00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة سبأ من أول السورة ـ آية 17 من ( ص 377 ـ 425 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[  377 ]

 

سورة سَبأ

 

مَكّيّة وعددُ آياتِها أربعَ وخَمسُونَ آية

 

[  378 ]

 

«سورة سبأ»

محتوى سورة سبأ:

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصّة قوم سبأ، وهي من السور المكيّة، التي تشتمل عادةً على بحوث المعارف الإسلامية واُصول الإعتقادات، خصوصاً «المبدأ» و «المعاد» و «النبوّة». فأغلب بحوثها تحوم حول تلكم الموضوعات، لحاجة المسلمين لبلورة اُمور العقيدة في مكّة، وإعدادهم للإنتقال إلى فروع الدين، وتشكيل الحكومة، وتطبيق كافّة البرامج الإسلامية.

وبشكل إجمالي يمكن القول بأنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع:

1 ـ «التوحيد»، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية، والربوبية، والاُلوهية.

2 ـ قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة.

3 ـ نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرم (صلى الله عليه وآله) والردّ على تخرصات أعدائه حوله، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

4 ـ التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال إستعراض جانب من حياة النّبي سليمان (عليه السلام) وحياة قوم سبأ.

5 ـ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح، وبيان تأثير هذه

[  380 ]

العوامل في سعادة وموفقية البشر.

وعلى كلّ حال، فانّها تشكّل برنامجاً تربوياً شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.

 

فضيلة هذه السورة:

يلاحظ في الروايات تعبيرات ملفتة حول أهميّة هذه السورة وأهميّة قراءتها. من جملتها ما ورد في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلاّ كان له يوم القيامة رفيقاً ومصافحاً»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ الحمدين جميعاً، سبأ وفاطر، في ليلة لم يزل ليلته في حفظ الله تعالى وكلاءته، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، واُعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(2).

ونذكّر ـ كما في بداية كلّ سورة ـ بأنّ من الطبيعي أنّ هذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب، بل يجب أن تكون القراءة مقدّمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح.

فإنّ من يقرأ هذه السورة مثلا، سيعلم بأنّ الدمار الذي حلّ بقوم سبأ وجعل من مصرعهم عبرة للعالمين، ومصيرهم مضرباً للأمثال، إنّما كان لكفرانهم النعم الإلهية الوافرة.

ومن يطّلع على ذلك فسيؤدّي شكر النعمة بطريقة عملية. والشاكر بنعمة الله سيكون في حفظه وأمانه تعالى.

وقد ذكرنا شرحاً أوفى حول هذا الموضوع في أوّل تفسيرنا لسورة النور.

* * *

______________________________________
1 ـ مجمع البيان، بداية سورة سبأ، المجلّد 8، صفحة 375.
2 ـ المصدر السابق.

[  381 ]

 

 

الآيتان

 

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاْخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ(2)

 

التّفسير

هو المالك لكلّ شيء والعالم بكلّ شيء:

خمس سور من القرآن الكريم إفتتحت «بحمد الله»، وإرتبط (الحمد) في ثلاثة منها بخلق السموات والأرض وهي (سبأ وفاطر والأنعام) بينما كان مقترناً في سورة الكهف بنزول القرآن على قلب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وجاء في سورة الفاتحة تعبيراً جامعاً شاملا لكلّ هذه الإعتبارات (الحمد لله ربّ العالمين). على كلّ حال، الحمد والشكر لله تعالى في مطلع سورة سبأ هو في قبال مالكيته وحاكميته تعالى في الدنيا والآخرة.

يقول تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في

 ]382 ]

الآخرة).

لذا فإنّ الحاكمية والمالكية في الدنيا والآخرة له سبحانه، وكلّ موهبة، وكلّ نعمة، ومنفعة وبركة، وكلّ خلقة سوية عجيبة مذهلة، تتعلّق به تعالى، ولذا فإنّ «الحمد» الذي حقيقته «الثناء على فعل إختياري حسن» كلّه يعود إليه تعالى، وإذا كانت بعض المخلوقات تستحقّ الحمد والثناء، فلأنّها شعاع من وجوده عزّوجلّ ولأنّ أفعالها وصفاتها قبس من أفعاله وصفاته تعالى. وعليه فكلّ مدح وثناء يصدر من أحد على شيء في هذا العالم، فإنّ مرجعه في النهاية إلى الله سبحانه وتعالى.

ثمّ يضيف تعالى قائلا: (وهو الحكيم الخبير).

فقد إقتضت حكمته البالغة أن يُخضع الكون لهذا النظام العجيب، وأن يستقرّ ـ بعلمه وإحاطته ـ كلّ شيء في محلّه من الكون، فيجد كلّ مخلوق ـ كلّ ما يحتاج إليه ـ في متناوله.

وقد تحدّث المفسّرون كثيراً في هذه الآية عن المقصود من الحمد والشكر في الآخرة ..

فذهب بعضهم: إنّ الآخرة وإن لم تكن دار تكليف، إلاّ أنّ عبّاد الرحمن الذين تسامت أرواحهم بعشق بارئهم هناك، يشكرونه ويحمدونه وينتشون بلذّة خاصّة من ذلك.

وقال آخرون: إنّ أهل الجنّة يحمدونه على فضله، وأهل النار يحمدونه على عدله.

وقيل: إنّ الإنسان ـ نتيجة وجود الحجب المختلفة على قلبه وعقله في الدنيا ـ لا يمكنه أن يحمد الله حمداً خالصاً، وعندما ترتفع هذه الحجب يوم القيامة تتّضح مالكيته تعالى وهيمنته على عالم الوجود للجميع مصداقاً لقوله تعالى (الملك يومئذ لله) وحينها تلهج الألسن بحمده والثناء عليه بكامل خلوص النيّة.

[  383 ]

وكذلك فإنّ الإنسان قد يغفل في هذه الدنيا فيحمد بعض المخلوقات، متوهماً إستقلالها، إلاّ أنّه في الآخرة، وحيث يتّضح إرتباط الكلّ به تعالى كإرتباط أشعّة الشمس بقرصها، فإنّ الإنسان لن يؤدّي الحمد والثناء إلاّ لله سبحانه.

فضلا عن كلّ هذا، فقد ورد مراراً في القرآن الكريم ـ أيضاً ـ أنّ أصحاب الجنّة يحمدون الله حين دخولهم جنّات الخلد: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن).(1)

(وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين).(2)

على كلّ حال فإنّ هذا الحمد والثناء لا ينطلق من ألسنة الناس والملائكة فقط، بل تُسمع همهمة الحمد والتسبيح من كلّ ذرّة في عالم الوجود بإدراك العقل، فليس من موجود إلاّ ويحمده ويسبّحه تعالى.

تنتقل الآية التي بعدها إلى التوسّع في إظهار جانب من علم الله اللامحدود، تناسباً مع وصف الآية السابقة له تعالى بالحكيم والخبير، فيقول سبحانه: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها).

نعم، فقد أحاط علماً بكلّ حبّة مطر وقطرة ماء تنفذ وتلج في أعماق الأرض حتّى إذا وصلت طبقة صلدة تجمّعت هناك وصارت ذخيرة للإنسان.

ويعلم بالبذور التي تنتقل على سطح الأرض بواسطة الريح أو الحشرات، لتنبت في مكان ما وتصبح شجرة باسقة أو عشباً طريّاً.

يعلم بجذور الأشجار عند توغلها في أعماق التربة بحثاً عن الماء والغذاء.

يعلم بالموجات الكهربائية والغازات المختلفة، بذرّات الهواء التي تنفذ في الأرض، يعلم بالكائنات الحيّة التي تشقّ طريقها فيها، ويعطيها الحياة.

وكذلك، يعلم بالكنوز والدفائن وأجساد الموتى من الإنسان وغيره .. نعم إنّه

______________________________________
1 ـ فاطر، 34.
2 ـ يونس، 10.

[  384 ]

مطّلع على كلّ هذا.

وكذلك فهو عارف وعالم بالنباتات التي تخرج من الأرض، والناس الذين يبعثون منها، بالعيون التي تفور بالماء منها، بالغازات التي تتصاعد منها، بالبراكين التي تلوّح بجحيمها، بالحشرات التي تتّخذ أوكاراً فيها، وتخرج منها.

والخلاصة، فهو عالم بكلّ الموجودات التي تلج الأرض وتخرج منها أعمّ ممّا نعلمه أو ما لا نعلمه.

ثمّ يضيف قائلا: (وما ينزل من السماء وما يعرج فيها).

فهو يعلم بحبّات المطر، وبأشعّة الشمس التي تنثر الحياة، بأمواج الوحي والشرائع السماوية العظيمة، وبالملائكة التي تهبط إلى الأرض لإبلاغ الرسالات أو أداء الأوامر الإلهيّة المختلفة. بالأشعة الكونية التي تدخل جو الأرض من الفضاء الخارجي، بالشهب والذرّات المضطربة في الفضاء والتي تهوي نحو الأرض، فهو تعالى محيط بهذا كلّه.

وكذلك فإنّه يعلم بأعمال العباد التي تعرج إلى السماء، والملائكة التي تقفل صاعدة إلى السماء بعد أداء تكاليفها، وبالشياطين الذين يرتقون إلى السماء لإستراق السمع، وبفروع الأشجار التي تتطلّع برؤوسها إلى السماء، وبالأبخرة التي تتصاعد من البحار إلى أعالي السماء لتتكاثف مكونةً سحباً. وبالآهات التي تنطلق من قلب المظلوم متصاعدة إلى السماء ... نعم هو عالم بكلّ ذلك.

فهل هناك من مطّلع على كلّ ذلك غيره تعالى؟ وهل يمكن لعلوم جميع العلماء مجتمعة أن تحيط ولو بجزء من هذه المعلومات؟

وفي ختام الآية يضيف تعالى: (وهو الرحيم الغفور).

لقد وصف الله تعالى نفسه بهاتين الصفتين إمّا لأجل أنّه من جملة الاُمور التي تعرج إلى السماء أعمال العباد وأرواحهم فيشملها برحمته ...

أو لأنّ نزول البركات والعطايا السماوية تترشّح من رحمته، والأعمال

[  385 ]

الصالحة المتصاعدة من العباد مشمولة بغفرانه بمقتضى (والعمل الصالح يرفعه).

أو لكون «الرحمة» تشمل من يشكر هذه النعم، و «الغفران» يشمل المقصّرين في ذلك.

والخلاصة: أنّ الآية أعلاه، لها معان واسعة من جميع الوجوه، ولا يجب حصر مؤدّاها في معنىً واحد.

 

* * *

[  386 ]

 

 

الآيات

 

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَـلِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـب مَّبِين (3)لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِى ءَايَـتِنَا مُعَـجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْز أَلِيمٌ(5)

 

التّفسير

أقسم بالله لتأتينكم القيامة:

تتعرّض الآيات مورد البحث إلى موضع التوحيد وصفات الله في نفس الوقت الذي تهيء أرضيّة لموضوع المعاد، لأنّ مشكلات (بحث المعاد) لا يمكن حلّها إلاّ عن طريق العلم اللامتناهي للباريّ عزّوجلّ، كما سنرى.

