00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الملك من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 449 ـ 486 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 449 ]

 

بدايَة الجزء التاسع و العشرون مِنَ القُرآن الكريم

سُورة المُلك

مكيّة

وعدد آياتِها ثلاثُون آية

[ 451 ]

«سورة الملك»

محتوى سورة الملك:

تمثّل هذه السورة بداية الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم، وهي من السور التي نزلت جميع آياتها في مكّة المكرّمة على المشهور، كما هو شأن غالبية سور هذا الجزء، إن لم يكن جميعها كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين(142)، بخلاف ما عليه سور الجزء السابق حيث كانت مدنية.

ولكن كما سنرى لاحقاً أنّ سورة الدهر (سورة الإنسان) من السور المدنية.

وتسمّى سورة الملك أيضاً بـ (المنجية)، وكذلك تسمّى بـ (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر، وهي من السور التي لها فضائل عديدة، وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة، إلاّ أنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي:

1 ـ أبحاث حول المبدأ، وصفات الله سبحانه، ونظام الخلق العجيب والمدهش، خصوصاً خلق السموات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة .. وكذلك ما يتعلّق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاُذن والعين، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاُخرى.

2 ـ وفي المحور الثاني تتحدّث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة، والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنّم، بالإضافة إلى اُمور اُخرى في هذا الصدد.

[ 452 ]

 

3 ـ وأخيراً فإنّ آيات المحور الثالث تدور حول التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاُخروي للكفّار والظالمين.

ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المحور الأساس لجميع هذه السورة يدور حول مالكية الله سبحانه وحاكميته والتي وردت في أوّل آية منها(143).

فضيلة تلاوة السورة:

نقلت روايات عديدة عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في فضيلة تلاوة هذه السورة نقرأ منها ما يلي:

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة تبارك فكإنّما أحيى ليلة القدر»(144).

وجاء في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «وددت أن تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن»(145).

وجاء في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «سورة الملك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين»(146).

والأحاديث كثيرة في هذا المجال.

ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلاّ من خلال التدبّر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها، والإستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة.

* * *

[ 453 ]

 

الآيات

تَبَـرَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (1) الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـوَت طِبَاقاً مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـنِ مِن تَفَـوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور (3)ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ(4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَجَعَلْنَـهَا رُجُوماً لِّلشَّيَـطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

التّفسير

عالم الوجود المتكامل:

تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه، وخلود ذاته المقدّسة، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة(147).

يقول تعالى: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير).

«تبارك»: من مادّة (بركة) في الأصل من (برك) على وزن (ترك) بمعنى

[ 454 ]

(صدر البعير)، وعندما يقال: (برك البعير) يعني وضع صدره على الأرض. ثمّ استعملت الكلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال، وأطلقت كذلك على كلّ نعمة باقية ودائمة، ومن هنا يقال لمحلّ خزن الماء (بركة) لأنّ الماء يبقى فيها مدّة طويلة.

وقد ذكرت الآية أعلاه دليلا ضمنيّاً على أنّ الذات الإلهية مباركة، وهو مالكيته وحاكميته على الوجود، وقدرته على كلّ شيء، ولهذا السبب فإنّ وجوده تعالى كثير البركة ولا يعتريه الزوال.

ثمّ يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا).

«الموت»: حقيقته الإنتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقاً، لأنّ الخلقة ترتبط بالاُمور الوجودية، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقاً، لذا فإنّه غير مقصود.

ثمّ إنّ ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الإلتفات إلى الموت، وما يترتّب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والإلتزام، إضافة إلى أنّ الموت كان في حقيقته قبل الحياة.

أمّا الهدف من الإمتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الإستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقاً للقرب من الله سبحانه، وقد بحثنا ذلك مفصّلا فيما سبق(148).

كما أنّ الجدير بالملاحظة في قوله «أحسن عملا» هو التأكيد على جانب (حسن العمل)، ولم تؤكّد الآية على كثرته، وهذا دليل على أنّ الإسلام يعير إهتماماً (للكيفية) لا (للكميّة)، فالمهمّ أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، ونافعاً للجميع حتّى ولو كان محدود الكمية.

[ 455 ]

 

لذا ورد في تفسير (أحسن عملا)، روايات عدّة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «أتمّكم عقلا، أشدّكم لله خوفاً، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلّكم تطوّعاً»(149).

حيث أنّ العقل الكامل يطهّر العمل، ويجعل النيّة أكثر خلوصاً لله عزّوجلّ ويضاعف الأجر.

وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال حول تفسير (أحسن عملا): «ليس يعني أكثر عملا، ولكن أصوبكم عملا، وإنّا الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص، أشدّ من العمل، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّوجلّ»(150).

وتحدّثنا في تفسير الآية: ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون)(151)، وقلنا: أنّ الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية لله عزّوجلّ، وهنا نجد الهدف: (إختباره بحسن العمل). وممّا لا شكّ فيه أنّ مسألة الإختبار والإمتحان لا تنفكّ عن مسألة العبودية لله سبحانه، كما أنّ لكمال العقل والخوف من الله تعالى والنيّة الخالصة لوجهه الكريم ـ والتي اُشير لها في الروايات أعلاه، أثراً في تكامل روح العبودية.

ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الإمتحان الكبير لجميع البشر، ووسيلة هذا الإمتحان هو الموت والحياة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة، وإخلاص النيّة، وإنجاز كلّ عمل خيّر.

وإذا لاحظنا أنّ بعض المفسّرين فسّر (أحسن عملا) بمعنى ذكر الموت أو التهيّؤ وما شابه ذلك، فإنّ هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلّي.

وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الإمتحان الكبير الذي يمرّ به،

[ 456 ]

 فيجدر به ألاّ يكون متشائماً ويائساً من عون الله سبحانه ومغفرته له، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها، حيث يقول تعالى: ( وهو العزيز الغفور).

نعم، إنّه قادر على كلّ شيء، وغفّار لكلّ من يتوب إليه.

وبعد إستعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلّي للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمّل في عالم الوجود، والتهيّؤ لمخاض الإمتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم، يقول تعالى: ( الذي خلق سبع سموات طباقاً).

بالنسبة إلى موضوع السموات السبع فقد استعرضنا شيئاً حولها في تفسير الآية (12) من سورة الطلاق، ونضيف هنا أنّ المقصود من (طباقاً) هو أنّ السموات السبع، كلا منها فوق الاُخرى، إذ أنّ معنى (المطابقة) في الأصل هو الشيء فوق شيء آخر.

ويمكن إعتبار «السموات السبع» إشارة إلى الكرات السبع للمنظومة الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، حيث تبعد كلّ منها مسافة معيّنة عن الشمس أو تكون كلّ منها فوق الاُخرى.

أمّا إذا اعتبرنا أنّ جميع ما نراه من النجوم الثابتة والسيارة ضمن السماء الاُولى، فيتّضح لنا أنّ هنالك عوالم اُخرى في المراحل العليا، حيث أنّ كلّ واحد منها يكون فوق الآخر.

ثمّ يضيف سبحانه: ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت).

إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بكلّ ما يحيطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحكم، وقوانين منسجمة، ومقادير محسوبة، ودقّة متناهية، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه.

وهذه الدقّة المتناهية، والنظام المحيّر، والخلق العجيب، يتجسّد لنا في كلّ شيء، ابتداء من الذرّة الصغيرة وما تحويه من الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات، وانتهاءً بالنظم الحاكمة على جميع المنظومة الشمسية والمنظومات

[ 457 ]

 

الاُخرى، كالمجرّات وغيرها .. إذ أنّ جميع ذلك يخضع لسيطرة قوانين متناهية في الدقّة، ويسير وفق نظام خاصّ.

وخلاصة القول أنّ كلّ شيء في الوجود له قانون وبرنامج، وكلّ شيء له نظام محسوب.

ثمّ يضيف تعالى مؤكّداً: ( فارجع البصر هل ترى من فطور).

«فطور» من مادّة (فطر)، على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث.

ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه.

لذا يضيف سبحانه مؤكّداً هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول: ( ثمّ ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير).

«كرّتين» من مادّة (كر) على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شيء معيّن، و (كرّة) بمعنى التكرار و (كرّتين) مثنّاها.

إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المقصود من الـ (كرّتين) هنا ليس التثنية، بل الإلتفات والتوجّه المتكرّر المتعاقب والمتعدّد.

وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأمّلوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات ـ كحدّ أدنى ـ ويتدبّروا أسرار الخلق. وبمعنى آخر فإنّ على الإنسان أن يدقّق في خلق الله سبحانه مرّات ومرّات، وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية، ممّا يؤدّي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدّسة.

«خاسىء» من مادّة (خسأ) و (خسوء) على وزن (مدح، وخشوع) وإذا كان مورد إستعمالها العين، فيقصد بهما التعب والعجز، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده.

[ 458 ]

«حسير» من مادّة (حسر)، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشيء عارياً، وإذا ما فقد الإنسان قدرته وإستطاعته بسبب التعب، فإنّه يكون عارياً من قواه، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز.

وبناءً على هذا فإنّ كلمتي (خاسىء) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه، تعطيان معنى واحداً في التأكيد على عجز العين، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود.

وفرّق البعض بين معنى الكلمتين، إذ قال: إن (خاسىء) تعني المحروم وغير الموفّق، و (حسير) بمعنى العاجز.

وعلى كلّ حال فيمكن إستنتاج أساسين من الآيات المتقدّمة:

الأوّل: أنّ القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحقّ أن يتدبّروا ويتأمّلوا كثيراً في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتين، حيث أنّ هنالك أسراراً كثيرة وعظيمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الاُولى أو الثانية. بل تستدعي النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الكثيرة، حتّى تتّضح الأسرار وتتبيّن الحقائق.

الأمر الثّاني: الذي يتبيّن لنا من خلال التدقيق في هذا النظام، هو إدراك طبيعة الإنسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من كلّ نقص وعيب وخلل.

وإذا ما لوحظ في النظرة الأوّلية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم (كالزلازل والسيول، والأمراض، والكوارث الطبيعية الاُخرى، والتي تصيب البشر أحياناً في حياتهم) واعتبرت شروراً وآفات وفساداً، فإنّه من خلال الدراسات والتدقيقات المتأمّلة يتبيّن لنا أنّ هذه الاُمور هي الاُخرى تمثّل أسراراً أساسية غاية في الدقّة(152).

إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني، حيث معناها أنّ وجود

[ 459 ]

 

 النظام في كلّ شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء، وإلاّ، فإنّ حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبداً أن تكون منطلقاً للنظام ومبدأ للحساب.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث مفضّل المعروف عنه «إنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، والتضادّ لا يأتي بالنظام»(153).

ثمّ تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء، المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة، حيث يقول سبحانه: ( ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير).

إنّ نظرة متأمّلة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جوّ السماء المليء بالنجوم كاف لإثارة الإنتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة، وخاصّة طبيعة النظم الحاكمة عليها، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها، وسكونها المقترن بالأسرار العجيبة، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم، ممّا يجعل الإنسان أمام عالم مليء بالمعرفة ونور الحقّ، ويدفعه باتّجاه عشق الباريء عزّوجلّ الذي لا يمكن وصفه والتعبير عنه بأي لسان.

