00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 125 ـ 157 ( من ص 378 ـ 449) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الأول)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآية

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَـكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125)

التّفسير

عظمة بيت الله

بعد الإِشارة إلى مكانة إبراهيم(عليه السلام) في الآية السابقة، تناولت هذه الآية موضوع عظمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم(عليه السلام)، فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وَإِذْ» أي أُذكروا: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمناً).

المثابة من الثوب، أي عودة الشيء إلى حالته الاُولى. ولما كانت الكعبة مركزاً يتجه إليه الموحدون كلّ عام، فهي محل لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الاُولى، ومن هنا كانت مثابة. وكلمة «مَثَابَةً» تتضمن معنى الراحة والإِستقرار، لأن بيت الإِنسان ـ وهو محل عودته الدائم ـ مكان للراحة والإِستقرار، وهذا المعنى تؤكده كلمة «أَمْناً» التي تلي كلمة «مَثَابَةً» في الآية. وكلمة «لِلنَّاسِ» توضح أنه ملجأ عام لكل العالمين، ولكل الشعوب المحرومة.

وهذه الصفة للبيت هي في الحقيقة استجابة لأحد مطاليب إبراهيم(عليه السلام) من ربّه

(378)

ما سيأتي.

ثمّ تضيف الآية: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلىًّ).

اختلف المفسرون في معنى «مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ»، قيل: إنّ كل الحج هو مقام إبراهيم. وقيل: إنه «عَرفة» و«المشعر الحرام» و«الجمار الثلاث»، وقيل: كل حرم مكة مقام.

ولكن يبدو من ظاهر الآية أن المقام هو مقام إبراهيم المعروف الكائن قرب الكعبة، وذهبت إلى ذلك الرّوايات وكثير من المفسّرين. وعلى الحجاج أن يصلّوا خلفه بعد الطواف، ومن هنا كان هذا المقام «مصلّى».

ثم تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل(عليهما السلام) بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلين: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

وفي التطهير قيل: إنه التطهير من لوثة وجود الأصنام. وقيل: إنه التطهير من الدنس الظاهر، كالدم وأحشاء الذبائح التي كان يلقي بها الجهلة في البيت.

وقيل: إنه يعني إخلاص النية عند بناء البيت.

ولا دليل على تحديد مفهوم الطهارة، فهي تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كل تلويث.

لذلك نجد بعض الروايات فسرت التطهير في الآية بأنه تطهير الكعبة من المشركين، وبعضها بأنه تطهير البدن وإزالة الأدران.

* * *

بحثان

1 ـ الآثار الإِجتماعية والتّربوية للبيت الآمن:

الكعبة ـ طبعاً للآية أعلاه ـ ملاذ وبيت آمن، والإِسلام وضع الأحكام المشددة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدسة عن كل نزاع واشتباك وحرب وإراقة

(379)

دماء. وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب، بل الحيوانات والطيور آمنة أيضاً في هذه البقعة، ولا يحق لأحد أن يمسها بسوء.

وفي عالم يعجّ دوماً بالنزاع والصراع، يستطيع مثل هذا المركز الآمن أن يكون له الأثر العميق في حل المشاكل وفضّ النزاعات، إذ يستطيع الفرقاء المتنازعون أن يجلسوا حول طاولة واحدة عند هذا البيت الآمن، ويفتحوا بينهم حواراً قد يكون مقدمة لإِزالة الخصومات والنزاعات.

وقد يتفق أن ترغب الأطراف المتنازعة في إجراء مباحثات، لكنهم لا يتفقون على مكان مقبول ومحترم وآمن لدى جميع الأطراف، والإِسلام أقرّ مكة لتكون مركزاً كهذا.

واليوم، إذ المسلمون ـ مع الأسف الشديد ـ يعانون من ألوان النزاعات والإِختلافات حريّ بهم أن يستفيدوا من قداسة هذا البيت وأمنه لفتح باب المحادثات بينهم، ولرفع ما بينهم من اختلافات بفضل معنوية هذا المكان المقدس.(1)

2 ـ بيت الله

وصفت الكعبة بأنها بيت الله، وعبرت الآية عن الكعبة بـ«بَيْتِيَ». وواضح أن الله ليس بجسم، ولا يحده بيت، ولا يحتاج إلى ذلك، وهذه الإِضافة هي «إضافة تشريفية» تبيّن قدسية الشيء الذي ينسب إلى الله، ولذلك كان شهر رمضان «شهر الله» وكانت الكعبة «بيت الله».

* * *

___________________________

1 ـ بشأن أمن أرض مكة لنا بحث آخر في تفسير الآية 35 من سورة إبراهيم. (راجع المجلد السابع من هذا التّفسير).

(380)

الآية

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً ءَامِنَاً وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَّثمَرَتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)

التّفسير

إبراهيم يدعو ربّه

في هذه الآية توجّه إبراهيم إلى ربّه بطلبين هامين لسكنة هذه الأرض المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السّابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً).

وكما ذكرنا في الآية السابقة، استجاب الله لدعاء إبراهيم، وجعل هذه الأرض المقدسة مركزاً آمناً بالمعنى الواسع لكلمة لأمن.

والطلب الآخر هو: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الَّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ).

وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أوّلا، ثم «المواهب الإِقتصادية»، إشارة إلى أنّ الإِقتصاد السالم لا يتحقق إلاّ بعد الأمن الكامل.

(381)

وللمفسرين آراء عديدة في معنى «الثّمرات»، ويبدو أن معناها واسع يشمل النعم المادية والنعم المعنوية. وعن الإِمام الصادق(عليه السلام): «هِيَ ثَمَرَاتُ الْقُلُوبِ» إِشارة إلى جعل قلوب النّاس تهوي إلى هذه الأرض.

إبراهيم في دعائه إقتصر على المؤمنين بالله واليوم الآخر، ولعل ذلك كان بعد أن قال له الله سبحانه: (لاَ يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ) ففهم أن مجموعة من ذريّته سيسلكون طريق الشرك والظلم، فاستثناهم في دعائه.

والله سبحانه استجاب لإِبراهيم طلبه الثاني أيضاً، ولكنه (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَليِلا) فِي الدُّنْيا، (ثُمَّ اضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) في الحياة الآخرة.

هذه في الواقع صفة «الرحمانية» وهي الرحمة العامة للباري تعالى التي تشمل كل المخلوقات، صالحهم وطالحهم في الدنيا. أما الآخرة فهي عالم رحمته الخاصة التي لا ينالها إلاّ من آمن وعمل صالحاً.

* * *

(382)

الآيات

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)

التّفسير

إبراهيم يبني الكعبة

نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أن بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم، وكان قائماً منذ زمن آدم. تتحدث الآية 37 من سورة إبراهيم عن لسان إبراهيم تقول: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ).

وهذه الآية تدل على أن بيت الكعبة كان له نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.

(383)

وتقول الآية 96 من سورة آل عمران: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً). ومن المؤكد أن عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم، بل كانتا منذ أن خلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.

عبارة الآية الاُولى من الآيات محل البحث يؤكد هذا المعنى، إذ تقول: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.

وفي خطبة للإِمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في نهج البلاغة، وهي المسماة بالقاصعة، يقول:

«أَلاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ إِخْتَبَرَ الاَْوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ إِلَى الاْخَرِينَ مِنْ هذَا الْعَالَم بِأَحْجَار ... فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ ... ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ(عليه السلام) وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ(1)...»(2).

القرائن القرآنية والروائية تؤيد أن الكعبة بنيت أوّلا بيد آدم، ثم انهدمت في طوفان نوح، ثم أُعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل(3).

في الآيتين التاليتين يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامّة. وهذه الطلبات المقدّسة حين الإِشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة ودقيقة بحيث تشمل كل احتياجات الإِنسان المادية والمعنوية، وتفصح عن عظمة هذين النبيين الكبيرين.

قالا أوّلا: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ).

ثم أضافا: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).

___________________________

1 ـ أي أن يطوفوا حولَه.

2 ـ نهج البلاغة، صبحي صالح، ص 292 ـ (الخطبة القاصعة).

3 ـ صاحب المنار، ينكر هذا الموضوع بالمرة، ويرى أن إبراهيم وإسماعيل أول من بنى الكعبة، وهذا ما لا تؤيّده الروايات ولا عبارات القرآن الكريم.

(384)

وطلبا تفهم طريق العبادة: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَااليعبد الله حقّ عبادته.

ثم طلبا التوبة: (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذرية (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

* * *

بحثان

1 ـ هدف بعثة الأنبياء

في الآيات أعلاه، بعد أن يطلب إبراهيم وإسماعيل من الله ظهور نبي الإِسلام، يذكران ثلاثة أهداف لبعثته:

الأوّل: تلاوة آيات الله على النّاس، أي إيقاط الأفكار والأرواح في ظل الآيات الإِلهية المبشرة والمنذرة.

«يتلو» من تلا، أي اتبع الشيء بالشيء، وسميت «التلاوة» كذلك لأنها قراءة وفق تتبع ونظم. هي مقدمة لليقظة والإِعداد والتعليم والتربية.

الثّاني: «تعليم الكتاب والحكمة» ولا تتحقق التربية إلاّ بالتعليم.

ولعل التفاوت بين «الكتاب» و«الحكمة» في أن الكتاب يعني الكتب السماوية، والحكمة تعني العلوم والأسرار والعلل والنتائج الموجودة في الأحكام، وهي التي يعلمها النّبي أيضاً.

الثّالث: «التزكية» وهو الهدف الأخير.

و«التزكية» في اللغة هي الإِنماء، وهي التطهير أيضاً.

وبذلك يتلخص الهدف النهائي من بعثة الأنبياء في دفع الإِنسان على مسيرة التكامل «العلمي» و«العملي».

ينبغي التأكيد هنا على أنّ علوم البشر محدودة، مقرونة بآلاف الفجوات

(385)

المبهمة والأخطاء الكبيرة، والإِنسان أيضاً لا يطمئن بدقة إلى معلوماته، لأنه شاهد أخطائه وأخطاء الآخرين.

من هنا كان من الضروري مجيء الأنبياء بعلومهم الحقّة الخالية من الأخطاء المستمدة من مبدأ الوحي إلى النّاس، ليزيلوا أخطاءهم، ويملأوا فراغات جهلهم، ويبعثوا فيهم اطمئناناً بعلمهم.

ويلزم التأكيد أيضاً على أن الشخصية البشرية تتكون من «عقل» و«غرائز»، ولذلك كان الإِنسان بحاجة إلى «التربية» بقدر حاجته إلى «العلم»، وينبغي أن يتكامل عقله، وأن تتجه غرائزه نحو هدف صحيح.

لذلك فإن الأنبياء معلمون، ومربون، يزودون النّاس بالعلم، وبالتربية.

2 ـ «التعليم» مقدم أو «التربية»؟ ـ في أربعة مواضع ذكر القرآن مسألة التربية والتعليم باعتبارهما هدف الأنبياء، وفي ثلاثة مواضع منها قُدمت «التربية» على «التعليم» (البقرة، 151 ـ آل عمران، 164 ـ الجمعة، 2).

وفي موضع واحد تقدم التعليم على التربية (آية بحثنا). ونعلم أن التربية لا تتم إلاّ بالتعليم.

لذلك حين يتقدم التعليم على التربية في الآية فإنما ذلك بيان للتسلسل المنطقي الطبيعي لهما. وفي المواضع التي تقدمت فيها التربية، فقد يكون ذلك إشارة إلى أنها الهدف، لأن الهدف الاصلي هو التربية، وما عداها مقدمة لها.

3 ـ النّبي من النّاس ـ تعبير «منهم» في الآية (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ)يشير إلى أن قادة البشرية ينبغي أن يكونوا بشراً بنفس صفات البشر الغريزية، كي يكونوا القدوة اللائقة في الجوانب العملية. ومن الطبيعي أنهم ـ لو كانوا من غير البشر ـ ما استطاعوا إدراك حاجات النّاس والمشكلات العويصة الكامنة لهم في حياتهم، ولا أمكنهم أن يكونوا قدوة واُسوة لهم.

* * *

(386)

الآيات

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاَْخِرَةِ لَمِنَ الصَّـلِحِينَ(130) إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(131) وَوَصِّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـبَنِىَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ(132)

التّفسير

إبراهيم الإِنسان النّموذج

الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم(عليه السلام)، فتحدثت عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية.