لذا فإنّ الآيات مورد البحث تبدأ أوّلا بقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة). فما هو إلاّ كذب وإفتراء، بل إنّ القيامة لا تأتي أحداً من الناس.

[  387 ]

ويريدون بذلك الفكاك والتحرّر من قيود هذه الإعتقادات; الحساب والكتاب والعدل والجزاء، ليرتكبوا ما يحلوا لهم من الأعمال.

ولكنّ القرآن بناءً على وضوح أدلّة القيامة يخاطب الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)بصورة حاسمة وفي معرف بيان النتيجة، فيقول: (قل بلى وربّي لتأتينكم).

والتركيز على كلمة «ربّ» لأنّ القيامة في الأصل من شؤون الربوبية. فكيف يمكن أن يكون الله مالكاً ومربياً للبشر يقودهم في سيرهم التكاملي، ثمّ يتخلّى عنهم في منتصف الطريق لينتهي بالموت كلّ شيء، فتكون حياتهم بلا هدف وخلقهم هباءً وبلا معنى.

وقد ركّز القرآن في الآية السابعة من سورة التغابن أيضاً على هذا الوصف، فقال تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربّي لتبعثنّ ثمّ لتنبئنّ بما عملتم).

وبما أنّ أحد إشكالات الكافرين بالمعاد، هو شكّهم ـ من جانب ـ في إمكانية جمع وإعادة بناء أعضاء الإنسان الميّت بعد تبعثرها وتفسّخها في التراب. وكذلك ـ من جانب آخر ـ في إمكانية وجود من يمكنه النظر في جميع أعمال العباد التي عملوها في السرّ والعلن والظاهر والباطن، لذا فإنّ الله تعالى يضيف في تتمّة الآية الكريمة (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين)(1).

ولذا، فلا يغيب عن علمه تبعثر ذرّات جسم الإنسان في التراب، ولا إختلاطها بسائر الموجودات، ولا حتّى حلولها في أبدان اُناس آخرين عن طريق الغذاء، ولا يشكّل مشكلة أمام إعادة بنائه من جديد .. وأعمالهم في هذه الدنيا تبقى محفوظة أيضاً، وإن تغيّر شكلها، فهو سبحانه المحيط بها علماً.

______________________________________
1 ـ «يعزب»: من مادة «عزوب» وتعني المتباعد في طلب الكلأ عن أهله، يُقال عَزَبَ يعزُبُ ويعزِب ثمّ أطلق على كلّ غائب، يقال رجل عزبٌ، وامرأة عزبةٌ إذا غاب عنها زوجها.

[  388 ]

وقد ورد نظير هذا التعبير في الآيات الثالثة والرّابعة من سورة (ق) في قوله تعالى: (أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).

ولكن ما هو المقصود من «الكتاب المبين»؟

أغلب المفسّرين قالوا بأنّه «اللوح المحفوظ» ولكن السؤال هو: ما هو اللوح المحفوظ؟!

وكما ذكرنا سابقاً فإنّ أقرب تفسير (للّوح المحفوظ)، هو «لوح العلم الإلهي اللامتناهي» نعم في ذلك اللوح ضُبط وقُيّد كلّ شيء، بدون أن يجد التغيير والتبديل طريقه إليه.

وعالم الوجود المترامي الأطراف، هو الآخر إنعكاس عن ذلك اللوح المحفوظ، بلحاظ أنّ كلّ ذرّات وجودنا وكلّ أقوالنا وأفعالنا، تبقى محفوظة فيه، وإن كانت الظواهر تتغيّر، لكنّها لا تخرج عن حدّها أبداً.

ثمّ يوضّح تعالى الهدف من قيام القيامة في آيتين، أو بتعبير آخر إعطاء الدليل على لزوم مثل ذلك العالم بعد عالمنا الحالي لمنكري القيامة، فيقول تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات اُولئك لهم مغفرة ورزق كريم).

فإن لم يُجازِ المؤمنين بصالح عملهم ثواباً، أفلا يعني ذلك تعطيل أصل العدالة الذي هو أهم أصل من اُصول الخلقة؟ وهل يبقى معنى لعدالة الله بدون ذلك المفهوم؟! في الوقت الذي نرى أنّ أغلب هؤلاء الأفراد الصالحين، لا يتلقون جزاء أعمالهم الحسنة في هذه الدنيا أبداً، إذن لابدّ من عالم آخر لكي يتحقّق فيه هذا الأصل.

تقديم «المغفرة» على «الرزق الكريم» ربّما كان سببه: أنّ أشدّ ما يقلق المؤمنين هو الذنوب التي إرتكبوها، لذا فإنّ الآية تطمئنهم بعرض المغفرة عليهم أوّلا، فضلا عن أنّ من لم يغتسل بماء المغفرة الإلهية لن يكون أهلا (للرزق الكريم) والمقام

[  389 ]

الكريم!

(الرزق الكريم) يشمل كلّ رزق ذي قيمة، ومفهوم ذلك واسع إلى درجة أنّه يشمل كلّ المواهب والعطايا الإلهية، ومنها ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وبتعبير آخر فإنّ «الجنّة» بكلّ نعمها المعنوية والماديّة جمعت في هذه الكلمة، والبعض فسّر «الكريم» بأمرين: الجيد والخالي من المنغّصات، ولكن يبدو أنّ مفهوم الكلمة أوسع من ذلك بكثير.

ثمّ تضيف الآية الكريمة التالية، موضّحة نوعاً آخر من العدالة فيما يخصّ عقاب المذنبين والمجرمين، فيقول تعالى: إنّ الذين كذّبوا آياتنا وسعوا في إنكارها وإبطالها وتصوّروا أنّهم يستطيعون الخلاص من دائرة قدرتنا ... (والذين سعوا في آياتنا معاجزين اُولئك لهم عذاب من رجز أليم).

فهناك كان الحديث عن «الرزق الكريم» وهنا عن «الرجز الأليم».

«الرِّجْز»: في الأصل بمعنى الإضطراب وعدم القدرة على حفظ التوازن، ومنه قيل «رَجَزَ البعيرُ رجزاً» فهو أرجز، وناقةٌ «رجزاءُ» إذا تقارب خطوها وإضطرب لضعف فيها. واُجبرت على تقصير خطواتها لحفظ توازنها، ثمّ اُطلقت الكلمة على كلّ ذنب ورجس. كذلك فإنّ إطلاق كلمة «الرَجَزْ» على المقاطع الشعرية الخاصّة بالنزال في الحرب، من باب قصر مقاطعها وتقاربها.

على كلّ حال فالمقصود من (الرجز) هنا، أسوأ أنواع العذاب ـ الذي يتأكّد بإرداف كلمة «الأليم» أيضاً وأنواع العقوبات البدنية والروحية الأليمة.

والتفت البعض إلى هذه النكتة، وهي أنّ القرآن الكريم حين ذكر نِعم أهل الجنّة لم يستعمل كلمة «من» ليدلّل على سعتها، بينما جاءت هذه الكلمة عند ذكر العذاب لتكون دليلا على محدوديته النسبية، ولتتضح رحمته تبارك وتعالى.

«سعوا»: من السعي، بمعنى كلّ جهد وجدٍّ في أمر، والمقصود منها هنا، الجدّ

[  390 ]

والجهد في تكذيب وإنكار آيات الحقّ وصدّ الناس عن طريق الله سبحانه وتعالى.

معاجزين: من المعاجزة، بمعنى معجّزين، أي مثبّطين، وفي مثل هذه الموارد تطلق على من يفرّ من شخص آخر بحيث لا يمكّنه من التسلّط عليه، وبديهي أنّ هذا الوصف يستخدم للمجرمين لتوهمّهم الذي يظهرونه عملياً بهذا الإتّجاه، وعملهم يشبه إلى حد كبير من يتصوّر أنّه يستطيع القيام بأيّة جناية يشاء، ثمّ يستطيع الفرار من سلطة القدرة الإلهيّة!!.

 

* * *

[  391 ]

 

 

الآيات

 

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُل يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّق إِنَّكُمْ لَفِى خَلْق جَدِيد(7) أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ  لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَـلِ الْبَعِيدِ(8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِن نَّشَأَ نَخْسِفْ بِهِمْ الاَْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لِّكُلِّ عَبْد مُّنِيب(9)

 

التّفسير

العلماء يرون دعوتك إنّها حقّ:

كان الحديث في الآيات السابقة عن عمي البصائر، المغفّلين الذين أنكروا المعاد مع كلّ تلك الدلائل القاطعة، وسعوا سعيهم لتكذيب الآيات الإلهية، وإضلال الآخرين.

[  392 ]

وعلى هذا، فإنّ الآيات مورد البحث، تتحدّث عن العلماء والمفكّرين الذين صدّقوا بآيات الله وسعوا سعيهم لتشجيع الآخرين على التصديق بها، يقول تعالى: (ويرى الذين اُوتوا العلم الذي اُنزل إليك من ربّك هو الحقّ ويهدي إلى صراط العزيز الحميد).

فسّر بعض المفسّرين عبارة (الذين اُوتوا العلم)، بتلك المجموعة من علماء أهل الكتاب الذين يتّخذون موقف الخضوع والإقرار للحقّ عند مشاهدة آثار حقّانية القرآن الكريم.

وليس هناك مانع من إعتبار علماء أهل الكتاب أحد مصاديق الآية، ولكن تحديدها بهم يفتقد إلى الدليل، بل مع الإلتفات إلى الفعل المضارع (يرى) وسعة مفهوم «الذين اُوتوا العلم» يتّضح شمول الآية لكلّ العلماء والمفكّرين في كلّ عصر وزمان ومكان.

وإذا فُسّرت بكونها إشارة إلى «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام»، كما في تفسير علي بن إبراهيم، فإنّ ذلك توضيح وإشارة إلى أتمّ وأكمل مصاديق الآية.

نعم، فأي عالم موضوعي وغير متعصّب إذا تأمّل في ما ورد في هذا الكتاب السماوي، وتدبّر في معارفه العميقة، وأحكامه المتينة، ونصائحه الحكيمة، ومواعظه المؤثّرة في الوجدان إلى قصصه التأريخية المشعّة بالعِبرة، وبحوثه العلمية الإعجازية، فسيعلم بأنّها جميعاً دليل على حقّانية هذه الآيات.

واليوم، فإنّ هناك كتباً متنوّعة كتبها مفكّرون غربيون وشرقيون حول الإسلام والقرآن، تحوي إعترافات ظاهرة على عظمة الإسلام وصدق الآية مورد البحث.

التعبير بـ «هو الحقّ» تعبير جامع ينطبق على جميع محتوى القرآن الكريم، حيث أنّ «الحقّ» هو تلك الواقعة العينية والوجود الخارجي، أي إنّ محتوى القرآن يتساوق وينسجم مع قوانين الخلق وحقائق الوجود وعالم الإنسانية.

[  393 ]

ولكونه كذلك فهو يهدي إلى صراط الله، الله «العزيز» و «الحميد» أي أنّه تعالى الأهل لكلّ حمد وثناء وفي ذات الوقت فانّ قدرته غاية القدرة والغلبة، وليس هو كأصحاب القدرة من البشر الذي يتعامل منطلقاً من كونه على عرش القدرة بالدكتاتورية والظلم والتجاوز والتلاعب.