وتؤكّد الآية الكريمة ـ مرّة اُخرى ـ الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلاّ جزء من السماء الاُولى، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اُخرى من السموات السبع، لذا أطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السموات الاُخرى.

«الرجوم» بمعنى (الرصاص) وهي إشارة إلى الشهب التي تقذف كرصاصة من جهة إلى اُخرى من السماء، كما أنّ (الشهب) هي بقايا النجوم المتلاشية والتي تأثّرت بحوادث معيّنة، وبناءً على هذا، فإنّ المقصود بجعل الكواكب رجوماً للشياطين، هو هذه الصخور المتبقّية.

أمّا كيفية رجم الشياطين برصاصات الشهب (الأحجار الصغيرة) التي تسير

[ 460 ]

 

 بصورة غير هادفة في جو السماء، فقد بيّناه بشكل تفصيلي في التّفسير الأمثل في تفسير الآية (18) من سورة الحجر، وكذلك في تفسير الآية (20) من سورة الصافات.

* * *

ملاحظة

عظمة عالم الخلق:

بالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل في مجتمع الجاهلية والتأخّر .. إلاّ أنّنا عندما نلاحظ آياته نراها غالباً ما تدعو المسلمين إلى التفكّر والتأمّل بالأسرار العظيمة التي يزخر بها عالم الوجود، الأمر الذي لم يكن مفهوماً في ذلك العصر، وهذا دليل واضح على أنّ القرآن الكريم صادر من مبدأ آخر، وأنّ العلم والمعارف الإنسانية كلّما تقدّمت فإنّها تؤكّد عظمة القرآن الكريم أكثر فأكثر.

فالكرة الأرضية التي نعيش عليها ـ مع كبر حجمها وسعتها ـ صغيرة في مقابل مركز المنظومة الشمسية (قرص الشمس)، بحيث أنّها تساوى مليون ومائتي ألف كرة أرضية مثل أرضنا.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ منظومتنا الشمسية جزء من مجرّة عظيمة، يطلق عليها اسم «درب التبانة»(154).

وطبقاً لحسابات العلماء الفكليين فإنّه يوجد في مجرتنا فقط (000/000/000/100) ـ مائة مليارد ـ نجمة، حيث تكون الشمس ومع ما عليها من عظمة إحدى نجومها المتوسطة.

ومن جهة ثالثة فإنّ في هذا العالم الواسع مجرّات كثيرة إلى حدّ أنّها تخرج عن الحساب والعدد، وكلّما تطوّرت التلسكوبات الفلكية العظيمة تمّ كشف مجرّات اُخرى عديدة.

فما أعظم قدرة هذا الربّ الذي وضع هذه الأسرار الكبيرة مع ذلك النظام الدقيق «العظمة لله الواحد القهّار».

* * *

[ 461 ]

 

الآيات

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِىَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـل كَبِير (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـبِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لاَِّصْحَـبِ السَّعِيرِ (11)

التّفسير

لو كنّا نسمع أو نعقل:

كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود، أمّا في الآيات مورد البحث فإنّه تعالى يتحدّث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكّبون عن أدلّة الحقّ، ويكابرون في تحدّي البراهين الدامغة، ويسلكون طريق الكفر والشرك، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في اُتون العذاب الإلهي.

يقول تعالى في البداية: ( وللذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم وبئس المصير).

ثمّ يستعرض توضيحاً لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى: ( إذا

[ 462 ]

أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور).

نعم، إنّهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذلّ والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور صوت مرعب وشديد من جهنّم، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم.

«شهيق» في الأصل بمعنى صوت قبيح ومنكر كصوت الحمار، ويقال أنّه مأخوذ من مادّة (شهوق) بمعنى كونه طويلا (لذا يطلق على الجبل العالي بأنّه شاهق) ومن هنا فإنّه (شهيق) جاءت بمعنى الأنين الطويل.

وقال البعض: إنّ (الزفير) هو الصوت الذي يتردّد في الحلق، أمّا (الشهيق) فهو الصوت الذي يتردّد في الصدر، وفي كلّ الأحوال فإنّها إشارة إلى الأصوات المرعبة والمؤلمة.

ثمّ يضيف تعالى مستعرضاً شدّة غضب (جهنّم) وشدّة هيجانها وإنزعاجها بقوله تعالى: ( تكاد تميّز من الغيظ)(155).

إنّها حرارة هائلة جدّاً ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فانّه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب، أو كإنسان يكاد أن يتفجّر من شدّة الغضب والثورة والإنفعال، هكذا هو منظر جهنّم، مركز الغضب الإلهي.

ثمّ يستمرّ تعالى بقوله: ( كلّما اُلقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير).

فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة، إنّ الملائكة (خزنة جهنّم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به الله سبحانه وما تفضّل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين .. فكيف اخترتم لأنفسكم مقرّاً كهذا؟

( قالوا بلى قد جاءنا نذير، فكذّبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء إن أنتم إلاّ في ضلال كبير).

[ 463 ]

 

وهكذا يأتي الإعتراف: نعم قد جاءنا الرسل إلاّ أنّنا كذّبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم وإعتبرناهم ضالّين، وأخرجناهم من بين صفوفنا، وأبعدناهم عنّا ..

