00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يوسف من آية 102 ـ آخر السورة من ( ص 311 ـ 326 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[311]

الآيات

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَلَمِينَ(104) وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَة فِى السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ(106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107)

التّفسير

الأدعياء مشركون غالباً!

بعد ما إنتهت قصّة يوسف (عليه السلام) بكلّ دروسها التربوية ونتائجها الغزيرة والقيّمة والخالية من جزاف القول والخرافات التاريخيّة .. إنتقل الكلام إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول القرآن الكريم: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ...).

[312]

إنّ هذه المعلومات الدقيقة لا يعلمها إلاّ الله، أو واحدٌ من الذين كانوا حاضرين هناك، وبما أنّك لم تكن حاضراً لديهم فالوحي الإلهي فقط هو الذي جاءك بهذه الأخبار.

ومن هنا يتّضح أنّ قصّة يوسف بما أنّها وردت في التوراة فأهل الحجاز عندهم معلومات تقريبيّة عنها، ولكن كلّ هذه الحوادث لم تطرح بهذه الدقّة في جزئياتها أبداً، وحتّى في المحافل الخاصّة السابقة لم تكن تُعرف بدون إضافة وخرافة.

وعلى أي حال كان لزاماً على الناس أن يؤمنوا بعد مشاهدتهم لعلائم الوحي وسماعهم لهذه النصائح الإلهيّة، وأن يتراجعوا عن طريق الغيّ، ولكن ياأيّها النّبي: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين).

إنّ الوصف بـ(الحرص) هنا دليل على شوق ولهفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ يؤمن الناس، ولكن ما الفائدة، فإصراره وشوقه لم يكونا كافيين، فمن شرط الإيمان الإستعداد والقابلية في نفس الشخص.

إنّ أبناء يعقوب (عليه السلام) كانوا يعيشون في بيت الوحي والنبوّة، ومع ذلك نرى كيف عصفت بهم الأهواء حتّى كادوا أن يقتلوا أخاهم، فكيف نتوقّع من جميع الناس أن يتغلّبوا على أهوائهم وشهواتهم مرّةً واحدة وبشكل جماعي ويؤمنوا بالله؟

وهذه الآية بالإضافة إلى ما ذكرنا هي تسليةً لقلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى لا ييأس أبداً من إصرارهم على الكفر والذنوب ولا يستوحش الطريق لقلّة أصحابه، كما نقرأ في آيات أُخرى من القرآن الكريم الكهف (6): (لعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) وقوله تعالى: (وما تسألهم عليه من أجر)فهؤلاء في الواقع ليس لهم أي عذر أو مبرّر لعدم قبول الدعوة بالإضافة إلى ما اتّضح من علامات الحقّ أنّك لم تسألهم أجراً حتّى يكون مبرّراً لمخالفتك:

[313]

(إن هو إلاّ ذكر للعالمين).

وهذه الدعوة عامّة للجميع، ومائدة واسعة للعام والخاص وكلّ البشرية.

(وكأين من آية في السّماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون).

فهذه الدلائل يرونها بأعينهم كلّ يوم! تشرق الشمس عند الصباح لتنشر أشعتها الذهبية على الجبال والوديان والصحاري والبحار، وتغرب عند المساء ويعمّ الليل بستاره المظلم كلّ مكان.

إنّ أسرار هذا النظام العجيب وهذا الشروق والغروب وحياة النباتات والحشرات والإنسان، وهدير المياه، وحركة النسيم، وكلّ هذا الفن العجيب للوجود هو من الوضوح بحيث إن لم يتدبّر أحد فيه وفي خالقه سيكون كالخشبة المسنّدة.

كثيرة هي الدلائل التي نعتبرها صغيرة وغير مهمّة، فنحن نمرّ عليها كلّ يوم ولا نعير لها أهميّة، وفجأةً يظهر عالم ذو بصيرة فيكتشف بعد دراسة أشهر وسنين أسرار هذه الدلائل ويُذِهَل العالم بها.

المهمّ أن نعلم أنّ كلّ ما في العالم ليس زخرفاً وبدون فائدة، لأنّها من مخلوقات الله الذي لا نهاية لعلمه ولا حدّ لحكمته. وإنّما الساذج والزخرف فهم أُولئك الذين يعتقدون بأنّ العالم وجود عبث وليس له غاية وفائدة. ولهذا فلا تعجب لعدم إيمانهم بالآيات المنزلة عليك، لأنّهم لم يؤمنوا بالآيات المحيطة بهم من كلّ مكان (وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون).