وقد جاء نظير هذا التعبير في الآية الاُولى من سورة «إبراهيم» حيث قال جلّ من قائل: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم إلى صراط العزيز الحميد).

وواضح أنّ من كان مقتدراً وأهلا للحمد والثناء، ومن هو عالم ومطّلع رحيم وعطوف، من المحتّم أن يكون طريقه أكثر الطرق إطمئنان وإستقامة. فمن يسلك طريقه إنّما يقترب من منبع القدرة وكلّ الأوصاف الحميدة.

ويعود تعالى إلى مسألة القيامة والبعث في الآية التي بعدها، ويكمل البحوث السابقة بطريقة اُخرى، فيقول تعالى: (وقال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزقتم كلّ ممزق إنّكم لفي خلق جديد).

يبدو أنّ إصرار ـ هؤلاء الكفّار ـ على إنكار مسألة المعاد يعتمد على أمرين: ـ

الأوّل: توهمّهم أنّ المعاد الذي تحدّث عنه رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وهو «المعاد الجسماني»، أمر يسهل الإشكال عليه والطعن فيه، وأنّ بإمكانهم تنفير الناس منه فينكرونه بسهولة.

الثّاني: أنّ الإعتقاد بالمعاد، أو حتّى القبول بإحتماله ـ على كلّ حال ـ إنّما يفرض على الإنسان مسؤوليات وتعهّدات، ويضعه وجهاً لوجه أمام الحقّ، وهذا ما إعتبره رؤوس الكفر خطراً حقيقيّاً، لذا فقد أصرّوا على إلغاء فكرة المعاد والجزاء الاُخروي على الأعمال من أذهان الناس. فقالوا: أيمكن لهذه العظام المتفسّخة، وهذه الذرّات المبعثرة، التي تعصف بها الريح من كلّ جانب، أن تُجمع في يوم وتُلبس ثوب الحياة من جديد؟

[  394 ]

وإستخدامهم لكلمة (رجل) بصيغة النكرة في تعبيرهم عن الرّسول (صلى الله عليه وآله) يقصد منه التحقير «وحاشاه».

ولكن فاتهم أنّنا في بدء الخليقة لم نكن إلاّ أجزاء مبعثرة، فكلّ قطرة ماء في أبداننا إنّما كانت قطرة في زاوية من بحر أو ينبوع ماء، وكلّ ذرّة من مواد أجسامنا، كانت في جانب من جوانب هذه الأرض المترامية، وسيجمعها الله تبارك وتعالى في النهاية أيضاً كما جمعها في البدء، وهو على كلّ شيء قدير.

والعجيب أنّهم اعتبروا ذلك دليلا على كذب الرّسول (صلى الله عليه وآله) أو جنونه، وحاشاه (افترى على الله كذباً أم به جنّة).

وإلاّ فكيف يمكن لرجل عاقل أو صادق أن يتفوّه بمثل هذا الحديث!!؟

ولكن القرآن يردّ عليهم بشكل حاسم قائلا: (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد).

فأي ضلال أوضح من أن يرى مُنكِرُ المعاد باُمّ عينيه مثالا لهذا المعاد في عالم الطبيعة في كلّ عام بإحياء الأرض الميتة بالزرع.

المعاد الذي لولا وجوده لما كان للحياة في هذا العالم أي معنى أو محتوى.

وأخيراً فإنكار المعاد مساو لإنكار قدرة وعدل وحكمة الله جلّ وعلا.

ولكن لماذا يؤكّد تعالى أنّهم الآن في العذاب والضلال؟

ذلك لأنّ الإنسان يواجه في حياته مشاكل وأحداثاً لا يمكنه ـ بدون الإيمان بالآخرة ـ تحمّلها، والحقيقة أنّ الحياة لو حُدَّت بهذه الأيّام القليلة من عمر الدنيا لكان تصوّر الموت بالنسبة لكلّ إنسان كابوساً مرعباً، لهذا السبب نرى أنّ منكري المعاد في قلق دائم منغّص وعذاب أليم، في حال المؤمنين بالمعاد يعتبرون الموت قنطرة إلى عالم البقاء، ووسيلة لكسر القيود والتحرّر من سجن الدنيا.

نعم، فالإيمان بالمعاد، يغمر قلب الإنسان بالطمأنينة، ويهوّن عليه المشكلات، ويجعله أكثر قدرة على الإيثار والفداء والتضحية.

[  395 ]

أمّا الذين يرون المعاد ـ لجهلهم وكفرهم ـ دليلا على الكذب أو الجنون، إنّما يأسرون أنفسهم في عذاب العمى، والضلال البعيد.

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبروا هذا العذاب إشارة إلى عذاب الآخرة، ولكنّ ظاهر الآية يدلّل على أنّهم أسرى هذا العذاب والضلال الآن وفي هذه الدنيا.

ثمّ ينتقل القرآن الكريم لتقديم دليل آخر عن المعاد، مقترن بتهديد الغافلين المعاندين فيقول تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض).

فإنّ هذه السماء العظيمة بكلّ عجائبها، بكواكبها الثابتة والسيّارة، وبالأنظمة التي تحكمها، وكذلك الأرض بكلّ مدهشاتها وأنواع موجوداتها الحيّة، وبركاتها ومواهبها، لأوضح دليل على قدرة الخلاّق العظيم.

فهل أنّ القدير على كلّ هذه الاُمور، عاجز عن إعادة الإنسان بعد الموت إلى الحياة؟

وهذا هو «برهان القدرة» الذي استدلّ به القرآن الكريم في آيات اُخرى في مواجهة منكري المعاد، ومن جملة هذه الآيات، الآية (82) من سورة يس. الآية (99) من سورة الإسراء والآيتين (6 و7) من سورة ق.

ونشير إلى أنّ هذه الجملة كانت مقدّمة لتهديد تلك الفئة المتعصّبة من ذوي القلوب السوداء، الذين يصّرون على عدم رؤية كلّ هذه الحقائق. لذا يضيف تعالى قائلا: (إن نشأ نخسف بهم الأرض) فنأمر الأرض فتنشقّ بزلزلة مهولة وتبتلعهم، أو نأمر السماء فترميهم بقطعات من الحجر وتدمّر بيوتهم وتهلكهم (أو نسقط عليهم كسفاً من السماء) أجل، إنّ في هذا الأمر دلائل واضحة على قدرة الله تعالى على كلّ شيء، ولكن يختّص بإدراك ذلك كلّ إنسان يتدبّر في مصيره ويسعى في الإنابة إلى الله (إنّ في ذلك لآية لكلّ عبد منيب).

لابدّ أن سمع أو شاهد كلّ منّا نماذج من الزلازل أو الخسف في الأرض، أو

[  396 ]

سقوط النيازك من السماء، أو بتساقط وتناثر صخور الجبال بسبب صاعقة أو إنفجار بركان، وكلّ عاقل يدرك إمكانية حصول مثل هذه الاُمور في أيّة لحظة وفي أيّ مكان من العالم، فإذا كانت الأرض هادئة تحت أقدامنا، والسماء آمنة فوق رؤوسنا، فلأنّها كذلك بقدرة اُخرى وبأمر من آمر، فكيف نستطيع ـ ونحن المحكومون بقدرته في كلّ طرفة عين ـ إنكار قدرته على البعث بعد الموت، أو كيف نستطيع الفرار من سلطة حكومته!!.

* * *

 

هنا يجب الإلتفات إلى جملة اُمور:

1 ـ يعبّر القرآن الكريم هنا عن السماء التي فوق رؤوسنا، والأرض التي تحت أقدامنا بـ (ما بين أيديهم) و (ما خلفهم). وهو المورد الوحيد الذي يلاحظ فيه مثل هذا التعبير. وهذا التعبير لعلّه إشارة إلى أنّ قدرة وعظمة الله أظهر في السماء وقت طلوع أو غروب الشمس وظهور القمر والنجوم فيها. ونعلم أنّ من يقف غالب باتّجاه الاُفق تكون السماء بين يديه، والأرض التي تأتي بالدرجة الثّانية من الأهميّة اُطلق عليها (ما خلفهم).

كذلك هي إشارة إلى هؤلاء المغرورين أنّهم إن لم يجيزوا لأنفسهم النظر إلى ما فوق رؤوسهم، فلا أقل من أن ينظروا إلى ما بين أيديهم في جوار الاُفق.

2 ـ نعلم بأنّنا نعيش بين مصدرين عظيمين من مصادر الخطر على حياتنا:

أوّلهما: باطن الكرة الأرضية المشتعل الذي هو عبارة عن صخور مذابة ومشتعلة وفي حالة من الفوران، وفي الحقيقة فإنّ حياة جميع البشر فوق مجموعة من البراكن ـ بالقوّة ـ وبمجرّد صدور أمر إلهي صغير ينطلق أحد هذه البراكين ليهزّ منطقة عظيمة من الأرض وينثر عليها الأحجار الملتهبة والمواد المعدنية المذابة المشتعلة.

[  397 ]

وثانيهما: مئات الآلاف من الأحجار الصغيرة والكبيرة السابحة في الفضاء الخارجي تنجذب نحو الأرض يومياً بفعل جاذبيتها، ولولا إحتراقها نتيجة إصطدامها بالغلاف الغازي، لكنّا هدفاً «لمطر حجري» بشكل متواصل ليل نهار، وأحياناً تكون أحجامها وسرعتها وقوّتها إلى درجة أنّها تتخطّى ذلك المانع وتنطلق باتّجاه الأرض لتصطدم بها. وهذا واحد من الأخطار السماوية، وعليه فإذا كنّا نعيش وسط هذين المصدرين الرهيبين للخطر، بمنتهى الأمن والأمان بأمر الله، أفلا يكفي ذلك لأن نتوجّه إلى جلال قدرته العظيمة ونسجد تعظيماً وطاعة له!!.

3 ـ من الجدير بالملاحظة أنّ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث أشارت إلى (أنّ في ذلك لآية) ولكنّها حدّدت (لكلّ عبد منيب). والإشارة تستبعد ذلك المتمرّس بالعصيان الذي خلع عن رقبته طوق العبودية لله سبحانه وتعالى، والغافلين الذين أداموا السير في الطريق الخاطئة الملوّثة بالخطايا واستبعدوا عن أذهانهم ـ كلياً ـ التوبة والإنابة، فهولاء أيضاً لا يمكنهم الإنتفاع من هذه الآية المشرقة، لأنّ وجود الشمس الساطعة لا يكفي وحده لتحصل الرؤية، بل يستلزم أيضاً العين المبصرة وإرتفاع الحجاب بينهما.