ثمّ يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول: ( وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير)، أجل هكذا يأتي إعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان ( فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير). وفي هذه الآيات وضمن بيان المصير المرعب لهؤلاء يشير إلى السبب الحقيقي لذلك، فمن جهة أعطاهم الله تعالى الاُذن السامعة والعقل، ومن جهة اُخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان، أمّا لو كان للإنسان اُذن لا يسمع بها، وعين لا يبصر بها، وعقل لا يفكّر به، فلو جاءه جميع الأنبياء والمرسلين بكافّة معاجزهم وكتبهم، لم ينتفع بشيء. وقد ورد في الحديث الشريف، أنّ بعض المسلمين ذكروا شخصاً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأثنوا عليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «كيف عقل الرجل» فقيل: يارسول الله نحن نسأل عن سعيه وعبادته وخيراته وأنت تسأل عن عقله؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنّما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم!».

«سحق» على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشيء وجعله ناعماً كما تطلق على الملابس القديمة، إلاّ أنّها هنا بمعنى البعد عن رحمة الله، وبناءً على هذا فإنّ مفهوم قوله تعالى: ( فسحقاً لأصحاب السعير) هو: فبعداً لأصحاب النار عن رحمة الله، ولأنّ لعنة وغضب الله تعالى يكون توأماً مع التجسيد الخارجي له، فإنّ هذه الجملة بمثابة الدليل على أنّ هذه المجموعة بعيدة عن رحمة الله بشكل كلّي.

* * *

ملاحظة

المقام السامي للعقل:

ليست هذه هي المرّة الاُولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي، كما أنّها ليست المرّة الاُولى التي يصرّح فيها بأنّ العامل الأساسي لتعاسة الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه وفي وحل الذنوب وجهنّم .. هو عدم الإستفادة من هذه القوّة الإلهيّة العظيمة، وإغفال هذه القدرة الجبّارة، وعدم إستثمار هذه الجوهرة والنعمة الربّانية، وذلك واضح وبيّن لكل من قرأ القرآن وتدبّر آياته، حيث يلاحظ أنّ هذا الأمر مؤكّد عليه في مناسبات شتّى ..

وعلى الرغم من الأكاذيب التي يطلقها البعض بأنّ الدين هو وسيلة لتخدير العقول والإعراض عن أوامرها ومتطلّباتها، فإنّ الإسلام قد وضع أساس معرفة الله تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة، ضمن مسؤولية العقل.

لذا فإنّ القرآن الكريم يوجّه نداءاته بصورة مستمرّة وفي كلّ مكان إلى (اُولو الألباب) و (اُولو الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمّقين في شؤون المعرفة.

ولقد وردت في المصادر الإسلامية روايات كثيرة في هذا الصدد، بشكل لا يمكن إحصاؤه، والطريف أنّ كتاب الكافي المعروف، والذي هو أكثر الكتب اعتباراً في مجال الحديث يحتوي على (أبواب) أو (كتب) أوّلها كتاب باسم كتاب (العقل

[ 464 ]

 

 والجهل) وكلّ من يلاحظ الروايات التي وردت بهذا الخصوص يدرك عمق النظرة الإسلامية إلى هذه المسألة.

ونحن هنا نقتطف منها روايتين:

جاء في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «هبط جبرائيل على آدم، فقال: ياآدم، إنّي اُمرت أن اُخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين، فقال له آدم: ياجبرائيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم إنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: إنصرفا ودعاه. فقالا: ياجبرئيل، إنّا اُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج)(156).

وهذا من أجمل ما يمكن أن يقال في العقل، وطبيعة علاقته مع الحياء والدين، إذ أنّ العقل إذا ما انفصل عن الدين فإنّ الدين سيكون في مهبّ الرياح ويتعرّض إلى الإنحراف بسبب الأهواء وفقدان الموازن الموضوعية الأساسية.

أمّا «الحياء» الذي هو المانع والرادع للإنسان عن ارتكاب القبائح والذنوب، فهو الآخر من ثمار شجرة العقل والمعرفة.

وهكذا نرى أنّ آدم (عليه السلام) كان يتمتّع بدرجة عالية من العقل، حيث أنّه (عليه السلام)اختار العقل ممّا خيّر به من الاُمور الثلاث، وبذلك إصطحب الدين والحياء أيضاً.

ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنّة»(157).

وبناءً على هذا فإنّ الجنّة هي مكان اُولي الألباب، ومن الطبيعي أنّ المقصود من العقل هنا: هو المعرفة الحقيقيّة الراسخة وليس ألاعيب الشياطين التي تلاحظ في أعمال وممارسات السياسيين والظالمين والمستكبرين في عالمنا المعاصر. حيث أنّ ذلك كما يقول الإمام الصادق هو (شبيهة بالعقل، وليست بالعقل)(158).

* * *

[ 465 ]

 

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

التّفسير

خالق الوجود عليم بأسراره:

بعد ما بيّنا ـ في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة ـ مصير الكفّار يوم القيامة، فإنّ القرآن الكريم يتناول في الآيات مورد البحث حالة المؤمنين وجزاءهم العظيم عند الله سبحانه ..

يقول في البداية: ( إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير).

«الغيب» هنا إشارة لمعرفة الله تعالى غير المرئية، أو الإشارة إلى المعاد غير المشاهد، أو يقصد به الأمران معاً.

كما يحتمل أن يكون إشارة إلى الخوف من الله تعالى بسبب ما عمل الإنسان من خطايا وذنوب في السرّ، ذلك أنّ الإنسان إذا لم يقترف ذنوباً في السرّ، فإنّه لن يجرأ عليها في العلانية.

ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى خلوص النيّة في الإبتعاد عن الذنوب والمعاصي، والإلتزام بالأوامر الإلهية، إذ أنّ العمل السرّي يكون أبعد عن الرياء.

[ 466 ]

 

كما لا مانع من الجمع بين هذه الآراء.

التعبير بـ (مغفرة) بصورة (نكرة)، وكذلك (أجر كبير) إشارة إلى عظمته وأهميّته، إذ أنّ هذه المغفرة وهذا الأجر من العظمة أنّه غير معروف ولا واضح للجميع.

