00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يس من آية 71 ـ آخر السورة من ( ص 234 ـ 272 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 234 ]

 الآيات

 أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـماً فَهُمْ لَهَا مَـلِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَـهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـفِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ (74) لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ (75) فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)

 

التّفسير

فوائد الأنعام للإنسان!!

يعود القرآن الكريم مرّة اُخرى في هذه الآيات إلى مسألة التوحيد والشرك، ويشير ـ ضمن تعداد قسم من آثار عظمة الله في حياة البشر، وحلّ مشكلاتهم ورفع حاجاتهم ـ إلى ضعف وعجز الأصنام، وبمقارنة واضحة يشطب على الشرك ويثبت بطلانه، وفي نفس الوقت يثبت حقّانية خطّ التوحيد.

تقول الآية الكريمة الاُولى: (أو لم يروا أنّا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا أنعاماً فهم

[ 235 ]

لها مالكون)(1).

ولكي يستفيدوا بشكل جيّد من هذه الحيوانات: (وذلّلناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون).

ولا تنتهي منافعها إلى هذا الحدّ، بل (ولهم فيها منافع ومشارب) وعليه (أفلا يشكرون) الشكر الذي هو وسيلة معرفة الله وتشخيص وليّ النعمة.

هنا يجب الإلتفات إلى بعض الاُمور:

1 ـ من بين النعم المختلفة التي تغمر الإنسان، أشارت الآية إلى نعمة وجود الأنعام، لأنّها تشكّل حضوراً دائماً في حياة الإنسان اليومية، إلى حدّ أنّ حياة الإنسان إقترنت بها، بحيث لو أنّها حذفت من صفحة حياة الإنسان فإنّ ذلك سيشكّل عقدة ومشكلة بالنسبة إلى معيشته وأعماله، غير أنّ الإنسان لا يلتفت إلى أهمّيتها لأنّه تعوّد رؤيتها يومياً.

2 ـ جملة (عملت أيدينا) كناية عن إعمال القدرة الإلهيّة بشكل مباشر، إذ أنّ أهمّ الأعضاء التي يمارس بها الإنسان قدرته ويعبّر عنها هي يداه، لهذا السبب كانت «اليد» كناية عن القدرة، كأن يقول أحدهم: «إنّ المنطقة الفلانية في يدي» كناية عن أنّها تحت سيطرته ونفوذه، ويقول القرآن في هذا الصدد (يد الله فوق أيديهم).(2)

وذكر «الأيدي» هنا بصيغة الجمع إشارة إلى مظاهر متنوّعة لقدرة الباري عزّوجلّ.

3 ـ جملة (فهم لها مالكون) المبتدأة بفاء التفريع، إشارة إلى أنّ الخلق مرتبط بقدرتنا، وأمّا المالكية فقد فوّضناها إلى الإنسان، وذلك منتهى اللطف الإلهي،

________________________________

1 ـ جملة «أو لم يروا ...» جملة معطوفة على سابقتها بواو العطف، ولكن حين دخول الهمزة الإستفهامية على الجملة فإنّها تتصدّرها، (والرؤية) هنا بمعنى المعرفة، أو الإبصار.2 ـ الفتح، 10.

[ 236 ]

وعليه فلا محلّ للإشكال الذي ظهر لبعض المفسّرين نتيجة وجود «فاء التفريع»، فالمعنى تماماً كما نقول لشخص: هذا البستان زرعناه وأعمرناه، استفد منه أنت، وهذا منتهى إظهار المحبّة والإيثار.

4 ـ جملة (وذلّلناها لهم) إشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تذليل هذه الحيوانات للإنسان. فتلك الحيوانات القوية والتي تنسى في بعض الأحيان ذلك التذليل الإلهي، وتثور وتغضب وتعاند فتصبح خطرة إلى درجة أنّ عشرات الأشخاص لا يمكنهم الوقوف أمامها. وفي حالاتها الإعتيادية فإنّ قافلة كاملة من الجمال يقودها تارةً صبي لم يبلغ الحلم، ويدفعها في الطريق الذي يرتئيه!

إنّه لأمر عجيب حقّاً، فإنّ الإنسان غير قادر على خلق ذبابة، ولا حتّى ترويضها وتذليلها لخدمته، أمّا الله القادر المنّان فإنّه خلق ملايين الملايين من الحيوانات المختلفة، وذلّلها للإنسان لتكون في خدمته دوماً.

5 ـ جملة (فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) ـ مع الإلتفات إلى أنّ (ركوبهم) صفة مشبّهة بمعنى (مركوبهم) ـ إشارة إلى أنّ الإنسان ينتخب قسماً منها للركوب وقسماً آخر للتغذّي. وإن كان لحم أغلب الحيوانات المشهورة حلال بنظر الإسلام، إلاّ أنّ الإنسان إستفاد عمليّاً من بعضها فقط للتغذية، فمثلا لحم الحمير لا يستفاد منه إلاّ في الضرورة القصوى.

ومن الواضح انّ ذلك إذا اعتبرنا «منها» في كلا الجملتين «للتبعيض الإفرادي»، أمّا لو اعتبرنا الاُولى «للتبعيض الافرادي» والثانية «للتبعيض الأجزائي» يكون معنى الآية (بعض الحيوانات تنتخب للركوب وينتخب جزء من أجسامها للتغذية (إذ أنّ العظام وأمثالها غير قابلة للأكل).

6 ـ (لهم فيها منافع) إشارة إلى فوائد الحيوانات الكثيرة الاُخرى التي تتحقّق للإنسان، ومن جملتها الأصواف والأوبار التي تصنع منها مختلف الملابس والخيم والفرش، والجلود التي تصنع منها الحقائب والملابس والأحذية ووسائل اُخرى

[ 237 ]

مختلفة، وحتّى في عصرنا الحاضر الذي تميّزت فيه الصناعات التقليدية من منتجات الطبيعة لا زال الإنسان في مسيس الحاجة إلى الحيوانات من حيث التغذية ومن حيث الفوائد الاُخرى كالألبسة ووسائل الحياة الاُخرى. وحتّى بعض أنواع الأمصال واللقاحات ضدّ الأمراض التي يستفاد فيها من دماء بعض الحيوانات، بل حتّى أنّ أتفه الأشياء الحيوانية وهي روثها أصبح ومنذ وقت طويل مورد إستفادة الإنسان لتسميد المزارع وتغذية النباتات المثمرة.

7 ـ (مشارب) إشارة إلى الحليب الذي يؤخذ من تلك الدواب ويؤمّن مع منتجاته قسماً مهمّاً من المواد الغذائية للإنسان، بشكل أضحت فيه صناعة الحليب ومنتجاته تشكّل اليوم رقماً مهمّاً في صادرات وواردات الكثير من الدول، ذلك الحليب الذي يشكّل غذاء للإنسان، ويخرج من بين دم وفرث لبناً سائغاً يلتذّ به الشاربون، ويكون عاملا لتقوية الضعفاء.

8 ـ جملة (أفلا يشكرون) جاءت بصيغة الإستفهام الإستنكاري، وتهدف إلى تحريك الفطرة والعواطف الإنسانية لشكر هذه النعم التي لا تحصى، والتي ورد جانب منها في الآيات أعلاه، وكما نعلم فإنّ «لزوم شكر المنعم» أساس لمعرفة الله، إذ أنّ الشكر لا يمكن أن يكون إلاّ بمعرفة المنعم، إضافةً إلى أنّ التأمّل في هذه النعم وإدراك أنّ الأصنام ليس لها أدنى تأثير أو دخل فيها، سيؤدّي إلى إبطال الشرك.

لذا فإنّ الآية التالية، تنتقل إلى الحديث عن المشركين ووصف حالهم فتقول: (واتّخذوا من دون الله آلهة لعلّهم ينصرون).

فيا له من خيال باطل وفكر ضعيف؟ ذلك الذي يعتقد بهذه الموجودات الضعيفة التافهة التي لا تملك لنفسها ـ ناهيك عن الآخرين ـ ضرّاً ولا نفعاً، ويجعلونها إلى جانب الله سبحانه وتعالى ويقرنونها به تعالى، ويلجأون إليها لحلّ مشاكل حياتهم؟ نعم، فهم يلجأون إليها لتكون عزّاً لهم: (واتّخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم

[ 238 ]

عزّاً).(1)

ويتوهّمون أنّها تشفع لهم عند الله (ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).

على كلّ حال، فإنّ جميع هذه الأوهام نقش على الماء، وكما يقول القرآن الكريم في الآية (192) من سورة الأعراف: (ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون).

وعليه تضيف الآية التالية: إنّ المعبودات لا تستطيع نصرة المشركين، وسيكون هؤلاء المشركون جنوداً مجنّدة يتقدّمونها إلى جهنّم: (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون).

ويا له من أمر أليم أن يصطف هؤلاء المشركون بصفوف تتقدّمها تلك الأصنام ليدخلوا جهنّم زمراً في ذلك اليوم العظيم، دون أن يستطيعوا حلّ عقدة مشكلة واحدة من مشكلات هؤلاء المشركين في ذلك الموقف الرهيب.

