00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة المؤمنون من بداية السورة ـ 54 من ( ص 411 ـ 466 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 411  ]

 

سورة المؤمنين

مكيّة

وعددُ آياتِها مائة وثماني عَشرة آية

[ 413  ]

 

«سورة المؤمنون»

فضيلة سورة المؤمنون:

ذكرت أحاديث مروية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فضائل لهذه السورة. فعن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «من قرأ سورة المؤمنين، بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت»(1).

وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) «من قرأ سورة المؤمنين ختم الله له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كلّ جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين والمرسلين»(2).

ونؤكّد أنّ فضيلة السورة، ليست فقط في تلاوتها، وإنّما يجب أن يرافق ذلك التمعّن في معانيها والعمل بما أوجبته، لأنّ هذا الكتاب يبني الذات الإنسانية ويربّيها، فهو برنامج عملي لتكامل الإنسان. ولو طابق المرء برنامجه العملي مع محتوى هذه السورة ـ حتّى إن طابق مع آياتها الأُولى التي تبيّن صفات المؤمنين ـ لنال النصيب الأوفر من لدن العلي القدير.

لهذا ذكر في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال حين نزلت الآيات الأُولى من هذه السورة: «لقد أنزل إليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة»(3).

___________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، المجلّد السابع، صفحة 98.

2 ـ روح المعاني، المجلّد الثامن عشر، صفحة 2.

3 ـ روح المعاني، المجلّد الثامن عشر، صفحة 2.

[ 414  ]

عبارة «أقام» التي ذكرت مكان «قرء» تعبّر عن الحقيقة التي ذكرناها أعلاه، فالهدف تطبيق ما تضمنّته هذه الآيات وليس تلاوتها فقط.

مضمون سورة المؤمنين:

القسم المهمّ من هذه السورة ـ كما يبدو من اسمها ـ تحدّث عن صفات المؤمنين البارزة، ثمّ تناولت السورة العقيدة والعمل بها، وهي تتمّة لتلك الصفات.

ويمكن إجمالا تقسيم مواضيع هذه السورة إلى الأقسام التالية:

القسم الأوّل: يبدأ بالآية (قد أفلح المؤمنون) وينتهي بعدد من الآيات التي تذكر صفات هي مدعاة لفلاح المؤمنين، وهذه الصفات دقيقة وشاملة تغطّي جوانب الحياة المختلفة للفرد والمجتمع.

وبما أنّ أساسها الإيمان والتوحيد، فقد أشار القسم الثّاني من هذه المواضيع إلى علائم أُخرى للمؤمنين، التوحيد وآيات عظمة الله وجلاله في عالم الوجود، فعدّدت نماذج لذلك العالم العجيب في خلق السّماء والأرض والإنسان والحيوان والنبات.

ولإتمام الجوانب العمليّة، شرح القسم الثّالث ما حدث لعدد من كبار الأنبياء، كنوح وهود وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وبيّن شرائح من تأريخ حياتهم للعبرة والموعظة.

وفي القسم الرّابع وجّه الخطاب سبحانه وتعالى إلى المستكبرين يحذّرهم ببراهين منطقيّة تارةً، وأُخرى بتعابير دافعة عنيفة، ليعيد القلوب إلى طريق الصواب بالعودة إليه عزّوجلّ.

وبيّن القسم الخامس ـ في بحث مركّز ـ المعاد.

وتناول القسم السادس سيادة الله على عالم الوجود، وإطاعة العالم ولأوامره.

[ 415  ]

وأخيراً تناول القسم السابع حساب يوم القيامة، وجزاء الخير للمحسنين، وعقاب المذنبين. وينهي السورة ببيان الغاية من خلق الإنسان.

فالسورة مجموعة من دروس العقيدة والعمل، وقضايا التوعية وشرح لنهج المؤمنين من البداية حتّى النهاية.

إنّ هذه السورة ـ كما سبق أن ذكرنا ـ نزلت في مكّة، إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكروا أنّ عدداً من آياتها نزل في المدينة، وكان الدافع لذلك وجود آية الزكاة فيها، لأنّ الزكاة شرّعت لأوّل مرّة في المدينة اثر نزول الآية (خذ من أموالهم صدقة) التوبة (103)، حيث أمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بجمع الزكاة من المسلمين.

إلاّ أنّه يجب الإنتباه إلى أنّ للزكاة مفهوماً واسعاً يشمل الواجب والمستحبّ، ولا يتحدّد معناه بالزكاة الواجبة فقط، لهذا نقرأ في الأحاديث أنّ الصلاة والزكاة مترادفتان(1).

وإضافة إلى ذلك فإنّ بعض المفسّرين يرون أنّ الزكاة كانت واجبة في مكّة أيضاً، غير أنّها كانت بصورة مجملة أوجبت على كلّ مسلم مساعدة المحتاجين بمقدار من ماله، ثمّ أصبحت وفق برنامج محدّد ودقيق بعد تشكيل الحكم الإسلامي في المدينة، حيث حدّد نصابها، وعيّن العاملين عليها، وبعثهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المناطق الإسلامية لجمع الزكاة(2).

* * *

___________________________

1 ـ جاء في حديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق(عليهما السلام): «فرض الله الزكاة مع الصلاة».

2 ـ تفسير روح المعاني، المجلّد الثامن عشر، صفحة 2.

[ 416  ]

الآيات

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ الَّلْغوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَـعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـفِظُونَ(4) إِلاَّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْعَادُونَ(6) وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَـنَـتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْوَرِثُونَ(10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـلِدُونَ(11)

التّفسير

صفات المؤمنين البارزة:

إختيار اسم المؤمنين لهذه السورة ـ كما تقدّم ـ لأنّه جاء في بدايتها آيات شرحت بعبارات وجيزة معبّرة صفات المؤمنين، وممّا يلفت النظر أنّها أشارت إلى مستقبل المؤمنين السعيد قبل بيان صفاتهم، إستنارةً للشوق في قلوب المسلمين

[ 417  ]

للوصول إلى هذا الفخر العظيم بإكتساب صفة المؤمنين. تقول الآية (قد أفلح المؤمنون).

كلمة «أفلح» مشتقّة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثمّ أُطلقت على أي نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة بشكل عام، والحقيقة أنّ المنتصرين يزيلون من طريقهم كلّ الموانع والحواجز لينالوا الفلاح والسعادة، ويشقّون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة. ولكلمة الفلاح معنىً واسعاً بضمّ الفلاح المادّي والمعنوي، ويكون الإثنان للمؤمنين.

فالفلاح الدنيوي أن يحيا الإنسان حرّاً مرفوع الرأس عزيز النفس غير محتاج، ولا يمكن تحقيق كلّ ذلك إلاّ في ظلال الإيمان والتمسّك بالله وبرحمته. أمّا فلاح الآخرة فهو الحياة في نعيم خالد إلى جانب أصدقاء جديرين طاهرين، حياة العزّ والرفعة.

ويلخّص الراغب الاصفهاني خلال شرحه هذه المفردة بأنّ الفلاح الدنيوي في ثلاثة أشياء: البقاء والغنى والعزّ، وأمّا الفلاح الاُخروي ففي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعزّ بلا ذلّ، وعلم بلا جهل.

ثمّ تشرح الآية هذه الصفات فتؤكّد قبل كلّ شيء على الصلاة فتقول: (الذين هم في صلاتهم خاشعون).

«خاشعون» مشتقّة من خشوع، بمعنى التواضع وحالة التأدّب يتخذها الإنسان جسماً وروحاً بين يدي شخصيّة كبيرة، أو حقيقة مهمّة تظهر في الإنسان وتبدو علاماتها على ظاهر جسمه.

والقرآن اعتبر الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرّد ألفاظ وحركات لا روح فيها ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّه إلى الله تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق، ويغوص في إرتباط مع الله، ويدعوه بتضرّع في حالة تسود جسمه كلّه، فيرى نفسه ذرّة إزاء

[ 418  ]

الوجود المطلق لذات الله، وقطرة في محيط لا نهاية له.

لحظات هذه الصلاة درساً للمؤمن في بناء ذاته وتربيتها، ووسيلة لتهذيب نفسه وسمو روحه.

وقد جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين شاهد رجلا يلهو بلحيته وهو يصلّي قوله: «أمّا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»(1).

إشارة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أنّ الخشوع الباطني يؤثّر في ظاهر الإنسان. وكان كبار قادة المسلمين يؤدّون صلاتهم بخشوع حتّى تحسبهم في عالم آخر، يذوبون في الله، حيث نقرأ عنهم في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إنّه كان يرفع بصره إلى السّماء في صلاته، فلمّا نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الأرض»(2).

وثاني صفة للمؤمنين بعد الخشوع ممّا تذكره الآية (والذين هم عن اللغو معرضون) حقّاً نرى جميع حركات وسكنات المؤمنين تتجّه لهدف واحد مفيد وبنّاء، لأنّ «اللغو» يعني الأعمال التافهة غير المفيدة، وكما قال بعض المفسّرين فإنّ اللغو كلّ قول أو عمل لا فائدة فيه، وإذا فسّر البعض اللغو بالباطل.

وبعض فسّره بالمعاصي كلّها.

وآخر بمعنى الكذب.

وآخر: السباب أو السباب المتقابل.

والبعض الآخر قال: إنّه يعني الغناء واللهو واللعب.

وآخر: إنّه الشرك. فإنّ هذه المعاني مصاديق ذلك المفهوم العام.

وطبيعي أنّ اللغو لا يشمل الأفعال والكلام التافه فقط، وإنّما يعني الآراء التافهة التي لا أساس لها، التي تنسي العبد ربّه وتشغله بها دون الاُمور المفيدة، إذن فاللغو يتضمّن كلّ هذا، والحقيقة أنّ المؤمنين لم يخلقوا من أجل الإنشغال بآراء

___________________________

1 ـ تفسير الصافي، وتفسير مجمع البيان، في تفسير الآية موضع البحث.

2 ـ تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي، للآية موضع البحث.

[ 419  ]

باطلة أو كلام تافه، بل هم معرضون عنها، كما قال القرآن الكريم.

وتشير الآية الثّالثة إلى ثالث صفة من صفات المؤمنين الحقيقيين، وهي ذات جانب إجتماعي ومالي حيث تقول: (والذين هم للزكاة فاعلون)(1).

ربّما تكون السورة مكّية، كما قلنا سابقاً، نزلت في وقت لم تشرّع فيه الزكاة بعد بمعناها المعروف، لذلك نجد إختلافاً بين المفسّرين في تفسير هذه الآية، ولكن الذي يبدو أصوب هو أنّ الزكاة لا تنحصر بالزكاة الواجبة الأداء، وإنّما هناك أنواع كثيرة منها مستحبّة، فالزكاة الواجبة شرعت في المدينة، إلاّ أنّ الزكاة المستحبّة كانت موجودة قبل هذا.

وذهب مفسّرون آخرون إلى إحتمال أن تكون الزكاة واجبة كحكم شرعي في مكّة لكن دون تحديد، حيث كان الواجب على كلّ مسلم مساعدة المحتاجين بما يتمكّن، إلاّ أنّه أصبح للزكاة اُسلوبها الخاص عقب تشكيل الحكم الإسلامي وتأسيس بيت مال المسلمين، حيث تحدّدت أنصبتها من كلّ محصول ومال. وأصبح لها جباة يجبونها من المسلمين بأمر من الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

أمّا ما يراه بعض المفسّرين أمثال الفخر الرازي والآلوسي في «روح المعاني» والراغب الاصفهاني في مفرداته من أنّ الزكاة هنا تعني عمل الخير أو تزكية المال أو تطهير الروح، فبعيد، لأنّ القرآن المجيد كلّما ذكر الصلاة مع الزكاة يقصد بالزكاة الإنفاق المالي، ولو فسّرناه بغير هذا، فذلك يحتاج إلى قرينة واضحة لا توجد في هذه الآيات.

ورابع صفة من صفات المؤمنين هي الطهارة والعفّة بشكل تامّ، وإجتناب أي معصية جنسية، حيث تقول الآية: (والذين هم لفروجهم حافظون)(2) يحفظونها

___________________________

1 ـ الزكاة تعني هنا أنّ لها مصدراً، ولهذا إستعملت عبارة «فاعلون» بعدها. وقال مفسّرون آخرون: إنّه يمكن أن تعني الزكاة ذلك المعنى المعروف عنها، أي مقدار من المال، ولهذا تكون (فاعلون) بمعنى مؤدّون.

