00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانفال من آية 27 ـ 47 من ( ص 400 ـ 451 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[400]

الآيتان

يَـأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَـنَـتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَلُكُمْ وَأَوْلَـدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(28)

سبب النّزول

لقد وردت عدّة روايات في سبب نزول هاتين الآيتين، منها ما ورد عن الإِمامين الباقر والصّادق(عليهما السلام) من أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بمحاصرة يهود (بني قريضة) واستمرت هذه المحاصرة واحداً وعشرين يوماً، حتى أُجبروا على المطالبة بالصلح، كما جرى ذلك مع اليهود من (بني النضير) وذلك بأن يرحلوا عن أرض المدينة إِلى أرض الشام، لكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رفض ذلك العرض (لعلّه كان يشك في صدق نيّاتهم) وقال: يجب القبول بحكم (سعد بن معاذ) لكنّهم طلبوا من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أن يرسل إليهم (أبا لبابة) وهو من أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وكانت له معهم صداقة قديمة، وكانت عائلته وأبناؤه وأمواله عندهم.

فقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الطلب وأرسل (أبا لبابة) إليهم فاستشاروه: هل من مصلحتهم القبول بتحكيم (سعد بن معاذ)؟ فأشار أبو لبابة إِلى حلقه، بمعنى أنّكم لو

[401]

قبلتم فسوف تقتلون فلا ترضوا بهذا العرض، فهبط أمين الوحي جبرائيل(عليه السلام)إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بذلك.

يقول أبو لبابة: فواللّه ما زالت قدماي حتى عرفت إنّي خنت الله ورسوله، وعند ذاك نزلت هذه الآيات في أبي لبابة. وقد عاد أبو لبابة معلناً ندمه الشديد وأتى بحبل وربط نفسه به إِلى أحد أعمدة مسجد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وقال: واللّه لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى يموت أو يقبل الله توبته. واستمر على هذه الحال دون أكل وشرب إِلى سبعة أيّام، حتى فقد وعيه وسقط على الأرض مغشياً عليه، فقبل الله توبته، وقام المؤمنون بإبلاغة الخبر، لكنّه أقسم أن لا يفكّ نفسه من العمد حتى يأتيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويفك عنه الحبل، فجاءه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفكّ حبله، وقال (أبولبابة): إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي اصبت فيها بالذنب وأن انخلع من مالي، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)له: «يجزيك الثلث أن تصدّق به»(1).

وقد جاء هذا المضمون نفسه في كتب أهل السنة حول سبب النّزول، إلاّ أنّ بعضهم استبعد النّزول في شأن (بني قريضة)، لأنّ سابقاتها من الآيات تتعلق بحادثة بدر، ولأنّ هذه القضية لم تقع إلاّ بعد مدّة طويلة من واقعة بدر، لهذا قالوا: إنّ المقصود في الرّوايات هو أنّ حادثة بني قريضة من مصاديق الآية، لا أنّها نزلت فيها، وإنّ هذه العبارة يوردها الكثيرون في أسباب النّزول. فعلى سبيل المثال فقد جاء في بعض الكتب نقلا عن بعض الصحابة أنّ الآية الفلانية قد نزلت في قتل عثمان، غير أنّ من المعلوم أنّ قتل عثمان حدث بعد سنين طويلة من وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويحتمل أيضاً أن الآية قد نزلت في بني قريضة، ولكن بما أنّها كانت تتناسب والآيات النازلة في قضية بدر، فقد أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإلحاقها بتلك الآيات.

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 143.

[402]

التّفسير

الخيانة وأساسها:

يوجه الله سبحانه في الآية الأُولى من الآي محل البحث الخطاب إِلى المؤمنين فيقول: (يا أيّها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله).

إنّ الخيانة لله ورسوله، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرمات والأوامر الإِلهية، ولذلك فقد ورد عن (ابن عباس): إنّ من ترك شيئاً من الأوامر الإِسلامية فقد ارتكب خيانة بحق الله ورسوله.

ثمّ تقول الآية: (وتخونوا أمّاناتكم)(1).

و(الخيانة) في الأصل معناها: الإِمتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالباً، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشملُ شؤون الحياة الإِجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة، ولذلك جاء في الأحاديث: «المجالس بالأمانة».

ونقرأ في حديث آخر: «إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة. ومن ذلك تكون أرض الإِسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضاً. وفوق كل ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعد أمانة إلهية كبرى، وقد قال بعضهم: إنّ أمانة الله هي أوامره، وأمانة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سنته، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم، ولكن الأمانة في الآية ـ آنفاً ـ تشتمل على كل ذلك.

على كل حال، فإنّ الخيانة في الأمانة من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب. فإنّ من يخون الأمانة منافق في الحقيقة، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم). حيث قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا

_____________________________

1 ـ «تخونوا) في الأصل (لا تخونوا) وقد حذفت (لا) بقرينة الجملة السابقة.

[403]

ائتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم».

كما أن ترك الخيانة في الأمانة يُعدّ من الحقوق والواجبات الإِنسانية، حتى إذا كان صاحب الأمانة غير مسلم فلا تجوز خيانة أمانته.

ويقول القرآن في آخر الآية: (وأنتم تعلمون) أي أنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة، ولكن تُقدموا على الخيانة وأنتم تعلمون، فإنّ عملا كعمل (أبي لبابة) لم يكن لجهل أو خطأ، بل بسبب الحب المفرط للمال والبنين وحفظ المصالح الشخصية الذي قد يسد في لحظة حساسة كل شيء بوجه الإِنسان، فكأنّه لا يرى بعينه ولا يسمع بأذنيه ... فيخون الله ورسوله، وهذه في الحقيقة خيانة مع العلم; والمهم أن يستيقظ الإِنسان بسرعة كما فعل (أبو لبابة) ليصلح ما قام بتخريبه.

والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة، لئلا تلقى على عيونهم وآذاتهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إِلى الخطر فتقول: (واعلموا إنّما أموالكم وأولادكم فتنة).

وكلمة «فتنة» ـ كما ذكرنا ـ تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الإِمتحان، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لإِمتحان الإِيمان والكفر والشخصية وفقدانها، وميزان القيم الإِنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد).

فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه، والمحافظة عليه و ميزان التعلق به، كل تلك ميادين لإِمتحان البشر، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإِلهية ومسائل الحق والعدل والإِنسانية جانباً.

أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإِنسان وبراعم حياته المتفتحة، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإِنسانية، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم، فكأنّ ستاراً يلقى على

[404]

أفكارهم فينسون كل الأُمور، ويصير حبّهم لأبنائهم سبباً ليحُلُّوا الحرام ويحرموا الحلال، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر، فيجب علينا الإِعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للإِمتحان، وأن نحذر بشدّة، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبداً بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوماً، فيجب علينا الإِسراع في تصحيح المسير كـ (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الإِنحراف، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصراً، فتقول: (وإنّ الله عنده أجر عظيم).

فمهما كان حبّ الأبناء كبيراً، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.

وهنا تثارُ أسئلة كثيرة، منها: لماذا يمتحن الله الناس مع إحاطته العلمية بكل شيء؟ ولماذا يكون الإِمتحان شاملا للجميع حتى الأنبياء؟ وما هي مواد الإِمتحان الإِلهي وما هي السبل للتغلب عليها؟ وقد أجبنا على كل تلك الأسئلة في المجلد الأُولى من التّفسير الأمثل.

* * *

[405]

الآية

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)

التّفسير

الإِيمان ووضوح الرّؤية:

تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإِنسان، لكن العمل بها غير ممكن إِلاّ في ظلال التقوى، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإِنسان، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى.

فقالت إبتداءاً: (يا أيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً...).

وكلمة «فرقان» صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماماً.

إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإِنسان، وهي أنّ درب الإِنسان نحو النصر محفوف دائماً بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيداً ويحسنُ معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها

[406]

لامحالة، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل، معرفة الحسن والقبيح، معرفة الصديق والعدو، معرفة الفوائد والأضرار، معرفة عوامل السعادة والضياع، فإذا استطاع الإِنسان معرفة هذه الحقائق جيداً فسيسهل عليه الوصول إِلى الهدف.

إنّ المشكلة التي تعترض الانسان غالباً هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق، وإنتخاب العدوّ بدل الصديق، وطريق الضلال بدل طريق الهداية، وهنا يحتاج الإِنسان إِلى بصر وبصيرة قويّة، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول: إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإِنسان؟ فقد يكون الأمر مبهماً لدى البعض، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الإِثنين، ولإِيضاح ذلك نقول:

أوّلا: إنّ قوّة عقل الإِنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدُوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق، وهنا لا يمكن للإِنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق.

ثانياً: أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق، وكلّما اقترب الإِنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى، وكلّما تقدّم الإِنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.

وبعبارة أُخرى فإنّ قلب الإِنسان كالمرآة، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت، فسوف لا تعكس

[407]

النور، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان.

ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحاً من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبداً، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.

وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأُخرى، ففي سورة البقرة تقول الآية 282: (اتقوا الله ويعلمكم الله)، وجاء في الحديث المعروف: «المؤمن ينظر بنور الله».

وفي نهج البلاغة في قصار الكلم : «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

ثالثاً: بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضاً، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإِعلام فيها تطبل لذلك الميسر، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والإِنحراف وخدمة الفساد، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل، الجيد من الرديء، ونتيجة الأمر، فإنّ إنعدام التقوى يكون سبباً لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة.

ومثال آخر: فإنّ عائلة غير متقيّة، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.

