامل الجاهلي مع الأنثى: حيث طرح المقطع ظاهرة (وأد البنات) بالنحو الذي سنتحدث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون).

هذا المقطع القرآني المتصل بكيفية التعامل الجاهلي مع الأنثى (المولودة): يجيء في سياق الحديث عن الأفكار العامة التي تنتظم عمارة السورة: حيث كانت فكرتا (التوحيد والشرك) واحدةً من الأفكار المذكورة، وحيث كان (إشراك الأنثى) واحداً من مفردات الشرك التي عالجتها سورة النحل.

لكن، خارجاً عن عمارة النص يعنينا أن نتحدث عن هذه الظاهرة (ظاهرة التعامل الجاهلي مع الأنثى) من حيث إنطواؤها على السمة الفنية في صياغة ذلك. لقد عبّر المقطع عن إستجابة الجاهليّ للمولود الأنثوي بجملةٍ من الصور الفنيّة مثل صورة (إسوداد الوجه) وصورة (الكظم) وصورة (التواري) وصورة (الإمساك على الذل) وصورة (الدس في التراب).

إن هذه الصُور الفنية التي تجمع بين التركيب المباشر وغير المباشر للصورة، تنطوي على أهمية كبيرة في حقل الفن: من حيث صلتها بتحديد الاستجابات البشرية الشاذة وصلة ذلك بالفكرة العامة التي تنتظم هيكل السورة، ونعني بها فكرة (الشرك) وصلة هذه الاستجابات الشاذة بذلك.

لقد جاءت الصورة الأولى لتقول لنا: ان الجاهلي (وهو يجعل لله البنات كما تحدث بذلك مقطعٌ سابق) يظل وجهه مسوداً حينما يُبشَّر بأن المولود له هو (أنثى)... إن إسوداد الوجه هنا نابعٌ من كونه قائماً على تخيّل مَرَضيّ بأنّ

 

______________________________________________________

الصفحة 464

 

الأنثى دون الذكر مرتبطة بإرادة السماء، أي خارجاً عن إرادة الشخص، وهو أمرٌ يتسبّب في تأزيم الشخصية وتوترها بنحوٍ بالغ الشدة حيث يجيء إسوداد الوجه تعبيراً ملائماً لدرجة التوتر الداخلي لأمثلة هذا الشخص المنحرف. ولا أدل على شدة التوتّر من إنعكاس ما هو نفسي على ما هو عضوي أي: إنعكاس الألم النفسي في التغيّر العضوي للوجه.

ولعل الصور الفنية التي تتابعت بعد ذلك: تفصح لنا عن الانعكاسات المذكورة بشكل واضح، فصورة (الكظم) (وهو كظيم) تعبّر عن شدة الحزن والغيظ والحنق الذي يغلّف الشخص وانعكاس ذلك عليه في صورة (اسوداد الوجه)، كما أن صورة (التواري عن القوم) (يتوارى من القوم من سوء ما بشّر به) وصورة (إمساك الأنثى على ذلك) أو (دسّها في التراب): تعكس النتائج المترتبة على اسوداد الوجه: المترتّب بدوره على شدة الحزن.

إن التواري عن القوم يعكس أشد الحالات المرضيّة عند المنحرف، أنه لا يقوى على مواجهة الحقائق فيهرب منها متوارياً عن الآخرين، كما أن الصراع الذي يحياه بعد ذلك يعبّر بدوره عن أشد الحالات مرضاً عند المنحرف، فالصراع ـ في اللغة المرضية ـ تعبيرٌ واضح عن توتّر الشخصية وفقدانها للتوازن الداخلي، وعملية الصراع هنا تتمثل في كون المنحرف تتجاذبه قوّتان: الأولى أن يحتفظ بالأنثى وهو ذليلٌ إجتماعياً، والأخرى أن يدفنها في التراب، فالذل الاجتماعي يتعارض مع الحاجة إلى التقدير من الآخرين، كما أن الوأد يتعارض مع الحاجة أو الدافع إلى البنوّة ولا يمكن إنهاء هذا الصراع إلاّ بتوفر الوعي العبادي للشخصية، وهو أمرٌ منعدم لدى الشخصية الجاهلية أو أية شخصية منحرفة منعزلة عن السماء ومبادئها.

والملاحظ أن انعكاسات ذلك لا تنحصر في عصرٍ خاص بل تمتد إلى مطلق العصور والثقافات، حيث نلحظ الاستجابات الشاذة حيال الأنثى

 

______________________________________________________

الصفحة 465

 

المولودة في الحياة اليومية الحاضرة التي تحياها مجتمعاتنا.

وأياً كان الأمر، يعنينا ـ بعد ما تقدم ـ أن نشير إلى إحكام البناء الهندسي للسورة من حيث الصلة الفنية بين مقدمة السورة ووسطها الذي تحدث عن مفهوم (الشرك) رابطاً بين أشكاله المختلفة وانعكاس ذلك ـ من ثم ـ في الاستجابات الشاذة حيال الأنثى، على النحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (ولو يُؤاخِذُ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابةٍ ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّىً فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب انّ لهم الحسنى لا جرم أنّ لهم النار وأنهم مفرطون * تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليّهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون).

في هذا المقطع طرحٌ وإعادةٌ لأفكار سابقة، إلا أنها وردت في سياق آخر. الجديد فيه هو تقرير لإحدى حقائق السلوك المنحرف وصلته بالجزاء، فالسلوك المنحرف عن مبادئ الله، سواء أكان معصيةً تصدر من المسلم أو شركاً يصدر عن الكافر: إنما يجرّ وراءه مسؤولية ضخمة يتغافل الإنسانُ عنها في غمرة إنغماسه في زخارف الحياة الدنيا، هذه المسؤولية تتمثل في ملاقاته لجزاءٍ حتمي حدده الله في اليوم الآخر. وقد سلك المقطعُ منحىً فنياً بالغ الإثارة حينما أوضح بأن مؤاخذة الناس على ظلمهم لو كان دنيوياً لما ترك الله على الأرض شخصاً منحرفاً إلاّ وأهلكه.

ومن الواضح أن مثل هذا الأسلوب في إنذار المنحرفين يدع الشخصية في موقفٍ مُرعبٍ كلّ الرعب ورهيبٍ كل الرهبة مما يضطرها ـ في غمرة هذه الاستجابة المحفوفة بالخوف الرهيب ـ إلى تعديل سلوكها إذا كانت ذات حظٍ

 

______________________________________________________

الصفحة 466

 

من التوفيق أو الاستعداد لتعديل السلوك.

والآن، بعد تقرير هذه الحقيقة المتصلة بالسلوك البشري والجزاءات المترتبة عليه، يعود المقطع إلى طرح فكرة سابقة طرحها النص في مقطع أسبق يخصّ المنحرفين الذين أشركوا بالله من خلال جعلهم ما يشتهون من البنين: لأنفسهم وما يكرهونه من الأناث لله تعالى، حيث أعاد المقطع الجديدُ طرح هذا الجانب لكن من خلال مفهوم (الجزاء) الذي أشرنا إليه، فهؤلاء المنحرفون (تَصِفُ ألسِنَتُهُم الكَذِبَ أنّ لَهُمُ الحُسْنى) أي أن لهم الجزاء الإيجابي في سلوكهم المذكور. فالسياق الجديد هنا هو ربط الفكرة السابقة بقضية الجزاء الذي طرحه المقطع الجديد وهو أن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم لما أبقى أحداً منهم على وجه الأرض.

إذاً، من حيث البناء الهندسي للنص نجد أن إعادة ما هو مطروح في مقاطع سابقة إنما طُرِح الآن في سياق جديد يتناسب مع أفكار المقطع الجديد وهو أمرٌ يُشيع جمالية فائقة من حيث إحكام عمارة النص وتواشج خطوطها الهندسية.