 

* * *

[  398 ]

 

 

الآيتان

 

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَـجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ(10) أَنِ اعْمَلْ سَـبِغَـت وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَـلِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(11)

 

التّفسير

المواهب الإلهية العظيمة لداود:

بناء على ما مرّ ذكره في آخر المجموعة السابقة من الآيات وما قلناه حول «العبد المنيب» والثواب. ولعلمنا بأنّ هذا الوصف قد ذكر للنبي داود (عليه السلام) (في الآية 24 من سورة ص) ـ كما سيرد شرحه بإذن الله ـ فالأفضل من أن نتعرّض لجانب من حياة هذا النّبي (عليه السلام) كمثال للإنابة والتوبة وإكمال البحث السابق. وهي أيضاً تنبيه لكل من يغمط نعم الله ويتناساها، ويتخلّى عن عبوديته لله عند جلوسه على مسند القدرة والسلطة.

في الآية الاُولى يقول تعالى: (ولقد آتينا داود منّا فضلا).

مفردة «فضل» ذات معنى وسيع، يشمل كلّ المواهب التي تفضّل الله بها على داود، وزادها التنكير سعة ودلّل على عظمة تلك المواهب.

[  399 ]

فقد شُمل داود بالمواهب العظيمة سواء من الناحية المادية أو المعنوية، وقد تعرّض القرآن الكريم مراراً لذكرها.

ففي موضع يقول تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين).(1)

وفي موضع آخر يقول تعالى على لسان داود (ياأيّها الناس عُلِّمنا منطق الطير واُوتينا من كلّ شيء إنّ هذا لهو الفضل المبين).(2)

وسترد ضمن حديثنا حول آخر هذه الآيات، معجزات مختلفة تمثّل جزءاً من هذا الفضل العظيم، وكذلك الصوت الباهر، والقدرة العالية على القضاء العادل التي اُشير إليها في سورة (ص) تمثّل لوناً آخر من ذلك الفضل الإلهي، وأهمّ من ذلك كلّه النبوّة والرسالة التي شُرِّف بها داود.

وعلى كلّ حال، فبعد هذه الإشارة الإجمالية العامّة، تبدأ الآية بشرح وتوضيح جوانب من الفضائل المعنوية والمادية التي تمتّع بها داود، فيقول تعالى: (ياجبال أوّبي معه والطير).

كلمة «أوّبي» في الأصل من «التأويب» بمعنى الترجيع وإعادة الصوت في الحلق. وهذا الأصل يستعمل أيضاً بمعنى «التوبة» لأنّ حقيقتها الرجوع إلى الله.

ومع أنّ كلّ ذرّات الوجود تذكر الله وتسبّح بحمده، سواء أسَبَّحَ داود (عليه السلام) معها أو لم يسبّح، ولكن الميزة التي خُصّ بها داود هي أنّه ما إن يرفع صوته ويبدأ التسبيح، إلاّ ويظهر ما كان خفيّاً وكامناً في الموجودات، وتتبدل الهمهمة الباطنية إلى نغمة علنية منسجمة، كما ورد في الروايات من تسبيح الحصاة في يد الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله).

وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عند ذكره لقصّة داود «إنّه خرج يقرأ الزبور،

______________________________________

1 ـ النمل، 15.

2 ـ النمل، 16.

[  400 ]

وكان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلاّ أجابه»(1).

وبعد ذكر هذه الفضيلة المعنوية، تذكر الآية فضيلة مادية اُخرى فتقول: (وألنّا له الحديد).

يمكن القول، بأنّ الله تعالى علّم داود ـ إعجازاً ـ ما استطاع بواسطته تليين الحديد حتّى يمكنه من صنع أسلاك رقيقة وقوية لنسج الدروع منها، أو أنّه كان قبل داود يستفاد من صفائح الحديد لصناعة الدروع والإفادة منها في الحروب، ممّا كان يسبّب حرجاً وإزعاجاً للمحاربين نتيجة ثقل الحديد من جهة، وعدم قابلية تلك الدروع للإنحناء أو الإلتواء حين إرتدائها، ولم يكن أحدٌ قد إستطاع حتّى ذلك اليوم نسج الدروع من أسلاك الحديد الرفيعة المحكمة، ليكون لباساً يمكن إرتداؤه بسهولة والإفادة من قابليته على التلوّي والإنحناء مع حركة البدن برقّة وإنسياب(2).

ولكن ظاهر الآية يدلّل على أنّ ليونة الحديد تمّت لداود بأمر إلهي، فما يمنع الذي أعطى لفرن النار خاصية إلانة الحديد، أن يعطي هذه الخاصية لداود بشكل آخر، وقد أشارت بعض الروايات أيضاً إلى هذا المعنى.

فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، أنّه قال: «إنّ الله أوحى إلى داود: نعم العبد أنت إلاّ أنّك تأكل من بيت المال، فبكى داود أربعين صباحاً، فألان الله له الحديد، وكان يعمل كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم فعمل ثلاثمائة وستّين درعاً فباعها بثلاثمائة وستّين ألفاً فاستغنى عن بيت المال»(3).

صحيح أنّ بيت المال يؤمّن مصارف الأشخاص الذين يقدّمون خدمة مجانية للاُمّة، ويتحمّلون الأعباء التي لا يتحمّلها غيرهم، ولكن ما أروع أن يستطيع

______________________________________

1 ـ الميزان، ج16، ص367.

2 ـ اُنظر تفسير البرهان، ج3، ص343. وتفسير نور الثقلين، ج4، ص315.

3 ـ مجمع البيان ـ ج8 ص381.

[  401 ]

الإنسان تقديم هذه الخدمة، وتأمين معاشه ـ في حال الإستطاعة ـ من كدّ يمينه، وداود (عليه السلام) أراد أن يكون ذلك العبد الممتاز.

على كلّ حال، فإنّ داود وجّه هذه القدرة التي وهبها إيّاه الله في أفضل الطرق وهي صناعة وسائل الجهاد والدفاع ضدّ الأعداء، ولم يحاول الإستفادة منها في صناعة وسائل الحياة العادية، وعلاوة على الإستفادة من دخله منها في تصريف اُمور حياته المعاشية البسيطة، فقد هيّأ جزءاً منه للإنفاق على المحتاجين(1). وفوق كلّ هذا، فقد كان عمله بحدّ ذاته معجزة إرتبطت به.

نقل بعض المفسّرين قال «حُكي أنّ لقمان حضر داود عند أوّل درع عملها فجعل يتفكّر فيها ولا يدري ما يريد، ولم يسأله حتّى فرغ منها ثمّ قام فلبسها وقال: نعم جُنة الحرب هذه. فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله!»(2).

الآية التي بعدها تتعرّض لشرح صناعة داود للدروع والأمر الإلهي العميق المعنى بهذا الخصوص. يقول تعالى: (أن اعمل سابغات وقدّر في السرد).

«سابغات»: جمع (سابغ) وهو الدرع التامّ الواسع، و«إسباغ النعمة» أيضاً بمعنى توسيعها.

«سرد»: في الأصل بمعنى حياكة ما يخشن ويغلظ كنسج الدرع وخرز الجلد، واستعير لنظم الحديد. وجملة (وقدّر في السرد) معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها. وفي الواقع فإنّ الله تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقّة في العمل من حيث الكمّ والكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها إستعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها.

يقول تعالى لداود: أن اصنع الدروع واسعة ومريحة، حتّى لا تكون سجناً

______________________________________

1 ـ راجع تفسير أبو الفتوح الرازي، ج9، ص192.

2 ـ مجمع البيان، ج8، ص382.

[  402 ]

للمقاتل وقت إرتدائها .. لا تجعل حلقاتها صغيرة وضيّقة أكثر من اللازم فتفقد بذلك خاصيّة الإنثناء والتطوّي، ولا كبيرة إلى درجة يمرّ منها حدّ السيف والخنجر والسنان، فكلّ شيء يجب أن يكون ضمن مقياس معيّن وتناسب محدّد.

الخلاصة: هي أنّ الله تعالى قد قيّض لداود «المادّة» بمقتضى (وألنّا له الحديد).

وكذلك علّمه بطريقة تحويلها وصناعتها، حتّى يكون الناتج كاملا بإجتماع «المادّة» و «الصورة».

ثمّ تُختم الآية بخطاب لداود وأهل بيته (واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون بصير).

ويلاحظ أنّ المخاطب كان في صدر الآية داود وحده، بيننما تحوّل الخطاب في آخر الآية ليشمل داود وأهل بيته أو داود وقومه، ذلك لأنّ هذه الاُمور مقدّمة للعمل الصالح، فالهدف ليس صناعة الدروع وتحقيق الربح، بل إنّ ذلك كلّه وسيلة في المسير باتّجاه العمل الصالح. وليستفيد أيضاً داود وأهل بيته. وإحدى خصائص العمل الصالح هي مراعاة الدقّة الكافية في الصناعات من كلّ الجوانب وتقديم نتاج كامل ومفيد خال من أي عيب أو تقصير.

ومن المحتمل أيضاً أن يكون الخطاب لداود وكلّ من تحقّقت له الإستفادة من جهده ونسيجه، إشارة إلى أنّ هذه الوسيلة الدفاعية ينبغي أن تستخدم في طريق العمل الصالح، وليس في طريق المعاصي والجور والظلم.

 

* * *

[  403 ]

 

 

الآيات

 

وَلِسُلَيْمَـنَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ(12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَـرِيبَ وَتَمَـثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ وَقُدُورِ رَّاسِيَـت اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ(13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْه الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاَْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14)

 

التّفسير

هيبة سليمان وموته العبرة!!

بعد الحديث عن المواهب التي أغدق الله بها على داود (عليه السلام) تنتقل الآيات إلى الحديث عن إبنه سليمان (عليه السلام)، وفي حين أنّ الآيات السابقة أشارت إلى موهبتين تخصّان داود، فهذه الآيات تشير إلى ثلاث مواهب عظيمة خُصّ بها إبنه

[  404 ]

سليمان(عليه السلام) يقول تعالى: (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر)(1).

الملفتُ هنا أنّ الله تبارك وتعالى حينما سخّر للأب جسماً خشناً وصلباً جدّاً وهو الحديد، نرى أنّه قد سخّر للإبن موجوداً لطيفاً للغاية، ولكنّ العملين كانا نافعين وإعجازيين، جسم صلب يلين لداود، وأمواج الهواء اللطيفة تجعل محكمة وفعّالة لسليمان!!

ولطافة الريح لا تمنع من أدائه أعمال هامّة، فمن الرياح ما يحرّك السفن الكبيرة على ظهر المحيطات، ومنها ما يدير أحجار الطاحونات الهوائية الثقيلة، ومنها ما يرفع البالونات إلى عنان السماء ويحرّكها كالطائرات.

نعم، هذا الجسم اللطيف بهذه القدرة الإيجابية سُخّر لسليمان.