وبناءً على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ ادنى انحراف عن التقوى يسبب نوعاً من

[408]

العمى وسوء المعرفة، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّاً في العلم والصناعة، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الإِستغراب والتعجب، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم.

ونظراً إِلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الإِنضباط في التفكير، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة.

والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لايتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره.

وهناك أمر آخر يجب الإِنتباه إليه، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإِسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإِنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجساً ومشكوكاً فيه، وينزوي جانباً متجنباً الخوض في الأُمور الإِجتماعية، ويسكت أمام كل واقعة، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإِسلامية، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقاناً بين الحق والباطل.

وعلى كل حال، وبعد أن إتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الإربعة لها.

يقول القرآن الكريم: إنّه إضافة إِلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم (ويكفر عنكم سيئاتكم).

[409]

مضافاً إِلى ذلك، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته (ويغفرلكم).

وثمار كثيرة أُخرى تنتظركم لا يعلمها إلاّ الله: (والله ذو الفضل العظيم). فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى، لأنّنا وكما قلنا مراراً في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته، فيمكن نسبة تلك الآثار إِلى الله عزّ وجلّ، وإِلى ذلك الموجود أيضاً.

وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و(الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأُولى إشارة إِلى الحجب من الدنيا، والثّانية إِلى النجاة من الجزاء الأخروي، ويردُ احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والإِجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى، ولكن (الغفران) إشارة إِلى مسألة العفو الإِلهي والخلاص من الجزاء ... .

* * *

[410]

الآية

إذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْيُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ الْمَـكِرِينَ(30)

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدثون أن الآية ـ محل البحث ـ تشير إِلى الحوادث التي أدت إِلى هجرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إِلى المدينة.

هذه الحوادث وإن رويت بعبارات مختلفة إلاّ أنّها تتفق جميعاً على حقيقة أنّ الله عزّ وجلّ قد أنقذ نبيّه الكريم عن طريق الإِعجاز من خطر محدق به، ونروي هذه الحادثة وفقاً لمّا ورت في الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية آنفاً ... .

قال المفسّرون: إنّها نزلت في شأن «دار النّدوة» وذلك أنّ نفراً من قريش اجتمعوا فيها وهي دار قصيّ بن كلاب، وتآمروا في أمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون، وقال أبوا البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبوجهل: ما هذا برأي، ولكن اُقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد... فيرضى بنو هاشم حينئذ بالديّة، فصوّب إبليس هذا الرأي، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد، وخطّأ

[411]

الأولّين.

فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرئيل(عليه السلام) فأخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فخرج إلى الغار وأمَر عليّاً فبات على فراشه، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش، وجدوا عليّاً(عليه السلام) وقد ردّ الله مكرهم فقالوا: أين محمّد؟ فقال: لا أدري، فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار رأوا على بابه نسجَ العنكبوت، فقالوا: لو كان ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاثاً ثمّ قدم المدينة»(1).

التّفسير

سِرّ بداية الهِجرَة:

يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذه الآية، وخمس آيات تليها، نزلت في مكّة لأنّها تشير إِلى هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن سياقها يدل على نزولها بعد الهجرة، إذ تتكلم على حادثة سابقة.

فبناءً على ذلك تكون هذه الآية قد نزلت في المدينة بالرغم من حديثها عن هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتحدث عن الذكرى الكبرى والنعمة العظمى التي منّ الله بها على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، فتقول في بدايتها (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك).

كلمة «المكر» كما ذكرنا سلفاً تعني في اللغة التدبير والتخطيط والحيلة.

ثمّ تضيفُ الآية قائلة: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).

فإذا أمعنّا النظر في موضوع هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّنا سنجد أنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقات فكرية وجسدية للقضاء على نبيّ الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مئة ناقة، وهذا العدد من

_____________________________

1 ـ الدر المنثور وفقاً لما نقل عنه صاحب المنار، ومجمع البيان ذيل الآية.

[412]

الإِبل كانَ يُعَدُّ ثروة كبرى يومئذ «هذه الجائزة لكلّ من يقبض على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)حتى بعد أن خرج عن قبضتهم» وقد طفق الكثير يجوبون الفيافي والجبال ليبحثوا عنه طلباً لتلك الجائزة الكبرى حتى بلغوا الغار، ولكن الله سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!

ونظراً إِلى أنّ هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تمثل مرحلة جديدة في التأريخ الإِسلامي، بل التأريخ الإِنساني، فإنّنا نستنتج أنّ الله قد غير مسيرة التأريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط! ...

وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل في جميع تأريخ الأنبياء، فإنّ الله سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح ـ مثلا ـ أو كثرة البعوض، أو الطير الصغيرة التي تُسمّى بالأبابيل، ليبيّن حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإِنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.

وممّا يسترعي النظر أنّ الإِلتجاء إِلى هذه الأساليب الثّلاثة: السجن والنفي والقتل، لم يكن منحصراً بالمشركين في مواجهة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، فإنّ الطغاة يلجأون إِلى هذه الإساليب الثّلاثة دائماً للقضاء على المصلحين وإسكاتهم، والحيلولة دون بسط نفوذهم بين المستضعفين، إلاّ أنّه كما كانت النتيجة خلاف ما أراده مشركو مكّة في شأن النّبي وأضحت مقدمة لتحرك إسلامي جديد، فكذلك مثل هذه الموجهات الشديدة قد باءت نتائجها في مواطن أُخرى بعكس ما كان متوقعاً.(1)

* * *

_____________________________

1 ـ الملاحظة اللطيفة هنا هو أنّ كتابة هذا التّفسير كانت في الاجزاء السابقة تسير مسيراً بطيئاً، ولكن بما أن راقم هذه السّطور حين كتابة هذا الجزء من التّفسير كان قد نُفي من قبل حكومة الطاغوت إِلى مدينة «مهاباد» و«أنارك» فإنّ كتابة هذا التّفسير قد سارعت الخطى بحيث إنّني أكلمت تمام هذا الجزء في ذلك المنفى.

[413]

الآيات

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَآ إِنْ هَـذَآ إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ(31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَاب أَلِيم(32) وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(34)وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(35)

التّفسير

القائلون شططاً:

ذُكر في الآية السابقة مثل خرافي من منطق المشركين العملي، وفي هذه الآيات مثل آخر من منطقهم الفكري، ليتّضح أنّ هؤلاء لم يمتلكوا سلامةً في الفكر

[414]

ولا صحة في العمل، فجميع أساليبهم خاوية بغير أساس.

تقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (وإذا تُتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذه إن هذا إلاّ أساطير الأولين).

كانوا يقولون مثل هذا الكلام عند ما يعجزون عن مواجهة القرآن ومعارضته، وكانوا يعرفون جيداً أنّهم غير قادرين على معارضة القرآن، إلاّ أنّهم ولحقدهم وعصبيتهم، أو لأنّهم يريدون إضلال الناس، كانوا يقولون: إنّ الإتيان بمثل هذه الآيات غير عسير ولو نشاء لقلنا مثلها، ولكنّهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثلها أبداً، وما هذا القول منهم سوى ادعاء فارغ يهدفون بذلك إِلى ابقاء كيانهم  الاجتماعي ـ كسائر الجبايرة في التأريخ ـ إِلى أمر معدود.

والآية التّالية تتحدث عن منطق عجيب آخر فتقول: (وإذ قالوا اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم).

لقد كانوا يقولون ذلك لشدّة تعصبهم وعنادهم، وكانوا يتصورون أنّ الدين الإسلامي لا أساس له أبداً، وإلاّ فإنّ أحداً يحتمل حقانية الإِسلام كيف يمكنه أن يدعو على نفسه بمثل هذا الدعاء؟

كما ويحتمل أيضاً أنّ شيوخ المشركين وسادتهم يقولون ذلك الكلام لتضليل الناس وليثبتوا لبساطائهم أنّ رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) باطلة تماماً، في حين أنّهم لا يعتقدون بما يقولون. وكأنّهم ـ أي المشركين ـ يريدون أن يقولوا للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّك تتكلم عن الأنبياء السابقين، وإنّ الله قد أهلك أعداءَهم بحجارة أمطرها عليهم «كما هي الحال في شأن قوم لوط» فإن كنت صادقاً فيما تقول فأمطر علينا حجارة من السماء!

وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام) (في مجمع البيان) أنّه لما نصب  رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) النعمان بن الحارث الفهري، فقال: أمرتنا من الله

[415]

أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثمّ لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عندالله؟

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «واللّه الذي لا إله إلاّ هو، إن هذا من الله». فولّى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله(1).

وهذا الحديث لا ينافي نزول الآية في قصّة الغدير، لأنّ سبب النّزول لم يكن موضوع النعمان، بل إن النعمان قد اقتبس من الآية في الدعاء على نفسه، وهذا يشبه قولنا في الدعاء مقتبسين ذلك من القرآن (ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) «وسيأتي تفصيل هذا الموضوع وما ذكرته كتب أهل السنة من أساتيد كثيرة له في ذيل الآية الأُولى من سورة المعارج (سأل سائل بعذاب واقع) بإذن الله».

وفي ماتقدم من الآيات نلاحظ أنّ المشركين وجّهوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)اشكالين.

الأوّل منهما: واضح البُطلان، وهو قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا. فلم يردّ عليه القرآن. بديهي أن هذا الإِدعاء أجوف كاذب، لأنّهم لو استطاعوا لما توانوا عنه أبداً ولجاءوا به، فلا حاجة إذن للردّ عليه.

