00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة السجدة من آية 15 ـ آخر السورة من ( ص 121 ـ 150 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[  121 ]

 الآيات

 إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَـتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ(15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنفِقُونَ(16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُن جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً  لاَّ يَسْتَوُنَ(18) أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فَلَهُمْ جَنَّـتُ الْمَأْوَى نُزُلاًَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ(20)

 

التّفسير

جوائز عظيمة لم يطّلع عليها أحد!

إنّ طريقة القرآن هي أنّه يبيّن كثيراً من الحقائق من خلال مقارنتها مع بعضها، لتكون مفهومة ومستقرّة في القلب تماماً، وهنا أيضاً بعد الشرح والتفصيل الذي مرّ

[  122 ]

في الآيات السابقة حول المجرمين والكافرين، فإنّه يتطرّق إلى صفات المؤمنين الحقيقيين البارزة، ويبيّن اُصولهم العقائدية، وبرامجهم العملية بصورة مضغوطة ضمن آيتين بذكر ثمان صفات(1)، فيقول أوّلا: (إنّما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خرّوا سجّداً وسبحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون).

التعبير بـ (إنّما) الذي يستعمل عادةً لإفادة معنى الحصر، يبيّن أنّ كلّ من يتحدّث عن الإيمان ويتمشدق به، ولا يمتلك الخصائص والصفات التي وردت في هذه الآيات، فإنّه لا يكون في صفّ المؤمنين الواقعيين، بل هو شخص ضعيف الإيمان.

لقد بيّنت في هذه الآية أربع صفات:

1 ـ أنّهم يسجدون بمجرّد سماعهم آيات الله، والتعبير بـ (خرّوا) بدل (سجدوا) إشارة إلى نكتة لطيفة، وهي أنّ هؤلاء المؤمنين ينجذبون إلى كلام الله لدى سماعهم آيات القرآن ويهيمون فيها بحيث يسجدون لا إرادياً(2).

نعم .. إنّ أوّل خصائص هؤلاء هو العشق الملتهب، والعلاقة الحميمة بكلام محبوبهم ومعشوقهم.

لقد ذكرت هذه الصفة والخاصية في بعض آيات القرآن الاُخرى كأحد أبرز صفات الأنبياء، كما يقول الله سبحانه في شأن جمع من الأنبياء العظام: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيّاً).(3)

______________________________________

1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ الآية الاُولى هي اُولى السجدات الواجبة في القرآن الكريم، وإذا ما تلاها أحد بتمامها، أو سمعها من آخر فيجب أن يسجد. طبعاً لا يجب فيها الوضوء، لكن يجب الإحتياط في وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه.

2 ـ يقول الراغب في المفردات: (خرّوا) في الأصل من مادّة الخرير، أي صوت الماء وأمثاله حين إنحداره من مرتفع إلى منخفض، وإستعماله هذا التعبير في شأن الساجدين إشارة إلى أنّ هؤلاء ترتفع أصواتهم بالتسبيح في لحظة هويّهم إلى الأرض للسجود.

3 ـ سورة مريم، الآية 58.

[  123 ]

وبالرغم من أنّ الآيات هنا ذكرت بصورة مطلقة، ولكن من المعلوم أنّ المراد منها غالباً الآيات التي تدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك.

2 ـ 3 ـ علامتهم الثّانية والثالثة تسبيح الله وحمده، فهم ينزّهون الله تعالى عن النقائص من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّهم يحمدونه ويثنون عليه لصفات كمالهُ وجماله.

4 ـ والصفة الاُخرى لهؤلاء هي التواضع وترك كلّ أنواع التكبّر، لأنّ الكبر والغرور أوّل درجات الكفر والجحود، والتواضع أمام الحقّ والحقيقة أُولى خطوات الإيمان!

إنّ الذين يسيرون في طريق الكبر والعُجب لا يسجدون لله، ولا يسبّحونه ولا يحمدونه، ولا يعترفون بحقوق عباده! إنّ لهؤلاء صنماً عظيماً، وهو أنفسهم!

ثمّ أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاُخرى، فقالت: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(1) فيقومون في الليل، ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته.

نعم .. إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق، وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية، وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى، ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء، ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة، والخلاصة: عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم، ويخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.

ثمّ تضيف: (يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً).

______________________________________

1 ـ «تتجافى» من مادّة «جفا»، وهي في الأصل بمعنى القطع والحمل والإبعاد، و (الجنوب) جمع جنب، وهو الجانب، و (المضاجع) جمع مضجع، وهو محل النوم، وإبعاد الجانب عن محلّ النوم كناية عن النهوض من النوم والتوجّه إلى عبادة الله في جوف الليل.

[  124 ]

وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: «الخوف» و «الرجاء»، فلا يأمنون غضب الله عزّوجلّ، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.

وثامن صفاتهم، وآخرها في الآية أنّهم (وممّا رزقناهم ينفقون).

فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير.

إنّهم ينبوع من الخير والبركة، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى، ويغني المحتاجين بحسب إستطاعتهم.

نعم .. إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة، والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله، والعبادة والطاعة، والسعي والحركة الدؤوبة، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات.

ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين، فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم: (فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون).

التعبير بـ (فلا تعلم نفس) وكذلك التعبير بـ (قرّة أعين) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر، خاصّة وأنّ كلمة (نفس) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي، وهي تعني العموم وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله.

والتعبير بـ (قرّة أعين) من دون الإضافة إلى النفس، إشارة إلى أنّ هذه النعم

[  125 ]

الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في الآخرة، في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع.

(قرّة) مادّة القَرّ، أي البرودة، ومن المعروف أنّ دموع الشوق باردة دائماً، وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق، فالتعبير بـ (قرّة أعين) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين الإنسان، أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم، وهذه كناية لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة.

وفي حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»(1).

وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلاّمة «الطبرسي» في (مجمع البيان) وهو: لماذا اُخفي هذا الثواب والجزاء؟

ثمّ يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال:

1 ـ أنّ الاُمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال الألفاظ والكلام، ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحياناً أكثر تحفيزاً، وأبعث على النشاط، وهو أبلغ من ناحية الفصاحة.

