00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النمل من آية 60 ـ آخر السورة من ( ص 105 ـ 160 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 105 ]

 الآيات

أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاْرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَة مَّا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَآ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أمَّن جَعَلَ الاْرْضَ قَرَارَاً وَجَعَلَ خِلَـلَهآ أَنْهَـراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الاَْرْضِ أَءِلَـهٌ مَّعَ الله قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيـحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَـهٌ مَّعَ اللهِ تَعَـلَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمآءِ وَالاْرْضِ أَءلَـهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـنَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ (64)

 

التّفسير

أمع كلّ هذه الأدلة ما تزالون مشركين؟!

في آخر آية من آيات البحث السابق، وبعد ذكر جوانب مثيرة من حياة

[ 106 ]

خمسة أنبياء عظام، أُلقي هذا السؤال الوجيز المتين (آللهِ خير أمّا يشركون )؟!

أمّا في الآيات محل البحث فتفصّل السؤال.. وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة، لتناقش المشركين وتحاكمهم، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلا!

فالآية الأُولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه، فتقول: هل أن معبوداتكم أفضل (أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ).(1)(2)

«الحدائق» جمع «الحديقة»، وهي كما يقول كثير من المفسرين: البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط، ومحفوظ من جميع الجهات، ومنها سمّيت حدقة العين حدقة لأنّها محفوظة بين الجفنين والهدب، أمّا الراغب فيقول في المفردات: إنّ الحديقة تطلق في الأصل على الأرض المجتمع فيها الماء، كما أنّ حدقة العين فيها الماء دائماً.

ويستفاد من مجموع هذين الرأيين أن الحديقة بستان له جدار وماء كاف.

و «البهجة» على وزن (لهجة) معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.

ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول: (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ).

_____________________________

1 ـ كلمة (ذات) في «ذات بهجة» جاءت مفردة، مع أن حدائق جمع وهي موصوفها، وذلك لأنّ الحدائق جمع تكسير، وجمع التكسير قد يأتي أحياناً بمعنى الجماعة، وهي ـ أي لفظة الجماعة ـ مفرد وصفتها مفردة أيضاً..

2 ـ هذه الآية في الحقيقة فيها حذف وتقديره: ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض؟ وفي الحقيقة إن السؤال في الآية السابقة كان هكذا: اللّه خير أم الشركاء؟ وهنا يبدأ السؤال بالعكس: ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض.

[ 107 ]

فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة فتكون شجراً، هو الله فحسب.

فهذه حقائق لا يمكن إنكارها، ولا أن تنسب لغير الله... فهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي أنزل الغيث من السماء، وهو مبدأ هذه البهجة والحسن والجمال في عالم الحياة!.

إن مجرّد التأمل في لون الزهرة الجميلة، وأوراقها اللطيفة المنظمة التي تشكل حلقةً رائعة.. كاف أن يجعل الإنسان عارفاً بعظمة الخالق وقدرته وحكمته.. فهذه الأُمور تهز قلب الإنسان وتدعوه إلى الله.

وبتعبير آخر فإن التوحيد في الخلق يؤدي الى «توحيد الخالق»، والتوحيد في الربوبيّة «توحيد مدبّر هذا العالم» باعث على «توحيد العبادة»!.

ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية: (أإله مع الله ) ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن الله وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم (بل هم قوم يعدلون )(1).

والسؤال الثّاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم، فيقول: هل أنّ اصنامكم أفضل، (أمّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي )(2)كما تحافظ على القشرة الارضية من الزلازل، كما (وجعل بين البحرين حاجزاً ) ومانعاً من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.

وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض! فتقول:

إن استقرار الأرض في الوقت الذي تتحرك بسرعة وتدور حول نفسها

_____________________________

1 ـ قد يكون (يعدلون) من مادة (العدول) أي الإنحراف والرجوع من الحق إلى الباطل، أو أنّه مادة (عِدْل) على وزن (قِشر) ومعناه المعادل والنظير.. ففي الصورة الأُولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن الله الواحد إلى غيره، وفي الصورة الثّانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلا.

2 ـ «الخلال» في الأصل معناه الشق بين الشيئين. و«الرواسي» جمع «راسية»، وهي الثابتة.

[ 108 ]

وحول الشمس، وتتحرك في المنظومة الشمسية وحركة هادئة وفي وتيرة واحدة، إلى درجة أن سكّانها لا يحسّون بحركتها أبداً... فكأنّها أوتدت في مكان واحد! وبقيت ثابتة فلا يُرى فيها أقلّ حركة.

والنعمة الأُخرى وجود الجبال، التي قلنا عنها سابقاً أنّها تُحيط بالأرض، وجذورها متصلة بعضها ببعض كالحاجر القوي الذي يقاوم الضغوط الداخلية للأرض، وحركات الجزر والمدّ الذين يحصلان بسبب جاذبية القمر، كما أنّها تعبر مانعاً امام الاعاصير والسيول من أن تدمّر الأرض بطغيانها!

والنعمة الأُخرى الحجاب الحاجز بين البحرين، و الحائل الطبيعي الذي يحول بين الماء المالح والماء العذب، وهذا الحجاب ـ غير المرئي ـ هو الإختلاف في درجة الغلظة بين الماء العذب والماء المالح، أو كما يصطلح عليه اختلاف «الوزن النوعي» الخاص الذي يسبب عدم انحلال مياه الأنهار العظيمة العذبة التي تنصب في البحار المالحة لمدّة طويلة، وعند حالة «المدّ» تتمدد هذه المياه العذبة على السواحل الصالحة للزراعة فتسقيها (وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع ذيل الآية 53 من سورة الفرقان).

وفي الوقت ذاته جعل الله خلال أجزاء الأرض المختلفة أنهاراً تسقي المزارع والأحياء... فتخضرّ البساتين وتثمّر الاشجار وبعض مصادر هذه المياه تكمن في قمم الجبال... وبعضها بين الطبقات الأرضيّة!.

ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد وُلد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!

حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الإدعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال: (أإله مع الله )؟! حاش للَّهِ (بل أكثر هم لا يعلمون ).

السؤال الثّالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة

[ 109 ]

المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات، وفتح الطرق الموصدة، وإجابة الدعاء، إذ تقول الآية التالية: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ).

أَجَلْ... عندما تُغلق جميع أبواب عالَم الأسباب بوجه الإنسان، ويبلغ النصل إلى العظم، ويغدو مضطراً حيراناً لا حيلة له، فإنّ الذي يحلّ المعضلة، ويفتح الأقفال، ويزيل السدود عن الطرق، وينثر في القلوب نور الأمل، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين، هو الله لا غير!.

وحيث أنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في اعماق نفوسهم جميعاً، فإنَّ المشركين حين يقعون بين امواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف الله، كما يقول القرآن: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين )(1)

لذلك تضيف الآية قائلة: إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب، بل: (ويجعلكم خلفاء الأرض أاله مع اللّه ) ولكنكم لا تتعضون بهذه الدلائل.. (قليلا ما تذكرون )(2).

وحول مفهوم المضطر، ومسألة استجابه الدعاء وشروطها، بحوث ستأتي في نهاية هذه الآيات!

والمراد من (خلفاء الأرض ) لعله بمعنى «سكنة الأرض» وأصحابها.. لأنّ الله جعل الإنسان حاكماً على هذه الأرض، مبسوط اليد فيها بما أولاه من النعم وأسباب الرفاه والدعة والإطمئنان!.

ولا سيما حين يقع الإنسان في شدّة، فيغدو مضطراً ويتجه نحو خالقه الكريم ـ فيرفع بكرمه البلايا والموانع ـ فتستحكم أسس هذه الخلافة وهنا

_____________________________

1 ـ العنكبوت، الآية 65.

2 ـ (ما) في قوله تعالى: (قليلا ما تذكرون ) زائدة ظاهراً، ونعرف أن الحروف الزائدة في كثير من المواطن للتأكيد، و(قليلا) صفة لمصدر محذوف وتقديره: تتذكرون تذكراً قليلا.

[ 110 ]

تتجلى العلاقة بين شطري الآية.

كما قد يكون المراد بهذا المعنى، وهو أنّ الله جعل ناموس الحياة أن يخلفَ قوم قوماً على الدوام، بحيث لو لم يكن هذا التناوب لم تغدُ الصورة متكاملة(1)!.

ويثير القرآن في السؤال الرّابع مسألة الهداية فيقول: هل أن الاصنام أفضل، (أمّن يهديكم في ظلمات البرّ والبحر ) بواسطة النجوم (ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته )؟!!.

فالرياح التي تدل على نزول الغيث، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث، إنّها في الحقيقة تهدي الناس إلى الغيث أيضاً.

والتعبير بـ (بشراً ) في شأن الرياح، والتعبير بـ (بين يدي رحمته ) في شأن الغيث، كلاهما تعبيران طريفان لأنّ الرياح هي التي تحمل الرطوبة في الجو وتنقل أبخرة الماء من على وجه المحيطات بشكل قطعات من السحب على متونها، إلى النقاط اليابسة، وتخبر عن قدوم الغيث!

وكذلك الغيث الذى ينشد نغمة الحياة على وجه البسيطة، وحيثما نزل حلت البركة والرحمة(2).

(ذكرنا شرحاً مفصلا في تأثير الرياح في نزول الغيث في ذيل الآية 57 من سورة الأعراف).

ويخاطب القرآن في ختام الآية المشركين مرّة أُخرى فيقول: (ءإله مع الله )؟!

ثمّ يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلا (تعالى الله عما يشركون ).

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث، فيثير القرآن السؤال الخامس في

_____________________________

1 ـ فبناءً على هذا المعنى يكون (خلفاء الأرض) بمعنى: خلفاء في الأرض.