والإِشكال الثّاني: لو كانت هذه الآيات نازلة من قبل الله فأنزل علينا العقاب والبلاء، فيرد عليهم القرآن في الآية الثّالثة، من الآيات محل البحث، بقوله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم).

وفي الحقيقة أنّ وجودك ـ يا رسول الله ـ الذي هو رحمة للعالمين، يمنع من نزول البلاء بسبب هذه الذنوب، فيهلك قومُك كما هلكت الأُمم السابقة جماعات

_____________________________

1 ـ راجع مجمع البيان، ج 5، ص 352 و تفسير نورالثقلين، ج 2، ص 151.

[416]

أو متفرقين.

ثمّ تعقيب الآية بالقول: (وما كان الله معذبهم وهم يسغفرون).

وللمفسّرين احتمالات متعددة في تفسير الجملة آنفة الذكر، منها أنّ بعض المشركين ندموا على قولهم الذي ذكرته الآية فقالوا: غفرانك ربّنا، وكان ذلك سبباً لأن لا ينزل عليهم العذاب حتى بعد خروج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة.

وقال بعضهم: إنّ الآية تشير إِلى من بقي من المؤمنين في مكّة، لأنّ بعضاً ممن لم يستطع الهجرة بقي فيها بعد خروج النّبي، فوجودهم الذي هو شعاع من وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منع من نزول العذاب.

كما يحتمل أن تكون هذه الجملة التي ذكرتها الآية تتضمّن مفهوم جملة شرطية، أي أنّهم لو ندموا على فعلهم توجهوا إِلى الله واستغفروه فسيرتفع عنهم عقاب الله.

كما لا يبعد ـ في الوقت ذاته ـ الجمع بين هذه الإِحتمالات كلّها في تفسير الآية، أي يمكن أن تكون الآية إشارة إِلى جميع هذه الإِحتمالات.

وعلى أية حال، فإنّ مفهوم الآية لا يختصُّ بمعاصري النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بل هو قانون عام كليّ يشمل جميع الناس. لهذا فقد روي في مصادرنا عن الإِمام علي، وفي مصادر أهل السنة عن تلميذ الإِمام علي «ابن عباس» أنّه قال(عليه السلام): «كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به. وقرأ هذه الآية»(1).

ويتّضح من الآية ـ محل البحث، والحديث آنف الذكر ـ أنّ وجود الأنبياء(عليهم السلام)مدعاة لأمن الناس من عذاب الله وبلائه الشديد، ثمّ الإِستغفار والتوبة والتوجه والضراعة نحو الله، إذ يعدُّ الإِستغفار والتوبة ممّا يدفع به العذاب.

_____________________________

1 ـ نهج البلاغه، الكلمات القصار.

[417]

فإذا انعدم الإِستغفار فإنّ المجتمعات البشرية ستفقد الأمن من عذاب اللّه لما اقترفته من الذنوب والمعاصي.

وهذا العذاب أو العقاب قد يأتي في صورة الحوادث الطبيعية المؤلمة، كالسيل مثلا، أو الحروب المدمّرة، أو في صور أُخرى. وقد جاء في دعاء كميل بن زياد عن الإِمام على(عليه السلام) قوله «اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء».

فهذا التّعبير يدل على أنّه لولا الإِستغفار فإنّ كثيراً من الذنوب قد تكون سبباً في البلاء والكوارث.

وينبغي التذكير بهذه اللطيفة، وهي أنّ الإِستغفار لا يعني تكرار ألفاظ معينة، كأن يقول المرءُ «اللهم اغفر لي» بل المراد منه روح الإِستغفار الذي هو حالة العودة نحو الحق والتهيؤ لتلافي ما مضى من العبد قبال ربّه.

والآية التّالية: تقول: إنّ هؤلاء حقيقون بعذاب الله (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام).

وهذا التعبير في الآية يشير إِلى يوم كان المسلمون في مكّة، ولم يكن لهم الحق أن يقيموا صلاة الجماعة بتمام الحرية، والإِطمئنان عند المسجد الحرام، إذ كانوا يتعرضون للإيذاء والتعذيب.

أو أنّ هذا التعبير يشير إِلى منع المشركين المسلمين وصدهم إياهم بعد أدائهم مناسك الحج والعمرة، فلم يأذنوا لهم بالتردد إِلى المسجد الحرام.

والعجيب أنّ هؤلاء المشركين كانوا يتصورون أنّ لهم حق التصرف كيفَما شاءوا في المسجد الحرام، وأنّهم أولياؤه. إلاّ أنّ القرآن يضيف في هذه الآية قائلا: (وما كانوا أولياءه) وبالرغم من زعمهم أنّهم أولياؤه فـ(إن أولياؤه إلاّ المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون).

ومع أنّ هذا الحكم ورد في شأن المسجد الحرام، إلاّ أنّه يشمل جميع المراكز الدينية والمساجد فإنّ سدنتها ينبغي أن يكونوا من أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم

[418]

وأكثرهم إهتماماً بالمحافظة على مراكز العبادة، ليجعلوها منطلقاً للتعليم وبثّ الوعي والإِيقاظ. إذ لا يصلح لإدارة هذه المراكز حفنةٌ من الحمقى أو باعة الضمائر الملوّثين والمرتبطين بالأجانب، الذين يسعون إِلى تحويل المساجد ومراكز العبادة إِلى محال تجاربة، أو جعلها مكاناً لتخدير الأفكار، والإِبتعاد عن الحقّ. وفي اعتقادنا أنّ المسلمين لو كانوا ملتزمين بتعاليم القرآن في شأن المساجد، لكانت المجتمعات الإِسلامية اليوم لها وجه آخر وصورةٌ مشرقةٌ!

والأعجب في هذا الشأن أنّ المشركين كانوا يدّعون أنّهم يصلّون ويعبدون الله بما كانوا يقومون به من أعمال قبيحة كالصفير والتصدية عند البيت، ولهذا فقد قالت الآية التالية عنهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءاً وتصدية).

ونقرأ في التأريخ أنّ طائفة من الأعراب في زمان الجاهلية عندما كانوا يطوفون بالبيت العتيق، كانوا يخلعون ثيابهم ويصفرون ويصفقون ويسمّون أعمالهم هذه عبادة، وورد أيضاً أنّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما كان يقف بجانب الحجر الأسود ويتجه بوجهه نحو الشمال ليكون في مقابل الكعبة وبيت المقدس، ويشرع بالصلاة، كان يقف إِلى يمينه ويساره رجلان من بني سهم فيأخذ أحدهم بالصياح والآخر بالتصفيق ليؤذياه في صلاته.

تعقب الآية على ما تقدم لتقول: إنّ أعمالكم ـ بل حتى صلاتكم ـ مدعاة للخجل والسفاهة ولذلك (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).

إنّ الإِنسان حين يقلّب صفحات التأريخ ويتوغّل فيه باحثاً عن جوانب من تاريخ عرب الجاهلية التي وردت الإشارة إليها في القرآن، يرى ـ ويا للعجب العجاب! ـ في عصرنا الحاضر الذي عُرف بعصر الفضاء والذرة من يُعيد تلك الأعمال التي كانت في زمان الجاهلية، ويتصوّر نفسه في عبادة، فيقرؤون الآيات القرآنية أو الأشعار في مدح النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والامام علي(عليه السلام) بالألحان الموسيقية ذات الإِيقاع المثير، وتهتزّ أيديهم ورؤوسهم بما يشبه حالة الرقص، ويسمّون ذلك ذكراً

[419]

ومدائح، ويقيمونها في التكايا وغيرها. مع أنّ الإسلام يبرأ من جميع هذه الأعمال، وهي مثل آخر من أمثلة أعمال «الجاهلية».

ويبقى هنا سؤال واحد، وهو أنّ الآية الثّالثة من الآيات محل البحث قد نفت نزول العذاب بتوفر شرطين طبعاً، والآية الرّابعة أثبتت تُرىْ ألا يقع التضاد بين الآيتين؟

والجواب: إنّ الآية السابقة إِلى العقاب الدنيوي، والآية اللاحقة لعلها إشارة إِلى العقاب الأُخروي، أو أنّها إشارة إِلى أنّ هؤلاء يستحقون العقاب في الدنيا وهو محدق بهم، فإذا مضى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يتوبوا ويستغفروا ربّهم فإنّه سينزل بهم لا محالة.

* * *

[420]

الآيتان

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَلَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثمّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36) لِيـَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْض فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ(37)

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم وكثير من التفاسير الأُخرى، أنّ الآية ـ محل البحث ـ نزلت في معركة بدر، وما بذله أهل مكّة للصدّ عن سبيل الله، لأنّهم لما عرفوا ما حصل ـ إذ جاءهم مبعوث أبي سفيان ـ قاموا بجمع الأموال الكثيرة ليعينوا بها مقاتليهم، إلاّ أنّهم خابوا وقتلوا وآبوا إلى جهنم وساءت مصيراً، وكان ما أنفقوه في هذا الصدد وبالا وحسرة عليهم. والآية الأُولى تشير إلى سائر معوناتهم التي قدموها في سبيل مواجهة الإِسلام ومحاربته، وقد طرحت الموضوع في صياغة كلّية.

وقال بعضهم: إنّ الآية نزلت في ما بذله أبوسفيان لألفي مقاتل «مرتزق» في

[421]

معركة أحد.

إلاّ أنّه لما كانت الآية محل البحث واقعة في سياق الآيات النازلة في معركة بدر، فإنّ الرأي الأوّل في شأن نزولها يبدو أقرب للصحة.