2 ـ أنّ الشيء الذي يكون قرّة للأعين، يكون عادةً مترامي الأطراف إلى الحدّ الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته.

3 ـ لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة، فإنّ المناسب أن يكون ثواب هذا العمل عظيماً ومخفيّاً أيضاً. وينبغي الإلتفات إلى أنّ جملة (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل.

وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما من حسنة إلاّ ولها ثواب مبين في القرآن، إلاّ صلاة الليل، فإنّ الله عزّ إسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها، قال: فلا تعلم

______________________________________

1 ـ نقل هذا الحديث كثير من المفسّرين، ومن جملتهم الطبرسي في مجمع البيان، والآلوسي في روح المعاني، والقرطبي في تفسيره. وقد أورده المحدّثان المشهوران البخاري ومسلم في كتبهما أيضاً.

[  126 ]

نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين»(1).

وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ عالم القيامة ـ وكما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ عالم أوسع من هذا العالم سعةً لا تحتمل المقارنة، فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى حياة الجنين في رحم الاُمّ، وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها عادةً بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا، ولا يمكن تصوّره من قبل أحد.

إنّنا نسمع كلاماً عنه فقط، ونرى شبحه من بعيد، لكنّنا ما لم ندرك ولم نر ذلك العالم، فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته، كما أنّ إدراك الطفل في بطن الاُمّ لنعم هذه الدنيا ـ على فرض إمتلاكه العقل والإحساس الكامل ـ غير ممكن.

وقد ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله، ذلك أنّ الشهيد عندما يقع على الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّبة التي خرجت من البدن الطيّب، أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت، ولا اُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر(2).

وتبيّن الآية التالية المقارنة التي مرّت في الآيات السابقة بصيغة أكثر صراحة، فتقول: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً).

لقد وردت الجملة بصيغة الإستفهام الإنكاري، ذلك الإستفهام الذي ينبعث جوابه من عقل وفطرة كلّ إنسان بأنّ هذين الصنفين لا يستويان أبداً، وفي الوقت نفسه، وللتأكيد، فقد أوضحت الآية عدم التساوي بصورة أوضح بذكر جملة: (لا يستوون).

لقد جعل «الفاسق» في مقابل «المؤمن» في هذه الآية، وهذا دليل على أنّ للفسق مفهوماً واسعاً يشمل الكفر والذنوب الاُخرى، لأنّ هذه الكلمة أخذت في الأصل من جملة (فسقت الثمرة) إذا خرجت من قشرها، ثمّ أطلقت على الخروج

______________________________________

1 ـ مجمع البيان. ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ مجمع البيان، ج2 ذيل الآية (171) من آل عمران، والتّفسير الأمثل، ذيل نفس الآية.

[  127 ]

على أوامر الله والعقل وعصيانها، ونعلم أنّ كلّ من كفر، أو إرتكب معصية فقد خرج على أوامر الله والعقل.

وممّا يجدر ذكره أنّ الثمرة ما دامت في قشرها فهي سالمة، وبمجرّد أن تخرج من القشر تفسد، وبناءً على هذا فإنّ فسق الفاسق كفسق الثمرة، وفساده كفسادها.

ونقل جمع من المفسّرين الكبار ففي ذيل هذه الآية أنّ «الوليد بن عقبة» قال يوماً لعلي (عليه السلام): أنا أبسط منك لساناً، وأحدّ منك سناناً! إشارة إلى أنّه ـ بظنّه ـ يفوق علياً في الفصاحة والحرب، فأجابه علي (عليه السلام): «ليس كما تقول يافاسق»، إشارة إلى أنّك أنت الذي اتّهمت بني المصطلق بوقوفهم ضدّ الإسلام في قصّة جمع الزكاة منهم، فكذّبك الله وعدّك فاسقاً في الآية (6) من سورة الحجرات : (ياأيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ...)(1).

وأضاف البعض هنا بأنّ آية: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً) نزلت بعد هذه المحاورة، لكن يبدو من ملاحظة أنّ السورة مورد البحث (سورة السجدة) نزلت في مكّة، وقصّة الوليد وبني المصطلق وقعت في المدينة، فهذا من قبيل تطبيق الآية على مصداق واضح لها.

وبناءً على ما ذهب بعض المفسّرين من أنّ الآية أعلاه والآيتين بعدها مدنية، لا يبقى إشكال من هذه الجهة، ولا مانع من أن تكون هذه الآيات الثلاث قد نزلت بعد المحاورة أعلاه.

وعلى كلّ حال، فلا بحث ولا جدال في إيمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) العميق المتأصّل، ولا في فسق الوليد، حيث اُشير في آيات القرآن لكلا الإثنين.

______________________________________

1 ـ أورد هذه الرواية العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، والفاضل البرسوئي في روح البيان. وممّا يستحقّ الإنتباه أنّنا نقرأ في كتاب (اُسد الغابة في معرفة الصحابة) أنّه لا خلاف بين المطلعين على تفسير القرآن والعالمين به في أنّ آية (إن جاءكم فاسق بنبأ) قد نزلت في حقّ الوليد بن عقبة في قصّة بني المصطلق.

[  128 ]

وتبيّن الآية التالية عدم المساواة هذه بصورة أوسع وأكثر تفصيلا، فتقول: (أمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنّات المأوى(1)) ثمّ تضيف الآية بأنّ هذه الجنّات قد أعدّها الله تعالى لإستقبالهم في مقابل أعمالهم الصالحة: (نزلا بما كانوا يعملون).

إنّ التعبير بـ «نزلا»، والذي يقال عادةً للشيء الذي يهيّئونه لإستقبال وإكرام الضيف، إشارة لطيفة إلى أنّ المؤمنين يُستقبلون ويُخدمون دائماً كما هو حال الضيف، في حين أنّ الجهنّميين ـ كما سيأتي في الآية الآتية ـ كالسجناء الذين يأملون الخروج منها في كلّ حين، ثمّ يعادون فيها!