أمّا كيف تحمل الريح مقعد سليمان، (سواء أكانت كرسياً أم بساطاً)؟ فليس بواضح لنا. والقدر المتيقّن هو أن لا شيء يمثّل مشكلة أو عقبة أمام قدرة الله، لقد إستطاع الإنسان بقدرته ـ الحقيرة أمام قدرة الله ـ أن يحرّك البالونات والطائرات التي تحمل مئات بل آلاف المسافرين والأحمال الاُخرى في عنان السماء، فهل أنّ تحريك بساط سليمان بواسطة الريح يشكّل أدنى مشكلة للباري جلّت قدرته!؟

ما هي العوامل التي تحفظ سليمان ووسيلة نقله من السقوط أو من ضغط الهواء والمشكلات الاُخرى الناشئة من الحركة في السماء؟ هذه أيضاً من المسائل التي خفيت عنّا تفصيلاتها. ولكن ما نعلمه أنّ تأريخ الأنبياء حافل بخوارق العادة والتي ـ مع الأسف ـ إمتزجت نتيجة جهود بعض الجهلة أو أعداء المعرفة بالخرافات حتّى أضحت الصورة الحقيقية لهذه الاُمور مشوشة وقبيحة، ونحن

______________________________________

1 ـ «لسليمان» جار ومجرور متعلّق بفعل مقدّر تقديره «سخّرنا» كما يفهم بقرينة الآيات السابقة، وقد صُرّح بذلك في الآية (36) من سورة ص. التي قال فيها سبحانه وتعالى: (فسخّرنا له الريح). وبعض المفسّرين يعتقد بأنّ (اللام) في (لسليمان) للتخصيص، إشارةً إلى أنّ المعجزة إختصّ بها سليمان ولم يشاركه فيها أحد من الأنبياء.

[  405 ]

نقتنع بهذا الخصوص بالمقدار الذي أشار إليه القرآن الكريم.

«غدو»: بمعنى وقت الصبح من النهار، يقابله «الرواح» بمعنى وقت الغروب من النهار، ويطلق على الحيوانات عند عودتها إلى مساكنها في آخر النهار للإستراحة، ويبدو من القرائن في الآية مورد البحث أنّ «الغدو» هنا بمعنى النصف الأوّل من النهار، و «الرواح» النصف الثّاني منه، لذا يحتمل في معنى الآية أنّ سليمان (عليه السلام)يقطع في وقت مقداره من الصبح إلى الظهر ـ بمركبه ـ ما يعادل المسافة التي يقطعها المسافرون في ذلك الزمان بشهر كامل، وكذا نصف النهار الثاني.

بعدئذ تنتقل الآية إلى الموهبة الثّانية التي خصّ الله بها سليمان (عليه السلام) فتقول الآية الكريمة: (وأسلنا له عين القطر).

«أسلنا» من مادّة «سيلان» بمعنى الجريان، و «القطر» بمعنى النحاس، والمقصود أنّنا أذبنا له هذا الفلز وجعلناه كعين الماء، وذهب البعض إلى أنّ «القطر» يعني أنواع الفلزات أو «الرصاص»، وعلى هذا يكون قد اُلين الحديد للأب، واُذيبت الفلزات بأجمعها للابن، ولكن المشهور هو المعنى الأوّل.

كيف يكون النحاس أو الفلزات الاُخرى كعين الماء بين يدي سليمان (عليه السلام)؟ هل أنّ الله علّم هذا النّبي كيفية إذابة هذه الفلزات بكميات كبيرة بطريقة الإعجاز؟ أو جعل عيناً من هذا الفلز المائع تحت تصرفه، تشبه عيون البراكين وقت فعاليتها، حيث تنحدر منها على أطراف الجبل بصورة إعجازية، أو بأي شكل آخر؟ ليس واضحاً لدينا وما نعلمه هو أنّ ذلك أيضاً كان من الألطاف الإلهية على هذا النّبي العظيم.

أخيراً تنتقل الآية إلى بيان الموهبة الإلهية الثالثة لسليمان (عليه السلام) وهي تسخير مجموعة كبيرة من الجنّ لخدمته فتقول الآية: (ومن الجنّ من يعمل بين يديه بإذن ربّه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير).

«الجنّ»: وكما هو معلوم من إسمه، ذلك المخلوق المستور عن الحسّ البشري،

[  406 ]

له عقل وقدرة ومكلّف بتكاليف إلهية ـ كما يستفاد من آيات القرآن ـ .

لقد صيغت حول «الجنّ» أساطير وحكايات وقصص خرافية كثيرة، لو حذفناها لكان أصل وجودهم والصفات الخاصّة بهم التي وردت في القرآن موضوعاً لا يخالف العلم والعقل مطلقاً، وسوف نتعرّض إن شاء الله لتفصيل هذا الموضوع أكثر عند تفسير سورة «الجنّ».

وعلى كلّ حال، يستفاد من تعبير الآية أعلاه، أنّ تسخير هذه القوّة العظيمة كان ـ أيضاً ـ بأمر الله، وأنّهم كانوا يتعرّضون للعقاب لدى تقصيرهم في أداء مهامهم.

قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من «عذاب السعير» هنا، عقوبة يوم القيامة، في حين أنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّها عقوبة في الدنيا.

وكذلك يستفاد من الآيات 37 و38 من سورة «ص» بأنّ الله قد سخّر لسليمان(عليه السلام) مجموعة من الشياطين لإنجاز أعمال عمرانية هامّة له، وأنّهم كانوا يكبّلون بالسلاسل بأمر من سليمان عند ظهور أي تخلّف منهم (والشياطين كلّ بنّاء وغواص وآخرين مقرنين بالأصفاد).

والجدير بالملاحظة. هو أنّه لإدارة حكومة كبيرة، ودولة واسعة كدولة سليمان يلزم وجود عوامل عديدة، ولكن أهمّها ثلاثة عوامل ذكرتها الآية أعلاه وهي:

الأوّل: توفّر واسطة نقل سريعة مهيّأة على الدوام، لكي يستطيع رئيس الحكومة تفقّد جميع أطراف دولته بواسطتها.

الثاني: مواد أوّلية يستفاد منها لصناعة المعدّات اللازمة لحياة الناس والصناعات المختلفة.

الثالث: قوّة عاملة فعّالة، تستطيع الإفادة من تلك المواد بدرجة مناسبة، وتصنيعها بالكيفية اللازمة، وسدّ حاجة البلاد من هذه الجهة.

ونرى أنّ الله تعالى قد قيّض لسليمان هذه العناصر الثلاثة، وقد حقّق سليمان منها أحسن الفائدة في ترقية الناس وتعمير البلاد وتحقيق الأمن فيها.

[  407 ]

وهذا الموضوع لا يختّص فقط بعصر سليمان (عليه السلام) وحكومته، فالإلتفات إليه ومراعاته من الضروريات اليوم وغداً، وفي كلّ مكان لأجل إدارة الدول بطريقة صحيحة.

الآية التالية، تشير إلى جانب من الأعمال الإنتاجية الهامّة، التي كان يقوم بها فريق الجنّ بأمر سليمان.

يقول تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).

فكلّ ما أراده سليمان من معابد وتماثيل وأواني كبيرة للغذاء والتي كانت كالأحواض الكبيرة، وقدور واسعة ثابتة، كانت تهيّأ له، فبعضها يرتبط بالمسائل المعنوية والعبادية، وبعضها الآخر يرتبط بالمسائل الجسمانية، وكانت متناسبة مع أعداد جيشه وعمّاله الهائلة.

«محاريب» جمع محراب، ويعني «مكان العبادة» أو «القصور والمباني الكبيرة» التي بنيت كمعابد. كذلك اُطلقت أيضاً على صدر المجلس، وعندما بُنيت المساجد سمّي صدر المسجد به، قيل: سمّي محراب المسجد بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والهوى(1). وقيل: سمّي بذلك لأنّ الإنسان فيه يكون حريباً من أشغال الدنيا ومن توزّع الخواطر(2).

على كلّ حال، فإنّ هؤلاء العمّال النشطين المهرة، قاموا ببناء المعابد الضخمة والجميلة في ظلّ حكومته الإلهية والعقائدية، حتّى يستطيع الناس أداء وظائفهم العبادية بسهولة.

«تماثيل»: جمع تمثال، بمعنى الرسم والصورة والمجسمة، وقد وردت تفاسير عديدة حول ماهية هذه التماثيل ولأي الموجودات كانت؟ أو لماذا أمر سليمان

______________________________________

1 ـ مفردات الراغب، مادّة (حرب).

2 ـ المصدر السابق.

[  408 ]

بصنعها؟.

يمكن أن تكون صنعت لتزيين المباني، كما نلاحظ ذلك في المباني المهمّة القديمة في عصرنا الحالي، أو حتّى في بعض المباني الجديدة.

أو لإضفاء الاُبّهة والهيبة على المباني التي بنيت، حيث أنّ رسم بعض أنواع الحيوانات كالأسد مثلا يضفي نوعاً من الاُبّهة في أفكار غالبية الناس.

ثمّ، هل كان صنع تماثيل ذوات الأرواح مباحاً في شريعة سليمان (عليه السلام) مع كونه حراماً في الشريعة الإسلامية؟ أو أنّ التماثيل التي كانت تصنع لغير ذوات الروح من الموجودات كالأشجار والجبال والشمس والقمر والنجوم؟

أو أنّها كانت مجرّد نقوش ورسوم على الجدران ـ كما تلاحظ في الآثار القديمة ـ وهي غير محرّمة كما هو الحال في حرمة التماثيل المجسّمة.

كلّ ذلك محتمل، لأنّ تحريم صناعة المجسّمات في الإسلام، كان بقصد مكافحة قضيّة عبادة الأوثان وإقتلاعها من الجذور، في حين أنّ ذلك لم يكن بتلك الدرجة من الضرورة في زمن سليمان، لذا لم تحرم في شريعته!

ولكنّنا نقرأ في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه»(1).

وبالإستناد إلى هذه الرّواية فإنّ صنع التماثيل من ذوات الروح في شريعة سليمان كان حراماً أيضاً.

«جفان» جمع «جفنة» بمعنى إناء الطعام.

«جوابي» جمع «جابية» بمعنى حوض الماء.

وهنا يستفاد أنّ المقصود من التعبير الوارد في الآية الكريمة، أنّ هؤلاء العمّال قد صنعوا لسليمان (عليه السلام) أواني للطعام كبيرة جدّاً، بحيث أنّ كلاًّ منها كان كالحوض،

______________________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج12، ص219 ـ 220، ب94، ح1.

[  409 ]

لكي يستطيع عدد كبير من الأفراد الجلوس حوله وتناول الطعام منه. والإستفادة من الأواني الجماعية الكبيرة لتناول الطعام كانت موجودة إلى أزمنة ليست بالبعيدة. وفي الحقيقة فإنّ مائدتهم كانت تلك الأواني الكبيرة التي لا تشبه ما نستعمله هذه الأيّام من أوان صغيرة ومستقلّة.

«قدور»: جمع «قدر» على وزن «قشر». بنفس معناه الحالي، أي الإناء الذي يطبخ فيه الطعام.

«راسيات»: جمع «راسية» بمعنى ثابتة، والمقصود أنّ القدور كانت من العظمة بحيث لا يمكن تحريكها من مكانها.

وتعرج الآية في الختام وبعد ذكر هذه المواهب الإلهية، إلى آل داود فتخاطبهم: (اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور).

وبديهي أنّ (الشكر) الذي أشارت إليه الآية، لو كان مقصوداً به الشكر باللسان لما كانت هناك أدنى مشكلة ولمّا كان العاملون به قليلين، ولكن المقصود هو (الشكر العملي). أي الإستفادة من تلك المواهب في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها. والمسلّم به أنّ الذين يستفيدون من المواهب الإلهية في طريق الأهداف التي خلقت لأجلها هم الندرة النادرة.

