00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاعراف من آية 26 ـ 43 من ( بداية الجزء الخامس ـ 50 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الخامس

[5]

 

الآيات

يبَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِبَاسَاً يُورِى سَوْءَتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ ءَايَـتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26) يَـبَنِى ءَادَمَ لاَيَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـنُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُما لِبَاسَهُمـا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَتِهِمآ إِنَّهُ يَرَيكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنا الشَّيطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَـحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28)

التّفسير

إنذار إلى كل أبناء آدم:

إنّ قصة آدم ومشكلته مع الشيطان ـ كما أسلفنا في آخر بحث في الآيات السابقة ـ عكست تصويراً واقعياً عن حياة جميع أفراد البشر على الارض، ولهذا بيّن الله تعالى في الآيات الحاضرة وما بعدها سلسلة من التعاليم والبرامج البنّاءة لجميع أبناء آدم، وهي تعتبر في الحقيقة إستمراراً لبرامج آدم في الجنّة.

ففي البداية يشير إلى مسألة اللباس وستر سَوءات البدن التي كان لها دور مهم

[6]

في قصّة آدم، إذ يقول: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم).

ولكن فائدة اللباس الذي أرسلناه لكم لا تقتصر على ستر البدن وإخفاء العيوب والسوءآت، بل للتجمل والزينة أيضاً حيث يجعل أجسامكم أجمل ممّا هي عليه. (وريشاً).

وكلمة «ريش» في الأصل هو ما يستر أجسام الطيور، وحيث أنّ ريش الطيور هو اللباس الطبيعي في أجسامها، لهذا أُطلِق على نوع من أنواع الألبسة، ولكن حيث أنّ ريش الطير في الأغلب مختلف الألوان جميلها، لذلك تتضمّن هذه الكلمة مفهوم الزينة والجمال، هذا مضافاً إلى أنّه تطلق كلمة الريش على الأقمشة التي تلقى على سَرْج الفرس أو جهاز البعير.

وقد أطلق بعض المفسّرين وأهل اللغة هذه اللفظة على معنى أوسع أيضاً، وهو كل نوع من أنواع الأثاث والحاجيات التي يحتاج إليها الإنسان، ولكن الأنسب في الآية الحاضرة هو الألبسة الجميلة وثياب الزينة.

ثمّ تحدث القرآن عقيب هذه الجملة التي كانت حول اللباس الظاهري، عن حدّ اللباس المعنوي تبعاً لسيرته في الكثير من الموارد التي تمزج بين الجانبين المادي والمعنوي، الظاهري والباطني إذ قال: (ولباس التقوى ذلك خير).

وتشبيه التقوى باللباس تشبيه قوي الدلالة، معبّرٌ جدّاً، لأنّه كما أنّ اللباس يحفظ البدن من الحرّ والقرّ، يقي الجسم عن الكثير من الأخطار، ويستر العيوب الجسمانية، وهو بالإضافة الى هذا وذاك زينة للإنسان، ومصدر جمال. كذلك روح التقوى، فإنّها مضافاً إلى ستر عيوب الانسان، ووقايته من الكثير من الأخطار الفردية والإجتماعية، تعدّ زينة كبرى له ... زينة ملفتة للنظر تضيف إلى شخصيته رفعة وسمّواً، وتزيدها جلالا وبهاءً.

ثمّ إنّ هناك مذاهب متعددة للمفسّرين في تحديد المراد من لباس التقوى، وأنّه ما هو؟

[7]

فبعض فسّره بـ «العمل الصالح» و بعض بـ «الحياء» و بعض بـ «لباس العبادة»، و بعض بـ « «لباس الحرب» مثل الدرع والخوذة، وحتى الترس، لأنّ لفظة التقوى مشتقّة من مادة «الوقاية» بمعنى الحفظ والحماية، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم أيضاً، كما نقرأ في سورة النحل الآية (81): (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ وسرابيل تقيكم بأسكم...).

ولكن للآيات القرآنية ـ كما قلنا مراراً ـ معنىً واسعاً في الغالب، ولها مصاديق متعددة ومختلفة، وفي الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ يمكن إستفادة جميع هذه المعاني منها.

وحيث أنّ لباس التقوى في هذه الآية موضوع في مقابل اللباس الساتر للبدن، لهذا يبدو للنظر أنّ المراد منه هو «روح التقوى» التي تحفظ الإنسان، وتنطوي تحتها معاني «الحياء» و«العمل الصالح» وأمثالهما.

ثمّ إنّ الله تعالى يقول في ختام الآية: (ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)أي إنّ هذه الألبسة التي جعلها الله لكم، سواء الألبسة المادية أو المعنوية، اللباس الجسماني أو لباس التقوى، كلّها من آيات الله ليتذكر الناس نعم الربّ تعالى.

نزول اللباس!

نلاحظ في آيات متعددة من القرآن الكريم أنّ الله سبحانه يقول في صعيد توفير اللباس للبشر: «وأنزلنا» وهو بمعنى الإرسال من مكان عال إلى الأسفل، إذ يقول: (قد أنزلنا عليكم لباساً) في حين أنّ اللباس كما هو المعلوم أمّا أنّه يُتَّخَذ من الصوف، أو يتّخذ من مواد نباتيّة وما شاكل ذلك من أشياء الأرض.

كما أننا نقرأ في الآية (6) من سورة الزمر (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وفي سورة الحديد الآية (35) (وأنزلنا الحديد). فماذا يعني هذا؟

يصرّ كثير من المفسّرين على تفسير مثل هذه الآيات بالنّزول المكاني أي من

[8]

فوق إلى تحت، مثلا يقولون: إنّ ماء المطر ينزل من السماء إلى الأرض فتروى منه النباتات والحيوانات، من هنا تكون مواد اللباس قد نزلت ـ بهذا المعنى ـ من السماء إلى الأرض.

وفي مجال الحديد أيضاً يقولون: إنّ الأحجار والصخور السماوية العظيمة التي تحتوي على عناصر الحديد قد انجذبت إلى الأرض.

ولكن النّزول ربّما استعمل بمعنى النّزول المقامي، وقد استعملت هذه اللفظة في المحاورات اليومية بهذا الشكل كثيراً، فيقال مثلا: أصدر الحاكم أمره إلى أمرائه ومعاونيه، أو يقال: رفعت شكواي إلى القاضي، لهذا لا داعي إلى الإصرار على تفسير هذه الآيات بالنّزول المكاني.

فحيث أنّ النعم الإلهية قد صدرت من المقام الرّبوبي الرفيع إلى البشر، لهذا عُبّرَ عن هذا المفهوم بهذا اللفظ، وهو تعبير يدركه الإنسان بدون إشكال أو صعوبة.

ويُشبه هذا الموضوع ما نلاحظه في ألفاظ الإشارة القريبة والبعيدة أيضاً، فقد يكون شيء ما ذا بال أو موضوع مهمّ في متناول أيدينا، ولكنّه ـ لما كان من حيث الشأن ـ يتمتّعِ بمقام مهمّ رفيع، فإنّنا نشير إليه بإسم الإشارة البعيد، فنقول في محاوراتنا مثلا: تلك الشّخصية، ونحن نقصد رجلا حاضراً قريباً، وقد جاء في القرآن الكريم: (ذلك الكتاب لا ريب منه). والمقصود من الكتاب المشار إليه بالإشارة البعيدة القرآن الحاضر، ولكن تعظيماً له أستعيض في الإشارة إليه عن أداة الإشارة القريبة بأداة الإشارة البعيدة.

اللباس في الماضي والحاضر:

لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب، ولكن الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعاً بالغاً عبر الزمن، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ و في الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ و القرّ وكذا للزينة والتجمل،

[9]

والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأُولى من الأهمية في كثير من الحقول، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء، وعمال المعادن والمناجم والغواصون، وغيرهم كثيرون، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.

لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطوراً هائلا، واتسع نطاقها اتساعاً كبيراً، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.

يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا: «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ماوصلت إليه من الإتقان، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه، وأراد الخروج قدّموا له معطفاً ليلبسه تذكاراً لهذه الزيارة، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله، فهم قد نظفوه في الآلات المنظِّفة، فغزلوه بآلات الغزل، فنسجوه بآلات النسج، ففصَّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور».(1)

ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة و تعددت كثيراً إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.

لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر، وإشاعة الفساد، وتحريك الشهوات، والتكبر والإسراف والتبذير، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابُعها الجنوني على الطابع العقلاني، وتكون أشبه بكل شيء إلاّ باللباس والثوب.

_____________________________

1 ـ المنار، ج8، ص 359.

[10]

والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة، هو أنّ للعُقد النفسية دوراً مهمّاً في إرتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم و ملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الاسلوب ويحاولون بإرتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من إرتداء مثل هذه الثياب.

وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّاً تهدر و تبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها و تبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الإجتماعية بها، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.

هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفداً من النصارى قدم على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جداً، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها، فلما حضروا عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سلموا عليه، لم يردَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على سلامهم، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة، وأعرض عنهم، فلمّا سألوا عليّاً(عليه السلام) عن سبب إعراض النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، قال(عليه السلام) لهم: أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكم ثمّ تعودون إليه.

ففعل النصارى ما قاله لهم الإمام(عليه السلام)، ثمّ دخلوا على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي بعثني بالحق لقد أتوني

[11]

المرّة الأُولى وإنّ إبليس لمعهم».(1)

الآية اللاحقة يحذّر فيها الله سبحانه جميع أبناء البشر من ذرية آدم من كيد الشيطان ومكره، ويدعو إلى مراقبته، والحذر منه، لأنّ الشيطان أبدى عداءه لأبيهم آدم، فكما أنّه نزع عنه لباس الجنّة بوساوسه يمكن أن ينزع عنهم لباس التقوى، ولهذا يقول تعالى: (يا بني آدم لا يفتننكم الشّيطان كما أخرج أبوبكم من الجنّة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءتهما).

وفي الحقيقة إنّ الأمر الذي يربط الآية الحاضرة بالآية السابقة هو أنّ الآية السابقة تحدثت عن اللباس الظاهري والمعنوي للإنسان (لباس التقوى)، وهذه الآيه تضمنت تحذيراً ودعوة له لمراقبة الشيطان والحذر من نزعه لباس التقوى عنكم.

على أنّ ظاهر عبارة (لا يفتننكم الشيطان) هو نهي الشيطان عن هذا العمل، ولكن أمثال هذه العبارات تعتبر كنايات لطيفة لنهي المخاطب، وتشبه ما إذا خاطبنا صديقاً نحبه قائلين: لا يصح أن يوجه إليك فلان ضربة، أى راقبه حتى لا تتعرض لضربته وأذاه.

ثمّ إنّ الله تعالى يؤكّد على أنّ الشيطان وأعوانه يختلفون عن غيرهم من الأعداء (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) فلابدّ من شدّة الحذر من مثل هذا العدّو.

وفي الحقيقة عند ما تظن أنك وحيد، فإنّه من الممكن أن يكون حاضراً معك، فيجب عليك الحذر من هذا العدوّ الخفيّ الذي لا يمكن معرفة لحظات هجومه وعدوانه المباغت، ولابدّ من اتخاذ حالة الدفاع الدائم أمامه.

وفي خاتمة الآية يأتي سبحانه بجملة هي في الحقيقة إجابة على سؤال مهم،

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلد الثاني، ص 4 ـ 5، مادة لبس.

[12]

فقد يتساءل أحد: كيف سلّط الله العادل الرحيم عدوّاً بهذه القوة على الإنسان ... عدوّاً لا يمكن مقايسة قواه بقوى الإنسان ... عدواً يذهب حيث يشاء دون أن يحس أحد بتحركاته، بل إنّه ـ حسبما جاء في بعض الأحاديث ـ يجري من الإنسان مجرى الدم في عروقه، فهل تنسجم هذه الحقيقة مع عدالة الله سبحانه؟!

الآية الشريفة ـ في خاتمتها ـ ترد على هذا السؤال الإحتمالي إذ تقول: (إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون).

أي إنّ الشياطين لا يسمح لهم قط بأن يتسلّلوا وينفذوا إلى قلوب وأرواح المؤمنين الذين لم يكونوا على استعداد لقبول الشيطان والتعامل معه.

وبعبارة أُخرى: إنّ الخطوات الأُولى نحو الشيطان إنّما يخطوها الإنسان نفسه، وهو الذي يسمح للشيطان بأن يتسلل إلى مملكة جسمه. فالشيطان لا يستطيع إجتياز حدود الروح ويعبرها إلاّ بعد موافقة من الإنسان نفسه، فاذا أغلق الانسان نوافذ قلبه في وجه الشياطين والأبالسة، فسوف لا تتمكن من النفوذ إلى باطنه.

إن الآيات القرآنية الأُخرى شاهدة أيضاً على هذه الحقيقة، ففي سورة النحل في الآية (100) نقرأ (إنّما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)، فالذين يتعشقون الشيطان ويسلمون إليه زمام أمرهم ويعبدونه هم الذين يتعرضون لسيطرته ووساوسه.

وفي الآية (47) من سورة الحجر نقرأ (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين).

وبعبارة أُخرى: صحيح أنّنا لا نرى الشيطان وجنوده وأعوانه، إلاّ أننا نستطيع أن نرى آثار أقدامهم، ففي كل مجلس معصية، وفي كل مكان تهيّأت فيه وسائل الذنب، وفي كل مكان توفرت فيه زبارج الدنيا وبهارجها، وعند طغيان الغرائز، وعند اشتعال لهيب الغضب، يكون حضور الشيطان حتمياً ومسلَّماً، وكأنَّ الإنسان

[13]

يسمع في هذه المواقع صوت وساوس الشيطان بآذان قلبه، ويرى آثار قدمه بأُمّ عينيه.

وقد روي ـ في هذا الصعيد ـ حديث رائع عن الإمام الباقر(عليه السلام) إذ يقول:

«لما دعا نوحٌ ربّه عزوجل على قومه أتاه إبليس لعنة الله فقال: يا نوح إنّ لك عندي يداً! أُريد أن أكافئك عليها.

فقال نوح: إنّه ليبغض إليّ أن يكون لك عندي يد، فما هي؟

قال: بلى دعوت الله على قومك فأغرقتهم، فلم يبق أحد أغويه، فأنا مستريح حتى ينشأ قرن آخر وأغويهم.

فقال نوح: ما الذي تريد أن تكافيني به؟

قال: أُذكرني في ثلاثة مواطن، فإنّي أقرب ما أكون إلى العبد إذا كان في أحدهن:

اُذكرني إذا غضبتَ؟

واُذكرني إذا حكمت بين اثنين!

واُذكرني إذا كنتَ مع امرأة خالياً ليس معكما أحد!»(1).

النقطة الأُخرى التي يجب الإنتباه إليها هنا، هي أنّ ثلّة من المفسّرين استنبطوا من هذه الآية أنّ الشيطان غيرقابل للرؤية للإنسان مطلقاً، في حين يستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الأمر ممكن أحياناً.

ولكن الظاهر أنّ هذين الإتجاهين غير متعارضين، لأنّ القاعدة الأولية والأصلية هي أن لا يُرى، ولكن لهذه القاعدة ـ كغيرها ـ استثناءات، فلا تناف.

في الآية التالية يشير تعالى إلى واحدة من وساوس الشيطان المهمّة والتي

_____________________________

1 ـ بحارالانوار، الطبعة الجديدة، الجزء 11، الصفحة 318.

[14]

تجري على ألسنة بعض الشياطين من الإنس أيضاً، وهي أنّه عندما يُسأل الشخص لدى ارتكابه عملا قبيحاً، عن دليله يجيب قائلا: هذا ما وجدنا آباءنا يفعلونه: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا).

ثمّ يضيفون إلى هذه الحجّة حجّة كاذبة أُخرى قائلين: (والله أمرنا بها).

إنّ مسألة التقليد الأعمى للآباء، بالإضافة إلى الإفتراء على الله، عذران مختلفان، وحجّتان داحضتان يتشبث بهما العصاة المتشيطنون لتبرير أعمالهم القبيحة غالباً.

والملفت للنظر أنَّ القرآن الكريم لم يَعبأ بالدليل الأوّل (يعني التقليد الأعمى للآباء والأسلاف) ولم يعتن به، وكأنّه وجد نفسه في غنىً عن الرّدّ عليه وإبطاله، لأنّ العقل السليم يدرك بطلانه، هذا مضافاً إلى أنّه قد ردّ عليه في مواضع عديدة من القرآن الكريم. وإنّما اكتفى بالردّ على الحجّة الثّانية، أو بالأحرى (التبرير الثّاني) حيث قال: (قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء).

إنّ الأمر بالفحشاء حسب تصريح الآيات القرآنية عمل الشيطان لا عمل الله، فإنّه تعالى لا يأمر إلاّ بالمعروف والخير(1).

ثمّ يختم الآية بهذه العبارة: (أتقولون على اللّه ما لا تعلمون).

ورغم أنّ الأنسب أن يقول: لماذا تنسبون ما هو كذب و ليس له واقع إلى الله؟ لكنّه قال بدل ذلك: لماذا تقولون ما لا تعلمون على الله؟ وهذا في الحقيقة استناداً الى الحدّ الأدنى من موضع قبول الطرف الآخر، فيقال: إذا كنتم لا تتيقنون كذب هذا الكلام، فعلى الأقل ليس لديكم دليل على إثباته، فلماذا تتهمون الله و تقولون على الله ما لا تعلمون؟!.

_____________________________

1 ـ راجع سورة البقرة، 268 و 269.