وما ورد في الآية (102) من سورة الكهف: (إنّا أعتدنا جهنّم للكافرين نزلا)فانّه من قبيل (فبشّرهم بعذاب أليم) وهو كناية عن أنّه يُعاقب ويعذّب هؤلاء بدل إكرامهم، ويهدّدون مكان بشارتهم.

ويعتقد البعض أنّ «النزل» أوّل شيء يستقبل به الضيف الوارد لتوّه ـ كالشاي والعصير في زماننا ـ وبناءً على هذا فإنّه إشارة لطيفة إلى أنّ جنّات المأوى بتمام نعمها وبركاتها هي أوّل ما يستقبل به ضيوف الرحمن، ثمّ تتبعها المواهب في بركات اُخرى لا يعلمها إلاّ الله سبحانه.

والتعبير بـ (لهم جنّات) لعلّه إشارة إلى أنّ الله سبحانه لا يعطيهم بساتين الجنّة عارية، بل يملّكهم إيّاها إلى الأبد، بحيث لا يعكّر هدوء فكرهم إحتمال زوال هذه النعم مطلقاً.

وتطرّقت الآية التالية إلى النقطة التي تقابل هؤلاء، فتقول: (وأمّا الذين فسقوا فمأواهم النار) فهؤلاء مخلّدون في هذا المكان المرعب بحيث أنّهم (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اُعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون).

______________________________________

1 ـ «المأوى» من مادّة (أوى) بمعنى إنضمام شيء إلى شيء آخر، ثمّ قيلت للمكان والمسكن والمستقرّ.

[  129 ]

مرّة اُخرى نرى هنا العذاب الإلهي قد جعل في مقابل «الكفر والتكذيب»، والثواب والجزاء في مقابل «العمل»، وهذا إشارة إلى أنّ الإيمان لا يكفي لوحده، بل يجب أن يكون حافزاً وباعثاً على العمل، إلاّ أنّ الكفر كاف لوحده للعذاب، وإن لم يرافقه ويقترن به عمل.

* * *

 

بحث

أصحاب الليل!

ورد لجملة: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) تفسيران في الروايات الإسلامية:

أحدهما: تفسيرها بصلاة «العشاء»، وهو يشير إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء (لأنّ المعتاد في ذلك الزمان أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليل ـ وكانوا يفرّقون بين صلاتي المغرب والعشاء، طبقاً لإستحباب التفريق بين الصلوات الخمس، وكانوا يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرةً.

وقد روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبي (صلى الله عليه وآله) طبقاً لنقل الدرّ المنثور، وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادق (عليه السلام)(1).

وثانيهما: أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين:

ففي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه: «ألا اُخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه»؟ قال: بلى، جعلت فداك، قال: «أمّا أصله فالصلاة،

______________________________________

1 ـ الدرّ المنثور وأمالي الشيخ طبقاً لنقل تفسير الميزان الجزء 16 صفحة 268.

[  130 ]

وفرعه الزكاة، وذروة نسامه الجهاد»!

ثمّ قال: «إن شئت أخبرتك بأبواب الخير»؟ قال: نعم جعلت فداك، قال: «الصوم جنّة، والصدقة تذهب بالخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله، ثمّ قرأ: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(1).

وروي في (تفسير مجمع البيان) عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غزوة تبوك، وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم، فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقربهم منّي، فدنوت منه، فقلت: يارسول الله، أنبئني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار، قال: «لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدّي الزكاة المفروضة، وتصوم شهر رمضان».

قال: «وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير» قال: قلت: أجل يارسول الله، قال: «الصوم جنّة، والصدقة تكفّر الخطيئة، وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله» ثمّ قرأ هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)(2).

وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعاً يشمل البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء، إضافةً إلى النهوض في السحر لصلاة الليل، إلاّ أنّ الدقّة في مفهوم (تتجافى) تعكس المعنى الثّاني في الذهن أكثر، لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد إضطجعت وهدأت في المضاجع، ثمّ تجافت وإبتعدت عنها، وهذا يناسب القيام آخر الليل لأداء الصلاة، وبناءً على هذا فإنّ المجموعة الاُولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية.

وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه الصلاة المباركة، إلاّ أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة إهتماماً عظيماً قلّ أن

______________________________________

1 ـ اُصول الكافي، الجزء 2، باب دعائم الإسلام صفحة 20 حديث 15، والمصدر السابق.

2 ـ مجمع البيان ذيل الآيات مورد البحث، وتفسير نور الثقلين، الجزء 4، صفحة 229.

[  131 ]

تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اُخرى.

لقد اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيراً بهذه العبادة الخالية من الرياء، والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ الشوائب.

ومن الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائماً، ولكن ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي، وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله، وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون الجوّ مهيئاً لحضور القلب، يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور عشق الحبيب ومحبّته(1).

 

* * *

______________________________________

1 ـ كان لنا بحث آخر حول أهميّة صلاة الليل وطريقتها في ذيل الآية (79) من سورة الإسراء.

[  132 ]

 

 

الآيتان

 

وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَـتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الُْمجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ(22)

 

التّفسير

عقوبات تربوية:

بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة حول المجرمين وعقابهم الأليم، فإنّ الآيات مورد البحث تشير إلى أحد الألطاف الإلهية الخفيّة وهي موارد العذاب الخفيف في الدنيا ليتّضح أنّ الله سبحانه لا يريد أن يبتلى عبد بالعذاب الخالد أبداً، ولذلك يستخدم كلّ وسائل التوعية لنجاته، فيرسل الأنبياء، وينزل الكتب السماوية، ينعم ويبتلي بالمصائب، وإذا لم تنفع أيّة وسيلة منها فليس إلاّ نار الجحيم.

تقول الآية: (ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون).

من المسلّم أنّ «العذاب الأدنى» له معنى واسعاً يتضمّن أغلب الإحتمالات التي

[  133 ]

كتبها المفسّرون بصورة منفصلة:

فمن جملتها، أنّ المراد المصائب والآلام والمشقّة.

أو القحط والجفاف الشديد الذي دام سبع سنين وابتلي به المشركون في مكّة حتّى اضطروا إلى أكل أجساد الموتى!