قال بعض العلماء: إنّ للشكر ثلاثة مراحل: الشكر بالقلب، بتصوّر النعمة والرضى والسرور بها. والشكر باللسان، وبالحمد والثناء على المنعم. الشكر بسائر الأعضاء والجوارح، وذلك بتطبيق الأعمال مع متطلّبات تلك النعمة.

«شكور»: صيغة مبالغة. يعبّر بها عن كثرة الشكر ودوامه بالقلب واللسان والأعضاء والجوارح.

وهذه الصفة تطلق أحياناً على الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الآية (17) من سورة التغابن: (إنّه سكور حليم). والمقصود به أنّ الله سبحانه وتعالى، يشمل العباد المطيعين بعطاياه وألطافه، ويشكرهم، ويزيدهم من فضله أكثر ممّا

[  410 ]

يستحقّون.

كذلك يمكن أن يكون التعبير بـ (قليل من عبادي الشكور) إشارة إلى تعظيم مقام هذه المجموعة النموذجية، أو بمعنى حثّ المستمع ليكون من أفراد تلك الزمرة ويزيد جمع الشاكرين.

آخر آية من هذه الآيات، وهي آخر حديث عن النّبي سليمان (عليه السلام)، يخبرنا الله سبحانه وتعالى فيها بطريقة موت ذلك النّبي العجيبة والداعية للإعتبار، فيوضّح تلك الحقيقة الساطعة، وهي كيف أنّ نبيّاً بتلك العظمة وحاكماً بكلّ تلك القدرة والاُبّهة، لم يستطع حين أخذ الموت بتلابيبه من أن يستلقي على سرير مريح، وإنتزعت روحه من بدنه بتلك السهولة والسرعة. يقول تعالى: (فلمّا قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابة الأرض تأكل منسأته)(1).

يستفاد من تعبير الآية ومن الروايات المتعدّدة الواردة في تفسيرها، أنّ سليمان كان واقفاً متّكئاً على عصاه حين فاجأه الموت واستلّ روحه من بدنه، وبقي جثمان سليمان مدّة على حالته، حتّى أكلت الأُرضةُ ـ التي عبّر عنها القرآن بـ «دابّة الأرض» ـ عصاه، فاختلّ توازنه وهوى على الأرض، وبذا عُلم بموته.

لذا تضيف الآية بعد ذلك (فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين).

جملة «تبيّنت» من مادّة «بيّن» عادةً بمعنى (اتّضح) (وهو فعل لازم). وأحياناً يأتي أيضاً بمعنى «العلم والإطلاع» (فعل متعد). وهنا يتناسب الحال مع المعنى الثاني. بمعنى أنّ الجنّ لم يعلموا بموت سليمان إلى ذلك الوقت، ثمّ علموا وفهموا أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب لما بقوا حتّى ذلك الحين في تعب وآلام الأعمال

______________________________________

1 ـ «منسأته»: من مادّة (نسأ) وهو التأخير في الوقت، والمنسأة: عصا يُنسأ بها الشيء، أي يؤخّر. قال بعض المفسّرين: إنّ هذه اللفظة من كلمات أهل اليمن، وبما أنّ سليمان (عليه السلام) حكم تلك المنطقة فقد إستخدمها القرآن حين حديثه عن ذلك النّبي. راجع مفردات الراغب وتفسير القرطبي وروح البيان.

[  411 ]

الشاقّة التي كلّفوا بها.

جمع من المفسّرين أخذ المعنى بالحالة الاُولى، وقال: إنّ مقصود الآية هو أنّه بعد أن هوى جثمان سليمان (عليه السلام) إلى الأرض اتّضحت حقيقة الجنّ للناس، وأنّهم  لا يعلمون شيئاً من الغيب، وعبثاً كان إعتقاد البعض بإطّلاع الجنّ على الغيب(1).

(العذاب المهين) هذا التعبير قد يكون إشارة إلى الأعمال الشاقّة التي كان سليمان (عليه السلام) يعهد بها إلى مجموعة من الجنّ كنوع من العقاب، وإلاّ فإنّ نبيّ الله  لا يمكن أن يضع أحداً في العذاب عبثاً، وهو على ما يبدو عذاب مذلّ.

* * *

 

بحوث

1 ـ صور من حياة سليمان (عليه السلام):

على عكس «التوراة» الموجود اليوم والتي صوّرت «سليمان» أحد السلاطين الجبابرة وباني معابد الأوثان الضخمة ومستهتر النساء ـ يعدّ القرآن الكريم «سليمان» من أنبياء الله العظام ونموذج للحكومة والقدرة المنقطعة النظير، وقد أعطى القرآن الكريم بعرضه البحوث المختلفة المتعلّقة بسليمان دروساً للبشر هي الأساس من ذكر قصّته.

قرأنا في هذه الآيات الكريمة، أنّ الله تعالى أعطى لهذا الرّسول العظيم مواهب عظيمة، فمن وسيلة النقل السريعة جدّاً والتي إستطاع بواسطتها التنقّل في مملكته الواسعة في مدّة قصيرة، إلى المواد المعدنية المختلفة الكثيرة، إلى القوى العاملة الفعّالة الكافية لتصنيع تلك المعادن.

______________________________________

1 ـ في الحالة الاُولى يكون إعراب الآية كما يلي: «تبيّنت» فعل و «الجنّ» فاعل وجملة «أن لو كانوا ...» في محلّ مفعول به، وفي الحالة الثّانية «تبيّنت» فعل و «أمر الجنّ» فاعل ثمّ حذف المضاف وأصبح «المضاف إليه» في محلّه، وأن لو كانوا ... بيان وتوضيح للجملة.

[  412 ]

وقد قام سليمان (عليه السلام) بالإستفادة من المواهب المذكورة، ببناء المعابد الضخمة، وترغيب الناس بالعبادة، وكذلك فقد نظّم برامج واسعة لإستضافة أفراد جيشه وعمّاله وسائر الناس في مملكته. ومن الأواني التي مرّ ذكرها يمكننا تخيّل أكثر من ذلك.

وفي قبال ذلك طالبه الله تعالى بأداء الشكر على هذه النعم، مع تأكيده سبحانه على أنّ أداء شكر النعم يتحقّق من فئة قليلة نادرة.

ثمّ اتّضح كيف أنّ رجلا بكلّ هذه القدرة والعظمة كان أمام الموت ضعيفاً  لا حول له ولا قوّة، بحيث فارق الدنيا فجأةً وفي لحظة واحدة. نعم .. كيف أنّ الأجل لم يعطه حتّى فرصة الجلوس أو الإستلقاء على سريره. ذلك حتّى لا يتّوهم المغرورون العاصون حينما يبلغون مقاماً أو منصباً أن قد أصبحوا مقتدرين حقيقة، فإنّ المقتدر الحقيقي الذي كان الجنّ والإنس والشياطين خدماً بين يديه، والذي كان يجول في الأرض والسماء وقد بلغ قمّة الهيبة والحشمة .. ثمّ في لحظة قصيرة فارق الدنيا.

وإتّضح كذلك كيف أنّ عصاً تافهةً، أقامت جثمانه مدّة، وجعلت الجنّ يعملون بجد وإجتهاد وهم يلحظون جثمانه الواقف أو الجالس. ثمّ كيف أسقطته الأرضة على الأرض، وكيف إضطربت بسقوطه الدولة بكلّ مسؤوليها. نعم، عصاً تافهة أقامت دولةً عظيمة، ثمّ حشرة صغيرة أوقفت تلك الدولة!!

الجميل هو ما ورد في الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) إذ قال: «أمر سليمان بن داود الجنّ فصنعوا له قبّة من قوارير فبينا هو متكيء على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبّة قال له: من أنت، قال: أنا الذي لا أقبل الرشا ولا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه وهو قائم متكيء على عصاه في القبّة والجنّ ينظرون إليه. قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتّى بعث الله عزّوجلّ الأرضة فأكلت منسأته ـ وهي العصا ـ فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ

[  413 ]

أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين» الحديث(1).

ويجب أن نذكّر هنا أيضاً، بأنّ قصّة النّبي سليمان (عليه السلام) ككثير من قصص الأنبياء، إختلطت مع الأسف بروايات كثيرة موضوعة وخرافات شوّهت صورة هذا النّبي العظيم، وأكثر هذه الخرافات أخذت من التوراة الرائجة اليوم، ولو إقتنعنا بما ورد في القرآن الكريم حول هذا النّبي لما واجهتنا أيّة مشكلة.

 

2 ـ لماذا خفي موت سليمان مدّة من الزمن؟

كم هي المدّة التي ظلّ فيها موت سليمان مخفياً عن حكومته، هل كانت سنة، أم شهراً، أم عدّة أيّام؟ إختلف المفسّرون حول هذا الموضوع.

هل أنّ الكتمان كان من قبل مقربيه الذين قصدوا من وراء ذلك تمشية اُمور الدولة، أم أنّهم هم الآخرون قد خفي عليهم ذلك؟

يبدو من المستبعد تماماً أن يخفى أمر وفاته عن حاشيته لمدّة طويلة، لا بل حتّى لأكثر من يوم واحد، لأنّ من المسلّم أنّ هناك أفراداً كانوا مكلّفين بإيصال إحتياجاته وغذائه إليه، وهؤلاء سيعلمون بموته حتماً، وعليه فلا يستبعد ـ كما قال بعض المفسّرين ـ أنّهم علموا بأمر موته، لكنّهم أخفوا ذلك الأمر لغايات معيّنة، لذا فقد ورد في بعض الروايات بأنّ «آصف بن برخيا» وزير سليمان الخاص، هو الذي كان يدير اُمور الدولة.

ألم تشكّل مسألة عدم تناول الطعام والماء لمدّة طويلة تساؤلا لدى ناظريه؟

مع اليقين بأنّ كلّ أعمال سليمان (عليه السلام) كانت عجيبة، فيمكن إعتبار هذه المسألة من عجائبه أيضاً، وحتّى أنّه ورد في بعض الروايات أنّه بعد مدّة من بقاء سليمان(عليه السلام) على حاله كثر الهمس بين البعض في وجوب عيادة سليمان، لأنّه على

______________________________________

1 ـ علل الشرائع، طبقاً لنقل الميزان، ج16، ص366.

[  414 ]

حاله منذ مدّة لم يتحرّك ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم(1). ولكن حينما تحطّمت العصا، وسقط الجثمان على الأرض تبدّدت كلّ هذه الأفكار والأوهام.

على كلّ حال، فإنّ تأخير إعلان موت سليمان (عليه السلام) كشف كثيراً من الاُمور:

1 ـ اتّضح للجميع أنّ الإنسان حتّى إذا بلغ أوج القدرة والقوّة، فلا يزال هو الموجود الضعيف قبال الحوادث، كالقشّة في خضمّ الطوفان يتقاذفها في كلّ جانب.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) في إحدى خطبه «فلو أنّ أحداً يجد إلى البقاء سلماً أو لدفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود (عليهما السلام) الذي سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة»(2).