من مجموع ما مرّ نفهم أن الله سبحانه شاء أن يكون هذا النّبي، شيخ الموحدين وقدوة الرساليين، على مرّ العصور.

لذلك تقول الآية الاُولى من آيات بحثنا هذا: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)؟!

أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة والعقل وسعادة الدنيا والآخرة، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع

(387)

العقل والإنحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا؟!

ثم تضيف الآية: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وإنَّهُ فِي الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحينَ).

نعم، إبراهيم(عليه السلام) اصطفاه الله في الدنيا ليكون «الاُسوة» و«القدوة» للصالحين.

الآية التالية تؤكد على صفة اُخرى من صفات إبراهيم التي هي الواقع أساس بقية صفاته العظيمة وتقول: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

هذا الإِنسان المتحرر من الإِنشدادات الوضيعة يسارع إلى التسليم التام حال سماعه نداء ربّه: «أسلم»، ولا يتوانى في رفض كل أوهام زمانه القائمة على عبادة النجوم والشمس والقمر، فيتركها بعد أن رآها محكومة بالقوانين التي تسود الخليقة ويقول: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(1).

مرّ بنا في الآيات السابقة أن إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) بعد بناء الكعبة طلبا من الله سبحانه أن يتقبل أعمالهما، ثم بعد ذلك طلبا أن يمنّ عليهما الله بنعمة التسليم لوجهه الكريم: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ) ومثل هذا طلباه لذريّتهما: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ).

ذلك لأن الخطوة الاُولى في سموّ الشخصية الإِنسانية الطهر والإِخلاص، ومن هنا أسلم إبراهيم(عليه السلام) وجهه لربّه دون سواه، ولذلك عرف هو ودينه بهذا العنوان.

حياة إبراهيم(عليه السلام) بأجمعها كانت مفعمة بأعمال جسيمة نادرة، نضاله المرير ضد المشركين، صموده الكبير في قلب النيران، هذا الصمود الذي أثار إعجاب نمرود الطاغية نفسه حيث راح يردد دون وعي: (مَنِ اتَّخَذَ إِلهاً فَلْيَتَّخِذْ إِلهاً مِثْلَ إِلهِ إِبْرَاهِيمَ)(2).

وكذلك إسكان الزوج والطفل الرضيع في تلك الأرض الجافة القاحلة ...

___________________________

1 ـ الأنعام، 79.

2 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 439.

(388)

والمقدسة، وبناء الكعبة، وتقديم الولد على مذبح التضحية والفداء استجابة لأمر الله تعالى ... كل واحدة من هذه الأعمال قمة من سلسلة قمم حياة إبراهيم(عليه السلام).

ووصية إبراهيم بنيه في أواخر أيّام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة: (وَوَصّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) ... فكل من إبراهيم ويعقوب وصّيا أَبْنَاءهُما بالقول: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

لعلّ القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنه مسؤول عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي.

يعقوب كإبراهيم وصّى أيضاً أبناءه، بنفس هذه الوصايا، وأكد لأبنائه أن رمز نجاحهم يتلخص في جملة واحدة، هي التسليم لربّ العالمين.

ربّما يعود ذكر اسم يعقوب هنا من بين سائر الأنبياء، إلى أن اليهود والنصارى كانوا يعتقدون بانتسابهم إلى يعقوب بشكل من الأشكال، فأرادت الآية أن توضح لهم أن خط الشرك الذي يسلكونه لا يتناسب مع منهج يعقوب، وهو منهج التسليم المحض لربّ العالمين.

* * *

(389)

الآيتان

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُوا نَعْبُدُ إلَـهَكَ وَإِلَهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمـعِيلَ وَإِسْحَـقَ إِلَـهاً وَحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)

سبب النّزول

كان جمع من اليهود يعتقدون أن يعقوب عندما حضرته الوفاة أوصى بنيه أن يعتنقوا اليهودية (بتحريفاتها السائدة خلال عصر البعثة المباركة)، والله سبحانه أنزل هذه الآية(1).

التّفسير

كما رأينا في سبب النّزول، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضاً، كان جمع من

___________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، آية البحث.

(390)

منكري الإِسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النّبي يعقوب، والقرآن يرد عليهم بالقول: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ)؟!

هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح، بل الذي حدث آنذاك (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟

في الجواب (قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

أجل فإنّ يعقوب لم يوصِ أبناءه بشيء غير التوحيد والتسليم لربّ العالمين والذي هو الاساس لبرنامج الأنبياء.

من الآية يبدو أن قلقاً ساور يعقوب لدن أن حضرته الوفاة بشأن مستقبل أبنائه، وعبّر عن قلقه هذه متسائلا: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي)؟ وإنما قال: (مَا تَعْبُدُونَ ...)ولم يقل «مَنْ تَعْبُدُونَ ...» لتلوث البيئة الإِجتماعية آنذاك بالشرك والوثنية، أي بعبادة الأشياء من دون الله. فأراد يعقوب أن يفهم ما في قرارة نفوس أبنائه من ميول واتجاهات، وبعد أن استمع الجواب اطمأنت نفسه.

ويلفت النظر هنا أن إسماعيل لم يكن أبا ليعقوب ولاجدّه، بل عمّه، بينما الآية استعملت كلمة «آباء»، ويتضح من ذلك أن كلمة «الأب» تطلق أيضاً على «العم» توسعاً، ومن هنا نقول بالنسبة لآزر، الذي ذكره القرآن باعتباره والد إبراهيم، أنه لا يمنع أن يكون عمّ إبراهيم لا والده. (تأمل بدقّة).

آخر آية في بحثنا، تجيب على توهّم آخر من توهمات اليهود، فكثير من هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من الله تعالى، فلا يرون بأساً في انحرافهم هم ظانين أنهم ناجون بوسيلة أُولئك الأسلاف.

يقول القرآن: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

(391)

وبذلك أرادت الآية أن توجّه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم، وتصرفهم عن الإِنغماس في الإِفتخار بالماضين.

هذه الآية ـ وإن اتجهت في الخطاب إلى فئة اليهود وأهل الكتاب في عصر البعثة ـ تخاطبنا نحن المسلمين أيضاً، وتطرح أمامنا مبدأ:

إن الفتى من يقول ها أناذا ليس الفتى من يقول كان أبي

* * *

(392)

الآيات

وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَـرَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(135) قُولُوا ءَامَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحـقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسى وَمَآ أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136) فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاق فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(137)

سبب النّزول

عن ابن عباس أن جماعة من علماء اليهود ونصارى أهل نجران خاصموا أهل الإِسلام، كل فرقة تقول إنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وقالت النصارى: عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإِنجيل أفضل الكتب، وكل فريق منهما قال للمؤمنين: كونوا على ديننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(393)

التّفسير

نحن على حقّ لا غيرنا!

التمحور والإِنغماس في الذاتية يؤدي إلى أن يحتكر الإِنسان الحقّ لنفسه، ويعتبر الآخرين على باطل، ويسعى إلى أن يجرهم إلى معتقداته.

الآية الاُولى تتحدث عن مجموعة من أهل الكتاب يحملون مثل هذه النظرة الضيقة، ونقلت عنهم القول: (وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْنَصَارى تَهْتَدُوا).

فيردّ عليهم القرآن مؤكداً أن الأديان المحرّفة لا تستطيع إطلاقاً أن تهدي الإِنسان (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

التدين الخالص هو اتباع الخط التوحيدي الخالص غير المشوب بالشرك. ورعاية هذا الأساس أهم معيار للتمييز بين الأديان الصحيحة والأديان المنحرفة.

يعلمنا الإِسلام أن لا نفرق بين الرسل، وأن نحترم رسالاتهم، لأن المبادىء الأساسية للأديان الحقّة واحدة، موسى وعيسى كانا أيضاً من أتباع ملة إبراهيم ... أي من أتباع الدين التوحيدي الخالص من الشرك، وإن حرّف المغرضون من أتباعهما ما جاءا به، وجعلوه مشوباً بالشرك. و (كلامنا هذا لا يتنافى طبعاً مَعَ إيماننا بأن البشرية يجب أن تتبع آخر الاديان السماوية أي الإِسلام).

الآية التالية تأمر المسلمين أن (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسَبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

لا يجوز أن ننطلق من محور الذاتية في الحكم على هذا النّبي أو ذاك، بل يجب أن ننظر إلى الأنبياء بمنظار رسالي، ونعتبرهم جميعاً رسل ربّ العالمين ومعلّمي البشرية، قد أدّى كلٌ منهم دوره في مرحلة تاريخية معينة، وكان هدفهم واحداً، وهو هداية النّاس في ظل التوحيد الخالص والحق والعدالة.

ثم يضيف القرآن قائلا: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدُوْا وَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا

(394)

هُمْ فِي شِقَاق).

ولو تخلى هؤلاء عن عنصريتهم وذاتياتهم، وآمنوا بجميع أنبياء الله فقد اهتدوا أيضاً، وإلاّ فقد ضلوا سواء السبيل.

و«الشّقاق» النزاع والحرب، وفسرت في الآية بالكفر وبالضلال، وبالإِبتعاد عن الحق والإِتجاه نحو الباطل، وكل هذه المعاني تعود إلى حقيقة واحدة.

ذكر بعض المفسرين أن الآية السابقة التي ساوت بين عيسى وسائر الأنبياء. أثارت اعتراض جمع من النصارى وقالوا: إن عيسى ليس كسائر الأنبياء، بل هو ابن الله، فنزلت هذه الآية لتؤكد على انحراف هؤلاء وأنهم في شقاق.

ثم تثبت الآية على قلوب المؤمنين وتبعث فيهم الثقة والطمأنينة بالقول: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم (الْعَلِيمُ) بمؤامراتهم.

* * *

1 ـ وحدة دعوة الأنبياء

في مواضع عديدة أكد القرآن على أن هدف الأنبياء واحد، ولا انفصال في خط النبوات، فكل الأنبياء(عليهم السلام)يصدرون عن منبع الوحي الإِلهي، ولذلك يوصي القرآن باحترام جميع الأنبياء، لكن هذا لا يمنع ـ كما قلنا ـ أن تنسخ كلُّ رسالة جديدة تنزل من الله سبحانه الرسالات السابقة، والإِسلام خاتم الرسالات السماوية.

أنبياء الله كالمعلمين، ربّى كل منهم البشرية في فصل دراسي، وبعد انتهاء المرحلة الدراسية الخاصة به يسلم المجتمع البشري إلى معلم آخر ليجتاز الأفراد مرحلة دراسية أعلى. ومن هنا فالمجتمع البشري مكلّف بتحمل مسؤوليات ما يأتي به آخر نبي، وهذا لا يتعارض مع كون سائر الأنبياء على حق.

(395)

2 ـ من هم الأسباط؟

الأسباط جمع سبط، والأسباط أحفاد يعقوب، وهم اثنا عشر سبطاً من اثني عشر ابناً، أو أنهم قبائل من بني إسرائيل، والسِّبط في اللغة: الجماعة يرجعون إلى أب واحد، والسَبَط (على وزن درج) قد يأتي بمعنى: الشجر، والأسباط الذين هم من شجرة واحدة، ويقال: سبط عليه العطاء، إذا تابع عليه حتى يصل بعضه ببعض.

المقصود من الأسباط ـ إذن ـ ليس أبناء يعقوب، فهؤلاء ارتكبوا جميعاً ذنباً بحق أخيهم ولا يصلحون للنبوّة، بل المقصود قبائل بني إسرائيل، أو أحفاد يعقوب ممن كان لهم أنبياء. ولما كان بين هؤلاء الأسباط أنبياء، فالآية عدتهم بين أولئك الذين نزلت عليهم آيات الله.

3 ـ الحنيف

الحنيف، من مادة حَنَفَ: أي مال عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق، وبه سميت الحنيفية، لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية. وعكس ذلك «جَنَفَ» أي مال عن الطريق المستقيم إلى الإِنحراف. ولهذا السبب كان أحد معاني الحنيف هو المستقيم والذي لا عوج فيه.

وللمفسرين آراء في الحنيفية، منها حج بيت الله، وأتباع الحق، وأتباع إبراهيم، والإِخلاص في العمل، وكلها ترجع إلى معنى عام وشامل، ما ذكره المفسرون مصاديق لذلك.