أو الضربة القاصمة التي نزلت عليهم في غزوة بدر، وأمثال ذلك.

أمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد عذاب القبر، أو العقاب في الرجعة فلا يبدو صحيحاً، لأنّه لا يناسب جملة (لعلّهم يرجعون) أي عن أعمالهم.

من البديهي أنّ العذاب موجود في هذه الدنيا أيضاً، بحيث إذا نزل اُغلقت أبواب التوبة، وهو عذاب الإستئصال، أي العذاب والعقوبات التي تنزل لفناء الأقوام العاصين حينما لا تنفع ولا تؤثّر فيهم أيّ وسيلة توعية وتنبيه.

وأمّا «العذاب الأكبر» فيعني عذاب يوم القيامة الذي يفوق كلّ عذاب حجماً وألماً.

وهناك التفاتة أشار إليها بعض المفسّرين في أنّه لماذا جعل «الأدنى» في مقابل «الأكبر»، في حين أنّه يجب إمّا أن يقع الأدنى مقابل الأبعد، أو الأصغر في مقابل الأكبر؟

وذلك أنّ لعذاب الدنيا صفتين: كونه صغيراً، وقريباً، وليس من المناسب التأكيد على صغره عند التهديد، بل يجب التأكيد على قربه. ولعذاب الآخرة صفتان أيضاً: كونه بعيداً وكبيراً، والمناسب في شأنه التأكيد على كبره وعظمته لا بعده ـ تأمّلوا جيداً ـ .

وتقدّم أنّ التعبير بـ (لعلّ) في جملة (لعلّهم يرجعون) بسبب أنّ الإحساس بالعقوبات التحذيرية ليس علّة تامّة للوعي واليقظة، بل هو جزء العلّة، ويحتاج إلى أرضيّة مهيّأة، وبدون هذا الشرط لا يحقّق النتيجة المطلوبة، وكلمة (لعلّ) إشارة إلى هذه الحقيقة.

[  134 ]

وتتّضح من هذه الآية إحدى حكم المصائب والإبتلاءات والآلام التي تعتبر من المسائل الملحّة والمثيرة للجدل في بحث التوحيد ومعرفة الله وعدله.

وليس في هذه الآية فحسب، بل اُشير في آيات اُخرى من القرآن إلى هذه الحقيقة، ومن جملتها في الآية (94) من سورة الأعراف (وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضرّاء لعلّهم يضرّعون).

ولمّا لم تنفع أيّة وسيلة من وسائل التوعية والتنبيه، حتّى العذاب الإلهي، لم يبق طريق إلاّ إنتقام الله من هؤلاء القوم الذين هم أظلم الناس، وكذلك تقول الآية التالية: (ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون).

فلم تؤثّر فيهم النعمة الإلهيّة، ولا العذاب والإبتلاءات التحذيرية، وعلى هذا فلا أحد أظلم منهم، وإذا لم يُنتقم من هؤلاء فمّمن الإنتقام؟

من الواضح ـ وبملاحظة الآيات السابقة ـ أنّ المراد من «المجرمين» هنا هم منكرو المبدأ والمعاد الذين لا إيمان لهم.

وقد وصف جماعة من الناس في آيات القرآن مراراً بأنّهم (أظلم) من الباقين، وبالرغم من تعبيراتها المختلفة إلاّ أنّها تعود جميعاً إلى أصل الكفر والشرك، وبناءً على هذا فإنّ معنى (أظلم) الذي يعتبر صيغة تفضيل يتطابق مع هذه المصاديق.

والتعبير بـ (ثمّ) في الآية، والذي يدلّ عادةً على التراخي، لعلّه إشارة إلى أنّ أمثال هؤلاء يُعطون فرصة ومجالا كافياً للتفكير والبحث، ولا تكون معاصيهم الإبتدائية سبباً لإنتقام الله أبداً، إلاّ أنّهم سيستحقّون إنتقام الله عزّوجلّ بعد إنتهاء الفرصة اللازمة.

ويجب الإلتفات إلى أنّ التعبير بـ «الإنتقام» يعني العقوبة في لسان العرب، ومع أنّ معنى الكلمة أصبح في المحادثات اليومية يعني تشفّي القلب وإبراد الغليل من العدو، إلاّ أنّ هذا المعنى لا وجود له في الأصل اللغوي، ولذلك فإنّ هذا التعبير قد

[  135 ]

إستعمل مراراً في شأن الله عزّوجلّ في القرآن المجيد، في حين أنّه سبحانه أسمى وأعلى من هذه المفاهيم، فهو لا يفعل شيئاً إلاّ وفق الحكمة.

 

* * *

[  136 ]

 

 

 

الآيات

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَة مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَـهُ هُدىً لِّبَنِى إِسْرَءِيلَ(23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَـتِنَا يُوقِنُونَ(24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(25)

 

التّفسير

شرط الإمامة: الصبر والإيمان:

تشير الآيات مورد البحث إشارة قصيرة وعابرة إلى قصّة «موسى» (عليه السلام) وبني إسرائيل لتسلّي نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين الأوائل وتطيّب خواطرهم، وتدعوهم إلى الصبر والتحمّل والثبات أمام تكذيب وإنكار المشركين التي اُشير إليها في الآيات السابقة، ولتكون بشارة للمؤمنين بإنتصارهم على القوم الكافرين العنودين كما إنتصر بنو إسرائيل على أعدائهم وأصبحوا أئمّة في الأرض.

ولمّا كان موسى (عليه السلام) نبيّاً جليلا يؤمن به كلّ من اليهود والنصارى، فإنّه يكون حافزاً على توجّه أهل الكتاب نحو القرآن والإسلام.

تقول الآية أوّلا: (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه) أي فلا

[  137 ]

تشكّ أو تتردّد في أنّ «موسى» قد تلقّى آيات الله، وقد جعلنا كتاب موسى «التوراة» وسيلة لهداية بني إسرائيل (وجعلناه هدىً لبني إسرائيل).