2 ـ «بُشر» على وزن «عشر» ـ كما ذكرنا آنفاً ـ مخفف بُشر على وزن «كتب»، وهي جمع «بشور» على وزن «قبول» ومعناه المبشر.

[ 111 ]

شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة، فيقول: هل أنّ أصنامكم أفضل، (أمّن يبدأ الخلق ثمّ يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض ءإله مع الله ).. فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير الله (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )؟!

وفي الواقع فإن الآيات المتقدمة كلها كانت تتكلم على المبدأ، وايات عظمة الله في عالم الخلق والوجود، ومواهبه ونعمه، إلاّ أنّه في الآية الأخيرة ينتقل البحث من معبر ظريف إلى مسألة المعاد، لأنّ بداية الخلق نفسها دليل على تحققها، والقدرة على بداية الخلق تعد دليلا واضحاً على المعاد.

ومن هنا يتّضح الجواب على السؤال الذي يثيره كثير من المفسّرين، وهو أن المشركين المخاطبين بهذه الآيات أغلبهم لم يعتقدوا بالمعاد «المعاد الجسماني» فكيف يمكن أن يوجه إليهم هذا السؤال مع هذه الحال ويطلب منهم الإقرار.

فالجواب عليه أن هذا السؤال مقرون بدليل يسوق الطرف الآخر للإقرار، لأنّه باعترافهم أن بداية الخلق من الله، وهذه المواهب والنعم كلّها منه، لكي تقبل عقولهم إمكان المعاد والرجوع الى الحياة في يوم القيامة مرّة أُخرى.

والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك، أمّا (الرزق الارضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته!.

* * *

 

بحوث

1 ـ مَن المضطر الذي يجاب إذا دعاه؟

مع أنّ الله ـ يجيب دعاء الجميع عند تحقق شروط الدعاء، إلاّ أنّ في الآيات آنفة الذكر اهتماماً بالمضطر، وذلك لأنّ من شروط إجابة الدعاء أن يغمض

[ 112 ]

الإنسان عينيه عن عالم الأسباب كليّاً، وأن يجعل قلبه وروحه بين يدي رحمة الله، وأن يرى كل شيء منه وله! وأن حل كل معضلة بيده، وهذه النظرة وهذا الإدراك إنّما يتحققان في حال الإضطرار.

وصحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب والمسببات، والمؤمن يبذل منتهى سعيه وجهده في هذا الشأن... إلاّ أنّه لا يضيع في عالم الأسباب أبداً... ويرى كل شيء من بركات ذاته المقدسة، ويرى من وراء الحجاب ببصره النافذ «مسبب الأسباب» فيطلب منه ما شاء!.

أجل، إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة، فإنه يوفّر لنفسه أهم شرط لإجابة الدعاء.

الطريف أنّه قد ورد في بعض الرّوايات تفسير هذه الآية بقيام المهدي صلوات الله وسلامه عليه!

ففي رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال: «والله لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد الله حقّه... قال والله هو المضطر في كتاب الله في قوله: (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )» (1)!

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «نزلت في القائم من آل محمّد (عليهم السلام) هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا الله عزَّوجلّ فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض» (2).

ولا شك أن هذا التّفسير ـ كما رأينا نظائره الكثيرة ـ لا يحصر المراد من هذه الآية بالمهدي(عليه السلام)، بل مفهوم الآية واسع، والمهدي(عليه السلام) واحد من مصاديقها الجليّة... إذ الأبواب في زمانه موصدة، والفساد عمّ البسيطة، والبشرية في طريق

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 94.

[ 113 ]

مسدود، وحالة الإضطرار ظاهرة في جميع العالم.. فعندئذ يظهر الإمام في أقدس بقعة.. فيطلب كشف السوء، فيلبي الله دعوته، ويجعله بداية «الظهور» المبارك في العالم، ويستخلفه في الأرض هو وأصحابه، فيكون مصداقاً لقوله تعالى (ويجعلكم خلفاء الأرض ).

«كان لنا بحث في شروط إجابة الدعاء وأهميته، وفي سبب عدم الإجابة، فصّلناه في ذيل الآية (186) من سورة البقرة»

 

2 ـ الإستدلال المنطقي في كلّ مكان

نقرأ في آيات القرآن ـ مراراً ـ أنّه يطالب المخالفين بالدليل، وخاصة بقوله: (هاتوا برهانكم ) وقد جاء هذا النص في أربعة مواضع البقرة: الآية 115، الأنبياء: الآية 24، النمل: الآية 64، والقصص: الآية 75 كما أنّه أكّد في مواضع أُخرى على البرهان خاصة «والمراد من البرهان: أصدق دليل».

وهذا المنطق (المطالبة بالبرهان) للاسلام يحكي عن محتواه الغني والقوي، لأنّه يسعى لأن يواجه مخالفيه مواجهة منطقية، فكيف يطالب الآخرين بالبرهان وهو لا يكترث به؟! فآيات القرآن المجيد مملوءة بالإستدلالات المنطقية... والبراهين العلمية في المسائل المتعددة!.

وهذا الأمر على خلاف ما حرفته المسيحية اليوم ـ وعوّلت عليه، وترى أن الدين هو ما يوحيه القلب!! وتفصل العقل عنه إذ تراه أجنبياً عنه... حتى أنّها تؤمن بالتناقضات العقلية كالتوحيد في التثليث، ومن هنا فقد سمحت للخرافات أن تدخل في الدين، مع أن الدين لو خلا من العقل والاستدلال العقلي فسوف لا يقوم دليل عليه، ويكون ذلك الدين وما يضادّه سواء!.

وتبرز عظمة هذا المنهج (وهو الإهتمام بالبرهان ودعوة المخالفين إلى الإستدلال المنطقي) حين نلتفت إلى أن الإسلام ظهر في محيط يعيش الخرافات

[ 114 ]

التي لا أساس لها والمسائل غير المنطقية في جميع مفاصل منظومته الفكرية والمعرفية!!

 

3 ـ خلاصة عامّة ومرور على الآيات السابقة

في الآيات السابقة كان اهتمام القرآن منصباً لإثبات «توحيد المعبود» على «توحيد الخالق»، و«توحيد الرب» اي (توحيد الخلق وتوحيد التدبير) وتحدّث عن اثتني عشرة آية وعلامة لله العظيم في عالم الوجود:

1 ـ السماء والأرض.

2 ـ نزول الغيث.

3 ـ بركاته في الحياة.

4 ـ قرار الأرض.

5 ـ الأنهار.

6 ـ الجبال الرواسي.

7 ـ الحاجز بين البحرين (العذب والمالح).

8 ـ إجابة دعوة العباد.

9 ـ هدايتهم في ظلمات البر والبحر.

10 ـ إرسال الرياح بشراً بين يدي رحمته.

11 ـ بدء الخلق وإعادته.

12 ـ رزق الإنسان «وسائر الخلق» من السماء والأرض.

هذه المواهب «والنعم» الاثنتا عشرة بيّنتْ في خمس آيات وضمن خمسة أسئلة!. وكانت تعالج الأُمور الخمسة التالية على التوالي:

1 ـ الخلق.

2 ـ والإستقرار.

[ 115 ]

3 ـ كشف الضرّ.

4 ـ الهداية.

5 ـ إعادة الحياة (بعد الموت).

وقد عقّب ذيل كل واحد من الأسئلة الخمسة، بقوله تعالى: (ءإله مع الله )؟!

وقد أوضح القرآن في نهاية كل سؤال أموراً، فأشار في نهاية الآية الأُولى إلى إنحراف المخالفين عن الحق.

وأشار في الآية الثّانية إلى جهلهم.

وأشار في الآية الثّالثة إلى عدم تفكيرهم!

وأشار في الآية الرابعة إلى انحطاط أفكارهم.

وطالبهم في نهاية الآية الخامسة بالإستدلال!

وقد أبدى القرآن بشكل عام مجموعة من الأسئلة الجامعة والمنسجمة بعضها مع بعض.

 

* * *

 

[ 116 ]

الآيات

قُل لاَّ يَعْلَمُ مَنِ فِى السَّمَـوَتِ وَالاْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاَْخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذا كُنَّا تُرَباً وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَـمُخْرَجُونَ (1) لَقَدْ وُعِدْنَا هَـذا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَـذا إلاَّ أَسَـطِيرُ الاوَّلِينَ (67)

 

 

التّفسير

لمّا كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث، فإن الآيات ـ محل البحث ـ تعالج هذه المسألة من جوانب شتى، فتجيب أولا على السؤال الذي يثيره المشركون دائماً، وهو قولهم: متى تقوم القيامة؟ و«متى هذا الوعد»؟! فتقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلاّ الله وما يشعرون أيّان يبعثون )!

لا شك أن علم الغيب ـ ومنه تاريخ وقوع القيامة ـ خاص بالله، إلاّ أنّه  لا  منافاة في أن يجعل الله بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده، كما نقرأ في

[ 117 ]

الآيتين (26) و( 27) من سورة الجن (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول ).

وبتعبير آخر فإنّ علم الغيب بالذات، وبصورته المستقلة والمطلقة غير المحدودة، خاصّ بالله سبحانه، وكل علوم الاخرين مُسترفدة من علمه تعالى. ولكن مسألة تاريخ وقوع القيامة مستثناة من هذا الأمر أيضاً، ولا يعلم بها أحد «إلاّ الله»(1).

ثمّ يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم، فيقول: (بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ).

«ادّارك» في الأصل «تدارك» ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل، فمفهوم جملة: (بل ادّارك علمهم في الآخرة ) أنّهم لم يصلوا إلى شيء بالرغم ممّا بذلوه من تفكير، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة (بل هم في شك منها بل هم منها عمون ). لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء!... ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت، إلاّ أنّهم كالعُمي الذين لا يبصرون كل شيء!