قد يتصوّر هؤلاء أنّهم من المؤمنين المخلصين ولكن غالباً ما توجد جذور الشرك في أفكارهم وأقوالهم وضمائرهم.

ليس الإيمان هو الإعتقاد بوجود الله فقط، فالمؤمن المخلص هو الذي لا يعتقد بأيّ معبود سوى الله، فتكون أقواله وأعماله وكلّ أفعاله خاضعة له. ولا يعترف بغير قانون الله، ولا يضع طوق العبوديّة في رقبته لغيره، ويمتثل بقلبه

[314]

وروحه لكلّ الأوامر الإلهيّة ولو كانت مخالفة لهواه، ويُقدّم دائماً الإله على الهوى، هذا هو الإيمان الخالص من الشرك في العقيدة والقول والعمل، فلو حسبنا حساباً دقيقاً في هذا المجال لوجدنا أنّ الموحّدين الصادقين والمخلصين قليلون جدّاً.

ولهذا السبب نقرأ في الرّوايات الإسلامية ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)«الشرك أخفى من دبيب النحل»(1).

أو نقرأ: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يارسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم: «اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء»(2).

ونُقل عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية أعلاه حيث يقول «شرك طاعة وليس شرك عبادة، والمعاصي التي يرتكبون وهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره»(3).

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ المقصود من (شرك النعمة) بهذا المعنى أنّ الله يهب الإنسان شيئاً فيقول: إنّ فلاناً قد جاءني به فلو لم يكن فلان لكنتُ من الهالكين! وكانت حياتي هباءاً منثوراً، فهنا قد إعتبر الشريك مع الله الشخص الذي جرت على يده نعمة الله!

الخلاصة: إنّ ما يُفهم من الشرك ليس الكفر وإنكار الإله وعبادة الأصنام فقط، كما جاء في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) «شرك لا يبلغُ به الكفر» ولكن الشرك بمعناه الواسع يشمل جميع هذه الأُمور.

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 697.

2 ـ في ظلال القرآن، المجلّد الخامس، صفحة 53.

3 ـ نور الثقلين، ج2، صفحة 275 ـ اُصول الكافي، المجلّد الثّاني، صفحة 292.

[315]

وفي آخر آية يحذّر القرآن الكريم أُولئك الذين لم يؤمنوا بعد ويمرّوا على الآيات الواضحة مرّ الكرام ويشركون في أعمالهم حيث يقول: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتةً وهم لا يشعرون).

«الغاشية»: الغطاء أو الستار، ويقال للثوب الكبير الذي يغطّي سرج الجواد. ومعناه هنا البلاء والجزاء الذي يعمّ المفسدين(1).

«والساعة»: القيامة، وقد وردت بهذا المعنى في كثير من الآيات.

ويحتمل أن تكون كناية عن الوقائع العظيمة التي تحدث قبل يوم القيامة مثل الزلازل والعواصف والصواعق، أو إشارة إلى ساعة الموت، ولكن التّفسير الأوّل أقرب إلى المعنى كما نرى.

* * *

_____________________________

1 ـ غاشية مؤنثة لأنّها صفة «للعقوبة» التي هي مقدّرة.

[316]

الآيات

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُواْ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَنَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَْخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْاْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الُْمجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِّوْلِى الاَْلْبَبِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ (111)

التّفسير

أصدق الدروس والعبر:

في الآية الأُولى من هذه المجموعة يتلقّى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الأوامر لتحديد الطريق

[317]

والمنهج الذي يتّبعه، فيقول القرآن الكريم: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله) ثمّ يضيف: (على بصيرة أنا ومن اتّبعني).

وهذه الجملة توضّح أنّ كلّ فرد مسلم مقتد بالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له نفس الدور في الدعوة إلى الحقّ، ولابدّ من دعوة الآخرين إلى الله، من خلال أفعالهم وأقوالهم، وكذلك تؤكّد هذه الجملة على أنّ القائد يجب أن تكون له بصيرة ومعرفة كافية، وإلاّ فإنّ دعوته ليست إلى الحقّ، وللتأكيد على ذلك يضيف القرآن الكريم: (وسبحان الله وما أنا من المشركين).

فهو يؤكّد على نزاهة الخالق الذي يدعو إليه وكماله المطلق الخالي من النقصان وأنّه لا يتّخذ معه شريكاً.

هذه في الواقع من خصائص القائد الصادق، أن يعلن بصراحة عن أهدافه وخُططه، وأن يسير هو والتابعين له على منهج واضح وسليم، لا أن تسودهم هالة من الإبهام في الهدف والطريقة. أو أن يسير كلّ واحد منهم في جهة معيّنة.