ثمّ يضيف للتأكيد: ( وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنّه عليم بذات الصدور).

نقل بعض المفسّرين عن (ابن عبّاس) قوله في سبب نزول هذه الآية: (إنّ جماعة من الكفّار ـ أو المنافقين ـ كانوا يذكرون الرّسول بالسوء بدون علمه، وكان جبرئيل (عليه السلام) يخبر الرّسول بذلك، وكان بعضهم يقول للآخر (أسرّوا قولكم) فنزلت الآية أعلاه موضّحة أنّ جهرهم أو إخفاءهم لأقوالهم هو ممّا يعلمه الله تعالى)(159).

وتأتي الآية اللاحقة دليلا وتأكيداً على ما ورد في الآية السابقة، حيث يقول تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).

ذكرت إحتمالات متعدّدة في تفسير عبارة: ( ألا يعلم من خلق) فقال البعض: إنّ القصد منها هو أنّ الذي خلق القلوب يعلم ما تكنّ فيها من أسرار.

أو أنّ الربّ الذي خلق العباد هل يجهل أسرارهم.

أو أنّه تعالى الذي خلق عالم الوجود جميعاً عارف ومطلع بجميع أسراره، وعندئذ هل تكون أسرار الإنسان ـ الذي هو جزء من هذا العالم العظيم ـ خافية على الله تعالى؟

ولإدراك هذه الحقيقة لابدّ من الإلتفات إلى أنّ مخلوقات الله تعالى دائماً تحت رعايته، وذلك يعني أنّ فيض وجوده يصل كلّ لحظة إلى مخلوقاته، فإنّه سبحانه لم يخلقهم ليتركهم بدون رعاية. وفي الأصل فإنّ جميع الممكنات مرتبطة دائماً بوجوده تعالى، وإذا ما فقدت تعلّقها بذاته المقدّسة لحظة واحدة فإنّها ستسلك طريق الفناء، إنّ الإنتباه وإدراك طبيعة هذه العلاقة القائمة

[ 467 ]

 

 والخلقة والأواصر الثابتة، هي أفضل دليل على علم الله بأسرار جميع الموجودات في كلّ زمان ومكان.

«اللطيف» مأخوذ في الأصل من (اللطف) ويعني كلّ موضوع دقيق وظريف، وكلّ حركة سريعة وجسم لطيف، وبناءً على هذا فإنّ وصف الله تعالى بـ (اللطيف) إشارة إلى علمه عزّوجلّ بالأسرار الدقيقة للخلق، كما جاءت أحياناً بمعنى خلق الأجسام اللطيفة والصغيرة والمجهرية وما فوق المجهرية.

إنّ جميع ما ذكر سابقاً إشارة إلى أنّ الله اللطيف عارف ومطّلع على جميع النوايا القلبية الخفية، وكذلك أحاديث السرّ، والأعمال القبيحة التي تنجز في الخفاء والخلوة .. فهو تعالى يعلم بها جميعاً.

قال بعض المفسّرين في تفسير (اللطيف): (هو الذي يكلّف باليسير ويعطي الكثير).

وفي الحقيقة فإنّ هذا نوع من الدقّة في الرحمة.

وقال البعض أيضاً: إنّ وصفه تعالى بـ (اللطيف) بلحاظ نفوذه سبحانه في أعماق كلّ شيء، ولا يوجد مكان خال منه تعالى في العالم أجمع، فهو في كلّ مكان وكلّ شيء.

إنّ جميع هذه الاُمور ترجع إلى حقيقة واحدة، وهي التأكيد على عمق معرفة الله سبحانه وعلمه بالأسرار الظاهرة والباطنة لجميع ما في الوجود

* * *

[ 468 ]

 

الآيات

هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُمُ الاَْرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيَفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)

التّفسير

لا أمان للعاصين من عقاب الله:

بعد الأبحاث التي إستعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنّة، والكافرين والمؤمنين، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية، ثمّ إلى أنواع من عذابه، وذلك للترغيب والتشويق بالجنّة لأهل الطاعة، والإنذار بالنار لأهل المعصية، يقول تعالى: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا).

( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).

«ذلول» بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّاً، مع حركته المتعدّدة، يلاحظ هادئاً إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكناً بصورة مطلقة.

[ 469 ]

 

يقول بعض العلماء: إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة، ثلاث منها هي:

الاُولى: حركتها حول نفسها.

والثانية: حول الشمس.

والثالثة: مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة.

هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة، هي من التناسب والإنسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على حركتها.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى. فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار لها ولا هدوء، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماماً، فلو كان معظم سطح الكرة الأرضية مغموراً بالوحل، والمستنقعات ـ مثلا ـ فعندئذ تتعذّر الإستفادة منها، وكذلك لو كانت الرمال الناعمة تغمرها فإن قدم الإنسان تغور فيها حتّى الركب، وكذا لو كانت مكوّناتها من الصخور الحادّة القاسية فعندئذ يتعذّر المشي عليها، ومن هنا يتّضح معنى إستقرار الأرض وهدوئها.

ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كلّ شيء على وجهها، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كلّ شيء على سطحها.

وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته، فهو ليس بالشديد بالصورة التي يسبّب له الإختناق، ولا بالمنخفض بالشكل الذي يتلاشى فيه معه.

والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها عظام الإنسان، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقاً لا يستطيع الإستقرار في مكان.

والخلاصة: إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات، والظريف هنا بعد وصفه تعالى للأرض بأنّها (ذلول) أمره لعباده بأن يسيروا في (مناكبها).