وبالطبع فإنّ هناك تفاسير أخر للجملة أعلاه، منها أنّ المراد من (ادّارك علمهم في الآخرة ) أن أسباب التوصل للعلم في شأن الآخرة متوافرة ومتتابعة، إلاّ أنّهم عمي عنها.

وقال بعضهم: إنّ المراد منها أنّهم عندما تُكشف الحجب في يوم الآخرة، فإنّهم سيعرفون حقائق الآخرة بشكل كاف.

_____________________________

1 ـ كان لنا بحوث مفصلة في علم الغيب في الأجزاء السابقة في هذا التّفسير.

[ 118 ]

إلاّ أنّ الأنسب من بين هذه التفاسير الثلاثة هو التّفسير الأوّل حيث يناسب بقية الجمل في الآية، والبحوث الواردة في الآيات الأخر!.

وهكذا فقد ذكرت ثلاث مراحل لجهل المنكرين (للآخرة).

الأولى: أنّ إنكارهم وإشكالهم هو لأنّهم يجهلون خصوصيّات الآخرة «وحيث أنّهم لم يروها فهم يظنون الحقيقة خيالا».

الثّانية: أنّهم في شك من الآخرة أساساً، وسؤالهم عن زمان تحققها ناشيء من أنّهم في شك منها!.

الثّالثة: أن جهلهم وشكهم ليس منشؤهما أنّهم لا يملكون دليلا أو دلائل كافية على الآخرة، بل الأدلة متوفرة إلاّ أن أعينهم عميٌ عنها!.

والآية التالية: توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة، فتقول: (وقال الذين كفروا ءإذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون )؟!

فهم مقتنعون بهذا المقدار، أنّ هذه المسألة بعيدة (أن يتحول الإنسان إلى تراب ثمّ يعود إلى الحياة)! مع أنّهم كانوا أوّل الأمر تراباً وخلقوا من التراب، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب، ثمّ يرجعون أحياءً بعد أن كانوا تراباً!

الطريف أنّنا نواجه مثل هذا الإستبعاد في ثمانية مواضع من القرآن، فهم يشكون في مسألة القيامة في المواضع آنفة الذكر بمجرّد استبعاد عودتهم إلى الحياة من «التراب» ثانية!.

ثمّ يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول: (لقد وعدنا هذا وآباؤنا من قبل ) ولكن لم نجد أثراً لهذا الوعد ولن يوجد (إن هذا إلاّ اساطير الأولين ). فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.

فبناءً على هذا فإنّهم يبدأون من الإستبعاد ثمّ يجعلونه أساساً للإنكار المطلق... فكأنّهم كانوا ينتظرون أن تتحقق القيامة عاجلا، وحيث أنّهم لم يشهدوا

[ 119 ]

ذلك في حياتهم فهم ينكرونه.

وعلى كل حال، فهذه التعبيرات جميعها تدل على غفلتهم وغرورهم!.

ويستفاد ـ ضمناً من هذا التعبير ـ أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النّبي في شأن يوم القيامة، ويطعنوا عليه، فيقولوا: إن هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة!.

 

* * *

 

[ 120 ]

 

 

 

 

الآيات

قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْـمُجْرِمِينَ (69) وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَتَكُنْ فِى ضَيْق مِّمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إَنْ كُنْتُمْ صَـدِقِينَ (71)قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ (72)وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ  لاَ يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَآئِبَة فِى السَّمَآءِ وَالاْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين (75)

 

التّفسير

لا يضيق صدرك بمؤامراتهم:

كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعادْ، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر.

ولما كان البحث المنطقي غير مُجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء، بالإضافة إلى ما أقامتهُ الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد ممّا يُرى كلّ يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنّة، وما إلى ذلك، فإنّ الآيات محل البحث

[ 121 ]

بدلا من أن تأتيهم بدليل، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار، وأنذرتهم بعقابه المخزي... فوجهت الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله) قائلةً: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ).

فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم، فلم يكترثوا بها، ولم يروا ضرراً.. فهلاّ سرتم في الأرض قليلا، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز... لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.

ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا... فأنتم كأُولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.

والقرآن دعا مراراً إلى السير في الارض، ومشاهدة آثار الماضين، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب، وقصور الظالمين المتداعية، والقبور الدارسة والعظام النخرة، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!

إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحىّ لأُولئك الماضين، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق... والواقع كذلك، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثراً لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.

(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية 137 من سورة آل عمران).

ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ «المجرمين» بدلا من «المكذبين»... وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق، بل أساسه العناد واللجاجة. وتلوثهم بأنواع الجرائم!

وحيث أن الرّسول(صلى الله عليه وآله) كان يشفق عليهم لإنكارهم، ويحزن لعنادهم، ويحترق قلبه من أجلهم، إذ كان حريصاً على هدايتهم، وكان يواجه مؤامراتهم أيضاً.. فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له: (ولا تحزن عليهم ) ولا تقلق من مؤآمراتهم (ولا تكن في ضيق ممّا يمكرون ).

[ 122 ]

إلاّ أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويسترشدوا بنصحه، أخذوا يسخرون منه (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ).

ومع أنّ المخاطب هو النّبي(صلى الله عليه وآله)، إلاّ أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع «إن كنتم صادقين» لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبي(صلى الله عليه وآله)أيضاً... فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!

وهنا يردُّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية، فيقول مخاطباً نبيّه: (قل عسى أن يكون قد ردف لكم بعض الذي تستعجلون ).

فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم... فلم هذا العناد واللجاجة؟!

«ردف» فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الاشخاص أو الاشياء التي تقف صفاً واحداً بعضها خلف بعض.

وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به، فقيل: هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيراً، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين، والآية (33) من سورة الأنفال شاهدة عليه (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ).

والتعبير بـ «عسى» لعله على لسان النّبيّ(صلى الله عليه وآله). وحتى لو كان من قِبَلِ الله سبحانه ـ فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم، فإنّه ليس فيه أي إشكال... إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته، مع إمكان أن تقترن هذه المقدمات

[ 123 ]

بالمانع، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة) !.

ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة: وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم، فذلك بفضله وبرحمته، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم، فيقول: (وإنّ ربّك لذو فضل على الناس ولكنّ أكثرهم لا يشكرون ).

وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة، فهم في غاية الخطأ: (وإن ربّك ليعلم ما تكن صدورهم ومايعلنون )(1).

فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون، والغيب والشهادة عنده سيّان.

فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود، وإلاّ فهي في مقابل غير المحدودتفقد معانيها و تتلاشى حدودها.

وهنا ذكر «علم الله بما تكنّ القلوب» مقدماً على علمه بالأفعال الخارجية، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: إنّه ليس علم الله منحصراً بما تكن القلوب وما تعلن، بل علمه واسع مطلق! (وما من غائبة في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين )(2).

وواضح أن «الغائبة» لها معنى واسع، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب... وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية، وأسرار

_____________________________

1 ـ «تكنّ» مأخوذ من كَنّ على وزن جَنّ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفّار من خواطر وأفكار عدوانية!..

2 ـ «الغائبة» اسم فاعل مشتق يدل على الوصف، وكما يعتقد بعضهم «التاء» ليست في هذه الكلمة للتأنيث، بل هي إشارة للأشياء المخفية، فهي للمبالغة في الخفاء... إلا أنّه لا مانع من أن نحتمل أن التاء للتأنيث، وأن موصوفها محذوف، وتقديره: وما من خصلة غائبة. أو أشياء غائبة، والله العالم..

[ 124 ]

السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة، زمان نزول العذاب، وأمثال ذلك. ولا دليل على أن نفسّر «الغائبة» هنا بواحد من هذه الأُمور المذكورة آنفاً ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ .

والمراد بـ «الكتاب المبين» هو اللوح المحفوظ، وعلم الله الذي لا نهاية له، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (59) من سورة الأنعام.

* * *

 

ملاحظات

التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق:

1 ـ استبعادالعودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان تراباً، لإعتقادهم أنّ التراب  لا يمكن أن يكون أساساً للحياة!

2 ـ قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.

3 ـ عدم نزول العذاب على منكري المعاد... لأنّه لو كان حقّاً أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!

وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها، وكنا في البداية تراباً ثمّ صرنا أحياءاً!

وكون الشيء قديماً لا ينقص من أهميّته أيضاً... لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد... وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأُخَر أصول كثيرة ثابتة... فَهَل كون امتناع اجتماع النقيضين قديماً، أو جدول ضرب فيثاغورس قديماً، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسناً والظلم سيئاً منذ القِدَم، ولا يزال كذلك، فهل هو دليل على بطلانه... فكثيراً

[ 125 ]

ما يتفق أن القِدَم دليل على الأصالة.

وأمّا في شأن الإشكال الثالث، فيجيب القرآن: ألاّ تعجلوا.. فعدم نزول العذاب من لطف الله، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.

 

* * *

[ 126 ]

الآيات

إِنَّ هَـذا الْقُرآءنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إسْرءِِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيْهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْـمُبِينِ (79) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْـمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمآ أَنْتَ بِهَـدِى الْعُمْىِ عَنْ ضَلَـلَتِهِمْ إن تُسْمِعُ إلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِايَـتِنا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ (81)

 

التّفسير

عمىُ القلوب لا يقبلون دعوتك!

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد... أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوّة، وحقّانيّة القرآن، ليكتمل بهما هذا البحث!.

ومن جهة أُخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجهاً للمشركين،

[ 127 ]

وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!.

فتقول الآيات أوّلا: (إنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ).

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة! فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسى(عليهما السلام). وفي شأن النّبي الذي بشّرت به «التّوراة» من هو؟

كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية... فجاء القرآن موضحاً هذه الأُمور بجلاء، وقال: إن المسيح(عليه السلام) عرف نفسه بصراحة فـ (قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )(1).