التّفسير

مهما يكن شأن نزول الآية، فمفهومها مفهوم جامع يحمل في معناه كلّ ما بذله أعداء الحق والعدل من أموال لنيل مقاصدهم المشؤومة، إذ تقول في مستهلها: (إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله).

إلاّ أنّ هذا الإِنفاق والبذل لن يحقق لهم نصراً (فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون).

ولا يبتلون بالحسرة والهزيمة في الدنيا فحسب، بل هم كذلك في الآخرة أيضاً (والذين كفروا إلى جهنم يحشرون).

* * *

ملاحظات

1 ـ يستفاد من الآية محل البحث أنّ «هؤلاء» يحسّون بعدم جدوى أعمالهم حتى قبل غَلبهم وانهزامهم، وحيث إنّهم لا يرون نتيجة مثمرة لما أنفقوه من الأموال، فسيبتلون بالألم والحسرة، وهذا الأمر هو نوع من جزائهم الدنيوي وأحد عقوباتهم فيها.

أمّا الجزاء الآخر الذي ينالونه، فهو فشل خططهم ومناهجهم، لأنّ الذين يقاتلون وهم متعلقون بالأموال والثروة لا يستطيعون مواجهة المقاتلين من أجل المبدأ والأهداف المقدسة.

وقد برهنت الحوادث في عصرنا هذا على أن الدول القوية التي تُغري

[422]

مقاتليها بالمال والرغبات المادية، كثيراً ما تصاب بالخزي والإِفتضاح والهزيمة بوجه الأمم المستضعفة التي تقاتل عن إيمان وعقيدة راسخة!...

وبالإِضافة إِلى هذين الجزاءين فهناك جزاء ثالث ينتظرهم يوم القيامة، وهو «الغضب الإِلهي».

2 ـ ما ذكرته الآية محل البحث، نجد له أمثلةً في عصرنا الحاضر، كقوى الإِستكبار، واتباع الظلم والفساد، ودعاة المذاهب الخرافية الباطلة، وباذلي الأموال الطائلة لتحقيق أهدافهم وتضليل الناس وصدهم عن سبيل الحق، وهم يظهرون بأزياء متعددة، فتارة في صورة المساعدات المالية ـ ظاهراً ـ كبناء المستشفيات، وأُخرى في صورة التعاون الثقافي، ومرّة في ثوب المقاتلين المرتزقة.

لكن الهدف النهائي واحد والماهية واحدة، فكل همّهم التوسعة الإِستعمارية والظلم والجور، ولو وقف المؤمنون حقّاً صفاً بوجه هذه المحاولات كما وقف أصحاب بدر لأحبطوا جميع هذه المحاولات ولباءت بالفشل، ولجعلوا هذا الإِنفاق وبالا وحسرة على المسكتبرين، ولساقوهم إِلى جهنم وساءت مصيراً.

3 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية واحدة من دلائل صدق دعوة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّها تخبر عن حوادث لم تكن وقعت بعد، وقد غُلب بها أعداء الإِسلام، ومع أن أُولئك بذلوا أموالا طائلة لإِنتصارهم!!

وإذا لم نعتبر الآية من الأخبار بالمغيبات التي تتعلق بالحوادث المقبلة، فإنّها على الأقل تكشف عن محتوى القرآن الدقيق في شأن المواجهة بين الحق والباطل، كما أنّها تكشف عن عظمة القرآن والتعاليم الإِسلامية.

وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإِنفاق أعداء الإِسلام، فإنّ الآية التي تليها تقول: (ليميز الله الخبيث من الطيّب).

هذه سنة إلّهية دائمة أن يُعرف المخلص من غير المخلص، والطاهر من غير

[423]

الطاهر، والمجاهد الصادق من الكاذب، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبداً، بل لابدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه. وهذا الأمر يتحقق ـ طبعاً ـ عندما يكون أتباع الحق ـ كأُولئك المسلمين الأوائل يوم بدر ـ في مستوى كاف من التضحية والوعي.

ثمّ تضيف الآية (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم).

فالخبيث من أية طائفة وفي أي شكل كان سيؤول في النهاية إِلى الخسران، كما تقول الآية في نهاية المطاف (أُولئك هم الخاسرون).

* * *

[424]

الآيات

قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاَْوَّلِينَ(38) وَقَـتِلُوهُمْ حَتَّى لاَتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39) وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَـكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40)

التّفسير

من المعلوم في أُسلوب القرآن هو الجمع بين البشارة والنذارة، أي أنّه كما ينذر أعداء الحق بالعقاب والعذاب، فإنّه يفتح لهم في الوقت نفسه طريق العودة أمامهم.

والآية الأُولى: من الآيات محل البحث تتبع هذا الأُسلوب ذاته، فتأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل للذين كفروا إن ينتهوا بغفر لهم ما قد سلف).

ويستفاد من الآية المباركة أنّ قبول الإِسلام يوجب محو كل سابقة وهو ما ورد في الرّوايات على أنّه أصل عام، كما في عبارة «الإِسلام يجبُّ ماقبله» أو ما جاء عن أهل السنة في تعبير آخر عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن «الإِسلام يهدم ما كان قبله،

[425]

وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما كان قبله»(1).

والمقصود من الحديث آنفاً هو أنّ كل ما عمله الإِنسان من سيئات وحتى تركه للفرائض والواجبات قَبلَ إِسلامه فسوف يُمحى عنه بقبوله الإِسلام، ولا يكون قبوله للاسلام أثر رجعي لما سبق، لهذا ورد في كتب الفقه عدمُ وجوب قضاء ما فات من العبادات على من أسلم.

وتضيف الآية قائلة: إنّهم إن لم يصححوا أسلوبهم (وإن يعودوا فقد مضت سنّة الأولين).

والمقصود من هذه السنة هو ما آل إليه أعداء الحق بعد ما واجهوا الأنبياء، وما أصاب المشركين عندما واجهوا النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) في معركة بدر.

فنحن نقرأ في سورة غافر، الآية: (51): (إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

ونقرأ في سورة الاسراء، الآية (77): بعد بيان سحق أعداء الإِسلام قوله تعالى: (سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا).

ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إِلى الحق، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولابدّ بعد الآن من اللين والتساهل، ترفعُ هذه الشبهة الآية التالية وتقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله).

وكلمة «الفتنة» ـ كما بيناها في تفسير الآية (193) من سورة البقرة ـ ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.

وتطلق الفتنه أيضاً على الضغوط التي يفرضها الأعداء، للوقوف بوجه اتساع

_____________________________

1 ـ صحيح مسلم وفقاً لما نقله صاحب المنار في تفسيره، ج 9، ص 665.

[426]

دعوة الإِسلام، ولإِسكات صوت أهل الحق، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.

وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والإِجتماعية من المسلمين. ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك، بقرينة قوله: (ويكون الدين لله)وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.

الهدف من الجهاد وبُشرى كريمة:

تشير الآية آنفة الذكر إِلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما:

1 ـ القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الارض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإِنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم، ولكن عبادة الأصنام ليست ديناً ولا فكراً، بل هي خرافة وجهل وإنحراف، وعلى الحكومة الإِسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإِعلام و التبليغ الإِسلامي ـ أوّلا ـ وإذا لم يؤدّ ذلك إِلى نتيجة فيجب اللجوء إِلى القوة لتدمير معابد الأوثان.

2 ـ نيل الحرية في نشر الإِسلام والتبليغ له، وفي هذا القسم أجاز الإِسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.

وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير «روح البيان» للآلوسي، وتفاسير شيعية أُخرى، عن الإِمام الصادق(عليه السلام) «لم يجيء تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعدُ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد ما بلغ الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى».(1)

_____________________________

1 ـ راجع مجمع البيان، ذيل الآية، وتفسير نور الثقلين، ج2، ص155، تفاسير أُخرى.

[427]

ولقد أنكر صاحب تفسير المنار ـ لتعصبه ـ هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهدي (عليه السلام)، وذلك لحكمه المُسبق المخطيء في هذه القضية، والعجيب أن له ميلا خاصاً في تفسيره إِلى الفكر الوهابي، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإِمام المهدي(عليه السلام) من الأُمور المسلّم بها، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.

وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (33) من سورة التوبة، كما سنشير إِلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا «المصلح العالمي الكبير».

وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إِلى الإِعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!

وأخيراً فإنّ الآية في نهايتها، وتزامناً مع الشدة في العمل، تمدّ يد المحبّة والرأفه إِلى الأعداء مرّة أُخرى فتقول: (فإن انتهوا فإنّ الله بما يعملون خبير)ولكن اذا تمادوا في عنادهم وطغيانهم ولم يستسلموا للحقّ، فاعملوا أنّ النصر حليفكم والهزيمة من نصيب أعدائكم، لانّ الله مولاكم وهو خير ناصر ومعين: (وإن تولوا فاعلموا أنّ الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير).

* * *

[429]

 

بدايَة الجزء العَاشِرْ القُرآن الكريم

[431]

 

الآية

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْء فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـمَى وَالْمَسَـكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم باللهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(41)

التّفسير

الخمس فرضُ إِسلامي مهم:

وجدنا في بداية هذه السورة كيف أنّ بعض المسلمين تشاجروا في شأن تقسيم الغنائم بعد غزوة بدر، وقد أمرالله سبحانه ـ درءاً لأُصول الخلاف ـ أن توضع الغنائم تحت تصرف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لينفقها بما يراه صالحاً، فقام بتقسمها بالتساوي بين المقاتلين المسلمين.