[15]

ما هو المقصود من الفحشاء؟

ما هو المراد من الفحشاء هنا؟ قالت طائفة كبيرة من المفسّرين: إنّها إشارة إلى تقليد كان سائداً بين جماعة من العرب في العهد الجاهلي، وهو الطواف حول بيت الله المعظم عرياناً «رجالا ونساءً» ظناً منهم بأنّ الثياب التي ارتكبت فيها الذنوب لا تليق بأن يطاف بها حول الكعبة المعظمة.

على أنّ هذا التّفسير يتناسب مع الآيات السابقة التي دار الحديث فيها عن الثّياب والألبسة.

ولكنّنا نقرأ في روايات متعددة أنّ المراد من الفحشاء هنا هو كلام حكّام الجور الذين يدعون الناس إلى أنفسهم، ويعتقدون بأنّ الله فرض طاعتهم على الناس.

ولكن بعض المفسّرين ـ مثل كاتب «المنار» و «الميزان» ـ أخذوا للآية مفهوماً واسعاً إذ قالوا: إنّ الفحشاء تشمل كل عمل قبيح منكر، وبملاحظة سعة مفهوم لفظة الفاحشة، فإنّ الأنسب هو أنّ للآية معنىً واسعاً سعة معنى الكلمة، ومسألة «الطواف بالبيت عرياناً» و «اتباع القادة والزعماء الظلمة» تعدّ من المصاديق الواضحة لذلك، فلا منافاة بين الطائفتين من الرّوايات.

هذا وقد أعطينا توضيحاً كافياً حول التسليم المطلق لتقاليد الأسلاف وأعرافهم عند تفسير الآية (170) من سورة البقرة.

* * *

[16]

الآيتان

قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكَمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَلَةُ إِنَّهُمُ اًتَّخَذُوا الشَّيطِينَ أؤْلِيَآءَ مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُهْتَدُونَ (30)

التّفسير

حيث أنّ الحديث في الآية السابقة دار حول الفحشاء التي يشمل مفهوماً كلّ أنواع الفعل القبيح، وتأكَّدَ أنّ الله يأمر بالفحشاء اطلاقاً لهذا أُشير في هذه الآية إلى أصول ومبادىء التعاليم الإلهية في مجال الوظائف والواجبات العملية في جملة قصيرة، ثمّ تبعه بيان أصول العقائد الدينية، أي المبدأ والمعاد، بصورة مختصرة موجزة.

يقول أوّلا: أيها النّبي (قل أمر ربي بالقسط) والعدل.

ونحن نعلم أنّ للعدل مفهوماً واسعاً يشمل جميع الأعمال الصالحة، لأنّ حقيقة العدل هي استخدام كل شيء في مجاله، ووضع كل شيء في محلّه.

ثمّ إنّه وإن كان بين «العدالة» و «القسط» تفاوتاً، إذ تطلق «العدالة» ويراد منها

[17]

إعطاء كل ذي حق حقه، ويقابلها «الظلم» وهو منع ذوي الحقوق من حقوقهم، بينما يعني «القسط» أن لا تعطي حق أحد لغيره.

وبعبارة أُخرى: أن لا يرضى بالتبعيض، ويقابله أن يعطي حقّ أحد لغيره.

ولكن المفهوم الواسع لهاتين الكلمتين اللتين قد تستعملان منفصلتين، متساو تقريباً، وهما يعنيان رعاية الإعتدال والتوازن في كل شيء وفي كل عمل، وبالتالي وضع كل شيء في مكانه.

ثمّ إنّه سبحانه أمر بالتوحيد في العبادة ومحاربة كلّ ألوان الشرك وأنواعه، إذ قال: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) أي وجهوا قلوبكم نحو الله الواحد دون سواه، (وادعوه مخلصين له الدين).

وبعد تحكيم وإرساء قاعدة التوحيد، وجه الأنظار نحو مسألة المعاد والبعث يوم القيامة، إذ قال: (كما بدأكم تعودون).

* * *

بحثان

هنا نقطتان يجب الإلتفات إليهما والوقوف عندهما:

1 ـ ما المقصود من «أقيموا وجوهكم ...»

ذكر المفسّرون في تفسير (أقيموا وجوهكم عند كل مسجد) تفاسير متنوعة، فتارة قالوا: المراد هو التوجه صوب القبلة.

وأُخرى: إنّ المراد هو المشاركة في المساجد أثناء الصلوات اليومية.

وثالثة احتملوا أيضاً أن يكون الهدف منه هو حضور القلب والنية الخالصة عند العبادة.

ولكن التّفسير الذي ذكرناه أعلاه (أي التوجه إلى الله، ومحاربة كل ألوان

[18]

الشرك والتوجه إلى غير الله) يبدو للنظر أنّه أنسب مع ما سبق وما يلحق هذه الجملة، وإن لم تكن إرادة كل هذه المعاني بعيدة عن مفهوم الآية أيضاً.

2 ـ أقصر الأدلة على المعاد

لقد بحث أمر المعاد والبعث في يوم القيامة كثيراً، ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هضم هذه المسألة كان أمراً صعباً وعسيراً بالنسبة إلى كثير من الناس في العصور الغابرة، إلى درجة أنّهم كانوا يتخذون أحياناً من طرح مسألة القيامة والمعاد من قبل الأنبياء دليلا على عدم صحة دعوتهم، وبل حتى (والعياذ بالله) دليلا على الجنون ويقولون: (افترى على الله كذباً أم به جنّة)(1).

ولكن يجب الإنتباه إلى أنّ ما كان يدعو لمزيد من تعجبهم ودهشتهم، هو مسألة المعاد الجسماني، لأنّهم ما كانوا يصدّقون بأنّ الأبدان بعد صيرورتها تراباً، و تبعثر ذراتها بفعل الرياح والاعاصير وتناثرها في أرجاء الأرض. أن تجتمع هذه الذرات المتبعثرة من بين أكوام التراب. وأمواج البحار، ومن بين ثنايا ذرات الهواء، ويلبس ذلك الإنسان لباس الوجود والحياة مرّة أُخرى.

إن القرآن الكريم أجاب في آيات متنوعة على هذا الظن الخاطيء، والآية الحاضرة تعكس إحدى أقصر وأجمل التعابير في هذا المجال، إذ تقول: أُنظروا إلى بداية الخلق، انظروا إلى جسمكم الذي يتكون من مقدار كبير من الماء، ومقدار أقل من المواد المعدنية وشبه المعدنية المختلفة المتنوعة أين كان في السابق؟ فالمياه المستخدمة في جسمكم يحتمل أنّ كل قطرة منها كانت سادرة في محيط من محيطات الأرض ثمّ تبخّرت وتبدلت إلى السُّحب، ثمّ نزلت في شكل قطرات المطر على الأراضي، والذرات التي استخدمت في نسيج جسمكم من مواد الأرض الجامدة كانت ذات يوم في هيئة حبّة قمح أو ثمرة شجرة، أو خضروات مختلفة جُمعت من مختلف نقاط الأرض.

_____________________________

1 ـ سورة سبأ، 8.

[19]

وعلى هذا فلا مكان للتعجب والدهشة إذا سمعنا أنّه بعد تلاشي بدن الإنسان ورجوعه إلى حالته الأُولى تجتمع تلك الذرّات ثانية، وتتواصل و تترابط ويتشكل الجسم الأوّل، فلو كان هذا الأمر محالا فلماذا وقع في مبدأ الخلقة.

إذاً «كما بدأكم» الله «تعودون» أي يعيدكم في الآخرة، وهذا هو الموضوع الذي تضمنته العبارة القصيرة.

في الآية اللاحقة يصف سبحانه ردود الفعل التي أظهرها الناس قبال هذه الدعوة (الدعوة إلى التوحيد والخير والمعاد) فيقول: (فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضّلالة).(1)

ولأجل أن لا يتصور أحد أنّ الله يهدي فريقاً أو يضلّ فريقاً من دون سبب، أضاف في الجملة ما يلي: (أنّهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) أي إنّ الضالين هم الذين اختاروا الشياطين أولياء لهم بدل أن يدخلوا تحت ولاية الله، فضلوا.

والعجب أنّه رغم كل ما أصابهم من ضلال وإنحراف يحسبون أنّهم المهتدون الحقيقون (ويحسبون أنّهم مهتدون).

إنّ هذه الحالة تختص بالذين غرقوا في الطغيان والمعصية، وكان انغماسهم في الفساد، والضلال والإنحراف، والوثنية، كبيراً إلى درجة أنّه انقلبت حاسة تمييزهم رأساً على عقب، فحسبوا القبيح حسناً، والضلالات هداية، وفي هذه الحالة أُغلقت في وجوههم كل أبواب الهداية، وهذا هو ما أوجدوه وجلبوه لأنفسهم.

* * *

_____________________________

1 ـ جملة «فريقاً هدى» من حيث الإعراب والتركيب تكون كالتالي: فريقاً مفعول هدى فعل وفاعل مؤخرين، وفريقاً (الثّانية) مفعول مقدم.

وأضل فعل وفاعل مؤخران مقدران دل عليهما جملة «حق عليهم الضلالة».