فواحدة من الطرق التي نتعرّف بها على القيادات الصادقة من الكاذبة هو أنّ القيادة الصادقة تتميّز بصراحة القول ووضوح الطريق أمّا الأُخرى فهي لكي تحاول التغطية على سلوكها وتلتجىء إلى الحديث المبهم والمتعدّد الجوانب.

إنّ وقوع هذه الآية بعد الآيات المتعلّقة بيوسف تشير إلى أنّ طريقة ومنهج النّبي لا يختلفان عن طريقة ومنهج يوسف النّبي. فهو كان يدعو إلى «الله الواحد القهّار» حتّى في زوايا السجن، أمّا غيره فكان يدعو إلى أسماء انتقلت إليه بسبب التقليد من جاهل إلى جاهل آخر. أمّا سيرة الأنبياء والرسل كلّها واحدة.

وبما أنّ الأقوام الضالّة والجاهلة كانت دائماً تثير هذا الإعتراض على الأنبياء وهو أنّكم بَشر؟! ولماذا لا تُكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما أنّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الإعتراض بالنسبة إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته العامّة، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الإعتراض فيقول: (وما أرسلنا من

[318]

قبلك إلاّ رجالا نوحي إليهم من أهل القرى).

هؤلاء الرّسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم وإحتياجاتهم ومشاكلهم.

فالوصف هنا بـ(من أهل القرى) بالإضافة إلى ما تشمله القرية في اللغة من معنى المدينة أو الريف في مقابل «البدو» التي تطلق على أهل الصحراء، فإنّها قد تشير إلى أنّ أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء ـ كما صرّح بذلك بعض المفسّرين ـ لأنّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلّباتها.

صحيح أنّ أكثر سكّان أرض الحجاز كانوا من البدو، ولكن الرّسول من أهل مكّة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّاً، وصحيح أيضاً أنّ مدينة كنعان لو قِيست بأرض مصر التي كان يوسف يحكم فيها لكانت صغيرة وغير مهمّة ولذلك كان يعبّر عنها بالبدو. ولكن نحن نعلم أنّ يعقوب وأبناءه لم يكونوا من أهل البادية أبداً، فهم كانوا يعيشون في هذه المدينة الصغيرة كنعان.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم: إذا ما أراد هؤلاء أن يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك التي هي الدعوة إلى الله فإنّ عليهم أن يسيروا ليروا آثار السابقين: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم).

إنّ السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم ومدنهم بسبب العذاب الإلهي، أفضل درس لهم، درس حي وملموس للجميع. (ولدار الآخرة خيرٌ للذين اتّقوا أفلا تعقلون).

لماذا؟ لأنّ الدنيا دار مليئةً بالمصائب والآلام وغير باقية، أمّا الآخرة فدار خالدة وخالية من الآلام والعذاب.

(حتّى إذا استيئس الرّسل وظنّوا أنّهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء).

[319]

تشير هذه الآية إلى أدقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فنقول: إنّ الأنبياء يواجهون دائماً مقاومة عنيفة من قبل أقوامهم وطواغيت زمانهم حتّى يصل الحال بالأنبياء إلى اليأس إلى حدّ يظنّون أنّ أتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة إلى الحقّ، وفي هذه الأثناء حيث إنقطع أملهم في كلّ شيء أتاهم نصرنا. وفي نهايتها تشير إلى عاقبة المجرمين (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين).

فهذه سنّة الله في الذين أصرّوا على أعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم، فهم وبعد إتمام الحجّة عليهم ينالهم العذاب الإلهي فلا تستطيع أي قوّة أن تردّه.

في تفسير هذه الجملة من الآية: (ظنّوا أنّهم قد كذبوا) ومن المقصود بها، هناك عدّة آراء للمفسرين:

1 ـ إنّ كثيراً من علماء التّفسير يرون ما قلناه سابقاً، وخلاصته: إنّ عمل الأنبياء يصل إلى درجة يعتقدون فيها أنّ كلّ الناس سوف يكذبوهم، حتّى تلك المجموعة التي تظهر إيمانها ولكنّها غير راسخة في عقيدتها.

2 ـ ويحتمل في تفسير الآية أنّ فاعل «ظنّوا» هم المؤمنون، وإنّ المشاكل والإضطرابات تصل إلى حدٍّ بأن يسوء ظنّهم بما وعدهم الأنبياء من النصر ويخيل إليهم أنّه خلاف الواقع؟ وليس بعيداً سوء الظنّ هذا من الأفراد الذين آمنوا حديثاً.