[ 470 ]

 

و«مناكب» جمع (منكب) على وزن (مغرب) بمعنى الكتف، وبذلك تسخر الأرض للإنسان ويضع قدميه عليها سائراً على كتفها وهي هادئة ومتوازية ومحتفظة بتعادلها.

كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصل عليه، وإلاّ فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلّفين عن السعي.

إنّ التعبير بـ (الرزق) ـ هنا ـ تعبير جامع وشامل، حيث يعني كافّة الموارد الأرضية، وهو أعمّ من النعم الحيوانية والنباتية والمعدنية التي فيها.

ويجب الإلتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم، إذ أنّ كلّ ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية.

وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى اُسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه: ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور).

نعم، إنّ الباريء تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح، تبدأ بالزلازل، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن.

جملة (فإذا هي تمور) يمكن أن تكون إشارة إلى قدرة الله سبحانه على أن يأمر الأرض أن تبتلعكم، وتنقلكم باستمرار ـ وأنتم في داخلها ـ من مكان إلى آخر بحيث أنّ الهدوء لا يشملكم حتّى وأنتم في قبوركم.

وهكذا تفقد الأرض إستقرارها وهدوءها إلى الأبد، وتسيطر الزلازل عليها، وهذا الأمر سهل الإدراك والتصوّر للذين عاشوا في المناطق الزلزالية، وشاهدوا كيف أنّ الزلازل تستمر عدّة أيّام أحياناً وتبقى الأرض غير مستقرّة وتسلب من سكّان تلك المناطق لذّة النوم والأكل والراحة، غير أنّ تصوّر هذا الأمر بالنسبة إلى عامّة الناس الذين ألّفوا هدوء الأرض أمر صعب.

التعبير بـ (من في السماء) إشارة إلى ذات الله المقدّسة، ولمّا كانت حاكميته على

[ 471 ]

 

جميع السماوات ومن فيها من الاُمور المسلّمة، فما بالك بحاكميته على الأرض، إنّها من الاُمور التي لا شكّ فيها ـ أيضاً ـ بل هي من باب الاُولى.

قال البعض: إنّ العبارة السابقة إشارة إلى ملائكة الله سبحانه في السماء المكلّفين بتنفيذ أوامره تعالى.

ثمّ يضيف سبحانه: ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً) فلا يلزم حتماً حدوث زلزلة لتدميركم، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها .. وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي: ( فستعلمون كيف نذير).

إنّ إدراك طبيعة هذا التساؤل سهل بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا في المناطق الرملية المتحرّكة والرياح (الحاصبة)، (وهي الرياح التي تحرّك كميّات الحصى المتراكمة وتنقلها من مكان إلى آخر) فهؤلاء يدركون إمكانية دفن البيوت أو القرى في لحظات تحت تلال من الحصى والرمال المتحرّكة، وكذلك القوافل السائرة في وسط الصحراء.

وفي الحقيقة فإنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط، حيث يستطيع الباريء عزّوجلّ أن يقضي على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض، أو بحركة الرياح، وإن أفضل دليل على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الاُمور في الاُمم السابقة.

لذا فإنّ الله تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات: ( ولقد كذّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير)(160).

نعم فلقد عاقبنا قسماً من هؤلاء بالزلازل المدمّرة، وأقواماً آخرين بالصواعق، وبالطوفان، وبالرياح .. وبقيت مدنهم المدمّرة موضع درس وإعتبار لمن كان له قلب واع.

* * *

الآيات

أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـفَّـت وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءِ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَـنِ إِنِ الْكَـفِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُور (20)أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُور(21)

التّفسير

انظروا إلى الطير فوقكم:

في الآيات الاُولى لهذه السورة كان البحث عن قدرة الله سبحانه ومالكيته، وعن السموات السبع والنجوم والكواكب .. ويستمرّ هذا اللون من الحديث في أوّل آية ـ مورد البحث ـ وذلك بذكر مفردة اُخرى من كائنات هذا الوجود، والتي تبدو في ظاهرها صغيرة ويقول تعالى: ( أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن)(161).

هذه الأجسام بالرغم من قانون الجاذبية الأرضية تنطلق من الأرض وتحلّق ساعات في السماء بكلّ راحة، وأحياناً أيّاماً وأسابيع وشهوراً، وتستمر بحركتها السريعة المرنة وبدون أي مشاكل.

[ 472 ]

 

فالبعض منها يفتح جناحيه عند الطيران (صافات) وكأنّ هنالك قوّة خفيّة تحرّكه، والاُخرى ترفرف بأجنحتها عند الطيران بصورة مستمرة وقد تكون (يقبضن) إشارة إلى هذا المعنى.

وتطير مجاميع اُخرى بتحريك أجنحتها تارةً وفتحها اُخرى. كما أنّ هنالك قسماً آخر يحرّك أجنحته لفترة عند الطيران، وعندما يحقّق سرعة معيّنة يجمعها بصورة كلية كـ (العصفور).

وخلاصة القول: فإنّ الطيران واحد، إلاّ أنّ صوره مختلفة ولكلّ طريقته وبرنامجه الخاصّ به.

فمن ياترى خلق أجسام هذه الطيور بهذه الصورة التي جعلها تستطيع السير في الهواء بكلّ سهولة وراحة؟. ومن ذا الذي وهبها هذه القدرة وعلّمها الطيران، خصوصاً حالات الطيران الجماعي المعقد للطيور المهاجرة، التي تستمرّ ـ أحياناً ـ شهوراً عديدة، وتقطع في رحلتها هذه آلاف الكيلومترات، وتمرّ بأجواء بلدان كثيرة، وتجتاز الجبال والوديان والغابات والبحار حتّى تصل إلى مقصدها؟ فمن ياترى علم وأعطى هذه الطيور كلّ هذه القوّة، وهذا الوعي والمعرفة؟

لذا يقول في ختام الآية ( ما يمسكهنّ إلاّ الرحمن إنّه بكلّ شيء بصير).

