00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاحقاف من أول السورة ـ آية 20 من ( ص 237 ـ 281 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[237]

بدَايَة الجزء السَّادس والعشرُون من القُرْآنِ الكَرِيْم

[238]

سُورَة الأحقاف

مكيّة

وَعَدَدُ آياتها خمسٌ وثلاثونَ آية

[239]

سورة الأحقاف

 محتوى السورة:

هذه السورة من السور المكية ـ وإن كان جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ بعض آياتها قد نزلت في المدينة، وسنبحث ذلك في شرح تلك الآيات إن شاء الله تعالى ـ ولما كان زمان نزولها وظروفه زمان مواجهة الشرك، والدعوة إلى التوحيد والمعاد ومسائل الإسلام الأساسية، فإنها تتحدث حول هذه الأُمور، وتدور حول هذه المحاور.

ويمكن القول باختصار، أنّ هذه السورة تتابع الأهداف التالية:

1 ـ بيان عظمة القرآن.

2 ـ محاربة كلّ أنواع الشرك والوثنية بشكل قاطع.

3 ـ توجيه الناس إلى مسألة المعاد ومحكمة العدل الإلهي.

4 ـ إنذار المشركين والمجرمين من خلال بيان جانب من قصة قوم عاد، الذين كانوا يسكنون أرض «الأحقاف»، ومنها أُخذ اسم هذه السورة.

5 ـ الإشارة إلى سعة دعوة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وكونها عامّة تتخطى حتى حدود البشر، أي إنّها تشمل طائفة الجن أيضاً.

6 ـ ترغيب المؤمنين وترهيب الكافرين وإنذارهم، وإيجاد دوافع الخوف والرجاء.

7 ـ دعوة نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التحلي بالصبر والإستقامة الى أبعد الحدود،

[240]

والإقتداء بسيرة الأنبياء الماضين.

 

فضل هذه السورة:

ورد في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل هذه السورة: «من قرأ سورة الأحقاف أُعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات»(1).

ولما كانت «الأحقاف» جمع حِقْف، وهي الكثبان الرملية التي تتجمع على هيئات مختلفة، مستطيلة ومتعرجة نتيجة هبوب الرياح في الصحاري، وكان يقال لأرض قوم عاد «الأحقاف» لأنّها كانت حصباء على هذه الشاكلة، فإنّ تعبير الحديث أعلاه ناظر إلى هذا المعنى.

ومن البديهي أنّ كلّ هذه الحسنات والدرجات لا تمنح لمجرّد التلاوة اللفظية، بل التلاوة البناءة المؤدية إلى السير في طريق الإيمان والتقوى، ولمحتوى سورة الأحقاف هذا الأثر حقّاً إذا كان الإنسان طالب حقيقة ومستعداً للعمل والتطبيق.

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف لم يصبه الله عزَّ وجلَّ بروعة في الحياة الدنيا، وآمنه من فزع يوم القيامة إن شاء»(2).

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، بداية سورة الأحقاف.

2 ـ تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين بداية سورة الأحقاف.

[241]

الآيات

حم( 1 ) تَنزِيلُ الْكِتَـبِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( 2 ) مَا خَلَقْنَا السَّمـوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَل مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ( 3 )

 

التّفسير

خلق هذا العالم على أساس الحق:

هذه السورة هي آخر سورة تبدأ بـ (حم) وتسمى جميعاً الحواميم.

وقد كانت لنا بحوث كثيرة حول الحروف المتقطعة بعامة، و(حم) بخاصة، في بدايات سور البقرة وآل عمران والاعراف سور الحواميم السابقة، فلا حاجة لتكرارها هنا.

ونكتفي هنا بالقول بأنّ هذه الآيات التي تهزّ الأعماق، وتحرك الوجدان، والتي تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة، من الألف والباء، والحاء والميم وأمثالها، وكفى بها دليلاً على عظمة الله سبحانه إذ أظهر هذا المركّب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة، ولو تأملنا فيه كثيراً، وفكرنا في أسراره حتى القيامة فسيبقى فيه من الأسرار الخافية الكثير الكثير.

[242]

وربّما كان هذا هو السبب في أن تضيف الآية مباشرة: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم).

إنّه نفس التعبير الذي ورد في بداية ثلاث سور من الحواميم، وهي: المؤمن، والجاثية، والأحقاف.

ولا شكّ في الحاجة إلى قوّة لا تقهر، وحكمة لا حد لها، لكي تنزل مثل هذا الكتاب.

ثمّ تحولت الآيات من كتاب التدوين إلى كتاب التكوين، فتحدثت الآية عن عظمة السماوات والأرض وكونهما حقاً، فقالت: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق) فلا ترى في كتاب سمائه كلمة تخالف الحق، ولا تجد في مجموع عالم خلقه شيئاً نشازاً لا ينسجم والحق، فالكل منسق منتظم، وكله مقترن بالحق.

لكن، كما أنّ لهذا الكون بداية، فإنّ له نهاية أيضاً، ولذلك تضيف الآية: (وأجل مسمى)فإذا حل الأجل ستفنى الدنيا بما فيها، ولما كان هذا العالم مقترناً بالحق ويسير ضمن منهجه، وله هدف مرجو، فمن الطبيعي أن يوجد عالم آخر تُبحث فيه الأعمال وتعلن فيه النتائج، وبناءً على هذا، فإنّ كون هذا العالم حقّاً دليل بنفسه على وجود المعاد، وإلاّ فإنّه سيكون لغواً وعبثاً لا فائدة فيه، وسيقترن حين ذلك بكثير من المظالم والمفاسد.

لكن مع أنّ القرآن حق، وخلق العالم حق أيضاً: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون)فالآيات القرآنية تهددهم وتنذرهم بصورة متلاحقة متوالية، وتحذرهم بأن محكمة عظمى أمامهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ نظام الخلقة بدقته وأنظمته الخاصّة يدل بنفسه على أنّ في الأمر حساباً ونظاماً، غير أنّ هؤلاء الغافلين لم يلتفتوا لا إلى هذا ولا إلى ذاك.

كلمة «معرضون» ـ من الإعراض ـ تشير إلى أنّ هؤلاء إذا نظروا إلى آيات

[243]

التكوين والتدوين فسيدركون الحقائق، إلاّ أنّهم أعرضوا بوجوههم عنها، وفروا من الحق لئلا يغير من أسلوب تقاليدهم وأهوائهم وميولهم وشهواتهم وإتباعهم لها.

 

* * *

 

[244]

الآيات

قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاَْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمـوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَـب مِن قَبْلِ هذَا أَوْ أَثَـرَة مِنْ عِلْم إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ( 4 ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَـفِلُونَ( 5 ) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـفِرِينَ( 6 )

 

التّفسير

أضل الناس:

كان الكلام في الآيات السابقة عن خلق السماوات والأرض وأنّها جميعاً من صنع الله العزيز الحكيم، ولازم ذلك أن لا يكون في الكون إله سواه، لأنّ من له أهلية الأُلوهية هو خالق العالم ومدبره، وهاتان الصفتان قد جمعتا في الذات المقدسة.

ومن أجل تكملة هذا البحث، تخاطب هذه الآيات النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وتقول: (قل

[245]

أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات).

إذا كنتم تقرون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات الأرضية مطلقاً، ولا في خلق الشمسِ والقمر والنجوم وموجودات العالم العلوي، وتقولون بصراحة بأن الله هو خالقها جميعاً(1)، فعلام تمدون أكفكم إلى الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع، ولا تسمع ولا تعقل، تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم، ودفع البلاء عنكم، واستجلاب البركات إليكم؟

وإذا قلتم ـ على سبيل الفرض ـ: إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين  فـ (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إنّ كنتم صادقين).

وخلاصة القول، فإنّ الدليل إمّا أن يكون نقلياً عن طريق الوحي السماوي، أو عقلياً منطقياً، أو بشهادة العلماء وتقريرهم، أمّا أنتم فلستم مستندين إلى الوحي والكتاب السماوي في دعواكم حول الأصنام، وغير قادرين من طريق العقل على إثبات اشتراكها في خلق السماوات والأرض وبالتالي إثبات كونها آلهة، ولم يرد أثر من أقوال العلماء الماضين ما يؤيد رأيكم ويدعم اعتقادكم، ومن هنا يتبيّن أنّ دينكم ومعتقدكم لا يعدو كونه حفنة من الخرافات المستهجنة، والأوهام الكاذبة.

بناءً على هذا، فإنّ جملة (أروني ماذا خلقوا من الأرض...) إشارة إلى دليل العقل، وجملة (ائتوني بكتاب من قبل هذا) إشارة إلى الوحي السماوي، والتعبير بـ (أثارة من علم) إشارة إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء السابقين(2). وقد ذكر علماء اللغة والمفسّرون عدةّ معان لكلمة «أثارة» ـ على وزن حلاوة ـ فمنها: بقية الشيء، الرواية، العلامة. لكنّ الظاهر أنّها تعود إلى معنى واحد،

____________________________________

1 ـ لقد ورد هذا المعنى في أربع آيات من القرآن، وطالعوا تفصيلاً أكثر حول هذا المطلب في ذيل الآية (25) من سورة الزخرف من التّفسير الأمثل.

2 ـ نقرأ في حديث روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في أصول الكافي في تفسير جملة (أو أثارة من علم) أنّه قال: «إنّما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء». نور الثقلين، المجلد 5، صفحة 9.