وقال أيضاً: إنّ المسيح ولد من دون أب، وليس أمره محالا و(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب )(2).

وأمّا النّبي الذي بشرت به التّوراة فتنطبق أوصافه على نبي الإسلام محمّد(صلى الله عليه وآله) ، ولا تنطبق على أحد سواه!.

وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الإختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء... وكل نبي مسؤول أن يحسم الإختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل... وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ، وفي محيط جاهلي، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!

ولما كانت مواجهة الإختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول: (وإنّه لهدى ورحمة للمؤمنين ).

أجل، إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات،

_____________________________

1 ـ سورة مريم، الآية 30.

2 ـ آل عمران، الآية 59.

[ 128 ]

هدى ورحمة لأنّ دليل حقانيته كامن في عظمة محتواه!

هدى ورحمة لأنّه يهدي إلى سبيل الحق ويدل عليه!.

وذكر «المؤمنين» هنا خاصّة.. هو لما ذكرناه آنفاً من أنّه ما لم تتوفر مرحلة من الإيمان في الانسان، وهي مرحلة الإستعداد لقبول الحق والتسليم لله، فإنّه  لا يستطيع الاستفادة من هذا المصدر الإلهي الفيّاض.

وحيث أنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه، لأوامر الله، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم: (إنّ ربّك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم ).

وبالرغم من أنّ هذه الآية لم تصرّح بأن قضاء الله بينهم سيكون يوم القيامة... إلاّ أنّه بقرينة آيتين أخريين تتحدثان عن اختلافات بني إسرائيل، وأن الله يقضي بينهم يوم القيامة، يتّضح أنّ مراد الآية محل البحث هو هذا المعنى ذاته.

ففي الآية (17) من سورة الجاثية يقول سبحانه: (إنّ ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ).

كما ورد في ذيل الآية (93) من سورة يونس، هذا النص المتقدم نفسه.

ووصف اللّه «بالعزيز» و«العليم» إشارة إلى ما ينبغي توفره في القاضي من هاتين الصفتين، «العلم» بصورة كافية و«القدرة» على إجراء الحكم، والله سبحانه أعلم من الجميع وأعزّهم.

وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن، وهو تهديد لبني إسرائيل، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه، لذا فالآية التالية تقول: (فتوكل على الله ).

توكل على الله العزيز الذي لا يغلب، والعليم بكل شيء.. توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين، لأنّه يرعاك و(إنّك على الحق المبين ).

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو: إذا كان القرآن حقّاً مبيناً فلماذا خالفوه؟

[ 129 ]

فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال، فتقول: إذا كان أُولئك لا يذعنون للحق المبين، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين، فلا مجال للعجب.. لـ (إنّك  لا تسمع الموتى )(1).

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب،  فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فانهم صمّ لا يسمعون  فلا يمكنهم أن يسمعوا صوتك، وخاصة إذا اداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك  (ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا وَلّوا مدبرين ).

ولعلهم لو كانواعندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم، إلاّ أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم، ولو ببعض العلامات، إلاّ أنّهم عميٌ (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ).

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم، فقلوبهم ميتة، وآذانهم صمٌّ موقرة، وأعينهم عميٌ!

فأنت يا رسول الله (إن تسمع إلاّ من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون )ويشعرون في أنفسهم بالاذعان للحق.

وفي الحقيقة إن الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي:

«حس التشخيص»، والعقل اليقظ، في مقابل القلب الميت.

«الأذن الصاغية» لإكتساب الكلام الحق، عن طريق السمع.

_____________________________

1 ـ قال جماعة من المفسّرين: إن هذه الجملة والجمل الأُخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النّبي على الله وعدم يأسه... مع أن الظاهر أنّها جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو «الحق المبين».

[ 130 ]

«والعين الباصرة» لرؤية وجه الحق ووجه الباطل، عن طريق البصر.

إلاّ أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب... كلها تعمي العين التي بها يرى الانسان الحقيقة، وتوفر سمعه، وتميت قلبه.

ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم، لما أثّروا فيهم شيئاً، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع، وهم غارقون في «مستنقع ذواتهم» فحسب!.

ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخر من القرآن (وكان لنا بحث آخر في نعمة «وسائل المعرفة»في تفسير سورة النحل ذيل  الآية 78.

و مرّة أُخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل، فيكون من باب تحصيل الحاصل، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله، فإنه  لا  يصغي إلى كلام النّبي أبداً.

* * *

 

بحثان

1 ـ أسباب التوكل

«التوكل» مأخوذ من «الوكالة»، وهو في منطق القرآن يعني الإعتماد على الله وجعله وليّاً وكيلا، وعدم القلق والخوف من كثرة المشاكل والموانع وعظم حجمها، بسبب التوكل على الله!

وهذا الأمر واحد من دلائل الإيمان المهمّة ومدعاة للنصر والتوفيق!.

والطريف أنّ الآيات المتقدمة عدّت التوكل في شيئين:

أحدهما: القدرة والعلم لمن يتوكل عليه الإنسان.

[ 131 ]

والآخر: وضوح الطريق الذي اختاره الإنسان!.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن يقول: لا مدعاة للضعف والخوف والوحشة، فأنت تعوّل على الله العزيز الذي لا يقهر، والعليم الخبير بكل شيء هذا من جهة.. ثمّ إنّك على الطريق الواضح والحق اللائح من جهة أُخرى.. فالمدافع عن الحق المبين علام يخاف؟!

وإذا ما رأيت جماعة خالفتك فلا تحزن أبداً... فهي لا تملك عيوناً باصرة، ولا آذاناً صاغية، ولا قلوباً حيّة!... وهي خارجة أساساً عن طريق الهداية والتبليغ... وإنّما يلتفّ حولك طلاب الحق وعشاق الله، والعطاشى إلى العدل حيث يخفّون نحو منبع القرآن الزلال، ليرتووا من نميره العذب.

 

2 ـ الموت والحياة في منطق القرآن!

هناك كثير من الألفاظ لها مداليل ومعان شتّى بحسب النظرات المختلفة، ومن هذه الألفاظ، لفظا الحياة والموت. «فالحياة» بالنظرة المادية تعني الحياة الطبيعة «الفيزيائية» فحسب، أي متى كان القلب ينبض، والدم يجرى في العروق إلى أعضاء الجسم كافة، وكانت الحركة وعملية الجذب والدفع في البدن، كان البدن حياً.. أمّا إذا سكنت هذه الحركة، فتدل على «الموت» القطعي الذي يعرف بالإختبار الدقيق خلال عدّة لحظات!.

إلاّ أنّ النظرة القرآنية تختلف عن النظرة المادية، فكثير من الناس يعدون أحياءً بحسب النظرة المادية ـ إلاّ أنّهم أموات بحسب النظرة القرآنية.. كأُولئك الذين أشارت اليهم الآيات المتقدمة.. وعلى العكس منهم الشهداء، فهم بحسب الظاهر أموات، لكنّهم بالمنطق القرآني أحياء خالدون!

والسبب في هذا الإختلاف بين النظرتين، هو أنّ الإسلام بالإضافة إلى أنّه يعدّ معيار الحياة الإنسانية وشخصية الانسان في القيم الروحانية، فهو يرى في

[ 132 ]

ايصال النفع الى الآخرين وعدمه معياراً لوجود الحياة وعدمها في الانسان.

فالإنسان الذي يرى بحسب الظاهر حيّاً، إلاّ أنّه غارق في الشهوات،  فلا يسمع صرخة لمظلوم، ولا صوتاً لمنادي الحق، ولا ينظر بعين بصيرة فيرى آثار اللّه في خلقه، ولا يفكر ولو لحظة واحدة في مستقبله وماضيه.. فمثل هذا الإنسان ميّت في منطق القرآن. أمّا الذين ما تزال آثارهم تملأ الدنيا بعد موتهم، وأفكارهم أسوة وقدوة للآخرين، فهؤلاء أحياء خالدون(1).

وبغض النظر عن هذه الأُمور كلّها.. فالإسلام ـ حسب ما لدينا من المدارك ـ يؤمن بالحياة البرزخية للناس.. والعجب أن بعض الوهابيين الجهلة يصرون على نفي أي نوع من أنواع الحياة والعلم بعد الوفاة، حتى للنّبي(صلى الله عليه وآله) ويمنعون التوسل به، لأنّه بزعمهم ميّت ولا أثر للميت، والأعجب من ذلك أنّهم يستندون إلى الآيات ـ محل البحث ـ لتأييد دعواهم!!

في حين أنّ بعضهم الآخر يصرّح على أنّ للنبيّ نوعاً من الحياة البرزخية، حياةً أشرف من حياة الشهداء المصرّح بها في القرآن، وقال: إنّه يسمع سلام المسلّم عليه(2).

والرّوايات في هذا الشأن كثيرة وافرة عن الفريقين الشيعة والسنة، أن النّبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين يسمعون من يسلّم عليهم من بعيد أو قريب، ويردّون عليه سلامهم، كما أنّ أعمال الأُمّة تعرض عليهم(3).

ونقرأ في حديث ورد في صحيح البخاري في قصّة معركة بدر أن النّبي(صلى الله عليه وآله)مع بعض أصحابه وقف على «القليب» وقد ألقيت فيه أجساد قتلى المشركين، فناداهم بأسمائهم، وقال: هلاّ أطعتم الله ورسوله، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً،

_____________________________

1 ـ كان لنا بحث مفصل «في الموت والحياة الروحيين» في ذيل الآية (24) من سورة الأنفال.

2 ـ الرسالة الثّانية من الهديّة السنية لمحمّد بن عبدالوهاب، ص 41.

3 ـ لمزيد من الإيضاح يراجع كتاب كشف الإرتياب ص 109 للسيد محسن الأمين العاملي.