2 ـ «الفروج» جمع فرج، وهو كناية عن الجهاز التناسلي.

[ 420  ]

ممّا يخالف العفّة (إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين).

بما أنّ الغريزة الجنسية أقوى الغرائز عند الإنسان تمردّاً، ولضبط النفس عنها يحتاج المرء إلى التقوى والإيمان القوي، لهذا أكدّت الآية التالية على هذه المسألة (فمن إبتغى وراء ذلك فاُولئك هم العادون).

إنّ عبارة المحافظة على «الفروج» قد تكون إشارة إلى أنّ فقدان المراقبة المستمرة في هذا المجال تؤدّي بالفرد إلى خطر التلوث بالإنحرافات الكثيرة.

أمّا عبارة (أزواجهم) فهي تشمل الزوجين الذكر والاُنثى، رغم أنّ بعض مفسّري أهل السنّه وقعوا في خطأ في تفسير هذه الآية سنشير إليه لاحقاً.

ويمكن أن تكون عبارة (غير ملومين) إشارة إلى الرأي الخاطىء عند المسيحيين الذي أصبح يشكّل إنحرافاً في عقيدتهم، وهو أنّ أي إتّصال جنسي يعتبر فعلا غير لائق بالإنسان وتركه فضيلة له، حتّى نرى القساوسة الكاثوليك ـ نساءً ورجالا ـ ممّن طلّق الدنيا يحيون عزّاباً ويتصوّرون الزواج بأي شكل كان خلافاً لمنزلة الإنسان الروحية وهذه القضيّة شكلية فحسب، حيث يختار هؤلاء لإشباع غرائزهم سبلا خفيّة متعدّدة. ذكرتها كتبهم)(1).

وعلى كلّ حال فإنّ الله لم يخلق في الإنسان غريزة كجزء من مكوّناته المثلى، ثمّ يعتبرها تناقض منزلة الإنسان عنده.

وكون الزوجات حلاًّ للأزواج في علاقتهنّ الجنسيّة باستثناء أيّام العادة الشهرية وأمثالها، لا تحتاج إلى شرح. وكذلك كون الجواري حلالا عندما يكنّ على وفق شروط ذكرتها الكتب الفقهيّة وليس كما يتصوّر البعض أنّ كلّ واحدة منهنّ ودون شرط حلّ لمالكها، وفي الحقيقة لهنّ شروط الزوجة في حالات كثيرة.

___________________________

1 ـ يراجع بهذا المورد قصّة الحضارة لويل ديورانت.

[ 421  ]

وأشارت الآية الثامنة ـ موضع البحث ـ إلى الصفتين الخامسة والسادسة من صفات المؤمنين البارزة، حيث تقول: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) إنّ المحافظة على «الأمانة» بالمعنى الواسع للكلمة، وكذلك الإلتزام بالعهد والميثاق بين يدي الخالق والخلق من صفات المؤمنين البارزة. وتعني الأمانة بمفهومها الواسع أمانة الله ورسوله إضافة إلى أمانات الناس، وكذلك ما أنعم الله على خلقه. وتضمّ أيضاً أمانة الله الدين الحقّ والكتب السماوية وتعاليم الأنبياء القدماء، وكذلك الأموال والأبناء والمناصب جميعها أمانات الله سبحانه وتعالى بيد البشر، يسعى المؤمنون في المحافظة عليها وأداء حقّها. ويحرسونها ما داموا أحياءاً. ويرثها أبناؤهم الذين تربّوا على أداء الأمانات والحفاظ عليها.

والدليل على عموميّة مفهوم الأمانة هنا، إضافة إلى سعة المفهوم اللغوي لهذه الكلمة، هو أحاديث عديدة وردت في تفسير الأمانة بأنّها (أمانة الأئمّة المعصومين) أي: ينقلها كلّ إمام إلى وارثه(1).

وأحياناً تفسير الأمانة بأنّها الولاية بشكل عامّ.

وممّا يلفت النظر رواية زرارة أحد تلاميذ الإمام الباقر (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى (أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها)(2) «أدّوا الولاية إلى أهلها ...»(3).

وهكذا يكشف عن أنّ الحكومة وديعة إلهيّة مهمّة جدّاً يجب إيداعها بيد من هو أهلها.

وهناك تعابير قرآنية عديدة تدلّ على عمومية وشمولية العهد، منها: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم)(4).

___________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلّد الأوّل، صفحة 380.

2 ـ سورة النساء، 58.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ النحل، 91.

[ 422  ]

والجدير بالملاحظة أنّ بعض آيات القرآن عبّرت عن ذلك العهد بأداء الأمانة وعدم خيانتها والمحافظة عليها، و «رعاية الأمانة» التي استعملت في الآية السابقة تضمّ معنى الأداء والمحافظة.

فعلى هذا فانّ التقصير في المحافظة على الأمانة والذي يؤدّي إلى وقوع ضرر أو تعرّضها للخطر، يوجب على الأمين إصلاحها (وبهذا تترتّب ثلاثة واجبات على الأمين: الأداء، والمحافظة، والإصلاح) فلابدّ أن يكون الإلتزام بما تعهّد به المرء والمحافظة عليه.

وأداء الأمانة من أهمّ القواعد في النظام الإجتماعي، ودون ذلك يسود التخبّط في المجتمع. ولهذا السبب نرى شعوباً لا تتمسّك عامّتها بالدين، إلاّ أنّها ـ سعياً منها لمنع الإضطراب ـ تفرض على نفسها رعاية العهد والأمانة، وتعتبر نفسها مسؤولة أمام هذين المبدأين ـ في أقلّ تقدير ـ في القضايا الإجتماعية العامّة (وقد بيّنا بإسهاب أهميّة الأمانة في تفسير الآية (58) من سورة النساء. وفي تفسير الآية (27) من سورة الأنفال، وشرحنا الوفاء بالعهد في تفسير الآية الأُولى من سورة المائدة وفي تفسير الآية (91) من سورة النحل).

وبيّنت الآية التاسعة من الآيات موضع البحث آخر صفة من صفات المؤمنين حيث تقول: (والذين هم على صلاتهم يحافظون).

وممّا يلفت النظر أنّ أوّل صفة للمؤمنين كانت الخشوع في الصلاة، وآخرها المحافظة عليها، بدأت بالصلاة وإنتهت به. لماذا؟ لأنّ الصلاة أهمّ رابطة بين الخالق والمخلوق، وأغنى مدرسة للتربية الإنسانية.

الصلاة وسيلة ليقظة الإنسان وخير وقاية من الذنوب.

والخلاصة، إنّ الصلاة إن اُقيمت على وفق آدابها اللازمة، أصبحت أرضية أمينة لأعمال الخير جميعاً.

وجدير بالذكر إلى أنّ الآيتين الأُولى والأخيرة تضمنّت كلّ واحدة منها

[ 423  ]

موضوعاً يختلف عن الآخر، فالآية الأُولى تضمنّت الصلاة بصورة مفردة، والأخيرة بصورة جماعية. الأُولى تضمنّت الخشوع والتوجّه الباطني إلى الله. هذا الخشوع الذي يعتبر جوهر الصلاة، لأنّ له تأثيراً في جميع أعضاء جسم الإنسان، والآية الأخيرة أشارت إلى آداب وشروط صحّة الصلاة من حيث الزمان والمكان والعدد، فأوضحت للمؤمنين الحقيقيين ضرورة مراعاة هذه الآداب والشروط في صلاتهم.

وقد شرحنا أهميّة الصلاة في المجلّدات المختلفة لهذا التّفسير. فليراجع تفسير الآية (114) من سورة هود وكذلك تفسير الآية (103) من سورة النساء وفي تفسير الآية (14) من سورة طه.

بعد بيان هذه الصفات الحميدة، بيّنت الآية التالية حصيلة هذه الصفات فقالت: (اُولئك هم الوارثون).

اُولئك الذين يرثون الفردوس ومنازل عالية وحياة خالدة (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون).

«الفردوس» ـ على قول ـ هي مفردة رومية. وذهب آخرون إلى أنّها عربية، وقيل فارسية بمعنى «البستان». أو بستان خاص إجتمعت فيه جميع تسميتها بالجنّة العالية، وأفضل البساتين.

ويمكن أن تكون عبارة «يرثون» إشارة إلى نيل المؤمنين لها دون تعب مثلما يحصل الوارث الإرث دون تعب. وصحيح أنّ الإنسان يبذل جهوداً واسعة ويضحّي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرّب إلى الله، إلاّ أنّ هذا الجزاء الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأنّ المؤمن ينال الفردوس دون تعب ومشقّة.

كما يجب ملاحظة حديث روي عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «ما منكم من أحد إلاّ وله منزلان: منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فإن مات ودخل النّار ورث أهل

[ 424  ]

الجنّة منزله».

كما يمكن أن تكون عبارة «يرثون» في الآية السابقة إشارة إلى حصيلة عمل المؤمنين، فهي كالميراث يرثونه في الختام، وعلى كلّ حال فإنّ هذه المنزلة العالية ـ حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه ـ خاصّة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنّة الآخرين في منازل أقلّ أهميّة من هؤلاء المؤمنين.

* * *

ملاحظات

1 ـ إختيار الفعل الماضي «أفلح» لنجاح المؤمنين، تأكيد أقوى، أي إنّ نجاحهم طبيعي وكأنّه تحقّق من قبل. وجاءت كلمة (قد) أيضاً لتأكيد هذا الموضوع ثانية. وجاءت عبارات (خاشعون) و (معرضون) و (راعون) و (يحافظون) بصيغة اسم فاعل أو فعل مضارع دليلا على أنّ هذه الصفات البارزة ليست مؤقتة في المؤمنين الحقيقيين، بل هي دائمة فيهم.

2 ـ الزوجة الدائمة والمؤقتة

يستفاد من الآيات المذكورة أعلاه على أنّ هناك نوعين من النساء يجوز الدخول بهما: الأُولى الزوجات، والثّانية الجواري (بشروط خاصّة)، لهذا إستندت الكتب الفقهيّة على هذه الآية في مواضيع عديدة خلال بحث النكاح.

ولكن بعض المفسّرين والفقهاء من أهل السنّة حاولوا الإستفادة من هذه الآية في إثبات حرمة الزواج المؤقت.

ومع ملاحظة هذه الحقيقة، وهي أنّ من الثابت المسلّم به هو أنّ الزواج المؤقت (المتعة) كان حلالا على عهد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ينكره أحد من المسلمين، إلاّ أنّ البعض يرى أنّه كان في صدر الإسلام وعمل به الكثير من الصحابة، إلاّ أنّه

[ 425  ]

نسخ، وقال آخرون: إنّ عمر بن الخطاب منعه.

ومفهوم كلام هذه المجموعة من المفسّرين السنّة ـ بعد ملاحظة هذه الحقائق ـ هو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (والعياذ بالله) أجاز الزنا في أقلّ تقدير لفترة محدّدة، وهذا غير صحيح أبداً.

إضافةً إلى أنّ «المتعة» خلافاً لتصوّر هؤلاء، هي نوع من الزواج المؤقت بمعظم شروط الزواج الدائم، وعلى هذا فإنّ عبارة: (إلاّ على أزواجهم) هي بالتأكيد تتضمنّه. ولهذا السبب تستخدم صيغ الزواج الدائم (أنكحت وزوّجت) مع ذكر مدّة الزواج عند قراءة صيغة الزواج المؤقت، وهذا خير دليل على كون المتعة زواجاً.

وقد بيّنا بالتفصيل الاُمور المتعلّقة بالزواج المؤقت وأدلّته الشرعيّة في الإسلام، وعدم نسخ هذا الحكم الإلهي، وكذلك فلسفته الإجتماعية، في تفسير الآية (24) من سورة النساء.