[246]

وهو الأثر الذي يبقى من الشيء ويدل على وجوده.

وقد وردت مثل هذه المناظرة والمحاكمة مع الوثنيين في الآية (40) من سورة فاطر، حيث تقول: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلاّ غروراً).

وممّا يلفت النظر أنّه يقول في مورد الأرض: (ماذا خلقوا من الأرض) أمّا في مورد السماء فيقول: (أم لهم شرك في السماوات) أي إنّ الكلام في الموردين عن الإشتراك، لأنّ الشرك في العبادة يجب أن ينشأ من الشرك في الخالقية وتدبير النشأة.

وهنا يطرح سؤال، وهو: إذا كان المشركون يعتقدون ـ عادةً ـ أنّ أمر الخلق مختص بالله سبحانه، فلماذا يطالبون بأحد هذه الأدلة الثالثة؟

ويمكن الإجابة بأنّ هذه المطالبة موجهة إلى فئة قليلة بين عبدة الأوثان، يحتمل أنّهم كانوا يقولون باشتراك الأصنام في الخلق، أو أنّها طرحت على سبيل الفرض، أي إنّكم إذا ظننتم يوماً أنّ الأصنام شريكة في خلق العالم، فاعلموا أن لا دليل لكم على ذلك، لا من النقل ولا من العقل.

بعد ذلك تبيّن الآية التالية عمق ضلالة هؤلاء المشركين وانحرافهم، فتقول: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) ولا يقف الأمر عند عدم إجابتهم وحسب، بل إنّهم لا يسمعون كلامهم: (وهم عن دعائهم غافلون).

ويرى بعض المفسّرين أنّ مرجع الضمير في هذه الآية إلى الأصنام الجامدة الميتة، باعتبار أنّ أكثر آلهة مشركي العرب كانت الأصنام. واعتبره البعض إشارة إلى الملائكة والبشر الذين عبدوا من دون الله، لأنّ عبدة الملائكة والجن لم يكونوا قلّة بين العرب، والتعبيرات المختلفة لهذه الآية، والمتناسبة مع ذوي العقول تؤيد

[247]

هذا المعنى.

لكن لا مانع من أن نفسر الآية بمعناها الواسع، فتدخل فيه كلّ هذه المعبودات، سواء الحية والميتة، العاقلة وغير العاقلة، فتكون التعابير متناسبة مع ذوي العقول من باب التغليب.

وعندما تقول الآية: إنّهم لا يجيبونهم إلى يوم القيامة، فإنّ ذلك لا يعني أنّهم سيجيبونهم يوم القيامة ـ ما ظن البعض ذلك ـ بل إنّ هذا التعبير متداول في النفي المؤيد، كما نقول مثلاً: لو أصررت على فلان إلى يوم القيامة لما أقرضك، أي أنّه سوف لا يقوم بها العمل أبداً، لا أنّه سيلبي طلبك في يوم القيامة.

وسبب ذلك معلوم أيضاً، لأنّ كلّ سعي وجهد وتلبية طلب وقضاء حاجة نافع في هذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت انتهى معها إمكان القيام بكلّ هذه الأعمال.

والأشد أسفاً من ذلك أنّه: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين).

أمّا المعبودات من العقلاء، فإنّهم سيهبون لإظهار عدائهم لهؤلاء الضالين، فالمسيح (عليه السلام) يظهر اشمئزازه وتنفره من عابديه، وتتبرأ الملائكة منهم، بل وحتى الشياطين والجن تظهر عدم رضاها. وأمّا المعبودات التي لا عقل لها ولا حياة، فإنّ الله سبحانه سمنحها العقل والحياة لتنطق بالبراءة من هؤلاء العبدة وتبدي غضبها عليهم.

لقد ورد نظير هذا المعنى في آيات القرآن الأُخرى، ومن جملتها الآية (14 من سورة فاطر، حيث تقول: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير). وكررت في الآيات مورد البحث كلّ هذه المسائل بتفاوت يسير.

لكن كيف ينكر المعبودون عبادة عابديهم، وهي ممّا لا ينكر؟

ربّما كان ذلك إشارة إلى أنّهم كانوا يعبدون أهواءهم في الحقيقة، ولم يكونوا

[248]

يعبدون تلك الآلهة، لأنّ أساس الوثنية عبادة الهوى.

وهنا نكتة تستحق الإنتباه، وهي: إنّ عداء المعبودين لعبدتهم يوم القيامة لم يرد التأكيد عليه هنا فقط، بل نقرأ ذلك أيضاً في الآية (25) من سورة العنكبوت على لسان إبراهيم (عليه السلام) بطل التوحيد ومحطم الأصنام إذ يقول: (وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّةً بينكم في الحياة الدنيا ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً).

وجاء في الآية (82) من سورة مريم: (كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً).

 

* * *

 

[249]

الآيات

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَـتُنَا بَيِّنَـت قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ( 7 ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَّ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( 8 ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌّ مُبِينٌ( 9 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ( 10 )

 

التّفسير

لم أكن أوّل نبيّ!!

يستمر الحديث في هذه الآيات عن حال المشركين، وكيفية تعاملهم مع آيات الله، فتقول: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا

[250]

سحر مبين) فهم لا يستطيعون إنكار نفوذ القرآن السريع في القلوب، وجاذبيته التي لا تقاوم من جهة، وهم من جهة أُخرى غير مستعدين لأن يخضعوا أمام عظمته وكونه حقّاً، ولذلك فإنّهم يفسّرون هذا النفوذ القوي بتفسير خاطئ منحرف ويقولون: إنّه سحر مبين، وهذا القول ـ بحدِّ ذاته ـ اعتراف ضمني واضح بتأثير القرآن الخارق في قلوب البشر.

بناءً على هذا فإنّ «الحق» ـ في الآية المذكورة ـ إشارة إلى آيات القرآن، وإن كان البعض قد فسّرها بالنبوّة، أو الإسلام، أو معجزات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الأُخرى، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب بملاحظة بداية الآية.

غير أنّ هؤلاء لم يكتفوا بإطلاق هذه التهمة وإلصاقها به، بل إنّهم تمادوا فخطوا خطوةً أوسع، وأكثر صراحةً: (أم يقولون افتراه).

إنّ الله سبحانه يأمر نبيّه هنا بأن يجيبهم بجواب قاطع، ويعطيهم البرهان الجلي بأنّه قل لهم إذا كان كذلك فاللازم أن يفضحني ولا تستطيعون الدفاع عنّي مقابل عقابه: (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً)(1) فكيف يمكن أن يظهر الله سبحانه هذه الآيات البينات والمعجزة الخالدة على يد كذّاب؟ إنّ هذا بعيد عن حكمة الله ولطفه.

وهذا كما ورد في الآيات (44) ـ (47) من سورة الحاقة: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين).

بناءً على هذا، هل يمكن أن أقدم على مثل هذا العمل الخطير من أجلكم؟ وكيف تصدّقون أنّ بالإمكان أن أكذب مثل هذه الكذبة ثمّ يبقيني الله حياً، بل ويمنحني معاجز أخر؟

____________________________________

1 ـ جملة (إن افتريته) جملة شرطية حذف جزاؤها، والتقدير: إن افتريته أخذني وعاجلني بالعقوبة.

[251]

ثمّ يضيف مهدداً: (هو أعلم بما تفيضون فيه)(1) وسيعاقبكم في الوقت اللازم.

نعم، إنّه يعلم كلّ ما رميتموني به من التهم، وأنّكم وقفتم بوجه رسوله، وكنتم تصدون الناس عن الإيمان بالحق بنفثكم السموم بينهم.

ثمّ يقول في الجملة التالية كتأكيد أكبر مقترن بتعامل مؤدب جدّاً: (كفى به شهيداً بيني وبينكم) فهو يعلم صدق دعوتي، وسعيي وجهدي في إبلاغ الرسالة، كما يعلم كذبكم وافتراءكم والعوائق التي تضعونها في طريقي، وهذا كاف لي ولكم.

ومن أجل أن يدلهم على طريق الرجوع إلى الحق، ويعلمهم بأنّه مفتوح إن أرادوا العودة، يقول: (وهو الغفور الرحيم) فهو يعفو عن التائبين ويغفر لهم، ويدخلهم في رحمته.

ويضيف في الآية التالية: (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلاّ ما يوحى إليَّ وما أنا إلاّ نذير مبين).

إنّ هذه الجمل الوجيزة الغنية المحتوى تجيب عن كثير من إشكالات المشركين، ومن جملتها أنّهم كانوا يتعجبون أحياناً ـ في مسألة بعثة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ كيف يمكن أن يتصل إنسان بالله ويرتبط به؟

وأحياناً كانوا يقولون: لماذا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟

وتارة كانوا يطلبون معاجز عجيبة غريبة، وكان كلّ منهم يتمنى شيئاً.

وكانوا يظنون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستودع لعلم الغيب، فيطلبون منه أن يخبرهم بكلّ حوادث المستقبل.

وأخيراً فإنّهم كانوا يعجبون أحياناً من دعوته لنبذ الآلهة والتوجّه إلى عبادة الله

____________________________________

1 ـ «ما» في جملة (ما تُفيضون فيه) يمكن أن تكون موصولة، وتعني التهم غير الصحيحة، والتي كان يعلمها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وبناءً على هذا فإنّ ضمير (فيه) يعود إليها. وإن كانت مصدرية فإنّ الضمير (فيه) يعود إلى القرآن أو إلى الحق، وهنا تكون (تفيضون) بمعنى الدخول في عمل ما بقصد الإفساد والتخريب.