[20]

الآيتان

يَـبَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَ كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَتُسْرِفُوا إِنَّه لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبـتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيا خَالِصَةً يَومَ الْقِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ (32)

التّفسير

الحديث في هاتين الآيتين يتناسب مع قصّة آدم في الجنّة، وكذلك يتناول مسألة اللباس وسائر مواهب الحياة، وكيفية الإستفادة الصحيحة منها.

في البداية يأمر جميع أبناء آدم ضمن دستور عام أبدي، يشمل جميع الأعصار والقرون، أن يتخذوا زينتهم عندما يذهبون إلى المساجد (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد).

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى كل «زينة جسمانية» ممّا يشمل لبس الثياب المرتبة الطاهرة الجميلة، ومشط الشعر، واستعمال الطيب والعطر وما شابه ذلك كما يمكن أيضاً أن تكون إشارة إلى كل «زينة معنوية» يعني الصفات

[21]

الإنسانية والملكات الأخلاقية، وصدق النية وطهارتها وإخلاصها.

وإذا رأينا أنّ بعض الرّوايات الإسلامية تشير ـ فقط ـ إلى اللباس الجيّد أو مشط الشعر، أو إذا رأينا أنّ بعضها الآخر يتحدث ـ فقط ـ عن مراسيم صلاة العيد وصلاة الجمعة، فإنّ ذلك لا يدل على الإنحصار، بل الهدف هو بيان مصاديقها الواضحة(1).

وهكذا إذا رأينا أنّ طائفة أُخرى من الرّوايات تفسر الزينة بالقادة الصالحين(2)، فإنّ كل ذلك يدل على سعة مفهوم الآية الذي يشمل جميع أنواع الزينة الظاهرية والباطنية.

وهذا الحكم وإن كان يتعلق بجميع أبناء آدم في كل زمان ومكان، إلاّ أنّه ينطوي ضمناً على ذم عمل قبيح كان يقوم به جماعة من الأعراب في العهد الجاهلي عند دخولهم في المسجد الحرام والطواف بالكعبة المعظمة، حيث كانوا يطوفون بالبيت المعظم عراةً من دون ساتر يستر عوراتهم، كما أنّه يتضمن ـ أيضاً ـ نصيحة لأولئك الذين يرتدون عند إقامة الصلاة أو الدخول إلى المساجد ثياباً وسخة خلقة أو ألبسة تخصّ المنزل، ويشتركون في مراسيم عبادة وهم على تلك الهيئة المزرية، الأمر الذي نشاهده اليوم ـ وللأسف ـ بين بعض الغفلة السذج من المسلمين، في حين أننا مكلّفون ـ طبقاً للآية الحاضرة، والرّوايات الواردة في هذا الصعيد ـ بأن نرتدي لدى ارتيادنا للمساجد أفضل ثيابنا وألبستنا.

ثمّ في العبارة اللاحقة يشير سبحانه إلى مواهب أُخرى، يعني الأطعمة والأشربة الطاهرة الطيبة، ويقول: (وكلوا واشربوا).

ولكن حيث أنّ الإنسان حريص بحكم طبيعته البشرية، يمكن أن يسيء

_____________________________

1 ـ للإطلاع على هذه الرّوايات راجع تفسير البرهان المجلد 2، الصفحة الثّانية 9 و 10 وتفسير نورالثقلين المجلد الثّاني الصفحة 18 و 19.

2 ـ المصدر السابق.

[22]

استخدام هذين التعليمين، وبدل أن يستفيد من نعمة اللباس والغذاء الصحيح بالشكل المعقول والمعتدل، يسلك سبيل الإسراف والتبذير والبذخ، لهذا أضاف مباشرة قائلا: (ولا تسرفوا إنّ الله لا يحبّ المسرفين).

وكلمة «الإسراف» كلمة جامعة جدّاً بحيث تشمل كل إفراط في الكم والكيف، وكذا الأعمال العابثة والإتلاف وما شابه ذلك، وهذا هو أسلوب القرآن خاصّة، فهو عند الحث على الإستفادة من مواهب الحياة والطبيعة يحذّر فوراً من سوء إستخدامها، ويوصي برعاية الإعتدال.

وفي الآية اللاحقة يعمد إلى الردّ ـ بلهجة أكثر حدّةً ـ على من يظن أنّ تحريم أنواع الزينة والتزين والإجتناب من الأطعمة الطيبة الحلال علامة الزهد، وسبباً للتقرب إلى الله فيقول: أيّها النّبي (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)؟

إذا كانت هذه الأُمور قبيحة فإنّ الله تعالى لا يخلق القبيح، وإذا خلقها الله ليتمتع بها عباده فكيف يمكن أن يحرّمها؟ وهل يمكن أن يكون هناك تناقض بين جهاز الخلق، وبين التعاليم الدينية؟!

ثمّ أضاف للتأكيد: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)أي أنّ هذه النعم والمواهب قد خلقت للمؤمنين في هذه الحياة، وإن كان الآخرون ـ أيضاً ـ يستفيدون منها رغم عدم صلاحيتهم لذلك، ولكن في يوم القيامة حيث الحياة الأعلى والأفضل، وحيث يتميز الخبيث عن الطيب، فإنّ هذه المواهب والنّعم ستوضع تحت تصرف المؤمنين الصالحين فقط، ويحرم منها الآخرون حرماناً كليّاً.

وعلى هذا الأساس فإنّ ما هو للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وخاص بهم في العالم الآخر كيف يمكن أن يحرّم عليهم؟ إنّ الحرام هو ما يورث مفسدة، لا ما هو نعمة وموهبة.

[23]

هذا وقد احتمل أيضاً في تفسير هذه العبارة من الآية أنّ هذه المواهب وإن كانت في هذه الدنيا ممزوجة بالآلام والمصائب والبلايا، إلاّ أنّها توضع تحت تصرف المؤمنين وهي خالصة من كل ذلك في العالم الآخر (ولكن التّفسير الأوّل يبدو أنّه أنسب).

وفي ختام الآية يقول من باب التأكيد: (كذلك نفصل الآيات لقوم يَعْلَمون).

الزّينة والتّجمل من وجهة نظر الإسلام:

لقد اختار الإسلام ـ كسائر الموارد ـ حدّ التوسط والإعتدال في مجال الإنتفاع والإستفادة من أنواع الزينة، لا كما يظن البعض من أنّ التمتع والإستفادة من الزينة والتجمل ـ مهما كان بصورة معتدلة ـ أمر مخالف للزّهد، ولا كما يتصور المفرطون في إستعمال الزينة والتجمل الذين يجوّزون لأنفسهم فعل كل عمل شائن بغية الوصول إلى هذا الهدف الرخيص.

ولو أننا أخذنا بناء الجسم والروح بنظر الإعتبار، لرأينا أنّ تعاليم الإسلام في هذا الصعيد تنسجم تماماً مع خصائص الروح الإنسانية وبناء الجسم البشري ومتطلباتهما، واحتياجاتهما الذاتية.

توضيح ذلك: إنّ غريزة حبّ الجمال ـ باعتراف علماء النفس ـ هي إحدى أبعاد الروح الإنسانية الأربعة، والتي تشكل مضافاً إلى غريزة حب الخير، وغريزة حب الإستطلاع، وغريزة التّدين، الأبعاد الأصيلة في النفس الإنسانية. ويعتقدون بأنّ جميع الظواهر الجمالية الأدبية والشعرية، والصناعات الجميلة، والفن بمعناه الواقعي، إنّما هو نتيجة هذه الغريزة وهذا الإحساس.

ومع هذا كيف يمكن أن يعمد قانون صحيح إلى خنق هذا الحس المتأصل والمتجذر في أعماق الروح الإنسانية، ويتجاهل العواقب السيئة في حال عدم إشباعه بصورة صحيحة.

[24]

ولهذا لم يكتف في الإسلام بتجويز التمتع بجمال الطبيعة والإستفادة من الألبسة الجميلة والمناسبة، واستعمال كل أنواع العطور، وما شابه ذلك، بل أوصى بذلك وَحُثَّ عليه أيضاً، ورويت في هذا المجال أحاديث كثيرة عن أئمّة الدين في المصادر والكتب الموثوقة.

فإننا نقرأ ـ مثلا ـ في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) أنّه عندما كان ينهض إلى الصلاة كان يرتدي أحسن ثيابه، ولما سئل: لماذا يلبس أحسن ثيابه؟ قال: «إنّ الله جميل يحبّ الجمال، فأتجمل لربّي وهو يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد»(1).

وفي الحديث أنّ أحد الزهاد، ويدعى عباد بن كثير البصري، رأى الإمام الصادق(عليه السلام) وهو يلبس ثياباً غالية الثمن فقال معترضاً عليه: يا أبا عبدالله، إنّك من أهل بيت نبوة وكان أبوك وكان، فما لهذه الثياب المزينة عليك؟ فلو لبست دون هذه الثياب. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): «ويلك ـ يا عباد ـ من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيّبات من الرّزق؟»(2).