التعبير بـ (محضرون) يكون عادةً للتحقير، لأنّ إحضار الأفراد دون أن يكون لموافقتهم أو عدمها أثر إنّما يدلّل على حقارتهم، وبناءً على هذا التّفسير فإنّ الضمير الأوّل «هم» في جملة (وهم لهم جند محضرون) يعود على «المشركين»، والضمير الثاني يعود على «الأصنام»، في حال أنّ بعض المفسّرين احتملوا العكس بحيث تكون الأصنام والأوثان هي التابعة للمشركين في يوم القيامة. وفي نفس الوقت فإنّهم ـ المشركين ـ ليس لهم في الأوثان أدنى أمل، والظاهر أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه التعابير تصدق ـ فقط ـ على المعبودات الحيّة ذات الشعور كالشياطين والعصاة من الجنّ والإنس، ولكن يحتمل أيضاً أنّ الله سبحانه وتعالى يبعث الروح في تلك الأصنام والأوثان ويعطيها العقل والشعور لكي توبّخ

________________________________

1 ـ مريم، 81.

[ 239 ]

هي اُولئك الذين عبدوها في الدنيا، وضمناً نقول إنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ستكون هي الحطب الذي يؤجّج على اُولئك المشركين نار جهنّم (إنّكم وما تعبدون من دون الله حَصَب جهنّم أنتم لها واردون).(1)

أخيراً ـ وفي آخر آية من هذه الآيات، ولمواساة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)وتثبيت فؤاده إزاء مكر المشركين، والفتن والأعمال الخرافية ـ تقول الآية الكريمة:

 (فلا  يحزنك قولهم) تارةً يقولون شاعر، واُخرى ساحر وأمثال ذلك من التهم (إنّا نعلم ما يسّرون وما يعلنون).

فلا تخفى علينا نواياهم، ولا مؤامراتهم في الخفاء، ولا جحودهم وتكذيبهم لآياتنا في العلن، نعلم بكلّ ذلك، ونحفظ لهم جزاءهم إلى يوم الحساب، وستكون أنت أيضاً في أمان من شرّهم في هذه الدنيا.

وبهذا الحديث الإلهي المواسي يمكن لكلّ مؤمن أيضاً ـ مضافاً إلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أن يكون مطمئن القلب بأنّ كلّ شيء في هذا العالم هو بعين الله، وسوف لن يصيبه شيء من مكائد الأعداء، فهو تعالى لا يترك عباده المخلصين في اللحظات والمواقف العصيبة، وهو دوماً حام لهم وحافظ.

* * *

 

بحث

الثقافة التوحيدية تمنح عباد الله المؤمنين طريقة خاصّة في الحياة، تبعدهم عن السُبل الملوثة بالشرك القائمة على أساس عبادة الأوثان، أو اللجوء إلى بعض البشر الضعاف.

وبصراحة ووضوح أكثر نقول: في عالمنا اليوم وحيث تتحكّم في البشرية قدرتان من الشرق والغرب، فإنّ الدول الصغيرة ـ عادةً ـ وكلّ ما عدا تلكم

________________________________

1 ـ الأنبياء، 98.

[ 240 ]

القدرتين ستفكّر لأجل حفظ نفسها والبقاء بالإتّكاء على إحدى تلك القدرتين الصنمين، وتطلب حمايتها والإفادة من قدرتها، في حال أنّ التجارب أثبتت أنّ هاتين القدرتين عند بروز المشاكل والحوادث المستعصية والإضطرابات لا تستطيع حلّ مشكلاتها ولا مشكلات من يدور في فلكها.

وما أجمل ما يقوله القرآن واصفاً هذه الحالة: (لا يستطيعون نصرهم ولا أنفسهم ينصرون)، وهذا تحذير لجميع المسلمين وسالكي طريق التوحيد الخالص، بأن يبتعدوا عن تلك الأصنام، ويلجأوا إلى ظلّ اللطف الإلهي، وأن يعتمدوا على أنفسهم، وعلى طاقة الإيمان، وأن لا يدعوا طريقاً لهذه الأفكار الإشراكية الملوّثة تصل إلى فكرهم بحيث يلجأون إلى تلك القدرات ويستنجدونها في الملمّات، وأن يطهّروا الثقافة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية من هذه الأفكار، وأن يعلموا بأنّهم قد نالوا ضربات عديدة حتّى الآن نتيجة هذا المنطق ـ سواء أمام إسرائيل الغاصبة أو الأعداء الآخرين ـ في حال أنّه لو كان هذا الأصل القرآني الأصيل يحكم فيهم فإنّ حالهم لم تكن لتبلغ هذا المستوى من الهزيمة والإنكسار، آملين أن نصل إلى اليوم الذي نعيد فيه بناء أفكارنا حسب المفاهيم والمبادىء القرآنية، وأن نعتمد على أنفسنا، ونلجأ إلى ظلّ اللطف الإلهي فنعيش أعزّاء مرفوعي الرؤوس أحراراً إن شاء الله.

 

* * *

[ 241 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَنُ أَنَّا خَلَقْنَهُ مِن نُّطْفَة فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77)وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـمَ وَهِىَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ (79)

 

سبب النّزول

نقلت أغلب التفاسير عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «جاء أُبيّ بن خلف (أو العاص بن وائل) فأخذ عظماً بالياً من حائط ففتّه ثمّ قال: إذا كنّا عظاماً ورفاتاً إنّا لمبعوثون خلقاً؟» فأنزل الله: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم).

 

 

التّفسير

قلنا أنّ البحوث المختلفة حول المبدأ والمعاد والنبوّة في سورة (يس) التي هي قلب القرآن وردت بشكل مقاطع مختلفة، فهذه السورة ابتدأت بمسألة النبوّة، وإختتمت بسبعة آيات تمثّل أقوى البيانات حول المعاد.

[ 242 ]

في البدء تأخذ بيد الإنسان وتشير له إلى بدء حياته في ذلك اليوم حيث كان نطفة مهينة لا غير وتدعوه إلى التأمّل والتفكّر، فتقول: (أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)(1). يا له من تعبير حيوي؟ فالآية تؤكّد أوّلا على مخاطبة الإنسان، أيّاً كان وأيّ إعتقاد كان يعتقد، وعلى أيّ مستوى كان من العلم، فهو يستطيع إدراك هذه الحقيقة.

ثمّ تتحدّث عن «النطفة» والتي هي لغوياً بمعنى «الماء المهين» لكي يعلم هذا الإنسان المغرور المتكبّر ـ بقليل من التأمّل ـ ماذا كان في البدء؟ كما أنّ هذا الماء المهين لم يكن هو السبب في نشوئه وظهوره، بل خليّة حيّة متناهية في الصغر،  لا ترى بالعين المجرّدة، من ضمن آلاف بل ملايين الخلايا الاُخرى التي كانت تسبح في ذلك الماء المهين، وباتّحادها مع خلية صغيرة اُخرى مستقرّة في رحم المرأة تكوّنت الخليّة البشرية الاُولى، ودخل الإنسان إلى عالم الوجود!

وتتواصل مراحل التكامل الجنيني الواحدة بعد الاُخرى والتي هي ستّة مراحل كما نقلها القرآن الكريم في بداية سورة «المؤمنون» (النطفة، العلقة، المضغة، العظام، إكتساء العظام باللحم، وتمثّل الخلق السوي). ثمّ إنّ الإنسان بعد الولادة كائن ضعيف جدّاً، لا يملك القدرة على شيء، ثمّ يقطع مراحل نموّه بسرعة حتّى بلوغ الرشد الجسماني والعقلي.

نعم، فهذا الموجود الضعيف العاجز، يصبح قويّاً إلى درجة أن يجيز لنفسه النهوض لمحاربة الدعوات الإلهيّة، وينسى ماضيه ومستقبله، ليكون مصداقاً حيّاً لقوله تعالى: (فإذا هو خصيم مبين). واللطيف أنّ هذا التعبير يتضمّن جنبتين، إحداهما تمثّل جانب القوّة، والاُخرى جانب الضعف، ويظهر أنّ القرآن الكريم أشار إليهما جميعاً.

إنّ هذا العمل لا يكون إلاّ من إنسان يملك عقلا وفكراً وشعوراً وإستقلالا

________________________________

1 ـ «خصيم» بمعنى المصرّ على الخصومة والجدال، و (الرؤية) بمعنى (العلم).

[ 243 ]

وإرادة، ونعلم بأنّ أهمّ مسألة في حياة الإنسان هي التكلّم والحديث الذي يهيّأ محتواه مسبقاً في الذهن، ثمّ يصبّ في قالب من العبارات ويطلق باتّجاه الهدف كالرصاص المنطلق من فوهة البندقية، وهذا العمل لا يمكن حدوثه في أي كائن حي عدا الإنسان.

وبذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يجسّد قدرته في إعطاء هذا الماء المهين هذه القوّة العظيمة .. هذا من جانب.

ومن جانب آخر فإنّ الإنسان مخلوق مغرور وكثير النسيان، فهو يستغلّ كلّ هذه النعم التي أولاها إيّاه ولي نعمته ضدّه في المجادلة والمخاصمة، فيا له من مغفّل أحمق!!

ويكفي لمعرفة مدى غفلته وحمقه أنّه جاء: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم)(1).

المقصود من ضرب المثل هنا، نفس المعنى بدون التشبيه والكناية. فالمقصود هو الإستدلال وذكر مصداق لإثبات مطلب معيّن. نعم فإنّ (اُبيّ بن خلف أو اُميّة بن خلف. أو العاص بن وائل) كان قد وجد قطعة متفسّخة من عظم لم يكن معلوماً لمن؟ وهل مات موتاً طبيعياً؟ أو في واحدة من حروب العصر الجاهلي المهولة؟ أو مات جوعاً؟ وظنّ أنّه وجد فيه دليلا قويّاً لنفي المعاد! فحمل تلك القطعة من العظم وذهب حانقاً وفرحاً في نفس الوقت وهو يقول: لأخصمن محمّداً.