[252]

وتوحيده.

وهذه الآية إشارة إجمالية إلى أجوبة جميع هذه الأسئلة، وقطع لكلّ تلك الأعذار الواهية.

يقول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا لست أوّل نبيّ دعا إلى التوحيد، فقد جاء قبلي أنبياء كثيرون كلهم كانوا بشراً، وكانوا يلبسون الثياب ويأكلون الطعام، ولم يَدَّع أحد منهم أنّه يعلم الغيب المطلق، بل كانوا يقولون: إنّنا نعلم من أُمور الغيب ما يعلمنا الله إيّاه فقط.

ولم يستسلم أحد منهم أمام المعاجز التي كان يقترحها الناس، والتي كانت تقوم على أساس الرغبة والميول.

كل ذلك ليعلم الجميع أنّ النّبي أيضاً عبد من عباد الله، وعلمه وقدرته محدودة بما يريده الله سبحانه ويمنحه، فإنّ العلم المطلق والقدرة المطلقة لله جلَّ وعلاء وحسب.

هذه الحقائق كان يجب على الناس أن يعلموها ويدركوها، لينتهوا من إشكالاتهم الجوفاء.

كل ذلك ورد بعد البحث الذي مرّ في الآيات السابقة، حيث كانوا يرمون النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بالسحر مرّة، وبالإفتراء أُخرى، ليُعلم أنّ منبع هذه الإتهامات ومصدرها هو تلك الأوهام التي أُجيب عنها في هذه الآية.

ومن هنا يتّضح أن مفاد هذه الآية لا يتنافى مع الآيات الأُخرى التي توحي بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم الغيب، كالذي ورد في سورة الفتح حول فتح مكّة ودخول المسجد الحرام ـ الآية 27 من سورة الفتح ـ أو ما ورد في شأن المسيح (عليه السلام) حيث يقول: (أنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم)(1)، وأمثال ذلك، لأنّ الآية مورد البحث تنفي علم الغيب المطلق، لا مطلق علم الغيب، وبتعبير آخر، فإنّ الآية

____________________________________

1 ـ آل عمران، الآية 49.

[253]

تنفي علم الغيب الإستقلالي، أمّا تلك الآيات فتتحدث عن علم الغيب الذي يُنال ببركة التعليم الإلهي.

والشاهد على هذا الكلام الآيتان (26) ـ (27) من سورة الجن: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول).

وقد ذكر بعض المفسّرين سبب نزول للآية مورد البحث، فقالوا: إنّ عبء المشاكل وضغطها لما زاد على أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة، رأى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في المنام أنّه يهاجر إلى أرض ذات نخيل وأشجار وماء كثير، فذكر ذلك لأصحابه، ففرحوا لذلك وظنّوا أنّهم سيرون فرجاً وسعة بعد أذى المشركين، فصبروا مدّة فلم يروا أثراً لذلك، فقالوا: يا رسول الله، لم نرَ ما أخبرتنا به، فمتى سنهاجر إلى تلك الأرض التي رأيتها في منامك؟ فسكتالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت هذه الآية: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)(1).

إلاّ أنّ سبب النّزول هذا يبدو بعيداً، لأنّ المخاطبين في هذه الآيات أعداء النّبي لا أصحابه، لكن يمكن أن يكون هذا من باب التطبيق، أي أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)تمسّك بهذه الآية وأجاب بها أصحابه حينما طرحوا هذا السؤال.

وتضيف آخر آية من هذه الآيات، ولتكملة ما ورد في الآيات السابقة: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين)(2).

وللمفسّرين أقوال في الشاهد من بني إسرائيل الذي شهد على كون القرآن المجيد حقّاً...

قال البعض: إنّه موسى بن عمران (عليه السلام) الذي أخبر في عصره بظهور نبيّ الإسلام، وأعطى أوصافه وعلاماته.

____________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلد 28، صفحة 8.

2 ـ جزاء الجملة الشرطية: (إن كان من عند الله) محذوف، وتقديره: (من أضل منكم).

[254]

إلاّ أنّ هذا الإحتمال غير صحيح بملاحظة جملة: (فآمن واستكبرتم) التي توحي بأنّ هذا الشاهد من بني إسرائيل قد آمن بنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)في الوقت الذي استكبر فيه المشركون ولم يؤمنوا، لأنّ ظاهر الجملة يوحي بأنّ هذا الشاهد كان موجوداً في عصر نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وآمن به، بينما اختار الآخرون طريق الإستكبار والكفر.

وقال آخرون: إنّه كان رجلاً من علماء أهل الكتاب، كان يحيا في مكّة. ومع أنّ أنصار الدين اليهودي والمسيحي كانوا قلة في مكّة، لكن لا يعني هذا أنّ أحداً منهم لم يكن فيها، ومع ذلك فلا يعرف من كان هذا العالم من بني إسرائيل؟ وما هو اسمه؟

وهذا التّفسير باطل منهم أيضاً لأنّه لم يكن هناك عالم معروف من أهل الكتاب في مكّة في عصر ظهور النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تذكر التواريخ اسماً له(1).

طبعاً، يمتاز هذا التّفسير والذي قبله بأنّهما ينسجمان مع كون كلّ سورة الأحقاف مكية.

والتّفسير الثّالث الذي ارتضاه أكثر المفسّرين، هو أنّ هذا الشاهد كان «عبدالله بن سلام» عالم اليهود المعروف، الذي آمن في المدينة والتحق بصفوف المسلمين.

وقد ورد ـ في حديث ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انطلق حتى دخل كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخوله عليهم، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا معشر اليهود أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، يحط الله عن كلّ يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه» فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً، فقال: «أبيتم، فوالله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأن المقض، آمنتم أو كذبتم» ثمّ انصرف حتى كاد يخرج، فإذا رجل من خلفه، فقال: كما أنت يا محمّد فأقبل، فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا

____________________________________

1 ـ التعبير هنا بـ(شاهد) بصيغة النكرة للتعظيم، وهو يوحي بأنّه كان شخصاً معروفاً عظيماً.

[255]

معشر اليهود؟ فقالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، فقال: فإنّي أشهد بالله إنّه النّبي الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، قالوا: كذبت، ردوا عليه وقالوا شرّاً، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «كذبتم، لن يقبل منكم قولكم» ـ ولم يكن هذا الرجل غير عبد الله بن سلام ـ فنزلت الآية: (قل أرأيتم إن كان من عند غير الله...)(1).

وطبقاً لهذا التّفسير، فإنّ هذه الآية نزلت في المدينة بالرغم من أنّ السورة مكّية، وهذا ليس منحصراً بالآية مورد البحث، بل يلاحظ ـ أحياناً ـ في سور القرآن الأُخرى وجود آيات مكية في طيات السور المدنية وبالعكس، وهذا يبيّن أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بوضع الآية مع ما يناسبها من مفاد السورة من دون الإلتفات إلى تاريخ نزولها.

ويبدو من جهات عديدة أنّ هذا التّفسير هو الأنسب.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ تفسير المراغي، المجلد 26، صفحة 14.

[256]

الآيات

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هـذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ( 11 ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَـبُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهـذَا كِتَـبٌ مُصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ( 12 ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَـمُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( 13 )أُولَـئِكَ أَصْحَـبُ الْجَنَّةِ خَـلِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( 14 )

 

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآية الأولى من هذه الآيات:

1 ـ إنّ هذه الآية نزلت في «أبي ذر الغفاري» الذي أسلم في مكّة، ثمّ تابعته في الإيمان قبيلته ـ بنو غفار ـ ولما كانت قبيلة بني غفار من سكان البادية وكانوا فقراء، قال كفار قريش ـ وكانوا أثرياء من أهل المدن ـ : لو كان الإسلام خيراً ما

[257]

سبقنا إليه غفار الحلفاء، فنزلت هذه الآية وأجابتهم.

2 ـ كانت في مكّة جارية رومية يقال لها «زنيرة»(1)، لبت دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)إلى الإسلام، فقال زعماء قريش: لو كان ما جاء به محمّد خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة.

3 ـ إنّ جماعة من قبائل البوادي أسلموا قبل سكان مكّة، فقال أشراف مكّة: لو كان الإسلام خيراً ما سبقتنا إليه رعاة الإبل.

4 ـ إنّ جماعة من الرجال الطاهرين والفقراء كبلال وصهيب وعمار، قد اعتنقوا الإسلام، فقال زعماء مكّة: أيمكن أن يكون دين محمّد خيراً ويسبقنا إليه هؤلاء؟

5 ـ إنّ عبد الله بن سلام وجماعة من أصحابه لما آمنوا، قال جماعة من اليهود: لو كان دين محمّد خيراً ما سبقونا إليه(2).

ويمكن تلخيص أسباب النّزول الأربعة الأولى بالقول بأنّ الإسلام لاقى ترحيباً واسعاً وامتداداً سريعاً بين الطبقات الفقيرة وسكان البوداي، وذلك لأنّهم لم يكونوا يمتلكون منافع غير مشروعة لتهدد بالخطر، ولم يكن الغرور قد ركبهم وملأ عقولهم، وقلوبهم أطهر من قلوب المترفين ومتبعي الشهوات والرغبات.