وفي هذه الآية عود إلى مسألة الغنائم، لتناسب الآيات التي سبقتها، والتي كانت تتكلم على الجهاد، إذ وجدنا في بعضها إشارات مختلفة لموضوع الجهاد، ولما كان الجهاد يرتبط بمسألة الغنائم غالباً، فكان في المقام تناسب بين الجهاد وبين ذكر أحكام الغنائم «بل سنلاحظ أن القرآن تعدى في حكمه إِلى أبعد من

[432]

مسألة الغنائم، ونظر إِلى جميع الموارد».

يقول الحق سبحانه: (واعلموا أنّما غنمتم من شيء فانّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى (الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)) واليتامى والمساكين وابن السبيل) ـ من ذرية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً. ويضيف مؤكّداً (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ـ أي يوم بدر ـ يوم التقى الجمعان).

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّه على الرغم من أنّ الخطاب في الآية موجه إِلى المؤمنين، لأنّها تبحث في غنائم الجهاد الإِسلامي، وبديهي أنّ المجاهد مؤمن، لكنّها مع ذلك تقول: (إن كنتم آمنتم بالله) وفي ذلك إشارة إِلى أنّ إدعاء الإِيمان وحده لا يعدّ دليلا على الإِيمان، بل حتى المشاركة في سوح الجهاد قد لا تكون دليلا على الإِيمان، فقد تكون وراء ذلك أُمور أُخرى. فالمؤمن الكامل هو الذي يذعن لإوامر الله كافة وينقاد لها، وخاصّة الأوامر والأحكام المالية، ولا يأخذ ببعض ويترك بعضاً، وتشير الآية في نهايتها إِلى قدرة الله غير المحدودة، فتقول: (واللّه على كل شيء قدير).

أي بالرغم من قلتكم يوم بدر وكثيرة عدوّكم في الظاهر، لكن الله القادر خذلهم وأيدكم فانتصرتم عليهم.

* * *

ملاحظات

1 ـ يوم الفرقان بين الحق والباطل

سمّي يوم معركة بدر بيوم الفرقان بين الحق والباطل، ويوم الإِلتقاء بين جماعة الكفر وجماعة الإِيمان، وفي ذلك إشارة إِلى مايلي:

أوّلا: إنّ يوم بدر ظهرت فيه الأدلة على صدق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه وعد المسلمين بالنصر قبل ذلك، مع أنّ القرائن في الظاهر لم تكن دالة على ذلك، ولقد اتّحدت

[433]

تلك الإسباب بشكل غير متوقع فكان النصر، وهو ما لا يمكن حمله على المصادفة والإِتفاق فبناءً على ذلك فإن صدق الآيات التي نزلت على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في ذلك اليوم كان كامناً في الآيات نفسها.

ثانياً: إنّ المعركة في بدر: «يوم التقى الجمعان» كانت في الواقع إحدى النعم الإِلهية الكبرى على المسلمين، لإنّ بعضهم كان يخشاها في البداية، لكن تلك المواجهة والنصر دفعا بهم خطوات كبيرة نحو الأمام، إذ بلغ صداهم واشتهارهم بذلك أنحاء الجزيرة العربية، ودعا الجميع للتفكّر في هذا الدين الجديد وقدرته المذهلة وكان ذلك اليوم يوماً شديداً على الأُمّة الإِسلامية القليلة أنئذ، حيث امتاز به المؤمنون الصادقون عن المدعين الكاذبين، فكان ذلك اليوم بكل جوانبه يوم الفرقان بين الحق والباطل.

2 ـ ذكرنا في بداية السورة عدم وجود تضادّ بين آية الأنفال وهذه الآية، ولا موجب الإِعتبار إحداهما ناسخة للأُخرى، لأنّه بمقتضى آية الأنفال فإنّ الغنائم الحربية هي للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّه وهب أربعة أخماسها للمقاتلين المسلمين، وادخر الخمس المتبقي للموارد التي ذكرتها الآية «ولمزيد الإِيضاح راجع بحثنا في تفسير الآية الاُولى من هذه السورة».

3 ـ ما هو المراد من ذي القربي؟

ليس المراد في هذه الآية الأقرباء كلّهم ولا أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) جميعاً، بل هم الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)، والدليل على هذا الأمر هو الرّوايات المتواترة التي وردت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن طرق أهل البيت(1)، وتوجد أدلة أُخرى على ذلك في كتب أهل السنة.

_____________________________

1 ـ يراجع كتاب وسائل الشيعة، ج 6، باب الخمس.

[434]

فبناءً على ذلك فإنّ من يرى أنّ سهماً من الخمس يتعلق بكل أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يواجه هذا السؤال وهو: ما هذا إِمتياز الذي أولاه الإِسلام لأقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقومه، مع أنّ الإِسلام بعيد عن القبلية والقومية والعرقية؟!

لكنّنا إذا خصصنا «بذي القربى» الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام) مع ملاحظة أنّهم خلفاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقادة الحكومة الإِسلامية، يتّضح السبب في إعطائهم هذا السهم من الخمس.

وبعبارة أُخرى: إنّ السهام الثّلاثة «سهم الله وسهم النّبي وسهم ذي القربي» ترجع جميعها إِلى قائد الحكومة الإِسلامية، فيصرف منها في شؤون حياته البسيطة، وينفق الباقى منها في ما يوجبه مقام القيادة، أي أنّه يصرفها في الحقيقة في حاجات الناس والمجتمع!.

وحيث أن بعض المفسّرين من أهل السنة «كصاحب المنار» يرى أنّ ذا القربى هو جميع الأقارب، فقد تخبط في الإِجابة على السؤال آنف الذكر وظلَّ في حيرة من أمره، حتى جعل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أشبه بالملوك والسلاطين، فأوجب عليه أن يجذب قومه وقبيلته اليه بالأموال التي عنده!

ومن الواضح بطلان هذا المنطق، إذ يتنافي ومنطق الحكومة العالمية الإنسانية التي لا تعترف بالإِمتيازات القبليّة «وسيأتي إيضاح هذا الموضوع بصورة أكثر في البحوث المقبلة، إن شاء اللّه».

4 ـ ما هو المراد من اليتامى والمساكين وابن السبيل

إنّ المقصود باليتامى والمساكين وابن السبيل ـ في الآية ـ هم هذه الطوائف الثلاث من بني هاشم بالرغم من أنّ ظاهر الآية مطلق غير مقيد، ودليلنا على التقييد هو الرّوايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، ونعلم بأنّ كثيراً من الأحكام المطلقة في النصوص القرآنية قيدتها السنة النبوية وجعلت لها شروطاً

[435]

وهذا الأمر غير منحصر بالآية محل البحث حتى تكون مثاراً للغرابة والتعجب.

أضف إِلى ذلك أنّ الزكاة محرمة على المحتاجين من بني هاشم، فيلزم توفير مصدر آخرلهم، وهذه قرينة على أنّ الآية تخصُّ المحتاجين من بني هاشم.

لذا نقرأ في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله:«إنّ الله تعالى لما حرّم علينا الصدقة أنزل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا حلال»(1).

5 ـ هل الغنائم منحصرة في غنائم الحرب

الموضوع المهم الآخر الذي يجب أن يبحث في الآية، وهو في الحقيقة بمثابة العمدة فيها، هو: هل لفظ الغنيمة المذكور فيها يطلق على الغنائم الحربية فحسب، أو الموضوعُ أوسع من ذلك فيشمل كل زيادة في المال؟!

ففي الصورة الأُولى فإنّ الآية تبيّن الخمس في غنائم الحرب فحسب، وأمّا الخمس في سائر الموارد فينبغي معرفته من السنة والأخبار المتواترة وصحيح الرّوايات، ولا مانع أن يشير القرآن إِلى قسم من أحكام الخمس بما يناسب مسائل الجهاد، وأن تتناول السنة الشريفة بيان أقسامه الباقية.

فمثلا قد وردت الصلوات الخمس اليومية صريحة في القرآن، كما أشير إِلى صلاة الطواف التي هي من الصلوات الواجبة أيضاً، ولم ترد أيّة إشارة في القرآن إِلى صلاة الآيات المتفق على وجوبها من قبل الفرق الإِسلامية من أهل السنة والشيعة كافة، ولا نجد قائلا يقول بأنّه لا يجب الإِتيان بصلاة الآيات لأنّها لم تذكر في القرآن أو أن القرآن أشار إِلى بعض الأغسال ولم يذكر غيرها، فيجب ترك ما لم يشر إليه القرآن! فهذا المنطق لا يقره أي مسلم أبداً.

فبناءً على ذلك، لا إشكال في أن يبيّن القرآن قسماً واحداً من أقسام الخمس

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 6، باب الخمس، ومجمع البيان ذيل الآية ... .

[436]

فحسب، ويكلُّ توضيح الباقي إِلى السنّة، وفي الفقه الإِسلامي نظائر كثيرة لهذه المسألة.

إلاّ أنّه مع هذه الحال ينبغي أن ننظر إِلى معنى «الغنيمة» في اللغة والعرف!

فهل هي منحصرة في غنائم الحرب؟! أم تشمل كل أنواع الأرباح والزيادة في المال؟!

الذي يستفاد من كتب اللغة هو أنّ جذرها اللغوي لم يرد في ما يؤخذ من العدوّ في الحرب، بل تشمل كل أنواع الزيادة المالية وغيرها.

ونشير هنا إِلى بعض كتب اللغة المشهورة التي يعتمد عليها علماء العربية وأُدباؤها على سبيل المثال والشاهد. إذ نقرأ في كتاب «لسان العرب» الجزء الثّاني عشر قوله «الغُنم الفوز بالشيء من غير مشقّة، والغُنم والغنيمة، والمنغم: الفيء، وفي الحديث: الرهن لمن رهنه له غُنمه وعليه غرمه، غنمه زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ... وغنم الشيء غُنماً فاز به ... ».