ثمّة إختلاف بين المفسّرين في عودة الضمير في قوله: (من لقائه)، وقد إحتملوا في ذلك سبعة إحتمالات أو أكثر، إلاّ أنّ أقربها هو عودته إلى الكتاب ـ كتاب موسى السماوي، أي «التوراة» ـ كما يبدو، وله معنى المفعول وفاعله موسى، وبناءً على هذا فإنّ المعنى الكلّي لهذه الجملة يصبح: لا تشكّ في أنّ موسى(عليه السلام)تلقّى الكتاب السماوي الذي اُلقي إليه من قبل الله تعالى.

والشاهد القويّ على هذا التّفسير هو أنّه قد وردت في الآية أعلاه ثلاث جمل، تتحدّث الجملتين الاُولى والأخيرة عن التوراة قطعاً، فمن المناسب أن تتابع الجملة الوسط هذا المعنى أيضاً، لا أن تتحدّث عن القيامة أو القرآن المجيد حيث ستكون جملة معترضة في هذه الصورة، ونعلم أنّ الجملة المعترضة خلاف الظاهر، وما دمنا في غنىً عنها فلا ينبغي التوجّه إليها.

السؤال الوحيد الذي يبقى في هذا التّفسير هو إستعمال كلمة (لقاء) في مورد الكتاب السماوي، حيث إنّ هذه الكلمة قد إستعملت في القرآن الكريم غالباً بإضافتها إلى الله أو الربّ أو الآخرة وأمثالها، وهي إشارة إلى القيامة. ولهذا السبب رجّح البعض كون الآية أعلاه تتحدّث أوّلا عن نزول التوراة على موسى، ثمّ تأمر نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله) أن لا تشكّ في لقاء الله ومسألة المعاد، ثمّ تعود إلى مسألة التوراة، لكن في هذه الصورة ينهار الإنسجام بين جمل هذه الآية ويزول التناسب فيما بينها.

غير أنّه ينبغي الإلتفات إلى أنّ تعبير «لقاء» وإن لم يستعمل في القرآن في مورد الكتب السماوية، إلاّ أنّ الإلقاء والتلقّي قد إستعمل مراراً في هذا المعنى، كما في الآية (25) من سورة القمر: (أاُلقي الذكر عليه من بيننا).

ونقرأ في قصّة سليمان وملكة سبأ أنّها قالت عندما وصلتها رسالة سليمان: (إنّي

 ]138 ]

اُلقي إليّ كتاب كريم).

وفي نفس هذه السورة «سورة سليمان» في الآية (6) نقرأ في شأن القرآن الكريم (وإنّك لتلقّى القرآن من لدن حكيم عليم).

بناءً على هذا فإنّ فعل الإلقاء والتلقّي قد إستعمل مراراً في هذا المورد، بل وحتّى نفس فعل اللقاء قد إستعمل في مورد صحيفة أعمال الإنسان، فنقرأ في الآية (13) من سورة الإسراء: (ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً).

ومن مجموع ما قلناه يتّضح ترجيح هذا التّفسير على سائر الإحتمالات التي إحتملت في الآية أعلاه(1).

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله) لم يشكّ في مثل هذه المسائل مطلقاً، بل إنّ مثل هذه التعبيرات تستعمل عادةً لتأكيد المطلب، وليكون نموذجاً للآخرين.

ثمّ تشير الآية التالية إلى الأوسمة والمفاخر التي حصل عليها بنو إسرائيل في ظلّ الإستقامة والإيمان لتكون درساً للآخرين، فتقول: (وجعلنا منهم أئمّة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).

لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة: أحدهما: الإيمان واليقين بآيات الله عزّوجلّ، والثاني: الصبر والإستقامة والصمود. وهذا الأمر ليس مختصّاً ببني

______________________________________

1 ـ ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مرجع الضمير في (لقائه) إلى موسى، وبناءً على هذا يصبح المعنى: لا شكّ يامحمّد بأنّك ستلتقي بموسى، واعتبروا ذلك إشارة إلى لقائه به في ليلة المعراج أو في يوم القيامة. وهذا المعنى لا يبدو منسجماً مع مفهوم الجملة.
وقال البعض الآخر: إنّ الضمير يرجع إلى الكتاب، والمراد منه القرآن، أي: لا تدع أيّها النّبي للشكّ في أنّ هذا القرآن وحي إلهي إلى نفسك سبيلا، وهذا المعنى وإن كان يتلائم مع آيات بداية السورة، إلاّ أنّه لا يتلاءم كثيراً مع الجمل الاُخرى الموجودة في نفس هذه الآية. إضافة إلى أنّ الكتاب في الآية مورد البحث بمعنى التوراة، فلا ينسجم معه عود الضمير إلى القرآن ـ وتوجيه هذا المعنى بأنّ المراد مطلق الكتاب السماوي لا يقلّل من كونه خلاف الظاهر.
وقال بعض المفسّرين: إنّ الضمير في (لقائه) يعود إلى الله، وهذه الجملة إشارة إلى أنّه لا شكّ أبداً في مسألة المعاد، وهذا المعنى وإن كان يتّفق وينسجم مع الآيات السابقة، إلاّ أنّه لا يتلاءم من أي وجه تقريباً مع نفس الآية مورد البحث.
ومن هنا يتّضح أنّ ما ورد في بعض التفاسير من أنّ الآية إشارة إلى التقاء خطّي وبرنامجي موسى ونبي الإسلام، مطلب ذوقي لا يناسب المفهوم الواقعي لألفاظ الآية، وبناءً على هذا فإنّ أوضح التفاسير وأجلاها ما أوردناه أعلاه.

[  139 ]

إسرائيل، بل هو درس لكلّ الاُمم، ولجميع مسلمي الأمس واليوم والغد بأن يُحكموا اُسس يقينهم، ولا يخافوا من المشاكل التي تعترضهم في طريق التوحيد، وأن يتحلّوا بالصبر والمقاومة ليكونوا أئمّة الخلق وقادة الاُمم ومرشديها في تاريخ العالم.

التعبير بـ (يهدون) و (يوقنون) بصيغة الفعل المضارع دليل على إستمرار هاتين الصفتين طيلة حياة هؤلاء، لأنّ مسألة القيادة لا تخلو لحظة من المشكلات، ويواجه شخص القائد وإمام الناس مشكلة جديدة في كلّ خطوة، ويجب أن يهبّ لمواجهتها مستعيناً بقوّة اليقين والإستقامة المستمرّة، ويديم خطّ الهداية إلى الله سبحانه.