3 ـ الخشوع روح الصلاة

إذا اعتبر الركوع والسجود والقراءة والتسبيح جسم الصلاة، فالتوجّه الباطني إلى حقيقة الصلاة، وإلى من يناجيه المصلّي، هو روح الصلاة. والخشوع ما هو إلاّ توجّه باطني مع تواضع. وعلى هذا يتبيّن أنّ المؤمنين لا ينظرون إلى الصلاة كجسم بلا روح، بل إنّ جميع توجّههم إلى حقيقة الصلاة وباطنها.

وهناك عدد كبير من الناس يودّ بشوق بالغ أن يكون خاشعاً في صلاته، إلاّ أنّه لا يتمكّن من تحقيق ذلك.

ولتحقيق الخشوع والتوجّه التامّ إلى الله في الصلاة وفي سائر العبادات، أُوصي بما يلي:

1 ـ نيل معرفة تجعل الدنيا في عين المرء صغيرة تافهة، وتجعل الله كبيراً

[ 426  ]

عظيماً، حتّى لا تشغله الدنيا بما فيها عن الذوبان في الله عند مناجاته وعبادته.

2 ـ الإهتمام بالاُمور المختلفة يمنع الإنسان من تركيز أفكاره وحواسّه، وكلّما تمكّن الإنسان من التخلّص من مشاغله حصل على توجّه إلى الله في العبادة.

3 ـ إختيار مكان الصلاة وسائر العبادات له أثر كبير في هذه المسألة، لهذا فإنّ الصلاة مع إنشغال البال بغيرها تعدّ مكروهة، وكذلك في موضع مرور الناس أو قبال المرآة والصورة، ولهذا الأسباب تكون المساجد الإسلامية أفضل إن كانت أبسط بناءً وأقلّ زخرفة واُبّهة، ليكون التوجّه كلّه لله فاطر السموات والأرض.

4 ـ إجتناب المعاصي عامل مؤثّر في التوجّه إلى الله، لأنّ المعصية والذنب تبعد الشقّة بين قلب المسلم وخالقه.

5 ـ معرفة معنى الصلاة وفلسفة حركاتها والذكر عامل مؤثّر كبير على ذلك.

6 ـ ويساعد على ذلك أداء المستحبّات، سواء كانت قبل الدخول في الصلاة أو في أثنائها.

7 ـ وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل هو كبقيّة الأعمال الاُخرى يحتاج إلى تمرين متواصل، ويحدث كثيراً أن يحصل الإنسان على قدرة التركيز الفكري في لحظة من لحظات الصلاة، وبمواصلة هذا العمل ومتابعته يحصل على قدرة ذاتية يمكنه بها إغلاق أبواب فكره في أثناء الصلاة إلاّ على خالقه (فتأمّلوا جيداً).

* * *

[ 427  ]

الآيات

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَـنَ مِن سُلَـلَة مِّن طِين(12) ثُمَّ جَعَلْنَـهُ نُطْفَةً فِى قَرَار مَّكِين(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـماً فَكَسَوْنَا الْعِظَـمَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَـهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَـلِقِينَ(14) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ(15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ تُبْعَثُونَ (16)

التّفسير

مراحل تكامل الجنين في الرحم:

إنّ ذكر الآيات السابقة أوصاف المؤمنين الحقيقيين، وما يمنحهم الله من جزاء عظيم يبعث في القلوب الشوق للإلتحاق بصفوفهم، لكن بأي طريق؟

تبيّن الآيات موضع البحث ـ وقسم من الآيات التالية لها ـ السبيل لكسب الإيمان والمعرفة، حيث يمسك القرآن بيد الإنسان ليأخذه إلى «عالم النفس» وليكشف له أسرار باطنه وهو «السير الأنفسي»، وتثير الآيات التالية لها إنتباه الإنسان إلى عالم الظاهر والمخلوقات المدهشة في عالم الوجود وسبر عالم الآفاق، وهو «السير الآفاقي».

[ 428  ]

تقول الآيات أوّلا: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)(1).

أجل، إنّ هذه الخطوة الأُولى التي خلق الله فيها الإنسان بكلّ عظمته وإستعداده وجدارته والذي يعتبر أفضل مخلوقاته من تراب مهين لا قدر ولا قيمة له، وهكذا تجلّت قدرته سبحانه وتعالى في هذا الخلق البديع.

وتضيف الآية التالية (ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين).

وفي الواقع فانّ الآية الأُولى تشير إلى بداية وجود جمع البشر من آدم وأبنائه وأنّهم خلقوا جميعاً من التراب، إلاّ أنّ الآية التالية تشير إلى تداوم وإستمرارية نسل الإنسان بواسطة تركيب نطفة الذكر ببويضة الاُنثى في الرحم. وهذا البحث يشبه ما جاء في الآيتين السابعة والثامنة من سورة السجدة (وبدأ خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين).

والتعبير عن الرحم بـ«قرار مكين»، أي القرار الآمن، إشارة إلى أهميّة الرحم في الجسم، حيث يقع في مكان أمين محفوظ من جميع الجهات، يحفظه العمود الفقري من جهة، وعظم الحوض القوي من جهة أُخرى، وأغشية البطن العديدة من جهة ثالثة، ودفاع اليدين يشكّل حرزاً رابعاً له. وكلّ ذلك شواهد على موضع الرحم الآمن.

ثمّ تشير الآية الثّالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة، واتّخاذها شكلا معيّناً في كلّ منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول: إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثمّ بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثمّ جعلنا من هذه المضغة عظاماً، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً: (ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً).

___________________________

1 ـ «السلالة» على وزن «عصارة» تعني الشيء الذي يستخلص من شيء آخر، وهي في الحقيقة خلاصة ونتيجة منه (مجمع البيان حول الآية موضع البحث).

[ 429  ]

هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافاً إلى مرحلة النطفة تشكّل خمس مراحل، كلّ منها عالم عجيب بذاته مليء بالعجائب بحثت بدقّة في علم الجنين، وأُلّفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلاّ أنّ القرآن تكلّم عن هذه المراحل المختلفة لجنين الإنسان، وبيّن عجائبه يوم لم يولد هذا العلم ولا يكن له أثر.

وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر ـ في الحقيقة ـ أهمّ مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر) و (فتبارك الله أحسن الخالقين).

مرحباً بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كلّ هذه الاُمور المدهشة.

طوبى لهذا العلم والحكمة والتدبير، الذي خلق في هذا الموجود البسيط كلّ هذه القابليات والجدارة. تعالى الله فقد تجلّت قدرته فيما خلق.

وجدير بالذكر أنّ كلمة «الخالق» مشتقّة من «الخلق» وتعني بالأصل التقدير(1)، حيث تطلق هذه الكلمة عندما يراد تقطيع قطعة من الجلد فينبغي على الشخص أن يقيس أبعاد القطعة المطلوبة ثمّ يقطعها، فيستخدم لفظ «الخلق» بمعنى التقدير، لأهميّة تقدير أبعاد الشيء، قبل قطعه.

أمّا عبارة (أحسن الخالقين) فتثير هذا التساؤل: هل يوجد خالق غير الله؟!

وضع بعض المفسّرين تبريرات لهذه الآية في وقت لا حاجة فيه لهذه التبريرات، لأنّ كلمة «الخلق» بمعنى التقدير والصنع، ويصحّ ذلك بالنسبة لغير الله، إلاّ أنّ هناك إختلافاً جوهرياً بين الخلقين ...

يخلق الله المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه ممّا خلق الله، فهو يغيّر

___________________________

1 ـ مختار الصحاح.

[ 430  ]

صورها. كمن يبني داراً حيث يستخدم مواداً أوّلية كالجصّ والآجر، أو يصنع من الحديد سيارة أو ماكنة.

ومن جهة أُخرى لا حدود لخلق الله (الله خالق كلّ شيء) سورة الرعد الآية (16) في وقت نجد ما صنعه الإنسان محدوداً جدّاً، وفي كثير من الأحيان يجد الإنسان فيما خلقه هو نقصاً يجب سدّه فيما بعد، إلاّ أنّ الله يبدع الخلق دون أي نقص أو عيب.

ثمّ إنّ قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كلّ شيء في العالم يتحرّك بإذن الله، حتّى الورق على الشجر، كما نقرأ في سورة المائدة الآية (110) عن المسيح (عليه السلام) (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني).

وتنتقل الآية التالية من تناول مسألة التوحيد ومعرفة المبدأ ـ بشكل دقيق وجميل ـ إلى مسألة المعاد حيث تقول: (ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون).

ومن أجل أن لا يعتقد المرء بأنّ الموت نهاية كلّ شيء، تقول الآية: (ثمّ إنّكم يوم القيامة تبعثون) أي إنّ خلقكم بهذه الصورة المدهشة لم يكن عبثاً أو لتعيشوا أيّاماً معدودات، فتضيف الآية أنّكم ستبعثون يوم القيامة في مستوى أعلى وفي عالم أوسع.

* * *

بحوث

1 ـ اتّباع المبدأ والمعاد بدليل واحد

إستخدمت الآيات المذكورة أعلاه لإثبات وجود الله وقدرته وعظمته نفس الدليل الذي إستخدمته سورة الحجّ لإثبات المعاد، وهو مسألة المراحل المختلفة لخلق الإنسان في عالم الجنين.

[ 431  ]

كما إنتقلت آخر هذه الآيات إلى بحث مسألة المعاد(1).

أجل، يمكن أن تعرف عظمة الله في خلق الإنسان في ظلمات الرحم، وإتّخاذه في كلّ مرحلة صورة جديدة مدهشة، وكأنّ عشرات الأشخاص من رسّامين وصنّاع مبدعين التفّوا حول هذه القطرة من الماء، وعملوا ليل نهار ليخرجوها بهذه الصورة البديعة، ولتمرّ من صورة إلى أُخرى أبدع، حتّى تمرّ في مختلف مراحل الحياة.

وإذا تمكّنا من تصوير مراحل نمو الجنين بشكل كامل في فيلم سينمائي، وعرضناها لَفَهِمنا مدى العجائب التي تكمن في هذا العمل. وبتقدّم علم الجنين في عصرنا ودراسات العلماء وتجاربهم المختبرية على هذا الأمر، اتّضحت الكثير من الغوامض التي عندما يطّلع عليها المرء يصرخ دون إرادته (فتبارك الله أحسن الخالقين) هذا من جهة.

ومن جهة ثانية نلاحظ الخلق المتعاقب وإتّخاذه صورة جديدة في كلّ مرحلة، وبالتالي ظهور إنسان للوجود كامل الخلق من تلك القطرة الصغيرة من الماء .. كلّ ذلك يدلّ على قدرة الله على بعث الإنسان ثانية إلى الحياة. وبهذا يمكن البرهنة بدليل واحد على مسألتين(2).

2 ـ آخر مرحلة في تكامل جنين الإنسان في الرحم

ممّا يلفت النظر إستخدام الآيات السابقة لمراحل الجنين الخمسة تعبير «الخلق»، في حين إستخدمت كلمة «الإنشاء» لآخر مرحلة، وكما ذكر اللغويون فإنّ كلمة «الإنشاء» تعني (خلق الشيء مع تربيته) وهذا التعبير يدلّ على إختلاف

___________________________

1 ـ تناولنا في بداية سورة الحجّ خلال البحث الآيتين الخامسة والسابعة أدلّة المعاد ومنها إستعراض مراحل الجنين في الرحم.

2 ـ شرحنا مراحل الجنين وعظمة الخلق فيها في تفسير الآية السادسة من سورة آل عمران (وهو الذي يصوّركم كيف يشاء).

[ 432  ]

هذه المرحلة عن المراحل السابقة (مرحلة النطفة والعلقة والمضغة واللحم والعظم) إختلافاً بيّناً. مرحلة ذكرها القرآن في عبارة موجزة (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر)ويعقّب ذلك مباشرةً بالقول: (فتبارك الله أحسن الخالقين).

ما هذه المرحلة التي تمتاز بهذه الأهميّة؟

إنّها مرحلة يدخل فيها الجنين مرحلة الحياة الإنسانيّة، يكون له إحساس وحركة، وبتعبير الأحاديث الإسلامية «نفخ الروح».