ونقرأ في الجزء التاسع من «تاج العروس»: والغنم: الفوز بالشيء بلا مشقّة».

وفي كتاب «القاموس» هذا المعنى نفسه للغنيمة أيضاً.

وجاء في كتاب «المفردات» للراغب أنّ أصل الغنيمة من الغَنَم، ثمّ يقول: ثمّ استعملوه في كل مظفور به من العدى وغيره.

وحتى من ذكر أنّ معناها هو غنائم الحرب، لم ينكر أنّ معناها في الأصل واسع وشامل لكل خير يقع بيد الإِنسان بدون عناء ومشقة.

وترد الغنيمة في العرف في مقابل الغرامة، فكما أن معنى الغرامة واسع شامل لكل أنواع الغرامات، فإنّ معنى الغنيمة واسع شامل لكل أنواع الغنائم.

وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة كثيراً بالمعنى المذكور نفسه، إذ نقرأ في الخطبة (76) قوله(عليه السلام): «اغتنم المُهل».

وفي الخطبة (120) يقول(عليه السلام): «من أخذها لِحق وغنم».

[437]

ويقول في كتابه (53) إِلى مالك الأشتر: «ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم».

ويقول في كتابه (45) إِلى عثمان بن حنيف: «فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرتُ من غنائمها وفراً».

ويقول في بعض كلماته القصار برقم (331): «إنّ الله جعل الطاعة غنيمة الأكياس».

ويقول في كتابه (41): «واغتنم من استقرضك في حال غناك».

ونظير هذه التعابير والكلمات التي تدل على عدم انحصار معنى الغنيمة في غنائم الحرب كثير.

وأمّا ما قاله المفسّرون:

إنّ أكثر المفسّرين الذين تناولوا هذه الآية بالبحث صرّحوا بأنّ للغنيمة معنى واسعاً في الغة يشمل غنائم الحرب وغيرها ممّا يحصل عليه الإِنسان من دون مشقّة، وحتى الذين قالوا بأنّها تختص بغنائم الحرب «لفتوى فقهاء السنة» يعترفون بأنّ معناها في اللغة غير مقيد، بل قيّدوه بدليل آخر.

«القرطبي» مفسّر أهل السنة المعروف، كتب في ذيل الآية: «إنّ الغنيمة في اللغة هو الخير الذي يناله الفرد أو الجماعة بالسعي والجد»(1).

وينبغي أن يُعلم أن علماء أهل السنة متفقون على أنّ المراد من الغنيمة المذكورة في آية (واعلموا إنّما غنمتم من شيء) هي الأموال التي يحصل عليها الناس بالقوّة في الحرب، وينبغي ملاحظة أنّ هذا القيد غير وارد في اللغة، لكنّه ورد في العرف الشرعي.

_____________________________

1 ـ راجع تفسير القرطبي، ج 4، ص 280.

[438]

ويقول «الفخر الرازي» في تفسيره: الغنم الفوز بالشيء. يقول بعد هذا: إنّ المعنى الشرعي للغنيمة في اعتقاد فقهاء أهل السنة هو غنائم الحرب.(1)

كما أنّ «صاحب المنار» قد ذكرها بمعناها الواسع ولم يخصصها بغنائم الحرب، بالرغم من اعتقاده بلزوم تقييد المعنى الواسع بالقيد الشرعي، وتخصيص الآية بغنائم الحرب.(2)

وقال «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني: «إن الغنم في الأصل معناه كل ربح ومنفعة»(3).

وقال صاحب «مجمع البيان» في بداية كلامه: إنّ الغنيمة بمعنى غنائم الحرب، إلاّ أنّه لما بين معنى الآية قال: «قال أصحابنا: إنّ الخمس واجب في كل فائدة تحصل للإِنسان من المكاسب وأرباح التجارات، وفي الكنوز والمعادن والفوضى، وغير ذلك ما هو مذكور في الكتب، ويمكن أن يستدل على ذلك بهذه الآية، فإنّ في عرف اللغة يطلق على جميع ذلك اسم الغنم والغنيمة»(4).

والعجيب أنّ بعض المغرضين ـ وكأنّهم مأمورون ببث السّموم في  الأفكار ـ حرّفوا ما ذكره صاحب مجمع البيان في كتاب ألفوه في شأن الخمس، حيث ذكروا عبارته الأُولى في تفسير الغنيمة بأنّ المراد منه غنائم الحرب، ولكنّهم لم يشيروا إِلى إيضاحاته حول عموميّة المعنى اللغوي ومعنى الآية الذي أورده أخيراً، وقد كذبوا بما لفقوا على هذا المفسّر الإِسلامي الكبير، وكأنّهم يتصورون أن كتاب مجمع البيان في أيديهم ولن يقرأه غيرهم. والأعجب من ذلك أنّهم لم يرتكبوا هذه الخيانة الفكرية فحسب، بل تصرفوا في كتب أُخرى فأخذوا بما

_____________________________

1 ـ الفخر الرازي، ج 15، ص 164.

2 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 703.

3 ـ تفسير روح المعاني: ج 10، ص 2.

4 ـ تفسير مجمع البيان، ج 4، ص 543.

[439]

ينفعهم وتركوا ما يضرّهم.

وفي تفسير «الميزان» ورد بصراحة ـ إستناداً إِلى علماء اللغة ـ أنّ الغنيمة هي كل فائدة تستحصل عن طريق التجارة والكسب أو الحرب، ومع أن سبب نزول الآية هو غنائم الحرب، إلاّ أنّ ذلك لا يخصص مفهوم الآية وعموميتها(1).

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفاً مايلي:

إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح، لإنّ معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية.

والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية (ما غنمتم) تتعلق بغنائم الحرب.

في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم، وبعبارة أجلى: لامانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم.

ونظير هذه الأحكام كثير في القرآن الكريم والسنة المطهرة، بأن يكون حكمها عاماً ومصداقها جزيئاً «خاصّاً».

فمثلا في الآية (7) من سورة الحشر نقرأ قوله تعالى: (ما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فهذه الآية ذات حكم كلي في وجوب الإِلتزام بأوامر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أن سبب نزولها هو الأموال التي تقع بأيدي المسلمين من دون حرب، ويطلق على ذلك اصطلاحاً «الفيء».

وكذلك نجد في الآية (233) من سورة البقرة حكماً كلياً في قوله: (لا تكلّف نفس إلاّ وسعها) مع أنّه يتعلق بالنساء المرضعات والأمر موجه لآباء الأطفال

_____________________________

1 ـ الميزان، ج 9، ص 89.

[440]

الرضّع أن يعطوا المرضعات أجورهن حسب وسعهم. وكون الآية واردة في هذا الأمر الخاص لا يمنع من عمومية القانون الذي جاءت به وهو عدم التكليف.

الخلاصة، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد، إلاّ أنّها تقول: «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ـ ومنه غنائم الحرب ـ فعليكم أن تعطوا خمسه».

وخاصّة أنّ «ما» الموصولة «ومن شيء» لفظان عامان ليس فيهما قيد ولا شرط وهما يؤكّدان هذا الموضوع.

6 ـ ألا يعد تخصيص نصف الخمس لبني هاشم تبعيضاً بين المسلمين؟!

يتصوّر بعضٌ أن هذه الضربية الإِسلامية الشاملة لخمس الكثير من الأموال، أي نسبة (عشرين المائة) حيث يعطى نصفها للسادة من أبناء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، نوعٌ من التمييز العنصري أو ملاحظة العلاقات العائلية، وأنّ هذا الأمر لا ينسجم وروح العدالة الإِجتماعية للإِسلام وكونها شاملة لجميع العالم.

الجوابُ:

إنّ هؤلاء لم يدرسوا ظروف هذا الحكم وخصوصياته بدقة كافية، فالإِجابة على هذا السؤال كامنة في تلك الخصوصيات.

وتوضيح ذلك: أوّلا: إن نصف الخمس المتعلق ببني هاشم إنّما يعطى للمحتاجين والفقراء منهم فحسب، ولما يكفيهم لسنة واحدة لا أكثر، فبناءً على ذلك تصرف هذه الأموال على المقعدين عن العمل والمرضى واليتامى من الصغار، أو من يكون في ضيق وحرج. لسبب من الاسباب ولهذا فإنّ القادرين على العمل «بالفعل أو بالقوّة» والذين بإمكانهم أن يديروا حياتهم المعاشية، ليس لهم بأي وجه أن يأخذوا شيئاً من الخمس.

[441]

أمّا ما يقوله بعض السواد بأنّ السّادة يمكنهم أخذ الخمس حتى ولو كان ميزاب بيتهم من ذهب فهو كلام ساذج ولا أساس له أبداً.

ثانياً: إنّ المحتاجين والضعفاء من سادات بني هاشم لا يحق لهم أخذ شيء من الزكاة، فلهذا جاز لهم أن يأخذوا من هذا القسم من الخمس فحسب.(1)

ثالثاً: إذا زاد القسم المختصص لبني هاشم عن احتياجاتهم فإنّه يرجع إِلى بيت المال حتى يُنفق في مصارف أُخرى، كما أنّه إذ نقص هذا السهم عن حاجتهم يدفع الباقي من بيت المال إليهم أو من سهم الزكاة.

وبملاحظة تلك النقاط الثلاث يتّضح لنا عدم وجود فرق ـ في الواقع ـ من النّاحية الماديّة بين السادة وغيرهم.