إنّه الله تعالى الذي وضع باختيارها الوسائل والقوى والإمكانات المختلفة للطيران، نعم، إنّ الله الرحمن الذي شملت رحمته الواسعة جميع الكائنات، وأعطى للطيور ما هو موضع حاجتها في الطيران، وحافظ عليها في السماء، هو بذاته المقدّسة يحفظ الأرض والكائنات الاُخرى. وعندما يشاء غير ذلك فلن يكون عندئذ للطيور قدرة الطيران ولا للأرض حالة الهدوء والإستقرار.

التعبير بـ (الصافات ويقبضن) لعلّه إشارة إلى طيور مختلفة أو لحالات متنوّعة من الطيران(162).

ولقد بحثنا بشكل تفصيلي عجائب عالم الطيور وغرائب مسألة الطيران في تفسير الآية (79) من سورة النحل.

[ 473 ]

ثمّ يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أنّ الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد مقابل قدرة الله عزّوجلّ حيث يقول: ( أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن)(163).

إنّ هؤلاء الذين هم (جند لكم) ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم فحسب، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم، وحتّى هذه النعم المسخّرة لسعادتكم كالماء والهواء والتراب والنار والتي تمثّل ركناً أساسياً من أركان حياتكم لا يمكنها أن تنقذكم من البلاء، بل إنّها نفسها إذا اُمرت فإنّها ستكون موضع عذابكم وموتكم ونقمة عليكم.

نعم لقد كانت هذه النعم سبباً لهلاك ودمار كثير من الأقوام العاصين ويحدّثنا التاريخ أنّ الكثير من الجبابرة والطغاة والمتمرّدين على أوامر الله كان هلاكهم على يد أقرب الناس إليهم، وهذا ما يلاحظ كذلك في عصرنا أيضاً، حيث أنّ أكثر المجاميع وفاءً للسلطة تثور ضدّهم وينتقم الله من هؤلاء الظالمين بالظالمين الذين كانوا عوناً لهم.

ألا ( إنّ الكافرون إلاّ في غرور) فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل والغرور، ولا يعتبرون أو يتّعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة، ولا لما يصيب الآخرين في حياتنا المعاصرة.

«جند» في الأصل بمعنى الأرض غير المستوية والقويّة، والتي تتجمّع فيها الصخور الكثيرة، ولهذا السبب فإنّ هذه الكلمة (جند) تطلق على العدد الكثير من الجيش.

وقد اعتبر بعض المفسّرين كلمة (جند) في الآية ـ مورد البحث ـ إشارة إلى الأصنام، التي لا تستطيع مطلقاً تقديم العون للمشركين في يوم القيامة، إلاّ أنّ للآية في الظاهر مفهوماً واسعاً والأصنام أحد مصاديقها.

[ 474 ]

 

ثمّ يضيف سبحانه مؤكّداً ما سبق: ( أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه)(164).

فإذا أمر الله السماء أن تمتنع عن المطر، والأرض عن الإنبات، وأمر الآفات الزراعية بالفتك بالمحاصيل .. فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام؟

وإذا ما قطع الله الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم، فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال؟ إنّها لحقائق واضحة وأدلّة دامغة، إلاّ أنّ العناد هو الذي يشكّل حجاباً للإدراك وللشعور الحقّ: ( بل لجّوا في عتو ونفور).

وحتّى في حياتنا المعاصرة ومع كلّ ألوان التقدّم العلمي في الجوانب المختلفة، خصوصاً في مجال الصناعة الغذائية. فإذا ما منع الله المطر عن الأرض سنة واحدة فيا لها من فاجعة عظمى تحلّ بالعلم، وإذا ما اُصيبت النباتات بالجراد والآفات سنة واحدة فيا لها من كارثة كبرى تحلّ بالبشرية.

* * *

ملاحظة

العوامل الأربعة في محرومية البشر:

إستعرضت الآيات السابقة أهمّ العوامل التي أدّت بالعصاة والمتمرّدين على أوامر الباريء عزّوجلّ إلى المصير البائس والعاقبة الخائبة. وكانت أهمّ هذه العوامل: إعراض آذانهم عن الإصغاء، وعقولهم عن الفهم، وقلوبهم عن الوعي ..

كما كانت في الآيات مورد البحث أربعة عوامل اُخرى ساهمت في العاقبة السيّئة لهؤلاء التي هي: بؤس الإنسان وضلاله، هذه العوامل هي: (الغرور) و (اللجاجة) و (العتوّ) و (النفور).

وإذا ما أمعنا النظر جيّداً في هذه العوامل فإنّنا نلاحظ أنّ لها إرتباطاً مع العوامل السابقة، حيث أنّ هذه الصفات الرديئة تولّد حجاباً على الآذان والعيون والبصائر، وتمنع الإنسان من إدراك الحقائق.

* * *

[ 475 ]

 

الآيات

أَفَمَن يَمْشِى مُكِبَّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَط مُّسْتَقِيم (22) قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَـرَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاَْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27)

التّفسير

السائر سويّاً على جادّة التوحيد:

تعقيباً لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى الكافرين والمؤمنين، فإنّ الله تعالى يصوّر لنا ـ في أوّل آية من هذه الآيات ـ حالة هاتين المجموعتين ضمن تصوير رائع ولطيف، حيث يقول تعالى: ( أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سويّاً على صراط مستقيم).