فذهب إلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في عجلة من أمره ليقول له: قل لي من ذا الذي يستطيع أن يلبس هذا العظم البالي لباس الحياة من جديد؟ وفتّ بيده قسماً من العظم وذرّه على الأرض، واعتقد بأنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سيتحيّر في الجواب  ولا يملك ردّاً!!

________________________________

1 ـ «رميم» من مادّة (رم) وهو إصلاح الشيء البالي، و «الرِّمَّةُ» تختص بالعظم البالي، و «الرُّمّة» تختص بالحبل البالي، (مفردات الراغب مادّة (رم) صفحة 203).

[ 244 ]

والجميل أنّ القرآن الكريم أجابه بجملة وجيزة مقتضبة وهي قوله تعالى: (ونسي خلقه). وإن كان قد أردف مضيفاً توضيحاً أكثر.

فكأنّه يقول: لو لم تنس بدء خلقك لما إستدللت بهذا الإستدلال الواهي الفارغ أبداً.

أيّها الإنسان الكثير النسيان، عد قليلا إلى الوراء وانظر في خلقك، كيف كنت نطفة تافهة وكلّ يوم أنت في لبس جديد من مراحل الحياة، فأنت في حال موت وبعث مستمرين، فمن جماد أصبحت رجلا بالغاً، وبكميّة من عالم النبات الجامد، ومن عالم الحيوان الميّت أيضاً أصبحت إنساناً، ولكنّك نسيت كلّ ذلك وصرت تسأل: من يحيي العظام وهي رميم؟ ألم تكن أنت في البدء تراباً كما هو حال هذه العظام بعد تفسّخها؟!

لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يأمر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يقول لهذا المغرور الأحمق الناسي (قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة).

فإذا كان بين يديك اليوم بقيّة من العظام المتفسّخة تذكّرك به، فقد مرّ يوم لم تكن فيه شيئاً ولا حتّى تراباً، نعم، أفليس سهلا على من خلقك من العدم أن يعيد الحياة إلى العظام المهترئة؟!

وإذا كنت تعتقد بأنّ هذه العظام بعد تفسّخها تصبح تراباً وتنتشر في الأصقاع، فمن يستطيع عند ذلك أن يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من نقاط إنتشارها؟ فإنّ الجواب على ذلك أيضاً واضح: (وهو بكلّ خلق عليم).

فمن كان له مثل هذا (العلم) وهذه (القدرة) فإنّ مسألة المعاد وإحياء الموتى لا تشكّل بالنسبة إليه أيّة مشكلة. فنحن نستطيع بقطعة من «المغناطيس» جمع برادة الحديد المبثوثة في كميّة من التراب وفي لحظات، والله العالم القادر يستطيع كذلك بأمر واحد أن يجمع ذرّات بدن الإنسان من كلّ موضع كانت فيه من الكرة الأرضية. فهو العالم ليس بخلق الإنسان فقط، بل هو العالم بنواياه وأعماله أيضاً،

[ 245 ]

المحيط بكلّ شيء علماً وهو على كلّ شيء قدير وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكل له.

وعليه فإنّ الحساب على الأعمال والنوايا والإعتقادات المضمرة لا يشكّل له تعالى أدنى مشكلة أيضاً، فكما ورد في الآية (284) من سورة البقرة: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله).

وكذلك حينما أظهر فرعون شكّاً في قدرة الله على المعاد وإحياء القرون السابقة، أجابه موسى (عليه السلام): (قال علمها عند ربّي في كتاب لا يضلّ ربّي ولا ينسى).(1)

 

* * *

________________________________

1 ـ طه، 55.

[ 246 ]

 

 

 

 

 

الآية

 

الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاَْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80)

 

التّفسير

تتابع هذه الآية البحوث المختلفة حول المعاد والإشارات العميقة المعنى حول مسألة إمكان المعاد ورفع أي إستبعاد لذلك، والآية أعلاه شرح أوسع وأوضح حول هذه المسألة، تقول: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون) ويا له من تعبير رائع ذلك الذي كلّما دقّقنا فيه أفاض علينا معاني أعمق وأدقّ؟!

وكما نعلم فإنّ الآيات القرآنية لها معان متعدّدة من أبعاد مختلفة ـ فبعض معانيها واضح للغالبية من الناس في كلّ زمان ومكان، وبعضها عميق يختّص بفهمه البعض، وأخيراً فإنّ بعضها الآخر يتمثّل فيه العمق الذي لا يستطيع سبر غوره إلاّ الخواص من العبّاد، وفي نفس الوقت فإنّ تلك المعاني لا تنافي بعضها البعض، بل إنّها تجمع كلّها في قالب واحد وفي آن واحد. والآية مورد البحث هكذا تماماً.

التّفسير الأوّل الذي قال به الكثير من المفسّرين القدماء. وهو بسيط وواضح

[ 247 ]

يمكن فهمه وإستيعابه من قبل الغالبية وهو: أنّ المراد هو شجر «المرخ والعفار» الذي كان العرب قديماً يأخذون منهما على خضرتهما، فيجعل العفار زنداً أسفل ويجعل المرخ زنداً أعلى، فيسحق الأعلى على الأسفل فتنقدح النار بإذن الله. وفي الواقع فهو يمثّل الكبريت في عصرنا الحالي. والله سبحانه وتعالى يريد القول بأنّ الذي يستطيع إشعال النار من هذا الشجر الأخضر له القدرة على إلباس الموتى لباس الحياة.

فالماء والنار شيئان متضادّان، فمن يستطيع جعلهما معاً في مكان واحد، قادر على جعل الحياة والموت معاً في مكان واحد. فالذي يخلق (النار) في قلب (الماء) و (الماء) في قلب (النار) فمن المسلّم أنّ إحياء بدن الإنسان الميّت  لا يشكّل بالنسبة له أدنى صعوبة.

وإذا خطونا خطوة أبعد من هذا التّفسير فسوف نصل إلى تفسير أدقّ وهو: أنّ خاصيّة توليد النار بواسطة خشب الأشجار، لا تنحصر بخشب شجرتي «المرخ والعفار» بل إنّ هذه الخاصية موجودة في جميع الأشجار وجميع الأجسام الموجودة في هذا العالم وإن كان لشجرتي المرخ والعفار ـ لتوفّر خصائص فيها ـ إستعداد أكثر من غيرهما على هذا الأمر.

خلاصة القول، إنّ جميع خشب الأشجار إذا حُكّ ببعضه بشكل متواصل فإنّه سيطلق شرر النار وحتّى (خشب الشجر الأخضر).

لهذا السبب تقع في بعض الأحيان حرائق هائلة في بعض الغابات المليئة بالأشجار، لا يعرف لها سبب من قبل الإنسان، إلاّ أنّ هبوب الريح الشديدة التي تضرب أغصان الأشجار ببعضها بشدّة ممّا يؤدّي إلى إنقداح شرر منها يؤدّي إلى إشتعال النار فيها، وتساعد الريح الشديدة على سرعة إنتشارها، فالعامل الأصلي كان تلك الشرارة الناتجة عن الإحتكاك.

هذا التّفسير الأوسع، هو الذي يوضّح عملية جمع الأضداد في الخلق. ويبسط

[ 248 ]

مفهوم وجود (البقاء) في (الفناء) وبالعكس.

لكن ثمّة تفسير ثالث يعتبر أعمق بكثير من التّفسيرين السابقين. والذي ظهر إلى الواقع نتيجة جهود العلماء في عصرنا الحاضر وقد اخترنا أن نطلق عليه تسمية «إنبعاث الطاقة».

وتوضيح ذلك كما يلي: إنّ من أهمّ الوظائف التي تقوم بها النباتات هي عملية «التركيب الضوئي» والتي تعتمد أساساً على أخذ غاز «ثاني اُوكسيد الكربون» من الهواء، والإفادة منه بواسطة «المادّة الخضراء» أو ما يسمّى «بالكلورفيل» لصنع الغذاء بمساعدة الماء وضوء الشمس. ذلك الغذاء الذي يؤدّي إلى تكوّن حلقات السليلوز في النباتات من ذوات الفلقتين، ويكون ناتج عملية التركيب الضوئي الأوكسجين الذي يطلق في الهواء مرّة اُخرى.

ولو نظرنا إلى العملية بطريقة اُخرى فإنّ النباتات تأخذ الغاز (ثاني أوكسيد الكاربون) وتجزّئه أثناء عملها لتحتفظ بالكاربون مركّباً مع غيره من الماء لتكوّن الخشب وتطلق الأوكسجين.

والمهمّ هنا أنّ العلماء يقولون: بأنّ أيّة عملية تركيب كيمياوي تحتاج إلى طاقة ما لكي يتمّ ذلك التفاعل الكيمياوي، أو أنّ ذلك التفاعل يؤدّي إلى إطلاق طاقة كناتج عنه. وبناءً عليه فإنّ التفاعل الذي يتمّ نتيجة التركيب الضوئي إنّما يستفيد من الشمس كمصدر للطاقة لإتمام التفاعل.