[ 133 ]

فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقاً.. فقال عمر: يا رسول الله، تكلم أجساداً لا روح فيها... فقال(صلى الله عليه وآله): «والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (1).

ونقرأ في قصّة الجمل عن الأصبغ بن نباتة، أنّه لما انهزم أصحاب الجمل ركب علي(عليه السلام) بغلة رسول الله الشهباء وسار في القتلى يستعرضهم فمرّ بـ «كعب بن سور» قاضي البصرة وهو قتيل، فقال: أجلسوه، فأجلس. فقال: وَيلُمّك يا كعب بن سور، لقد كان لك علم لو نفعك.. ولكن الشيطان أضلك فأزلّك فعجلك إلى النّار (2).

ونقرأ في نهج البلاغة ـ أيضاً ـ أنّه(عليه السلام) بعد رجوعه من صفين بلغ مقبرةً كانت خلف سور الكوفة، فخاطب الموتى فقال كلاماً في تقلب الدنيا ثمّ قال: «هذا ما عندنا فما خبر ما عندكم ثمّ أضاف(عليه السلام) أمّا لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى» (3).

وهذا بنفسه دليل على أنّهم يسمعون إلاّ أنّهم لا يسمح لهم بالردّ.. ولو أُذن لهم لأجابوا!.

فجميع هذه التعبيرات «إشارة» إلى حياة الإنسان البرزخية.

 

* * *

_____________________________

1 ـ صحيح البخاري، ج 5، ص 97، باب قتل أبي جهل.

2 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 248.

3 ـ نهج البلاغه ـ الكلمات القصار رقم 130.

[ 134 ]

الآيات

وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بَِآيَـتِنَا لاَيُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّة فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِـآيَـتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَآ جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَـتِى وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَيَنطِقُونَ (85)

 

التّفسير

لمّا كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفّار بالعذاب ونزوله، أو تحقق القيامة وانتظارهم بفارغ الصبر ووقوع ذلك، وكانوا يقولون للنّبي(صلى الله عليه وآله): (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ). ومتى يوم القيامة؟! فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة، فتقول: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ).

والمراد من قوله تعالى: (وقع القول عليهم ) هو صدور أمر الله وما وعدهم من العقاب والجزاء.. أو وقوع يوم القيامة وحضور علائمها، العلائم التي يخضع لها كل من يراها، ويستسلم لأمر الله، ويحصل عنده اليقين بأنّ وعد الله حق، وأن

[ 135 ]

القيامة قد اقتربت.. وحينئذ توصد أبواب التوبة... لأنّ الإيمان في مثل هذه الظروف يقع اضطراراً.

وبالطبع فإنّ هذين المعنيين متلازمان لأنّ اقتراب القيامة يقترن بنزول العذاب ومجازاة الكافرين.

ولكن ما هي «دابة الأرض»؟ وما مصداقها؟ وأية مهمّة تحملها؟.. فالقرآن يجمل ولا يفصل، وكأنّه يريد أن يترك الموضوع مجملا غامضاً، ليكون الكلام فيه أكثر تأثيراً وباعثاً على التهويل.

فيقول مختصراً: يُخرج الله موجوداً يتحرك «أو دابة من الأرض» بين يدي القيامة، فيتكلم مع الناس ويقول: «إنّ الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله».

وبتعبير آخر: إنّ مهمّة هذه الدابة هي تفريق الصفوف وتمييز المنافقين والمنكرين من المؤمنين.

وبديهي أن المنكرين يرجعون إلى أنفسهم عند مشاهدة هذه الآيات، ويندمون على ما سلف منهم وعلى أيّامهم المظلمة، ولكن ما عسى أن ينفعهم الندم وأبواب التوبة موصدة؟!

وهناك مسائل كثيرة ومطالب وفيرة في خصوصيات «دابة الأرض» وجزئياتها وصفاتها في الرّوايات الإسلامية الواردة في كتب الفريقين، الشيعة وأهل السنة، وسنتعرض إليها ذيل هذه الآيات في باب البحوث إن شاء الله.

ثمّ تشير الآيات إلى علامة أُخرى من علامات القيامة، فتقول: (ويوم نحشر من كل أمّة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون ).

«والحشر» معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره! و«الفوج»، كما يقول الراغب في المفردات: الجماعة التي تتحرك بسرعة.

وأمّا «يوزعون» فمعناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل.. وهذا التعبير يطلق ـ عادة ـ على الجماعات الكثيرة، نظير ما قرأنا في

[ 136 ]

شأن جنود سليمان في هذه السورة ذاتها.

فبناءً على هذا يستفاد من مجموع الآية أن يوماً سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل أُمّة جماعة، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم!.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة.. لأنّ التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله «نحشر من كل أُمّة فوجاً» صحيحاً.. إذ في القيامة يكون الحشر عاماً للجميع، كما جاء في الآية (47) من سورة الكهف قوله تعالى: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً ).

والشاهد الآخر على أنّ الآيات هذه تتحدث عمّا يقع قبيل القيامة، هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة، والآيات التي تلي الآيات محل البحث تتحدث عن الحوادث التي تقع قبيل القيامة أيضاً... فمن البعيد أن تتحدث الآيات السابقة واللاحقة عن ما يقع قبل القيامة، وهذه الآيات محل البحث ـ فقط ـ تتحدث عن ما يقع في يوم القيامة.

وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد عن مسألة الرجعة سنتناولها في البحوث القادمة إن شاء الله،

إلاّ أن المفسّرين من أهل السنة يعتقدون أن الآية ناظرة إلى يوم القيامة، وقالوا: إنّ المراد بالفوج هو إشارة إلى رؤساء الجماعات وأئمتهم! وأمّا عدم الإنسجام بين الآيات الذي يُحدثه هذا التّفسير، فقالوا: إنّ الآيات بحكم التأخير والتقديم، فكأن الآية (83) حقّها أن تقع بعد الآية (85).

إلاّ أنّنا نعلم أن تفسير الفوج بالمعنى الآنف الذكر خلاف الظاهر، وكذلك عدم انسجام الآيات بأنّها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضاً.

(حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أمّاذا كنتم تعملون )(1).

_____________________________

1 ـ جملة (أمّاذا كنتم تعملون) جملة استفهاميّة و (أما) مركبة من (أم) التي هي حرف عطف وتأتي بعد همزة الإستفهام عادة، وتسمّى بالمعادلة، و(ما) الإستفهامية. ومعنى الآية: أو أىّ شيء كنتم تعملون.

[ 137 ]

وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه، والمراد من «الآيات» هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، أو أوامر الله، أو الجميع!.

والمراد من جملة (ولم تحيطوا بها علماً ) هو أنّكم بدون أن تتحققوا وتطّلعوا على حقيقة الأمر، كذبتم الآيات، وهذا منتهى الجهل وعدم المعرفة أن ينكر الإنسان شيئاً دون أن يتحقق منه!.

وفي الحقيقة فإنّهم يسألون عن شيئين.

الأوّل: تكذيبهم دون أن يفحصوا عن الحق.

والآخر: عن أعمالهم التي كانوا يقومون بها.

وإذا كانت الآية ـ آنفة الذكر ـ تتحدث عن القيامة، فمفهومها واضح. وأمّا إذا كانت تشير إلى مسألة الرّجعة ـ كما يقتضيه انسجام الآيات ـ فهي إشارة إلى أنّه عندما يرجع إلى هذه الدنيا طائفة من المجرمين... فولي الأمر الذي يمثل الله، وهو خليفته في الأرض، يتحقق منهم ويسألهم عمّا فعلوه في حياتهم، ثمّ يجازيهم حسب ما يستحقون من الجزاء الدنيوي، ولا يمنع هذا من عذاب الآخرة، كما أن كثيراً من المجرمين ينالون الحدّ الشرعي في هذه الدنيا، ويستوفون جزاءهم، فإذا لم يتوبوا فإنّ مايستحقون من العقاب ينتظرهم في الآخرة.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أىّ من هذين السؤالين، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة: (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ).

وهذا القول أو العذاب دنيوي، إذا فسّرنا الآية بالرجعة، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة.

* * *

بحوث

1 ـ ما هي دابة الأرض؟!

[ 138 ]

«الدّابة» معناها ما يدب ويتحرك، و«الأرض» معناها واضح.. وخلافاً لما يتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غير الإنسان... بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع يشمل الإنسان أيضاً، كما نقرأ في الآية (6) من سورة هود (وما من دابة في الأرض إلاّ على اللّه رزقها )، وفي الآية (61) من سورة النحل (ولو يُؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ).

وفي الآية (22) من سورة الأنفال (إن شرّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون ).

إلاّ أنّه ـ كما ذكرنا في تفسير الآية آنفاً ـ فإنّ القرآن لا يفصّل في بيان هذه الكلمة وإنّما يذكرها على إجمالها، فكأنّ البناء كان على الإجمال والإبهام، والوصف الوحيد المذكور لها بأنّها تكلم الناس وتميز المؤمن من غير المؤمن... إلاّ أنّ هناك كلاماً طويلا في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين في الشأن، ويمكن تلخيص مجموعها في تفسيرين:

1 ـ فطائفة تعتقد بأنّ هذه «الدابة» حيوان غير مألوف ومن غير جنس الإنسان له شكل عجيب، ونقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز!.

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان، وتتحدث عن الإيمان والكفر، وتفضح المنافقين وتسمهم بميسمها!

2 ـ وطائفة تعتقد ـ حسب الرّوايات الإسلامية الواردة في هذا الشأن ـ أنّها إنسان فوق العادة ـ إنسان متحرك فعّال! وواحد من أفعاله الأصلية تمييز المؤمنين عن المنافقين ووسمهم.. حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أن معه عصا موسى(عليه السلام) وخاتم سلميان.. ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز، وخاتم سليمان رمز للحكومة والسلطة الإلهية! فإذاً هذا الإنسان رجل قويّ ذو سلطة وهيمنة!