هنا يترك الإنسان حياته النباتية بقفزة واحدة ليدخل عالم الحيوان، ومنه إلى عالم الإنسانية، وتتباعد الشقّة مع المرحلة السابقة بدرجة إستخدمت الآية لها عبارة (ثمّ أنشأنا) لأنّ عبارة (ثمّ خلقنا) لم تعدّ كافية. حيث يتّخذ الإنسان في هذه المرحلة شكلا خاصاً يرفعه عن المخلوقات الاُخرى، ليكون جديراً بخلافة الله في الأرض، وليحمل الأمانة التي تخلّت عنها الجبال والسموات، لعدم إستطاعتها حملها.

وهنا انطوى «العالم الكبير» في «الجرم الصغير» بكلّ عجائبه، فيكون جديراً حقّاً بعبارة (تبارك الله أحسن الخالقين).

3 ـ كساء اللحم فوق العظام

ذكر مفسّر (في ظلال القرآن) عند تفسير هذه الآية جملة مدهشة هي أنّ الجنين بعد قطعه مرحلة «العلقة» و «المضغة» تتبدّل خلاياه إلى خلايا عظميّة، ثمّ تكتسي بالتدريج بالعضلات واللحم. لهذا فإنّ عبارة (كسونا العظام لحماً) معجزة علمية تكشف سرّاً لم يكن يعلم به أي شخص حتّى ذلك الزمن. لأنّ القرآن لم يقل: أبدلنا المضغة عظماً ولحماً، بل قال: (فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً)أي تبدّلت المضغة إلى عظام أوّلا، ثمّ اكتست باللحم.

[ 433  ]

4 ـ اللباس صيانة للعظام!

إنّ إستخدام اللباس للتعبير عن العضلات واللحم يكشف لنا حقيقة قباحة شكل الإنسان إن فقد هذا اللباس الذي يكسو العظام (فيصبح هيكلا عظميّاً مرعباً كما شاهدناه جميعاً أو شاهدنا صورته) إضافة إلى ذلك فإنّ اللباس يحمي الجسم، وهكذا اللحم والعضلات تحمي العظام، وبفقدانها تتلقّى العظام ضربات تؤدّي إلى كسرها، ويؤدّي اللحم وظيفة اللباس بالنسبة للعظام في المحافظة عليها من الحرّ والبرد. وهذا كلّه يبيّن لنا قوّة التعبير القرآني ودقّته.

* * *

[ 434  ]

الآيات

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَـفِلِينَ(17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَر فَأَسْكَنَّـهُ فِى الاَْرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَاب بِهِ لَقَـدِرُونَ(18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّـت مِّن نَّخِيل وَأَعْنَـب لَّكُمْ فِيهَا فَوَكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغ لِّلآكِلِينَ(20) وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاَْنْعَـمِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(22)

التّفسير

مرّة أُخرى مع علائم التوحيد:

قلنا: إنّ القرآن تناول سبل كسب الإيمان بعد ذكر صفات المؤمنين، كما تحدّثت الآيات السابقة عن آيات الله العظيمة في وجودنا، وتناولت هذه الآيات بعدها عالم الظاهر وآفاق الكون وعظمة خلق الأرض والسموات، حيث قالت

[ 435  ]

الآية الأُولى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق).

و «الطرائق» جمع «طريقة» بمعنى سبيل أو طبقة، ولو أجزنا المعنى الأوّل للطرائق، يصبح معنى الآية، أنّنا خلقنا فوقكم سبلا سبعة، ويمكن أن تفسّر بأنّها سبل مرور الملائكة، كما يمكن أن تكون مدارات لنجوم السّماء، وبحسب المعنى الثّاني للطرائق، فإنّ الآية تعني طبقات السّماء السبع.

وقد تحدّثنا عن السماوات السبع قبل هذا كثيراً، وإذا كان القصد من العدد «سبعة» الكثرة، فيكون معنى الآية أنّنا خلقنا فوقكم عوالم كثيرة من النجوم والكواكب والسيارات، وعبارة الطبقة لا تعني نظرية «بطلميوس» الذي صوّرها وكأنّها قشرة بصل الواحدة فوق الاُخرى. فإنّ القرآن لم يقصد هذا المعنى أبداً، بل يقصد بالطرائق والطبقات العوالم التي تحيط بالأرض بفواصل محدّدة، وهي بالنسبة لنا الواحدة فوق الاُخرى، بعضها قريب والبعض الآخر بعيد عنّا. وإذا كان العدد «سبعة» قد إستخدم في الآية للتعداد، فتعني الآية أنّنا خلقنا ستّة عوالم فوقكم إضافة إلى عالمكم الذي ترونه (مجموعة الثوابت والسيارات والمجرّات). وهذه العوالم لم يبلغها الإنسان حتّى الآن.

ولو دقّقنا بخارطة المنظومة الشمسية. وتفحّصنا مواقع السيارات المختلفة حول الشمس، لعثرنا على تفسير آخر لهذه الآية، هو أنّ من هذه السيارات التسع التي تدور حول الشمس، إثنان هما عطارد والزهرة لهما مداران تحت مدار الأرض، في الوقت الذي تتّخذ فيه السيارات الستّ الاُخرى مداراتها خارج مدار الأرض، وهي تشبه طبقات ستّ إحداها فوق الاُخرى. وإضافةً إلى مدار القمر الذي يدور حول الأرض تصبح المدارات سبعة، وكأنّها طبقات سبع(1).

وربّما يتوهّم أنّ العالم بهذه السعة والعظمة ألا يوجب أن يغفل الله تعالى عن

___________________________

1 ـ للإطلاع على السموات السبع راجع تفسير الآية (29) من سورة البقرة.

[ 436  ]

إدارته؟

فتجيب الآية مباشرةً (وما كنّا عن الخلق غافلين). إنّ الإستناد هنا إلى مسألة الخلق، إشارة إلى أنّ قضيّة خلق الكون بنفسها دليل على علم الله تعالى بمخلوقاته وتوجّهه إليها: فهل يمكن أن يغفل الخالق عن مخلوقاته؟!

ويمكن أن تقصد الآية أنّنا نملك سبلا كثيرة لتردّد الملائكة من فوقكم، ولسنا غافلين عنكم، كما أنّ ملائكتنا مشرفة عليكم وتشهد أعمالكم.

وأشارت الآية التالية إلى أحد مظاهر القدرة الإلهيّة، الذي يعتبر من بركات السموات والأرض، ألا وهو المطر، حيث تقول: (وأنزلنا من السّماء ماءً بقدر).

أنزلنا المطر بقدر لا يغرق الأرض من كثرته، وليس قليلا بحيث لا يكفي لري النباتات والحيوانات. أجل لو إنتقلنا من البحث حول السّماء إلى الأرض لوجدنا الماء من أهمّ الهبات الإلهيّة، وأصل حياة جميع المخلوقات، وبهذا الصدد أشارت الآية إلى قضيّة أكثر أهميّة، هي قضيّة إحتياطي المياه الجوفية فتقول: (فأسكناه في الأرض وإنّا على ذهاب به لقادرون).

نحن نعلم أنّ القشرة السطحيّة من الأرض تتكوّن من طبقتين مختلفتين: إحداهما نفوذية وأُخرى غير نفوذية. ولو كانت القشرة الأرضية جميعاً نفوذية لنفد المطر إلى جوف الأرض فوراً، ثمّ يظهر الجفاف بعد هطول المطر وإن إستغرق مدّة طويلة .. حيث لا نعثر على ذرّة من الماء!

ولو كان سطح الأرض من طين أحمر لبقي المطر فوق سطح الأرض وتلوّث وتعفّن وشدّد الخناق على الإنسان، وأصبح سبباً لموت الإنسان في الوقت الذي هو أصل الحياة.

إلاّ أنّ الله الرحيم جعل القشرة الأُولى من سطح الأرض نافذةً، وتليها قشرة غير نافذة تحافظ على المياه الجوفية، فتكون احتياطاً للبشر يستخرجها عند الحاجة عن طريق الآبار، أو تخرج بذاتها عن طريق العيون، دون أن تفسد أو

[ 437  ]

توجّه للإنسان أقلّ أذى(1).

ويحتمل أن يكون هذا الماء الذي نرتوي به بعد إخراجه من أعماق الأرض من قطرات مطر نزل قبل آلاف السنين وخزن في أعماق الأرض حتّى اليوم، دون أن يتعرّض لتلوّث أو فساد.

وعلى كلّ حال فإنّ الذي خلق الإنسان ليحيا، وجعل الماء أساساً لحياته، بل أكثرها أهميّة، خلق له مصادر كثيرة من هذه المادّة الحيوية وخزنها له قبل أن يخلقه! وبالطبع هناك إحتياطي من هذه المادّة الحيوية فوق قمم الجبال (على شكل ثلوج). تراه يذوب خلال السنة وينحدر إلى السهور، وقسم آخر لا زال فوق قمم الجبال منذ مئات بل آلاف السنين، ينتظر الأمر بالذوبان على أثر تغيير حرارة الجو لينحدر إلى السهول والوديان ليروي الأرض ويزيل العطش عنها.

وبملاحظة حرف الجر «في» في عبارة «في الأرض» يبدو لنا أنّ الآية تشير إلى مصادر المياه الجوفية وليس السطحية.

وتشير الآية التالية إلى الخير والبركة في نعمة المطر، أي المحاصيل الزراعية الناتجة عنه فتقول: (فأنشأنا لكم به جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون). فمضافاً إلى التمر والعنب اللذين يعتبران أهمّ المحاصيل الزراعية فانّ فيها أنواع أُخرى من الفواكه كثيرة.

ولعلّ عبارة (ومنها تأكلون) إشارة إلى أنّ محاصيل هذه الجنّات ذات الخيرات الواسعة لا تنحصر بالفواكه المأكولة فقط، وأنّ المأكولات تشكّل قسماً من خيراتها، فهذه البساتين (ومنها بساتين النخيل) لها فوائد كثيرة أُخرى لحياة الإنسان، حيث يصنع الإنسان أوراقها حُصُراً يجلس عليها، وأحياناً يصنع منها لباساً لنفسه، ويعمل من أخشابها منازل لسكناه. ويستخرج دواءه من بعض

___________________________

1 ـ ويجب ملاحظة أنّ الماء الملوّث يصفى عند مروره من القشرة النافذة في معظم الأوقات!

[ 438  ]

جذورها وأوراقها وفاكهتها. كما يستخدم الكثير منها كعلف لحيواناته، ومن أخشابها مادّة للوقود.

ويعطي الفخر الرازي في تفسيره إحتمال قصد الآية (منها تأكلون) أنّ حياتكم ومعيشتكم تعتمد على هذه البساتين، مثلما أنّ فلاناً يعتاش على العمل الفلاني، أي إنّ حياته تعتمد على ذلك العمل(1).

وممّا يلفت النظر من الآيات أعلاه أنّ منشأ حياة الإنسان في ماء النطفة، ومنشأ حياة النبات من ماء المطر، وفي الحقيقة ينبع هذان النموذجان للحياة من الماء. أجل إنّ حكم الله وقانونه واحد في كلّ شيء.

ثمّ تشير الآية التالية إلى شجرة مباركة أُخرى نمت من ماء المطر، إضافةً إلى بساتين النخيل والكروم والأشجار والفاكهة الاُخرى (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين)(2).

ماذا يقصد بـ(طور سيناء)؟

ذكر المفسّرون لهذه الكلمة إحتمالين: الأوّل: أنّها إشارة إلى جبل الطور المعروف في صحراء سيناء. وإذا وصف القرآن المجيد شجرة الزيتون باعتبارها الشجرة التي تنمو في جبل الطور، لأنّ عرب الحجاز كانوا يمرّون بهذه الأشجار المباركة عندما كانوا يتوجّهون إلى الشمال، حيث تقع منطقة الطور في جنوب صحراء سيناء كما يدلّ على ذلك موقعها الجغرافي بوضوح.

والإحتمال الثّاني: طور سيناء ذات جانب وصفي يعني الجبل ذي الخيرات، أو الجبل ذي الأشجار الكثيرة، أو الجبل الجميل (لأنّ «الطور» يعني الجبل، و «سيناء» تعني ذات البركة والجمال والشجر).

وكلمة «صبغ» تعني في الأصل اللون، وبما أنّ الإنسان يلوّن خبزه مع المرق،

___________________________

1 ـ إنّ «من» في التّفسير الأوّل «تبعيضيّة»، وفي التّفسير الثّاني «نشوية».

2 ـ صبغ الآكلين: غذاء يؤكل مع الخبز.