وأحاديث أُخرى.

إنّ هذا التعبير، أي أنّ الله جميل يحب الجمال، أو أنّ الله مصدر الجمال إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي : أنّ الإستفادة من كل نوع من أنواع الزينة والجمال لو كان ممنوعاً لما خلق الله تلك الزينة أبداً، إنّ خلق الأشياء الجميلة في عالم الوجود دليل على أنّ خالقها يحبّ الجمال.

ولكن المهم هنا أنّ الناس يسلكون ـ غالباً ـ في مثل هذه المواضيع طريق الإفراط والمبالغة، ويعمدون إلى الترف بمختلف الحجج والمعاذير.

ولهذا يعمد القرآن الكريم فوراً وبعد ذكر هذا الحكم الإسلامي ـ كما أسلفنا ـ

_____________________________

1 ـ الوسائل، المجلد الثالث، أبواب أحكام الملابس.

2 ـ الوسائل، أبواب أحكام الملابس الباب 7، ح 3.

[25]

إلى تحذير المسلمين من الإسراف والإفراط والمبالغة في الإستفادة من هذه الأُمور، ففي أكثر من عشرين موضعاً من القرآن الكريم يشير إلى مسألة الإسراف ويذمّه بشدّة (وقد تحدثنا بإسهاب حول الإسراف في تفسير الآيات المناسبة).

وعلى كل حال، فإنّ أُسلوب القرآن الكريم والإسلام في هذا الصعيد أسلوب يتسم بالتوازن والإعتدال، فلا جمود فيه يقمع الرغبات المودعة في الروح الإنسانية إلى الجمال، ولا هو يؤيد مسلك المسرفين المتطرفين وذوي البطنة والجشع في التمتع بالزينة والجمال.

بل هو ينهي حتى عن التزين والتجمل المعتدل في المجتمعات التي يعيش فيها محرومين مساكين، ولهذا نلاحظ في بعض الرّوايات والأحاديث أنّه عندما يُسأل أحد الأئمّة: لماذا يلبس ثياباً فاخرة، وقد كان جدّه لا يلبس مثل هذه الثياب؟ فيجيب الإِمام(عليه السلام) قائلا: «إنّ على بن أبي طالب(عليه السلام) كان في زمان ضيق، فإذا اتّسع الزمان فأبرار الزّمان أولى به»(1).

توصية صحية هامّة:

إنّ عبارة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) التي جاءت في الآية الحاضرة، وإن كانت تبدو للنظر أمراً بسيطاً جدّاً، إلاّ أنّه ثبت اليوم أنّه واحد من أهم الأوامر والتعاليم الصحية، وذلك لأنّ تحقيقات العلماء توصلت إلى أنّ منبع الكثير من الأمراض والآلام هو الأطعمة الإضافية الزائدة التي تبقي في بدن الإنسان إنّ هذه المواد الإضافية تشكل من جانب عبئاً ثقيلا على القلب وغيره من أجهزة الجسم، وهي من جانب آخر منبع مهيَّأ لمختلف أنواع العفونات والأمراض، ولهذا فإنّ الخطوة الأُولى لعلاج الكثير من الأمراض هو أن تحترق هذه المواد الزائدة التي

_____________________________

1 ـ الوسائل، ج3، أبواب الملابس الباب 7، ح 11.

[26]

تمثل ـ في الحقيقة ـ فضلات الجسم، وتتم عملية تطهير الجسم منها عملياً.

إنّ العامل الأصل في وجود هذه المواد الزائدة هو الإسراف، والإفراط في الأكل والبطنة، والطريق إلى تجنب هذه الحالة ليس إلاّ رعاية الإعتدال في الأكل، وخاصّة في عصرنا هذا الذي كثرت فيه أمراض مختلفة مثل السكري، وتصلب الشرايين، وأنواع السكتة، وما شابه ذلك من الأمراض التي يُعدّ الإفراط في الأكل مع عدم الحركة البدنية بالمقدار الكافي أحد العوامل الاساسية لها، وليس هناك من سبيل لإزالة هذه الأمراض وتجنبها إلاّ الحركة البدنية الكافية، والإعتدال في المأكل والمشرب.

وقد نقل المفسّر الكبير العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» قصة رائعة في هذا المجال وهي أنّه: حكي أنّ هارون الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان.

فقال له علي: قد جمع الله الطب كلَّه في نصف آية من كتابه وهو قوله: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) وجمع نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) الطب في قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء، واعط كل بدن ما عودته».

فقال الطبيب: ماترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً(1).

فمن كان يظن أنّ هذه التوصية سطحية، فما عليه إلاّ أن يجرّبها في حياته كما يدرك أهميتها ويسبر غورها، ويشاهد المعجزة في سلامة الجسم برعاية هذا الدّستور الصحي.

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 4، ص 413.

[27]

الآية

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاِْثمّ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33)

التّفسير

المحرمات الإلهية:

لقد شاهدنا مراراً أنّ القرآن الكريم كلّما تحدث عن أمر مباح أو لازم، تحدث فوراً عن ما يقابله، من الأُمور القبيحة والمحرمات، ليكمِّل كل واحد منهما الآخر.

وهنا أيضاً تحدّث ـ عقيب السماح بالتمتع والإستفادة من المواهب الإلهية وإباحة كل ما هو زينة وجمال ـ عن المحرمات على نحو العموم، ثمّ أشار بصورة خاصّة إلى عدة نقاط مهمّة.

ففي البداية تحدث عن تحريم الفواحش وقال: يا أيّها النّبى (قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن).

و «الفواحش» جمع «فاحشة» وتعني الأعمال القبيحة البالغة في القبح والسوء

[28]

لا جميع الذنوب، ولعلّ التأكيد على هذا المطلب (ماظهر منها وما بطن) هو لأجل أنّ العرب الجاهليين كانوا لا يستقبحون عمل الزنا إذا أُتي به سرّاً، ويحرّمونه إذا كان ظاهراً مكشوفاً.

ثمّ إنّه عمّم الموضوع، وأشار إلى جميع الذنوب وقال «والإثم» أي كل إثم.

والإِثمّ في الأصل يعني كل عمل مضرّ، وكل ما يوجب انحطاط مقام الإنسان وتردّي منزلته، ويمنعه ويحرمه من نيل الثواب والأجر الحسن. وعلى هذا يدخل كل نوع من أنواع الذنوب في المفهوم الواسع للإثم.

ولكن بعض المفسّرين أخذوا الإثمّ هنا فقط بمعنى «الخمر» واستدلوا لذلك بالشعر المعروف.

شربت الإِثمّ حتى ضلّ عقلي كذاك الإِثمّ يصنع بالعقول(1)

ولكنّ الظاهر أنّ هذا المعنى ليس هو تمام مفهوم الكلمة، بل أحد مصاديقه.

ومرّة أُخرى يشير بصورة خاصّة إلى عدد من كبريات المعاصي والآثام، فيقول: (والبغي بغير الحق) أي كل نوع من أنواع الظلم، والتجاوز على حقوق الآخرين.

و«البغي» يعني السعي والمحاولة لتحصيل شيء، ولكن يراد منه غالباً الجهود المبذولة لغصب حقوق الآخرين، ولهذا يكون مفهومه ـ في الغالب ـ مساوياً لمفهوم الظلم.

ومن الواضح أنّ وصف «البغي» في الآية المبحوثة بوصف «غير الحق» من قبيل التوضيح والتأكيد على معنى «البغي».

ثمّ أشار تعالى إلى مسألة الشرك وقال: (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً) فهو أيضاً محرّم عليكم.

_____________________________

1 ـ التبيان عند تفسير الآية المبحوثة، وتاج العروس مادة «إثم».

[29]

ومن الواضح أنّ جملة (ما لم ينزل به سلطاناً) للتأكيد، ولإلفات النظر إلى حقيقة أنّ المشركين لا يملكون أي دليل منطقي وأي برهان معقول، وكلمة «السلطان» تعني كل دليل وبرهان يوجب تسلّط الإنسان وانتصاره على من يخالفه.

وآخر ما يؤكّد عليه من المحرمات هو نسبة شيء لم يستند إلى علم الله (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).

ولقد بحثنا حول القول على الله بغير علم عند تفسير الآية (28) من نفس هذه السورة أيضاً.

ولقد أُكِّد في الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية على هذه المسألة كثيراً، ومُنِع المسلمون بِشدة عن قول ما لا يعلمون إلى درجة أنّه روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماوات والأرض».(1)

ولو أنّنا أمعنا النظر ودققنا جيداً في أوضاع المجتمعات البشرية، والمصائب والمتاعب التي تعاني منها تلكم المجتمعات، لعرفنا أنّ القسط الأكبر من هذا الشقاء ناشيء من بث الشائعات، والقول بغير علم، والشهادة بغير الحق، وإبداء وجهات نظر لا تستند إلى برهان أو دليل.