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه، يحرّك يديه ورجليه للإهتداء إلى سبيله، لأنّه لا يبصر طريقه جيّداً، وليس بقادر على السيطرة على نفسه، ولا بمطّلع على العقبات والموانع، وليست لديه القوّة للسير

[ 476 ]

 

سريعاً، وبذلك يتعثّر في سيره .. يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائراً.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّاً ـ لتشبيه لطيف فذّ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماماً، وإنعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين، وذلك ما نلاحظه بأُمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما: (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة، إلاّ أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت إحتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّاً على وجهه). إلاّ أنّ أكثر الإحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّاً على وجهه ويمشي زاحفاً بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّاً) هو المشي الإعتيادي ولكنّه مطأطيء الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبداً.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّاً) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّاً) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية، معرضاً عن الإهتمام بغيره.

إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّاً).

وعلى كلّ حال، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّاً) و (سويّاً) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية

[ 477 ]

 مفهوم الآية وإنحصارها في الآخرة، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم، السائرين في درب الضلال والهوى، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفاً على صدره، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحاً ومستقيماً ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية اللاحقة فيقول: ( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون).

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للإطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الإستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اُخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية، إلاّ أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله، تُرى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاُذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اُخرى حيث يقول تعالى: ( قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون).

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاُولى تعيّن (المسير)، والثانية تتحدّث عن (وسائل العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان، وبذل الجهد للإستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الإتّجاه، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم)، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه

[ 478 ]

 

 في الاُولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئاً وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم، فيقول تعالى: ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين).

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع (متى هذا الوعد؟).

وذكروا إحتمالين في المقصود من (هذا الوعد): الأوّل: هو وعد يوم القيامة، والآخر: هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلاّ أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسباً حسب الظاهر، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى: ( قل إنّما العلم عند الله وإنّما أنا نذير مبين).

إنّ هذا التعبير يشبه تماماً ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها قوله تعالى: ( قل إنّما علمها عند ربّي)(165).

ولابدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيداً فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة، وإن كان قريباً فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والإضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم: ( فلمّا رأوه زلفةً سيئت وجوه الذين كفروا) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم ( وقيل هذا اليوم الذي كنتم به تدعون).

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائماً أن يجيء يوم القيامة، وها هو قد حان موعده، ولا سبيل للفرار منه(166).

[ 479 ]

 

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطباً الكفّار في يوم القيامة: ( هذا الذي كنتم به تستعجلون)(167).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين، وهذا دليل على أنّ جملة ( متى هذا الوعد) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني: عندما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام علي (عليه السلام) عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(168).

ونقل هذا المعنى أيضاً في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّ هذه الآية نزلت بحقّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأصحابه(169).

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة، وهو نوع من التطبيق المصداقي، وإلاّ فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

[ 480 ]

 

الآيات

قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَـفِرِينَ مِنْ عَذَاب أَلِيم (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَـنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَـل مُّبِين (29) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينِ (30)

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه، التي هي آخر آيات سورة الملك، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنّها تمثّل استمراراً للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اُخرى من البحث.

يخاطب الباريء عزّوجلّ ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيراً ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات القويّة والمؤثّرة، يقول تعالى مخاطباً إيّاهم: ( قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم).

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة، كانوا دائماً يسبّون الرّسول (صلى الله عليه

[ 481 ]

 

وآله وسلم)والمسلمين، وكانوا يتمنّون موته ظنّاً منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك، لذا جاءت الآية أعلاه ردّاً عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى: ( أم يقولون شاعر نتربّص به ريب المنون)(170).

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين، بأنّ اسمه سيكون مقترناً مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس، نعم، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا، وحياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئاً.

كما ذكر البعض تفسيراً آخر لهذه الآية وهو: إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضاً ـ مع ما عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإيمان الراسخ، كان يعكس الخوف والرجاء معاً في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمراراً لهذا البحث، يضيف تعالى: ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكّلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين).

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله، واتّخذناه وليّاً ووكيلا لنا، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر)، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد على هذا المدّعى، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فماذا عملوا؟ وماذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا، إلاّ أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عندما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرم (صلى الله عليه

[ 482 ]

 

 وآله وسلم)والمؤمنين، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية، عارضاً لمصداق من رحمته الواسعة، والتي غفل عنها الكثير من الناس: ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين).

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتتين: (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء، واُخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعاً ولأعماق بعيدة، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن)، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون: إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه. إلاّ أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري، إلاّ أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة ..

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عندما سمع قوله تعالى: ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين) قال: (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه، وفي هذه الأثناء سمع من يقول: إأتي

[ 483 ]

 

 بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئاً من الماء(171).

* * *

[ 484 ]

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «نزلت في الإمام القائم(عليه السلام)، يقول: إن أصبح إمامكم غائباً عنكم، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال: والله ما جاء تأويل هذه الآية، ولابدّ أن يجيء تأويلها»(172).

والروايات في هذا المجال كثيرة، وممّا يجدر الإنتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اُخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري، والذي هو علّة حياة الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمام (عليه السلام) وعلمه وعدالته التي تشمل العالم، والتي هي الاُخرى تكون سبباً لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة، حيث لها معنى باطن وظاهر، إلاّ أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلاّ للرسول والإمام المعصوم، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيراً ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومين (عليهم السلام) فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى، وانتهت برحمانيته،

[ 485 ]

 

 والتي هي الاُخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماماً.

اللهمّ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة، وأرو ظمأنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي، واطفيء عطشنا بنور جماله ..

ربّنا، ارزقنا اُذناً صاغية وعيناً بصيرة وعقلا كاملا، فاقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة ..

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21402958

  • التاريخ : 19/04/2024 - 18:35

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net