وعليه فالشجرة إنّما تقوم بإدّخار هذه الطاقة في الخشب الذي يتكوّن نتيجة لهذه العملية. وعندما نقوم نحن بحرق هذا الخشب فإنّنا إنّما نقوم بإطلاق عقال هذه الطاقة المدّخرة. وبذا فإنّنا نقوم بإعادة تركيب (الكاربون) مع (الأوكسجين) لينتج (ثاني أوكسيد الكاربون) الذي ينطلق في الهواء مرّة اُخرى، بالإضافة إلى بخار الماء.

ولو تحدّثنا بلغة اُخرى لقلنا: إنّ تلك الحرارة الناجمة عن إشتعال الحطب في

[ 249 ]

المواقد البيتية القروية أو مواقد الفحم التي نستعملها في بيوتنا أحياناً للتدفئة في فصل الشتاء، هي في الحقيقة حرارة ونور الشمس التي ادّخرت في خشب هذه الأشجار لسنوات، وما جمعته الشجرة على مدى عمرها من الشمس تعيده دفعةً واحدة بدون نقص.

ويقال إنّ كلّ الطاقات في الكرة الأرضية تعود إلى الشمس أساساً، وواحد من مظاهره ما ذكرنا.

وهنا وحيث بلغنا «إنبعاث الطاقات» نلاحظ أنّ النور والحرارة المبعثرة في الجو والتي تقوم الأشجار بجمعها في أخشابها لتنمو فإنّها لا تفنى أبداً. بل إنّها تتبدّل شكلا. وتختفي بعيداً عن أعيننا في كلّ ذرّة من ذرّات الخشب، وعندما نقوم بإيقاد النار بقطعة من الحطب، فإنّ إنبعاثها يبدأ، وجميع ما كان في ذرّات الخشب من النور والحرارة وطاقة الشمس، في تلك اللحظة ـ لحظة الحشر والنشر ـ تظهر من جديد. بدون أن ينقص منه حتّى بمقدار إضاءة شمعة واحدة (تأمّل بدقّة).

لا شكّ أنّ هذا المعنى كان خافياً على عوام الناس حين نزول الآية، ولكن ـ كما قلنا ـ فإنّ هذا الموضوع لا يشكّل أدنى مشكلة، لأنّ آيات القرآن لها معان متعدّدة وعلى مستويات مختلفة، لإستعدادات متفاوتة، ففي يوم يفهم من الآية معنى، واليوم يفهم منها معنى أوسع، ويمكن أنّ الأجيال القادمة تفهم منها معنى أوسع وأعمق، وفي نفس الوقت فكلّ هذه المعاني صحيحة ومقبولة بشكل كامل ومجموعة كلّها في معنى الآية.

* * *

 

مسألتان

1 ـ شجر أخضر .. لماذا؟

يرد على الذهن أنّه لماذا عبّر القرآن هنا بالشجر الأخضر؟ في حين أنّ توليد

[ 250 ]

النار من الخشب الطري والرطب يتمّ بصعوبة بالغة، فكم كان جميلا لو عبّر عوضاً عن ذلك «بالشجر اليابس»، لكي ينسجم مع المعنى تماماً!!؟

النكتة هنا هو أنّ الشجر الأخضر الحي فقط يستطيع القيام بعملية التركيب الضوئي، وإدّخار نور الشمس وحرارتها، وأمّا الجذوع اليابسة للشجر لو بقيت مئات السنين متعرّضة للشمس فإنّها لن تستطيع زيادة الذخيرة الموجودة فيها.

وبناءاً عليه فإنّ (الشجر الأخضر) فقط يستطيع أن يصنع وقوداً لنا، ويمكنه الإحتفاظ وإدّخار الحرارة والنور وزيادتها بصورة محوّرة، ولكنّها بمحض جفافها، فإنّ عملية التركيب الضوئي تتوقّف، وتتعطّل معها عملية إدّخار الطاقة الشمسية.

وبناءاً على هذا فإنّ التعبير أعلاه، يعتبر تجسيداً جميلا لعملية «إنبعاث الطاقات» ومعجزة علمية خالدة للقرآن الكريم!..

فضلا عن أنّنا إذا رجعنا إلى التّفسيرات الاُخرى التي أشرنا إليها سابقاً ، يبقى أيضاً التعبير بـ «الشجر الأخضر» جميلا ومناسباً، إذ أنّ الأشجار الخضراء عند إحتكاكها ببعضها البعض تولّد شرارة تستطيع أن تكون مبعث نار كبيرة، وهنا نقف إزاء عظمة قدرة الله في حفظه النار في قلب الماء، والماء في قلب النار(1).

 

2 ـ الفرق بين الوَقُودْ والوُقُودْ:

«توقدون» من «وُقُود» ـ على زنة قبور ـ بمعنى إشتعال النار ـ و «الإيقاد» بمعنى إشعال النار، و «الوَقُود» ـ على زنة ثمود ـ بمعنى الحطب المعدّ للإحراق.

وعليه فإنّ جملة (فإذا أنتم منه توقدون) إشارة إلى الحطب الذي تشتعل فيه النار، لا ما تبدأ به النار بالإشتعال كالزناد أو عود الكبريت.

وبناءاً عليه فإنّ القرآن الكريم يقول: «إنّ الله سبحانه وتعالى جعل لكم من

________________________________

1 ـ إذا اعتبرنا «مِن» في جملة «منه توقدون» بمعنى «به» فإنّ ذلك يتساوق مع التّفسيرات الاُخرى.

[ 251 ]

الشجر الأخضر حطباً توقدونه، وهو القادر على إعادة الموتى إلى الحياة» وهذا التعبير ينسجم تماماً مع ما قلناه من «بعث الطاقات» «تأمّل بدقّة»!!

وعلى كلّ حال، فإنّ مسألة إشعال النار في خشب الأشجار مع أنّها مسألة بسيطة في نظرنا، ولكن بقليل من الدقّة نعلم أنّها من أعجب المسائل، لأنّ المواد التي يتشكّل منها خشب الأشجار في أغلبها ماء وتراب، وكلاهما غير قابل للإشتعال، فما هي تلك القدرة التي خلقت من الماء والتراب والهواء ـ وهي مواد ـ طاقة لا زالت حياة البشر ومنذ آلاف السنين مرتبطة بها بقوّة؟!

 

* * *

[ 252 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ بِقَدِر عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّـقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَـنَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

 

التّفسير

هو المالك والحاكم على كلّ شيء !!

بعد ذكر دلائل المعاد والفات الأنظار إلى الخلق الأوّل، ونشوء النار من الشجر الأخضر في الآيات السابقة، تتابع الآية الاُولى هنا بحث ذلك الموضوع من طريق ثالث وهو قدرة الله اللامتناهية، فتقول الآية الاُولى: (أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم).

الجملة الاُولى بشروعها (بالإستفهام الإنكاري) تطرح سؤالا على الوجدان اليقظ والعقل السليم كالآتي: ألم تتطلّعوا إلى تلك السماء المترامية العظيمة بكلّ ثوابتها وسيّاراتها العجيبة، وبكلّ تلك المنظومات والمجرّات التي تشكّل كلّ زاوية منها دنيا واسعة هائلة؟ فالذي هو قادر على خلق كلّ هذه العوالم الخارقة

[ 253 ]

في العظمة والمتناهية التنظيم والدقّة في قوانينها، كيف لا يكون قادراً على إحياء الموتى؟

ولكون الجواب على هذا السؤال واضحاً، وكامناً في كلّ قلب وروح، فإنّ الآية لا تنتظر الجواب، إنّما تردف مضيّفة «بلى» وتتابع مؤكّدة على صفتين لله سبحانه وتعالى ـ الخالقية والعلم المطلق ـ وذلك في حقيقته دليل على الكلام المتقدّم، فإذا كنتم تشكّون في قدرته على الخلق فهو «الخلاّق» (وهي صيغة مبالغة).

وإذا كان جمع هذه الذرّات يحتاج إلى علم أو معرفة فهو «العليم» المطلق.

أمّا على ماذا يعود الضمير في «مثلهم» فقد احتمل المفسّرون إحتمالات عديدة، ولكن أشهرها هو القول بعودة الضمير على «البشر» والمعنى: إنّ خالق السماء والأرض قادر على خلق مثل البشر.

وهنا يأتي السؤال التالي وهو لماذا لم يقل: قادر على أن يخلقهم من جديد، بل قال: (قادر على أن يخلق مثلهم

وللإجابة على هذا السؤال ذكرت أجوبة كثيرة، يبدو أقربها: أنّ بدن الإنسان عندما يتحوّل ـ أو بالأحرى يتحلّل ـ إلى تراب، فإنّه يفقد الصورة النهائية التي كان عليها، وفي يوم القيامة عندما يعاد خلق هذا الإنسان من جديد، فإنّه سيخلق من نفس المواد ولكن بصورة جديدة تشبه الصورة القديمة، بلحاظ أنّ عودة نفس الصورة القديمة ـ بالأخصّ إذا أخذنا في الإعتبار قيد الزمن ـ غير ممكن، وخصوصاً إذا علمنا ـ مثلا ـ أنّ الإنسان لا يحشر بجميع المواصفات والكيفية التي كان عليها سابقاً، فإنّ الشيبة والشيوخ ـ مثلا ـ يحشرون شبّاناً، والمعلولين يحشرون سالمين، وهكذا.