3 ـ وبعض آخر أعطى تفسيراً ثالثاً للآية، وخلاصته: إنّ الأنبياء ـ بدون  شكّ ـ كانوا بشراً، فحين يُزلزلوا زلزالا شديداً وتبدوا جميع الأبواب أمامهم موصدة ظاهراً، ولا يُرى في الاُفق فرج، والحوادث المتتالية تعصف بهم، وصرخات المؤمنين الذين نفذ صبرهم تصل إلى أسماعهم، نعم في هذه الحالة وبمقتضى الطبع البشري قد يتبادر إلى أذهانهم أنّ الوعد بالنصر بعيد عن الصحّة! أو أنّ النصر الموعود له شروطه التي لم تتحقّق بعد، ولكن سرعان ما يتغلّبون

[320]

على هذه الأفكار ويبعدونها عن أذهانهم ويشع في قلوبهم بصيص الأمل، ومن ثمّ تتّضح لهم بشائر النصر.

وشاهدهم على هذا التّفسير الآية (214) سورة البقرة: (... حتّى يقول الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ...).

ولكن مجموعة أُخرى من المفسّرين أمثال العلاّمة «الطبرسي» في مجمع البيان و «الرازي» في تفسيره الكبير، بعد ما ذكروا هذا الإحتمال قالوا ببطلانه لأنّه حتّى هذا المقدار من التوهّم ليس من مقام الأنبياء، وعلى أيّة حال فالأصحّ هو التّفسير الأوّل.

وآخر آية من هذه السورة ذات محتوىً شامل وجامع لكلّ الأبحاث التي ذكرناها في هذه السورة، وهي: (لقد كان في قصصهم عبرةً لاُولي الألباب).

فهي مرآة يستطيعون من خلالها أن يروا عوامل النصر والهزيمة، الهناء والحرمان، السعادة والشقاء، العزّ والذلّة، والخلاصة كلّ ما له قيمة في حياة الإنسان وما ليس له قيمة. وهي مرآة لكلّ تجارب المجتمعات السابقة والرجال العظام. ومرآة نشاهد فيها ذلك العمر القصير للإنسان كيف يطول بمقدار عمر كلّ البشر. ولكن أُولي الألباب وذوي البصائر فقط بإستطاعتهم أن يشاهدوا العبر في صفحة المرآة العجيبة هذه: (ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه).

فهذه الآيات التي أنزلناها عليك والتي أزاحت الستار عن التأريخ الصحيح للاُمم السابقة ليست من العلم البشري الذي يمكن معرفته عن العلماء، بل إنّ الكتب السّماوية السابقة تشهد على ذلك وتصدّقه وتؤيّده وبالإضافة إلى ذلك ففي هذه الآيات كلّ ما يحتاجه الإنسان في تأمين سعادته وتكامله: (وتفصيل كلّ شيء).

ولهذا السبب فهي (وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون) فالظاهر من الآية أعلاه

[321]

أنّها تُريد أن تشير إلى هذه النقطة المهمّة وهي: إنّ للقصص المصنوعة ذات الإثارة كثيرة في أوساط الاُمم وهي من الأساطير الخيالية، ولكن لا يتوهّم أحد بأنّ سيرة يوسف أو سير بقيّة الأنبياء التي ذكرها القرآن الكريم من ذلك القبيل.

المهمّ أنّ هذه القصص المثيرة وذات العِبَر هي عين الواقع ولا تحتوي على أدنى إنحراف عن الواقع الموضوعي، ولهذا السبب يكون تأثيرها كبيراً جدّاً، لأنّنا نعلم أنّ الأساطير مهما تكن شيّقة ومثيرة فإنّ تأثيرها قليل إذا ما قُورنت مع سيرة واقعيّة لأنّ:

1 ـ عندما يصل القاريء أو المستمع للقصّة إلى أقصى لحظات الإثارة يتبادر إلى ذهنه فجأة أنّ هذا وهم وخيال ليس أكثر!

2 ـ إنّ هذه القصص في الواقع هي من هندسة الإنسان، فهو يحاول أن يُجسّم أفكاره في سلوك بطل القصّة، ولذلك فهي ليست أكثر من فكر الإنسان، وهذه القصّة بالمقارنة مع السير الواقعيّة بينهما فرق شاسع ولا تستطيع القصّة البشرية أن تكون أكثر من موعظة لصاحب المقالة. ولكن التاريخ الواقعي للبشر ليس كذلك، فهو أكثر ثمراً ونفعاً وأكثر بركة.