والجدير بالإنتباه أنّ الآية تقيّد الهداية بأمر الله، فتقول: (يهدون بأمرنا)وهذا هو المهمّ في أمر الهداية بأن تنبع من الأوامر الإلهية، لا من أمر الناس، أو تقليد هذا وذاك، أو بأمر من النفس والميول القلبية.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه العميق المحتوى، بالإستناد إلى مضامين القرآن المجيد: «إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّوجلّ إمامان: قال الله تبارك وتعالى: وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا، لا بأمر الناس، يقدّمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، وقال: وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النار، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّوجلّ»(1).

ثمّ أنّ المراد من الأمر هنا هل هو الأمر التشريعي، أم الأمر التكويني؟ ظاهر الآية يعطي المعنى الأوّل، وتعبيرات الرّوايات والمفسّرين تؤيّد ذلك، إلاّ أنّ بعض كبار المفسّرين إعتبروه بمعنى الأمر التكويني.

______________________________________

1 ـ الكافي، المجلّد الأوّل، صفحة 168 باب أنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان.

[  140 ]

وتوضيح ذلك: أنّ الهداية قد وردت في الآيات والروايات بمعنيين: «تبيان الطريق»، و «الإيصال إلى المطلوب»، وكذلك هداية الأئمّة الإلهيين تتّخذ صورتين: فيكتفون أحياناً بالأمر والنهي، وأحياناً اُخرى ينفذون إلى أعماق القلوب المستعدّة والجديرة بالهداية ليوصلوها إلى الأهداف التربوية والمقامات المعنوية.

وقد إستعملت كلمة «الأمر» في بعض آيات القرآن بمعنى «الأمر التكويني»، مثل: (إنّما أمره إذا أردا شيئاً أن يقول له كن فيكون)(1)، وجملة (يهدون بأمرنا)في الآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، أي إنّ اُولئك كانوا أئمّة ينفذون إلى النفوس المستعدّة بقدرة الله، ويسوقونها إلى الأهداف التربوية والإنسانية العالية(2).

إنّ هذا المعنى يستحقّ الملاحظة والإنتباه، وهو أحد شؤون الإمامة، وفروع وطرق الهداية، إلاّ أنّ حصر جملة: (يهدون بأمرنا) بهذا المعنى لا يوافق ظاهر الآية، لكن لا مانع من أن نفسّر كلمة الأمر في هذه الجملة بمعناها الواسع الذي يتضمّن الأمر التكويني والتشريعي، ويجمع كلا معنيي الهداية في الآية، وهذا المعنى ينسجم مع بعض الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية.

ولكن، وعلى كلّ حال، لا يمكن أن يصل الإمام والهادي إلى هذا المقام إلاّ في ظلّ اليقين والإستقامة فقط.

ويبقى سؤال، وهو: هل المراد من هؤلاء الأئمّة في بني إسرائيل هم الأنبياء الذين بُعثوا إليهم، أم أنّ العلماء الذين كانوا يهدون الناس إلى الخيرات بأمر الله يدخلون في هذه الزمرة؟

الآية ساكتة عن ذلك، واكتفت بالقول بأنّنا قد جعلنا منهم أئمّة، لكن بملاحظة

______________________________________

1 ـ سورة يس، الآية 82.

2 ـ تفسير الميزان، المجلّد الأوّل، صفحة 275.

[  141 ]

جملة: (جعلنا) يرجّح في رأينا أنّ المراد هم الأنبياء الذين نصبوا بأمر الله في هذا المنصب.

ولمّا كانوا بنوا إسرائيل ـ كسائر الاُمم ـ قد إختلفوا بعد هؤلاء الأئمّة الحقيقيين، وسلكوا مسالك مختلفة، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث تقول بلحن التهديد: (إنّ ربّك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون).

أجل .. إنّ مصدر ومنبع الإختلاف دائماً هو مزج الحقّ بالأهواء والميول، ولمّا كانت القيامة يوماً لا معنى فيه للأهواء والميول، حيث تمحى ويتجلّى الحقّ بأجلى صوره، فهناك ينهي الله سبحانه الإختلافات بأمره، وهذه أيضاً إحدى فلسفات المعاد. تأمّلوا ذلك.

* * *

 

ملاحظة

صمود وإستقامة القادة الإلهيين

قلنا: إنّه قد ذكر في الآيات مورد البحث شرطان للأئمّة: الأوّل: الصبر والثبات، والآخر: الإيمان واليقين بآيات الله.

ولهذا الصبر والثبات فروعاً وأشكالا كثيرة:

فيكون أحياناً أمام المصائب التي تحلّ بالإنسان.

واُخرى مقابل الأذى الذي يحيق بأصحابه ومؤيّديه.

وثالثة في مقابل التعديّات والألسن البذيئة التي تنال مقدّساته.

واُخرى في مقابل المنحرفين فكرياً.

واُخرى أمام الجاهلين الحمقى.

واُخرى أمام العلماء الخبثاء.

والخلاصة: فإنّ القائد الواعي الرشيد يجب أن يصمد أمام كلّ هذه المشاكل

[  142 ]

وغيرها، ولا ينسحب من ميدان الصراع والحوادث، ولا يجزع وييأس، ولا يفقد زمام الاُمور من يده، ولا يضطرب ولا يندم حتّى يحقّق هدفه الكبير.

وقد روي في هذا الباب حديث جامع ورائع عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال لأحد أصحابه: إنّ من صبر صبر قليلا (وبعده الظفر) وإنّ من جزع جزع قليلا (ومن بعده الخسران).

ثمّ قال: عليك بالصبر في جميع اُمورك، فإنّ الله عزّوجلّ بعث محمّداً فأمره بالصبر والرفق; فقال: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا) وقال: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم).

فصبر رسول الله حتّى نالوه بالعظائم ورموه بها ـ فسمّوه ساحراً ومجنوناً وشاعراً، وكذّبوه في دعوته ـ فضاق صدره، فأنزل الله عزّوجلّ عليه: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين) ـ أي إنّ هذه العبادة تمنحك الإطمئنان والهدوء ـ .