لقد عدّ الإقبال الواسع على الإسلام من قبل هذه الفئة، والذي كان يشكل أقوى نقاط هذا الدين، نقطة ضعف كبيرة من قبل المستكبرين فقالوا: أي دين هذا الذي يتبعه سكان البوادي والفقراء والحفاة والجواري والعبيد؟ إذا كان ديناً مقبولاً ومعقولاً فلا ينبغي أن يكون أتباعه من طبقة فقيرة واطئة اجتماعياً، ونتخلف نحن أعيان المجتمع وأشرافه عن اتباعه.

والطريف أنّ نمط التفكير المنحرف هذا من أكثر أنماط التفكير رواجاً اليوم بين الأثرياء والمترفين فيما يتعلّق بالدين، حيث يقولون: إنّ الدين ينفع الفقراء والحفاة، وكلّ منهما ينفع صاحبه وينسجم معه، ونحن في مستوى أسمى منه

____________________________________

1 ـ كانت «زِنيّرة» بكسر الزاي وتشديد النون من السابقات إلى الإسلام، ولذلك كان أبو جهل يؤذيها ويعذبها.

2 ـ تفسير القرطبي، المجلد 9، صفحة 6009.

[258]

وأعلى.

وقد أجاب القرآن هؤلاء جواباً شافياً كافياً سيتّضح في تفسير هذه الآيات.

أمّا سبب النّزول الخامس الذي ذكر أعلاه، والقائل بأنّ المراد هو عبد الله بن سلام وأصحابه، فمع أنّه نقل عن أكثر المفسّرين على قول الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره، إلاّ أنّه يبدو بعيداً من جهتين:

الأولى: إنّ التعبير بـ (الذين كفروا) بصورة مطلقة يستعمل عادةً في مورد المشركين، لا في أهل الكتاب واليهود والنصارى.

والأُخرى: إنّ عبد الله بن سلام لم يكن رجلاً مجهولاً أو ضعيف الشخصية بين اليهود ليقولوا فيه: إنّ الإسلام لو كان خيراً ما سبقنا هذا وأصحابه إليه.

* * *

 

التّفسير

شرط الإنتصار الإيمان والإستقامة:

تستمر هذه الآيات في تحليل أقوال المشركين وأفعالهم، ثمّ تقريعهم وملامتهم بعد ذلك، فتشير أوّلاً إلى ما نطق به هؤلاء من كلام بعيد عن المنطق السليم، مبنيّ على أساس الكبر والغرور، فتقول: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)(1).

فما هؤلاء إلاّ حفنة من الفقراء الحفاة من سكان القرى، والعبيد الذين لاحظ لهم من العلم والمعرفة إلاّ القليل، فكيف يمكن أن يعلم هؤلاء الحق وأن يقبلوا عليه ونحن ـ أعيان المجتمع وأشرافه ـ في غفلة عنه؟

____________________________________

1 ـ بحث المفسّرون كثيراً في معنى «اللام» في (للذين آمنوا) إلاّ أنّ أنسب الإحتمالات جميعاً هو أن «اللام» بمعنى (في) وبناءً على هذا فإنّ معنى الجملة: إنّ الكافرين قالوا في المؤمنين، ولا يأتي في هذه الحالة إشكال من جهة كون فعل (سبقونا) للغائب. في حين أنّ البعض قد اعتبر اللام لام التعليل! وقال آخرون (الذين آمنوا) هنا مخاطبون، وجملة (سبقونا) بمعنى سبقتمونا!

[259]

لقد غفل هؤلاء عن أن العيب فيهم لا في الإسلام، فلو لا حجب الكبر والغرور الملقاة على قلوبهم ولولا أنّهم سكرى من خمرة المال والجاه والمقام، ولولا أنّ غرورهم وتكبرهم يمنعهم من التحقيق في أمر هذا الدين، إذن لانجذبوا بسرعة الى الإسلام كما انجذب الفقراء إليه.

ولذلك فإنّ الآية تجيبهم في نهايتها بهذا التعبير اللطيف: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم)(1) أي إنّ هؤلاء ما أرادوا أن يهتدوا بآيات القرآن، لا أن القصور في قابلية القرآن على الهداية.

والتعبير بـ «الإفك القديم» شبيه بتهمة أُخرى حكيت عنهم في آيات القرآن الأُخرى، إذ قالوا: (أساطير الأولين)(2).

جملة «سيقولون» بصيغة المضارع، تدل على أنّهم كانوا يرمون القرآن بهذه التهمة دائماً، وكانوا يتخذون هذا الإتهام غطاء لعدم إيمانهم.

ثمّ تطرقت الآية إلى دليل آخر لإثبات كون القرآن حقاً، ولنفي تهمة المشركين إذ كانوا يقولون: هذا إفك قديم، فقالت: إنّ من علامات صدق هذا الكتاب العظيم أنّ كتاب موسى الذي يعتبر إماماً أي قدوة للناس ورحمة قد أخبر عن هذا النبي وصفاته. وهذا القرآن أيضاً كتاب منسجم في آياته وفيه العلائم المذكورة في التوراة: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة وهذا كتاب مصدق) وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تقولون: هذا إفك قديم؟

لقد أكّد القرآن في آياته مراراً على أنّه مصدق للتوراة والإنجيل، أي إنّه يتفق مع العلامات والصفات التي وردت في هذين الكتابين السماويين حول نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كانت هذه العلامات دقيقة إلى الحد الذي يقول القرآن الكريم:

____________________________________

1 ـ (إذ) في هذه الآية ظرفية، ويعتقد البعض أنّها متعلقة (سيقولون)، ويقولون: إنّ وجود الفاء غير مانع. إلاّ أنّ البعض الآخر ـ كالزمخشري في الكشاف ـ يرى أنّه بما أنّ الفعل بعدها ماض، و(سيقولون) فعل مضارع فلا يمكن أن يكون متعلقها، بل متعلقها محذوف، والتقدير: «وإذا لم يهتدوا به ظهر عنادهم» إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أكثر انسجاماً مع معنى الآية.

2 ـ الفرقان، الآية 5.

[260]

(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(1).

وقد ورد نظير معنى الآية مورد البحث في الآية (17) من سورة هود: (أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة أولئك يؤمنون به).

والتعبير بـ (إماماً ورحمة) يحتمل أن يكون من جهة أن ذكر الإمام يستدعي أحياناً أن تخطر في الذهن مسألة التكليف الشاق الصعب، نتيجة الذكريات التي كانت لديهم عن أئمتهم، إلاّ أنّ ذكر الرحمة يبدل هذا الخطور الذهني إلى ما يبعث على الإطمئنان، فهو يقول: إنّ هذا الإمام توأم الرحمة ومقترن بها، فحتى إذا أتاكم بالتكاليف والأوامر فهي رحمة أيضاً، وأي رحمة أعم وأسمى من تربية نفوس هؤلاء القوم؟!

ثمّ تضيف بعد ذلك: (لساناً عربياً) يفهمه الجميع ويستفيدون منه.

ثمّ تبيّن في النهاية الهدف الرئيسي من نزول القرآن في جملتين قصيرتين، فتقول: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين)وإذا لاحظنا أنّ جملة (ينذر) مضارعة تدل على الإستمرار والدوام، فسيتّضح أنّ إنذار القرآن كبشارته دائمي مستمر، فهو يحذر الظالمين والمجرمين على مدى التأريخ ويخوفهم وينذرهم، ويبشر المحسنين على الدوام.

وممّا يلفت النظر أنّ الآية جعلت الظالمين في مقابل المحسنين لأنّ للظلم هنا معنى واسعاً يشمل كلّ إساءة ومخالفة، ومن الطبيعي أنّ الظلم إمّا بحق الآخرين أو بحق النفس.

والآية التالية تفسير للمحسنين الذين ورد ذكرهم في الآية التي قبلها، فتقول: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)(2).

____________________________________

1 ـ البقرة، الآية 146.

2 ـ (الذين قالوا ربنا الله) مبتدأ، وجملة (لا خوف عليهم) خبره، والفاء لا تأتي مع الخبر إلاّ في الموارد التي يكون في الجملة مفهوم الشرطية كالآية مورد البحث.

[261]

لقد جمعت في الواقع كلّ مراتب الإيمان، وكلّ الأعمال الصالحة في هاتين الجملتين، لأنّ التوحيد أساس كلّ المعتقدات الصحيحة، وكلّ أصول العقائد ترجع الى أصل التوحيد. كما أنّ الإستقامة والصبر والتحمل والصمود أساس كلّ الأعمال الصالحة، لأنّا نعلم أنّه يمكن تلخيص كلّ أعمال الخير في ثلاثة: «الصبر على الطاعة»، و«الصبر عن المعصية»، و«الصبر على المصيبة».

وبناءً على هذا، فإنّ «المحسنين» هم السائرون على خط التوحيد من الناحية العقائدية، وفي خط الإستقامة والصبر من الناحية العملية.

ومن البديهي أنّ أمثال هؤلاء الأفراد لا يخافون من حوادث المستقبل، ولا يغتمون لما مضى.

وقد ورد نظير هذا المعنى ـ بتوضيح أكثر ـ في الآية (30) من سورة فصلت حيث تقول: (إنّ الذين قالوا ربّنا ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون).

إنّ هذه الآية تضيف شيئين:

الأوّل: أنّهم بشروا بعدم الخوف والحزن من قبل الملائكة، في حين سكتت الآية مورد البحث عن هذا.

والثّاني: أنّه إضافة إلى نفي الخوف والحزن عنهم، فقد وردت البشارة بالجنّة أيضاً في آية سورة فصلت، في حين أنّ هذه البشارة وردت في الآية اللاحقة في محل كلامنا.