* * *

_____________________________

1 ـ عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، طبقاً لرواية تفسير نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 26.

[30]

الآية

وَلِكلِّ أُمَّة أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)

التّفسير

لكلّ أُمّة أجل:

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى واحدة من سنن الكون والحياة، يعني فناء الأُمم وزوالها، ويلقي ضوءاً أكثر على الأبحاث التي تتعلق بحياة أبناء البشر على وجه الأرض ومصير العصاة، التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة.

فيقول أوّلا: (ولكلّ أُمّة أجل).

ثمّ يشير إلى أنّ هذا الأجل لا يتقدم ولا يتأخر إن جاء (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

أي أنّ الأُمم والشعوب مثل الأفراد، لها موت وحياة، وأنّ الأُمم تندثر وينمحي أثرها من على وجه الأرض، وتحل مكانها أُمم أُخرى، وإنّ سنّة الموت وقانون الفناء لا يختصان بأفراد الإنسان، بل تشمل الجماعات والأقوام والأُمم أيضاً، مع فارق وهو أنّ موت الشعوب والأمم يكون ـ في الغالب ـ على أثر

[31]

إنحرافها عن جادة الحق والعدل، والإقبال على الظلم والجور، والإنغماس في بحار الشهوات، والغرق في أمواج الإفراط في التجمل والرفاهية.

فعندما تسلكُ الأمم في العالم هذه المسالك وتنحرف عن سنن الكون وقوانين الخلقة، تفقد مصادرها الحيوية الواحد تلو الآخر، وتسقط في النهاية.

إنّ دراسة زوال مدنيات كبرى، مثل حضارة بابل، وفراعنة مصر، وقوم سبأ، والكلدانيين والآشوريين، ومسلمي الأندلس وأمثالها، توضح الحقيقة التالية، وهي أنّه لدى صدور الأمر بزوال هذه المدنيات والحضارات الكبرى إثر بلوغ الفساد أوجه فيها لم تستطع حكوماتها أن تحفظ أسسها المتزعزعة حتى ساعة واحدة.

ويجب الإلتفات إلى أنّ «الساعة» في اللغة تعني أصغر وحدة زمنية، فربّما تكون بمعنى لحظة، وربّما تكون بمعنى أقل قدر من الزمن، وإن كانت الساعة تعني في عرفنا الحاضر اليوم مدة واحد من أربع وعشرين ساعة في اليوم.

الردّ على خطأ:

رأت بعض المذاهب المختلفة التي ظهرت في القرون الأخيرة بغية الوصول إلى أهدافها، أن تزعزع ـ بظنها ـ قبل أي شيء أُسس خاتمية رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا تمسكت ببعض الآيات القرآنية التي لا تدل على هدفها، وبمعونة من تفسيرها بالرأي، وشيء من المغالطة والسفسطة للتدليل على مقصودها.

ومن تلك الآيات الآية المبحوثة هنا. فقالوا: إنّ القرآن يصرّح بأنّ لكل أُمّة أجلا ونهاية، والمراد من الأُمّة الدين والشريعة، ولهذا فإنّ للدِّين الإسلامي أمداً ونهاية أيضاً!.

إنّ أفضل الطرق لتقييم هذا الإستدلال هو أن ندرس المعنى الواقعي للفظة الأُمّة في اللغة، ثمّ في القرآن الكريم.

[32]

يستفاده من كتب اللغة، وكذا من موارد استعمال هذه اللفظة في القرآن الكريم، والتي تبلغ 64 موضعاً، إنّ الأُمّة في الأصل تعني الجماعة.

فمثلا في قصة موسى نقرأ هكذا: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أُمّة من الناس يسقون)(1) أي يمتحون الماء من البئر لأنفسهم ولأنعامهم.

وكذا نقرأ في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (ولتكن منكم أُمّة يدعون إلى الخير)(2).

كما نقرأ أيضاً: (وإذا قالت أُمّة منهم لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم)(3). والمعنيون بالأُمّة هم أهالي مدينة إيلة من بني إسرائيل.

ونقرأ حول بني إسرائيل: (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أُمماً)(4).

من هذه الآيات يتّضح جيداً أنّ الأُمّة تعني الجماعة، ولا تعني الدين، ولا أتباع الدين، ولو أنّنا لاحظنا استعمالها في أتباع الدين، فإنّما هو بلحاظ أنّهم جماعة.

وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية المبحوثة هنا هو أنّ لكل جماعة من الجماعات البشرية نهاية، فليس آحاد الناس هم الذين يموتون، وتكون لأعمارهم آجال وآماد فحسب، بل الأُمم هي الأُخرى تموت، وتتلاشى وتنقرض.

وأساساً لم تستعمل لفظة الأُمّة في الدين أبداً، ولهذا فإنّ الآية لا ترتبط بمسألة الخاتمية مطلقاً.

* * *

_____________________________

1 ـ القصص، 23.

2 ـ آل عمران، 104.

3 ـ الاعراف، 164.

4 ـ الاعراف، 160.

[33]

الآيتان

يَـبَنِى ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(35)وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَـتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ أُولَئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ (36)

التّفسير

تعليم آخر لأبناء آدم:

مرّة أُخرى يخاطب الله سبحانه أبناء آدم وذريّته، إذ يقول: (يا بني آدم إمّا يأتينّكم رسل منكم يقصّون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(1) أي إذا أتاكم رسلي يتلون عليكم آياتي فاتّبعوهم، لأنّ من اتّقى منكم واتبعهم وأصلح نفسه والآخرين كان في أمن من عذاب الله الأليم، فلا يخاف ولا يحزن.

وفي الآية اللاحقة يضيف سبحانه وتعالى قائلا: (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أُولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون).

_____________________________

1 ـ «أمّا» مركبة في الأصل من «أن»، و «ما» و «إن» حرف شرط و «ما» حرف للتأكيد.

[34]

فتلك عاقبة المؤمنين، وهذه عاقبة المكذبين لهم.

رد على سفَسطة أُخرى:

أقدم جماعة من مختلقي الأديان والمذاهب في العصور الأخيرة ـ على غرار ما قلنا في تفسير الآيات السابقة ـ على التمسك بطائفة من الآيات القرآنية بغية تعبيد الطريق لأهدافهم والتمهيد لتحقيقها، وادعوا كونها دليلا على نفي خاتمية رسول الإسلام، على حين لا ترتبط هذه الآيات بتلك المسألة قط.

ومن تلكم الآيات الآية الحاضرة، فهم من دون أن يلاحظوا ما يسبقها وما يلحقها من الآيات قالوا: إن «يأتينّكم» فعل مضارع، ويدلّ على أنّه من الممكن أن يبعث الله رسلا آخرين في المستقبل.

ولكن لو رجعنا إلى الوراء قليلا، واستعرضنا الآيات التي تتحدث عن خلقة آدم وسكونته في الجنّة، ثمّ إخراجه منها هو وزوجته. ولاحظنا أنّ المخاطبين في هذه الآيات ليسوا المسلمين، بل مجموع البشر وجميع أبناء آدم، لاتضح جواب هذه الشّبهة وردّ هذا الإستدلال، لأنّه لا شك أنّه قد بعث لمجموع أبناء آدم رسل كثيرون، جاء ذكر أسماء طائفة معتد بها في القرآن الكريم، وجاء ذكر آخرين في كتب التواريخ.

غاية ما في الأمر أنّ هذا الفريق من مختلقي المذاهب والأديان، تجاهلوا الآيات السابقة بغية إضلال الناس وخداعهم، وقالوا: إنّ المخاطبين في هذه الآية هم خصوص المسلمين، وإستنتجوا من ذلك إمكان وجود رسل آخرين.

إنّ لأمثال هذه السفسطات نظائر كثيرة في السابق، وبخاصّة في حالة الفصل بين آية وأُخرى وجملة وأُخرى، والتغافل عن سوابق الآية ولواحقها، فينتزعون منها مفهوماً يوافق رغباتهم وإن كان يقابل المفهوم الواقعي للآية في الحقيقة.

* * *

[35]

الآية

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِايَـتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَـبِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَـفِرِينَ (37)

التّفسير

من هذه الآية فما بعد تتضمّن الآيات بيان أقسام مختلفة من المصير السيء الذي ينتظر المفترين والمكذبين لآيات الله تعالى، وفي البداية تشير إلى كيفية حالهم عند الموت، إذ تقول: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته).

وكما أسلفنا ـ في سورة الأنعام في ذيل الآية 21 ـ لقد عرف «أظلم الناس» في عدّة آيات من القرآن الكريم بتعابير مختلفة، ولكن الصفات التي ذكرت لهم تعود كلّهم إلى جذر واحد، وهو الشرك وعبادة الأصنام وتكذيب آيات الله سبحانه. وفي الآية المبحوثة هنا ذكرت مسألة الإفتراء على الله سبحانه كصفة بارزة من صفاتهم، مضافاً إلى صفة التكذيب بالآيات الإِلهية.