* * *

(396)

الآيات

صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـبِدُونَ(138) قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَـلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـلُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـعِيلَ وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَـرَى قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـدَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَاكَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(141)

التّفسير

التّخلّي عن غير صبغة الله:

بعد الدّعوة التي وجهتها الآيات السابقة لإِتّباع الأديان بشأن إنتهاج طريق جميع الأنبياء، أول آية في بحثنا تأمرهم جميعاً بترك كل صبغة، أي دين، غير «صبغة الله»(1).

___________________________

1 ـ «صِبْغَةً» منصوبة على أنّها مفعول مطلق لفعل محذوف أي (اصطبغوا) صبغة الله، أو أنّها بدل من «ملة إبراهيم» في الآيات المتقدمة، أو مفعول به لفعل محذوف والتقدير (اتبعوا صبغة الله) والله أعلم!

(397)

ثم تضيف الآية: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً)؟! أي لا أحسن من الله صبغة، (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) في اتباع ملّة إبراهيم التي هي صبغة الله، وقيل المعنى: من نحن له عابدون يجب أن تتبع صبغته، لا ما صَبَغَنا عليه الآباء والأجداد(1).

وبهذا أمر القرآن بالتخلي عن الصبغات العنصرية والطائفية والذاتية وعن كل الصّبغات المفرّقة، والإِتّجاه نحو صبغة الله.

ذكر المفسرون أن النصارى دأبوا على غسل أبنائهم بعد ولادتهم في ماء أصفر اللون، ويسمونه غسل التعميد، ويجعلون ذلك تطهيراً للمولود من الذنب الذاتي الموروث من آدم!

القرآن يرفض هذا المنطق الخاوي، ويقول: من الأفضل أن تتركوا هذه الصبغات الظاهرية الخرافية المفرقة، وتصطبغوا بصبغة الله، لتطهر روحكم.

ما أجمل تعبير «الصبغة» في هذه الآية! وما أروع هذه الدعوة إلى الإِصطباغ بصبغة الله!

لو حدث ذلك ... لو اختارت البشرية صبغة الله ... أي صبغة الطهر والتقوى والعدالة والمساواة والأُخوّة ... صبغة التوحيد والإِخلاص ... لاستطاعت أن تستأصل جذور الشرك والنفاق والتفرقة ... إنّها في الحقيقة الصبغة التي لا لون بها وتطهر الانسان من جميع الالوان.

وعن الإِمام الصادق(عليه السلام): أن «صِبْغَةَ اللهِ» هِيَ الاِْسْلاَمُ(2)، وهذا إشارة إلى ما ذكرناه.

كان اليهود وغيرهم يحاجّون المسلمين بصور شتّى، كانوا يقولون: إنّ جميع الأنبياء مبعوثون منا، وإن ديننا أقدم الأديان، وكتابنا أعرق الكتب السماوية.

___________________________

1 ـ مجمع البيان، الآية.

2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 132.

(398)

وكانوا يقولون: إن عنصرنا أسمى من عنصر العرب، ونحن المؤهلون لحمل الرسالة لا غيرنا، لأن العرب أهل أوثان.

وكانوا يدّعون أحياناً أنهم أبناء الله وأن الجنّة لهم لا لغيرهم.

القرآن يردّ على كلّ هذه الأقاويل ويقول: (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ).

فالله سبحانه ليس ربّ شعب أو قبيلة معينة، إنه ربّ العالمين.

واعلموا أيضاً أن لا امتياز لأحد على غيره إلاّ بالأعمال، وكل شخص رهن أعماله (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).

مع فارق، هو إن كثيراً منكم يشركون في توحيدهم: (وَنَحْنُ لَهْ مُخْلِصُونَ).

الآية التالية تجيب على واحد آخر من هذه الإِدعاءات الفارغة وتقول: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارى)؟!

ثم تجيب الآية عن هذا الإِدعاء بشكل رائع فتقول: (قُلْ ءَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ)؟!

فالله أعلم أنهم ما كانوا يهوداً ولا نصارى.

وقد تعلمون أنتم أيضاً أن هؤلاء الأنبياء أدّوا رسالتهم قبل موسى وعيسى. وإن كنتم لا تعلمون فاطلاق مثل هذه الأقوال بدون علم وتثبيت تهمة وذنب، وكتمان للحقيقة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ).

اعلموا أنه (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْلَمُونَ).

حين ينتهج الإِنسان خط العناد واللجاج فإن إعراضه عن الحقيقة لا حدّ له، ينكر أبسط المسلّمات، ويرفض أوضح الواضحات. والآية تذكر نموذجاً لذلك في هذه المجموعة التي بلغ بها العناد واللجاج أن تعتبر أنبياء الله ـ الذين سبقوا موسى وعيسى من أمثال إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ـ من اليهود أو النصارى. وبذلك يكتمون حقيقة واضحة لها إرتباط بإيمان النّاس ومعتقداتهم، ولذلك يصف

(399)

القرآن هؤلاء الذين يكتمون الحقائق بأنهم أظلم النّاس، لأنه لا ظلم أكبر من كتمان الحقائق عن النّاس عمداً، وجرّ الآخرين إلى طريق الضلال.

في آخر آية من الآيات التي نحن بصددها يقول سبحانه لهؤلاء القوم العنودين الجدليين: افترضوا أن ادعاءاتكم صحيحة، فهذا لا يعود عليكم بالنفع لأنه (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

الاُمّة الحية ينبغي أن تعتمد على أعمالها لا على ذكريات تاريخها، والإِنسان يجب أن يستند إلى فضائله، لا أن يجترّ مفاخر الآباء والأجداد.

* * *

(401)

الجزء الثاني مِنَ القُرآن الكريم

منَ الآية مَائة وَاثنَتَيْنِ وَأَرْبَعينَ إلى الآية مَائة وَسَبْع وَثَمَانِينَ مِن سورة البقرة

(403)

 

الآية

سَيَقُولُ السَّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَاوَلَّـهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَط مُسْتَقِيم(142)

التّفسير

تغيير القبلة

هذه الآية وآيات تالية تتحدث عن حادث مهم من حوادث التاريخ الإِسلامي، كان له آثاره الكبيرة في المجتمع آنذاك.

رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) صلّى صوب ( بيت المقدس) بأمر ربّه مدّة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة في مكة، وبضعة أشهر في المدينة بعد الهجرة. ثم تغيّرت القبلة، وأمر الله المسلمين أن يصلّوا تجاه (الكعبة).

واختلف المفسرون في المدّة التي صلّى خلالها المسلمون بعد الهجرة تجاه بيت المقدس، فذكروا مدداً مختلفة تتراوح بين سبعة أشهر وسبعة عشر شهراً.

كانت الجماعة المسلمة تتعرض خلال كل هذه المدّة (مدة صلاة المسلمين تجاه بيت المقدس) إلى لوم اليهود وتقريعهم، وكان اليهود يقولون عن المسلمين:

(404)

إن هؤلاء غير مستقلين لأنّهم يصلون تجاه قبلتنا، وهذا دليل أننا على حقّ.

كانت هذه الأقوال تؤلم الرّسول وصحبه، فالأمر الإِلهي يوجب أن يصلوا تجاه بيت المقدس، واليهود لا ينفكّون يرشقون المسلمين بوابل تهمهم وتقريعهم. وبلغ الأمر أن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بدأ يقلب وجهه في السماء انتظاراً للوحي.

واستمر الإِنتظار مدّة، حتى نزل الوحي يأمر بتغيير القبلة، كان الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في مسجد «بني سالم» يصلي الظهر، فما إن أتمّ ركعتين حتى أمر جبرائيل أن يأخذ بعضد الرّسول ويدير وجهه تجاه الكعبة(1).

لم يكفّ اليهود بعد هذا التغيير عن اعتراضاتهم، بل واصلوا حربهم الإِعلامية بشكل آخر، بدأوا يلقون التشكيكات بشأن هذا التغيير، والقرآن الكريم يتحدث عن هذه الإِعتراضات: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا).

بدأوا يرددون: لو كانت القبلة الاُولى هي الصحيحة فَلِمَ هذا التغيير؟ وإن كانت الثانية صحيحة فلماذا صلى المسلمون أكثر من ثلاثة عشر عاماً تجاه بيت المقدس؟!

والله سبحانه يجيب على هذا الإعتراض، فأمر رسوله أن (قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلى صِراط مُسْتَقِيم).

فليس لمكان قداسة ذاتية، إنما يكتسب قداسته بإذن الله، وكل مكان ملك لله، والمهم هو الطاعة والإستسلام لربّ العالمين.

تغيير القبلة في الواقع مرحلة من مراحل الإختبار الإِلهي، وكل مرحلة خطوة على الصراط المستقيم نحو الهداية الإِلهية.

* * *

___________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 223.

(405)

1 ـ «السفهاء» جمع «سفيه» أطلقت في الأصل على من خفّت حركة جسمه، وقيل: زمام سفيه، أي كثير الإضطراب خفيف الوزن. ثم استعملت الكلمة في خفة النفس لنقصان العقل في الأُمور الدينية والدنيوية.

2 ـ ذكرنا أن مسألة «النسخ» في الأحكام وتغيير المنهج التربوي بتغير المراحل الزمانية ليست مسألة غريبة جديدة في تاريخ الرسالات. لكن هؤلاء القوم العنودين الجدليين من اليهود اتخذوا من هذا التغيير ذريعة لإِعلامهم المضاد، والقرآن يجيبهم بشكل يفحمهم.

3 ـ جملة (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لا تعني كما ذكرنا أن هداية الله ليس لها حساب، لأن المشيئة الإلهية تنطلق من «حكمة» الله، ومن محاسبات المصالح والمفاسد.

* * *

(406)

الآية

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَـكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَـنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرءُوفٌ رَّحِيمٌ(143)

التّفسير

الاُمّة الوسط

هذه الآية تشير إلى جانب من أسباب تغيير القبلة، تقول أوّلا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي كما جعلنا القبلة وسطا، كذلك جعلناكم أُمّة في حالة اعتدال، لا يشوبها إفراط ولا تفريط في كل جوانب حياتها.

أما سبب كون قبلة المسلمين قبلة وسطاً، فلأن النصارى ـ الذين يعيش معظمهم في غرب الكرة الأرضية ـ يولون وجوههم صوب الشرق تقريباً حين يتجهون إلى قبلتهم في بيت المقدس حيث مسقط رأس السيد المسيح. واليهود ـ الذين يتواجدون غالباً في الشامات وبابل ـ يتجهون نحو الغرب تقريباً حين يقفون تجاه بيت المقدس.

(407)

أما «الكعبة» فكانت بالنسبة للمسلمين في المدينة تجاه الجنوب، وبين المشرق والمغرب، وفي خط وسط.

وهذا ما يُفهم من عبارة «وَكَذلِك»، وإن كان للمفسرين آراء اُخرى في هذه العبارة لا تخلو من مناقشة.

القرآن يؤكد أن المنهج الإِسلامي في كل أبعاده ـ لا في بعد القبلة فقط ـ يقوم على أساس التوازن والإعتدال.

والهدف من ذلك (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيِداً).

و«شهادة» الاُمّة المسلمة على النّاس، و«شهادة» النّبي على المسلمين، قد تكون إشارة إلى الأُسوة والقُدْوَةِ، لأن الشاهد يُنتخب من بين أزكى النّاس وأمثلهم.

فيكون معنى هذا التعبير القرآني أن الاُمّة المسلمة نموذجيّة بما عندها من عقيدة ومنهج، كما أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فرد نموذجيّ بين أبناء الاُمّة.

الاُمّة المسلمة بعملها وبتطبيقها المنهج الإسلامي تشهد أن الإنسان بمقدوره أن يكون رجل دين ورجل دنيا ... أن يكون إنساناً يعيش في خضم الأحداث الإِجتماعية وفق معايير روحية ومعنوية. الاُمّة المسلمة بمعتقداتها ومناهجها تشهد بعدم وجود أي تناقض بين الدين والعلم، بل إن كلا منهما يخدم الآخر.

ثم تشير الآية إلى واحد آخر من أسرار تغيير القبلة فتقول: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).

الآية لم تقل: يتبعك، بل قالت: (يَتَّبعُ الرَّسُولَ) إشارة إلى أن هذا الإِتباع إنما هو تسليم لأمر الله، وكل اعتراض إنما هو عصيان وتمرد على الله، ولا يصدر ذلك إلاّ عن مشرك جاهلي.

وعبارة (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) تعني في الأصل الرجوع على مؤخر

(408)

الرجل، وتعني هنا الإنتكاس والتراجع.