[ 439  ]

لهذا أُطلق على جميع أنواع المرق اسم الصبغ. وعلى كلّ حال فكلمة «الصبغ» ربّما تكون إشارة إلى زيت الزيتون الذي يؤكل مع الخبز، أو أنواع الخبز مع المرق الذي يحضر من أشجار أُخرى.

وهنا يواجهنا سؤال: لماذا أُكّد على ثلاث فواكه هي: التمر والعنب والزيتون؟

في الجواب على ذلك لابدّ من الإهتمام بمسألة علميّة، هي أنّ علماء التغذية أكّدوا أنّه من النّادر أن نجد فاكهة مفيدة لجسم الإنسان بقدر فائدة هذه الفواكه الثلاثة.

فلزيت الزيتون أهميّة فائقة في إنتاج الطاقة وبناء الجسم، لأنّ الحرارة الناتجة عن تناوله كبيرة، وهو صديق حميم للكبد، ويزيل أمراض الكلية ويحميها، ويقوّي الأعصاب، وأخيراً يعتبر إكسير السلامة.

أمّا التمور فقد وصفت بدرجة لا يسعها هذا الموجز، فسكّرها من أفضل أنواع السكّر وأسلمها، ويرى عدد كبير من خبراء التغذية أنّ التمور من الأسباب التي تحول دون الإصابة بالأمراض السرطانية، حيث كشف العلماء في التمور ثلاث عشرة مادّة حيوية، وخمسة أنواع من الفيتامينات، وبهذا تعتبر مصدراً غنيّاً بالمواد الغذائية.

أمّا الأعناب فتعبّر ـ كما يراه بعض العلماء ـ صيدلية طبيعيّة، فخواصها تشبه حليب الاُمّ، وتولّد طاقة حرارية في الجسم تعادل ضعف ما تولده اللحوم، وتصفّي الدم، وتدفع السموم عن البدن، وتمنح فيتاميناته الإنسان قوّة وطاقة مثلى(1).

بعد بيان جانب من أنعم الله في عالم النبات التي تنمو على المطر، يلي ذلك بحث جانب مهمّ من أنعم الله وهباته في عالم الحيوان (وإنّ لكم في الأنعام لعبرة)(2).

___________________________

1 ـ للإستزادة في الإطلاع على فوائد هذه الفواكه الثلاثة الحيوية يراجع تفسير الآية (11) من سورة النحل.

2 ـ إستخدمت «عبرة» هنا بصيغة نكرة إشارة إلى عظمتها.

[ 440  ]

ثمّ تشرح الآية «العبرة» فتقول: (نسقيكم ممّا في بطونها). أجل إنّ الحيوان يدرّ حليباً لذيذاً يعتبر غذاءً كاملا، ويمنح الجسم حرارة كبيرة، ويخرج الحليب من بين الدم على شكل دفعات كما ينزف الدم، لتعلموا قدرة الله حيث يتمكّن بها من خلق غذاء طاهر لذيذ من بين أشياء تبدو ملوّثة.

ثمّ تضيف الآية (ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون) إضافة إلى اللحم الذي يعتبر من أجزاء الغذاء الرئيسيّة التي يحتاجها الجسم، يستفاد من جلود الحيوان في صنع اللباس والخيم القويّة ذات العمر الطويل. كما يستفاد من صوفها في صنع الملابس والفرش والأغطية. ويصنع من أجزاء بدنها الدواء، ويستفاد حتّى من روثها لتسميد الأشجار والنباتات.

كما يستفاد من الحيوانات في الركوب في البرّ، والسفن في البحر (وعليها وعلى الفلك تحملون)(1).

كلّ هذه الخصائص والفوائد في الحيوان تعتبر ـ حقّاً ـ عبرة لنا، تعرف الإنسان على ما خلق الله من أنعم، كما تثير فيه الشعور بالشكر والثناء على الله(2).

السؤال الوحيد المتبّقي هو: كيف أصبحت الدواب والسفن في مستوى واحد؟

إذا لاحظنا مسألةً واحدة فسيكون الردّ واضحاً، وهي أنّ الإنسان بحاجة إلى مركب في حياته، مرّةً في البر، وأُخرى في البحر وهي السفن.

وهذا التعبير هو ذاته الذي إستخدم في الآية (70) من سورة الإسراء حين ذكر ما وهبه الله بني آدم (وحملناهم في البرّ والبحر).

* * *

___________________________

1 ـ تناولنا بالبحث الإستفادة من الحيوان بشكل مسهب في تفسير الآية (80) من سورة النحل.

2 ـ بحثنا في تفسير الآية (14) من سورة النحل وكذلك من تفسير الآية (65) من سورة الحجّ، أهميّة السفن وميزات المواد المختلفة التي تدخل في إستخدام السفن.

[ 441  ]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَـقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ(23) فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لاََنزَلَ مَلَـئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى ءَابَائِنَا الاَْوَّلِينَ(24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِين(25)

التّفسير

منطق الجبناء المغرورين:

تحدّثت الآيات السابقة عن التوحيد ومعرفة الله وأسباب عظمته في عالم الخليقة، أمّا الآيات ـ موضوع البحث والآيات المقبلة ـ فقد تناولت نفس الموضوع على لسان كبار الأنبياء ومن خلال تاريخ حياتهم.

حيث بدأت بأوّل الأنبياء اُولي العزم والمنادي بالتوحيد «نوح» (عليه السلام) (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) و (أفلا تتّقون)أي مع هذا البيان الواضح كيف لا تجتنبون عبادة الأوثان؟

أمّا الأشراف الأثرياء والمغرورون والملأ من الناس، وهم اللذين يملأون

[ 442  ]

العين في ظاهرهم، والفارغون في واقعهم من قوم نوح (عليه السلام) (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم).

وبهذا اعتبروا أوّل عيب له كونه إنساناً فاتّهموه بالسلطوية، وحديثه عن الله والتوحيد والدين والعقيدة مؤامرة لتحقيق أهدافه، ثمّ أضافوا (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) ولإتمام هذا الإستدلال الخاوي قالوا: (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين).

إلاّ أنّ هذا الكلام الفارغ لم يؤثرّ في معنويات هذا النّبي الكبير، حيث واصل دعوته إلى الله، ولم يكن في عمله دليل على رغبته في الحصول على إمتياز على الاُخرين، أو أن يتسلّط عليهم، لهذا لجأوا إلى توجيه تهمة أُخرى إليه، هي الجنون الذي كان يتّهم به جميع أنبياء الله عبر التاريخ، حيث قالوا:

(إن هو إلاّ رجل به جنّة فتربّصوا به حتّى حين).

واستخدم المشركون تعبير (به جنّة) ضدّ هذا النّبي المرسل أي به (نوع من أنواع الجنون) ليغطّوا على حقيقة واضحة، فكلام نوح (عليه السلام) خير دليل على رجحان علمه وعقله، وكانوا يبغون ـ في الحقيقة ـ أن يقولوا: كلّ هذه الاُمور صحيحة، إلاّ أنّ الجنون فنون له صوراً متباينة قد يقترن أحدها بالعقل!!

أمّا عبارة (فتربّصوا به حتّى حين) فقد تكون إشارة إلى إنتظار موت نوح (عليه السلام)من قبل المخالفين الذين ترقّبوا موته لحظة بعد أُخرى ليريحوا أنفسهم، ويمكن أن تعني تأكيداً منهم لجنونه، فقالوا: انتظروا حتّى يشفى من هذا المرض(1).

وعلى كلّ حال فإنّ المخالفين وجّهوا إلى نوح (عليه السلام) ثلاثة إتّهامات واهية متناقضة، واعتبروا كلّ واحد منها دليلا ينفي رسالته:

الأوّل: إنّ ادّعاء البشر بأنّهم رسل الله ادّعاء كاذب، حيث لم يحدث مثل هذا في السابق، ولو شاء الله ذلك لبعث ملائكته رسلا إلى الناس!

___________________________

1 ـ كما قال البعض: إنّ هذه العبارة تشير إلى قولهم: ارموه في السجن زمناً وقال آخرون: إنّهم قصدوا أن يتركوه لحاله الآن. إلاّ أنّ هذين التّفسيرين لا يبدوان صحيحين.

[ 443  ]

والثّاني: إنّه رجل سلطوي، وكلامه ادّعاء لتحقيق هدفه!

والثّالث: إنّه لا يملك عقلا سليماً، وكلّ ما يقوله هو كلام عابر!

وبما أنّ جواب هذه الإتّهامات الواهية أمر واضح جدّاً، وقد جاء في آبات قرآنية أُخرى، لهذا لم يتطرّق إلى ردّها في هذه الآيات. لأنّه من المؤكّد ـ من جهة ـ أن يكون قائد الناس أحدهم ومن جنسهم، ليكون على علم بمشاكلهم ويحسّ بآلامهم، إضافةً إلى ذلك فإنّ جميع الأنبياء كانوا من البشر. ومن جهة أُخرى يتّضح لنا خلال تصفّح تأريخ الأنبياء وإستعراض حياتهم، أنّ قضيّة الاُخوّة والتواضع، تنفي أيّة صفة سلطوية عنهم، كما ثبت رجحان عقلهم وتدبيرهم حتّى عند أعدائهم، حيث نجدهم يعترفون بذلك خلال أقوالهم.

* * *

[ 444  ]

الآيات

قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ(26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَـطِبْنِي فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ(27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّـنَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ(28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ(29) إِنَّ فِى ذَلِكَ لآَيَـت وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)

التّفسير

خاتمة حياة قوم معاندين:

اطّلعنا من الآيات السابقة على التهم التي وجّهها أعداء نوح (عليه السلام) إليه. إلاّ أنّه يستدلّ من آيات قرآنية أُخرى ـ بشكل واضح ـ أن أذى القوم المعاندين لنوح (عليه السلام)لم يتحدّد بهذه الاُمور، بل شمل كلّ وسيلة يمكن بها إيذاؤه، في حين بذل ـ سلام الله عليه ـ جميع ما في وسعه في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر.

[ 445  ]

وعندما يئس منهم حيث لم يؤمن بما جاء به إلاّ مجموعة صغيرة، دعا الله ليعينه، حيث نقرأ في الآية الأُولى (قال ربّ انصرني بما كذّبون)(1).

هنا نزل الوحي الإلهي، من أجل التمهيد لإنقاذ نوح (عليه السلام) وأصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).

إنّ عبارة «بأعيننا» إشارة إلى أنّ سعيك في هذا السبيل سيكون تحت حمايتنا، فاعمل باطمئنان وراحة بال ولا تخف من أي شيء.

وإستعمال عبارة «وحينا» يكشف لنا أنّ نوحاً (عليه السلام) تعلّم صنع السفينة بالوحي الإلهي، لأنّ التأريخ لم يذكر أنّ الإنسان إستطاع صنع مثل هذه الوسيلة حتّى ذلك الوقت. ولهذا السبب صنع نوح (عليه السلام) السفينة بشكل يناسب غايته في صنعها، ولتكون في غاية الكمال!

ثمّ تواصل الآية بأنّه إذا جاء أمر الله، وعلامة ذلك فوران الماء في التنور، فاعلم أنّه قد اقترب وقت الطوفان، فاختر من كلّ نوع من الحيوانات زوجاً (ذكر واُنثى) واصعد به إلى السفينة: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كلّ زوجين إثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول منهم) إشارة إلى زوج نوح (عليه السلام) وأحد أبنائه، ثمّ أضافت الآية:

(ولا تخاطبني في الذين ظلموا انّهم مغرقون) وهذا التحذير جاء حتّى لا يقع نوح (عليه السلام) تحت تأثير العاطفة الإنسانية، عاطفة الاُبوّة، أو عاطفته نحو زوجته ليشفع لهما، في وقت إفتقدا فيه لحقّ الشفاعة.

وتقول الآية التالية: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين).

وبعد الحمد والثناء عليه تعالى على هذه النعمة العظيمة، نعمة النجاة من مخالب الظلمة، ادعوه هكذا (وقل ربّ أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين).

___________________________

1 ـ الباء في «بما كذّبون» ربّما كانت سببيّة أو للمقابلة. وأمّا «ما» فيمكن أن تكون مصدرية أو موصولة، ويختلف معنى كلّ منهما. إلاّ أنّ هذا الإختلاف ليس مهمّاً (فتأمّلوا جيداً).