وهذا الإحكام نلحظه بوضوح أيضاً حيث سبق أن طرحها في مقاطع متقدمة أيضاً ونعني بها: الأفكار التي استهل النصُ بها (سورة النحل) بعد مقدمتها وهي قضية العطاء الذي أجراه الله على عباده متمثلاً في الثروة الحيوانية والطبيعية، فقد جاء الموضوع الأول من السورة متحدثاً عن (الأنعام) وإلى أنها ذات (دفء ومنافع) و(طعام) و(جَمال) و(ركوب). كما جاء الموضوع اللاحق له مشيراً إلى ثروة المطر متمثلة في (التراب) و(إنبات الزرع)... هاتان الإشارتان لكل من المطر والأنعام يعيد المقطع الجديد صياغتها الآن: لكن في سياق جديد أيضاً، وفي طرح جديد أيضاً، ولنقرأ:

(وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ

 

______________________________________________________

الصفحة 467

 

لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ... فالملاحَظُ هنا أنَّ كُلاً مِنَ الأنْعَامِ والمطر والثمرات جاء وفق طرحٍ لم يُذكر سابقاً... إحياء المطر للأرض يجيء بعد الإشارة إلى موتها وليس مطلقاً، والأنعام يجيء الحديث عنها متصلاً بالحليب فحسب، والثمرات يجيء الحديث عنها من حيث كونها ذات سَكَرٍ ورزق حسن وليس من حيث كونها مجرد ثمر كما جاء ذلك في مستهل السورة.

إذاً، جاء الحديث عن هذه الثروات الطبيعية والحيوانية: جديداً مفصّلاً لما هو مجمل في مستهل السورة، أو طرحاً لمعطيات أخرى يفرزها المطر والثمر والأنعام، كما أنه ذو صلة بما سوف نلحظه من موضوعات لاحقة في النص القرآن الكريم.

 

* * *

 

قال تعالى: (وأوحى رَبُّكَ إلى النحلِ أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون * ثمَ كلي من كل الثمرات فاسلكي سُبلَ ربك ذللاً يخرج من بطونها شرابٌ مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون).

هذا المقطع الخاص بإحدى الثروات الحيوانية (النحل) امتدادٌ لمقطع سابق أشار إلى ثروات حيوانية وطبيعية أخرى وقفنا عليها (المطر، الأنعام، الثمرات)، ولعل استقلال النص بالحديث عن هذه الثروة الحيوانية (العسل). هذا الاستقلال بالحديث عن (النحل وشرابها) له دلالته الفنية والفكرية دون أدنى شك، فأولاً ثمة إشارة إلى التركيبة التي تسم النحل من حيث كونها (قد أُلهِمت) اتخاذ المكان المعدّ لإفراز ثروتها الغذائية: العسل، (وأوحى ربُّك إلى النحل...)، ثانياً: ثمة إشارة لحقيقة علمية تتصل بذكر المادة التي تتغذى

 

______________________________________________________

الصفحة 468

 

منها... ثالثاً: ثمة إشارة علمية إلى تنوّع البيئات الموفّرة لها (الجبال، الشجر، العريش)... رابعاً: ثمة إشارة طبية إلى المادة التي تفرزها (فيه: شفاء). أخيراً: ثمة إشارة (جمالية) إلى المادة المذكورة. وهنا ينبغي ألاّ نغفل بأن مستهلّ سورة النحل عندما عرض لظاهرة الأنعام وسواها عرض لهما من حيث (الفائدة والجمال) (ولكم فيها جَمال) (لتركبوها وزينةً).

وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يعرض أيضاً لهذا الجانب المزدوج للنحل (الفائدة والجمال) فيشير إلى الجانب الجمالي بقوله (شرابٌ مُخْتلِفٌ أَلوانُه)، ويشير إلى الجانب النفعي بقوله (فيه شفاء).

إذاً، من حيث عمارة النص هناك تواشجٌ هندسي يُحكم مقاطع السورة فيشيع فيها جماليةً فائقة من حيث الخطوط التي تنتظم هيكل النص.

وأما من حيث القيم الفكرية للمقطع فيكفي أن نشير إلى أنّ أهمية ذلك لم تنحصر في الحقائق العلمية الأربع التي انطوى عليها عرضُ السلوك المتصل بالنحل وبيئتها، بل أن الأهمية تتجاوز ذلك إلى ضخامة الفائدة التي تنطوي عليها مادة (العسل): ليس بصفته نمطاً من الغذاء فحسب، ولا بصفته متميزاً بطعم خاص فحسب: بل بصفته (شفاءً) للأمراض، كما أن (الشفاء) لم ينحصر في الظواهر الجسمية فحسب: كما هو شأن الكثير من النباتان بل يتجاوز الظواهر الجسمية إلى الظواهر العقلية والنفسية، بمعنى أن العسل يشكل مادةً طبيةً تساهم في شفاء الأمراض الثلاثة التي ينحصر المرضُ فيها ونعني بها: الأمراض الجسمية والنفسية والعقلية.

إن النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم السلام، تفصّل الكلام في هذا الجانب، مشيرةً إلى تنوّع الفوائد المترتبة على تناوله، ممّا يكشف لنا السرّ الفنيّ لاستقلال النص بالحديث عن النحل والعسل: كما أشرنا.

المهم، أن النص القرآني بعد أن يختم حديثه عن الثروات الحيوانية

 

______________________________________________________

الصفحة 469

 

والطبيعية بالحديث عن النحل، يتجه ـ بعد ذلك ـ إلى طرح موضوعات أخرى متنوعة تتصل بمعطيات الله المختلفة وبما يواكبها من ظواهر من مثل الحديث عن التركيبة الآدمية وما أودع فيها من المعطيات، ثم ما يتصل منها بمراحل العمر، وبالحياة الزوجية والعائلية والبيئية المسخرة للإنسان: حيث تصبّ هذه الموضوعات في رافد فكري موحّد يتصل بمعطيات الله، ثم ارتباطها ذلك كله بالهيكل الفكري العام للسورة.

 

* * *

 

قال تعالى: (والله خَلَقَكُم ثم يتوفّاكم ومنكم مَن يردّ إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً إن الله عليم قدير * والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضّلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون).

في هذا المقطع عرض لمعطيات الله المختلفة مصحوبة بذكر بعض الحقائق الكونية المتصلة بالإنسان وغيره...

لقد عرض المقطع حقيقة تتصل بتركيبة الإنسان، وعقله ومراحل عمره وموته وهدف إيجاده، مبيّناً أن البعض يمتد به العمر إلى أرذله وهو الهرم بحيث يصبح مثل الطفل في أول عمره (لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شيئاً)... إن هذه الحقيقة بالرغم من كونها تبدو وكأنها مجرّد تقديم معلومات عن عمر الإنسان ومرحلة هرمه وصلة ذلك بعقله، إلا أنها في الواقع تنطوي على جملة من المعطيات تتجاوز كونها مجرد علمٍ بالحقائق، فالعلم منفصلاً عن الوعي العبادي لا قيمة له البتة، بل ينبغي توظيفه من أجل الهدف العبادي والإفادة منه في تصعيد السلوك أو تعديله. وقد ترك المقطعُ لنا مهمة الكشف لهذه الحقائق كلاً حسب تجربته ووعيه العبادي، فقد نستكشف أنّ قضية الميلاد والموت (والله خلقكم ثم يتوفاكم) ترتبط بهدف عبادي هو ممارسة الخلافة في

 

______________________________________________________

الصفحة 470

 

الأرض، ونستكشف من بلوغ الشخص مرحلة الأرذل من العمر حتى ليصل إلى نقصان عقله، إنّه ينبغي أن يستثمر الإنسان مرحلة شبابه وكهولته لتحقيق المهمة العبادية قبل أن ينقص عقله، وهكذا.

المهم، أن خطورة الفن ـ في بعض خصائصه ـ أن يدع المتلقي مساهماً في الكشف عن الحقائق بنفسه لجملة من الأسباب، منها: إن عملية الكشف ذاتها هي ممارسة عبادية من حيث كونها تتطلب جهداً عقلياً في سياق الأنماط الأخرى من الجهد المطلوب بذلُه في تجربة الإنسان، ومنها: إن عملية الكشف سوف تتوافق مع طبيعة الثقافة أو الوعي لدى القارئ حيث يستكشف كلّ قارئ نمطاً خاصاً من الحقائق يتناسب مع تجربته الخاصة، وفي هذا إثراء للقراء جميعاً دون إخضاعهم لتفسير واحد من الأفكار، ومنها: أن عملية الكشف ذاتها تقترن بإمتاع جمالي عندما يجد الإنسان نفسه قد ساهم بالكشف عن الحقائق، لا أنّ الحقائق قد قدّمت إليه جاهزةً لا عناء في كشفها.