وبتعبير آخر، فإنّ بدن الإنسان كالطابوق الطيني غير المفخور ـ اللبن ـ الذي يمرّ عليه الزمان فيتهدّم ويصبح تراباً، ثمّ يجمع من جديد وتصنع منه خميرة الطين ويوضع في قالب مرّة اُخرى ويصنع لَبِناً جديداً مرّة اُخرى. فهذا «اللَبِن» هو من

[ 254 ]

جانب نفس «اللَبِن» القديم ومن جانب آخر «مثله» «مادّته هي نفس المادّة والصورة مثل الصورة السابقة» «دقّق النظر»(1).

الآية اللاحقة تأكيد على ما ورد في الآيات السابقة، وتأكيد على حقيقة أنّ أي خلق وإيجاد بالنسبة لله سبحانه وتعالى وقدرته سهل وبسيط، وخلق السموات العظيمة والكرة الأرضية يعادل في سهولته إيجاد حشرة صغيرة، فكلاهما بالنسبة له تعالى أمر هيّن بسيط، يقول تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)، فكلّ شيء مرتبط بأمره وإشارته فقط، وذات بهذه القدرة كيف يشكّ في تمكّنها في إحياء الموتى؟!

وبديهي أنّ الأمر الإلهي هنا ليس أمراً لفظياً، كما أنّ جملة «كن» ليست جملة يبيّنها الله سبحانه وتعالى بصورة لفظ، لأنّه تعالى لا يحتاج إلى تلك الألفاظ، بل المقصود هو مجرّد إرادته لإيجاد وإبداع شيء، وإنّما إستخدم التعبير بـ «كن» لأنّه ليس هناك تعبير أقصر وأصغر وأسرع يمكن تصوّره في التعبير عن تلك الحقيقة.

نعم فإرادته لإيجاد شيء ووجود هذا الشيء هي عملية واحدة.

وبتعبير آخر: فإنّ الله سبحانه وتعالى ما إن يرد شيئاً إلاّ تحقّق فوراً، وليس بين إرادته ووجود ذلك الشيء أيّة فاصلة، وعليه فإنّ «أمره» و «قوله» وجملة «كن» كلّها توضيح لمسألة الخلق والإيجاد. وكما ذكرنا فإنّ الأمر ليس لفظيّاً أو قولياً، بل كلّها توضيح للتحقّق السريع بوجود كلّ ما أراده سبحانه وتعالى.

وببيان أوضح، انّ أفعال الله سبحانه وتعالى تمرّ بمرحلتين لا ثالث لهما، مرحلة

________________________________

1 ـ بعض المفسّرين أعادوا الضمير في «مثلهم» على السموات والأرض، وقالوا بأنّ إستعمال ضمير الجمع العاقل لوجود الموجودات العاقلة في الأرض والسماء كثير.البعض الآخر إستنتج من إستخدام كلمة «مثلهم» عدم ضرورة عودة عين الجسم بمواده التي كان يتشكّل منها في الدنيا، لأنّ شخصية الإنسان تتعلّق بروحه، وهذه الروح بأي مادّة تعلّقت تكون مثل الإنسان.ولكن يجب الإلتفات إلى أنّ الكلام لا ينسجم مع ظاهر آيات القرآن الكريم ـ حتّى أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآيات مورد البحث ـ لأنّ القرآن الكريم يقول بصراحة في هذه الآيات: إنّه يخلق نفس تلك العظام المتفسّخة من جديد ويلبسها ثوب الحياة. «تأمّل!!».

[ 255 ]

الإرادة ومرحلة الإيجاد، وهي التي عبّرت عنه الآية بشكل أمر في جملة «كن».

بعض المفسّرين القدماء توهّموا أنّ المعنى يشير إلى وجود قول ولفظ في عملية الإيجاد والخلق، واعتبروا ذلك من أسرار الخلق غير المعروفة، والظاهر أنّهم وقعوا في عقدة اللفظ، وبقوا بعيدين عن المعنى، وقاسوا أعمال الله على مقاييسهم البشرية.

وما أجمل ما قاله أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام في واحدة من خطبه التي أوردت في نهج البلاغة: «يقول لما أراد لما كونه كن فيكون(1) لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قدمياً لكان ثانياً»(2).

ناهيك عن أنّنا لو افترضنا وجود لفظ أو قول في عملية الخلق فسنواجه إشكالين أساسيين:

الأوّل: أنّ (اللفظ) بحدّ ذاته مخلوق من مخلوقات الله ولأجل إيجاده يحتاج سبحانه إلى «كن» اُخرى، ونفس الكلام ينطبق على «كن» الثانية بحيث نصبح في عملية تسلسل غير منتهية.

الثاني: أنّ كلّ خطاب يحتاج إلى مخاطب، وفي الوقت الذي لم يوجد فيه شيء حينذاك فكيف يخاطبه الله سبحانه وتعالى بالقول «كن»، فهل أنّ المعدوم يمكن مخاطبته؟!

وقد ورد في آيات اُخرى من القرآن الكريم نفس هذا المعنى بتعبيرات اُخرى، كما في الآية (117) من سورة البقرة: (وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون)، وكذا في الآية (40) من سورة النحل: (إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن

________________________________

1 ـ ورد في بعض النسخ «لمن أراد» ويبدو أنّ الأنسب هو النص الذي أوردناه «لما أراد».2 ـ نهج البلاغة، خطبة 186.

[ 256 ]

فيكون)(1).

الآية الأخيرة من هذه الآيات وهي في ذات الوقت آخر آية من سورة «يس» تنهي البحث في مسألة المبدأ والمعاد بشكل جميل وبطريقة الإستنتاج الكلّي فتقول: (فسبحان الذي بيده ملكوت كلّ شيء وإليه ترجعون).

ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ «ملكوت» من أصل «ملك» ـ على وزن حكم ـ بمعنى الحكومة والمالكية، وإضافة (الواو) و (التاء) إليها للتأكيد والمبالغة، يتّضح أنّ معنى الآية كما يلي: إنّ الحاكمية والمالكية المطلقة بدون أدنى قيد أو شرط بيد قدرته المطلقة، وكذلك فإنّ الله سبحانه منزّه ومبرّأ عن أي عجز أو نقص في القدرة، وبهذا الشكل فإنّ إحياء الموتى وإلباس العظام المتفسّخة لباس الحياة من جديد، كلّ ذلك لن يشكّل لديه أيّة مشكلة، ولذلك فاعلموا يقيناً أنّكم إليه ترجعون وأنّ المعاد حقّ.

* * *

 

بحوث

لقد تقدّمت منّا الوعود بأن نتعرّض لبحث مركّز في مسألة المعاد في ختام سورة (يس) وها نحن نفي بهذه الوعود ونشبع هذه المسألة بحثاً من خلال ستّة مباحث لنعرضها للقرّاء الأعزّاء كما يلي:

 

1 ـ الإعتقاد بالمعاد أمر فطري:

إذا كان الإنسان قد خلق للفناء فيجب أن يكون عاشقاً للفناء، وأن يلتذّ بنهاية عمره وبموته في حين أنّنا نرى أنّ الموت بمعنى الفناء لم يكن سارّاً للإنسان في أي وقت، وهو يفرّ منه بكلّ وجوده.

________________________________

1 ـ هناك بحث آخر في تفسير جملة «كن فيكون» في تفسير الآية (117) من سورة البقرة.

[ 257 ]

إنّ السعي لإبقاء أجسام الموتى عن طريق التحنيط، وبناء المقابر الخالدة كأهرام مصر، والجري وراء ما يسمّى بماء الحياة ودواء الشباب وما يطيل العمر، كلّ ذلك دليل على عشق الإنسان لمفهوم البقاء.

فإذا كنّا قد خلقنا للفناء فما معنى حبّ البقاء سوى أنّها علاقة شاغلة بلا جدوى ولا فائدة.

لا تنسوا أنّنا نتابع البحث في مسألة المعاد بعد الإتّفاق على الإعتقاد بوجود الله الحكيم العالم، ونحن نعتقد بأنّ كلّ ما خلقه الله سبحانه وتعالى في وجودنا إنّما هو وفقاً لحساب وغرض، وبناءاً عليه فإنّ عشق البقاء لابدّ أن يكون له حساب خاصّ، منسجم مع الخلق والعالم بعد الدنيا.

وبتعبير آخر: فلو أنّ نظام الخلق أوجد فينا عطشاً. فإنّ ذلك دليل على أنّ للماء وجوداً في العالم الخارجي، كذلك فإنّ وجود الغريزة الجنسية والميل إلى الجنس الآخر يدلّل على وجود الجنس الآخر في العالم الخارجي، وإلاّ فإنّ الإنجذاب بدون أن يكون له مدلول وموضوع خارجي لا يتّفق مع حكمة الخلق.

ومن جهة اُخرى فعندما نبحث في التأريخ البشري منذ أيّام نشأة ذلك التأريخ فإنّنا نجد دلائل كثيرة على الإعتقاد الراسخ لدى الإنسان بالحياة بعد الموت. فالآثار التي وصلت إلينا من البشر الغابرين ـ وحتّى إنسان ما قبل التأريخ ـ وبالأخصّ طريقة دفن الموتى، وكيفية بناء القبور، وحتّى دفن الأشياء المختلفة مع الموتى، كلّها دليل على ما ترسّخ في وجدانهم من الإعتقاد بالحياة بعد الموت.