[ 446  ]

كلمة «منزل» ربّما كانت اسم مكان، أي: بعد الطوفان ندعو الله لينزلنا في أرض ذات خيرات واسعة، لنحيا فيها بسعادة وهدوء.

كما يمكن أن تكون مصدراً ميميّاً أي: أنزلنا بشكل لائق، لأنّ هناك أخطاراً تهدّد ركّاب هذه السفينة بعد رسوها في ختام الطوفان، كعدم مكان للسكن، أو النقص في الغذاء، أو التعرّض للأمراض، لهذا دعا نوح (عليه السلام) ربّه لينزله منزلا مباركاً.

وقد أشارت الآية الأخيرة ـ من الآيات موضع البحث ـ إلى مجمل هذه القصّة فقالت: (إنّ في ذلك لآيات) ففي هذه الحوادث التي جرت على نوح (عليه السلام)وإنتصاره على أعدائه الظالمين، ونزول أشدّ أنواع العقاب عليهم ـ آيات ودلائل لأصحاب العقول السليمة.

(وإن كنّا لمبتلين) أي إنّنا نمتحن الجميع بشكل قاطع. وقد تكون هذه الجملة إشارة إلى إمتحان الله لقوم نوح مراراً، وعندما أخفقوا في الامتحان أهلكهم إلاّ المؤمنين.

كما قد تكون إشارة إلى امتحان الله لجميع البشر في كلّ زمان ومكان، وما جاء في هذه الآيات لم يكن خاصّاً بالناس في زمن نوح (عليه السلام)، بل يشمل الناس في جميع الدهور. فيهلك من كان عائقاً في طريق تكامل البشرية وليواصل الأخيار سيرهم الطبيعي.

واكتفت الآيات هنا بقضيّة بناء السفينة ودخول نوح (عليه السلام) وأصحابه إليها، إلاّ أنّها لم تُشر إلى مصير المذنبين، ولم تتحدّث عنهم بالتفصيل، وإنّما إكتفت بالقول بأنّهم لقوا ما وعدهم الله (إنّهم مغرقون) لأنّ هذا الوعد مؤكّد لا يقبل النقض.

ولابدّ من القول بأنّ هناك حديثاً واسعاً عن قوم نوح وموقفهم إزاء هذا النّبي الكبير، ومصيرهم المؤلم، وقصّة السفينة، وفوران الماء من التنور، وحدوث الطوفان، وغرق ابن نوح (عليه السلام). وقد بيّنا قسماً كبيراً منه في تفسير سورة هود، وسنذكر قسماً آخر في تفسير سورة نوح إن شاء الله.

* * *

[ 447  ]

الآيات

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـه غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (32)وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَـهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا مَا هَـذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَـسِرُونَ(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَـماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36) إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(38) قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ(39) قَالَ عَمَّا قَلِيل لَّيُصْبِحُنَّ نَـدِمِينَ(40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَـهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ(41)

[ 448  ]

التّفسير

المصير المؤلم لقوم ثمود:

تحدّثت هذه الآيات عن أقوام آخرين جاؤوا بعد قوم نوح (عليه السلام). ومنطقهم يتناغم ومنطق الكفّار السابقين، كما شرحت مصيرهم الأليم، فأكملت بذلك ما بحثته الآيات السابقة.

فهي تقول أوّلا: (ثمّ أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين).

«القرن» مشتقّ من الإقتران، بمعنى القرب، لهذا يطلق على الجماعة التي تعيش في عصر واحد، كما تطلق هذه الكلمة على عصر هؤلاء، وقياس زمن القرن بثلاثين أو مائة سنة يتّبع ما تعارفته الأقوام المختلفة.

وبما أنّ البشر لا يمكن أن يعيشوا دون قائد ربّاني، فقد بعث الله أنبياءه يدعون إلى توحيده ويقيمون عدالته بين الناس، حيث تقول الآية التالية: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

وهذه هي الركيزة الأساسيّة لدعوة الأنبياء، إنّها نداء التوحيد، اُسُّ جميع الإصلاحات الفردية والإجتماعية، وبعدها أكّد رسل الله لهم القول: إنّكم وبعد هذه الدعوة الصريحة ألا تتركون الشرك وعبادة الأوثان: (أفلا تتّقون).

أمّا أيّ قوم كان هؤلاء؟ ومن هو نبيّهم؟

قال المفسّرون بعد دراسة الآيات المشابهة لهذه الآية: هناك إحتمالان:

الأوّل: أنّهم قوم ثمود الذين عاشوا شمال الحجاز، وبعث الله النّبي «صالح»(عليه السلام) لهدايتهم، إلاّ أنّهم كفروا وطغوا فأهلكهم الله بالصيحة السماوية (الصاعقة القاتلة) وشاهد هذا التّفسير ودليله هو الصيحة التي ذكرت في ختام الآيات موضع البحث، والتي جاءت في سورة هود الآية (67) حيث خصّت قوم صالح (عليه السلام).

والإحتمال الثّاني: خصها بقوم «عاد» الذين كان نبيّهم «هود» (عليه السلام)، وقد

[ 449  ]

ذكرتهم آيات قرآنية مباشرة بعد سرد قصّة نوح (عليه السلام)، وهذا دليل على صحّة هذا التّفسير(1)، إلاّ أنّ عقاب قوم عاد كما جاء في الآيتين السادسة والسابعة من سورة «الحاقة»، كان ريحاً شديداً استمرّ سبعة أيّام فدمّرهم عن بكرة أبيهم، إذن فالتّفسير الأوّل هو الأصحّ.

ولننظر الآن ماذا كان ردّ فعل هؤلاء القوم المعاندين إزاء التوحيد الذي أعلنه هذا النّبي الكبير؟

يقول القرآن في الآية التالية: (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون).

أجل إنّ القوم الذين عاشوا في رفاه مطلق دعاهم القرآن باسم الملأ (ترى ظاهرهم يملأ العين، إلاّ أنّ باطنهم خاو من النور).

وبما أنّهم كانوا يرون في دعوة نبي الله خلافاً لأهوائهم ومنافسةً لمصالحهم العدوانية وتسلّطهم الذي لا مبرّر له، وقد أترفوا فبعدوا عن ذكر الله، وأنكروا الآخرة، فجادلوا نبيّهم بنفس منطق المعاندين من قوم نوح، فقد رأوا في بشرية القادة الربانيّين وتناولهم الطعام كباقي الناس دليلا على بطلان نبوّة هؤلاء، في حين أنّ هذا الأمر بحدّ ذاته مؤيّد على كون هؤلاء الرجال العظام حملة رسالة من الله إلى الناس، ولأنّهم نهضوا من بين جماهير الناس بعد أن شعروا بآلامهم وعملوا بما يحتاجونه بشكل جيّد.

ثمّ قال بعضهم للبعض الآخر: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنّكم إذاً لخاسرون).

هؤلاء الحمقى لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، وهي انّهم يريدون من الناس بهذه الوساوس الشيطانية أن ينقادوا له في محاربة الأنبياء، في الوقت الذي يعيبون فيه

___________________________

1 ـ يراجع في ذلك سورة هود الآية (50) وسورة الأعراف الآية (65) وسورة الشعراء الآية (123).

[ 450  ]

على الذين يتّبعون من كان يستمدّ العون من مركز الوحي وقد مليء قلبه نوراً وعلماً إلهيّاً. ويرون في هذا العمل تقييد لحريّة الإنسان.

ومن ثمّ أنكروا المعاد، الذي كان دوماً سدّاً منيعاً لاتّباع الشهوات وأرباب اللذّات، وقالوا: (أيعدكم أنّكم إذا متّم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مخرجون) لتعيشون حياة جديدة (هيهات هيهات لما توعدون) فقد تساءل الكفّار: هل يمكن البعث والناس قد أصبحوا تراباً وتبعثرت ذرّاتهم هنا وهناك؟ إنّ ذلك مستحيل!!

وبهذا الكلام ازدادوا إصراراً على إنكار المعاد قائلين: إنّنا نشاهد باستمرار موت مجموعة وولادة مجموعة أُخرى لتحلّ محلّهم، ولا حياة بعد الموت(إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).

وأخيراً لخّصوا التّهم التي وجّهوها إلى نبيّهم فقالوا: (إن هو إلاّ رجل افترى على الله كذباً وما نحن بمؤمنين) فلا رسالة إلهيّة، ولا بعث، ولا برنامج سماوي، وعليه لا يتسنّى لعاقل الإيمان به.

وعندما طغى عناد الكفّار، وزالت آخر قطرة من الحياء منهم، فتجاسروا على الله، وأنكروا رسالته إليهم، وأنكروا معاجز أنبيائه بكلّ صلافة، وقد أتمّ الله حجّته عليهم، عندها توجّه هذا النّبي الكبير إلى الله سبحانه وتعالى و (قال ربّ انصرني بما كذّبون) ربّاه: انصرني فقد هتكوا الحرمات، واتّهموني بما شاؤوا وكذّبوا دعوتي.

فأجابه الله عزّوجلّ كما ذكرت الآية (قال عمّا قليل ليصبحنّ نادمين) ألا إنّهم سيندمون يوم لا ينفع الندم.

وهكذا جرى (فأخذتهم الصيحة بالحقّ) حيث نزلت عليهم صاعقة الموت برعبها الهائل ودمارها الماحق، وقلبت مساكنهم ونثرتها حطاماً، وكانت سريعة خاطفة إلى درجة لم تسمح لهم بالفرار، فدفنوا في منازلهم كما بيّنت الآية

[ 451  ]

الكريمة (فجعلناهم غثاءً) أي جعلناهم كهشيم النبات يحمله السيل (فبعداً للقوم الظالمين).

تعليقات

1 ـ الحياة المترفة وأثرها المشؤوم

بيّنت الآيات السابقة العلاقة بين «الترف» (حياة الأشراف المنّعمين) وبين «الكفر وإنكار لقاء الله» وهذه هي الحقيقة بعينها. فالذين يعيشون مترفين يطلقون العنان لشهواتهم الحيوانية. فمن الواضح أنّهم لايقبلون برقابة إلهيّة، ولا يعترفون بيوم البعث حيث تنتظرهم محكمة العدل الإلهي. والإقرار بذلك يونّب ضمائرهم ويثير الناس عليهم، لهذا فانّ هؤلاء الأشخاص لا يقرّون بالعبودية لله، وينكرون المبدأ والمعاد، ويرون الحياة كما ذكرت الآيات السابقة (إن هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين).

هذا هو شعارهم المعبّر عن فتنتهم وضلالهم الصارخ: فلنغتنم هذه الفرصة فلا خبر جاء ولا وحي نزل، ومن يدّعي ذلك فهو كاذب! وعصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة .. هكذا كانوا يبرّرون إنكارهم ليوم البعث.

إضافةً إلى ذلك فتحقيق مثل هذه الحياة المترفة لا تتمّ بداً إلاّ بسلب حقوق الآخرين وظلمهم، وهذا لا يكون إلاّ بإنكار رسالة الأنبياء والقيامة، ولهذا نرى الذين عاشوا في بذخ مترف يحتقرون كلّ القيم السماوية وينكرون كلّ شيء إلهي.

هؤلاء الحمقى أصبحوا أسرى لأهوائهم النفسيّة، فخرجوا عن طاعة الله وأصبحوا عبيداً لأهوائهم وشهواتهم، بل أصبحوا عبيداً لعبيد آخرين، بنفسيّة وضيعة، وقلوب سوداء قاتمة، ومستقبل موحش، على الرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّهم متنّعمون وسيبقون كذلك، غير أنّ القلق الذي يسيطر عليهم من عقاب الله وزوال نعمته والخوف من الموت لا يدع لهم راحة.

[ 452  ]

2 ـ «التراب» و «العظام»

يتفسّخ جسم الإنسان بعد موته حتّى يتحوّل إلى تراب، إلاّ أنّ الآية السابقة قدّمت التراب على العظام، لماذا؟

قد يكون ذلك إشارة إلى القسمين المهمّين من مكوّنات الجسم (اللحم والعظم) فاللحم يتفسّخ أوّلا ويصبح تراباً، وتبقى العظام لسنين عديدة ثمّ تبلى أخيراً وتصبح تراباً أيضاً.