المهم، أن عملية الكشف التي يمكن أن تصدر عنها حيال قضية خلق الإنسان وموته وهرمه ونقصان عقله: يمكن الصدور عنه أيضاً حيال الموضوعات الأخرى التي طرحها المقطع، ومنها: قضية الرزق فقد أشار المقطع إلى أن قضية الرزق مرتبطة بحكمة الله حيث فضل بعضهم على بعض في ذلك، وهو أمر قد تركه النص للقارئ أيضاً يستخلص بنفسه حكمة ذلك، متمثلة في أن زيادة الرزق عند البعض من الممكن أن تقتاده إلى ما يكره في دنياه وآخرته مثلاً، وأن الحكمة اقتضت تقليله للسبب المتقدم، والأمر نفسه بالنسبة إلى زيادة الرزق. ويُلاحظ أن المقطع ربط بين قضية الرزق وبين صلة الشخص بالعبيد الذين يملكهم (فما الذينَ فَضلوا بِرَادي رِزْقِهِم على ما مَلكتْ أيْمانُهُمْ فَهُمْ فيهِ سَواءٌ أفَبِنِعْمَةِ الله يَجحَدُونَ)... وفقاً للنصوص المفسّرة، إن هذا الربط يتصل إمّا بالحقيقة الذاهبة إلى أن الرزق كله من الله: للأحرار

 

______________________________________________________

الصفحة 471

 

والعبيد حيث لا فضل للحر على العبد في إنفاقه عليه، أو يتصل بالحقيقة الذاهبة إلى أن كراهة الحر مشاركة العبيد أمواله ينبغي أن تقتاد المشركين إلى رفض مقولتهم المنحرفة التي تحاول أن تضع شريكاً مقبلاً لله، فكما يكرهون مشاركة العبيد أموالهم: فلماذا لا يكرهون مشاركة الغير لله تعالى؟.

إن كلاً من التفسيرين له إسهامه الفنّي في عمارة النص دون أدنى شك، فما دام النص ـ بمجموعه ـ يطرح جملة من القضايا المتصلة بتوحيد الله وعطائه: حينئذٍ يسهم هذا التفسير أو ذاك في الفكرة العامة للسورة.

 

* * *

 

قال تعالى: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون * ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً ولا يستطيعون * فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتهم لا تعلمون).

هذا المقطع امتداد لمقطع سابق يتحدث عن نِعَم الله على الآدميين... إنه يشير إلى الحياة الزوجية، ثم الذرية المترتبة على ذلك، ثم مطلق الطيّبات التي تحقق مختلف الإشباع لحاجاتهم... وإزاء هذه الإشارة القائلة (ورزقكم من الطيبات) يعرج المقطع إلى الفكرة التي طرحتها مقدمة السورة وهي فكرة تتحدث عن قيام الساعة والتحذير من الإنحراف والشرك... هذه الفكرة يصل النصُ الآن بينها وبين المقطع الذي يتحدث عن الرزق والطيبات فيقول (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون * ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً ... فلا تضربوا لله الأمثال) إنه (من حيث عمارة النص فنياً) يصل بين أجزاء السورة، كما أنه (من حيث الأفكار) إنما يربط بين نِعَم الله وبين ضرورة استثمارها للعمل العبادي، أي أن نِعَم الحياة الزوجية، والذرية، والطيّبات من الرزق ليست مجرد أهداف في حد ذاتها بل أنها ينبغي أن ترتبط

 

______________________________________________________

الصفحة 472

 

بمفهوم عبادي هو التوحيد: وليس جعل الانداد والأمثال لله تعالى مع أنها لا تملك إمكانية الرزق وسواها مما طرحه المقطع.

هنا يتقدم النص برسم صورتين فنيتين أو ـ وفقاً للمصطلح النقدي ـ صورتين تمثيليتين لتعميق الدلالة المذكورة في الأذهان، ونعني بها دلالة (التوحيد) وما يقابلها من الفكر الوثني الذي يحاول إشراك الحجارة وغيرها في فاعلية الوجود، يقول النص: (ضرب الله مَثَلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومَن رزقناه منّا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون ... الحمد لله بل أكثرُهم لا يعلمون * وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم).

إنَّ هدين (المثلين) أو (الصورتين التمثيليتين) تنطويان على أسرار فنية بالغة الدهشة والجمال حينما نمعن النظر فيهما، فالصورتان تربطان بين فكرة التوحيد والشرك من خلال ظاهرة واحدة هي علاقة الحرّ والعبد من حيث إمكاناتهما المادية والعقلية، ففي الصورة الأولى طرح المقطع إمكانية العبد مادياً فألغاها منها (عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء)، وفي الصورة الأخرى طرح إمكانيته العقلية فألغاها أيضاً (أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلّ على مولاه).

إذاً، الإمكانات المادية التي يمكن أن تجعل الشخص ذا فاعلية في الإنفاق على الغير، والإمكانات العقلية التي يمكن أن تجعل الشخص ذا فاعلية في تمييز طرق الخير، هذه الإمكانات بنمطيها منعدمة لدى المملوك، حينئذٍ كيف يسمح المنحرفون الذين يعون حيناً انعدام الإمكانات المذكورة عند المملوك: كيف يسمحون لأنفسهم (وهم مملوكون) لله أن يجعلوا لله أنداداً يشاركونه في فاعلية الوجود؟ مع أن الحجر لا يملك (وهو في ذلك في مثل

 

______________________________________________________

الصفحة 473

 

 

المملوك) أو أشد افتقاراً منه للفاعليات التي تسمح له بالمشاركة في الرزق أو سواه.

إن المملوك (وهو على قدرٍ قليل من فاعلية العقل والتصرف) لا يستوي مع الحر في حجم عقله وتصرّفه، فكيف يستوي الحجر (الصنم) مع الله تعالى مع أن الحجر لا يملك أية فاعلية في نطاق العقل والتصرّف.

ويُلاحَظ، أن المقطع طرح خلال هاتين الصورتين قضيتي الرزق والعقل من خلال رسمٍ خاص هو الإنفاق سراً وجهراً (بالنسبة إلى الرزق)، والأمر بالعدل والمشي على صراط مستقيم (بالنسبة إلى العقل)، مما يعني أن مجرد الإمكانية المادية والعقلية لا قيمة لهما إلا إذا وُظّفا من أجل العمل العبادي.

وهذا النمط من صياغة المفهومات بنحوها غير المباشر الذي لحظناه يُعدّ في قمة الدهشة والجمال الفني، فبدلاً من أن يتحدث المقطعُ مباشرة عن الإمكانات المادية وضرورة استثمارها من خلال الإنفاق سراً وجهراً، وبدلاً من أن يتحدث مباشرة عن الإمكانات العقلية وضرورة استثمارها من خلال الأمر بالعدل والمشي على الصراط المستقيم... بدلاً من أن يتحدث النص عن ذلك بالنحو المباشر: سلك منحىً فنيّاً غير مباشر يجعل القارئ يستكشف بنفسه هذه الدلالة سواء أكان ذلك بوعي منه أو بغير وعي.

المهم، أن مستويات الصياغة الفنية للأفكار المشار إليها قد تمت من خلال بناء عماري متلاحم الجزئيات بسمات الجمال والدهشة، سواء أكان ذلك في نطاق المقطع أو نطاق مقاطع السورة جميعاً.

 

* * *

 

قال تعالى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *

 

______________________________________________________

الصفحة 474

 

ألم يروا إلى الطير مسخرات في جوّ السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون...).

هذا المقطع وما بعده يتحدث عن جملة من معطيات الله تعالى، وهي معطيات تكفلت سورة النحل بعرض نماذج كثيرة منها بدأتها بمعطى الثروات الحيوانية والطبيعية وبمعطيات أخرى تتصل بتركيبة الإنسان وحياته الفردية والاجتماعية، واصلةً ذلك بالمفهوم العبادي للسلوك، أي: مُطالِبةً الإنسان بإدراك هذه المعطيات وتوظيفها من أجل الله.

إن سرد هذه المعطيات يتمّ وفق بناءٍ هندسي يتوزّع كل قسم منها في مقطع خاص يتخلله طرح لقضية عبادية وهكذا...

المقطع الذي نتحدث عنه قد استُهل بقضية مهمّة هي قيام الساعة بصفتها الحصيلة التي تحسم مستقبل الإنسان أخروياً وفقاً لما مارسه من السلوك العبادي في حياته الدنيا، لقد استُهلت سورة النحل بالحديث عن قيام (أتى أمر الله فلا تستعجلوه...).