«صاموئيل كنيك» أحد علماء النفس المعروفين يقول: «إنّ التحقيقات الدقيقة تشير إلى أنّ المجموعات البشرية الاُولى على سطح الأرض، كانت لهم إعتقادات معيّنة، لأنّهم كانوا يلحدون موتاهم بطريقة معيّنة في الأرض، ويضعون معهم وسائل وآلات أعمالهم التي كانوا يمارسونها قبل الموت إلى جانبهم، وبهذه

[ 258 ]

الطريقة فإنّهم يثبتون إعتقادهم بوجود عالم ما بعد الموت»(1).

فهؤلاء اعتقدوا بالحياة بعد الموت، وإن كانوا قد سلكوا طريقاً خاطئاً في إعتقادهم كتوهّمهم أنّ تلك الحياة شبيهة بهذه الحياة تماماً.

على كلّ حال، فلا يمكن قبول أنّ ذلك الإعتقاد القديم مجرّد وهم أو نتيجة للتلقين والعادة.

ومن جهة ثالثة، فإنّ وجود محكمة «الوجدان»، دليل آخر على فطرية الإعتقاد بالمعاد. فكلّ إنسان عندما ينجز عملا حسناً فإنّه يستشعر في أعماقه وفي وجدانه الطمأنينة التي لا يمكن أحياناً وصفها بأي بيان أو كلام.

وعلى العكس عندما يرتكب الذنوب وخصوصاً الجنايات الكبرى، فإنّه يستشعر عدم الراحة، إلى حد تصل الحالة في البعض إلى الإنتحار، أو يسلّموا أنفسهم إلى المحاكم لنيل العقاب والتعلّق على أعواد المشانق.

كلّ ذلك دليل على عذاب الضمير والوجدان.

وللإنسان أن يسأل نفسه: كيف يمكن أن يكون عالم صغير كعالم النفس له تلك المحكمة، ولا يكون لهذا العالم العظيم مثل هذا الوجدان وهذه المحكمة؟!

وبهذا الشكل يتّضح أنّ الإعتقاد بمسألة المعاد والحياة بعد الموت أمر فطري، ومن عدّة طرق:

من طريق العشق البشري العام للبقاء.

ومن طريق وجود ذلك الإعتقاد بالحياة بعد الموت على طول التأريخ البشري.

ومن طريق وجود النموذج المصغّر لها في داخل الإنسان.

 

2 ـ أثر الإعتقاد بالمعاد على حياة البشر:

إنّ الإعتقاد بعالم ما بعد الموت وبقاء آثار الأعمال البشرية، وخلود الأعمال ـ

________________________________

1 ـ علم الإجتماع (ساموئيل كنيك) صفحة 192 (مع قليل من التلخيص).

[ 259 ]

سواء كانت خيراً أو شرّاً ـ يترك أثره العميق على فكر وأعصاب وجسد الإنسان، ويمكنه أن يكون عاملا مؤثّراً في التشجيع على الأعمال الحسنة.

إنّ تأثير الإيمان بالحياة بعد الموت في إصلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع الأفراد المضحّين والمجاهدين، أكثر بكثير من تأثير المحاكم والعقوبات المعمول بها عادةً في الدنيا، للمزايا التي يتمتّع بها ذلك الإيمان عن المحاكم العادية، ففي محكمة المعاد لا وجود لإعادة النظر، ولا أثر للإضطهاد الفكري على صاحبها، ولا فائدة من إعطاء وثائق كاذبة ومزوّرة، ولا تستغرق ـ عبر روتينها ـ مدّة من الزمن.

القرآن الكريم يقول: (واتّقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون).(1)

كذلك يقول تعالى: (ولو أنّ لكلّ نفس ظلمت ما في الأرض لأفتدت به وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).(2)

كذلك قوله تعالى: (ليجزي الله كلّ نفس ما كسبت إنّ الله سريع الحساب).(3)

وإنّ حسابه تعالى سريع وحاسم كما نقلت بعض الروايات: «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّها في مقدار لمح البصر»(4).

ولهذا السبب فقد اعتبر القرآن الكريم أنّ سبب الكثير من الذنوب هو نسيان يوم الجزاء، فقال تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا).(5)

حتّى أنّه يستفاد من بعض الآيات أنّ الإنسان إذا كان معتقداً بالقيامة فإنّه يمتنع عن القيام بالكثير من الأعمال المخالفة، فقد ورد في وصفه تعالى لمن يُخسرون

________________________________

1 ـ البقرة، 48.2 ـ يونس، 54.3 ـ إبراهيم، 51.4 ـ مجمع البيان، المجلّد 1، صفحة 298، تفسير سورة البقرة الآية 202.5 ـ السجدة، 14.

[ 260 ]

الميزان في البيع قوله تعالى: (ألا يظنّ اُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم).(1)

والحماسة الخالدة لمجاهدي الإسلام سابقاً وحاضراً في ميادين الجهاد، والتضحية والفداء والإيثار الذي يظهره الكثير من المسلمين في الدفاع عن بلدان الإسلام وعن المحرومين والمستضعفين، يدلّل على أنّه بجميعه إنعكاس لحالة الإعتقاد بالحياة الخالدة في الدار الآخرة، وقد دلّت الدراسات من قبل المفكّرين، والتجارب المختلفة على أنّ تلك المظاهر لا يمكن أن تكون ـ في المقياس الواسع الشامل ـ إلاّ عن طريق العقيدة بالحياة بعد الموت.

فإنّ المجاهد الذي منطقه (قل هل تربّصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين).(2) أي الوصول إلى إحدى السعادتين إمّا النصر أو الشهادة، وهو قطعاً مجاهد لا يقبل الهزيمة.

إنّ الموت الذي يبعث على الوحشة لدى كثير من الناس، وحتّى أنّهم يحاذرون من ذكر إسمه أو كلّ ما يذكّر به، ليس موحشاً ولا قبيحاً قطّ بالنسبة إلى المعتقدين بالحياة بعد الموت، بل إنّه بالنسبة إليهم نافذة على عالم رحيب، وتحطّم القفص الدنيوي وكسر القيود المادّية التي تأسر الروح، وبلوغ الحريّة المطلقة.

إنّ مسألة المعاد تعتبر الخطّ الفاصل بين الإلهيين والماديّين، لوجود نظرتين مختلفتين هنا:

 

فالمادّي يرى الموت فناءً مطلقاً، ويفرّ منه بكلّ وجوده، لأنّ كلّ شيء سينتهي به.

والإلهي يرى الموت ولادة جديدة، وولوجاً في عالم واسع كبير مشرق، والإنطلاق في السماء اللامحدودة. ومن الطبيعي فإنّ المعتقدين بهذا المذهب لا يفسحون المجال للخوف والوحشة للدخول إلى أنفسهم عند سلوكهم طريق

________________________________

1 ـ المطفّفين، 4.2 ـ التوبة، 52.

[ 261 ]

الموت والشهادة. بل إنّهم يستلهمون من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه»(1) ويستقبلون الموت في سبيل الهدف برحابة صدر. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين حينما تلقّى الضربة السامّة من اللعين الخاسر «عبدالرحمن بن ملجم» لم يقل سوى «فزت وربّ الكعبة».

خلاصة القول: فإنّ الإيمان بالمعاد يجعل من الإنسان الخائف الضائع، إنساناً شجاعاً شهماً هادفاً، تمتلىء حياته بالحماسة والتضحية والصدق والتقوى.

 

3 ـ الدلائل العقليّة على المعاد:

فضلا عن الدلائل النقلية الكثيرة على المعاد سواء الواردة في القرآن المجيد، والتي تشمل مئات الآيات بهذا الخصوص، فإنّ هناك أدلّة عقليّة واضحة أيضاً على هذه المسألة، والتي نحاول ذكرها هنا بشكل مختصر:

 

أ ـ برهان الحكمة:

إذا نظرنا إلى هذا العالم بدون العالم الآخر، فسيكون فارغاً وبلا معنى تماماً، كما لو افترضنا بوجود الحياة في الأطوار الجنينية بدون الحياة في هذه الدنيا.

فلو كان قانون الخلق يقضي بأنّ جميع المواليد الجدد يختنقون بمجرّد نزولهم من بطون اُمّهاتهم ويموتون، فإنّ الدور الجنيني سيكون بلا معنى؟ كذلك لو كانت الحياة في هذا العالم مبتورة عن الحياة في العالم الآخر، فسنواجه نفس الإضطراب والحيرة، فما ضرورة أن نعيش سبعين عاماً أو أكثر أو أقل في هذه الدنيا وسط كلّ هذه المشكلات؟ فنبدأ الحياة ونحن لا نملك تجربة معيّنة، وحين بلوغ تلك المرتبة يهجم الموت وينتهي العمر .. نسعى مدّة لتحصيل العلم والمعرفة،

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 5 صفحة 52.

[ 262 ]

وحينما نبلغ درجة منه بعد إشتعال الرأس شيباً يستقبلنا الموت.

ثمّ لأجل ماذا نعيش؟ الأكل واللبس والنوم والإستيقاظ المتكرّر يومياً، وإستمرار هذا البرنامج المتعب لعشرات السنين، لماذا؟

فهل حقّاً إنّ هذه السماء المترامية الأطراف وهذه الأرض الواسعة، وكلّ هذه المقدّمات والمؤخّرات وكلّ هؤلاء الأساتذة والمعلّمين والمربّين وكلّ هذه المكتبات الضخمة وكلّ هذه الاُمور الدقيقة والأعمال التي تداخلت في خلقنا وخلق باقي الموجودات، كلّ ذلك لمجرّد الأكل والشرب واللبس والحياة المادية هذه؟

هنا يعترف الذين لا يعتقدون بالمعاد بتفاهة هذه الحياة، ويقدم بعضهم على الإنتحار للتخلّص من هذه الحياة الخاوية، بل قد يفتخر به.