2 ـ اتّضح للجميع أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب، والمغفّلين من البشر الذين كانوا يعبدونهم كانوا على خطأ فادح.

3 ـ اتّضحت لجميع الناس أيضاً حقيقة إمكان أن يرتبط نظام دولة بموضوع صغير، بوجوده يمكن أن يقوم هذا النظام، وبإنهياره ينهار هذا النظام، ومن وراء ذلك تجلّت القدرة اللا متناهية للباري عزّوجلّ.

 

3 ـ سليمان في القرآن والتوراة الحالية

يصوّر القرآن سليمان بصورة نبي عظيم، ذي علم وافر، وتقوى عالية، لم يأسره المقام والمال أبداً، مع كلّ ما كان له من سلطة في حكومة عظيمة، وقال حينما أرسلت ملكة سبأ ـ لخداعه ـ هدايا نفيسة وثمينة (أتمدونن بمال فما آتاني الله خير

______________________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج3، ص345.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 182.

 ]415 ]

ممّا آتاكم)(1) لم يكن لهم من هم سوى أداء الشكر لله على نعمه (وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي ...)(2).

قائد لم يسمح بظلم نملة حينما قالت وهم في وادي النمل: (ياأيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)(3).

كان «عابداً» إذا غفل عن ذكر ربّه أو شغل بالدنيا عاد منيباً وهو يقول: (إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي ..)(4).

كان «حكيماً» لم يجانب المنطق في قول، حتّى في حديثه مع الهدهد، لم يتخلّ عن الحقّ والعدالة.

كان «حاكماً» له من المعاونين من له من علم الكتاب ما استطاع به إحضار عرش بلقيس في أقلّ من طرفة عين.

وقد وصفه القرآن الكريم بـ «الأوّاب» و «نعم العبد».

شخص أعطاه الله «الحكم» و «العلم» وشمله بهدايته، ولم يشرك بالله طرفة عين أبداً.

لكنّنا نجد أنّ التوراة الحالية المحرّفة، قد لوّثت صفحة هذا النّبي العظيم بالشرك وغيره، فقد نسبت إليه أسوأ الأوصاف فيما يخصّ بناء المعابد الوثنية، والترويج لعبادة الأوثان، والولع المفرط بالنساء، وتعبيرات قبيحة جدّاً من أوصاف العشّاق المبتذلين، التي نخجل عن ذكرها.

ونكتفي بذكر بعض ما ورد في التوراة من الأساطير الأهون قبحاً، ففي الكتاب الأوّل للملوك من التوراة نقرأ ما يلي:

______________________________________

1 ـ النمل، 36.

2 ـ النمل، 19.

3 ـ النمل ـ 18.

4 ـ سورة ص، 32.

[  416 ]

«وأولع سليمان بنساء غريبات كثيرات فضلا عن إبنة فرعون، فتزوّج نساء موآبيات وعمّونيّات وأدوميات وصيدونيات وحثيات، وكلّهنّ من بنات الاُمم التي نهى الربّ بني إسرائيل عن الزواج منهنّ قائلا لهم: «لا تتزوّجوا منهم ولا هم منكم لأنّهم يغوون قلوبكم وراء آلهتهم» ولكن سليمان التصق بهنّ لفرط محبّته لهنّ، فكانت له سبع مائة زوجة، وثلاث مئة محضية، فانحرفن بقلبه عن الربّ فاستطعن في زمن شيخوخته أن يغوين قلبه وراء آلهة اُخرى، فلم يكن قلبه مستقيماً مع الربّ إلهه كقلب داود أبيه، وما لبث أن عبد عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم إله العمونيين البغيض، وإرتكب الشرّ في عيني الربّ، ولم يتّبع سبيل الربّ بكمال كما فعل أبوه داود، وأقام على تلّ شرقي اورشليم مرتفعاً تكموش إله الموآبيين الفاسق. ولمولك إله بني عمون البغيض، وشيّد مرتفعات لجميع نسائه الغربيات، اللواتي رحن يوقدن البخور عليها، ويقربن المحرّقات لآلهتهنّ فغضب الربّ على سليمان لأنّ قلبه ضلّ عنه مع أنّه تجلّى له مرّتين ونهاه عن الغواية وراء آلهة اُخرى، فلم يطع وصيّته، لهذا قال الله لسليمان! لأنّك إنحرفت عنّي ونكثت عهدي، ولم تطع فرائضي التي أوصيتك بها، فانّي حتماً اُمزّق أوصال مملكتك واُعطيها لأحد عبيدك، إلاّ أنّني لا أفعل ذلك في أيّامك، من أجل داود أبيك، بل من يد إبنك اُمزّقها، غير أنّي اُبقي له سبطاً واحداً يملك عليه إكراماً لداود عبدي ...»(1).

ومن مجموع هذه القصّة الخرافية للتوراة يتّضح ما يلي:

1 ـ إنّ سليمان كان يحبّ كثيراً النساء الوثنيات، وتزوّج بكثير منهنّ على خلاف أوامر الله تعالى، وتدريجيّاً مال إلى دينهنّ، وبالرغم من كثرة نسائه (700 زوجة و300 محضية) فانّ حبّه لهنّ أدّى إلى إنحرافه عن طريق الحقّ (نعوذ بالله).

______________________________________

1 ـ التوراة كتاب الملوك الأوّل ـ الفصل 11 ـ 12 ـ زوجات سليمان.

[  417 ]

2 ـ إنّ سليمان أمر بصراحة ببناء معابد للأوثان فوق الجبل المقابل لأورشليم المركز الديني المقدّس لبني إسرائيل، وأحد المعابد كان لصنم «كموش» الذي يعبده الموآبيون، والآخر لصنم «عشترون» الذي كان يعبده الصيداويون. وكلّ ذلك حدث في أيّام شيخوخته.

3 ـ إنّ الله تعالى قرّر عقوبة سليمان بسبب إنحرافه وذنوبه الكبيرة بأن يفقد مملكته، ولكن لا من يده، بل من يد إبنه «رحبعام» ويتركه إلى آخر عمره يلعب ويعبث كيفما شاء من أجل أبيه داود العبد المخلص، أي ذلك العبد الذي تقول التوراة عنه انّه إرتكب قتل النفس وزنا المحصنة والإستيلاء على زوجة قائد جيشه المتفاني!! فهل يمكن تصديق مثل هذه التّهم ضدّ رجل مقدّس مثل سليمان؟!

ولو فرضنا أنّ سليمان لم يكن نبيّاً ـ كما يصرّح القرآن بذلك ـ وقلنا بأنّه من ملوك بني إسرائيل، فمع ذلك لا يمكن تصديق مثل هذه التّهم في حقّه، لأنّه لو لم يكن نبيّاً فلا أقل من أنّ مرتبته كانت تالية لمرتبة النّبي، لأنّ له كتابين من كتب العهد القديم أحدها يدعى: «مواعظ سليمان» والآخر «أشعار سليمان».

وأساساً كيف يجيب اليهود والنصارى الذين يعتقدون بهذه التوراة الحالية على هذه الأسئلة والإشكالات؟ وكيف يتسنّى لهم قبول مثل هذه الفضائح؟!

 

4 ـ وقليل من عبادي الشكور

قبل كلّ شيء يلزم البحث في الأصل اللغوي لكلمة «شُكر».

الراغب الأصفهاني يقول في مفرداته، الشكر: تصوّر النعمة وإظهارها، قيل وهو مقلوب عن «الكشر» أي الكشف، ويضادّه الكفر، وهو نسيان النعمة وسترها، «ودابة شكور» مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها. وقيل أصله عين شكرى، أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الإمتلاء من ذكر المنعم عليه.

[  418 ]

والشكر ثلاثة أضرب: شكر القلب، وهو تصوّر النعمة. وشكر اللسان، وهو الثناء على المنعم، وشكر سائر الجوارح، وهو مكافأة النعمة بقدر إستحقاقها.

التعبير القرآني في الآية (اعملوا آل داود شكراً) يشير إلى أنّ الشكر أكثر من مقولة، إنّه «عمل»، ويجب أن يظهر من بين أعمال الإنسان، وعليه فقد يكون القرآن الكريم قد عدّ الشاكرين الحقيقيين قلّة لهذا السبب. وفضلا عمّا ورد في هذه الآيات فإنّ في الآية (23) من سورة الملك، ذكر بعد تعداد بعض النعم الإلهية العظيمة، كخلق السمع والبصر والقلب، ذكر (قليلا ما تشكرون)، وكذا في الآية (73) من سورة النمل ورد (ولكن أكثرهم لا يشكرون). هذا من جانب.

ومن جانب آخر فمع الإلتفات إلى أنّ الإنسان غارق من رأسه حتّى أخمص قدميه بنعم الله التي لا تعدّ ولا تحصى، كما عبّر عن ذلك القرآن الكريم (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) يتّضح لماذا يمتنع الشكر كما ينبغي لله قبال جميع النعم التي أفاضها الباري جلّ وعلا.

بتعبير آخر، وكما ورد على لسان بعض كبار المفسّرين، فإنّ «الشكر المطلق»، هو أن يكون الإنسان على ذكر دائم لله بلا أدنى نسيان، سائراً في طريقه تعالى بدون أيّة معصية، طائعاً لأوامره بلا أدنى لفّ أو دوران، ومسلّم بأنّ هذه الأوصاف لا تجتمع إلاّ في القلّة النادرة، ولا يصغى إلى قول من يقول: إنّه أمر بما لا يطاق، فإنّه ناشىء من قلّة التدبّر في هذه الحقائق والبعد من ساحة العبودية(1).

قد يقال: إنّ أداء حقّ الشكر لله سبحانه وتعالى قضيّة معقّدة بلحاظ إنّه في الوقت الذي يقف فيه الإنسان في مقام الشكر ويوفّق لذلك، بأن تتوفّر لديه أسباب أداء الشكر، فإنّ ذلك بحدّ ذاته نعمة جديدة تحتاج إلى شكر آخر، وبذا يستمرّ هذا الموضوع بشكل متتابع، وكلّما بذل الإنسان جهداً أكثر في طريق الشكر سيكون مشمولا بنعمة متزايدة لا يمكنه معها أداء شكرها. لكن إذا إنتبهنا أنّ أحد طرق أداء

______________________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج4، ص38.

[  419 ]

الشكر لله هو بإظهار العجز عن أدائه كما بيّن القرآن الكريم يتّضح حقيقة قلّة الشاكرين وملاحظة الأحاديث التالية تساعد في توضيح هذا المطلب.

فعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبدالله الصادق (عليه السلام): هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: «نعم» قلت: ما هو؟ قال: يحمد الله على كلّ نعمة عليه في أهل ومال، وإن كان فيما أنعم عليه في ماله حقّ أدّاه»(1).

وعن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «شكر النعمة إجتناب المحارم»(2).

وعن الإمام أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) أيضاً قال: «فيما أوحى الله عزّوجلّ إلى موسى (عليه السلام): ياموسى أشكرني حقّ شكري، فقال: ياربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلاّ وأنت أنعمت به عليّ؟ قال: ياموسى الآن شكرتني حين علمت أنّ ذلك منّي»(3).