* * *

«نهاية سورة يوسف»

اللهمّ! امنحنا البصر في أعيننا والسمع في آذاننا والعلم في قلوبنا، حتّى نستطيع أن نحصل من سيرة السابقين على طرقاً للنجاة من المشاكل التي نغوص الآن فيها.

ربّنا! ألهمنا بصراً حادّاً حتّى نرى عاقبة الذين إختلفوا وتشتّتوا فيما بينهم فكان عاقبتهم الهزيمة والخسران، وحتّى لا نسير في نفس الطريق الذي سلكوه.

اللهمّ! ارزقنا تلك النيّة الخالصة لكي نتغلّب بها على نفوسنا، وتلك المعرفة

[322]

حتّى لا يصيبنا الغرور بالنصر، وتلك السّماحة ونكران الذات بحيث إذا رأينا من هو أفضل منّا على إنجاز المسؤولية تركناها وتنازلنا عنها إليه.

فإن منحتنا هذا فسوف نستطيع أن نتغلّب على جميع المشاكل، وأن نحفظ نور الإسلام والقرآن في هذه الدنيا.

* * *

[323]

سُورَةُ الـرَّعْد

مَكّيّة

وعَدَدُ آياتِها مَائة وثلاث وَأَرْبَعُون آية

[325]

 

سورة الرعد

محتوى السّورة

كما قلنا سابقاً، بما أنّ السور المكيّة كان نزولها في بداية دعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وأثناء محاربته للمشركين، فإنّها غالباً ما كانت تتحدّث عن المسائل العقائدية وخصوصاً الدعوة إلى التوحيد والمعاد ومحاربة الشرك. في الوقت الذي نرى فيه أنّ السور المدنية نزلت بعد إنتشار الإسلام وقيام الحكومة الإسلامية، فقد تناولت الأحكام والمسائل المتعلّقة بالنظام الإجتماعي وإحتياجات المجتمع.

فهذه السورة (سورة الرعد) التي هي من السور المكّية لها نفس الخصائص السابقة، فبعد ما تشير إلى أحقّية القرآن وعظمته، تتطرّق إلى آيات التوحيد وأسرار الكون التي هي من دلائل ذات الله المقدّسة. فتارةً تتحدّث عن رفع السّماوات بغير عمد، وأُخرى عن تسخير الشمس والقمر، ومرّةً عن مدّ الأرض وخلق الجبال والأشجار والثمار، ومرّة عن ستار الليل المظلم الذي يغشي النهار.

ومرّة أُخرى تأخذ بأيدي الناس وتنقلهم إلى جنّات النخيل والأعناب والزروع، وتُحصي لهم عجائبها.

ثمّ تتطرّق إلى المعاد وبعث الإنسان من جديد ومحكمة العدل الإلهي، وهذه المجموعة من اُصول المبدأ والمعاد تُكمل ما أوضح من مسؤولية ووظائف الناس وأنّ أي تحوّل في قضاياهم المصيريّة يجب أن يبدأ من داخل أنفسهم.

ثمّ تعود مرّةً أُخرى إلى فكرة التوحيد، وتسبيح الرعد وخوف الناس من البرق والصاعقة، وسجود السّماوات والأرضين في مقابل عظمة الربّ. ولأجل

[326]

أن تتعقّل القلوب والأسماع وتوقظ الأفكار، ولإيضاح أنّ الأوثان ليس لها أي ميزة أو فائدة، تدعوهم إلى التفكّر والتعلّم، وتضرب لهم الأمثال لمعرفة الحقّ من الباطل. الأمثال الحيّة والقابلة للإدراك.

ومن هنا فالحصيلة النهائية للإيمان بالتوحيد والمعاد هي تلك التطبيقات العملية والحيّة لها، فالقرآن في هذه السورة يدعو الناس إلى الوفاء بالعهد وصلة الأرحام والصبر والإستقامة والإنفاق في السرّ والعلانية والنهي عن الإنتقام. ويوضّح لهم أنّ الدنيا فانية، والطمأنينة والراحة لا تحصلان إلاّ في ظلّ الإيمان بالله.

وفي النهاية يأخذ بأيدي الناس ويغور بهم في أعماق التاريخ، ويريهم العواقب السيّئة للذين طغوا وعصوا وأبعدوا الناس عن الحقّ، ويختم السورة بتهديد الكفّار بعبارات وجمل لاذعة.

إذن فالسورة تبتدىء بالعقائد والإيمان وتنتهي بالبرامج التربوية للإنسان.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338929

  • التاريخ : 29/03/2024 - 12:38

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net