وكيف يمكن لمن يؤمن بالله وبحكمته المتعالية أن يعتبر هذه الحياة الدنيا وحدها بدون إرتباطها بحياة اُخرى ذات قيمة وذات شأن؟

يقول تعالى: (أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنّكم إلينا لا ترجعون).(1) أيّ أنّه لو لم يكن رجوع بعد هذه الدنيا إلى الله، فإنّ الحياة في هذه الدنيا ليست سوى عبث في عبث.

نعم فإنّ الحياة في هذه الدنيا تجد معناها ويكون لها مفهوماً ينسجم مع حكمة الله سبحانه وتعالى عندما تعتبر هذه: «الدنيا مزرعة للآخرة» و «الدنيا قنطرة» ومكان تعلّم، وجامعة للإستعداد للعالم الآخر ومتجر لذلك العالم، تماماً كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) في كلماته العميقة المعنى «إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عاقبة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّى ملائكة الله، ومهبط وحي الله،

________________________________

1 ـ المؤمنون، 115.

[ 263 ]

ومتجر أولياء الله»(1).

خلاصة القول، إنّ الفحص والمطالعة في وضع هذا العالم يؤدّي إلى الإعتقاد بعالم آخر وراء هذا العالم (ولقد علمتم النشأة الاُولى فلولا تذكّرون).(2)

 

ب ـ برهان العدالة:

التدقيق في نظام الوجود وقوانين الخلق، يستنتج منه أنّ كلّ شيء منها محسوب بدقّة متناهية. ففي مؤسسة البدن البشري، يحكم نظام عادل دقيق، بحيث أنّه لو تعرّض لأدنى تغيير أو عارض ما لأدّى إلى إصابته بالمرض أو حتّى الموت، حركات القلب، دوران الدم، أجفان العين، وكلّ جزء من خلايا الجسم البشري مشمول بهذا النظام الدقيق، الذي يحكم العالم بأسره «وبالعدل قامت السموات والأرض»(3) فهل يستطيع الإنسان أن يكون وحده النغمة النشاز في هذا العالم الواسع؟!

صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان بعض الحرية في الإرادة والإختيار لكي يمتحنه ولكي يتكامل في ظلّ تلك الحرية ويطوي مسير تكامله بنفسه، ولكن إذا أساء الإنسان الإستفادة من تلك الحرية فماذا سيكون؟! ولو أنّ الظالمين الضالّين المضلّين بسوء إستفادتهم من هذه الموهبة الإلهية استمرّوا على مسيرهم الخاطىء فماذا يقتضي العدل الإلهي؟!

وصحيح أنّ بعضاً من المسيئين يعاقبون في هذه الدنيا ويلقون مصير أعمالهم ـ على الأقل قسم منهم ـ ولكن المسلّم أنّ جميعهم لا ينال جميع ما يستحقّ. كما أنّ جميع المحسنين الأطياب لا يتلقّون جزاء أعمالهم الطيّبة في الدنيا، فهل من

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار كلمة 131.2 ـ الواقعة، 62.3 ـ تفسير الصافي، المجلّد الخامس، صفحة 107.

[ 264 ]

الممكن أن تكون كلا المجموعتين في كفّة عدالة الله سواء؟!

ويقول القرآن الكريم: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون).(1)

وفي موضع آخر يقول تعالى: (أم نجعل المتّقين كالفجّار).(2)

على كلّ حال، فلا شكّ في تفاوت الناس وإطاعة أوامر الله سبحانه وتعالى، كما أنّ محاكم «القصاص والثواب الدنيوية» و «محكمة الوجدان» و «الآثار الوضعية للذنوب» كلّ ذلك لا يكفي لإقرار العدالة على ما يبدو، وعليه يجب القبول بأنّه لأجل إجراء العدالة الإلهية يلزم وجود محكمة عدل عامّة تراعي بدقّة الخير أو الشرّ في حساباتها، وإلاّ فإنّ أصل العدالة لا يمكن تأمينه أبداً.

وبناءً على ما تقدّم يجب الإقرار بأنّ قبول العدل الإلهي مساو بالضرورة لوجود المعاد والقيامة، القرآن الكريم يقول: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة).(3)

ويقول: (وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون).(4)

 

ج ـ برهان الهدف:

على خلاف ما يتوهّمه المادّيون، فإنّ الإلهيين يرون أنّ هناك هدفاً من خلق الإنسان، والذي يعبّر عنه الفلاسفة بـ «التكامل» وفي لسان القرآن والحديث فهو «القرب إلى الله» أو «العبادة» (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون).(5)

فهل يمكن تحقيق هذا الهدف إذا كان الموت نهاية لكلّ شيء؟!

________________________________

1 ـ القلم، 35 و36.2 ـ ص، 28.3 ـ الأنبياء، 47.4 ـ يونس، 54.5 ـ الذاريات، 56.

[ 265 ]

يجب أن يكون عالم بعد هذا العالم ويستمرّ فيه سير الإنسان التكاملي، وهناك يحصد ما زرع في هذا العالم، وكما قلنا في موضع آخر فإنّه في ذلك العالم الآخر يستمرّ سير الإنسان التكاملي ليبلغ هدفه النهائي.

الخلاصة: أنّ تحقيق الهدف من الخلق لا يمكن بدون الإعتقاد بالمعاد، وإذا قطعنا الإرتباط بين هذا العالم وعالم ما بعد الموت، فكلّ شيء سيتحوّل إلى ألغاز، وسوف نفقد الجواب على الكثير من التساؤلات.

 

د ـ برهان نفي الإختلاف:

لا شكّ أنّنا جميعاً نتعذّب كثيراً من الإختلافات بين المذاهب والعقائد في هذا العالم، وكلّنا نتمنّى أن تحلّ هذه الإختلافات، في حين أنّ جميع القرائن تدلّل على أنّ هذه الإختلافات هي من طبيعة الحياة. ويستفاد من عدّة دلائل بأنّه حتّى بعد قيام المهدي (عليه السلام) ـ وهو المقيم لحكومة العدل العالمية والمزيل لكثير من الإختلافات ـ ستبقى بعض الإختلافات العقائدية بلا حلّ تامّ، وكما يقول القرآن الكريم فإنّ اليهود والنصارى سيبقون على إختلافاتهم إلى قيام القيامة: (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة).(1)

ولكن الله سبحانه وتعالى الذي يقود كلّ شيء باتّجاه الوحدة سينهي تلك الإختلافات حتماً، ولوجود الحجب الكثيفة لعالم المادّة في الدنيا فإنّه لا يمكن حلّ هذا الأمر بشكل كامل فيها، ونعلم أنّ العالم الآخر هو عالم الظهور والإنكشاف، إذن فنهاية هذه المسألة ستكون نهاية عملية، وستكون الحقائق جلية واضحة إلى درجة أنّ الإختلافات العقائدية ستحلّ بشكل نهائي تامّ.

الجميل أنّه تمّ التأكيد في آيات متعدّدة من القرآن الكريم على هذه المسألة، يقول تعالى في الآية (113) من سورة البقرة: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما

________________________________

1 ـ المائدة، 14.

[ 266 ]

كانوا فيه يختلفون) وفي الآيات (38) و39) من سورة النحل يقول تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقّاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبيّن لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنّهم كانوا كاذبين).

 

4 ـ القرآن ومسألة المعاد:

تعتبر مسألة المعاد المسألة الثانية بعد مسألة التوحيد والتي تعتبر المسألة الأساس في تعليمات الأنبياء بخصائصها وآثارها التربوية، لذا ففي بحوث القرآن الكريم نجد أنّ أكثر الآيات اختّصت ببحث مسألة المعاد، بعد الكثرة الكاثرة التي اختّصت ببحث مسألة التوحيد.

والمباحث القرآنية حول المعاد تارةً تكون بشكل إستدلالات منطقية، واُخرى بشكل بحوث خطابية وتلقينية شديدة الوقع بحيث أنّ سماعها في بعض الأحيان يؤدّي إلى قشعريرة شديدة في البدن بأسره. والكلام الصادق ـ كالإستدلالات المنطقية ـ ينفذ إلى أعماق الروح الإنسانية.

في القسم الأوّل، أي الإستدلالات المنطقية، فإنّ القرآن الكريم يؤكّد كثيراً على موضوع إمكانية المعاد، إذ أنّ منكري المعاد غالباً ما يتوهّمون إستحالته، ويعتقدون بعدم إمكانية المعاد بصورة معاد جسماني يستلزم عودة الأجسام المهترئة والتراب إلى الحياة مرّة اُخرى.

ففي هذا القسم، يلج القرآن الكريم طرقاً متنوعة ومتفاوتة تلتقي كلّها في نقطة واحدة، وهي مسألة «الإمكان العقلي للمعاد».

فتارةً يجسّد للإنسان النشأة الاُولى، وبعبارة وجيزة ومعبّرة واضحة تقول الآية: (كما بدأكم تعودون).(1)

________________________________

1 ـ الأعراف، 29.