وها هو المقطع الذي نتحدث عنه يصل بين قيام الساعة التي استُهلت السورةُ بها وبين المعطيات المتنوعة التي أعقبت الحديث عن قيام الساعة، بمعنى أن المبنى الهندسي للسورة لا زال يحوم على موضوعين يرتبط أحدهما بالآخر: قيام الساعة والمعطيات، كل ما في الأمر أن كل مقطع جديد يطرح موضوعاً جديداً... الجديد هنا، أن المقطع تحدث عن قيام الساعة من خلال كون وقوعها سريعاً (كلمح البصر أو هو أقرب) حيث يشكّل هذا الموضوع تفصيلاً لما أجملته مقدمة السورة التي قالت (أتى أمْرُ الله فلا تستَعْجلوه). إن المطالبة بعدم الاستعجال يفصلها المقطع الآن قائلاً بأن ذلك كلمح البصر أو هو أقرب.

هذه الصورة الفنية (التشبيه) تجسّد أكثر من سمة فنيّة، فهي ليست قائمة

 

______________________________________________________

الصفحة 475

 

على المبالغة في وصف الشيء بل تجسّد واقع الغيب بنحوٍ يتجانس مع الإدراك البشري المحدود. فقيام الساعة وكونه مثل لمح البصر أو أقرب هو أمرٌ حقيقي بالنسبة إلى فاعلية الله تعالى، بل أن قوله تعالى بأن قيام الساعة أقرب من لمح البصر إنما يدع القارئ مرشحاً لأن يتصوّر مدى قدرة الله التي لا تحدّ... ولا شيء يقرّب إلى القارئ هذه الدلالة أكثر من الإشارة إلى أن فاعلية الله لا حدود لها، بحيث أن الشيء الذي هو أقرب من لمح البصر بالنسبة لإمكانات الله سوف لن يتحدد في مدىً أو زمان نسبي بل يظل مطلقاً متناسباً مع الفاعلية المطلقة لله تعالى.

إذاً، هذه الصورة الفنيّة أو (التشبيه) ليست ـ كما يتوهم البعض ـ قائمة على المبالغة في توصيف الشيء بل أنها تجسد الواقع الغيبي أو إمكانات الله بحقيقتها المطلقة، وهو أمر يكشف عن مدى خطورة البُعد الفنيّ لهذه الصياغة.

والآن بعد أن ينتهي المقطع من هذه المقدمة المتصلة بقيام الساعة: يبدأ بوصلها فنيّاً بالمعطيات المتنوعة التي يطرحها الآن في المقطع الجديد، ليصلها بعد ذلك أيضاً بالحديث عن الساعة وما يترتب عليها من خلال السلوك البشري الذي يتعامل عن المعطيات وعن قيام الساعة أيضاً..

إذاً، نحن الآن أمام مبنى هندسي بالغ الإحكام والجمالية من حيث تلاحم الموضوعات وتواشجها بعضاً مع الآخر... والمطلوب هو أن نعرض لهذه المعطيات التي سَرَدها المقطع.

لقد تحدث المقطع عن كون الإنسان (وقد خرج من بطن أمّه لا يعلم شيئاً): ثم جعل له السمع والبصر والفؤاد لعلّه يشكر الله، وتحدث المقطع عن كون (الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلاّ الله) وإنَّ في ذلِك (لآيات لقوم يؤمنون).

 

______________________________________________________

الصفحة 476

 

لقد انتخب المقطع ظاهرتين تتصل إحداهما بالإدراك البشري (سمع، بصر، فؤاد)، والأخرى بإبداع الطير: علماً بأن مقدمة السورة وما بعدها تحدثت مفصلاً عن الثروات الحيوانية وتسخيرها للإنسان، وهو أمر يكشف لنا تجانس الطرح لهذا الجنس الحيواني جُمِعَ فيه بين كونه إبداعاً من الله وكونه مسخراً للإنسان، كما أنه يتجانس فنياً مع الطرح للجنس البشري الذي أوضح الله مدى السمات الإبداعية فيه (سمع، بصر، فؤاد).

إذاً، لا زلنا نتحسس مدى جمالية وإحكام المبنى العماري للسورة وللمقطع الذي تحدثنا عنه من حيث وصل الموضوعات بعضها مع الآخر بذلك النمط الفني الذي لحظناه، حيث يتابع النص القرآني طرح الموضوعات الأخرى المتصلة بمعطيات الله أيضاً: خلال مقاطع لاحقة سنقف عليها.

 

* * *

 

قال تعالى: (والله جعل لكم من بيوتكم سكناً وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين * والله جعل لكم مما خلق ظلالاً، وجعل لكم من الجبال أكناناً وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتمُّ نعمته عليكم لعلكم تُسلمون * فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين * يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون).

هذا المقطع امتدادٌ لآيات سابقة تتحدث عن معطيات الله تعالى في مختلف المجالات بشرياً، حيوانياً، نباتياً، من حيث صلتها بحاجات الإنسان وإشباعها... المقطع الحالي يتحدث عن الحاجة المتصلة بالمسكن، والملبس بعد أن كانت المقاطع السابقة تتحدث عن المطعم ونحوه.

إن كلاً من المسكن والملبس يمثل حاجات أساسية لا مناص منها في عملية التكييف مع الحياة، حيث أشار المقطع أولاً إلى الحاجة السكنية متمثلةً

 

______________________________________________________

الصفحة 477

 

في قطعة الأرض التي تُتخذ (بيتاً) يأوي الإنسان إليه بنحو عام، ثم تحدث عن البيوت المتنقلة التي تخص الأقوام غير المستقرين، مشيراً إلى الإفادة من جلود الأنعام في صناعة البيوت المذكورة، وإلى الإفادة من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز في التصنيع المتصل بالفرش وغيرها من أمتعة البيت. كما أشار المقطع إلى البيوت الجبلية أيضاً مثل (الكهوف) ونحوها مما تخص بيئات معيَّنة.

ويلاحظ أن الإشارة إلى البيئة السكنية: تمّت من خلال استغراقها لكل البيئات والأقوام: حيث تحدث عن مطلق البيوت أولاً حيث يتداعى الذهن من خلالها إلى بيئة المدينة، ثم تحدث عن البيئات الصحراوية والجبلية، مفصحاً بهذا النمط من الحديث عن كون النص القرآني يجمع ـ فنياً ـ بين العام والخاص لتتحقق بذلك سمة الفن الذي لا يخص زمناً دون آخر ولا قوماً دون آخرين.

بعد ذلك، تحدث المقطع عن الحاجة المتصلة بالملبس بعد الانتهاء من الحديث عن المسكن فأشار إلى الملبس بنمطيه المدني والعسكري ملفتاً النظر ـ بهذا الاصطناع لنمطي الملبس ـ إلى أهمية الحياة العسكرية بنحوٍ فنّيٍ غير مباشر (وجعل لكم سرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وسَرابِيلَ تقيكم بأْسَكُمْ).

المهم، أن المقطع ـ وهو يتحدث عن المعطيات المذكورة ـ إنما يصل بينها وبين الهدف العبادي من خلق الإنسان وهو فكرة السورة بنحو عام حيث تحوم الموضوعات المختلفة عليها. يقول المقطع معقباً على النِعَم المذكورة (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تُسلمون).

إذاً، فسردُ هذه النعم مستهدف أساساً حيث إن توفيرها للإنسان ينبغي أن يقتاده إلى أن (يُسلم) لله تعالى. لكن بما أنّ مقدمة السورة (سورة النحل التي نتحدث عنها) قد أشارت بقولها (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فإذَا هو خَصيمٌ مُبين)

 

______________________________________________________

الصفحة 478

 

حينئذٍ نتوقع ألا يُسلم غالبية الناس وأن يجنحوا إلى المغالطة والمجادلة والمخاصمة في القول، وهذا ما أوضحه المقطع الذي نتحدث عنه حيث يقول تعقيباً على نِعَم الله التي ينبغي أن تقتاد الشخص إلى تقديرها (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون).

 

* * *

 

قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون * وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون).