وربّما كان التراب هنا إشارة إلى الأجداد القدماء جدّاً الذين أصبحوا تراباً، والعظام إشارة إلى الآباء الذين تفسّخت أجسامهم، وبقيت العظام لم تتحوّل إلى تراب(1).

3 ـ ما معنى الغثاء؟

اطّلعنا على مصير قوم ثمود وهو ـ كما ذكرته الآيات السابقة ـ أنّهم قد أصبحوا «غثاء». والغثاء، يعني النباتات الجافّة المتراكمة والطافية على مياه السيول، كما يطلق الغثاء على الزبد المتراكم على ماء القدر حين الغليان، وتشبيه الأجسام الميتة بالغثاء دليل على منتهى ضعفها وإنكسارها وتفاهتها، لأنّ هشيم النبات فوق مياه السيل تافه لا قيمة له، ولا أثر له بعد إنتهاء السيل (وقد شرحنا بإسهاب الصيحة السماوية في تفسير الآية 67 من سورة هود) هذا ولم يكن هذا العقاب خاصّاً ـ فقط ـ بقوم ثمود، حيث هناك أقوام أُخرى اُهلكت به. وقد تمّ شرحه في حينه.

___________________________

1 ـ تفسير روح المعاني حول الآيات موضع البحث.

[ 453  ]

4 ـ مصير عام

وممّا يلفت النظر أنّ آخر عبارة في الآيات ـ موضع البحث ـ أخرجت القضيّة من إطارها وجعلتها قانوناً عامّاً، حيث تقول: (فبعداً للقوم الظالمين) وهذا إستنتاج نهائي من كلّ هذه الآيات، فما قيل بصدد إنكار وتكذيب الآيات الإلهيّة والمعاد والعاقبة المؤلمة والنهاية السيّئة لا تختّص بجماعة معيّنة، بل تشمل جميع الظلمة عبر التاريخ.

* * *

[ 454  ]

الآيات

ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ(42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ(43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَـهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْم لاَّ يُؤْمِنُونَ (44)

التّفسير

هلاك الأقوام المعاندين الواحد بعد الآخر:

بعد أن تحدّث القرآن عن قصّة قوم نوح، أشار إلى أقوام أُخرى جاءت بعدهم، وقبل النّبي موسى (عليه السلام) حيث يقول: (ثمّ أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين)لأنّ هذا أمر الله وسنّته في خلقه، فالفيض الإلهي لا ينقطع عن عباده فلو سعى جماعة للوقوف في وجه مسيرة التكامل الإنساني للبشرية لمحقهم ودفع هذه المسيرة إلى أمام.

ولهذه الأقوام تأريخ معيّن وأجل محدود (ما تسبق من اُمّة أجلها وما يستأخرون) فلو صدر الأمر الحتمي بنهاية حياتهم فسيهلكوا فوراً، دون تأخير لحظة أو تقديم لحظة.

[ 455  ]

«الأجل» بمعنى العمر ومدّة الشيء، كأن نقول: أجل هذا الصكّ ثلاثة أشهر، أي أنّ مدّته تنتهي بعد ثلاثة أشهر، أو إلى أجل مسمّى أي إلى تاريخ محدّد.

وكما قلنا سابقاً فالأجل نوعان: «المحتّم» و «المشروط»، فالأجل المحتّم إنتهاء عمر الإنسان أو عمر قوم ما، ولا تغيير فيه. أمّا الأجل المشروط فيمكن أن يتغيّر حسب تغيّر الظروف فيزداد أو ينقص، وقد تحدّثنا عن ذلك سابقاً بإسهاب(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية السابقة تشير إلى «الأجل المحتّم».

وتكشف الآية التالية حقيقة إستمرار بعث الأنبياء عبر التاريخ بالدعوة إلى الله حيث تقول: (ثمّ أرسلنا رسلنا تترا).

كلمة «تترا» مشتقّة من «الوتر» بمعنى التعاقب، و «تواتر الأخبار» تعني وصولها الواحد بعد الآخر، ومن مجموعها يتيقّن الإنسان بصدقها، وهذه الكلمة مشتقّة في الأصل من «الوتر» بمعنى حبل القوس حيث يتّصل الحبل بالقوس من جهتيه ويقع خلفه ليقرب رأسي القوس (ومن حيث التركيب فإنّ كلمة «تترا» في الأصل «وترا» تبدّلت الواو فيه تاءً).

وعلى كلّ حال فإنّ معلّمي السّماء، كانوا يتعاقبون في إرشاد الناس، إلاّ أنّ الأقوام المعاندة كانوا يواصلون الكفر والإنكار، فإنّه: (كلّما جاء اُمّة رسولها كذّبوه).

وعندما تجاوز هذا الكفر والتكذيب حدّه وتمّت الحجّة عليهم. (فاتّبعنا بعضهم بعضاً).

أي أهلكنا الاُمم المعاندة الواحدة بعد الاُخرى ومحوناهم من الوجود.

وقد تمّ محوهم بحيث لم يبق منهم سوى أخبارهم يتداول الناس (وجعلناهم

___________________________

1 ـ للإستزادة يراجع تفسير الآية الثّانية من سورة الأنعام.

[ 456  ]

أحاديث). إشارة إلى أنّ كلّ اُمّة تتعرّض للهلاك، ويبقى منهم بعض الأفراد والآثار هنا وهناك، وأحياناً لا يبقى منهم أي أثر. وهذه الاُمم المعاندة والطاغية كانت ضمن المجموعة الثّانية(1).

وتقول الآية في الختام، كما ذكرت الآيات السابقة (فبعداً لقوم لا يؤمنون)أجل، إنّ هذا المصير نتيجة لعدم الإيمان بالله، فكلّ مجموعة لا إيمان لها، معاندة وظالمة، تبتلى بهذا المصير، فتمحق بشكل لا يبقى إلاّ ذكرها في التاريخ وأحاديث الناس.

وهؤلاء لم يكونوا بعيدين عن رحمة الله في هذه الدنيا فحسب، بل بعيدون عن هذه الرحمة في الآخرة أيضاً، لأنّ تعبير الآية جاء عامّاً يشمل الجميع.

* * *

___________________________

1 ـ «الأحاديث» جمع حديث، وتفسيرها كما مرّ أعلاه، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون جمع «اُحدوثة» وتعني الأخبار المدهشة التي يتحدّث الناس عنها. (تفسير الفخر الرازي حول الآية موضع البحث).

[ 457  ]

الآيات

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَـرُونَ بِآيَـتِنَا وَسُلْطَـن مُّبِين(45)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاَِيْهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ(45) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـبِدُونَ(46) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ(48) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49)

التّفسير

قيام موسى وهلاك الفراعنة:

كان الحديث حتّى الآن عن أقوام بعث الله لهم رسلا قبل موسى (عليه السلام)، وهلكوا. أمّا الآيات موضع البحث فقد تحدّثت بإختصار جدّاً عن إنتفاضة موسى وهارون على الفراعنة، ومصير هؤلاء القوم المستكبرين فقالت: (ثمّ أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين).

وهناك تفاسير عديدة لما تقصده كلمة «الآيات» وعبارة (سلطان مبين) وما الفرق بينهما؟

1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ «الآيات» تعني المعجزات التي أعطاها الله

[ 458  ]

لموسى بن عمران (الآيات التسع). وتقصد عبارة «سلطان مبين» المنطق القوي والبرهان الدافع لموسى (عليه السلام) أمام الفراعنة.

2 ـ التّفسير الثّاني أنّ «الآيات» تعني جميع معاجز موسى(عليه السلام)، ويقصد بعبارة (سلطان مبين) بعض معاجز موسى المهمّة كعصاه واليد البيضاء، لأنّ لهما خصائص ساعدت موسى على الإنتصار على الفراعنة.

3 ـ واحتمل البعض أنّ كلمة «الآيات» إشارت إلى آيات «التوراة»، وبيان التعاليم وما شاكل ذلك، وعبارة «سلطان مبين» إشارة إلى معجزات موسى (عليه السلام).

إلاّ أنّه لو لاحظنا إستعمالات عبارة «سلطان مبين» في القرآن المجيد لوجدنا التّفسير الأوّل أقرب إلى الصواب، لأنّ كلمة «سلطان» أو «سلطان مبين» وردت في القرآن بمعنى الدليل والمنطق الواضح(1).

أجل بعثنا موسى وأخاه هارون بهذه الآيات وسلطان مبين (إلى فرعون وملأه). لماذا تتحدّث الآية فقط عن الملأ (المجتمع المترف المعاند أو ما يسمّى بطبقة الأشراف). ولم تقل أنّ رسالتهما إلى شعب مصر كلّه.

لعلّ ذلك إشارة إلى أنّ الفراعنة هم أساس الفساد، وإن صلحوا فالباقون أمرهم سهل. إضافةً إلى كونهم قادة البلد، ولا يصلح أي بلد إلاّ بصلاح قادته. إلاّ أنّهم (فاستكبروا) لأنّهم لم يرضخوا لآيات الحقّ والسلطان المبين.

والفراعنة كانوا ـ أساساً ـ مستكبرين طاغين، كما تقول الآية (وكانوا قوماً عالين). والفرق بين العبارتين (استكبروا) و (كانوا قوماً عالين) أنّ العبارة الأُولى قد تكون إشارة إلى إستكبارهم عن دعوة موسى (عليه السلام)، والعبارة الثّانية تشير إلى أنّ الإستكبار يشكّل دوماً برنامجهم وبناءهم الفكري والروحي.

ويحتمل أيضاً أن تكون العبارة الأُولى إشارة إلى تكبّر الفراعنة، والثّانية إلى أنّهم كانوا يتمتّعون بقدرة متعالية وحياة متميّزة. وهذا سبب إستكبارهم.

___________________________

1 ـ نقرأ في سورة النمل الآية (21): (لاُعذبّنه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطان مبين) وفي الآية (23) من سورة النجم نقرأ (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان).

[ 459  ]

ومن الدلائل الواضحة على إحساسهم بالإستعلاء، قولهم: (وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)(1) فلم يكتفوا بالقول إنّنا لا ينبغي لنا اتّباع موسى وهارون، بل لابدّ أن يكون موسى وهارون عبدين دائمين لهم. فهؤلاء الذين اتّهموا الأنبياء (عليهم السلام) بالتسلّط في وقت هم أسوأ من كلّ متسلّط، وكلامهم يشهد على ذلك.

وعلى كلّ حال فقد تصدّوا لموسى وأخيه هارون بهذه الأدلّة الخاوية، مخالفة منهم للحقّ (فكذّبوهما فكانوا من المهلكين).

وهكذا إنتهى أعداء بني إسرائيل الذين كانوا سدّاً مانعاً لدعوة موسى وهارون إلى الله سبحانه.

وبدأت بعدها مرحلة تعليم وتربية بني إسرائيل، فأنزل الله في هذه المرحلة «التوراة» على موسى، الذي دعا بني إسرائيل للإهتداء بهذا الكتاب وتطبيقه على ما ذكرته الآية الأخيرة هنا (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلّهم يهتدون).

والآيات السابقة تحدّثت في مرحلة موسى وهارون عن الفراعنة مستعملة الضمير المثنّى، وهنا تكلّمت عن نزول الكتاب السماوي (التوراة) فخصّصت الحديث بموسى (عليه السلام). لأنّه النّبي المرسل وصاحب الكتاب والشريعة. إضافة إلى أنّ (موسى) كان يتعبّد في جبل الطور حين نزول التوراة، بينما كان هارون بين جموع بني إسرائيل(2).

* * *

___________________________

1 ـ يطلق على الإنسان «البشر»، لأنّ بشرته وجلده عارية. خلافاً لما عليه الحيوانات من لباس طبيعي خاص بكلّ نوع منهما. وذلك لعدم قدرتها على إعداد وسائل الحياة فمنح الله ذلك لها بشكل طبيعي. أمّا بالنسبة للإنسان فقد أوكل ذلك إلى ذكائه وعقله.

2 ـ بحثنا بالتفصيل حول موسى (عليه السلام) وكيفية مبعثه وجهاده مع الفراعنة في تفسير الآيات (103) إلى (162) من سورة الأعراف وفي تفسير الآيات (8) إلى (97) من سورة طه.