وقد جاء في حديث عن «حذيفة بن اليمان» عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في وصف هذه الدابة قوله: «لايدركها طالب ولا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه

[ 139 ]

ويُكتب بين عينيه مؤمن، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان» (1).

وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على «أمير المؤمنين»(عليه السلام) ففي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّ رجلا قال لعمار بن ياسر: في القرآن آية شغلت بالي وجعلتني في شك قال عمار: أيّةُ آية هي؟ قال: آية (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم إن الناس كانوا بآياتنا  لا  يوقنون ) فيقول عمار: والله لا أجلس على الأرض ولا آكل طعاماً ولا أشرب ماءً حتى أريكها. ثمّ يأخذه عمار إلى الإمام علي، وهو يأكل طعاماً فلما بصر به الإمام علي ناداه فجاء عمار عنده وأكل معه!.

فتعجب الرجل ولم يصدق هذا المشهد، إذ كان عمار قد حلف ووعده أن  لا يجلس على الأرض ولا يأكل ولا يشرب حتى يريه دابة الأرض، فكأنّه نسي وعده!.

فلمّا قام عمار وودّع عليّاً.. قال له الرجل: عجيب منك أن تقسم بالله أن  لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض، حتى تريني دابة الأرض!... فقال له عمار: أريتكها لو كنت تعقل (2).

ونظير هذا المعنى في تفسير العياشي، إلاّ أنّه ورد اسم «أبي ذر» مكان عمار(3).

وينقل العلاّمة المجلسي(رحمه الله) في بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادق(عليه السلام)قال: انتهى رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه، فحرّكه برجله، ثمّ قال: قم يا دابة الله، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أنسمّي بعضنا بعضاً بهذا الإسم؟

_____________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.

2 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث..

3 ـ المصدر السابق.

[ 140 ]

فقال لهم: «لا والله ما هو إلاّ له خاصّة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه (فإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلّمهم أنّ النّاس كانوا بآياتنا  لا يوقنون ) ثمّ قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة، ومعك ميسم تسم به أعداءك» (1).

وبناءً على هذه الرّواية، فالآية تنطبق على الرجعة وتنسجم هي والآية التي تليها في الرجعة!.

ويقول المرحوم «أبو الفتوح الرازي» في تفسيره في ذيل الآية: طبقاً للأخبار التي جاءتنا عن طريق أصحابنا، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي «صاحب الزمان (عليه السلام)» (2).

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة، يمكن أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع، ينطبق على أي إمام عظيم يخرج في آخر الزمان ويميز الحق عن الباطل.

وهذا التعبير الوارد في الرّوايات الاسلامية بأن معه عصا موسى(عليه السلام) التي هي رمز القوة والإنتصار، وخاتم سليمان(عليه السلام) الذي يرمز للحكومة الإلهية، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.

كما أنّ ما ورد في الرّوايات الإسلامية من أنّها تسم المؤمن بين عينيه فيُكتب مؤمناً، وتسم الكافر فيُكتب كافراً ينسجم والقول بأنّها إنسان!.

إضافة إلى ذلك فالتصريح في القرآن بأنّها تكلم الناس يساعد على هذا المعنى!.

ومن مجموع ما مرّ نصل هنا إلى أنّ الدّابة تطلق في الأغلب على غير الناس، وقد استعملها القرآن في الأعم من الإنسان وغيره أو في خصوص الإنسان، هذا من جهة. ومن جهة أُخرى فالقرائن المتعددة الموجودة في الآية ذاتها،

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج 53، ص 52، خ 3.

2 ـ تفسير الرازي، ج 8 ص 423.

[ 141 ]

والرّوايات الكثيرة في تفسير الآية، تدل على أنّ المراد من «دابة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفاً، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق!.

 

2 ـ الرجعة في الكتاب والسنة!

من المسائل التي تجدر بالملاحظة، في الآيات ـ محل البحث ـ ظهور بعض من هذه الآيات في مسألة الرجعة!.

و«الرجعة» من عقائد الشيعة المعروفة، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو: «بعد ظهور المهدي(عليه السلام) وبين يدي القيامة، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص، وطائفة من الكفار الأشرار، إلى هذه الدنيا.. فالطائفة الأُولى تصعد في مدارج الكمال... والطائفة الثّانية تنال عقابها الشديد!.

يقول «الشريف المرتضى» الذي هو من أعاظم الشيعة: إنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه، أن الله تعالى يعيد عند ظهور الإمام المهدي(عليه السلام) أقواماً ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوز بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلوّ كلمة أهله!

ثمّ يضيف السيد المرتضى قائلا: والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، فإنا نرى كثيراً من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة، وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور، فالدليل إلى إثباتها

[ 142 ]

إجماع الإمامية على وقوعها(1).

ويظهر بالطبع ـ من كلمات بعض قدماء علماء الشيعة وكذلك من كلام العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان ـ أن «الأقليّة» القليلة من الشيعة لا تؤمن بهذه العقيدة، أي «الرجعة» وفسّروها بعودة حكومة أهل البيت(عليهم السلام)، لا رجوع الأشخاص وحياتهم بعد موتهم في هذه الدنيا، إلاّ أنّ مخالفة هذه القلة لا تؤثر في الإجماع.

وعلى كل حال، فهنامطالب كثيرة، ومن أجل ألاّ نخرج عن أسلوب بحثنا نشير إليها بإيجاز في مايلي:

1 ـ لا ريب أنّ إحياء جماعة من الموتى في هذه الدنيا ليس محالا!... كما أن إحياء جميع البشر في يوم القيامة ممكن، والتعجب من هذه المسألة كتعجب المشركين «من أهل الجاهلية» من مسألة المعاد، والسخرية منها كالسخرية من المعاد!... لأنّ العقل لا يحكم على مثل هذا الأمر بالإستحالة... وقدرة الله واسعة بحيث أنّ هذه الأُمور عندها سهلة يسيرة هيّنة!.

2 ـ جاء ذكر الرجعة في القرآن المجيد إجمالا، ووقوعها في خمسة مواطن في شأن الأُمم السالفة.

ألف: في ما يتعلق بالنّبي الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك. فتساءل في نفسه وقال: (أنّى يحيى هذه الله بعد موتها ) فأماته الله مئة عام ثمّ أحياه فقال له: كم لبثت؟! قال: لبثت يوماً أو بعض يوم قال: بل لبثت مئة عام «مؤدّى الآية 259 ـ من سورة البقرة».

وسواءً كان هذا النّبي عزيراً أم سواه، فلا فرق في ذلك، المهم أنّ القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله مئة عام ثمّ بعثه!.

ب ـ يتحدث القرآن ـ في الآية (243) من سورة البقرة ذاتها ـ عن جماعة

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 511، مادة رجع.

[ 143 ]

أُخرى خرجت من ديارها خوفاً من الموت، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجّة مرض الطاعون، فأماتها الله ثمّ أحياها (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال الله لهم موتوا ثمّ أحياهم إنّ الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ).

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة، وعدوها مثالا فحسب، إلاّ أنّ من الواضح أنّ مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية ـ بل صراحتها ـ لا يمكن المساعدة عليه!.

ج ـ وفي الآيتين 55 و 56 من سورة البقرة أيضاً، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ).

د ـ ونقرأ في الآية (110) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى: (وإذ تخرج الموتى بإذني ).

ويدل هذا التعبير على أنّ المسيح(عليه السلام) أحيا الموتى فعلا، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدلّ على أنّه أحيا الموتى مراراً، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعاً من الرجعة لبعضهم!

هـ ـ وأخيراً ففي الآيتين (72) و (73) من سورة البقرة، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة ـ الواردة خصائصها في الآية 72 ـ إذ يقول سبحانه: (وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ).

وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها، فهناك مواطن أخرُ في القرآن، منها قصّة أصحاب الكهف، وهي قصّة تشبه الرجعة. وقصّة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعياً بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءاً منهنّ، ليتّضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسداً برجوع هذه

[ 144 ]

الطيور إلى الدنيا.

وعلى كل حال! كيف يمكن أن يؤمن الشخص بالقرآن وأنّه كتاب سماوي، ثمّ ينكر هذه الآيات الواضحة في الرجعة؟ وهل الرجعة ـ أساساً ـ إلاّ العودة للحياة بعد الموت؟!

أوليست الرجعة مثلا مصغراً من القيامة في هذه الدنيا.

فمن يؤمن بالقيامة بمقياسها الواسع، كيف يمكنه أن يعترض على مسألة الرجعة وأن يسخر منها؟! وأن يقول قائل كأحمد أمين المصري في كتابه «فجر الاسلام» اليهودية ظهرت بالتشيع بالقول بالرجعة(1).!!

وأي فرق بين كلام أحمد أمين هذا، وإنكار عرب الجاهلية لمسألة المعاد الجسماني؟!

3 ـ ما ذكرناه ـ إلى هنا ـ يثبت إمكان الرجعة، وأمّا ما يؤيد وقوعها فروايات كثيرة نقلها الثقات عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) وحيث لا يسع بحثنا نقلها والتحقيق فيها، فيكفي أن نذكر ما عدّه المرحوم العلاّمة المجلسي في بحار أنواره وما جمعه منها، إذ يقول: وكيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة الأطهار(عليهم السلام) فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح (2)، رواها نيّفٌ وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم.. فإذا لم يكن مثل هذا متواتراً ففي أيّ شيء يمكن دعوى التواتر(3)؟!

 

4 ـ فلسفة الرجعة!

إنّ أهم سؤال يثار في هذا الصدد، هو: ما الهدف من الرجعة قبل يوم القيامة؟!

ومع ملاحظة ما يستفاد من الرّوايات الإسلامية من أنّ هذا الموضوع ليس

_____________________________

1 ـ انظر عقائد الإمامية ـ للشيخ محمّدرضا المظفر ص 71.