ثم تضيف الآية: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى الله).

لولا الهداية الإلهية، لما وجدت في نفس الإنسان روح التسليم المطلق أمام أوامر الله. المهم أن يكون الإنسان المسلم مستسلماً إلى درجة لا يحسّ معها بثقل مثل هذه الأوامر، بل يشعر بلذتها وحلاوتها.

وأمام وسوسة الأعداء المضللين والأصدقاء الجاهلين، الذين راحوا يشككون في صحة ما سبق من العبادات قبل تغيير القبلة، تقول الآية: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

فأوامر الله مثل وصفات الطبيب لكل مرحلة من مراحل العلاج نسخة خاصة، وكلها شافية وافية تضمن سعادة الإنسان وسلامته، والعمل بأجمعها صحيح لا غبار عليه.

* * *

1 ـ أسرار تغيير القبلة

تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة أثار لدى الجميع تساؤلات عديدة، أولئك الذين قالوا إن الأحكام ينبغي أن تبقى ثابتة راحوا يتساءلون عن سبب هذا التغيير، فلو كانت القبلة الصحيحة هي الكعبة، فلماذا لم يؤمر المسلمون بالصلاة نحوها منذ البدء، وإن كانت بيت المقدس فلِمَ هذا التغيير؟!

وأعداء الإسلام وجدوا الفرصة سانحة لبث سمومهم ولإعلامهم المضّاد. قالوا إن تغيير القبلة تمّ بدافع عنصري، وزعموا أن النّبي اتجه أوّلا إلى قبلة الأنبياء السابقين، ثم عاد إلى قبلة قومه بعد تحقيق انتصاراته! وقالوا: إن محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) أراد استعطاف أهل الكتاب بانتخابه بيت المقدس قبلة له، ولما يئس منهم استبدل

(409)

الكعبة بها.

واضح مدى القلق والاضطراب الذي تتركه هذه الوساوس على مجتمع لم يتغلغل نور العلم والإيمان في كل زواياه، ولم يتخلص بعد تماماً من رواسب الشرك والعصبية.

لذلك تصرّح الآية أعلاه أن تغيير القبلة إختبار كبير لتمييز المؤمنين من المشركين.

لا نستبعد أن يكون أحد أسباب تغيير القبلة مايلي:

لما كانت الكعبة في بداية البعثة المباركة بيتاً لأصنام المشركين، فقد أُمر المسلمون مؤقتاً بالصلاة تجاه بيت المقدس، ليتحقّق الإنفصال التام بين الجبهة الإسلامية وجبهة المشركين.

وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإِسلامية والمجتمع الإِسلامي، حدث الإِنفصال الكامل بين الجبهتين، ولم تعد هناك ضرورة لاستمرار وضع القبلة، حينئذ عاد المسلمون إلى الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأعرق مركز للأنبياء.

ومن الطبيعي أن يستثقل الصلاة نحو بيت المقدس لأولئك الذين كانوا يعتبرون الكعبة الرصيد المعنوي لقوميتهم، وأن يستثقلوا أيضاً العودة إلى الكعبة بعد أن اعتادوا على قبلتهم الاُولى (بيت المقدس).

المسلمون بهذا التحوّل وُضعوا في بوتقة الإختبار، لتخليصهم ممّا علّق في نفوسهم من آثار الشرك، ولتنقطع كل انشداداتهم بماضيهم المشرك، ولتنمو في وجودهم روح التسليم المطلق أمام أوامر الله سبحانه.

إن الله سبحان ليس له مكان ومحل ـ كما ذكرنا ـ والقبلة رمز لوحدة صفوف المسلمين ولإحياء ذكريات خط التوحيد، وتغييرها لا يغيّر شيئاً، المهم هو الإِستسلام الكامل أمام الله، وكسر أوثان التعصب واللجاج والأنانية في النفوس.

(410)

2 ـ الاُمّة الوسط

«الوسط» ما توسط بين شيئين، وبمعنى الجميل والشريف، والمعنيان يعودان ظاهراً إلى حقيقة واحدة لأن الجمال والشرف فيما اعتدل وابتعد عن الإفراط والتفريط.

ما أجمل التعبير القرآني عن الاُمّة المسلمة ... الاُمّة الوسط.

الوسط: المعتدلة في «العقيدة» لا تسلك طريق «الغلو» ولا طريق «التقصير والشرك»، لا تنحو منحى «الجبر» ولا «التفويض»، ولا تؤمن «بالتشبيه» في صفات الله ولا «بالتعطيل».

معتدلة في «القيم المادية والمعنوية» لا تغطّ في عالم المادة وتنسى المعنويات، ولا تغرق في المعنويات وتتناسى الماديات. ليست كمعظم اليهود لا يفهمون سوى المادة، وليست كرهبان النصارى يتركون الدنيا تماماً.

معتدلة في «الجانب العلمي» ... لا ترفض الحقائق العلمية، ولا تقبل كل نعرة ترتفع باسم العلم.

معتدلة في «الرّوابط الإجتماعية» لا تضرب حولها حصاراً يعزلها عن العالم، ولا تفقد استقلالها وتذوب في هذه الكتلة أو تلك، كما نرى الذائبين في الشرق والغرب اليوم!

معتدلة في «الجانب الأخلاقي» ... في عباداتها ... في تفكيرها ... وفي جميع أبعاد حياتها.

المسلم الحقيقي لا يمكن إطلاقاً أن يكون إنساناً ذا بعد واحد، بل هو إنسان ذو أبعاد مختلفة ... مفكر، مؤمن، عادل، مجاهد، مكافح، شجاع، عطوف، واع، فعّال، ذو سماح.

عبارة الاُمّة الوسط توضّح من جانب مسألة شهادة الاُمّة الإسلامية، لأن من يقف على خطّ الوسط يستطيع أن يشهد كل الخطوط الإِنحرافية المتجهة نحو

(411)

اليمين واليسار.

ومن جانب آخر تحمل العبارة دليلها وتقول: «اِنَّمَا كُنْتُمْ شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ لأنَّكُمْ معتدلون وأنكم أمة وَسَط»(1).

3 ـ الاُمّة الشاهدة

لواجتمعت الصفات التي ذكرناها للأُمّة الوسط في أُمّة، فهذه الاُمّة دون شك رائدة للحق، وشاهدة على الحقيقة، لأن مناهجها تشكل الميزان والمعيار لتمييز الحق عن الباطل.

ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) قولهم: «نَحْنُ الاُمّة الْوُسْطى، وَنَحْنُ شُهَدَاءُ اللهِ عَلى خَلْقِهِ وَجُجَجُهُ فِي أَرْضِهِ ... نَحْنُ الشُّهَداءُ عَلَى النَّاسِ ... إلَيْنَا يَرْجِعُ الغَالي وَبِنَا يَْرجِعُ الْمُقَصّرُ»(2) مثل هذه الروايات ـ كما ذكرنا ـ لا تحدد المفهوم الواسع للآية، بل تبين المصداق الأمثل للأُمّة الوسط، وتعطي نموذجاً متكاملا لها.

4 ـ علم الله

عبارة (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبعُ الرَّسُولَ ...) وأمثالها من التعبيرات القرآنية، لا تعني أن الله لم يكن يعلم شيئاً، ثم علم به بعد ذلك، بل تعني تحقّق هذه الواقعيات.

بعبارة أوضح، الله سبحانه يعلم منذ الأزل بكل الحوادث والموجودات، وإن ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود. فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد الله علماً، بل إن هذا الحدوث تحقّق لما كان في علم الله. وهذا يشبه علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم. ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي. والمهندس يقول حين ينفّذ تصميمه على الأرض: أريد أن أرى عملياً ما كان في

___________________________

1 ـ المنار، تفسير الآية المذكورة.

2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 134.

(412)

علمي نظرياً. (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافاً كبيراً كما ذكرنا ذلك في بحث صفات الله، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح).

عبارة (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) توضح حقيقة الصعوبة في مخالفة العادة الجارية، وفي التخلص من سيطرة العواطف غير الصحيحة، إلاّ على الذين آمنوا بالله حقّاً، واستسلموا لأوامره.

* * *

(413)

الآية

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَاكُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ(144)

التّفسير

كل الوجوه شطر الكعبة

ذكرنا أن بيت المقدس كان القبلة الاُولى المؤقتة للمسلمين. والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)كان ينتظر الأمر الإلهي بتغيير القبلة، خاصة وأن اليهود استغلّوا مسألة اشتراك المسلمين معهم في القبلة، ليوجهوا سهام إعلامهم المضاد للمجموعة المسلمة، مرددين أن المسلمين لا استقلال لهم، وأنهم لا يعرفون معنى القبلة وإنما اقتبسوه منّا، وأن قبولهم قبلتنا يعني اعترافهم بديننا! وأمثال هذه الأقاويل.

الآية تشير إلى هذه المسألة وتقول:

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ، فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا، فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

ذكرت الرواية ـ كما أشرنا من قبل - أن هذا الأمر الإلهي نزل في لحظة

(414)

حساسة ملفتة للأنظار، حين كان الرّسول والمسلمون يؤدون صلاة الظهر. فأخذ جبرائيل بذراع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأدار وجهه نحو الكعبة. وتذكر الرواية أن صفوف المسلمين تغيّرت على أثر ذلك، وترك النساء مكانهنّ للرجال وبالعكس. (كان اتجاه بيت المقدس نحو الشمال تقريباً، بينما كان اتجاه الكعبة نحو الجنوب).

من المفيد أن نذكر أنّ تغيير القبلة من علامات نبي الإسلام المذكورة في الكتب السابقة. فقد كان أهل الكتاب على علم بأن النّبي المبعوث «يصلّي إلى القبلتين».

لذلك تضيف الآية: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهمْ).

أضف إلى ذلك أن دلائل نبوّة رسول الإسلام، تحرره من التأثر بعادات بيئته الإجتماعية، وتركه الكعبة التي كانت موضع تقديس العرب، واتجاهه نحو قبلة أقلية محدودة.

ثم تقول الآية: (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا يَعْمَلُونَ).

فهؤلاء الذين يكتمون ما جاء في كتبهم بشأن تغيير قبلة نبي الإسلام، ويستغلون هذه الحادثة لإِثارة ضجة بوجه المسلمين، بدل أن يتخذوها دليلا على صدق دعوى النّبي، سيلاقون جزاء أعمالهم، والله ليس بغافل عن أعمالهم ونياتهم.

* * *

1 ـ نظم الآيات

محتوى هذه الآية يبيّن بوضوح أنها نزلت قبل الآية التي سبقتها في الترتيب القرآني. ذلك لأن القرآن لم تجمع آياته حسب نزوله، بل كان ترتيب الآيات يتم استناداً إلى مناسبات معينة بتعيين من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبأمر من الباري سبحانه.

(415)

 (ومن تلك المناسبات مثلا رعاية الأولوية وأهمية الموضوعات).

2 ـ انتظار صعب!

يستفاد من هذه الآية أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مرتبطاً بالكعبة إرتباطاً خاصاً، ومنتظراً لأمر تغيير القبلة، ولعلنا نستطيع أن نتلمس سبب ذلك في إرتباط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بإبراهيم(عليه السلام)، أضف إلى ذلك أن الكعبة أقدم قاعدة توحيدية، وأنه(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يعلم بوقوع هذا التغيير، وكان يترقب حدوثه.

وهنا تبرز ظاهرة الإستسلام المطلق للرسول، حيث لم يتردد على لسانه طلب بهذا الشأن، بل كان يقلب طرفه في السماء منتظراً بتلهّف نزول الوحي.

وتعبير «السماء» في الآية قد يشير إلى انتظاره هبوط «جبرائيل» من الأعلى، وإلاّ فالله لا مكان له، وهكذا وحيه المرسل.

3 ـ معنى الشطر

يثير الإلتفات أن الآية لم تأمر المسلمين أن يصلوا تجاه الكعبة، بل «شطر المسجد الحرام».

لعل ذلك يعود إلى صعوبة بل تعذّر محاذاة الكعبة على المصلين البعيدين عن الكعبة. لذلك ذكر المسجد الحرام بدل الكعبة لأنه أوسع، ثم كلمة «شطر» تعني السمت والجانب، وبذلك كان الإتجاه شطر المسجد الحرام عملا ميسوراً للجميع، وخاصة لصفوف الجماعة الطويلة التي يزيد طولها غالباً على طول الكعبة.