فالمحتاجون من غيرهم يمكنهم سدّ حاجتهم من الزّكاة ويحرمون من الخمس، والمحتاجون من السادة يسدّون حاجتهم من الخمس ويحرمون من الزّكاة.

فيوجد في الحقيقة صندوقان، هما صندوق الخمس وصندوق الزكاة، فيحق لكل من القسمين الأخذ من أحد الصندوقين وبصورة التساوي فيما بينهما، أي ما يحتاجه كلُّ لعام واحد (فتأمل).

فالذين لم يُمعنوا النظر في هذه الشروط والخصوصيات تصوّروا من بيت المال أكثر من غيرهم أو أنّهم يتمتعون بإمتياز خاص.

والسؤال الوحيد الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا قلنا بعدم الفرق بين الإِثنين آخر الإمر، فما جدوى هذه الخطة إذاً؟!

ويمكن أن ندرك جواب هذا التساؤل بملاحظة شيء واحد، وهو أنّ بين

_____________________________

1 ـ إنّ حرمة أخذ بني هاشم الزكاة مسلم بها وقد وردت في أكثر كتب الحديث وفتاوى العلماء وكتبهم الفقهية، فهل يعقل بأنّ الإِسلام قد فكّر في شأن الفقراء والمحتاجين من غير بني هاشم ولم يعالج قضية المحتاجين من بني هاشم؟ فتركهم لحالهم.

[442]

الزكاة والخمس بوناً شاسعاً، إذ أنّ الزكاة من ضرائب الأموال العامّة للمجتمع الإِسلامي فتصرف عموماً في هذه الجهة، ولكن الخمس من ضرائب الحكومة الإِسلامية فيصرف على القيادة والحكومة الإِسلامية وتؤمن حاجتها منه.

فالتحريم على السادة من مدّ أيديهم للأموال العامّة، «الزّكاة» كان في الحقيقة ليجتنبوا عن هذا المال باعتبارهم أقارب النّبي، ولكيلا تكون ذريعة بيد الأعداء بأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سلط أقرباءه على الإموال العامّة.

إلاّ أنّه ـ من جانب آخر ـ ينبغي سدّ حاجة الضعفاء والفقراء من السادة، لذلك جعلت هذه الخطة لسدّ حاجتهم من ميزانية الحكومة الإِسلامية لا من الميزانية العامّة ففي الحقيقة أنّ الخمس ليس إمتيازاً لبني هاشم، بل هو لإبعادهم من أجل الصالح العام ولئلا ينبعث سوء الظن بهم(1).

والذي يسترعي النظر أنّ هذا الإمر أشارت إليه أحاديث الشيعة والسنة، ففي حديث عن الإِمام الصادق نقرأ: «إنّ أُناساً من بني هاشم أتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي، وقالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعل الله عزّ وجلّ للعاملين عليها فنحن أولى به، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا بني عبدالمطلب (هاشم) إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم، ولكنّي وعدت الشفاعة، إِلى أن قال: «أتروني موثراً عليكم غيركم»(2).

ويدل هذا الحديث على أن بني هاشم كانوا يرون في ذلك الأمر حرماناً، وقد وعدهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشفع لهم.

ونقرأ حديثاً في صحيح مسلم الذي يعد من أهم مصادر الحديث عند أهل السنة، خلاصته أنّ العباس وربيعة بن الحارث جاءا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبا منه أن

_____________________________

1 ـ وإذا لاحظنا أنّ في بعض الرّوايات التعبير بـ «كرامة لهم من أوساخ الناس» فهو ليُقنع بني هاشم من هذه الحرمة من جانب، وليفهم الناس أن يؤدوا الزّكاة إِلى المحتاجين ما استطاعوا إِلى ذلك سبيلا.

2 ـ وسائل الشيعه، ج 6، ص 186.

[443]

يأمر ابنيهما ـ وكانا فتيين وهما عبدالمطلب بن ربيعة والفضل بن العباس ـ بجمع الزكاة ليتمكنا أن يأخذا سهماً منه شأنهما كشأن الآخرين، ليؤمّنا لنفسيهما المال الكافي لزواجهما، فامتنع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر بسد حاجتهما عن طريق آخر وهو الخمس.

ويستفاد من هذا الحديث الذي يطول شرحه أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مصرّاً على إبعاد أقاربه عن الحصول على الزكاة التي هي من أموال عامّة الناس.

من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس إمتيازاً للسّادة، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة...

7 ـ ما هو المراد من سهم الله؟

إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإِسلامية وحاكمية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً.

أي كما أنّ الله جعل سهماً باسمه وهو أحق بالتصرف فيه، فقد أعطى النّبي والإِمام حق الولاية والتصرف فيه كذلك، إلاّ فإنّ سهم الله يُجعل تحت تصرف النّبي أو الإِمام يصرفه في المكان المناسب، وليس لله حاجة في سهم معين.

* * *

[444]

الآيات

إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَـدِ وَلَـكِن لِّيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَة وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَْكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَـزَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَلَـكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ(44)

التّفسير

الأمر الذي لابدّ منه:

يعود القرآن في هذة الآيات الكريمة ـ ولمناسبة الكلام في الآيات السابقة إِلى يوم الفرقان يوم معركة بدر وانتصار المسلمين لمؤزر في ذلك الموقف  الخطير ـ يعود ليعرب عن أجزاء من فصول تلك المعركة، ليطلع المسلمون على

[445]

أهمية ذلك النصر العظيم.

فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى).

«العُدوة» مأخوذة من «العدو» على زنة «السَّرْو» ومعناها في الأصل التجاوز، ولكنّها تطلق على أطراف كل شيء، وحواشيه، لأنّها تتجاوز الحدّ الوسط إِلى إحدى الجوانب، وجاءت هذه الكلمة في هذه الآية بهذا المعني أي «الطرف، والجانب».

«والدنيا» مأخوذة من الدنّو، على وزن العلوّ وتعني الأقرب، ويقابل هذا اللفظ الأقصى والقصوى.

وكان المسلمون في الجانب الشمالي من ميدان الحرب الذي هو أقرب إِلى جهة المدينة، وكان الأعداء في الجانب الجنوبي وهو الأبعد.

ويحتمل أن يكون المعنى هو أنّ المسلمين لإِضطرارهم كانوا في القسم الأسفل في الميدان، وكان الأعداء في القسم الأعلى منه وهو يعدّ ميزة لهم.

ثمّ تعقّب الآية قائلةً: (والركُب أسفلَ منكم).

وكما رأينا من قَبلُ فإنّ أبا سفيان حين علم بتحّرك المسلمين غيّر مسير قافلته إِلى جهة أُخرى على جانب البحر الأحمر حتى صار قريباً من مكّة، ولو أنّ المسلمين لم يضلّوا أثر القافلة فلعلهم كانوا يتبعونها، ولا يوفقون لمواجهة الأعداء ومنازلتهم في معركة بدر التي تحقق فيها النصر العظيم والفتح المبين.

وبغض النظر عن كل ذلك فإنّ عدد قوات المسلمين وإمكاناتهم كان أقلّ من قوات الأعداء من جميع الوجوه، لهذا فإنّ الآية الكريمة تقول: (ولو تواعدتم لإختلفتم في الميعاد).

لأنّ الكثير منكم سيدركون ضعفهم الظاهري قبال الأعداء فيتقاعسون عن قتالهم، ولكن الله جعلكم إزاء أمر مقدر، وكما تقول الآية: (ليقضي الله أمراً كان

[446]

مفعولا).

وليعرف الحق من الباطل في ظلال ذلك النصر غير المتوقع والمعجزة الباهرة و(ليهلك من هلك عن بيّنة ويحي من حيّ عن بينة).

والمراد من «الحياة» و«الهلكة» هنا هو الهداية والضلال، لأنّ يوم بدر الذي سُمّي يوم الفرقان تجلّى فيه الإِمداد الإِلهي لنصرة المسلمين، وثبت فيه أن لهؤلاء علاقة بالله وأنّ الحق معهم.

وتعقبّ الآية قائلةً: (وإنّ الله لسميع عليم).

فقد سمع نداء استغاثاتكم، وكان مطلعاً على نيّاتكم، ولذلك أيّدكم بنصره على أعدائكم.

إنّ القرائن تدلّ عن أنّ بعض المسلمين لو كانوا يعرفون حجم قوّة أعدائهم لامتنعوا عن مواجهتهم، مع أنّ طائفة أُخرى من المسلمين كانوا مطيعين للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهة جميع الشدائد، لهذا فإنّ الله جعل الأُمور تسير بشكل يلتقي فيه المسلمون ـ شاءوا أم أبوا ـ مع أعدائهم، فكانت المواجهة المصيرية.

وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد رأى فيه منامه من قبل أن قلّة المشركين تقاتل المسلمين، وكانت هذه الرؤيا إشارة إِلى النصر وبشارة به، فقد رواه(صلى الله عليه وآله وسلم)للمسلمين فازدادت العزائم في الزحف نحو معركة بدر.

وبالطبع فإنّ رؤيا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه كانت صحيحة، لأنّ قوّة الأعداء وعددهم بالرغم من كثرتهم الظاهرية، إلاّ أنّهم كانوا قلّة في الباطن ضعفاء غير قادرين على مواجهة المسلمين، ونحن نعرف أنّ الرؤيا ذات تعبير وإشارة، وأن الرؤيا الصحيحة هي التي تكشف الوجه الباطني للأُمور.