[ 267 ]

وتارةً يجسّد حياة وموت النبات، وبعثه الذي نراه باُمّ أعيننا كلّ عام، وفي الختام يقول إنّ بعثكم تماماً كالنبات: (ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً وأنبتنا به جنّات وحب الحصيد ... وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج).(1)

وفي موضع آخر يقول تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور).(2)

وحيناً يطرح مسألة قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق السموات والأرض فيقول: (أو لم يروا أنّ الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر على على أن يحيي الموتى بلى إنّه على كلّ شيء قدير).(3)

وحيناً آخر يعرض عملية إنبعاث الطاقة وإشتعال الشجر الأخضر كنموذج على قدرته، وجعل النار في قلب الماء فيقول: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً).(4)

وتارةً يجسّد أمام ناظري الإنسان الحياة الجنينية فيقول: (ياأيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى ثمّ نخرجكم طفلا).(5)

وأخيراً فإنّ القرآن تارةً يدلّل على البعث بالنوم الطويل ـ النوم الذي هو قرين الموت وأخوه، بل إنّه الموت بعينه من بعض الجوانب ـ كنوم أصحاب الكهف الذي استمر ثلاثمائة وتسع سنين، وبعد تفصيل جميل حول النوم واليقظة يقول:

________________________________

1 ـ سورة ق، 9 ـ 11.2 ـ فاطر، 9.3 ـ الأحقاف، 33.4 ـ سورة يس، 80.5 ـ الحجّ، 5.

[ 268 ]

(وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنّ وعد الله حقّ وأنّ الساعة لا ريب فيها).(1)

تلك هي الأساليب الستّة المختلفة التي طرحتها آيات القرآن الكريم لبيان إمكانية المعاد. علاوةً على قصّة إبراهيم (عليه السلام) والطيور الأربعة (البقرة ـ 260) وقصّة عزير (البقرة ـ 259) وقصّة الشهادة من بني إسرائيل (البقرة ـ 73)، والتي تشكّل كلّ واحدة منها نموذجاً تأريخياً على هذه المسألة وهي من الشواهد والدلائل الاُخرى التي ذكرها القرآن بهذا الخصوص.

خلاصة القول، إنّ ما يعرضه القرآن الكريم عن المعاد ومظاهره المختلفة ومعلوماته ونتائجه، والدلائل الرفيعة التي يطرحها بهذا الخصوص، حيّة ومقنعة بحيث أنّ أيّ إنسان إذا كان لديه ذرّة من الوجدان فإنّه يتأثّر بعمق ما يطرحه القرآن الكريم.

وعلى قول البعض: فإنّ ألفاً ومائتي آية من القرآن الكريم تبحث في مسألة المعاد، لو جمعت وفسّرت لأصبحت وحدها كتاباً ضخماً.

 

5 ـ المعاد الجسماني:

المقصود من المعاد الجسماني ليس إعادة الجسم وحده في العالم الآخر، بل إنّ الهدف هو بعث الروح والجسم معاً، وبتعبير آخر فإنّ عودة الروح أمر مسلّم به، والحديث حول عودة الجسم.

جمع من الفلاسفة القدماء كانوا يعتقدون بالمعاد الروحي فقط، وينظرون إلى الجسد على أنّه مركّب، يكون مع الإنسان في هذه الدنيا فقط، وبعد الموت يصبح الإنسان غير محتاج إليه فينزل الجسد ويندفع نحو عالم الأرواح.

ولكن العلماء المسلمين الكبار يعتقدون بأنّ المعاد يشمل الروح والجسم، وهنا لا يقيّد البعض بعودة الجسم السابق، ويقولون بأنّ الله قيّض للروح جسداً، ولكن

________________________________

1 ـ الكهف، 21.

[ 269 ]

شخصيّة الإنسان بروحه فإنّ هذا الجسد يعدّ جسده.

في حال أنّ المحقّقين يعتقدون بأنّ هذا الجسد الذي يصبح تراباً ويتلاشى، يتلبّس بالحياة مرّة اُخرى بأمر الله الذي يجمعه ويكسوه بالحياة، هذه العقيدة نابعة من متون الآيات القرآنية الكريمة.

إنّ الشواهد على المعاد الجسماني في الآيات القرآنية الكريمة كثيرة جدّاً، بحيث يمكن القول قطعاً بأنّ الذين يعتقدون بإقتصار المعاد على المعاد الروحي فقط لا يملكون أدنى إطّلاع على الآيات العديدة التي تبحث في موضوع المعاد، وإلاّ فإنّ جسمانية المعاد واضحة في الآيات القرآنية إلى درجة تنفي أدنى شكّ في هذه المسألة.

فهذه الآيات التي قرأناها في آخر سورة يس، توضّح هذه الحقيقة حيث حينما تساءل الإنسان: (قال من يحيي العظام وهي رميم) أجابه القرآن بصراحة ووضوح: (قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة).

إنّ كلّ تعجّب المشركين والمخالفين لمسألة المعاد هو هذه القضيّة، وهي كيف يمكن إحياؤنا بعد الموت وبعد أن نصبح تراباً متناثراً وضائعاً في هذه الأرض؟ (وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنّا لفي خلق جديد).(1)

إنّهم يقولون: (أيعدكم أنّكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنّكم مخرجون).(2)

وتعجّبوا من هذه المسألة إلى درجة أنّهم اعتبروا إظهارها دليلا على الجنون أو الكذب على الله (قال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد).(3)

لهذا السبب فإنّ إستدلالات القرآن الكريم حول إمكانية المعاد عموماً تدور

________________________________

1 ـ السجدة، 10.2 ـ المؤمنون، 35.3 ـ سورة سبأ، 7.

[ 270 ]

حول هذا المحور وهو «المعاد الجسماني» وما عرضناه في الفصل السابق في ستّة طرق كانت دليلا وشاهداً على هذا الإدّعاء.

علاوةً على أنّ القرآن الكريم يذكر مراراً وتكراراً بأنّكم ستخرجون يوم القيامة من قبوركم والقبور مرتبطة بالمعاد الجسماني.

والأوصاف التي يذكرها القرآن الكريم عن المواهب المادية والمعنوية للجنّة، كلّها تدلّل على أنّ المعاد معاد جسمي ومعاد روحي أيضاً، وإلاّ فلا معنى للحور والقصور وأنواع الأغذية والنعيم في الجنّة إلى جنب المواهب المعنوية.

على كلّ حال، فلا يمكن أن يكون الإنسان على جانب يسير من المنطق والثقافة القرآنية وينكر المعاد الجسماني. وبتعبير آخر: فإنّ إنكار المعاد الجسماني بنظر القرآن الكريم مساو لإنكار أصل المعاد.

علاوةً على هذه الأدلّة النقلية، فإنّ هناك أدلّة عقلية بهذا الخصوص لو أردنا إيرادها لاتّسع البحث كثيراً، لا شكّ أنّ الإعتقاد بالمعاد الجسماني سيثير أسئلة وإشكالات كثيرة، منها شبهة الآكل والمأكول والتي ردّ عليها العلماء الإسلاميون والتي أوردنا تفصيلا عنها بشكل مختصر في المجلّد الثاني عند تفسير الآية (260) من سورة البقرة.

 

6 الجنّة والنار

الكثيرون يتوهّمون بأنّ عالم ما بعد الموت يشبه هذا العالم تماماً ولكنّه بشكل أكمل وأجمل، غير أنّ لدينا قرائن عديدة تدلّل على الفروق الكبيرة بين العالمين من حيث الكيفية والكميّة، لو أردنا تشبيهها بالفروق بين العالم الجنيني وهذه الدنيا لظلّت المقايسة أيضاً غير كاملة.

فوفقاً لصريح الروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ في عالم ما بعد الموت ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت ولا خطر على فكر بشر، القرآن الكريم يقول: (فلا تعلم

[ 271 ]

نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين).(1)

الأنظمة الحاكمة في ذلك العالم أيضاً تتفاوت تماماً مع الأنظمة في هذا العالم، ففي حين يستفاد في هذا العالم من أفراد يسمّون «الشهود» في المحاكمات، نرى أنّ هناك تشهد الأيدي والأرجل وحتّى الجلد (اليوم نختم على أفواههم وتكلّمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون).(2)(وقالوا لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء).(3)

على كلّ حال، فما قيل عن العالم الآخر لا يرسم أمامنا سوى صورة باهتة، وعادةً فإنّ اللغة التي نتحدّث بها والثقافة التي لدينا غير قادرة جميعها على الوصف الحقيقي لما هو موجود هناك، ولكن لا يترك الميسور بالمعسور. فالمقدار المتيقّن هو أنّ الجنّة هي مركز كلّ النعم والمواهب الإلهية سواء المادية أو المعنوية، وجهنّم هي مركز لكلّ أنواع العذاب الأليم المادّي والمعنوي أيضاً.

أمّا بخصوص تفصيل ذلك فإنّ القرآن الكريم أورد جزئيات نحن نؤمن بها، ولكن تفصيلها بدقّة غير ممكن بدون الرؤية والمعاينة. ولنا بحث حول هذا الخصوص في تفسير الآية (33) من سورة آل عمران.

إلهي: آمنّا في الفزع الأكبر.

إلهي: لا تحاسبنا بعدلك ولكن حاسبنا بلطفك وعدلك، فليس لدينا من الأعمال ما يوجب رضاك.

اللهم افعل بنا ما يرضيك عنّا ويجعلنا من الناجين آمين ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة يس

________________________________

1 ـ السجدة، 17.2 ـ سورة يس ـ 65. 3 ـ سورة فصلت، 21.



 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335940

  • التاريخ : 28/03/2024 - 19:07

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net