بديهي أن المحاذاة الدقيقة للكعبة ـ وحتى للمسجد الحرام ـ عمل صعب على المصلين البعيدين، لكن الوقوف شطره يخلو من كل صعوبة(1).

___________________________

1 ـ من المفسرين من قال إن أحد معاني «شطر»: النصف، ومن هنا فإن مفهوم «شطر المسجد الحرام» يساوي مفهوم «وسط المسجد الحرام» ونعلم أن الكعبة تقع وسط المسجد الحرام. (التّفسير الكبير، الفخر الرازي، الآية المذكورة).

(416)

4 ـ خطاب عام

كل خطابات القرآن هي دون شك ـ شاملة لكل المسلمين ـ وإن اتجهت إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (اللهم إلاّ في مواضع دل الدليل على أنّها خاصّة بالنّبي)، من هنا يطرح سؤال بشأن سبب اتّجاه الآية الّتي نحن بصددها في الخطاب إلى النّبي تارة تأمره أن يصلي شطر المسجد الحرام، وتارة اُخرى إلى عامة المسلمين.

هذا التكرار قد يعود إلى أنّ تغيير القبلة مسألة مثيرة حساسة، ومن الممكن أن تؤدي الضجة التي تثيرها هذه المسألة إلى اضطراب بين المسلمين، وقد يتذرع بعض في وسط هذه الضجة بأن الخطاب «فولّ وجهك» موجه إلى النّبي خاصة، فلا يصلي تجاه الكعبة. لذلك خاطبت الآية الرّسول مرة وعامة المسلمين مرّة اُخرى لتؤكد أن هذا التغيير غير خاص بالرّسول، بل يشمل عامّة المسلمين أيضاً.

5 ـ هل الهدف من هذا التغيير تحقيق رضى النّبي؟

عبارة «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» قد توهم أن هذا التغيير تم إرضاءً للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويزول هذا التوهم لو علمنا أن بيت المقدس كان قبلة مؤقتة، وأن النّبي كان ينتظر القبلة النهائية، وبصدور أمر التغيير وضع حد لطعن اليهود من جهة، وتوفرت أرضية استمالة أهل الحجاز المرتبطين إرتباطاً خاصاً بالكعبة نحو الإِسلام من جهة اُخرى، كما أن إعلان بيت المقدس كقبلة اولى أزال عن الإسلام الطابع القومي، وأسقط إعتبار الأصنام المتواجدة في الكعبة.

6 ـ الكعبة مركز دائرة كبرى

(417)

لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر متعددّة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.

جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الاُولى، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الارض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم.

* * *

(418)

الآية

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ بِكُلِّ ءَايَة مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَّمِنَ الظَّلِمِينَ(145)

التّفسير

لا يرضون بأيّ ثمن

مرّ بنا في تفسير الآية السابقة أن تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لا يمكن أن يثير شبهة حول النّبي، بل إنه من دلائل صحة دعواه، فأهل الكتاب قد قرأوا عن صلاة النّبي الموعود إلى قبلتين، لكن تعصبهم منعهم من قبول الحق.

والإنسان، حين لا يواجه المسائل بقناعات مسبقة، يكون مستعداً للتفاهم ولتصحيح تصوراته بالدليل والمنطق، أو عن طريق إراءة المعجزة.

أمّا حينما يكون قد كوّن له رأياً مسبقاً قاطعاً، وخاصّة حين يكون مثل هذا الفرد جاهلا متعصباً، فلا يمكن تغيير رأيه بأي ثمن.

لذلك تقول الآية: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آية مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ).

فلا تتعب نفسك إذن، لأن هؤلاء يأبون الإِستسلام للحق، ولا توجد فيهم روح طلب الحقيقة.

كل الأنبياء واجهوا مثل هؤلاء الأفراد، وهم إمّا أثرياء متنفذون، أو علماء

(419)

منحرفون، أو جاهلون متعصبون.

ثم تضيف الآية: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِع قِبْلَتَهُمْ).

أي إن هؤلاء لا يستطيعون مهما افتعلوا من ضجيج، أن يغيروا مرّة اُخرى قبلة المسلمين، فهذه هي القبلة الثابتة النهائية.

وهذا التعبير القاطع الحاسم أحد سبل الوقوف بوجه الضجيج المفتعل، ومن الضروري في مثل هذه الظروف أن يعلن الإنسان المسلم أمام الأعداء كلمته صريحة قوية، مؤكداً أنه لا ينثني أمام هذه الإنفعالات.

ثم تقول الآية: (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِع قِبْلَةَ بَعْض).

لا النصارى بتابعين قبلة اليهود، ولا اليهود بتابعين قبلة النصارى.

ولمزيد من التأكيد والحسم ينذر القرآن النّبي ويقول: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمينَ).

وفي القرآن يكثر مثل هذا اللون من الخطاب التهديدي للنبي بأسلوب القضية الشرطية، والهدف من ذلك ثلاثة أشياء:

الأوّل: أن يعلم الجميع عدم وجود أي تمييز بين النّاس في إطار القوانين الإلهية، وحتى الأنبياء مشمولون بهذه القوانين. ومن هنا فلو صدر عن النّبي ـ على الفرض المحال ـ إنحراف، فسيشمله العقاب الإِلهي، مع استحالة صدور ذلك عن النّبي (بعبارة اُخرى القضية الشرطية لا تدل على تحقق الشرط).

الثّاني: أن يتنبّه النّاس إلى واقعهم، فإذا كان ذلك شأن النّبي، فمن الأولى أن يكونوا هم أيضاً واعين لمسؤولياتهم، وأن لا يستسلموا إطلاقاً لميول الأعداء وضجاتهم المفتعلة.

الثّالث: أن يتّضح عدم قدرة النّبي على تغيير أحكام الله، وعدم إمكان الطلب إليه أن يغير حكماً من الأحكام، فهو عبد أيضاً خاضع لأمر الله تعالى.

* * *

(420)

الآيتان

الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَريقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(147)

التّفسير

يعرفون حقّ المعرفة ولكن ...

استمراراً لحديث القرآن عن تعصب مجموعة من أهل الكتاب ولجاجهم، تقول الآية: (أَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَه كما يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ).

إنهم يعرفون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) واسمه وعلاماته من خلال كتبهم الدينية، (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

وهناك طبعاً فريق سارع لاعتناق الإِسلام بعد أن رأى هذه الصفات والعلامات في نبي الإسلام، مثل عبد الله بن سلام وهو من علماء اليهود، ونقل عنه بعد إسلامه قوله «أنا أعلم به مني بابني»(1).

هذه الآية تميط اللثام في الواقع عن حقيقة هامّة، هي إن صفات نبي الإِسلام

___________________________

1 ـ المنار، ج 2، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآية.

(421)

الجسمية والروحية وخصائصه كانت بقدر من الوضوح في الكتب السماوية السابقة، بحيث ترسم الصورة الكاملة في أذهان المطلعين على هذه الكتب.

وهل من الممكن أن تصرح الآية بوجود اسم النّبي وعلاماته في كتب أهل الكتاب إذا لم تكن بالفعل موجودة عندهم؟! ألا يدل عدم معارضة علماء اليهود لهذا التصريح، بل اعتراف بعضهم به واستسلامهم للحق، أن اسم النّبي الخاتم وصفاته كانت معروفة لديهم!؟

هذه الآيات ـ إذن ـ دليل على صدق دعوة الرّسول وصحّة نبوته.

ثم تؤكد الآية ما سبق أن طرحته بشأن تغيير القبلة، أو بشأن أحكام الإسلام بشكل عام: (أَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي المترددين.

وبهذه العبارة تثبّت الآية فؤاد النّبي، وتنهاه عن أي ترديد أمام افتراءات الأعداء بشأن تغيير القبلة وغيرها، وإن جنّد هؤلاء الأعداء كل طاقاتهم للمحاربة.

المخاطب في الآية وإن كان شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الهدف هو تربية البشرية كما ذكرنا من قبل، فمن المؤكد أن النّبي المتصل بالوحي الإلهي لا يعتريه تردد، لأن الوحي بالنسبة له ذو جانب حسّي وعين اليقين.

* * *

(422)

الآية

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَتِ أَيْنَ مَاتَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(148)

التّفسير

لكلّ أُمّة قبلة

هذه الآية الكريمة ترد على الضجة التي أثارها اليهود حول تغيير القبلة وتقول: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا).

كان للأنبياء على مرّ التاريخ وجهات عديدة يولونها، وليست القبلة كأصول الدين لا تقبل التغيير، ولا أمراً تكوينياً لا يمكن مخالفته، فلا تطيلوا الحديث في أمر القبلة، وبدل ذلك (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، لأن معيار القيمة الوجودية للإِنسان هي أعمال البرّ والخير.

مثل هذا المعنى تضمنته الآية 177 من هذه السّورة: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيّينَ).

إن كنتم تريدون اختبار الإسلام أو المسلمين، فاختبروهم بهذه الاُمور لا بمسألة تغيير القبلة.

(423)

ثم تتغير لهجة الآية إلى نوع من التحذير والتهديد لأُولئك المفترين، والتشجيع للمحسنين فتقول: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) في تلك المحكمة الكبرى حيث يتلقى كلٌ جزاء عمله.

لا يتساوى المفترون والمشاغبون المخربون مع المحسنين المؤمنين، ولابدّ من يوم ينال كل فريق جزاءه.

وقد يخال بعض أن جمع النّاس لمثل هذا اليوم عجيب، فكيف تجتمع ذرات التراب المتناثرة لترتدي ثانية حلّة الحياة؟! لذلك تجيب الآية بالقول: (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).

هذه العبارة الأخيرة في الآية بمثابة الدليل على العبارة السابقة: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَميِعاً).

* * *

بحثان

1 ـ يوم يجتمع أصحاب المهدي(عليه السلام)

ورد عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَميعاً)أن المقصود بهم أصحاب المهدي(عليه السلام).

من ذلك ما ورد في «روضة الكافي» عن «الإمام الباقر»(عليه السلام) أنه تلا الفقرة المذكورة من الآية ثم قال: «يَعْني أَصْحَابَ الْقَائِمِ الثَلاثَمِائَة وَالبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، وَهُمْ وَاللهِ الأُمَّةُ الْمَعْدُودةُ، قَالَ: يَجْتَمِعُونَ وَاللهِ فِي سَاعَة وَاحِدَة قَزَعَ(1) كَقَزَعِ الْخَرِيف»(2) .

وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) أيضاً: «وَذَلِكَ وَاللهِ أَنْ لَوْ قَامَ قَائِمُنَا يَجْمَعُ اللهُ إلَيْهِ جَمِيعَ شِيعَتِنَا مِنْ جَمِيعِ الْبُلْدَانِ»(3).

___________________________

1 ـ أي يجتمعون كاجتماع قطع السحب الخريفية لدى هبوب الريح.

2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 139.

3 ـ مجمع البيان، الآية.

(424)

هذا التّفسير للآية دون شك يتحدث عن «بطن» الآية، والأحاديث ذكرت أن لكلام الله ظاهراً لعامة النّاس، وباطناً لخاصّتهم.

بعبارة اُخرى: هذه الروايات تشير إلى حقيقة، هي إن الله القادر على أن يجمع النّاس من ذرات التراب المتناثرة في يوم القيامة، لقادر على أن يجمع أصحاب المهدي في ساعة بسهولة، من أجل انقداح الشرارة الاُولى للثورة العالمية الرّامية إلى إقامة حكم الله على ظهر الارض، وإزالة الظلم والعدوان عن وجهها.

2 ـ عبارة (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) فسرناها سابقاً بأنها إشارة للقبلات المتعددة للأُمم. ومن المفسرين من توسع في المعنى وقال إنّها تعبّر عن القضاء والقدر التكوينيين أيضاً (تأمل بدقة)(1).

ولو خلت الآية ممّا يحيطها من قرائن قبلها وبعدها لأمكن مثل هذا التّفسير، لكن القرائن تدل على أن المراد هو المعنى الأوّل. ولو افترضنا أن الآية تشير إلى المعنى الثّاني، فلا تعني إطلاقاً القضاء والقدر الجبريين، بل القضاء والقدر المنسجمين مع الإرادة والإختيار(2).

* * *

___________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج 1، ص 331.

2 ـ لمزيد من التوضيح راجع (انگيزه پيدايش مذهب) = دافع وجود الدين، فصل القضاء والقدر.