والآية الثّانية: من الآيات محل البحث تشير إِلى الحكمة من هذا الأمر، والنعمة التي أولاها سبحانه وتعالى للمسلمين عن هذا الطريق، فتقول: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيراً لفشلتم)ولهبطت معنوياتكم، ولم يقف الامر عند

[447]

هذا الحدّ، بل لإدّى ذلك إِلى التنازع واختلاف الكلمة (ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلَّم) وانقذ الأمر بواسطة الرؤيا التي أظهرت الوجه الباطني لجيش الأعداء، و لأنّ الله يعرف باطنكم (إنّه عليم بذات الصدور).

وتُذكّر الآية الأُخرى بمرحلة من مراحل معركة بدر تختلف عن سابقتها، ففي هذه المرحلة وفي ظل خطاب النّبي المؤثر فيهم والبشائر الرّبانية، ورؤية حوادث حال التهيؤ للقتال ـ كنزول المطر لرفع العَطش ولتكون الرمال الرخوة صالحة لساحة المعركة ـ تجددت بذلك المعنويات وكبر الأمل بالنصر وقويت عزائم القلوب، حتى صاروا يرون الجيش المعادي وكأنّه صغير ضعيف لا حول ولا قوة له، فتقول الآية المباركة: (وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا).

أمّا العدوّ فإنّه لما كان يجهل معنويات المسلمين وظروفهم، فكان ينظر إِلى ظاهرهم فيراهم قليلا جدّاً، بل رآهم أقل ممّا هم عليه، إذ تقول الآية في الصدد (ويقلّلكم في أعينهم).

حتى روي عن أبي جهل أنّه قال: إنّما أصحاب محمّد أكلة جزور، وفي ذلك كناية عن منتهى القلّة. أو أنّهم سيحسمون الأمر معهم في يوم واحد من الغداة حتى العشية، وقد جاء في الأخبار أنّهم كانوا ينحرون كل يوم عشرة من الإبل لطعامهم، لأنّ عدد جيش قريش كان حوالي ألف مقاتل.

وعلى كل حال: فقد كان تأثير هذين الامرين كبيراً في نصر المسلمين، لأنّهم من جهة رأوا جيش العدو قليلا فزال كل خوف ورعب من نفوسهم، ومن جهة أُخرى ظهر عدد المسلمين قليلا في عين العدو، كيلا يترددوا في قتال المسلمين وينصرفوا عن الحرب التي أدت في النهاية إِلى هزيمتهم.

لهذا فإنّ الآية تعقب على ما سبق قائلةً: (ليقضي الله أمراً كان مفعولا).

فلم تنته هذه المعركة وحدها وفق سنة الله فحسب، بل إن إرادته نافذة في كل شيء (وإلى الله تُرجَع الإمور).

[448]

وفي الآية (13) من سورة آل عمران إشارة إِلى المرحلة الثّالثة من قتال يوم بدر، إذ تشير إِلى أنّ الأعداء لمّا اشتعل أوار الحرب ورأوا الضربات الشديدة لجيش الاسلام تنزل على رؤوسهم كالصواعق، أصابهم الذعر والخوف الشديد، فأحسوا عندئذ وكأنّ جيش الإِسلام قد ازداد عدده وتضاعف أضعاف ما كان عليه، فانهارت معنوياتهم وأدّى هذا الأمر إِلى هزيمتهم وتمزقهم.

وممّا ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا يوجد أي تناقض، لا بين الآيات محل البحث، ولا بينها وبين الآية (13) من سورة آل عمران، لإنّ كلاًّ من هذه الآيات تبيّن مرحلةً من مراحل المعركة.

فالمرحلة الأُولى: هي ما قبل القتال، وهي ما ورد فيها عن رؤيا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في منامه ورؤيته جيش المشركين قليلا.

والمرحلة الثّانية: هي نزولهم في أرض بدر ومعرفة بعض المسلمين بعَدَد الأعداء وعُدَدِه وخوف بعضهم وخشيته من قتالهم.

والمرحلة الثّالثة: هي حصول المواجهة المسلحة وما أنعمه الله عليهم، وما رأوه من مشاهد قللّت عدد أعدائم في أعينهم «فتأملوا بدقّة!».

* * *

[449]

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(45) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـزَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّـبِرِينَ(46)وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـرِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(47)

التّفسير

ستة أوامر أُخرى في شأن الجهاد:

قال المفسّرون: إنّ أباسفيان بعدما استطاع النجاة بقافلة قريش التجارية من مواجهة المسلمين، أرسل مبعوثاً إِلى قريش الذاهبين إِلى ساحة بدر ودعاهم إِلى العودة، لأنّه رأى أن لا حاجة إِلى القتال، لكن أبا جهل هذا المغرور والمتعصب والمتكبر أقسم أن لا يرجعوا حتى يبلغوا أرض بدر «وكانت بدر قبل هذه المعركة من مراكز إجتماع العرب، وتقام فيها سوق تجارية كل عام» ويمكثوا فيها ثلاثة أيّام، وينحروا الإِبل ويأكلون ما يشتهون ويشربون الخمر، وتغني لهم المغنيّات، حتى يسمع جميع العرب بهم وتثبت بذلك قوتهم وقدرتهم!...

[450]

لكن أمرهم آل إِلى الهزيمة فشربوا كؤوس المنايا المترعة بدلا من كؤوس الخمر، وجلست المغنيات ينُحن على جنائزهم!!

والآيات محل البحث تشير إِلى هذا الموضوع، وتنهى المسلمين عن مثل هذه الأعمال، وتضع لهم تعاليم جديدة في شأن الجهاد إضافة إِلى ما سبق من هذه الأُمور.

وبصورة عاملة فإنّ في الآيات محل البحث ستة أوامر للمسلمين هي:

1 ـ أنّها تقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) أي أن إحدى علائم الإِيمان هي ثبات القدم في جميع الأحوال، وخاصّة في مواجهة الأعداء.

2 ـ (واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).

ولا ريب أنّ المراد من ذكر الله هنا ليس هو الذكر اللفظي فحسب، بل حضور القلب، وذكر عِلمه تعالى وقدرته غير المحدودة ورحمته الواسعة، فهذا التوجه إِلى الله يقوّي من عزيمة الجنود المجاهدين، ويُشعر الجندي بأنّ سنداً قويّاً لا تستطيع أية قدرة في الوجود أن تتغلب عليه يدعمهُ في ساحة القتال. وإذا قُتل فسينال السعادة الكبرى ويبلغ الشهادة العظمى، وجوار رحمة الله، فذكر الله يبعث على الإِطمئنان والقوّة والقدرة والثبات في نفسه.

بالإِضافة إِلى ذلك، فذكر الله وحبّه يخرجان حبّ الزوجة والمال، والأولاد من قلبه، فإنّ التوجه إِلى الله يزيل من القلب كل ما يضعفه ويزلزله، كما يقول الإِمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) في دعائه المعروف ـ في الصحيفة السجادية ـ بدعاء أهل الثغور: «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة، وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون، واجعل الجنّة نصبَ أعينهم».

3 ـ كما أنّ من أهم أسس المبارزة والمواجهة هو الإِلتفات للقيادة وإطاعة أوامر القائد والآمر، الآمر الذي لولاه لما تحقق النصر في معركة بدر، لذلك فإنّ الآية بعدها تقول: (وأطيعوا الله ورسوله).

4 ـ (ولا تنازعوا فتفشلوا) لأنّ النزاع والفرقة امام الأعداء يؤدي إِلى

[451]

الضعف وخور العزيمة، ونتيجة هذا الضعف والفتور هي ذهاب هيبة المسلمين وقوتهم وعظمتهم (وتذهب ريحكم).

«والريح» في اللغة، هي الهواء. فالنزاع يولد الضعف والوهن.

وأمّا ذَهاب الريح، فهو إشارة لطيفة إِلى زوال القوّة والعظمة، وعدم سير الأُمور كما يرام، وعدم تحقق المقصود، لأنّ حركة الريح فيما يرام توصل السفن إِلى مقاصدها، ولما كانت الريح في ذلك العصر أهم قوّة لتحريك السفن فقد كانت ذات أهمية قصوى يؤمئذ.

وحركة الرّيح في الرّايات والبيارق تدل على إرتفاع الرّاية التي هي رمز القدرة والحكومة، والتعبير آنف الذكر كناية لطيفة عن هذا المعنى.

5 ـ ثمّ تأمر الآية بالإِستقامة بوجه العدوّ، وفي قبال الحوادث الصعبة، فتقول: (واصبروا إنّ الله مع الصابرين).

والفرق بين ثبات القدم في الأمر الأوّل، والإِستقامة والصبر في الأمر الخامس، هو من جهة أن ثبات القدم يمثل الناحية الظاهرية، «الجسمية» أمّا الإِستقامة والصبر فليسا ظاهريين، بل هما أمران نفسيان ومعنويان.

6 ـ وتدعو الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ المسلمين إِلى اجتناب الأعمال الساذجة البَلهاء ، ورفع الأصوات الفارغة، وتشير إِلى قضية أبي سفيان وأسلوب تفكيره هو وأصحابه، فتقول: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدّون عن سبيل الله).

فأهدافهم غير مقدسة، وكذلك أساليبهم في الوصول إليها، ولقد رأينا كيف أبيدوا وتلاشى كلّ ما جاءوا به من قوّة وعدّة، وسقط بعضهم مضرجاً بدمائه في التراب، وأسبل الآخرون عليهم الدّموع والعبرات في مأتمهم، بدل أن يشربوا الخمر في حفل إبتهاجهم، وتختتم الآية بالقول: (والله بما يعلمون محيط).

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337614

  • التاريخ : 29/03/2024 - 04:35

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net