وعلى أية حال، فإنّ الآيتين تبحثان مطلباً واحداً، غايته أن أحداهما أكثر تفصيلاً من الأُخرى.

ونقرأ في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير جملة: (إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا)قال: استقاموا على ولاية علي أمير المؤمنين(عليه السلام). وذلك أنّ إدامة خط

[262]

 أمير المؤمنين (عليه السلام) في جوانب العلم والعمل، والعدالة والتقوى، وخاصّة في العصور المظلمة الحالكة، أمر لا يمكن تحققه بدون الإستقامة، وبناءً على هذا فإنّه يعد أحد مصاديق الواضحة للآية مورد البحث، لا أنّ معناها منحصر به، بحيث لا تشمل الإستقامة في الجهاد وطاعة الله سبحانه، ومحاربة هوى النفس والشيطان.

وقد أوردنا شرحاً مفصلاً حول مسألة الإستقامة في ذيل الآية (30) من سورة فصلت(1).

وتبشر آخر آية من هذه الآيات الموحدين المحسنين بأهم بشارة وأثمنها، فتقول: (أولئك أصحاب الجنّة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون).

إنّ ظاهر الآية يعطي مفهوم الحصر، كما استفاد ذلك البعض، أي أنّ أصحاب الجنّة هم أهل التوحيد والإستقامة فقط، أمّا الذين ارتكبوا المعاصي منهم، فإنّهم وإن كانوا في النتيجة من أصحاب الجنّة، إلاّ أنّهم ليسوا من أصحابها منذ بداية الأمر.

التعبير بـ «الأصحاب» إشارة إلى اجتماعهم الدائم وتنعمهم الخالد بنعم الجنّة.

وتعبير: (جزاء بما كانوا يعملون) يدل من جهة على أنّ الجنّة لا تمنح مجاناً، بل إنّ لها ثمناً يجب أن يؤدى، ويشير من جهة أُخرى إلى أصل حرية الإنسان واختياره.

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ راجع التّفسير الأمثل، سورة فصلت، الآية 30.

[263]

الآيات

وَوَصَّيْنَا الاِْنسَـنَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـلُهُ ثَلَـثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـلِحاً تَرْضَـهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ( 15 ) أُولَـئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئِاتِهِمْ فِى أَصْحَـبِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ( 16 )

 

التّفسير

أيّها الإنسان أحسن إلى والديك:

هذه الآيات والتي تليها، توضيح ـ في الحقيقة ـ لما يتعلق بالفريقين: الظالم والمحسن، اللذين أشير إليهما إجمالاً في الآيات السابقة.

وتتناول الآية الأولى وضع المحسنين، وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين

[264]

وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها، والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه، فتقول: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً)(1).

«الوصية» و«التوصية» بمعنى مطلق الوصية، ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت، ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع.

ثمّ تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حقّ الأُمّ، فقالت: (حملته أُمّه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) تضحي خلالها الأُم أعظم التضحيات، وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار.

إنّ حالة الأُم تختلف منذ الأيّام الأولى لإنعقاد النطفة، فتتوالى عليها الصعوبات، وهناك حالة تسمى حالة (الوحام) هي أصعب الحالات التي تواجهها الأُم، ويقول الأطباء عنها: إنّها تنشأ نتيجة قلّة المواد التي تحدث في جسم الأُم نتيجة إيثارها ولدها على نفسها.

وكلما تكامل نمو الجنين امتص مواداً أكثر من عصارة روح الأُم وجسدها، تترك أثرها على عظامها وأعصابها، فيسلبها أحياناً نومها وغذاءها وراحتها وهدوءها، أمّا في آخر فترة الحمل فيصعب عليها حتى المشي والجلوس والقيام، إلاّ أنّها تتحمل كلّ هذه المصاعب بصبر ورحابة صدر وعشق للوليد الذي سيفتح عينيه على الدنيا عمّا قريب، ويبتسم بوجه أُمّه.

وتحل فترة وضع الحمل، وهي من أعسر لحظات حياة الأُم، حتى أنّ الأُم أحياناً تبذل نفسها وحياتها من أجل سلامة الوليد.

على كلّ حال، تضع الأُم حملها الثقيل لتبدأ مرحلة صعبة أُخرى، مرحلة مراقبة الطفل المستمرة ليل نهار... مرحلة يجب أن تلبى فيها كلّ احتياجات الطفل الذي

____________________________________

1 ـ «التوصية» تتعدى عادة بمفعولين، غايته أنّ المفعول الثّاني يقترن بالباء أو (الى)، وبناءً على هذا فإنّ (إحساناً) لا يمكن أن تكون المفعول الثّاني في الجملة، إلاّ أن نعتبر (وصينا) بمعنى (ألزمنا) التي تتعدى بمفعولين دون حاجة إلى حرف جر، أو أن نقول: إنّ في الآية محذوفاً نقدره: ووصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحساناً، ففي هذه الحالة تكون (إحساناً) مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف.

[265]

ليست لديه أية قدرة على بيانها وتوضيحها، فإن آلمه شيء لا يقوى على تعيين محل الألم، وإذا كان يشكو من الجوع والعطش، والحر والبرد، فهو عاجز عن التعبير عن شكواه، إلاّ بالصراخ والدموع، ويجب على الأُم أن تحدد كلّ واحدة من هذه الإحتياجات وتؤمنها بتفحصها وصبرها وطول أناتها.

إنّ نظافة الوليد في هذه المرحلة مشكلة مضنية، وتأمين غذائه الذي يستخلص من عصارة الأُم، إيثار كبير.

والأمراض المختلفة التي تصيب الطفل في هذه المرحلة، مشكلة أُخرى يجب على الأم أن تتحملها بصبرها الخارق.

إنّ القرآن الكريم عندما تحدّث عن مصاعب الأُم هنا، ولم يورد شيئاً عن الأب، لا لأنّه لا أهمية للأب، فهو يشارك الأُم في كثير من هذه المشاكل، بل لأنّ سهم الأُم من المصاعب أوفر، فلهذا أكّد عليها.

وهنا يطرح سؤال، وهو: إنّ فترة الرضاع ذكرت في الآية (233) من سورة البقرة على أنّها سنتان كاملتان ـ 24 ـ شهراً ـ : (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) في حين أنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ مجموع فترة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً، فهل من الممكن أن تكون مدّة الحمل ستة أشهر؟

لقد أجاب الفقهاء والمفسّرون، عن هذا السؤال ـ استلهاماً من الرّوايات الإسلامية ـ بالإيجاب وقالوا: إنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر، وأكثر مدّة تفيد في الرضاع (24) شهراً، حتى نقل عن جماعة من الأطباء القدامى كجالينوس وابن سينا أنّهم قالوا: إنّهم كانوا قد شاهدوا بأُمّ أعينهم وليداً ولد لستة أشهر.

ثمّ إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع (30) شهراً.

وقد نقل عن ابن عباس أنّ فترة الحمل إن كانت (9) أشهر فيجب أن يرضع

[266]

الولد (21) شهراً، وإن كان الحمل ستة أشهر وجب أن يرضع الطفل (24) شهراً.

والقانون الطبيعي يوجب ذلك أيضاً. لأنّ نواقص فترة الحمل يجب أن تجبر بفترة الرضاع.

ثمّ تضيف الآية: إنّ حياة هذا الإنسان تستمر (حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة)(1).

يعتقد بعض المفسّرين أنّ بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة، وهو للتأكيد، إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي، وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي، لأنّ من المعروف أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالباً، وقالوا: إنّ أغلب الأنبياء قد بعثوا في سن الأربعين.

ثمّ إنّ هناك بحثاً في أنّ بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم؟ فالبعض يعتبره سن البلوغ المعروف، والذي أشير إليه في الآية (34) من سورة الإسراء في شأن اليتامى، في حين صرّحت بعض الروايات بأنّه سن الثامنة عشرة عاماً.

طبعاً، لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتّضح من خلال القرائن.

وقد ورد في حديث: «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب، ويقول: بأبي وجه لا يفلح»(2).

ونقل عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شرّه، فليتجهز إلى النّار.

وعلى أي حال، فإنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث: إنّ الإنسان

____________________________________

1 ـ (حتى) هنا غاية لجملة محذوفة، والتقدير: وعاش الإنسان واستمرت حياته حتى إذا بلغ أشدّه. واعتبرها البعض غاية لـ (وصينا) أو لمراقبة الوالدين لولدهما، وكلاهما يبدو بعيداً، إذ لا تنتهي توصية الله سبحانه بالإحسان إلى الوالدين في سن الأربعين، ولا تستمر مراقبة الوالدين لولدهما حتى يصل الأربعين.

2 ـ تفسير روح المعاني، المجلد 26، صفحة 17.

[267]

العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين، يطلب من ربّه ثلاث طلبات، فيقول أولاً: (قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي)(1).

إنّ هذا التعبير يوحي بأنّ الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه وسعتها، وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من العمر، وذلك لأنّه غالباً ما يصبح في هذا العمر أباً إن كان ذكراً، وأمّاً إن كانت أنثى، ويرى بأُم عينه كلّ تلك الجهود التي بذلت من أجله، ومدى الإيثار الذي آثره أبواه في سبيله، وشكراً لسعيهما يتوجّه لا إرادياً لشكر الله سبحانه.