(425)

الآيتان

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاُِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)

التّفسير

الخوف من الله فقط

هذه الآيات تتابع الحديث عن مسألة تغيير القبلة ونتائجها.

الآية الاُولى تأمر النّبي(عليه السلام) وتقول: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ)... من أية مدينة، وأية ديار (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

ولمزيد من التأكيد تقول الآية: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

وتنتهي الآية بتهديد المتآمرين: (وَمَا اللهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ).

هذه التأكيدات المتوالية في الآية وفي الآية التالية تبيّن أن مسألة تغيير القبلة كانت صعبة وثقيلة على مجموعة من المسلمين حديثي العهد بالإسلام، كما كانت

(426)

ذريعة بيد أعداء الإسلام اللجوجين لبثّ سمومهم.

مثل هذه الحالة تتطلب دائماً موقفاً قاطعاً حاسماً ينهي كل شك وريبة، من هنا توالت التأكيدات القرآنية القارعة لتبعث العزم واليقين في نفوس الأتباع، وتعمق اليأس والخيبة بين الأعداء. وهذا أُسلوب اتبعه القرآن في مواقف عديدة.

إضافة إلى ما سبق، فالتكرار في هذه الآيات يتضمن أيضاً أحكاماً جديدة. على سبيل المثال، الآيات السابقة وضحت حكم القبلة في المدينة التي يسكنها المسلمون. وهذه الآية والآية التالية أوضحت الحكم لدى السفر والخروج من المدن والديار.

الآية التالية كررت الحكم العام بشأن التوجه إلى المسجد الحرام في أي مكان: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

صحيح أن هذه العبارة القرآنية تخاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنها تقصد دون شك مخاطبة عامّة المسلمين، ولمزيد من التأكيد تخاطب الجملة التالية المسلمين وتقول: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

ثم تشير الآية إلى ثلاث مسائل هامّة:

1 ـ إلجام المعارضين ـ تقول الآية: (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ).

قبل تغيير القبلة كانت ألسنة المعارضين من اليهود والمشركين تقذف المسلمين بالتهم والحجج، اليهود يعترضون قائلين: إن النّبي الموعود يصلي إلى قبلتين، وهذه العلامة غير متوفرة في محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشركون يعترضون على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قائلين: كيف ترك محمّد الكعبة وهو يدعي أنّه بعث لإحياء ملّة إبراهيم. هذا التغيير أنهى كل هذه الإعتراضات.

لكن هذا لا يمنع الأفراد اللجوجين المعاندين أن يصروا على مواقفهم، وأن يرفضوا كل منطق، لذلك تقول الآية: (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ).

فهؤلاء لا يستقيمون على طريق، حتّى اتجهتم صوب بيت المقدس للصلاة

(427)

اتهموكم بالذيلية وعدم الأصالة، وحين عدلتم إلى الكعبة وصفوكم بعدم الثبات!

هؤلاء المفترون ظالمون حقاً ... ظالمون لأنفسهم، وظالمون لمن يقطعون عليه طريق الهداية.

2 ـ حين وصف الآية هؤلاء المعاندين أنهم ظالمون، فقد يثير هذا الوصف خوفاً في نفوس البعض لذلك قالت الآية: (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي).

وهذه الفقرة من الآية تطرح أصلا عاماً أساسياً من أُصول التربية التوحيدية الإِسلامية، هو عدم الخوف من أي شيء سوى الله (أو بعبارة أصح الخوف فقط من معصية الله)، وإذا ترسخ هذا المبدأ التربوي في نفوس الجماعة المسلمة فلن تفشل ولن تنهزم قط.

أما المتظاهرون بالإسلام فهم يخافون من «الشرق» تارة، ومن «الغرب» تارة اُخرى، ومن «المنافقين الداخليين» ومن «الأعداء الخارجيين» ومن كل شيء سوى الله. وهؤلاء دائماً أذلاء ضعفاء مهزومون.

3 ـ وآخر هدف ذكر لتغيير القبلة هو إتمام النعمة: (وَلاُِتِمَّ نِعْمَتي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

تغيير القبلة كان في الواقع نوعاً من التربية والتكامل والنعمة للمسلمين كي يتعرفوا على الإنضباط الإِسلامي ويتخلصوا من التقليد والتعصب، فالله سبحانه أمر المسلمين في البداية أن يصلوا تجاه بيت المقدس كي تنعزل صفوف المسلمين ـ كما قلنا ـ عن صفوف المشركين الذين كانوا يقدسون الكعبة. وبعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية صدر الأمر بالصلاة نحو الكعبة ... نحو أقدم بيت توحيدي، وبذلك تحقق اجتياز مرحلة من مراحل تكامل المجتمع الإسلامي.

* * *

(428)

الآيتان

كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِى وَلاَ تَكْفُرُونِ(152)

التّفسير

مهمّة رسول الله:

ذكرت الفقرة الأخيرة من الآية السابقة أن أحد أسباب تغيير القبلة هو إتمام النعمة على النّاس وهدايتهم، والآية أعلاه ابتدأت بكلمة «كما» إشارة إلى أن تغيير القبلة ليس هو النعمة الوحيدة التي أنعمها الله عليكم، بل منَّ عليكم بنعم كثيرة (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ).

وكلمة «منكم» قد تعني أن الرّسول بشرٌ مثلكم، والإنسان وحده هو القادر على أن يكون مربّي البشر وقدوتهم وأن يتحسس آمالهم وآلامهم، وتلك نعمة كبرى أن يكون الرّسول بشراً «مِنْكُمْ».

وقد يكون المعنى أنه من بني قومكم ووطنكم، فالعرب الجاهليون قوم متعصبون عنصريون، وما كان بالإمكان أن يخضعوا لنبي من غير قومهم، كما قال سبحانه في الآيتين: (198 و 199) من سورة الشعراء: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ

(429)

الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنينَ).

كان هذا طبعاً للمرحلة الاُولى من الدعوة، وفي المراحل التالية أُلغيت مسائل القومية والوطن (الجغرافي)، وربّى الإسلام أبناءه على أساس مبادىء «العالميّة» كوطن، و«الإِنسانية» كقومية.

بعد ذكر هذه النعمة يشير القرآن إلى أربع نِعَم عادت على المسلمين ببركة هذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم):

1 ـ (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا)، ويتلو من التلاوة، أي من إتيان الشيء متوالياً، والإتيان بالعبارات المتوالية (وبنظام صحيح) هي التلاوة.

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إذن يقرأ عليكم آيات الله متتالية، لتنفذ إلى قلوبكم، ولإعداد أنفسكم إلى التعليم والتربية.

2 ـ (وَيُزَكِّيكُمْ).

و«التّزكية» هو الزيادة والإنماء، أي إنّ النّبي بفضل آيات الله يزيدكم كمالا مادياً ومعنوياً، وينمّي أرواحكم، ويربّي في أنفسكم الطهر والفضيلة، ويزيل ألوان الرذائل التي كانت تغمر مجتمعكم في الجاهلية.

3 ـ (وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ).

التعليم طبعاً مقدم بشكل طبيعي على التربية، ولكن القرآن ـ كما ذكرنا ـ يقدم التربية في مواضع تأكيداً على أنها هي الهدف النهائي.

الفرق بين «الكتاب» و«الحكمة» قد يكون بلحاظ أن الكتاب إشارة إلى آيات القرآن والوحي الإِلهي النازل على النّبي بشكل إعجازي، والحكمة حديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاليمه المسمّاة بالسنة.

وقد يكون الكتاب إشارة إلى أصل التعاليم الإِسلامية، والحكمة إشارة إلى أسرارها وعللها ونتائجها.

(430)

ومن المفسرين من احتمل أن «الحكمة» إشارة إلى الحالة والملكة الحاصلة من تعاليم الكتاب. وبامتلاكها يستطيع الفرد أن يضع الأُمور في نصابها(1).

صاحب «المنار» يرفض أن يكون معنى الحكمة «السنة»، ويستدل على رفضه بالآية الكريمة (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)(2).

لكننا نعتقد أن الحكمة لها معنى واسع يشمل الكتاب والسنة معاً، أمّا استعمالها القرآني مقابل «الكتاب» (كما في هذه الآية) فيشير إلى أنها «السنة» لا غير.

4 ـ (وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) وهذا الموضوع طرحته الفقرات السابقة من الآية، حيث دار الحديث عن تعليم الكتاب والحكمة. لكن القرآن عاد فأكد ذلك في فقرة مستقلة تنبيهاً على أن الأنبياء هم الذين بيّنوا لكم المعارف والعلوم، ولولاهم لخفي كثير من ذلك عليكم. فهم لم يكونوا قادة أخلاقيين واجتماعيين فحسب، بل كانوا هداة طريق العلم والمعرفة، وبدون هدايتهم لم يكتب النضج للعلوم الإِنسانية.

بعد استعراض جانب من النعم الإِلهية في الآية، تذكر الآية التالية أن هذه النعم تستدعي الشكر، وبالإستفادة الصحيحة من هذه النعم يؤدي الإنسان حقّ شكر الباري تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُون).

واضح أن عبارة (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) لا تشير إلى معنى عاطفي بين الله وعباده كما يقول النّاس لبعضهم ذلك. بل تشير إلى أصل تربوي وتكويني، أي اذكروني ... اذكروا الذات المقدسة التي هي معدن الخيرات والحسنات والمبرات ولتطهر أرواحكم وأنفسكم، وتكون قابلة لشمول الرحمة الإلهية. ذكركم لهذه الذات المقدسة يجعل تحرككم أكثر إخلاصاً ومضاء وقوّة واتحاداً.

كذلك المقصود من «الشكر وعدم الكفران» ليس تحريك اللسان بعبارات

___________________________

1 ـ في ظلال القرآن، ج 1، ص 1.

2 ـ الإسراء، 39.

(431)

الشكر، بل المقصود استثمار كل نعمة في محلها وعلى طريق نفس الهدف الذي خلقت له، كي يؤدي ذلك الى زيادة الرحمة الإلهية.

* * *

بحثان

1 ـ أقوال المفسرين في تفسير (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

للمفسرين آراء متنوعة في تفسير هذه الآية، وفي بيان كيفية ذكر العبد وذكر الله.

الفخر الرازي في تفسيره لخصها في عشرة:

1 ـ اُذكروني «بالإطاعة» كي أذكركم «برحمتي». والشاهد على ذلك قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا الله والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(1).

2 ـ اُذكروني «بالدعاء» كي أذكركم «بالإجابة»، دليل ذلك قوله تعالى: (أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).

3 ـ اُذكروني «بالثناء والطاعة» لأذكركم «بالثناء والنعمة».

4 ـ اُذكروني في «الدنيا» لأذكركم في «الآخرة».

5 ـ أُذكروني في «الخلوات» كي أذكركم في «الجمع».

6 ـ أُذكروني «لدى وفور النعمة» لأذكركم في «الصعاب».

7 ـ أُذكروني «بالعبادة» لأذكركم «بالعون»، والشاهد على ذلك قوله: (إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِين).

8 ـ أُذكروني «بالمجاهدة» لأذكركم «بالهداية»، الشاهد على ذلك قوله سبحانه في الآية 69 من سورة العنكبوت: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).

___________________________

1 ـ آل عمران، 132.

(432)

9 ـ أُذكروني «بالصدق والإخلاص» لأذكركم «بالخلاص ومزيداً للإختصاص».

10 ـ أُذكروني «بالربوبية» لأذكركم بالرحمة. دليل ذلك مجموع آيات سورة الحمد.(1)

كل واحدة من التفاسير المذكورة هي طبعاً مظهر من مظاهر المعنى الواسع للآية. ولا تقتصر هذه المظاهر على ما سبق فيشمل المعنى أيضاً: أُذكروني «بالشكر» لأذكركم «بزيادة النعمة» كما ورد في قوله سبحانه: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)(2)

كل ذكر لله ـ كما قلنا ـ له أثر تربوي في وجود الإنسان إذ يجعل روحه مستعدة لنزول بركات جديدة متناسبة مع طريقة الذكر.

2 ـ المقصود من ذكر الله

من المؤكد أن ذكر الله ليس بتحريك اللسان فقط، بل اللسان ترجمان القلب، الهدف هو التوجه بكل الوجود إلى ذات البارئ سبحانه، ذلك التوجّه الذي يصون الإنسان من الذنب ويدعوه إلى الطاعة.