هذا المقطع من سورة النحل يتحدث عن جملة من مبادئ السلوك التي ينبغي على الشخصية الإسلامية أن تلتزم بها وقد سبقها حديث عن اليوم الآخر والجزاء الذي ينتظر المنحرفين واستسلامهم لهذا الجزاء: حيث جاء ذلك تعقيباً على نِعم الله التي أنكرها المنحرفون.

ومعلوم أن الحديث عن نعم الله في مختلف المجالات التي سخّرها الله للآدميين هو المحور الذي حامت عليه سورة النحل. والآن حينما يطرح المقطع الذي يتحدث عن جملة من مبادئ السلوك، يصله بنفس الفكرة الحائمة على معطيات الله تعالى، حيث يعقّب النص على ذلك بقوله (يَعِظُكُم لعلكم تَذَكَّرُون) حيث أن عملية التذكّر هي الخيط الهندسي الذي يربط بين نعم الله وبين مختلف المبادئ الإسلامية التي يطالب الله بالالتزام بها. لقد طالب المقطع بكلٍ من العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، كما طالب بالابتعاد عن الظلم، والفحشاء، والمنكر. هذه المفردات من السلوك تجيء في سياق

 

______________________________________________________

الصفحة 479

 

الفكرة العامة للسورة للفت النظر إلى أهميتها ما دام دأبُ النص ـ من الزاوية الفنية ـ هو تقديم ما يستهدفه ضمن مقاطع مختلفة ينهض كل واحدٍ منها بقسم من الأفكار الثانوية. ويُلاحَظ، أن المقطع خَتِمَ حديثه عن مبادئ السلوك المذكورة بظاهرة القَسَم أو اليمين، حيث أكّد قائلاً (ولا تَنْقُضوا الأيمانَ بعدَ توكيدها وقد جعلتُمُ الله عليكم كفيلاً) ثم قدّم صورة فنيّة تتمثل في (تشبيه) بين المرأة الحمقاء التي تنقض ما تغزله وبين الحمقى الذين يقسمون بالله ثم ينقضون قَسَمهم بمخالفة ذلك: إيثاراً لمتاع الحياة الدنيا.

واضحْ، أن النص القرآني الكريم عندما يؤكّد على سلوكٍ دون آخر، وعندما يفصّل الحديثَ عن هذا السلوك، وعندما يقدم (صورة فنية) عنه: إنما يعني ذلك: أهمية السلوك المذكور وانعكاساته على الشخصية الإسلامية.

إن القَسَم بالله ليس مجرد عملية توثيقَ يلجأ الشخصُ إليها لتأكيد حقٍ من الحقوق مثلاً بل يتجاوز ذلك إلى كون القَسَم مرتبطاً بأقدس ما يمكن تصوّره في الوجود وهو: مُبدعُ الوجود، وهذا يعني ضرورة أن يتقيّد الإنسان بالقَسَم ما دام الوجود كله ـ بما في ذلك: المكسب الذي يسعى الشخص إلى تحصيله من خلال القَسَم بالله ـ مرتبطاً بفاعلية الله ... من هنا قدّمَ النص (تشبيهاً) فنياً بالغ الأهمية حينما ربط بين ظاهرة مألوفة في أذهان الناس وهي نقض الغزل بعد أن تصرف المرأة جهداً كبيراً في صناعته.

إن الهدف من (الغزل) هو: الإفادة منه، أي إشباع الحاجة التي يتحسسها الشخص، كما أن صرف الوقت والجهد من خلال ذلك إنما هو تأكيد لأهمية تلك الحاجة. حينئذٍ إذا نقضت المرأة كلَّ ما غزلته لا يعدو كونها حمقاء لا تملك قابلية على التمييز، وهو نفس السمة التي تطبع الشخص عندما يفتقد قابلية التمييز بين أهمية (القَسَم بالله) وبين المكسب الدنيوي العابر الذي مرّره من خلال (القسم بالله). فإذا كان هدف الإنسان هو الحصول على مكسب

 

______________________________________________________

الصفحة 480

 

 

 

ما، حينئذٍ ما فائدة أن يمارس سلوكاً يفضي به ليس إلى ضياع المكسب المذكور فحسب بل ضياع الوقت والجهد اللذين بذلهما من أجل المكسب المذكور، وهو نهاية الحَمَق الذي يمكن أن نتصوره في أمثلة هذا السلوك.

إذاً، جاءت الصورة الفنية المذكورة (تشبيه نقض القَسَم بنقض النسيج أو الغَزْل) تجسيماً حياً لإبراز أحد أنماط السلوك المقترن بحماقة الإنسان: بخاصة أن التشبيه وقد حام على (المرأة) التي تمارس الغزل حيث أن ضآلة قواها النفسية والعقلية والجسمية يجعل قضية نقضها للغزل أو لمطلق المكاسب مقترناً بحماقةٍ أشد حجماً من سواها، بمعنى أنه لا حماقة أشدّ من كون الإنسان: يتخذ (القسم بالله) جسراً لتمرير مصالحه التي يُخيّل إليه أنه سوف يحققها، في حين أن الجهد والوقت اللذين بذلهما من أجل المكاسب العابرة سوف يتلاشيان تماماً من خلال تهديمه بنفسه للمكسب المذكور، وهو نهاية الحماقة كما أشرنا.

ويلاحظ أن النص القرآني الكريم لم يكتف بالنهي عن القسم بالله (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) بل أكّده من جديد في آية مستقلة لاحقة (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا). هذا التأكيد (من خلال إعادة النهي) يدلنا على مدى مفارقة السلوك المذكور وضرورة التفكير بنتائجه المنهيّ عنها: بصفة أنّه سلوك يومي يصدر عنه الشخوص في مختلف مجالات تعاملهم دون أن ينتبهوا على مدى المسؤولية المترتبة عليهم في هذا الميدان على النحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانُه على الذين يتولَّونه والذين هم به مشركون).

 

______________________________________________________

الصفحة 481

 

هذا المقطع يتحدث عن الاستعانة بالله في دفع وساوس الشيطان محدداً صلة الشيطان بالمنحرفين وانقطاعها عن الملتزمين.

إن هذا المقطع بالرغم من وضوح دلالته، إلا أنّه يلخص تجربة الإنسان العبادية وتحديد هويته التي تترتب عليها صياغة مستقبله الخالد وعلاقة ذلك بقربه من الله تعالى أو بُعده عنه تعالى، فضلاً عما يترتب على ذلك من الجزاء الأبدي: النعيم أو الجحيم.

أهمية هذا المقطع تتمثّل في جانبين: أحدهما فاعلية الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ثم ما يترتب على ذلك من تحديد العلاقة بين الله والشخص من جانب وبينه وبين الشيطان من جانب آخر. أمّا الاستعاذة فبالرغم من كونها سلوكاً لفظياً إلا أنه يقترن ـ دون أدنى شك ـ بمدى تفاعل الشخصية وجدانياً مع دلالة الاستعاذة... بمعنى أن إنفعال الشخصية وتمثّلها وتجاوبها الداخلي وقناعتها بما تنطوي عليه دلالة الاستعاذة إنما يترك أثراً كبيراً في تعديل سلوك الإنسان.

وإذا أدركنا أن القلب أو النية هي الأساس في السلوك، أمكننا حينئذٍ أن نفهم فاعلية الاستعاذة بالله من وساوس الشيطان.

إن توجّه الشخص إلى الله وطلبه منه تعالى أن يدفع عنه وساوس الشيطان (مع استعداده لترجمة ذلك إلى سلوك عملي) يجسّد الفاعلية التي أشرنا إليها.

صحيح أن المقطع يتحدث عن (الاستعاذة) في صعيد محدد هو (قراءة القرآن) أي: عند الصلاة مثلاً أو مطلق التلاوة، حيث أن الاستعاذة المذكورة تسحب فائدتها على القارئ للقرآن من حيث عدم وقوعه في أخطاء القراءة أو تفسيرها، إلا أن هذا الصعيد الخاص من الاستعاذة ينبغي سحبه على السلوك العام أيضاً بدليل النصوص الشرعية الأخرى التي تحوم على هذا الجانب العام: مثل المعوَّذتين اللتين تطالبان الشخص بأن يعوذ بالله تعالى من شر خلقه، من

 

______________________________________________________

الصفحة 482

 

شر غاسق إذا وقب، من شر النفاثات في العقد، من شر حاسد إذا حسد... من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس...الخ.