2 ـ يعني «بالرجعة».

3 ـ بحار الأنوار، ج 53، ص 122.

[ 145 ]

عامّاً بل يختصّ بالمؤمنين الخلّص الذين هم في مرحلة عالية من الإيمان، والكفار والطغاة الظلمة الذين هم في مرحلة منحطة من الكفر والظلم.. فيبدو أن الرجعة لهاتين الطائفتين للدنيا ثانيةً هي من أجل إكمال الطائفة الأُولى حلقتها التكاملية، وأن تذوق الطائفة الثّانية جزاءها الدنيوي.

وبتعبير آخر: إن الطائفة المؤمنة «خالصة الإيمان» الذين واجهوا الموانع والعوائق في مسير تكاملهم المعنوي في حياتهم ولم يتكاملوا الكمال اللائق باستعدادهم، فإنّ حكمة الله تقتضي أن يتكاملوا عن طريق الرجعة لهذه الدنيا وأن يكونوا شهداء الحكومة العالميّة للحقّ والعدل، وأن يساهموا في بناء هذه الحكومة، لأنّ المساهمة في بناء مثل هذه الحكومة من أعظم الفخر!.

وعلى عكس الطائفة الآنفة الذكر، هناك طائفة من المنافقين والجبابرة المعاندين، ينبغي أن ينالوا جزاءهم الدنيوي بالإضافة إلى جزاءهم الأخروي، كما ذاق ـ قوم فرعون وثمود وعاد وقوم لوط جزاءهم ـ ولا طريق لأن يذوقوا عذاب الدنيا إلاّ بالرجعة!.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في بعض أحاديثه «إن الرجعة ليست بعامة، وهي خاصّة، لا يرجع الاّ من محض الإيمان محضاً، أو محض الشرك محضاً» (1).

ولعل الآية (95) من سورة الأنبياء (وحرام على قرية أهلكناها إنّهم  لا يرجعون ) تشير إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّها تتحدث عن عدم رجوع أُولئك الذين ذاقوا عذابهم الشديد في هذه الدنيا، فيتّضح منها أن أُولئك الذين لم يذوقوا مثل هذا الجزاء ينبغي أن يرجعوا، فيذوقوا عذابهم «فلاحظوا بدقة» .

كما يرد هذا الإحتمال أيضاً، وهو أنّ رجعة «الطائفتين هاتين» في ذلك المقطع الخاص من الزمان هي بمثابة درسين كبيرين وآيتين مهمتين من آيات عظمة الله ـ ومسألة القيامة و«المبدأ والمعاد» ـ للناس، ليبلغوا أسمى درجات

_____________________________

1 ـ بحار الانوار، ج 53، ص 39.

[ 146 ]

الكمال المعنوي بمشاهدتهما ويزداد إيمانهم... ولا يكونوا مفتقرين إلى شيء أبداً.

5 ـ ويتصور بعضهم أنّ الإعتقاد بالرجعة لا ينسجم وأصل حرية الإرادة والإختيار عند البشر!.

وممّا بيّناه آنفاً يتّضح أنّ هذا اشتباه محض، لأنّ رجوع من يرجع إلى هذه الدنيا سيكون في ظروف طبيعية، ويتمتع بحرية كاملة.

وما يقوله بعضهم بأنّه من الممكن أن يتوب الجبابرة والكفار المعاندون بعد الرجعة ويعودوا إلى الحق، فجوابه أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظلم والفساد والكفر بحيث أن هذه الاُمور مندمجة مع روحهم ونسيجهم ولا يتصور توبتهم!.

كما أنّ القرآن يحكي في ردّه على طلب أهل النّار يوم القيامة الرجوع إلى الدنيا، ليقضوا ما فاتهم ولا يعملوا السيئات... فيقول: (ولو ردّوا لعادوا لما نُهوا عنه ).(1)

كما يتّضح الجواب على إشكال بعضهم من أنّ الرجعة لا تنسجم مع الآية (100) من سورة المؤمنون لأنّه طبقاً لهذه الآية فإن المشركين يطلبون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا صالحاً، ويقول كل منهم: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ) فيرد عليه بالقول: (كلا إنّها كلمة هو قائلها ).

فالجواب على هذا الإشكال، أن هذه الآية عامة والرجعة خاصة «فلاحظوا بدقة».

6 ـ وآخر الكلام هنا أنّ الشيعة مع اعتقادهم بالرجعة التي أخذوها عن أهل البيت(عليهم السلام) فإنّهم لا يحكمون على منكري الرجعة بالكفر، لأنّ الرجعة من ضروريّات المذهب الشيعي لا من ضروريات الإسلام.

فبناءً على ذلك فإنّ هذه المسألة لا تقطع وشائج الأخوة الإسلامية مع

_____________________________

1 ـ الأنعام، الآية 28.

[ 147 ]

الآخرين.. إلاّ أن الشيعة تواصل دفاعها المنطقي عن عقيدتها هذه.

وينبغي الإلتفات إلى أن هناك خرافات تمتزج أحياناً بالرجعة فتشوّه وجهها في نظر البعض، فينبغي أن نعول على الأحاديث الإسلامية الصحيحة في الشأن، وأن نتجنب الأحاديث المطعون فيها أو المشكوكة.

وما ذكرناه هنا خلاصة موجزة عمّا يتعلق بالرجعة، وينبغي مراجعة الكتب التي تتحدث عن هذا الشأن لمن أراد أن يستزيد ويعرف خصائص أخر للرجعة أو جزئياتها.

ومع ملاحظة هذا المقدار الذي بيّناه يتّضح الجواب على الحملات المسعورة من قبل أُولئك الذين لم يطّلعوا على هذا الموضوع من إخواننا أهل السنة «كما فعل «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني ذيل الآيات محل البحث» وأن إشكالهم على مسألة الرجعة ناشىء من عدم تعقلهم لها حتى عدّوها أسطورة!.

* * *

[ 148 ]

الآيات

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذلِكَ لاََيَـت لِّقَوم يُؤمِنُونَ (86) وَيَومَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ إِلاَّ مَنْ شَآءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)

التّفسير

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة:

مرّة أُخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة الله، ودلائل قدرته في عالم الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً ) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعداً للايمان (إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ).

وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة، ونظامي النور والظلمة، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضاً.. وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية... ونحن نعرف أن أصول التعليم

[ 149 ]

والتربية تقتضي أحياناً أن يتكرر الموضوع في «فواصل» مختلفة، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.

فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها، فسُدل الليل ليست أسباباً إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.

وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية ـ أيضاً ـ ولا مجال للتردد فيها. فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.

فهذه الآية توضح جانباً من التوحيد الرّبوبي، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ «عالم الوجود» ومدبّره، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان!... وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.

وينبغي الإلتفات إلى هذه اللطيفة، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجماً مع هذا النظام، فيستريح في الليل ويسعى في النهار، ليبقى نشطاً صحيحاً دائماً... لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظاً ساهراً وينام النهار حتى الظهر!.

والطريف أن كلمة «مبصر» نسبت إلى النهار ووصف بها، مع أنّها وصف للإنسان في النهار، وهذا نوع من التأكيد الجميل للإهتمام بالنشاط في النهار، كما يوصف الليل أحياناً بأنه «ليل نائم» (1).

_____________________________

1 ـ هذا النوع من التعبير يسمّى عند البلاغيين بـ «المجاز العقلي»، ويراد منه إسناد الفعل أو ما في معناه «كاسم الفاعل واسم المفعول» لغير ما وضع له لعلاقة، منها العلاقة الزمانية، فيقال مثلا: نهار الزاهد صائم وليله قائم. (المصحح)

[ 150 ]

وهذا التفاوت في التعبير في الآية، هو لبيان فائدة الليل والنهار، إذ جاء في شأن الليل (لتسكنوا فيه ) وعبر عن النهار بـ(مبصر ) فلعل هذا الإختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والإستمتاع بها «فلاحظوا بدقة» .

وعلى كل حال، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرةً عن التوحيد وتدبير عالم الوجود، إلاّ أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد، لأنّ النوم بمثابة الموت، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها، فتقول: (و ) اذكر (يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله وكلّ أتوه داخرين ) أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات.

فالمرّة الأُولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله!

والثّانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة، ولعل هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة.. إذ يحيا الموتى جميعاً بهذه النفخة، وتبدأ الحياة الجديدة معها.

وهناك كلام بين المفسّرين الى أنّ الآية محل البحث هل تشير الى النفخة الأُولى أم الثّانية أم الثّالثة؟!.. القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين، وقيل: بل هي تشمل الجميع.

إلاّ أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأُولى التي

[ 151 ]

تقع في نهاية الدنيا، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الإستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب، يعدّ من آثار هذه النفخة... ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة!.

وبتعبير آخر: إن ظاهر «فاء» التفريع في «ففزغ» أن الفزع ناشىء من النفخة في الصور، وهذا خاص بالنفخة الأولى، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب، بل هي مدعاة للحياة والحركة، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه!.

وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور،؟ هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (68) من سورة «الزمر» بإذن الله!.

وأمّا جملة (إلاّ من شاء الله ) المذكورة للإستثناء من الفزع العام، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواءً كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأُولى  ولا الأُخرى .. إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ).

وأمّا جملة (وكل أتوه داخرين ) فظاهرها عامٌ وليس فيه أي استثناء، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (127) من سورة الصافات: (فإنّهم لمحضرون إلاّ عباد الله المخلصين )، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال!.

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع، فتقول: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب صنع الله الذي اتقن كل

[ 152 ]

شيء )(1).

فمن يكون قادراً على كل هذا النظم والإبداع في الخلق، لا ريب في علمه و (إنّه خبير بما تفعلون ).

يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض، وقد اشير الى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كراراً.

ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير.

إلاّ أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيراً آخر، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها.

* * *

 

وتوضيح ذلك:

1 ـ إنّ الآية تقول: تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب.. وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة.. لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ).(2)

2 ـ تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.

_____________________________

1 ـ «صنع الله» منصوب بفعل محذوف تقدير (أنذر صنع الله) أو ما شاكله.

2 ـ سورة الحج، الآية 2.

[ 153 ]

3 ـ التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة، إلاّ أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة» أي أن الحالتين تبينان شيئاً واحداً.

4 ـ والتعبير بـ «الإتقان» الذي يعني الإحكام والتنظيم، يتناسب زمان استقرار نظام العالم، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.

5 ـ جملة (إنّه خبير بما تفعلون ) مع ملاحظة أنّ «تفعلون» فعل مضارع، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا، لأنّها تقول: إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل. ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم، لكان ينبغي أن يقال: إنّه خبير بما فعلتم. «فتأملوا بدقّة».

ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه ).

وبناءً على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد، وقسم منها في المعاد!.

وما نستنتجه من هذا التّفسير، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة» هي في سرعة مطرّدة في حركتها... ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!.

ووفقاً لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (30) كيلومتر في كل دقيقة، وسرعة سيرها في حركتها الإنتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار...

لكن علام عُني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها، وتعدّ مثلا حسناً لبيان قدرة الله سبحانه، فحيث أن هذه

[ 154 ]

الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل، تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع ا لأرض» فقدرته على كل شيء «بينة، وثابتة»!

وعلى كل حال، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية... لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو «غاليو» الإيطالي و«كبرنيك» اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكماً صارماً، وتعرضاً لمضايقات كثيرة..

إلاّ أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريباً وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد!

ويرى بعض فلاسفة الإسلام، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم، أن الآية ناظرة إلى «الحركة الجوهرية» في الأشياء، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها(1)

 

* * *

_____________________________

1 ـ المراد من «الحركة الجوهرية» هو أنّ أشياء عالم المادة بالإضافة إلى ما يحصل فيها من تغييرات مختلفة في الكيفية والكمية والمكان وما أشبه ذلك! فيها حركة في داخلها «وجوهرها» أي أنّها وجود سيال ومتحرك، والتغييرات الظاهرية هي انعكاس عن التغييرات الداخلية لها.. وبتعبير آخر: إن لدينا وجودين مختلفين ذاتاً.. الوجود الثابت «الوجود ماوراء المادي»، ووجود سيال ومتحرك «الوجود المادي» وأهم دليل على إثبات هذه النظرية مسألة وجود الزمان للموجودات المادية وعدم انفصال التغييرات الظاهرية عن التغييرات الباطنية، ويطول بنا البحث في هذا الصدد وهو خارج عن موضوعنا هنا.

[ 155 ]

الآيات

مَنْ جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِّنْ فَزَع يَوْمَئِذ ءَامِنُونَ (89) وَمَنْ جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىْء وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرءانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَـتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغـفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

 

التّفسير

آخر ما أُمر به النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها.. أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة، إذ يقول سبحانه: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ).

وهناك اختلاف بين تعبيرات المفسّرين في المراد من «الحسنة» في هذه الآية:

[ 156 ]

ففسّرها بعضهم بكلمة التوحيد «لا إله إلاّ الله» والإيمان بالله.

وفسّرها بعضهم بولاية أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الرّوايات المتعددة عن أهل البيت، ومن جملتها ما جاء في رواية عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه دخل أبو عبدالله الجدلي على أمير المؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أبا عبدالله ألا أخبرك بقول الله عزّوجلّ: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار هل يجزون إلاّ ما كنتم تعملون ) قال: بلى يا أميرالمؤمنين جعلت فداك، فقال: «الحسنة معرفة الولاية حبّنا أهل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثمّ قرأ (عليه السلام)الآية» (1).

وبالطبع فإنّ معنى الآية واسع ـ وقد أشرنا إلى ذلك مراراً ـ كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضاً... فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمّة من أهل البيت(عليهم السلام)، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة أُخرى تشملها الآية.

أمّا ما أورده بعضهم بأنّه: على فرض العموم في «الحسنة» فسوف تشمل الإيمان بالله وهل هناك خير من الإيمان حتى يقول سبحانه: من جاء بالحسنة فله خير منها؟

فالجواب على هذا الإشكال واضح... لأنّ رضا الله خير من الإيمان. وبتعبير آخر: جميع هذه الأُمور مقدمة له... وذو المقدمة خير من المقدمة!.

وهناك سؤال آخر يثار هنا، وهو أن ظاهر بعض الآيات ـ كالآية 2 من سورة الحج ـ أنّ الفزع يعمّ الجميع في يوم القيامة، فكيف أستثني أصحاب الحسنات منه؟.

فالآية (103) من سورة الأنبياء توضح الجواب على هذا السؤال فتقول:

_____________________________

1 ـ اصول الكافي، وفقاً لماجاء في تفسير نور الثقلين، ج4، ص 104.

[ 157 ]

 ( لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ).

و«الفزع الأكبر» ـ هو كما نعلم ـ فزع يوم القيامة، وفزع الدخول في نار جهنّم ـ أعاذنا الله منها ـ لا الفزع الحاصل من النفخة في الصور «فلاحظوا بدقّة» .

ثمّ يتحدث القرآن عن الطائفة الأُخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النّار ).

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها (هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون ).

و «كُبّت» مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد!.

وإلقاء هذه الطائفة على وجوهها في النّار من أسوأ أنواع العذاب . إضافة إلى ذلك، فإنّ أُولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يُلوون وجوههم ورؤوسهم، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين... فالآن لابدّ أن ـ يبتلوا بمثل هذا العذاب.

وجملة (هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون ) لعلها جواب على سؤال يلقى هنا، وهو ما لو قيل: إنّ هذا الجزاء «العقاب» شديد، فيجاب: بأنّ هذا الجزاء إن هو إلاّ عملك في الدنيا، فهل تجزون إلاّ ما كنتم تعلمون «فلاحظوا بدقة».

ثمّ يوجه الخطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أُولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته... سواءً آمنتم أم لم تؤمنوا؟!

فتقول الآية الأُولى من هذه الآيات: (إنّما أُمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة ).

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها... البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات.. إلاّ أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها!

البلدة المقدسة التي هي حرم أمن اللّه، وأشرف بقعة على وجه الأرض،

[ 158 ]

وأقدم معبد للتوحيد!

أجل... أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة (الذي حرمها ) وجعل لها خصائص وأحكاماً وحرمةً، وأموراً أُخر لا تتمتع بها أية بلدة أُخرى في الأرض!.

لكن لا تتصوروا أن هذه البلدة وحدها لله، بل له كل شي في عالم الوجود (وله كل شيء ).

والأمر الثّاني الذي أمرت به هو أن أسلم وجهي له (وأُمرت أن أكون من المسلمين ).

وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما (عبادة الواحد الأحد، والتسليم المطلق لأمره).

والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول: (وأن أتلوا القرآن ).

أتلوه فأستضيء بنوره، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة! وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل.. فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين، والمواجهة لكل أنواع الشرك والإنحراف والضلال ومكافحتها،

ثمّ تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه: لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي، كما أن الله غني عنكم ، بل (فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ).

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية، كانت أم أخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح (ومن ضلّ فقل إنّما أنا من المنذرين ).

وعواقبه الوخيمة لا تصيبُني... فوظيفتي البلاغ والإنذار وإراءة سبيل الحق، والإصرار على أن تسلكوا سبيل الحق، إلاّ أنّ من أراد أن يبقى في طريق الضلال، فإنّما يشقى وحده، فيكون من الخاسرين.

[ 159 ]

الطريف أنّ القرآن يقول في شأن الهداية:(ومن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه )ولكنّه لا يقول في شأن الضلال: ومن ضل فضرره عليه، بل يقول: (فقل إنّما أنا من المنذرين ).

وهذا الإختلاف في التعبير لعله إشارة إلى أنّ النّبي(عليه السلام) يقول: إنّي لا أسكت بوجه الضالين أبداً، ولاأتركهم على حالهم، بل أظلّ أنذرهم وأواصل الإنذار  ولا أعيا عن ذلك، لأنني من المنذرين (بالطبع هناك آيات وردت في القرآن في شأن الهداية والضلالة، وفيها التعبير «لنفسه وعليها» للموضوعين... كقوله تعالى: (من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها ) لكننا نعلم أنّ هذا الإختلاف في التعبيرات منسجم مع اختلاف المقامات، وربّما جاء لإلقاء المعاني المختلفة والمتفاوتة)!

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة شرعت ببيان أهمية القرآن، وإنتهت بالأمر بتلاوته، فبدايتها ونهايتها عن القرآن.

والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ مُوجه للنبيّ أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى، ولا سيما نعمة الهداية فيقول: (وقل الحمدلله )

هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن، كما يعود للهداية أيضاً، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية (سيريكم آياته فتعرفونها ).

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود، ويرفع ستار جديد عنها.. وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوماً بعد يوم.. وإراءة الآيات هذه مستمرّة دائماً  ولا  تنقطع مدى عمر البشر.

إلاّ أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والإنحراف، فلن يترككم الله سدى (وما ربّ بغافل عما يعمل الظالمون ).

ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه، فهو غير مطلع على أعمالكم،

[ 160 ]

وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة (وما ربّك بغافل عمّا تعملون ) الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة، وهي تهديد ذو معنى عميق، وإنذار لجميع الناس.

 

والحمد لله رب العالمين

نهاية سورة النمل

 

* * *

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21339402

  • التاريخ : 29/03/2024 - 15:41

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net