ومن هنا ورد في أحاديث عديدة عن المعصومين: أن ذكر الله ليس باللسان فحسب، ومن ذلك حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي به علياً قائلا:

«ثَلاَثٌ لاَ تُطِيقُهَا هذِهِ الأُمَّةُ: الْمُوَاسَاةٌ لِلأَخِ فِي مَالِهِ، وَإِنْصَافُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ، وَذِكْرُ اللهِ عَلَى حَالِ، وَلَيْسَ هُوَ سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ واللهُ أَكْبَرُ، وَلَكِنْ إِذَا وَرَدَ على مَا يَحْرُمُ عَلَيْه خَافَ اللهَ تَعَالى عِنْدَهُ وَتَرَكَهُ»(3).

___________________________

1 ـ التّفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 4، ص 144، مع شيء من التصرف.

2 ـ إبراهيم، 7.

3 ـ كتاب الخصال، نقلا عن تفسير نور الثقلين، ج1 ، ص 140.

(433)

على أية حال، لا ينبغي أن نغفل عن الروعة في هذا الإقتران ... الله سبحانه على عظمته وجلاله وجبروته يقرن ذكره بذكر عبده الضعيف المحدود الصغير، إنه تكريم ما بعده تكريم للإنسان.

* * *

(434)

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـبِرِينَ(153) وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللهِ أَمْوَتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ وَلَـكِن لاَّ تَشْعُرُونَ(154)

سبب النّزول

روي عن ابن عباس بشأن نزول الآية الثانية إنها نزلت في قتلى بدر، وعددهم أربعة عشر، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وبعد انتهاء الغزوة قال بعض المسلمين عن هؤلاء الشهداء إنّهم «أموات» فنهت الآية عن ذلك.

التّفسير

الشّهداء أحياء

الآيات السابقة عرضت مفاهيم التعليم والتربية والذكر والشكر، وهي مفاهيم ذات معنى واسع جداً، وتتضمن أغلب التعاليم الدينية، وفي الآية الاُولى من آيتي بحثنا دار الحديث حول الصبر الذي لا تتحقق المفاهيم السابقة بدونه.

تقول الآية أوّلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة).

واجهوا المشاكل والصعاب بهاتين القوتين، فالنصر حليفكم: (إِنَّ اللهَ مَعَ

(435)

الصَّابرِينَ).

خلافاً لما يتصور بعض النّاس «الصَّبْر» لا يعني تحمل الشقاء وقبول الذلة والإستسلام للعوامل الخارجية، بل الصبر يعني المقاومة والثبات أمام جميع المشاكل والحوادث.

لذلك قال علماء الأخلاق إن الصبر على ثلاث شعب:

الصبر على الطّاعة: أي المقاومة أمام المشاكل التي تعتري طريق الطاعة.

الصبر على المعصية: أي الثبات أمام دوافع الشهوات العادية وارتكاب المعصية.

الصبر على المصيبة: أي الصمود أمام الحوادث المرّة وعدم الإنهيار وترك الجزع والفزع.

قلّما كرر القرآن موضوعاً وأكد عليه كموضوع «الصبر»، ففي سبعين موضعاً قرآنياً تقريباً دار الحديث عن الصبر. بينها عشرة تختص بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

تاريخ العظماء يؤكد أن أحد عوامل انتصارهم ـ بل أهمها ـ صبرهم واستقامتهم. والأفراد الفاقدون لهذه الصفة سرعان ما ينهزمون وينهارون. ويمكن القول أن دور هذا العامل في تقدم الأفراد والمجتمعات يفوق دور الإمكانات والكفاءات والذكاء ونظائرها.

من هنا طرح القرآن هذا الموضوع بعبارات مؤكدة كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب)(1)

وفي موضع آخر يقول سبحانه بعد أن ذكر الصبر أمام الحوادث: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الأُمُورِ)(2)

من خصائص الصبر أن بقية الفضائل لا يكون لها قيمة بدونه، لأن السند

___________________________

1 ـ الزمر، 10.

2 ـ لقمان، 17.

(436)

والرصيد في جميعها هو الصبر، لذلك يقول أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مِنَ الإِيْمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلاَ خَيْرَ في جَسَد لاَ رَأْسَ مَعَهُ وَلاَ فِي إِيمَان لاَ صَبْرَ مَعَهُ»(1).

الروايات الإسلامية ذكرت أن أسمى مراحل الصبر ضبط النفس تتجلّى في مقاومة الانسان عند توفّر وسائل المعاصي والذنوب.

الآية التي يدور حولها بحثنا تؤكد للجماعة المسلمة الثائرة في صدر الإسلام خاصة أن الأعداء يحيطونهم من كل حدب وصوب، وتأمرهم أن يستعينوا بالصبر أمام الحوادث، فنتيجة ذلك استقلال الشخصية والإِعتماد على النفس والثّقة بالذات في كنف الإيمان بالله. وتاريخ الإسلام يشهد بوضوح أن هذا الأصل كان أساس كل الإنتصارات.

الموضوع الآخر الذي أكدت عليه الآية أعلاه باعتباره السند الهام إلى جانب الصبر هو «الصلاة». وروي أن عليّاً(عليه السلام): «كَانَ إِذَا أَهالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ قَامَ إِلى الصَّلاَةِ ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الآية: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ...)(2).

ولا عجب في ذلك، فالإِنسان حين يرى نفسه أمام عواصف المشاكل المضنية، ويحسّ بضعفه في مواجهتها، يحتاج إلى سند قوي لا متناه يعتمد عليه. والصلاة تحقق الإرتباط بهذا السند، وتخلق الطمأنينة الروحية اللازمة لمواجهة التحديات.

فالآية أعلاه تطرح مبدأين هامّين: الأوّل ـ الإعتماد على الله، ومظهره الصلاة، والآخر ـ الإعتماد على النفس، وهو الذي عبرت عنه الآية بالصبر.

وبعد ذكر الصبر والإستقامة تتحدث الآية التالية عن خلود الشهداء، الذين يجسّدون أروع نماذج الصابرين على طريق الله.

___________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 82.

2 ـ الكافي، نقلا عن الميزان، ج 1، ص 154.

(437)

تقول الآية: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ) ثم تؤكد هذا المفهوم ثانية بالإستدراك (بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ).

في كل حركة ـ أساساً ـ تنزوي مجموعة محبّة للعافية، وتبتعد عن الاُمّة الثائرة، ولا تكتفي هي بالتقاعس والتكاسل، بل تسعى إلى تثبيط عزائم الآخرين وبثّ الرخوة والتماهل في المجتمع. وما أن تظهر حادثة مؤلمة حتى يعربون عن أسفهم وينقمون على الحركة التي أدت إلى هذه الحادثة، غافلين أن كل هدف مقدس يحتاج إلى تضحيات، وتلك سنة كونية.

القرآن الكريم يتحدث عن مثل هذه الفئة كراراً ويؤنّبهم بشدّة.

ثمة أفراد من هؤلاء كانوا يتظاهرون بالتأسف والتألم على (موت) شهيد من شهداء الإسلام في المعركة، ويبعثون بذلك القلق والاضطراب في النفوس.

والله سبحانه يرد على هذه الأقاويل السامة بالكشف عن حقيقة كبرى هي إن الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله ليسوا بأموات ... هؤلآء أحياء ... ويتمتعون بنعم الله ورضوانه، لكن البشر المحدودين في عالم الحسّ لا يدركون هذه الحقائق.

* * *

1 ـ خلود الشّهداء

للمفسرين آراء مختلفة في معنى حياة الشّهداء وخلودهم. ظاهر الآية يشيردون شك إلى أنّهم يتمتعون بنوع من الحياة البرزخية الروحية، لأن أجسامهم قد تلاشت، فهم يعيشون تلك الحياة بجسم مثالي(1) كما يقول الإمام الصادق(عليه السلام)(2).

___________________________

1 ـ سنشرح ذلك في تفسير الآية 100 من سورة (المؤمنون). «ومن وارئهم برزخ إلى يوم يبعثون».

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 559.

(438)

من المفسرين من قال إنها «حياة غيبية» خاصة بالشّهداء لا تتوفر لدينا تفاصيلها وخصائصها.

وقيل إن الحياة المذكورة في الآية تعني الهداية، والموت يعني الضلال، فتكون الآية قد نهت عن وصف الشهداء بالضلالة، بل هم مهتدون. وقيل إن الشهداء أحياء لأن هدفهم حي ورسالتهم حية.

ولكن مع الاخذ بنظر الاعتبار التّفسير الأول للحياة يتضح أن المعاني في الاُخرى غير مقبوله. فلا حاجة لأن نتكلف التّفسيرين التاليين، ولا أن الحياة البرزخية مختصة بالشهداء فهم يحيون حياة برزخية روحانية، ويتنعمون كذلك بالقرب من رحمة الله وبأنواع نِعَمه.

2 ـ الشّهادة سعادة في الإسلام

قرر الإسلام مسألة الشهادة وبيّن منزلتها العظيمة في الآية أعلاه وآيات اُخرى لتكون عاملا فعّالا هامّاً على ساحة المواجهة بين الحق والباطل. وهذا العامل أمضى من أي سلاح وأقوى من كل المؤثرات، وهو قادر على أن يجابه أخطر الأسلحة وأفتكها في عصرنا الراهن، وتجربة الثورة الإسلامية في إيران أثبتت ذلك بوضوح. وقد شاهدنا بأم أعيننا إنتصار المندفعين نحو الشهادة ـ بالرغم من ضعف إمكاناتهم المادية ـ على أعتى القوى المتجبّرة.

ولو ألقينا نظرة على تاريخ الإسلام، والملاحم التي سطرها المسلمون في جهادهم الدّامي، والتضحيات التي قدمها المجاهدون على طريق الرسالة، لألفينا أن الدافع الأساس لكل هذه التضيحات هو درس الشهادة الذي لقنه الإسلام لأبنائه، وبموجبه آمنوا أن الشهادة على طريق الله وطريق الحق والعدالة لا تعني الفناء، بل السعادة والحياة الخالدة.

المقاتلون الذين تلقوا مثل هذا الدرس في مثل هذه المدرسة الكبرى، لا

(439)

يقاسون بالمقاتلين العاديين الذين يفكّرون في صيانة أرواحهم. أولئك يحاربون من أجل الرسالة ويندفعون بشوق عظيم نحو كسب وسام الشهادة.

3 ـ الحياة البرزخية وبقاء الروح

هذه الآية تثبت بوضوح بقاء الروح والحياة البرزخية للبشر (الحياة بعد الموت وقبل البعث)، وتردّ بصراحة على أولئك الذين ينكرون تعرض القرآن للحياة البرزخية وبقاء الروح.

سنفصّل الحديث في هذا الموضوع، وفي موضوع خلود الشّهداء ومنزلتهم العظيمة، في المجلد الثاني من هذا التّفسير عند تناولنا الآية 169 من سورة آل عمران.

* * *

(440)

الآيات

وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْص مِّنَ الاَْمْوَلِ وَالاَْنفُسِ وَالَّثمَرَتِ وَبَشِّرِ الصَّـبِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَآ أَصَـبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّاللهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَجِعُونَ(156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)

التّفسير

الدّنيا دار اختبار إلهي

بعد ذكر مسألة الشهادة في سبيل الله، والحياة الخالدة للشّهداء، ومسألة الصبر والشكر ... وكلّها من مظاهر الإختبار الإلهي، تعرضت هذه الآية للإختبار الإلهي العام، ولمظاهره المختلفة، باعتباره سنة كونية لا تقبل التغيير (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْض مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالَّثمَرَاتِ).

ولما كان الإنتصار في هذه الإختبارات، لا يتحقق إلاّ في ظل الثبات والمقاومة، قالت الآية بعد ذلك (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).

فالصابرون هم الذين يستطيعون أن يخرجوا منتصرين من هذه الإمتحانات، لا غيرهم.

الآية التالية تعرّف الصابرين وتقول: (أَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالوا: إِنَّا للهِ

(441)

وَإِنَّا إِلَيُهِ رَاجِعُونَ).

الإقرار التام بالعبودية المطلقة لله، يعلمنا أن لا نحزن على ما فاتنا، لأنه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب، إن شاء منحنا إيّاها، وإن استوجبت المصلحة أخذها منا، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.

والإلتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأن نقص المواهب المادية ووفورها غرض زائل، ووسيلة لإرتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة (إنَا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والإستقامة والصبر في النفس.