أمّا طلبه الثّاني فهو: (وأن أعمل صالحاً ترضاه).

وأخيراً يقدم طلبه الأخير فيقول: (وأصلح لي في ذريتي).

إنّ التعبير بـ(لي) يشير ضمنية إشارة إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه.

والتعبير بـ (في ذريتي) بصورة مطلقة، يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته.

والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل، وأولاده في الدعاء الثالث، أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به، وهكذا يكون الإنسان الصالح، فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين، ينظر بالأُخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته.

وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين، كلّ منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر، فتقول: (إنّي تبت إليك) فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي، وأسير في ذلك الخط ما حييت.

نعم، لقد بلغت الأربعين، ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة، ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربّه ويقرع باب رحمته.

والآخر: (وإنّي من المسلمين).

____________________________________

1 ـ «أوزعني» من مادة (الإيزاع) التي وردت بعدّة معان: الإلهام، والمنع من الإنحراف، وإيجاد العشق والمحبة، والتوفيق.

[268]

إنّ هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها، ومعناهما: بما إنّي تبت إليك، وأسلمت لأوامرك، فأنت أيضاً منّ عليّ برحمتك، واشملني بنعمك وفضلك.

والآية التالية بيان بليغ لأجر هؤلاء المؤمنين الشاكرين وثوابهم، وقد أشارت إلى مكافآت مهمّة ثلاث، فقالت أوّلاً: (أُولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا).

أي بشارة أعظم من أن يتقبل الله القادر المنان عمل عبد ضعيف لا قدر له، وهذا القبول بحدِّ ذاته، وبغض النظر عن آثاره الأُخرى، فخر عظيم، وموهبة معنوية عالية.

إنّ الله سبحانه يتقبل كلّ الأعمال الصالحة، فلماذا يقول هنا: (نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا

وفي معرض الإجابة على هذا السؤال، قال جمع من المفسّرين: إنّ المراد من أحسن الأعمال: الواجبات والمستحبات التي تكون في مقابل المباحات التي هي أعمال حسنة لكنّها لا تقع موقع القبول، ولا يتعلق بها أجر وثواب(1).

والجواب الآخر: إنّ الله سبحانه يجعل أحسن أعمال هؤلاء معياراً للقبول، وحتى أعمالهم التي تأتي في مرتبة أدنى من الأهمية، فإنّه يجعلها كأحسن الأعمال بفضله ورحمته. إنّ هذا يشبه تماماً أن يعرض بائع أجناساً مختلفة بأسعار متفاوتة، إلاّ أنّ المشتري يشتريها جميعاً بثمن أعلاها وأفضلها تكرماً منه وفضلاً، ومهما قيل في لطف الله وفضله فليس عجباً.

والهبة الثّانية هي تطهيرهم، فتقول: (ونتجاوز عن سيئاتهم).

والموهبة الثّالثة هي أنّهم (في أصحاب الجنّة)(2)، فيطهرون من الهفوات التي

____________________________________

1 ـ الطبرسي في مجمع البيان، والعلاّمة الطباطبائي في الميزان، والفخر الرازي في التّفسير الكبير، وغيرهم في ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ (في أصحاب الجنّة) متعلق بمحذوف هو حال لضمير (هم) والتقدير: حال كونهم موجودين في أصحاب الجنّة.

[269]

كانت منهم، ويكونون في جوار الصالحين المطهرين المقربين عند الله سبحانه.

ويستفاد بصورة ضمنية من هذا التعبير أنّ المراد من (أصحاب الجنّة) هنا العباد المقرّبون الذين لم يصبهم غبار المعاصي، وهؤلاء المؤمنون التائبون يكونون في مصافهم بعد أن ينالوا غفران الله ورضاه.

وتضيف الآية في نهايتها ـ كتأكيد على هذه النعم التي مرَّ ذكرها ـ (وعد الصدق الذي كانوا يوعدون)(1) وكيف لا يكون وعد صدق في حين أنّ خلف الوعد أمّا أن يكون عن ندم أو جهل، أم عن ضعف وعجز، والله سبحانه منزه عن هذه الأُمور جميعاً.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ إنّ هذه الآيات تجسيد للإنسان المؤمن من أصحاب الجنّة، الذي يطوي أوّلاً مرحلة الكمال الجسمي، ثمّ مرحلة الكمال العقلي، ثمّ يصل إلى مقام شكر نعم الله تعالى، وشكر متاعب والديه، والتوبة عمّا بدر منه من هفوات وسقطات ومعاص، ويهتم أكثر بالقيام بالأعمال الصالحة، ومن جملتها تربية الأولاد، وأخيراً يرقى إلى مقام التسليم المطلق لله تعالى ولأوامره، وهذا هو الذي يغمره في رحمة الله ومغفرته ونعمه المختلفة التي لا تحصى.

نعم، ينبغي أن يعرف أهل الجنّة من هذه الصفات.

2 ـ إنّ التعبير بـ(وصينا الإنسان) إشارة إلى أنّ مسألة الإحسان إلى الوالدين من الأصول الإنسانية، ينجذب إليها ويقوم بها حتى أُولئك الذين لا يلتزمون بدين أو مذهب، وبناءً على هذا، فإنّ الذين يعرضون عن أداء هذه الوظيفة، ويرفضون القيام بهذا الواجب، ليسوا مسلمين حقيقيين، بل لا يستحقون اسم الإنسان.

____________________________________

1 ـ (وعد الصدق) مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: يعدهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون بلسان الأنبياء والرسل.

[270]

3 ـ إنّ التعبير بـ «إحساناً» وبملاحظة أنّ النكرة في هذه الموارد لبيان عظمة الأمر وأهميته، ويشير إلى أنّه يجب ـ بأمر الله سبحانه ـ الإحسان إلى الأبوين إحساناً جميلاً مقابلة لخدماتهم الجليلة التي أسدوها.

4 ـ لأنّ آلام ومعاناة الأُم في طريق تربية الطفل محسوسةٌ وملموسةٌ أكثر، ولأنّ جهود الأُم أكثر أهمية إذا ما قورنت بجهود الأب، كان التأكيد أكثر على قدر الأُم في الرّوايات الإسلامية.

فقد ورد في حديث أنّ رجلاً أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: من أبر؟ قال: «أمّك»، قال: ثمّ من؟ قال: «أمّك»، قال: ثمّ من؟ قال: «أمّك»، قال: ثمّ من؟ قال: «أباك»(1).

وجاء في حديث آخر، أنّ رجلاً كان قد حمل أُمّه العجوز العاجزة، وكان يطوف بها، فأتى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هل أديت حقّها: قال: «لا ولا بزفرة واحدة»(2).

5 ـ لقد أولت الآيات القرآنية العلاقات العائلية، واحترام الأبوين وإكرامهم، والعناية بتربية الأولاد، اهتماماً فائقاً، وقد أُشير إليها جميعاً في الآيات المذكورة، وذلك لأنّ المجتمع الإنساني الكبير يتكون من خلايا وتشكيلات أصغر تسمى العائلة، كما أنّ البناية الضخمة تتكون من غرف، وهي بدورها من الطابوق والحجر.

من البديهي أنّه كلّما كانت هذه التقسيمات الصغيرة أكثر انسجاماً وترابطاً، كان أساس المجتمع أقوى وأشد ثباتاً، وأحد عوامل التمزق والإختلال الإجتماعي في المجتمعات الصناعية في عصرنا الحاضر هو انحلال نظام العائلة، فلا احترام من قبل الأولاد، ولا عطف من الآباء والأمهات، ولا علاقة حب وحنان وعاطفة من الأزواج.

إنّ المشهد المؤلم لدور رعاية المسنين في المجتمعات الصناعية اليوم، والتي

____________________________________

1 ـ روح المعاني، المجلد 26، صفحة 16.

2 ـ في ظلال القرآن، المجلد 7، صفحة 415.

[271]

تحتضن العجزة من الآباء والأُمهات الذين طردوا من العائلة، شاهد معبر جدّاً عن هذه الحقيقة المرّة.

فالرجال والنساء الذين صرفوا عمراً طويلاً في الخدمة لمنح المجتمع أبناء عديدين، يطردون تماماً في الأيّام التي يكونون فيها بأشد الحاجة إلى عواطف الأبناء ومحبتهم ومعونتهم، ويبقون في تلك الدور يعدون الأيّام في انتظار لحظة الموت، وقد سمّروا أعينهم في الباب بانتظار صديق أو قريب يفتحها... ولا تفتح عليهم إلاّ مرّة أو مرّتين في السنة!

حقاً، إنّ تصور مثل هذه الحالة ينغص على الإنسان عيشه منذ البداية، وهذا هو عرف دنيا المادة والتمدن وأُسلوبها حينما يطرح منها الإيمان والدين.

6 ـ إنّ جملة: (وأن أعمل صالحاً ترضاه) تبيّن أنّ العمل الصالح هو العمل الذي يبعث على رضى الله سبحانه، وتعبير: (أحسن ما عملوا) والذي ورد في آيات عديدة من القرآن المجيد، يبيّن فضل الله الذي لا يحصى في مقام مكافأة العباد وجزائهم، حيث يجعل أحسن أعمالهم معياراً لكلّ أعمالهم الحسنة في الحساب والمثوبة.