والآن، خارجاً عن الاستعاذة المذكورة من حيث خصوصيتها في قراءة القرآن أو عموميتها في مطلق السلوك، خارجاً عن ذلك، فإن المقطع ـ كما قلنا ـ ينتقل من هذا الجانب إلى جانب آخر هو تحديد سلطة الشيطان وانعدامها بالنسبة إلى المنحرف أو الملتزم.

بالنسبة إلى المنحرف يحدد النصُ القرآني الكريمُ سلطة الشيطان: بأنها منحصرة في الأشخاص الذين يتولونه أي يطيعون شهواتهم غير المقيدة بمبادئ الله بنحو عام، وفي الأشخاص المشركين به تعالى.

ومن الواضح أن شطر المنحرفين إلى أشخاص يطيعون الشيطان بنحو عام: كما لو مارس المسلمُ مثلاً هذا الذنب أو ذاك، وإلى أشخاص مشركين بخاصة، إنما يدلنا على عمومية النص القرآني الكريم من حيث مخاطبته للشخصية الإسلامية وغيرها، كما يدلنا على اهتمام النص بالنمط الانحرافي المشرك: بصفة أن السورة من جانبٍ خصّصت مساحةً كبيرة منها بمعالجة السلوك المشرك، وإلى أن هذا السلوك ـ من جانب آخر ـ يمثّل (ليس شريحة اجتماعية في زمان خاص هو: زمان النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في مواجهته للمشركين فحسب) بل يتجاوزه ـ وهذا هو السمة الفنية للنص القرآني الكريم ـ إلى مطلق السلوك المشرك الذي يقرن ما هو من أجل الله بما هو ليس من أجل الله.

والمهم، أن المقطع القرآني المذكور عندما حدّد صلة المنحرفين بالشيطان (فاسقين ومشركين) وإلى أن سلطته منحصرة فيهم: قد حدّد قبل ذلك ـ كما أشرنا ـ علاقة ذلك مع المؤمنين حيث أعدمها نهائياً بقوله تعالى (انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون).

وهذا يعني أن (المؤمن) ـ وهو الملتزم بمبادئ الإسلام ـ لا سبيل

 

______________________________________________________

الصفحة 483

 

للشيطان إلى قلبه... ثم أفرز المقطع من الشخصية المؤمنة: سمة خاصةً شدّد عليها وهي سمة (التوكّل)، فبالرغم من أن (التوكل) هو واحد من سمات الشخصية المؤمنة، إلا أن إفرازه في سمة خاصة وإكسابها استقلالاً، إنما ينطوي على أهمية (التوكل) على الله في دفع وساوس الشيطان، وهو توكلٌ يرتبط ـ من حيث البناء العماري للمقطع ـ بقضية الاستعانة بالله من الشيطان الرجيم حيث استهل المقطع بها.

إذاً، أمكننا الآن إدراك كلٍ من الجانبين الفكري والفني لهذا المقطع القرآني... الفكري الذي تحدث عن أهمية الاستعانة بالله وتحديد علاقة الشيطان بالمنحرف وانعدامها عند الملتزم.. والفني الذي لحظنا مدى تلاحم مفردات المقطع المذكور فيما بينها، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وإذا بدّلنا آية مكان آيةٍ والله أعلم بما ينزّل قالوا إنما أنت مفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبّت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين * ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين * إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم * إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون).

في هذا المقطع طرحٌ لبعض أنماط السلوك عند المنحرفين، حيث ذكرت السورةُ في مقدمتها إن الله (خَلَقَ الإنسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فإذا هُوَ خَصِيمٌ مُبين)، وها هو المقطع الحالي يجسد لنا ـ فنيّاً ـ بعض أنماط الجدال والمماحكة والتخاصم الذي يصدر عنه المنحرف: تبعاً للمقدمة التي أشارت إجمالاً إلى هذا الجانب وتفصله الآن في هذا المقطع وغيره.

من أنماط المخاصمة أو المماحكة أو الجدال المَرَضي: ذهابُ

 

______________________________________________________

الصفحة 484

 

المنحرفين (وهم المشركون المعاصرون لرسالة الإسلام) إلى أن محمّد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ مفترٍ بدليل أن القرآن مبدّل بعض آياته مثلاً (وإذا بَدَّلْنَا آيةً مكانَ آيةٍ)... وذهابهم أيضاً إلى أنه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يعلّمه بشرٌ مثله في ميدان سرد القصص وغيرها، حيث تذكر النصوص المفسرة أن بعض النصارى هم الذين عناهم المنحرفون في الادّعاء المذكور.

وقد أجابهم النص على الادعاء الأول: بأن تبدّل آية مكان آيةٍ إنما يخضع لحكمة الله تعالى (والله أعْلَمُ بِما يُنَزَّلُ) وأجابهم على الادعاء الآخر بأن لسان أولئك النصارى المزعومين هو (أعجمي) في حين أن لغة القرآن عربيةً مبينة (لِسانُ الذِي يُلْحِدُونَ إليهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسانٌ عربِيٌ مُبِين).

بعد ذلك يتحدث النص عن فئات أو أفراد قد يصدر عنهم نمط من السلوك غير المقبول ظاهراً، وهذا مثل مَن يمارس (التقية) مثلاً حيث يقدّم النص تفسيراً لمسوغات هذا السلوك ومستوياته وافتراقه عن سواه.

فهناك ـ كما يقول المقطع ـ (مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) أي مَنْ يكره من قِبَل الطغاة على أن يقول كلاماً يتفق مع وجهة نظرهم، مثل هذا الشخص لا غبار على سلوكه ما دام قد مارس هذا السلوك لفظياً دون أن يصدر عن حقيقة أعماقه، إنما مارسه ليحقن بذلك دَمه. وقد ذكر النص نموذجاً عملياً للإيمان لدى أمثلة هؤلاء الذين مارسوا (التقية) متمثلاً في أولئك الذين (هاجروا من بعد ما فُتنوا ثم جاهدوا وصبروا) كما يقول النص، حيث عقّب على سلوكهم المذكور قائلاً: (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) بمعنى أنه تعالى يغفر للنمط الذي عُذِّبَ في الله وجامل الطغاة لفظياً بأن وافقهم ظاهراً على وجهة نظرهم المنحرفة.

أمثلة هذا النمط ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان مغفور له: على الضدّ من النفر الذي يتجاوب واقعياً مع أفكار الطغاة حيث عقّب على هذا النفر

 

______________________________________________________

الصفحة 485

 

المتجاوب قائلاً (ولكن مَن شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله).

إذاً، ثمة معيار رسمه المقطعُ بالنسبة لمن يمارس سلوكاً لفظياً مخالفاً لحقيقة أعماقه، هذا السلوك مقبول إسلامياً إذا كان الشخص قد أكره عليه بنحوٍ يحقن به دمه. بيد أن ذلك ـ كما تفصّله نصوصُ الحديث الوارد عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وأهل بيته المعصومين ـ عليهم السلام ـ ـ مشروط بأوضاع خاصة يستطيع الشخص بنفسه أن يقدر من خلالها ما إذا كانت (التقية) لها مسوغاتها أم لا، فإذا كانت ـ التقية ـ تجرّ الشخص إلى أن يسفك دماً محللاً مثلاً حينئذٍ لا تقية في هذا الميدان لأنها شرّعت أساساً من أجل حقن الدم، فلا معنى حينئذٍ لأن يسفك دماً من أجل حقن دمه كما لو اضطر أحد الجنود المنتسبين إلى سلطة ظالمة أن يقتل أخاه في الإيمان: حينئذٍ لا معنى لأن يمارس الجنديُ المذكور (التقية) فيقتل أخاه المسلم ليحقن به دمه بل يتعيّن عليه تحمّل كلٍ من السجن أو التعذيب.

والأمر نفسه بالنسبة لموارد أخرى تتحدد المصلحة من خلالها في عدم (التقية)... والمهم، أن الشخص نفسه أعرف من سواه بالموارد التي ينبغي استخدام (التقية) فيها أو عدم ذلك، بالنحو الذي أشرنا إليه.

 

* * *

 

قال تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنةً يأتيها رِزْقُها رَغَداً من كلّ مكان فكفرتْ بأنْعُمِ الله فأذاقَها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون * ولقد جاءهم رسول منهم فكذّبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون).