ثمّ كذّبوه ورموه فحزن لذلك، فأنزل الله عزّوجلّ: (قد نعلم انّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم نصرنا).

فألزم النّبي نفسه الصبر، فتعدّوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذّبوه، فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عزّوجلّ: (واصبر على ما يقولون)، فصبر النّبي في جميع أحواله.

ثمّ بُشّر في عترته بالأئمّة ووصفوا بالصبر، فعند ذلك قال: الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فشكر الله عزّوجلّ ذلك له، فأباح له قتال المشركين، فقتلهم الله على يدي رسول الله وأحبّائه، وجعل له ثواب صبره مع ما ادّخر له في

[  143 ]

الآخرة».

ثمّ أضاف الإمام الصادق (عليه السلام): «فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا حتّى يقرّ الله له عينه في أعدائه مع ما يدّخر له في الآخرة»(1).

 

* * *

______________________________________

1 ـ اُصول الكافي، الجزء 2، صفحة 72 باب الصبر باختصار قليل.

[  144 ]

 

 

 

الآيات

أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَـت أَفَلاَ يَسْمَعُونَ(26) أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَـمُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ(27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَـنُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ(30)

 

التّفسير

يوم إنتصارنا:

كانت الآيات السابقة ممزوجة بتهديد المجرمين من الكفّار، وتقول الآية الاُولى من الآيات مورد البحث إكمالا لهذا التهديد: (أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون(1)) فهؤلاء يسيرون بين الخرائب ويرون آثار اُولئك الأقوام

______________________________________

1 ـ فاعل (لم يهد) يفهم من جملة (كم أهلكنا من قبلهم) والتقدير: أو لم يهد لهم كثرة من أهلكنا.

[  145 ]

الذين هلكوا من قبلهم (يمشون في مساكنهم)(1).

تقع مساكن «عاد» و «ثمود» المدمّرة، ومدن «قوم لوط» الخربة في طريق هؤلاء إلى الشام، وكانت هذه المساكن مقرّاً ومركزاً للأقوام الأقوياء المنحرفين، وطالما حذّرهم الأنبياء فلم يؤثّر فيهم ذلك، وأخيراً طوى العذاب الإلهي ملفّ حياتهم، وكان المشركون يمرّون على تلك الخرائب فكأنّ لكلّ بيوت هؤلاء وقصورهم المتهدّمة مئة لسان، تصيح بهؤلاء أن يتنبّهوا، وتبيّن لهم وتحدّثهم بنتيجة الكفر والإنحطاط، لكنّهم لم يعبؤوا بها ويلتفتوا إليها، وكأنّهم فقدوا أسماعهم تماماً، ولذلك تضيف الآية في النهاية: (إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون).

وتشير الآية التالية إلى أحد أهمّ النعم الإلهية التي هي أساس عمران كلّ البلدان، ووسيلة حياة كلّ الكائنات الحيّة، ليتّضح من خلالها أنّ الله سبحانه كما يمتلك القدرة على تدمير بلاد الضالّين المجرمين، فإنّه قادر على إحياء الأراضي المدمّرة والميّتة، ومنح عباده كلّ نوع من المواهب، فتقول: (أو لم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).

«الجُرُز» تعني الأرض القاحلة التي لا ينبت فيها شيء قطّ، وهي في الأصل من مادّة (جَرَزْ) على وزن (مرض) بمعنى «القطع»، فكأنّ النباتات قد اجتثّت من مثل هذه الأرض، أو أنّ الأرض نفسها قد قطعت تلك النباتات.

والطريف هنا أنّه قد عُبّر بـ : (نسوق الماء) وهو إشارة إلى طبيعة الماء توجب ـ بحكم ثقله ـ أن يكون على الأرض وفي المنخفضات، وبحكم كونه مائعاً يجب أن ينزل إلى أعماق الأرض، إلاّ أنّه عندما يصله أمرنا يفقد طبيعته، ويتحوّل إلى بخار خفيف يتحرّك إلى كلّ الجهات بهبوب النسيم.

______________________________________

1 ـ ذكر أغلب المفسّرين في تفسير الآية ما ذكرناه أعلاه، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون جملة (يمشون) بياناً لحال المهلكين، أي أنّ اُولئك الأقوام كانوا في غفلة تامّة عن العذاب الإلهي، وكانوا يسيرون في مساكنهم ويتنّعمون بها، إذ أتاهم عذاب الله بغتةً وأهلكهم. إلاّ أنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً.

[  146 ]

نعم، إنّ هذه السحب السابحة في السماء بحار كبيرة من المياه العذبة تُرسل إلى الأراضي اليابسة بأمر الله ومعونة الرياح.

والواقع أنّه لولا المطر فإنّ كثيراً من الأراضي لا ترى حتّى القطرة الواحدة من الماء، وإذا إفترضنا أنّ هناك أنهاراً غزيرة المياة فانّ تلك المياه لا تصل إلى أغلب الأراضي، إلاّ أنّنا نرى أنّه ببركة هذه الرحمة الإلهيّة قد نبتت ونمت الأعشاب والغابات والأشجار الكثيرة جدّاً على قمم كثير من الجبال والوديان الوعرة والتلال المرتفعة، وهذه القدرة العجيبة للمطر على الري لا يستطيع القيام بها شيء آخر.

«زرعاً» له هنا معنى واسعاً يشمل كلّ أنواع العشب والشجر، وإن كان يستعمل أحياناً في مقابل الشجر.

ويمكن أن يكون تقديم الدوابّ والأنعام على البشر في هذه الآية لأنّ تغذية الحيوانات تعتمد على النبات، في حين أنّ البشر يتغذّى على النبات وعلى لحوم الحيوانات.

أو من جهة أنّ النبات بمجرّد نموّه يصبح غذاء للحيوانات، وتستطيع الإستفادة منه وهضمه، في حين أنّ إستفادة الإنسان من النباتات، تتأخّر حتّى تحمل الشجرة وتنضج الثمرة.