نلفت النظر كذلك إلى أنّ شكر الإنسان الذي يكون وسيلة للنعمة لشخص آخر، هو شعبة من شكر الله، وكما ورد عن علي بن الحسين السجّاد (عليه السلام) قوله: إنّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ويحبّ كلّ عبد شكور، يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك ياربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشكركم لله أشكركم للناس»(4).

وفيما يخصّ موضوع (حقيقة الشكر) وكيف يكون الشكر سبباً في زيادة النعمة، وكيف يكون الكفر سبباً في ذهابها وفنائها، هناك شرح مفصّل في تفسير الآية السابعة من سورة إبراهيم.

* * *

______________________________________

1 ـ الكافي، ج2، باب الشكر، ص95، ح12 و ح10.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ الكافي، ج2، باب الشكر، ص98، ح27.

4 ـ الكافي، ج2، باب الشكر، ص99، ح30.

[  420 ]

 

 

الآيات

 

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإِ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِين وَشِمَال كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَـهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُل خَمْط وَأَثْل وَشَىْء مِّن سِدْر قَلِيل(16) ذَلِكَ جَزَيْنَـهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَـزِى إِلاَّ الْكَفُورَ(17)

 

التّفسير

المدينة الراقية التي أضاعها الكفران:

بعد أن تطرّقت الآيات السابقة إلى توضيح النعم الإلهية العظيمة التي أولاها الله داود وسليمان (عليهما السلام)، وأداء هذين النّبيين العظيمين وظيفتهما بالشكر، تنتقل الآيات أعلاه إلى الحديث عن قوم آخرين يمثّلون الموقف المقابل للموقف السابق، ويحتمل أن يكونوا قد عاصروا داود وسليمان أو عاشوا بعدهما بفترة قليلة .. قوم شملهم الله بأنواع النعم، ولكنّهم سلكوا طريق الكفران، فسلبهم الله ذلك، ومزّقهم شرّ ممزّق، حتّى أصبح ما حلّ بهم عبرةً للعالمين، اُولئك كانوا «قوم سبأ».

عرض القرآن المجيد تأريخ «قوم سبأ» من خلال خمس آيات، وأشار

[  421 ]

بإختصار إلى بعض خصوصيات وجزئيات حياتهم.

يقول تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية).

وكما سنرى فإنّ عظمة هذه الآية تنبع من أنّهم بالإستفادة من خصوصيات موقعهم وطريقة إحاطة الجبال بمنطقة سكناهم وبالذكاء العالي الذي وهبهم الله، إستطاعوا حصر مياه السيول ـ التي لا تخلف وراءها إلاّ الدمار ـ خلف سدٍّ عظيم، وبذا عمّروا دولة رفيعة التمدّن، فكانت آية عظيمة أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى عامل رئيسي من عوامل العمران والتمدّن!!

«سبأ» اسم من؟ وما هي؟. الموضوع مورد أخذ وردّ بين المؤرخين، ولكن المشهور هو أنّ «سبأ» اسم «أبي العرب» في اليمن، وطبقاً للرواية الواردة عن «فروة بن مسيك» أنّه قال: «سألت رسول الله عن «سبأ» أرجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد له عشرة، تيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة، فأمّا الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار ومجد. فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة، وأمّا الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان. فالمراد بسبأ هاهنا القبيلة الذين هم أولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان»(1).

وبعضهم ذهب إلى أنّ «سبأ» اسم لأرض اليمن أو لإحدى مناطقها. وظاهر الآيات القرآنية التي تحدّثت في قصّة سليمان (عليه السلام) و (الهدهد) أشارت إلى هذا المعنى أيضاً ففي الآية (22) من سورة النمل، يقول تعالى على لسان الهدهد: (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) يعني لقد جئتك من أرض سبأ بنبأ يقين.

في حال أنّ ظاهر الآية مورد البحث هو أنّ «سبأ» كانوا «قوماً» عاشوا في تلك المنطقة، بلحاظ أنّ ضمير «هم» في «مساكنهم» يعود عليهم.

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج8، ص385 ـ 386.

[  422 ]

ولا منافاة بين التّفسيرين لأنّ من الممكن أن يكون «سبأ» اسم شخص ابتداءً، ثمّ بعدئذ سمّي كلّ أولاده وقومه من بعده باسمه، ثمّ إنتقل الاسم ليشمل مكان سكناهم.

تنتقل الآية بعد ذلك لتجلّي الموقف عن تلك الموهبة الإلهية التي وضعت بين يدي قوم سبأ. فيقول تعالى: (جنّتان عن يمين وشمال).

ما حصل هو أنّ قوم سبأ إستطاعوا ـ ببناء سدٍّ عظيم بين الجبال الرئيسية في منطقتهم ـ حصر مياه السيول المدمّرة أو الضائعة هدراً على الأقل، والإفادة منها .. وبإحداث منافذ في ذلك السدّ سيطروا تماماً على ذلك الخزّان المائي الهائل، وبالتحكّم فيه تمكّنوا من زراعة مساحات شاسعة من الأرض.

الإشكال الذي أثاره (الفخر الرازي) هو: ما هي أهميّة وجود مزرعتين لكي يذكر ذلك في آية مستقلّة؟ ثمّ يقول في الجواب أنّ هاتين المزرعتين لم تكونا عاديتين، بل إنّهما عبارة عن سلسلة من رياض المترابطة مع بعضها البعض والممتدة على جانبي نهر عظيم يتغذّى من ذلك السدّ العظيم. وكانت تلك الرياض مليئة بالبركات إلى درجة أنّه ورد في كتب التأريخ عنها، أن لو مرّ شخص يحمل على رأسه سلّة فارغة من تحت أشجار تلك المزارع في فصل نضوج الأثمار فانّها تمتلىء بسرعة نتيجة ما يتساقط من تلك الأثمار الناضجة.

أليس من العجيب إذاً أن يتحوّل سبب الخراب والدمار إلى سبب رئيسي للعمران بذلك الشكل المدهش؟ ثمّ ألا يعدّ ذلك من عجائب آيات الله سبحانه وتعالى؟

وعلاوة على كلّ ذلك ـ وكما سترد الإشارة إليه في الآيات الآتية ـ فإنّ من آيات الله أيضاً ذلك الأمن والأمان غير العاديين اللذين شملا تلك الأرض.

ثمّ يضيف القرآن: (كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدةً طيّبة وربّ

 ]423 ]

غفور)(1)(2).

هذه الجملة القصيرة تصوّر مجموعة النعم المادية والمعنوية بأجمل تعابير، فبلحاظ النعم المادية أرض طيّبة خالية من الأمراض المختلفة، من السراق والظلمة، من الآفات والبلايا، من الجفاف والقحط، من الخوف والوحشة، وقيل خالية حتّى من الحشرات المؤذية.

هواء نقي، ونسيم يبعث على السرور، أرض معطاءة وأشجار وافرة الثمر.

وأمّا بلحاظ النعم المعنوية فمغفرة الله التي شملتهم، والتغاضي عن تقصيرهم، وصرف البلاء والعذاب عنهم وعن بلدتهم.

ولكن هؤلاء الجاحدين غير الشكورين. لم يقدّروا تلك النعمة حّق قدرها. ولم يخرجوا من بوتقة الإمتحان بسلام، سلكوا طريق الإعراض والكفران، فقرّعهم الله أيّما تقريع!!

قال تعالى: (فاعرضوا) استهانوا بنعمة الله، توهّموا بأنّ العمران والمدنية والأمن أشياء عادية، نسوا الله، وأسكرتهم النعمة، وتفاخر الأغنياء على الفقراء، وظنّوا أنّهم يزاحمونهم في أرزاقهم ـ كما سيرد في الآيات اللاحقة ـ .

وهنا مسّهم سوط الجزاء، يقول تعالى: (فأرسلنا عليهم سيل العرم) فدمّر بيوتهم ومزارعهم وحوّلها إلى خرائب ..

«العرم»: من «العرامة» وهي شراسة وصعوبة في الخلق تظهر بالفعل، ووصف «السيل» بالعرم إشارة إلى شدّته وقابليته على التدمير. وتعبير «سيل العرم» من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة.

وقيل: «العرم» الجرذان الصحراوية، وهي التي سبّبت إنهيار السدّ بنفوذها فيه

______________________________________

1 ـ «بلدة»: خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذه بلدة طيّبة وهذا ربّ غفور.

2 ـ يمكن أن يكون هذا الخطاب الإلهي لهؤلاء القوم على أحد إحتمالين، فإمّا أن يكون قد أبلغ ذلك بواسطة الأنبياء المبعوثين منهم، كما قال به بعض المفسّرين، أو أنّ هذه النعم كانت توصل إلى إدراكهم مثل هذا الخطاب.

[  424 ]

(قصّة نفوذ الجرذان الصحراوية في السدّ، مع كونها ممكنة ـ كما سيرد شرحه فيما بعد ـ لكن تعبير الآية ليس فيه أدنى تناسب مع هذا المعنى).

في «لسان العرب»، مادّة «عرم» وردت معان مختلفة من جملتها «السيل الذي لا يطاق» ومنه قوله تعالى «الآية»، وقيل: إضافة إلى المسنّاة أو السدّ، وقيل: إلى الفأر(1).

ولكن أنسب التفاسير هو الأوّل، وهو الذي إعتمده ـ أيضاً ـ علي بن إبراهيم في تفسيره.

بعدئذ يصف القرآن الكريم عاقبة هذه الأرض كما يلي: (وبدلّناهم بجنتيهم جنّتين ذواتي أُكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل).

«أُكل»: بمعنى الطعام.

«خمط»: بمعنى النبات المرّ وهو «الأراك».

«أثل»: شجر معروف.

وبذا يكون قد نبت محلّ تلك الأشجار الخضراء المثمرة، أشجار صحراوية غليظة ليست ذات قيمة، والتي قد يكون «السدر» أهمّها، وهذا أيضاً كان نادراً بينها. ولك ـ أيّها القارىء ـ أن تتخيّل أي بلاء حلّ بهؤلاء وبأرضهم؟!

ولعلّ ذكر هذه الأنواع الثلاثة من الأشجار التي بقيت في تلك الأرض المدمّرة إشارة إلى ثلاثة اُمور: أحدها قبيح المنظر، والثّاني لا نفع فيه، والثالث له منفعة قليلة جدّاً.

يقول تعالى في الآية التالية بصراحة وكتلخيص وإستنتاج لهذه القصّة (ذلك جزيناهم بما كفروا).

ويجب أن لا يتبادر إلى الذهن بأنّ هذا المصير يخصّ هؤلاء القوم، بل إنّ من

______________________________________

1 ـ لسان العرب مادّة «عرم» ج12، ص396.

[  425 ]

المسلّم أنّه يعمّ كلّ من كانت لهم أعمال شبيهة بأعمال هؤلاء. وهكذا تضيف الآية (وهل نجازي إلاّ الكفور).

كان هذا مختصراً عن مصير «قوم سبأ» الذي سنفصّله أكثر في تفسير الآيات اللاحقة.

 

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335516

  • التاريخ : 28/03/2024 - 15:50

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net