 

* * *

 

[272]

الآيات

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هـذَا إِلاَّ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ( 17 ) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَم قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِنَ الْجِنِّ وَالاِْنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـسِرِينَ( 18 ) وَلِكُلٍّ دَرَجَـتٌ مِمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( 19 )

 

التّفسير

مضيّعو حقوق الوالدين:

كان الكلام في الآيات السابقة عن المؤمنين الذين سلكوا طريق القرب من الله، فبلغوا الغاية ووسعتهم رحمة الله، وكرمهم لطفه، وكلّ ذلك في ظل الإيمان والعمل الصالح، وشكر نعم الله سبحانه، والإلتفات إلى حقوق الأبوين والذرية وأدائها.

أمّا هذه الآيات، فيدور الكلام فيها عمّن يقفون في الطرف المقابل، وهم الكافرون المنكرون للجميل والحق، والعاقون لوالديهم، فتقول: (والذي قال

[273]

لوالديه أُف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي)(1).

إلاّ أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال، فتقول الآية: (وهما يستغيثان الله ويلك آمن إنّ وعد الله حق)غير أنّه يأبى إلاّ أن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه، ولذلك نراه يجيبهما بكلّ تكبر وغرور ولا مبالاة: (فيقول ما هذا إلاّ أساطير الأولين)، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلاّ خرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها.

إنّ الصفات التي يمكن أن تستخرج من هذه الآية حول هذه الفئة من الأبناء الضالين عدّة صفات: عدم احترام منزلة الأبوين، والإساءة لهما، لأنّ (أف) في الأصل تعني كلّ شيء قذر، وهي تقال في مقام التحقير والإهانة(2).

وقال البعض: إنّها تعني الأقذار التي تجتمع تحت الأظافر، وهي قذرة ملوثة، ولا قيمة لها(3).

والصفة الأُخرى هي أنّهم مضافاً إلى عدم إيمانهم بيوم القيامة والبعث والجزاء، فإنّهم يسخرون منه ويستهزئون به، ويعدونه من الأساطير والأوهام الخرافية الباطلة.

والصفة الأُخرى أنّهم لا أذن سامعة لهم، ولا يذعنون للحق، وقد امتلأت نفوسهم بروح الغرور والكبر والأنانية.

نعم، فبالرغم من أن الأبوين الحريصين يبذلان قصارى جهودهما، وكلّ ما في

____________________________________

1 ـ «والذي قال» مبتدأ، وخبره ـ باعتقاد كثير من المفسّرين ـ (أُولئك الذين).. الذي ورد في الآية التالية، ولا منافاة بين كون المبتدأ مفرداً والخبر ـ أولئك ـ جمعاً، لأنّ المراد منه الجنس.

لكن يحتمل أيضاً أن يكون خبره محذوفاً، وتقديره الكلام: «وفي مقابل الذين مضى وصفهم الذي قال لوالديه» وفي هذه الحالة تكون الآية التالية مستقلة، كما أن آية: (أولئك الذين نتقبل عنهم...) مستقلة.

2 ـ مفردات الراغب.

3 ـ أوردنا بحوثاً أُخرى حول معنى (أف) في سورة الإسراء، الآية 23.

[274]

وسعهما لإنقاذه من دوامة الجهل والغفلة، لئلا يبتلى هذا الابن العزيز بعذاب الله الأليم، إلاّ أنّه يأبى إلاّ الإستمرار في طريق غيه وكفره، ويصر على ذلك، وأخيراً يتركه أبواه وشأنه بعد اليأس منه.

وكما بيّنت الآيات السابقة ثواب المؤمنين العاملين للصالحات، فإنّ هذه الآيات تبيّن عاقبة أعمال الكافرين الضالين المتجرئين على الله، فتقول: (أولئك الذين حقّ عليهم القول في أُمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنّهم كانوا خاسرين)(1)، وأي خسارة أعظم من أنّهم خسروا كلّ رأس مال وجودهم إذا اشتروا به غضب الله عزَّ وجلَّ وسخطه.

ومن خلال المقارنة بين هذين الفريقين ـ أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم ـ في هذه الآيات نقف على هذه الأُمور:

إنّ أولئك يطوون مدارج رشدهم وكمالهم، في حين أنّ هؤلاء فقدوا كلّ ما يملكون، فهم خاسرون.

أُولئك يقدرون الجميل ويشكرونه حتى من أبويهم، وهؤلاء منكرون للجميل معتدون لا أدب لهم حتى مع والديهم.

أُولئك مع المقربين إلى الله في الجنّة، وهؤلاء مع الكافرين في النّار، فكلّ منهم يلتحق بأمثاله ومن على شاكلته.

أُولئك يتوبون من الهفوات التي تصدر عنهم، ويذعنون للحق، أمّا هؤلاء فهم قوم طغاة عتاة متمردون، أنانيّون ومتكبرون.

وممّا يستحق الإلتفات أنّ هؤلاء المعاندين يستندون في انحرافاتهم إلى وضع الأقوام الماضين وسيحشرون معهم إلى النّار أيضاً.

أمّا الآية الأخيرة من هذه الآيات فإنّها تشير أوّلاً إلى تفاوت درجات كلا

____________________________________

1 ـ جملة (حقّ عليهم القول) إشارة إلى كلام الله الذي قاله سبحانه في عقوبة الكافرين والمجرمين، والتقدير: حقّ عليهم القول بأنّهم أهل النّار... و(في أمم) في محل حال.

[275]

الفريقين، فتقول: (ولكل درجات ممّا عملوا)(1) فليس كلّ أصحاب الجنّة أو أصحاب النّار في درجة واحدة، بل إنّ لكلّ منهما درجات ومراتب تختلف باختلاف أعمالهم، وحسب خلوص نيّتهم وميزان معرفتهم، وأصل العدالة هو الحاكم هنا تماماً.

«الدرجات» جمع درجة، وتقال عادةً للسلالم التي يصعد الإنسان بتسلقها إلى الأعلى، و«الدركات» جمع درك، وهي تقال للسلّم الذي ينزل منه الإنسان إلى الأسفل، ولذلك يقال في شأن الجنّة: درجات، وفي شأن النّار: دركات، لكن لما كانت الآية مورد البحث قد تحدثت عنهما معاً، ولأهمية مقام أصحاب الجنّة، ورد لفظ (الدرجات) للأثنين، وهو من باب التغليب(2).

ثمّ تضيف الآية: (وليوفيهم أعمالهم) وهذا التعبير إشارة أُخرى إلى مسألة تجسم الأعمال، حيث أنّ أعمال ابن آدم ستكون معه هناك، فتكون أعماله الصالحة باعثاً على الرحمة به واطمئنانه، وأعماله الطالحة سبباً للبلاء والعذاب الألم.

وتقول الآية أخيراً كتأكيد على ذلك: (وهم لا يظلمون) لأنّهم سيرون أعمالهم وجزاءها، فكيف يمكن تصور الظلم والجور؟

هذا إضافة إلى أنّ درجات هؤلاء ودركاتهم قد عيّنت بدقّة، حتى أنّ لأصغر الأعمال، حسناً كان أُم قبيحاً، أثره في مصيرهم، ومع هذه الحال لا معنى للظلم حينئذ.

* * *

ملاحظة

كيف حرّفت هذه الآية من قبل بني أمية؟

ورد في رواية أنّ «معاوية» أرسل رسالة إلى «مروان» ـ وإليه على المدينة ـ

____________________________________

1 ـ (من) في (ممّا عملوا) للإبتداء ـ أو كما تسمى نشوية ـ أو بمعنى التعليل، أي: من أجل ما عملوا.

2 ـ «درْك» ـ بسكون الوسط ـ ودرَك ـ بفتحه ـ بمعنى أعمق نقطة في العمق، وجاءت ـ أحياناً ـ الدرَك ـ بالفتحة ـ بمعنى الخسارة، والدرْك ـ بالسكون ـ بمعنى فهم الشيء وإدراكه، لمناسبته الوصول إلى عمقه وحقيقته.

[276]

يأمره بأخذ البيعة من الناس لابنه يزيد، وكان «عبدالرحمن بن أبي بكر» حاضراً في المجلس، فقال: يريد معاوية أن يجعل هذا الأمر هرقلياً وكسروياً ـ ملكي الروم وفارس ـ إذا مات الآباء جعلوا أبناءهم مكانهم، وإن لم يكونوا أهلاً لذلك، أو كانوا فساقاً؟

فصاح مروان من على المنبر: صه، فأنت الذي نزلت فيه: (والذي قال لوالديه أُف لكما).

وكانت «عائشة» حاضرة، فقالت: كذبت، وإنّي لأعلم فيمن نزلت هذه الآية، ولو شئت لأخبرتك باسمه ونسبه، لكن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

أجل... ولقد كان ذنب عبدالرحمن عشقه ومحبّته لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)، وهو أمر كان يسوء بني أمية كثيراً، هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى فإنّه كان مخالفاً لصيرورة الخلافة وراثية، وتبديلها إلى سلطنة، وكان يعتبر أخذ البيعة ليزيد نوعاً من الإنحراف نحو الكسروية والهرقلية، ولذلك أصبح غرضاً لأعداء الإسلام الألداء، أي آل أميّة، فحرّفوا آيات القرآن فيه.

وكم هو مناسب الجواب الذي أجابت به عائشة مروان بأنّ الله سبحانه لعن أباك إذ كنت خلفه، وهو إشارة إلى الآية (60) من سورة الإسراء حيث تقول: (والشجرة الملعونة في القرآن)(2).