ونظراً إلى أنّ منشأ جميع أنواع الشقاء في نظر القرآن هو الشرك، ورأس مال

[36]

جميع السعادات هو التوحيد، يتّضح لماذا يكون هؤلاء الضالون المضلون أظلم الناس. إنّ هؤلاء ظلموا أنفسهم كما ظلموا المجتمع الذي يقيمون فيه، إنّهم يغرسون النفاق والتفرقة في كل مكان، ويشكّلون سدّاً ومانعاً كبيراً في طريق وحدة الصفوف والتقدم والإصلاحات الواقعية(1)

ثمّ إنّه تعالى يصف وضعهم عند الموت فيقول: (أُولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم). أي أنّ هؤلاء سيأخذون ما هو نصيبهم وما هو مقدر مكتوب لهم من النعم المختلفة، حتى إذا استوفوا حظهم من العمر، وانتهوا إلى آجالهم النهائية، حينئذ تأتيهم ملائكتنا الموكلون بقبض أرواحهم.

والمراد من «الكتاب» هي المقدرات من النعم المختلفة التي قدرها الله تعالى لعباده في هذا العالم، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب هو العذاب الإلهي، أو ما هو أعمّ من المعنيين.

ولكن بالنظر إلى كلمة (حتى) التي تشير عادة إلى إنتهاء الشىء، يتّضح أنّ المراد هو فقط نعم الدنيا المتنوعة المختلفة التي لكل أحد فيها حظ ونصيب، سواء المؤمن أو الكافر، الصالح والطالح، والتي تؤخذ عند الموت، لا العقوبات الإلهية التي لا تنتهي بحلول الموت، والتعبير بالكتاب عن هذه النعم والمقدرات إنّما هو لأجل شبهها بالأُمور التي تخضع للتقسيم والأسهم وتكتب.

وعلى كل حال، فإنّ عقوباتهم تبدأ منذ لحظة حلول الموت، ففي البداية يواجهون التوبيخ وعتاب الملائكة المكلّفين بقبض أرواحهم، فيسألونهم: أين معبوداتكم الّتي اتخذتموها من دون الله والتي طالما تحدثتم عنها، وكنتم تسوقون إليها ثرواتكم سفهاً. (قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله).

فيجيبهم هؤلاء بعد أن يرون أنفسهم منقطعين عن كلّ شيء، ويرون كيف

_____________________________

1 ـ لمزيد من التوضيح راجع تفسير الآية (21) من سورة الأنعام.

[37]

تبددت جميع أوهامهم وتصوراتهم الخاطئة حول آلهتهم وذهبت أدراج الرياح، قائلين: لا نرى منها أثراً وإنّها لا تملك أن تدافع عنّا، وإنّ جميع ما فعلناه من العبادة لها كان عبثاً وباطلا (قالوا ضلّوا عنّا).

وهكذا يشهدون على أنفسهم بالكفر والضلال (وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين).

إنّ ظاهر المسألة وإن كان يوحي بأنّ الملائكة تسأل وأنّهم يجيبون، ولكنّه في الحقيقة نوع من العقوبة النفسية لهم يُلفتون بها نظرهم إلى الوضع المأساوي الذي يصيبهم من جراء أعمالهم، ويرونهم كيف ضلوا وتاهوا في المتاهات والضلالات مدة طويلة من العمر، وضيّعوا كل رؤوس أموالهم الثمينة دون جدوى دون أن يحصدوا منها حصيلة مسِرَّة مشرّفة في حين أغلق في وجههم طريق العودة، وهذا هو أوّل سوط جهنّمي من سياط العقوبة الإلهية التي تتعرض لها أرواحهم.

* * *

[38]

الآيتان

قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمِ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِّنَ الْجِنّ وَالاِْنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتَ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَيهُمْ لاُِولَيهُمْ رَبَّنَا هَؤلاَءِ أَضَلُّونَا فَأتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعلَمُونَ (38)وَقَالَتْ أُولَيهُمْ لاُِخْرَيهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

التّفسير

تنازع القادة والاتباع في جهنم!

في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله.

ففي الآيات السابقة صُور لنا وضعهم عند حلول الموت، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلّة والغاوية، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة.

ففي يوم القيامة يقول الله لهم: التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن

[39]

سبقوكم، وذوقوا نفس مصيرهم النّار (قال ادخلوا في أُمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النّار).

إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بشكل أمر تكويني، يعني أن يجعلهم جميعاً في مكان واحد، أو يكون شبيهاً بأمر تشريعي يصدر إليهم يسمعونه بآذانهم، ويكونون مجبورين على إطاعته.

وعندما يدخل الجميع في النّار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك، وهي مصادمات عجيبة، فكلّما دخلت جماعة منهم في النّار لعنت الأُخرى واعتبرتها سبباً لشقائها ومسؤولة عن بلائها ومحنتها (كلّما دخلت أُمّة لعنت أختها).(1)

ولعلنا قلنا مراراً: إنّ ساحة القيامة وما يجري فيها انعكاس واسع وكبير لمجريات هذه الدنيا. فلطالما رأينا في هذا العالم الجماعات والفرق والأحزاب المنحرفة تلعن إحداها الأُخرى، وتبدي تنفرها منها. على العكس من أنبياء الله، والمؤمنين الصالحين، والمصلحين الخيّرين، فإنّ كل واحد منهم يؤيّد برنامج الآخر، ويعلن عن ارتباطه به واتحاده معه في الأهداف والغايات.

إلاّ أنّ الأمر لا ينتهي إلى هذا الحدّ، بل عندما يستقر الجميع ـ بمنتهى الذلّة والصغار ـ في الجحيم والعذاب الأليم، تبدأ كل واحدة منها برفع شكايتها إلى الله من الأُخرى.

فقي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم، وحيث أنّهم لا يجدون مناصاً ممّا هم فيه يقولون: ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا، فضاعف يا ربّ عذابهم، عذاباً لضلالهم وعذاباً لإضلالهم إيّاناً. وهذا هو ما يتضمّنه قوله تعالى: (حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أُخراهم لأُوليهم ربّنا

_____________________________

1 ـ التعبير بالاُخت كناية عن الإرتباط الفكري والصّلة الرّوحية بين هذه الفرق المنحرفة، وحيث أنّ الأُمّة مؤنث لفظي، لهذا عبّر عنها بالاُخت، لا الأخ.

[40]

هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النّار).

ولا شك أنّ هذا الطلب منطقي ومعقول جدّاً، بل إنّ المضلين سينالون ضعفاً من العذاب حتى من دون هذا الطلب، لأنّهم يتحملون مسؤولية انحراف من أضلوا أيضاً دون أن ينقص من عذابهم شيء، ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم: سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط (قال لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون).

ومع الإمعان والدقة يتّضح لماذا ينال المخدوعون المضللون ضعفاً من العذاب أيضاً، لأنّه لا يستطيع أئمّة الظلم والجور ورؤوس الإنحراف والضلال أن ينفذوا لوحدهم برامجهم، بل هؤلاء الأتباع المعاندُون المتعصبون لأسيادهم هم الذين يمدون قادة الضلال ورؤوس الإنحراف بالقوّة والمدّد الذي يوصلهم إلى أهدافهم الشريرة، وعلى هذا الأتباع يجب أن ينالوا ضعفاً من العذاب أيضاً، عذاباً لضلالهم هم، وعذاباً لمساعدتهم للظالمين وإعانتهم قادة الإنحراف.

ولهذا نقرأ في حديث معروف عن الإمام الكاظم(عليه السلام) حول أحد شيعته يدعى صفوان، حيث نهاه عن التعاون مع هارون الرشيد قائلا: «يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً».

قلت: جعلت فداك أي شيءً؟

قال(عليه السلام): إكراؤك جمالك من هذا الرجل (هارون الرشيد العباسي).

قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة)...

فقال لي(عليه السلام): ياصفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك.

فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك. قلت: نعم.

[41]

قال(عليه السلام): «من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النّار». (1)

وفي الآية اللاحقة ينقل القرآن الكريم جواب قادة الضلال والإنحراف بأنّه ليس بيننا وبينكم أي تفاوت، فإذا قلنا فقد أيدتم، وإذا خطونا فقد ساعدتم، وإذا ظلمنا فقد عاونتم، وإذن فذوقوا بإزاء أعمالكم عذاب اللّه الأليم، (وقالت أُولهم لأُخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).

والمقصود من «الأُولى» الطائفة الأُولى أي القادة (قادة الضلال الإنحراف) والمقصود من «الأُخرى» الأتباع، والأنصار.

* * *

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج17، ص182، 17.

[42]

الآيتان

إنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاش وَكَذلِكَ نَجْزِى الظَّلِمينَ (41)

التّفسير

مرّة أُخرى يتناول القرآن بالحديث مصير المتكبرين والمعاندين، يعني أُولئك الذين لا يخضعون لآيات الله ولا يستسلمون للحق، فيقول: (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء).