والطريف هنا أنّ جملة: (أفلا يبصرون) قد وردت في نهاية الآية مورد البحث، في حين أنّ الآية السابقة التي كانت تتحدّث عن أطلال قصور الأقوام الغابرة قد ختمت بجملة: (أفلا يسمعون).

وعلّة هذا الإختلاف هو أنّ الجميع يرون باُمّ أعينهم منظر الأراضي الميّتة وهي تحيا على أثر نزول الأمطار ونموّ نباتها وينع ثمرها، في حين أنّهم يسمعون المسائل المرتبطة بالأقوام السابقين كإخبار غالباً.

ويستفاد من مجموع الآيتين أعلاه أنّ الله تعالى يقول لهؤلاء العصاة

[  147 ]

المتمردّين: انتبهوا جيّداً، وافتحوا عيونكم وأسماعكم، فاسمعوا الحقائق، وانظروا إليها، وتفكّروا كيف أمرنا الرياح يوماً أن تحطّم قصور قوم عاد ومساكنهم وتجعلها أطلالا وآثاراً، وفي يوم آخر نأمر ذات الرياح أن تحمل السحاب الممطر إلى الأراضي الميّتة البور لتحيي تلك الأراضي وتجعلها خضراء نضرة، ألا تستسلمون وتذعنون لهذه القدرة؟!

ولمّا كانت الآيات السابقة تهدّد المجرمين بالإنتقام، وتبشّر المؤمنين بالإمامة والنصر، فإنّ الكفّار يطرحون هذا السؤال غروراً وإستكباراً وتعلّلا بأنّ هذه التهديدات متى ستتحقّق؟ كما يذكر القرآن ذلك: (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين).

فيجيبهم القرآن مباشرةً، ويأمر النّبي (صلى الله عليه وآله) أن (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) أي: إذا كان مرادكم أن تروا صدق الوعيد الإلهي الذي سمعتموه من النّبي لتؤمنوا، فإنّ الوقت قد فاتكم، فإذا حلّ ذلك اليوم لا ينفعكم إيمانكم فيه شيئاً.

وممّا قلنا يتّضح أنّ المراد من «يوم الفتح» يوم نزول «عذاب الإستئصال»، أي العذاب الذي يقطع دابر الكافرين، ولا يدع لهم فرصة الإيمان. وبتعبير آخر فإنّ عذاب الإستئصال نوع من العذاب الدنيوي، لا من عذاب الآخرة، ولا من العقوبات الدنيوية المعتادة، بل هو العذاب الذي يُنهي حياة المجرمين بعد إتمام الحجّة.

والشاهد على هذا القول اُمور:

أ : إذا كان المراد العقوبات الدنيوية المعتادة، أو الإنتصارات الشبيهة بإنتصار المسلمين في معركة بدر ويوم فتح مكّة ـ كما قال ذلك بعض المفسّرين ـ فإنّ جملة: (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم) لا تصحّ حينئذ، لأنّ الإيمان كان مفيداً حينذاك، وأبواب التوبة كانت مفتّحة يوم الإنتصار في بدر، وفي يوم فتح مكّة.

[  148 ]

ب : إذا كان المراد من يوم الفتح يوم القيامة ـ كما إرتضى ذلك بعض  المفسّرين ـ فإنّ ذلك لا يناسب جملة: (ولا هم ينظرون) لأنّ إعطاء الفرصة وعدمه يرتبط بالحياة الدنيا، إضافةً إلى أنّ «يوم الفتح» لم يستعمل بمعنى يوم القيامة في أيّ موضع من القرآن الكريم.

ج : إنّ التعبير بالفتح في مورد عذاب الإستئصال يلاحظ مراراً في القرآن، مثل الآية (118) من سورة الشعراء، حيث يقول نوح: (فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين) وهو إشارة إلى عقوبة الطوفان.

وورد نظير هذا المعنى في الآية (77) من سورة المؤمنون أيضاً.

إلاّ أنّ المراد إذا كان عذاب الإستئصال في الدنيا فإنّه يتّفق مع ما قلناه أعلاه، وينسجم مع كلّ القرائن، وهو في الواقع تهديد للكافرين والظالمين بأن لا تطلبوا تحقّق الوعد بالفتح للمؤمنين ووقوع عذاب الإستئصال على الكافرين، فإنّ طلبكم إذا تحقّق فسوف لا تجدون الفرصة للإيمان، وإذا وجدتم الفرصة وآمنتم فإنّ إيمانكم سوف لا يقبل.

وهذا المعنى خاصّة يتلاءم كثيراً مع الآيات السابقة التي تحدّثت عن هلاك الأقوام المتمردّين الطاغين الذين كانوا يعيشون في القرون الماضية، وابتلوا بالعذاب الإلهي والفناء، لأنّ كفّار مكّة إذا سمعوا الكلام الذي ورد في الآيتين السابقتين فإنّهم سيطلبون تحقّق مثل هذا الموضوع في حقّهم، إلاّ أنّ القرآن الكريم يحذّرهم بأن لا يطلبوا مثل هذا الطلب، فإنّ العذاب إذا نزل لا يبقى لهم شيء.

وأخيراً تنهي الآية الأخيرة هذه السورة ـ سورة السجدة ـ بتهديد بليغ عميق المعنى، فتقول: (فأعرض عنهم وانتظر إنّهم منتظرون).

الآن، حيث لم تؤثّر في هؤلاء البشارة ولا الإنذار، ولا هم أهل منطق وإستدلال ليعرفوا الله سبحانه بمشاهدة الآثار الإلهيّة في خفايا الخلقة فيعبدوه،

[  149 ]

وليس لهم وجدان حيّ يترنّم في أعماقهم بنغمة التوحيد فيسمعونها، فأعرض عنهم، وانتظر رحمة الله سبحانه، ولينتظروا عذابه فإنّهم لا يستحقّون سواه.

اللهمّ اجعلنا ممّن يسلّم ويؤمن عند رؤية أوّل علامات الحقّ وآياته.

اللهمّ أبعد عنّا روح الكبر والغرور والعناد ونجّنا منها.

اللهمّ عجلّ بنصر جند الإسلام على جنود الكفر والإستكبار والإستعمار.

 

نهاية سورة السجدة

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336516

  • التاريخ : 28/03/2024 - 23:05

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net