هذا المقطع يتضمن صورة فنية من الصور التي تأخذ أشكالاً متنوعة من التركيب في النصوص القرآنية الكريمة.

الصورة هنا (تمثيلية) مقابل الصورة (التشبيهية)... الصورة التشبيهية قد تكون ذات واقع (حسي) وقد تكون (نفسية) لا واقع لها في الحسّ، أو قد تكون (غيبية) لا واقع لها في التجربة الحياتية...

 

______________________________________________________

الصفحة 486

 

أما (التمثيلية) فتتجسّد في واقعة قد تكون ذات طابع تجريبي حَدَث، أو يمكن أن يحدث فعلاً... ولعل أهمية هذه الصورة يفرضها سياق خاص يحقق قسطاً كبيراً من الإثارة.

السياق هنا يتمثل في الآية الكريمة التي تعقب على صورة المدينة التي كانت آمنةً مطمئنة ذات يوم، ينعم أهلها بمختلف الطيبات، إلا أنهم لم يقدّروا هذه النعمة، فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف. لقد عقبت الآية الكريمة على هذا الجانب بقولها (ولقد جاءهم رسولٌ مِنْهُمْ فكذّبوه فأَخَذهُم العذابُ وهم ظالمون).

الهدف إذاً، هو مجيء رسالة الإسلام حيث كذّب الجاهليون هذه الرسالة (فأخذهم العذابُ وهم ظالمون). والصورة (التمثيلية) جاءت لتبلور هذا السياق الذي وردت فيه: حتى يتم من خلال التماثل بين المدينتين المدينة السابقة التي كفرت بأنعم الله.. والمدينة الحاضرة التي كفرت برسالة الإسلام، يتمّ إحداث التأثير المباشر على المتلقي.

والمألوف في صياغة الصور الفنية (ومنها: صور القرآن ذاته) أن يتقدم الطرف الأول، أي: المشبّه على المشبه به: كما لو افترضنا أنّ المقطع الذي نتحدث عنه يقول للمنحرفين: إذا كفرتم برسالة الإسلام فسوف يكون نصيبكم مماثلاً لقوم سابقين كفروا بنعم الله مثلاً، إلا أنّه ـ في الصورة التمثيلية المتقدمة ـ جعل الأمر معكوساً، فما هو السرّ الفني في ذلك؟.

في تصورنا أن قضية التقديم تنطوي على لفت النظر لأهمية وخطورة ما يعتزم النص تقديم المثال له: فأولاً نجد أن السورة الكريمة ركّزت على قضية نعم الله المختلفة على الآدميين (الأنعام، النحل، المطر، النبات...الخ) وحينما قدمت الصورة التمثيلية المتصلة بسلوك المنحرفين إنما ركّزت أيضاً على جانب النِعَم، فلم تتحدث عن الجانب العقيدي عند هذه القرية بل تحدثت

 

______________________________________________________

الصفحة 487

 

عن الكفران بالنعم فحسب، وهو أمر يتساوق مع المحور الفكري للسورة كما يفسّر لنا تقديم هذا الجانب مضافاً إلى خطورة ما ترتب على الكفران بالنعم مما يسوغ التقديم للمشبه به أيضاً.

والمهم الآن هو الوقوف عند محتويات الصورة التمثيلية أولاً وصياغتها ثانياً.

أما محتوياتها فتتمثل في تقديم جانبين يشكلان أهم دوافع الشخصية هما: الحاجة إلى الطعام والحاجة إلى الأمن، أما الحاجة إلى الطعام فلأنها تحقق استمرارية وتدفّق الحياة، وأما الحاجة إلى الأرض فلأنها ـ في حالة توفر الطعام دون أن يصحبه أمن واستقرار ـ تظل مطبوعة بأهمية كبيرة هي عدم فائدة توفير الطعام المصحوب بالخوف نظراً لعدم إمكانية التحسّس بمعطيات الطعام. هذا يعني أن محتويات الصورة التمثيلية جاءت منتقاة منتخبة بنحوٍ يتوافق مع أشد الحاجات أهميةً وإلحاحاً عند الإنسان.

لننظر جديداً إلى صياغة هذا الجانب (قريةً كانت آمنة مطمئنة) ثم (يأتيها رزقُها رَغَداً) حيث شددت الصورة على كل من (الاطمئنان) و(الأمن) مع أن أحدهما كافٍ في إثارة الهدف الفكري، إلا أن تسجيل كليهما (الأمن والاطمئنان) يكشف عن أشد مستويات الإشباع المتحقق في القرية المذكورة. والأمر نفسه بالنسبة إلى كون (رزقها يأتيها رغداً) فسِمةٌ (رغد) تعني أشد مستويات الاشباع أيضاً حيث: إن مجرد مجيء الرزق وتوفره كافٍ في إثارة الهدف، لكن النص بإضفاء صفة (الرغد) على الرزق أكسبه مزيداً من الإشباع أو التوازن أو الراحة التي طبعت مجتمع القرية المذكورة.

الملاحظ أيضاً، أن (التمثيل) المتقدم تضمن صورة فرعية داخل الصورة الرئيسة... الصورة الرئيسة هي (الأمن والاطمئنان والرزق الرغد)، وأما الفرعية فهي صورة (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) إلا أن هذه الصورة

 

______________________________________________________

الصفحة 488

 

الفرعية جاءت (صورة مركبة: تشبيه، استعارة، كناية، الخ) حيث ربط المقطع بين ظاهرتين هما: الجوع أم الخوف واللباس، أي أوجَدَ علاقة جديدة بينها هي: كون كل من الجوع والخوف قد خُلِعَ عليه اللباس.

وأهمية هذا الخلع ـ من الزاوية الفنية ـ تتمثل في شمولية وشدة الخوف والجوع بحيث يغطيان مجتمع القرية مثلما يغطّي اللباسُ البدن.

إذاً، أمكننا الآن إدراك أهمية الصور التمثيلية بمستوياتها المختلفة فضلاً عن بنائها المادي الذي يربط بين أجزاء المقطع الواحد، وبين المقاطع المختلفة بالنحو الذي سنتحدث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيّباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إيّاه تعبدون * إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم * ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم).

من المحاور الفكرية التي حامت عليها سورة النحل هو: الثروة الحيوانية والطبيعية التي يستثمرها الكائن الآدمي في ظاهرة (الطعام) حيث كان الموضوع الأول في السورة وما بعدها يتحدث عن الأنعام والأسماك والنحل والنبات ونحوها من العنصر المتمثّل بالغذاء في زحمة الحديث عن معطيات الله تعالى. هنا ـ في المقطع الذي نتحدث عنه ـ يتقدم النص بعرض المحظور من الطعام وغيره مما حرّمه الله تعالى مقابل الطعام المحلّل الذي أشرنا إليه، وهذا يعني ـ من حيث عمارة السورة وتلاحم أجزائها هندسياً ـ إن موضوع الطعام من حيث كونه أهم محاور السورة من جانب، ومن حيث تقابل ما هو محللٌ ومعطىً حيال ما هو محظور من جانب آخر، يعني أننا حيال عمارة جميلة من

 

______________________________________________________

الصفحة 489

 

بناء الموضوعات وتجانسها، الطعام من حيث كونه معطىً، والطعام من حيث كونه محلّلاً مقابل ما هو محرمٌ، حيث تكفّل المقطع نفسه ببيان هذا التقابل الهندسي بين المحلل والمحظور، وذلك عندما استهلّ المقطعُ موضوعاته بقوله (فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله...).

إن الحلال الطيب وكونه مرتبطاً بضرورة الشكر لِنعم الله تعالى لم يرد تفصيل فيه، إلا أن تفصيلاته تقدمت في أول السورة ووسطها كما أشرنا... لذلك اكتفى المقطع بمجرد الإشارة حتى يتحقق عنصر الاقتصاد اللغوي من جانب وحتى يربط بين الموضوعات الموزعة في مقاطع متنوعة ومتباعدة من السورة من جانبٍ آخر، وهو ما عنيناه بجمالية البناء الهندسي.

والآن، خارجاً عن المبنى الهندسي، يحسن بنا أن نتابع دلالة المقطع وما يطرحه من الأفكار.