واضح أن المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط، بل استشعار هذه الحقيقة، والإلتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان.

وآخر آية في بحثنا هذا، تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى، التّي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الإمتحانات الإلهية: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(1).

هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار، لذلك تقول الآية: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة، يطرح القرآن مسألة الإمتحان الكبير بأبعاده المختلفة، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.

* * *

___________________________

1 ـ قيل إن الصّلوات هنا ألوان التكريم والتأييد ورفعة المقام، وعن ابن عباس أنّها غفران الذنوب (المنار، ج 2، ص 40)، وواضح أن الصّلوات لها مفهوم واسع يشمل هذه الاُمور وسائر النعم الإلهية.

(442)

1 ـ لماذا الإختبار الإلهي؟

في مجال الإختبار الإلهي تطرح بحوث كثيرة، وأوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الإختبار. فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الإختبار لعباده، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار؟! وهل هناك شيء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الإمتحان؟!

والجواب أن مفهوم الإخبتار الإلهي يختلف عن الإختبار البشري.

إختباراتنا البشرية ـ هي كما ذكرت آنفاً ـ تستهدف رفع الإبهام والجهل، والإختبار الإلهي قصده «التربية».

في أكثر من عشرين موضعاً تحدث القرآن عن الإختبار الإلهي، باعتباره سنّة كونية لا تنقض من أجل تفجير الطاقات الكامنة، ونقلها من القوّة إلى الفعل، وبالتالي فالإختبار الإلهي من أجل تربية العباد، فكما أن الفولاذ يتخلص من شوائبه عند صهره في الفرن، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضمّ الحوادث، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.

الإختبار الإلهي يشبه عمل زارع خبير، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو، ثمّ تصارع هذه البذرة كل المشاكل والصعاب بالتدريج، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديد والحر اللافح، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهرة أو شجرة مثمرة، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.

ومن أجل تصعيد معنويات القوات المسلحة، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب إصطناعية، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحر والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة.

وهذا هو سرُّ الإختبارات الإِلهية.

(443)

يقول سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز: (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(1).

ويقول أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في بيان سبب الإختبارات الإلهية: «... وَإِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ لِتَظْهَرَ الأَفْعَالُ الَّتي بِهَا يُسْتَحَقُّ الثَّوابُ وَالْعِقَابُ»(2).

أي أن الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معياراً للثواب والعقاب، فلابدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان، والله يختبر عباده ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم، ولكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.

لو لم يكن الإختبار الإلهي لما تفجرت هذه القابليات، ولما أثمرت الكفاءات، وهذه هي فلسفة الإختبار الإلهي في منطق الإسلام.

2 ـ الإختبار الإلهي عام

نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية، وكل الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها، حتى الأشجار تعبّر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار، من هنا فإن كل البشر، حتى الأنبياء، مشمولون بقانون الإختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.

الإمتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدّتها وبالتالي تختلف نتائجها أيضاً، يقول سبحانه: (أَحَسِبُ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)(3).

القرآن يعرض نماذج لإختبارات الأنبياء إذ يقول: (وَإِذِ ابْتَلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ)(4).

ويقول في موضع آخر بشأن إختبار سليمان: (فَلَمّا رَءَاهُ مُسْتَقِراً عِنْدَهُ قَالَ: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُونِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ...)(5).

___________________________

1 ـ آل عمران، 154.

2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 93.

3 ـ العنكبوت، 2.

4 ـ البقرة 124.

5 ـ النمل، 40.

(444)

3 ـ طرق الإختبار

ذكرت الآية أعلاه نماذج ممّا يختبر به الإنسان، كالخوف والجوع والأضرار المالية والموت ... لكن سبل الإختبار الإلهي لا تنحصر بما تقدم فذكر القرآن منها في مواضع اُخرى: البنين، والأنبياء، وأحكام الله، بل حتى بعض الوان الرؤيا: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِ وَالْخَيْرِ)(1).

نعلم أن النّاس إزاء الإختبارات الإلهية على نوعين: متفوّق في الإمتحان، وخاسر.

فحيثما تسود حالة «الخوف» مثلا، ترى جماعة يتراجعون كي لا يصيبهم سوء، فينفضون أيديهم من المسؤولية، أو يلجأون إلى المداهنة أو التماس الأعذار، كقولهم الذين يحكيه القرآن: (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائرَةٌ)(2).

وثمة جماعة تقف كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، تزداد توكلا وإيماناً، وهؤلاء الذي يقول عنهم القرآن: (أَلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(3).

وهكذا موقف النّاس من ألوان الإمتحانات الاُخرى، يعرض القرآن نماذج لموقف النّاجحين والفاشلين في الإختبار الإلهي، سنتناولها في مواضعها.

4 ـ عوامل النجاح في الإمتحان

هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر، وهو أنه اذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للإمتحان الإلهي، فما هو السبيل لاحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات اُخرى:

___________________________

1 ـ الأنبياء، 35.

2 ـ المائدة، 52.

3 ـ آل عمران، 173.

(445)

1 ـ أهمّ عامل للإنتصار أشارت إليه الآية بعبارة: (وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ)، فالآية تبشّر بالنجاح أُولئك الصابرين المقاومين، ومؤكدة أن الصبر رمز الإنتصار.

2 ـ الإلتفات إلى أن نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الادراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضاً عابراً وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: (إِنّا للهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

«كلمة الاسترجاع» هذه خلاصة كل دروس التوحيد، والإنقطاع إلى الله، والإعتماد على ذاته المقدسة في كل شيء وفي كل زمان. وأولياء الله ينطلقون من هذا التعليم القرآني، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد، وكي يجتازوا مرحلة الإختبار بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه.

قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في تفسير الإِسترجاع: «إِنَّ قَوْلَنَا: إِنّا للهِ إِقْرَارٌ عَلى أَنْفُسِنَا بِالْمُلْكِ، وَقَوْلَنَا: إِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِقْرَارٌ عَلى أَنْفُسِنَا بِالْهُلْكِ».(1)

3 ـ الإستمداد من قوّة الإيمان والألطاف الإلهية عامل مهم آخر في اجتياز الإختبار دون اضطراب وقلق وفقدان للتوازن. فالسائرون على طريق الله يتقدّمون بخطوات ثابتة وقلوب مطمئنة لوضوح النهج والهدف لديهم. وترافقهم الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(2).

4 ـ التدقيق في تأريخ الأسلاف، وإمعان النظر في مواقفهم من الإختبارات الإلهية، عامل مؤثر في إعداد الإنسان لاجتياز الإمتحان الإلهي بنجاح.

لو عرف الإنسان بأن ما أُصيب به ليس حالة شاذّة، وإنما هو قانون عام شامل لكل الأفراد والجماعات، لهان الخطب عليه، ولتفهم الحالة بوعي، ولاجتاز المرحلة بمقاومة وثبات. ولذلك يثبّت الله سبحانه على قلب نبيّه والمؤمنين

___________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 99.

2 ـ العنكبوت، 69.

(446)

باستعراض تأريخ الماضين، وما واجهه الأنبياء، والفئات المؤمنة من محن ومصائب خلال مراحل دعوتهم، يقول سبحانه: (وَلَقَدِ اُستُهزِىءَ بِرُسُل مِنْ قَبْلِكَ).(1).

ويقول تعالى: ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)(2).

5 ـ الإلتفات الى حقيقة علم الله سبحانه بكل مجريات الأُمور، عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة.

المتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالإرتياح حينما يعلمون أنهم في معرض أنظار أصدقائهم من المتفرجين، ويندفعون بقوّة أكثر في تحمل الصعاب.

إذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك، فما بالك بتأثير استشعار رؤية الله لما يجري على الانسان وهو على ساحة الجهاد والمحنة؟! ما أعظم القوّة التي يمنحها هذا الإستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمل مشاقّ المحنة!

حين واجه نوح(عليه السلام) أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك، جاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)(3).

وعبارة «بِأَعْيُنِنَا» كان لها ـ دون شك ـ وقع عظيم في نفس هذا النّبي الكريم، فاستقام وواصل عمله حتى المرحلة النهائية دون الالتفات إلى تقريع الاعداء واستهزائهم.

وَرَدَ عن سيّد الشهداء الحسين بن علي(عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته: «هَوَّنَ عَلَيَّ مَا نَزَلَ بِي أَنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ»(4).

___________________________

1 ـ الأنعام، 10.

2 ـ الانعام، 34.

3 ـ هود، 37.

4 ـ بحار الأنوار، ج 45، ص 46.

(447)

5 ـ الإختبار بالخير والشرّ

الإمتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن الله عبده بالخير وبوفور النعمة، كما يقول سبحانه: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)(1).

ويقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي ءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)(2).

وهنا ينبغي أن نشير إلى عدة مسائل:

أحدها: أنه ليس من الضروري أن يُخْتَبر جميع النّاس بجميع وسائل الإختبار، بل من الممكن أن يكون إختبار كل فئة بلون من الإمتحان يتناسب مع الوضع الفردي والإجتماعي لتلك الفئة.

والاُخرى: أنه من الممكن أن يجتاز الإنسان بعض الإمتحانات، بينما يفشل في إمتحانات اُخرى.

وقد يكون امتحان فرد من الأفراد موضع امتحان فرد آخر، كأن يكون موت ولد لإنسان موضع امتحان أصدقائه وأقاربه، ليُرى مدى اتخاذهم موقف المواساة من صاحبهم.

وأخيراً، فالإختبار الإلهي ـ كما ذكرنا ـ شامل عام يدخل في نطاقه حتى الأنبياء(عليهم السلام)، بل إن اختبارهم بسبب ثقل مسؤوليتهم أشدّ بكثير من اختبار الآخرين.

القرآن الكريم يعرض صوراً لاختبارات شديدة مرّ بها الأنبياء(عليهم السلام) وبعضهم مرّ بمراحل طويلة شاقة قبل وصوله إلى مقام الرسالة، كي يكون على أتمّ الإستعداد لتحمل أعباء قيادة أُمّته.

___________________________

1 ـ الأنبياء، 35.

2 ـ النمل، 40.

(448)

وبين أتباع مدرسة الأنبياء نماذج رائعة للصابرين المحتسبين، كل واحد منهم قدوة على ساحة الإمتحان الإِلهي.

فقد روي «أَنَّ أُمَّ عَقِيل كَانَتْ امْرَأةً فِي الْبَادِيَةِ فَنَزَلَ عَلَيْهَا ضَيْفَانِ وَكَانَ وَلَدُهَا عَقِيلٌ مَعَ الاِْبِل فَأُخْبِرَتْ بِأَنَّهُ ازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ الاِْبِلُ فَرَمَتْ بِهِ فِي الْبِئْرِ فَهَلَكَ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ لِلنّاعي انْزِلْ وَاقْضِ ذِمَامَ الْقَوْمِ وَدَفَعَتْ إِلَيْهِ كَبْشاً فَذَبَحَهُ وَأَصْلَحَهُ وَقَرَّبَ إِلَى الْقَوْمِ الطَّعَامَ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ صَبْرِهَا (قَال الرّاوي) فَلَمّا فَرِغْنَا خَرَجَتْ إِلَيْنَا وَقَالَتْ يَا قَوْمِ هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَحْسُنَ مِنْ كِتَابِ اللهِ شَيْئَاً؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَاقْرَأ عَلَيَّ آيات أَتَعَزَّى بِهَا عَنْ وَلَدِي فَقَرَأْتُ: «وَبَشِّرِ الصّابِرينَ الَّذِينَ إِذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا للهِ وَإِنّا إِلَيّهِ رَاجِعُونَ إِلى قَوْلِهِ الْمُهْتَدُونَ».

«فَقَالَتْ الْسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ صَفَّتْ قَدَمَيْهَا وَصَلَّتْ رَكَعَات ثُمَّ قَالَتْ: اللّهُمَّ إِنّي فَعَلْتُ مَا أَمَرْتَني فَانْجزْ لي مَا وَعَدْتِنِي. وَلَوْ بَقِيَ أَحَدُ لاَِحَد ـ قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَبَقِيَ ابْنِي لِحَاجَتِي إِلَيْهِ ـ فَقَالَتْ لَبَقِيَ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لأُمَّتِهِ، فَخَرَجْتُ»(1)

* * *

___________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 7، (مادة صبر).

(449)




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21740973

  • التاريخ : 27/07/2024 - 02:38

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net