 

* * *

____________________________________

1 ـ أبو الفتوح الرازي في تفسيره، المجلد 10، صفحة 159، ونقل هذه الرواية بتفاوت يسير في مجلد 9، صفحة 6017.

2 ـ يراجع لتفسير هذه الآية ذيل الآية (60) من سورة الإسراء. وينبغي الإلتفات إلى أنّ «مروان بن الحكم» هو ابن «أبي العاص»، وهذا بدوره ابن «أميّة» أيضاً.

[277]

الآية

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ( 20 )

 

التّفسير

الزهد والإدخار للآخرة:

تستمر هذه الآية في البحث حول عقوبة الكافرين والمجرمين، وتذكر جانباً من أنواع العذاب الجسمي والروحي الذي سينال هؤلاء، فتقول: (ويوم يعرض الذين كفروا على النّار أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...)(1).

نعم، فقد كنتم غارقين في الشهوات، ولم تكونوا تعرفون شيئاً إلاّ التمتع بطيّبات هذا العالم ونعمه المادية، ومن أجل أن تكونوا متحللين من كلّ القيود في هذا المجال، أنكرتم المعاد لتطلقوا لأنفسكم العنان، وسخرتم هذه المواهب من أجل إنزال كلّ أنواع الظلم والجور بحق الآخرين.

____________________________________

1 ـ (يوم) ظرف متعلق بفعل محذوف يستفاد من الجمل التالية، والتقدير: ويوم يعرض الذين كفروا على النّار يقال لهم أذهبتم طيّباتكم...

[278]

(فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) فاليوم ترون جزاء كلّ ذلك التمتع الباطل، واتباع الشهوات الأعمى، وعبادة الهوى، والإستكبار والفسق والفجور وتذوقون العذاب المذل والمهين بسبب تلكم الأعمال.

* * *

 

بحوث

1 ـ تقول هذه الآية: إنّ الكفار يعرضون على النّار في القيامة، وقد ورد نظير هذا في الآية (46) من سورة المؤمن حول عذاب الفراعنة في البرزخ، إذ تقول: (النّار يعرضون عليها غدواً وعشياً) في حين أنّنا نقرأ في بعض آيات القرآن الأُخرى أنّ جهنّم تعرض على الكافرين: (وعرضنا جهنّم للكافرين عرضاً)(1).

لذلك قال بعض المفسّرين: إنّ في القيامة نوعين من العرض: فقبل الحساب تعرض جهنّم على المجرمين ليملأ وجودهم الخوف والهلع، وهذا بحدِّ ذاته عقاب وعذاب نفسي، وبعد الحساب وإلقائهم في جهنّم يعرضونهم على عذاب الله(2).

وقال البعض: إنّ في العبارة نوع قلب، وإنّ المراد من عرض الكفار على النّار هو عرض النّار على الكافرين، إذ لا عقل ولا إدراك للنار حتى يعرض عليها الكافرون، في حين أنّ العرض يتم في الموارد التي يكون المعروض عليه فيها ذا شعور وإدراك.

لكن لا يمكن أن يرد على هذا الجواب بأنّ بعض الآيات ذكرت وجود إدراك وشعور لدى النّار، حتى أنّ الله سبحانه يخاطبها وتجيب، فيقول سبحانه: (هل

____________________________________

1 ـ الكهف، الآية 100.

2 ـ تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 223 ذيل الآيات مورد البحث.

[279]

امتلأت) فتقول: (هل من مزيد)(1).

والحق أنّ حقيقة العرض هي رفع الموانع بين شيئين حتى يتقابلا ويكونا وجهاً لوجه، وكذا الحال بالنسبة إلى الكافرين والنّار، فإنّ الحواجز ترفع من بينهما، فيمكن القول في هذه الصورة: إنّ الكافرين يعرضون على النّار، كما تعرض عليهم، وكلا التعبيرين صحيح.

وعلى أية حال، فلا حاجة لأن نعتبر العرض بمعنى الدخول في النّار كما ذكره «الطبرسي» في مجمع البيان، بل إنّ هذا العرض بحدِّ ذاته نوع من العذاب الأليم المرعب، حيث يرى الكافرون بأعينهم كلّ أقسام جهنّم من الخارج قبل أن يردوها، وليشاهدوا مصيرهم المشؤوم ويتعذّبوا ويتألموا له.

2 ـ إنّ جملة: (أذهبتم طيّباتكم) تعني التمتع بلذائذ الدنيا، والتعبير بـ «أذهبتم» لأنّ هذه اللذائذ والنعم تفنى بالتمتع بها واستهلاكها.

ومن المسلّم أنّ التمتع بمواهب الله ونعمه في هذه الدنيا ليس أمراً مذموماً قبيحاً، بل المذموم هو الغرق في اللذات المادية، ونسيان ذكر الله والقيامة، أو التمتع بها بصورة غير مشروعة والتلوث بالمعاصي عن طريقها، وغصب حقوق الآخرين فيما يتعلق بها.

وممّا يلفت الإنتباه أنّ هذا التعبير لم يرد إلاّ في هذه الآية من القرآن الكريم، وهو إشارة إلى أنّ الإنسان يعزب أحياناً عن لذات الدنيا ويعرض عنها، أو أنّه لا يأخذ منها إلاّ ما يقوّم به صلبه، ويتقوّى به على القيام بالواجبات الإلهية، وكأنّه في هذه الصورة قد ادخر هذه الطيبات لآخرته.

غير أنّ الكثيرين يتكالبون على هذه التمتعات الدنيوية كالحيوانات ولا يحدّهم شيء في الإلتذاذ بهذه الطيبات وافنائها جميعاً، ولا يكتفون بعدم ادخار شيء لآخرتهم، بل يحملون معهم أحمالاً من الأوزار، ولهؤلاء يقول القرآن: (أذهبتم

____________________________________

1 ـ سورة ق، الآية 30.

[280]

طيباتكم في حياتكم الدنيا).

وقد نقل في بعض كتب اللغة أنّ المراد من الجملة: أنفقتم طيبات ما رُزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا، ولم تنفقوها في مرضاة الله(1).

3 ـ للطيبات معنى واسع يشمل كلّ مواهب الدنيا، ومع أنّ بعض المفسّرين قد فسّرها بقوّة الشباب فقط، إلاّ أنّ الحق هو أنّ الشباب يمكن أن يكون مصداقاً لا غير.

4 ـ إنّ التعبير بـ(عذاب الهون) بمثابة ردّ فعل لإستكبار هؤلاء في الأرض، لأنّ العقوبة الإلهية تتناسب تماماً مع نوع الذنب والمعصية، فأُولئك الذين تكبّروا على خلق الله، بل وحتى على أنبيائه، ولم يخضعوا لأي تشريع إلهي، يجب أن يلاقوا جزاءهم بذلة وحقارة ومهانة.

5 ـ لقد ذكر في ذيل هذه الآية ذنبان لأصحاب الجحيم، الأوّل: الإستكبار، والثّاني: الفسق. ويمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى عدم إيمانهم بآيات الله وبعث الأنبياء والقيامة، والثّاني إشارة إلى أنواع الذنوب والمعاصي، فأحدهما يتحدّث عن ترك أصول الدين، والآخر عن تضييع فروع الدين(2).

6 ـ إنّ التعبير بـ (غير الحق) لا يعني أنّ الإستكبار نوعان: حق، وغير حق، بل إنّ هذه التعابير تقال عادةً للتأكيد، ونظائرها كثير.

 

7 ـ زهد الأئمة العظماء

لقد وردت في مختلف مصادر الحديث والتّفسير روايات كثيرة عن زهد أئمّة الإسلام العظماء، واستندوا فيه بالخصوص إلى الآية مورد البحث، ومن جملتها:

جاء في حديث أنّ عمر أتى يوماً رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في مشربة أُم إبراهيم ـ وهو

____________________________________

1 ـ مجمع البحرين، مادة ذهب.

2 ـ تفسير الميزان، المجلد 18، صفحة 224.

[281]

موضع قرب المدينة ـ وكان مضطجعاً على حصير من الخوص، وجزء من بدنه الشريف على التراب، وكانت تحت رأسه وسادة من ليف النخل، فسلّم وجلس، وقال: أنت نبيّ الله وأفضل خلقه، هذا كسرى وقيصر ينامان على أسرة الذهب وفرش الديباج والحرير، وأنت على هذا الحال؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أُولئك قوم عجلت طيّباتهم وهي وشيكة الإنقطاع، وإنّما أخرت لنا طيباتنا»(1).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه أُتي يوماً بحلوى، فامتنع من تناولها، فقالوا: أتراها حراماً؟ قال: «لا، ولكني أخشى أن تتوق نفسي فأطلبه، ثمّ تلا هذه الآية: (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا...)(2).

وجاء في حديث آخر: «أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) إشتهى كبداً مشوية على خبزة لينة، فأقام حولاً يشتهيها، وذُكر ذلك للحسن(عليه السلام) وهو صائم يوماً من الأيّام فصنعها له، فلما أراد أن يفطر قرّبها إليه، فوقف سائل بالباب، فقال: يا بني احملها إليه، لا تقرأ صحيفتنا غداً: (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)(3).

 

* * *

 

____________________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد 9، صفحة 88.

2 ـ تفسير البرهان، المجلد 4، صفحة 175، ذيل الآية مورد البحث.

3 ـ سفينة البحار، الجزء الثاني، مادة كبد.

[282]

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338087

  • التاريخ : 29/03/2024 - 08:49

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net