[ 460  ]

الآية

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَـهُمَا إِلَى رَبْوَة ذَاتِ قَرَار وَمَعِين (50)

التّفسير

آية أُخرى من آيات الله:

أشارت الآية في آخر مرحلة من شرحها لحياة الأنبياء إلى السيّد المسيح (عليه السلام)واُمّه مريم، فقالت: (وجعلنا ابن مريم واُمّه آية). وقد استعملت «الآية» عبارة «ابن مريم» بدلا من ذكر اسم عيسى (عليه السلام)، لجلب الإنتباه إلى حقيقة ولادته من اُمّ دون أب بأمر من الله، وهذه الولادة هي بذاتها من آيات الله الكبيرة.

وحمل مريم (عليها السلام) من غير أن يمسّها بشر، وإنجابها عيسى (عليه السلام) وجهان لحقيقة واحدة تشهد بعظمة الله سبحانه المبدعة وقدرته.

ثمّ أشارت الآية إلى الأنعم الكبيرة التي أسبغها الله على هذه الاُمّ الزكيّة وإبنها فتقول: (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين).

«الربوة» مشتقّة من «الربا» بمعنى الزيادة والنمو. وتعني هنا المكان المرتفع.

و «المعين» مشتّق من «المعن» على وزن «شأن» بمعنى جريان الماء، فالماء

[ 461  ]

المعين هو الماء الجاري. ويرى البعض أنّ «المعين» مشتق من «العين» أي نبع الماء الظاهر الذي يمكن مشاهدته بالعين المجرّدة(1).

وفي هذا إشارة مجملة إلى المكان الآمن الوارف البركات والخيرات، الذي منّ الله عزّوجلّ به على هذه الاُمّ وإبنها وجعلهما في أمان من شرّ الأعداء، يؤدّيان واجباتهما باطمئنان.

وإختلف المفسّرون في هذا المكان، فبعض يرى أنّ مولد السيّد المسيح (عليه السلام)كان في «الناصرة» (من مدن الشام). وقد جعله الله واُمّه في مكان آمن ذي خيرات، وحافظ عليه من شرّ الأعداء الذين أرادوا أن يكيدوا بعد علمهم بولادته ومستقبله.

ويرى آخرون أنّ هذا المكان الآمن هو «مصر»، لأنّ مريم (عليها السلام) وإبنها السيّد المسيح (عليه السلام) عاشا فترةً من حياتهما في مصر طلباً للنجاة من شرّ الأعداء.

وقال غيرهم: إنّ المسيح (عليه السلام) ولد في «دمشق»، وذهب سواهم إلى أنّه في «الرملة» في الشمال الشرقي من القدس، حيث عاش المسيح واُمّه (عليهما السلام) في كلّ من هذه المناطق فترة من حياتهما. ويحتمل أن يكون مولد السيّد المسيح (عليه السلام) في صحراء القدس، وقد جعله الله أمناً لهذه الاُمّ والوليد، وفجّر لهما ماء معيناً ورزقهم من النخل الجافّ رطباً جليّاً.

وعلى كلّ حال، فقد كانت الآية دليلا على حماية الله تعالى الدائمة لرسله ولمن يدافع عنهم. وتأكيداً على أنّ إرادة الله هي الأقوى، فلو أراد الملأ كلّهم قتل رسوله دون إذنه لما تمكّنوا. فالوحدة وقلّة الأنصار والأتباع لا تكون سبباً لهزيمتهم إطلاقاً.

* * *

___________________________

1 ـ في الحالة الأُولى تكون الميم جزءاً من الكلمة، وهي على وزن «فعيل»، وفي الثّانية الميم زائدة وهي على وزن مفعول «مثل مبيع».

[ 462  ]

الآيات

يَـأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلوا مِنِ الطَّيِّبَـتِ وَاعْمَلُوا صَـلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51) وَإِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقونِ(52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(53) فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِين(54)

التّفسير

جميع الاُمّة يد واحدة:

تحدّثت الآيات السابقة عن ماضي الأنبياء واُممهم، أمّا هذه الآيات فخاطبت الجميع فقالت: (ياأيّها الرسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليم).

الفرق بينكم أيّها الأنبياء وبين سواكم من البشر، ليس في أنّكم لا تتّصفون بصفاتهم كالحاجة إلى الطعام والشراب والنوم والراحة، وإنّما بسموّكم، ففيما يتهافت الناس على إشباع شهواتهم بما طاب وخبث وقد جعلوا من الأكل هدفهم النهائي، زكت أنفسكم، وإختارت الطيّبات وصالح الأعمال.

بين عبارتي (كلوا من الطيّبات) و (اعملوا صالحاً) إرتباط واضح، فلنوع

[ 463  ]

الغذاء أثر في نفس الإنسان وعقله وسلوكه. وقد ذكرت الأحاديث الإسلامية أنّ تناول الغذاء الحرام يمنع إستجابة الدعاء.

وروي عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لرجل سأله عن إستجابة دعائه «طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام»(1) و (2).

وقوله تعالى: (إنّي بما تعملون عليم) بنفسه دليل مستقل على وجوب القيام بالعمل الصالح، لأنّ الإنسان عندما يعلم بأنّ الله يراقب أعماله، ولا يخفى عليه شيء وسوف نحاسبه بدقّة على ذلك، فلا شكّ في أنّ الإلتفات إلى هذا الأمر يساعد في إصلاح عمله.

مضافاً إلى أنّ تعابير الآية هذه تبعث في الإنسان الشعور بضرورة تقديم الشكر لله على ما أنعم عليه من الطيّبات، وبذلك تؤثّر في عمله أيضاً.

وبهذا بيّنت الآية ثلاثة مؤثّرات في العمل الصالح:

الأوّل: طيب الغذاء الذي يورث صفاء القلب ونقاوته.

والثّاني: شكر الله تعالى على ما أنعم به من رحمته.

الثّالث: الشعور اليقظ بمراقبة الله سبحانه للأعمال كلّها.

أمّا كلمة «الطيب» فهي كما قلنا تعني كلّ شيء نظيف وطاهر. وهي نقيض كلمة «الخبيث» قال الراغب الاصفهاني في مفرداته: الطيب يعني: كلّ ما يسرّ الإنسان حسيّاً وروحياً، أمّا من الناحية الشرعية فهو الحلال الطاهر.

والقرآن المجيد ذكر الطيب والطيبات في كثير من الموارد:

(ياأيّها الرسل كلوا من الطيّبات)(3). ثمّ لا يقصر الأمر على الرسل، بل:

___________________________

1 ـ وسائل الشيعة، المجلّد الرّابع، الدعاء الباب (67) الحديث (4).

2 ـ تناولنا شرح ذلك في تفسير الآية (186) من سورة البقرة.

3 ـ المؤمنون، 51.

[ 464  ]

(ياأيّها الذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم)(1) بل إنّ ما يصل إلى مقام القرب هو الطيّب من الأعمال والأقوال:

(إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه)(2).

وأحد امتيازات الإنسان الكبيرة على سائر الموجودات أنّ الله تعالى رزقه من الطيّبات: (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيّبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا)(3).

كما جاء في حديث موجز ثر المعنى عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عرض لهذه الحقيقة «ياأيّها الناس، إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً»(4).

ثمّ دعت الآية جميع الأنبياء وأتباعهم إلى توحيد الله وإلتزام تقواه (وإنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة) فالإختلافات الموجودة بينكم، وكذلك بين أنبيائكم ليست دليلا على التعدّدية إطلاقاً. (وأنا ربّكم فاتّقون).

فنحن بين يدي دعوة واعية إلى وحدة الجماعة والقضاء على ما يثير التفرقة، ليعيش الناس اُمّة واحدة، كما أنّ الله ربّهم واحد أحد.

ولهذا يجب أن ينتهج الناس ما نهجه الأنبياء (عليهم السلام) إذ دعوا إلى اتّباع تعاليم موحّدة، ذات أساس واحد في كلّ مكان «توحيد الله ومعرفة الحقّ، الإهتمام بالمعاد والتكامل في الحياة، والإستفادة من الطيّبات والقيام بالأعمال الصالحة. والدفاع عن العدل والمبادىء الإنسانيّة».

ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة «اُمّة» تعني هنا الدين والعقيدة. وليس المجتمع. إلاّ أنّ ضمير الجمع في جملة (أنا ربّكم) دليل على أنّ (الاُمّة) تعني

___________________________

1 ـ البقرة، 172.

2 ـ فاطر، 10.

3 ـ الإسراء، 70.

4 ـ تفسير القرطبي، المجلّد السابع، صفحة 4519 (حول الآية موضع البحث).

[ 465  ]

الناس جميعاً.

وقد وردت كلمة «الاُمّة» في القرآن المجيد بمعنى «الجماعة» غالباً، وندر ورودها بمعنى «الدين» مثل (إنّا وجدنا آباءنا على اُمّة وإنّا على آثارهم مقتدون)(1).

وممّا يلفت النظر أنّ هذا المعنى تضمنّته الآية 92 من سورة الأنبياء مع فارق بسيط (إنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون). في وقت شرحت الآيات السابقة لهذه الآية حياة كثير من الأنبياء، و «هذه» في الحقيقة إشارة إلى اُمم الأنبياء السابقين، الذين كانوا يشكّلون اُمّة واحدة بحسب التعاليم الإلهيّة، حيث تحرّكوا جميعاً لتحقيق هدف واحد.

وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفُرقة والإختلاف، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسّك بالوحدة فقالت: (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً) وممّا يثير الدهشة أنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون).

«الزبر» جمع «زبرة» على وزن «لقمة» تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه. يجمعه الراعي ليفصله عن باقي الشعر. ثمّ أطلقت هذه الكلمة على كلّ شيء ينفصل عن أصله، فتقول الآية: (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً). إشارة منها إلى تفرّق الاُمّة إلى مجموعات وفئات مختلفة.

واحتمل البعض الآخر أنّ الزبر جمع «زبور» بمعنى كتاب، وتعني أنّ كلّ فئة منهم كانت تمسك بكتاب منزل وتنفي ما عداه من الكتب السماوية، مع أنّ مصدرها واحد. ولكن عبارة (كلّ حزب بما لديهم فرحون) تدعم التّفسير الأوّل، فكلّ حزب يتحدّث بما تشتهي نفسه، ويصرّ على رأيه.

تستعرض الآية حقيقة نفسيّة وإجتماعية هي أنّ التعصّب الجاهلي للأحزاب

___________________________

1 ـ الزخرف، 23.

[ 466  ]

والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأنّ كلاًّ منها قد اتّخذ سبيلا خاصّاً به، وأصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه، ولا بنسيم معنوي يهبّ على روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق.

وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد، وهما أكبر عدوٍّ للحقيقة، ولوحدة الاُمّة. إنّ الإعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة وإحتقار سواه يجعل الإنسان يصمّ اُذنيه عن كلّ صوت يخالف ما إعتقده. ويُغطّي رأسه بثوبه، أو يلجأ إلى الفرار خوفاً من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال المشركون زمن نوح (عليه السلام) وعلى لسان هذا النّبي المرسل: (وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا إستكباراً)(1).

ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحقّ إلاّ بالتخلّص من هذه الحالة وإنهاء عناده.

ولهذا تقول الآية الأخيرة هنا: (فذرهم في غمرتهم حتّى حين) أي اتركهم على حالهم حتّى يأتي أجلهم، أو يأتيهم الله بعذاب منه، فليس لهم سوى هذا، لأنّهم أصرّوا على البقاء في جهلهم ومتاهتهم.

وكلمة «حين» قد تكون إشارة إلى وقت الموت، أو نزول العذاب، أو كليهما.

وأمّا «الغمرة» على وزن «ضربة» فهي بالأصل من «غمر» أي إتلاف كلّ شيء. ثمّ أطلق غمر وغامر على الماء الكثير الذي يزيل كلّ شيء يواجهه ويواصل جريانه، ثمّ أطلق على الجهل والبلايا التي يغرق فيها الإنسان. كما إستعملته الآية السابقة بمعنى الغفلة والضياع والجهل والضلال.

* * *

___________________________

1 ـ سورة نوح، 7.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335833

  • التاريخ : 28/03/2024 - 18:09

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net