وقد جاء في حديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، وأمّا الكافر فيصعد بعمله وروحه حتى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد: اهبطوا به إلى سجّين«.(1)

وقد رويت بهذا المضمون أحاديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الطبري وسائر التفاسير، في ذيل الآية المبحوثة.

_____________________________

1 ـ مجمع البيان في ذيل الآية المبحوثة.

[43]

من الممكن أن يكون المقصود من السماء هنا معناه الظاهر، وكذا يمكن أن تكون كناية عن مقام القرب الإلهي، كما نقرأ في الآية (9) من سورة فاطر: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه).

ثمّ أضاف قائلا: (ولا يدخلون الجنّة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط)، أي حتى يدخل البعير في ثقب الاُبرة.

إنّ هذا التعبير كناية لطيفة عن استحالة هذا الأمر، وقد اختير هذا المثال والتصوير الحسّي للإخبار عن عدم إمكان دخول هؤلاء الأشخاص في الجنّة، فكما لا يتردد أحد في استحالة عبور الجمل بجثته الكبيرة من خلال ثقب الاُبرة، فكذلك لا ينبغي الشك في عدم وجود طريق لدخول المستكبرين إلى الجنّة مطلقاً.

و «الجمل» في اللغة يعني البعير الذي خرجت أسنانه حديثاً، ولكن أحد معاني الجمل هو الحبل القوي والمتين الذي تربط به السفن أيضاً(1).

وحيث إنّ بين الحبل والإبرة تناسباً أقوى وأكثر، لهذا ذهب بعضهم إلى هذا المعنى عند تفسير الآية، ولكن أكثر المفسّرين الإسلاميين رجّح المعنى الأوّل، وهم على حق في هذا الإتجاه لأُمور:

أوّلا: إنّ في أحاديث أئمّة الإسلام كذلك تعابير تناسب التّفسير الأوّل.

ثانياً: إنّه يلاحظ نظير هذا التّفسير حول الأثرياء (المتكبرين الأنانيين) في الإنجيل أيضاً، ففي إنجيل لوقا الباب 18 الجملة 24 و 25 نقرأ هكذا: إنّ عيسى قال: «ما أعسر دخول ذوي الأموال إلى ملكوت الله. لأنّ دخول الجمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله».

ولا أقل يستفاد من هذه العبارة أنّ هذه الكناية كانت متداولة بين الشعوب منذ قديم الزمان.

_____________________________

1 ـ راجع «تاج العروس»، و «القاموس» مادة الجمل.

[44]

وقد نستعمل هذا المثل أيضاً، في محاوراتنا اليومية الآن، فيقال عن الأشخاص المتشدّدين جدّاً أحياناً، والمتساهلين جدّاً أحياناً أُخرى: (إنّ فلاناً تارةً لا يدخل من باب المدينة، وتارةً يدخل من ثقب إبرة).

ثالثاً: بالنظر إلى أنّ استعمال لفظة الجمل في المعنى الأوّل (أي البعير) أكثر، بينما استعمالها في الحبل الغليظ قليل جداً، لهذا يبدو أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وفي خاتمة الآية يضيف تعالى للمزيد من التأكيد والتوضيح قائلا: (وكذلك نجزي المجرمين).

وفي الآية اللاحقة يشير إلى قسم آخر من عقوبتهم المؤلفة إذ يقول: (لهم من جهنّم مهاد و من فوقهم غواش)(1).

ثمّ يضيف للتأكيد (وكذلك نجزي الظّالمين).

والملفت للنظر والطريف: أنّه يعبّر عنهم مرّة بـ «المجرم» ومرّة بـ «الظالم» وثالثة بـ «المكذبين» لآيات الله، ورابعة بـ «المستكبرين»، وترجع جميعها إلى حقيقة واحدة في الواقع.

* * *

_____________________________

1 ـ المهاد جمع مهد وزان عهد أي الفرش، والغواش في الاصل غواشي جمع غاشية بمعنى كل نوع من أنواع الغطاء، كما أنّه يطلق على الخيمة أيضاً، وفي الآية الحاضرة يمكن أن يكون بمعنى الخيمة أو بمعنى الغطاء.

[45]

الآيتان

وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَآ أُولئِكَ أَصْحبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُون (42) وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الاَْنْهرُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدَينَا لِهَذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ  أَنْ هَدَينَا اللهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

التّفسير

الطّمأنينة الكاملة والسّعادة الخالدة:

إنّ أُسلوب القرآن ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ هو عرض الطوائف المختلفة وبيان مصائرها جنباً إلى جنب لتأكيد الموضوع، وشرح أوضاعها عن طريق المقارنة والمقايسة بينها.

ولقد كان البحث في الآيات السابقة حول المكذبين لآيات الله، والمستكبرين والظالمين، وهنا يشرح ويبيّن المستقبل المشرق للمؤمنين إذ يقول: (والذين آمنوا وعملوا الصّالحات ... أُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون).

[46]

وقد أتى بين المبتدأ والخبر بجملة معترضة(1). توضّح الكثير من الإبهامات إذ يقول: (لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها).

وهذه الجملة تؤكّد بأنّه لا ينبغي لأحد أن يتصور بأن الايمان بالله، والإتيان بالعمل الصالح وسلوك سبيل المؤمنين، أمر متعسر غير مقدور إلاّ لأفراد معدودين، لأنّ التكاليف الإلهية في حدود الطاقة البشرية وليست أكثر منها، وبهذا فتح الطريق في وجه كل أحد عالماً كان أو جاهلا، صغيراً كان أو كبيراً، ودعا الجميع إلى اللحاق بهذا الصف، فالمطلوب من كل أحد العمل بمقدار قابليته الفكرية والبدنية وإمكانياته.

إنّ هذه الآية ـ مثل سائر الآيات القرآنية ـ تحصر وسيلة النجاة والسعادة الأبدية في الإيمان والعمل الصالح، وهكذا تفنَّد العقيدة النّصرانية المحرفة الذين يعتبرون صلب المسيح في مقابل ذنوب البشر وسيلة للنجاة، ويقولون: إنّه قربان لخطايا الإنسانية.

إنّ إصرار القرآن الكريم على مسألة الإيمان والعمل الصالح، في الآيات المختلفة لتفنيد هذه المقولة وأمثالها.

وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة، والتي تكون سبباً لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية، إذ قال (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ).

و (الغِل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّاً، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل)، وإنّما يطلق

_____________________________

1 ـ ينبغي أن لا يتصور أحد بأنّ معنى الجملة المعترضة هو أنّ مفادها أجنبي وغريب من الموضوع المعترض، بل لابدّ أنّ هناك ارتباطاً ما بينها و بين ما قلبها وما بعدها، وإن كانت من حيث التركيب توسطت كلاماً متصلا، وعلى هذا الأساس فإنّ الجملة المعترضة معترضة من حيث التركيب اللفظي، لا من حيث ا لمعنى.

[47]

«الغلول» على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّاً لإرتكاب خيانة.(1)

وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة، ومصدر الكثير من الصراعات الإجتماعية الواسعة التي تؤدي ـ مضافاً إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس ـ الى زعزعة الاستقرار الروحي، هو الحسد والحقد.

فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.

إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة. إنّهم يعيشون معاً في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.

إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون مَن فوقهم أبداً، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.

ولقد نقل بعض المفسّرين حديثاً في المقام عن السدّي قال: «إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأُخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبداً»(2).

إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو «السّدي» ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في

_____________________________

1 ـ للمزيد من التوضيح راجع الآية (161) من سورة آل عمران.

2 ـ تفسير المنار، المجلد 8، الصفحة 421.

[48]

الأصل، لأنّ هذه الأُمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الإطلاع عليها.

وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطناً وظاهراً، جسماً وروحاً، فهم يتحلون بالجمال الجسماني، والجمال الروحاني معاً، ولهذا فهم لا يعانون، ـ مطلقاً ـ من الحسد والحقد.

فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أُخرى، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.

وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية، يُشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية، فيقول: (تجري من تحتها الأنهار).

ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).

وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم (ونودوا أن تلكم الجنّة أورثتموها بما كنتم تعملون).

ومرّة أُخرى نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.

و«الإرث» في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الإنتقال عبر مسير طبيعي تلقائي، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خَلَفه.

لماذا عبّر بالإرث؟

وهنا ينقدح سؤال وهو: كيف يقال لأهل الجنّة: هذه النعم أُورثتموها لقاء أعمالكم؟

[49]

والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول: «ما من أحد إلاّ وله منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون».(1)

فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة، أو من أهل النّار، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.

ومن البديهي أنّه عندما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.

وعلى كل حال، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر، وثبوت الإِختيار وحرية الإرادة في الإِنسان.

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 31، وتفسير القرطبي، المجلد الرّابع، الصفحة 2645، وتفاسير أُخرى.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337640

  • التاريخ : 29/03/2024 - 04:50

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net