المقطع أشار إلى الميتة ولحم الخنزير بصفتهما أحد أنماط الطعام المحرّم، كما ألمح إلى (الدم) أيضاً، وهو بالرغم من كونه ليس بطعام إلاّ في موارد استثنائية، بيد أنه يجسّد عنصراً مشتركاً بينه وبين الميتة ولحم الخنزير من حيث كونها جميعاً منتسبة إلى ما هو (نجسٌ) من الأشياء. كما أضاف إلى ذلك نمطاً آخر هو (ما أهلّ لغير الله) ويقصد به ما ذبح من الحيوان بغير الوجه الشرعي وهو غير المذكى منه. والمهم، بعد ذلك. إن المقطع القرآني المذكور بعد أن أوضح النمط المحرّم من الطعام قبالة المحلّل منه، أورد استثناءً من قاعدة التحريم متمثلاً بقوله تعالى (فمن اضطّر غير باغٍ ولا عادٍ فإن الله غفور رحيم) حيث أن اضطرار الشخص بسبب حصر الطعام في المحظور وكونه لابدّ أن يسدّ الجوع الذي لا مجال لتأجيل إشباعه ما دام حاجةً حيويةً ملحة: حينئذٍ فلا مانع ـ في الحالات الاستثنائية المذكورة من التناول للطعام المحظور.

أخيراً، حذّر المقطع من مخالفة هذه التوصيات المتصلة بنمط الطعام

 

______________________________________________________

الصفحة 490

 

إباحةً أو حظراً (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام الخ) بصفة أنّ الإباحة أو الحظر محكومان بالمصلحة التي رسمها الله دنيوياً، وبصفة أنّ المخالفة عن ذلك لا ينسحب ضرره على المخالف صحيّاً فحسب بل يتجاوزه إلى الضرر الأخروي ما دام عدم الالتزام بمبادئ الله يستاق الشخصية إلى أن تتعرض للجزاء السلبي في اليوم الآخر.

إذاً، المقطع المتقدم تكفّل (من حيث الأفكار) بتوضيح ما هو محظور من الطعام مقابل ما هو محللٌ منه، كما أنه تكفّل (من حيث البناء الهندسي) بوصل الموضوعات بعضها بالآخر، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.

 

* * *

 

قال تعالى: (إن إبراهيم كان أمّةً قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين * شاكراً لأنعُمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنةً وانه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين * إنما جُعِل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).

بهذا المقطع تُختَم سورة النحل التي بدأت بالحديث عن الساعة، وإنذار الناس، وكونهم مخاصمين مُلحّين في الخصومة (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين)، ثم تحدثت مفصلاً عن الثروات الحيوانية والطبيعية التي سخّرها الله للآدميين. وخُتمت السورة بهذا المقطع الذي يتحدث عن إبراهيم، واليهود، والمجادلة، بالتي أحسن، والقصاص، والعفو، والصبر.

 

______________________________________________________

الصفحة 491

 

قد يتساءل البعض: ما هي الصلة الفنية بين هذه الموضوعات المختلفة من جانب وبينها وبين مقدمة السورة ووسطها من جانبٍ آخر؟

إن أقصوصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ تشير إلى أنه ـ عليه السلام ـ كان وحده مجتمعاً أو أمةً، وهذا من الوضوح بمكان إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ مجتمع إبراهيم كان منحرفاً بأكمله بما في ذلك أقربهم إليه نسباً ونعني به: أباه، وحينئذٍ عندما ينفرد وحده بقضية الإيمان، ويجاهد المنحرفين وحده (قضية تهشيمه الأصنام ومحاكمته وإنقاذه) لابدّ أن يكون ـ كما وصفه الله تعالى (كان أمّة قانتاً لله)... وقد منحه الله ـ تبعاً لما تقدم ـ خصوصيةً وتميّزاً في رسالته وهي (الحنيفية) وأمر محمداً ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ باتّباع مبادئها. والملاحظ أيضاً أن المقطع وصف إبراهيم ـ عليه السلام ـ بأنه (شاكر) لنعم الله (شاكراً لأنعُمه).

عمارياً: تظل قضية (الشكر) واحدةً من أهم المحاور الفكرية لسورة النحل حيث عدّد فيها النص قضية النِعمَ (الأنعام لحومها ومنتجاتُها، الأسماك، العسل، شرابه وشفاؤه للأمراض، الزرع، الزيتون، النخيل، الأعناب، وكل الثمرات...الخ). هذه النعم التي ورد ذكرها مفصلةً ومكررةً في السورة قد اقترنت بمطالبة (الشكر) حيالها، وهو أمرٌ يفسّر لنا سرّ التلاحم بين سمة (الشكر) التي خلعها المقطع على إبراهيم ـ عليه السلام ـ وبين مطلق (الشكر) الذي أشرنا إليه.

يُلاحظ أيضاً، أن المقطع عرض للسلوك الإسرائيلي في قضية (السبت)، كما عرض لسلوكهم في مقطع أسبق يتصل بتحريم بعض الطعام عليهم، وبانحرافهم في غمرة حديث النص عن معطيات الغذاء الذي شكل أهم محاور السورة كما قلنا، والسؤال هو: ما هي الصلة الفنية بين السلوك الإسرائيلي من جانب، وسلوك إبراهيم من جانب آخر؟.

بعامة أن الشخصية اليهودية بصفتها أشدّ الشخصيات أو المجتمعات

 

______________________________________________________

الصفحة 492

 

انحرافاً طوال التاريخ (منها موقفهم من رسالة الإسلام) حيث يتحدث النص عن المجتمع المعاصر لهذه الرسالة وكونه (خصيماً مبيناً): حينئذٍ فإن تسجيل مواقف المجتمع اليهودي يجيء في مقدمة التدليل على انحراف المجتمع المذكور. أما صلة ذلك بإبراهيم ـ عليه السلام ـ فقد جاء في سياق كونه ـ عليه السلام ـ (أمّة) وحده، وإلى أنه (ما كان من المشركين) وإلى كونه ـ عليه السلام ـ (شاكراً لأنعمه تعالى) وإلى أن اتباع حنيفيته موضع مطالبةٍ حتى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم... كل أولئك يجسّد أولاً السمات المضادة للسلوك الإسرائيلي (الخصومة، التمرد، الشرك الخ)، ثم يجسّد جانباً آخر هو كونه ـ عليه السلام ـ مقدمة (النَسَب) الذي يُعنى الإسرائيليون بالانتماء إليه، ثم يجسّد ـ ثالثاً ـ أحد المواقف المتجانسة فنيّاً مع المحور العام للسورة وهو نِعَم (الطعام) الذي سخره الله للآدميين: فيما جاءت قضية (السبت) وصلتها بصيد الأسماك (وهي ظاهرة تنتسب إلى الطعام) متجانسةً مع المحور الفكري للسورة مما يفسّر لنا واحداً من سرار الصلة بين انتخاب قضية (السبت) دون غيرها من نماذج السلوك المتمرد عند الإسرائيليين.

أخيراً، طرح المقطعُ الختاميُ قضية (المجادلة بالتي هي أحسن) حيث تشكّل جواباً فنيّاً لمقدمة السورة التي وصفت الإنسان بأنه (خصيم مبين). فالمنحرف المتخاصم يقف على الضد منه: (الجدال بالتي هي أحسن) فكأن النص يريد أن يقابل بين مضادات السلوك المنحرف والسلوك الإسلامي.

يُلاحظ أيضاً، أن المقطع الختامي طرح قضية (القصاص) و(الصبر) و(العفو) (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به ولئن صبرتم لَهُوَ خيرٌ للصابرين) وهي ظواهر تتصل بطرائق التبليغ لرسالة الإسلام، ونمط المواجهة لأعدائه، حيث أن مقدمة السورة طالبت المبلّغين بإنذار الناس (ان أنذروا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتقون) وحيث جاء الختام متحدثاً عن مستويات هذا الإنذار من

 

______________________________________________________

الصفحة 493

 

حيث صلته بمواقف المنحرفين (واصبِرْ وما صَبْرُكَ إلا بالله ولا تحزنْ عليهم ولا تكُ في ضِيقٍ مما يمكُرُون).

إذاً، جاءت الخاتمة متجانسةً مع بداية السورة من حيث تلاقي موضوعاتها وتناميها وتقابلها وفق مبنىً هندسي بالغ الإحكام والجمال، بالنحو الذي تقدم الحديث عنه مفصلاً.

 

 

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337945

  • التاريخ : 29/03/2024 - 07:24

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net