00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الأعلى من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 119 ـ 144 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العشرون)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[119]

سُورَة الأعلى

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا تِسع عَشرَة آية

[121]

 

«سورة الأعلى»

محتوى السّورة

تحتوي السّورة على قسمين من المواضيع:

القسم الأوّل: يحوي خطاباً إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، يأمره الباري سبحانه فيه بالتسبيح وأداء الرسالة، ثمّ ذكر سبعاً من صفات اللّه عزّوجلّ، لها صلة ربط بالأمر الرّباني إلى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

القسم الثّاني: يتحدث عن المؤمنين الخاشعين، والكافرين الأشقياء، ويتناول باختصار العوامل التي تؤدي إلى كل من السعادة والشقاء الحقّ.

وفي آخر السّورة، يأتي التأكيد على أنّ ما جاء في هذه السّورة ليس هو حديث القرآن الكريم فقط، بل وتناولته كتب وصحف الأولين أيضاً، كصحف إبراهيم وموسى(عليهما السلام).

فضيلة السّورة:

روي عن النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «مَن قرأها أعطاه اللّه عشر حسنات بعدد كلّ حرف أنزل اللّه على إبراهيم وموسى ومحمّد(عليهم السلام)»(1).

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً، أنّه قال: «مَن قرأ (سبح اسم ربّك الأعلى) في فرائضه أو نوافله قيل له يوم القيامة اُدخل الجنّة من أيّ أبواب الجنّة

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص553.

[122]

شئت إن شاء اللّه»(1).

وورد في روايات عديدة: إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أو أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، كانوا إذا قرأوا (سبح اسم ربّك الأعلى)، قالوا: «سبحان ربّي الأعلى»(2).

وروي عن أحد أصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)، إنّه قال: صليت خلفه عشرين ليلة، وليس يقرأ إلاّ (سبح اسم ربّك الأعلى)، وقال: «لو تعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، وأنّ مَن قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى وإبراهيم الذي وفى»(3).

وخلاصة القول:

فيبدو أنّ السّورة من الأهمية بحيث: «كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يحب هذه السّورة: (سبح اسم ربّك الأعلى)» كما روي عن الإمام علي(عليه السلام)(4).

وقد اختلف في مكان نزول الآية، فمع أنّ المشهور، نزولها في مكّة، لكنّ ثمّة من يقول بنزولها في المدينة.

ويرجح العلاّمة الطباطبائي((قدس سره)) أن يكون قسمها الأوّل مكّيّاً والآخر مدنياً، فيقول: وسياق الآيات في صدر السّورة سياق مكّي، وأمّا ذيلها، أعني قوله: (قد أفلح مَن تزكّى) الخ فقد ورد في طرق أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)، وأنّ المراد به «زكاة الفطرة» و«صلاة العيد»، ومن المعلوم أنّ الصوم وما يتبعه من زكاة الفطرة وصلاة العيد إنّما شرّعت بالمدينة بعد الهجرة(5).

ويحتمل أيضاً أنّ الأمر بالصلاة العيد والزكاة الواردين في آخر السّورة، هما

_______________________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص 544.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ مجمع البيان، ج10، ص 472.

5 ـ تفسير الميزان، ج20، ص386.

[123]

أمران عامان، وما صلاة وزكاة الفطرة إلاّ مصداقان لهما، والتّفسير بالمصداق كثير في روايات أهل البيت(عليهم السلام).

وعليه.. فلا يبعد أن تكون السّورة كلّها مكّية كما هو المشهور، بقرينة انسجام مقاطع الآيات الاُولى منها والأخيرة أيضاً.

ويصعب اعتبار كون بعضها مكّي والآخر مدني، خصوصاً وأنّ الرّوايات تذكر، بأنّ كلّ مجموعة من المسلمين حينما يصلون المدينة، كانوا يقرأون هذه السّورة لأهل المدينة(1).

فمن المستبعد أن يقرأ صدر السّورة في مكّة، ومن ثمّ ينزل ذيلها في المدينة.

* * *

_______________________________________

1 ـ للتفصيل ـ راجع الدر المنثور، ج6، ص337.

[124]

الآيات

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1) الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى(3) وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَىْ(5)

التّفسير

تسبيح اللّه:

تبدأ السّورة بخلاصة دعوة الأنبياء(عليهم السلام)، حيث التسبيح والتقديس أبداً للّه الواحد الأحد، فتخاطب النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بالقول: (سبح اسم ربّك الأعلى).

يذهب جمع من المفسّرين إلى أنّ المراد بالـ «اسم» هنا هو (المسمى)، في حين قال آخرون هو (اسم اللّه) سبحانه وتعالى.

وليس ثمّة فرق كبير بين القولين، فالإسم يدّل على المسمى.

وعلى أيّة حال، فمراد الآية أن لا يوضع اسمه جلّ شأنه في مصاف أسماء الأصنام، ويجب تنزيه ذاته المقدسة من كلّ عيب ونقص، ومن كلّ صفات المخلوق وعوارض الجسم، أي أن لا يحد.

[125]

فينبغي على المؤمنين ألاّ يتعاملوا مع اسمه الجليل كتعامل عبدة الاصنام، بأن يضعوا اسمه تعالى مع أسماء أصنامهم، ولا يفعلوا كما يفعل المجسمة، ممن وقعوا في خطأ كبير وفاحش حينما نسبوا إلى الباري جلّ جلاله الصفات الجسمية.

(الأعلى): أي الاعلى من كلّ: أحد، تصوّر، تخيّل، قياس، ظن، وهم، ومن أي شرك بشقيه الجلي والخفي.

(ربّك): إشارة إلى أنّه غير ذلك الرّب الذي يعتقد به عبدة الأصنام.

وبعد ذكر هاتين الصفتين (الربّ والأعلى)، تذكر الآيات التالية خمس صفات تبيّن ربوبية اللّه العليا..: (الذي خلق فسوّى)

(سوّى): من (التسوية)، وهي الترتيب والتنظيم، ويضم هذا المفهوم بين جناحيه كلّ أنظمة الوجود، مثل: النظام السماوي بنجومه وكواكبه، والأنظمة الحاكمة على المخلوقات في الأرض، ولا سيما الإنسان من حيث الروح والبدن.

أمّا ما قيل، من كونها إشارة إلى نظام اليد أو العين أو اعتدال القامة، فهذا في واقعه لا يتعدى أن يكون إلاّ بيان لمصداق محدود من مصاديق هذا المفهوم الواسع.

وعلى أيّة حال، فنظام عالم الخليقة، بدءاً من أبسط الأشياء، كبصمات الأصابع التي أشارت إليها الآية (4) من سورة القيامة (بلى قادرين على أن نسوّي بنانه)، وانتهاءً بأكبر منظومة سماوية، كلها شواهد ناطقة على ربوبية اللّه سبحانه وتعالى، وأدلة إثبات قاطعة على وجوده عزّوجلّ.

وبعد ذكر موضوعي الخلق والتنظيم، تنتقل بنا الآية التالية إلى حركة الموجودات نحو الكمال: (والذي قدّر فهدى).

والمراد بـ (قدّر)، هو: وضع البرامج، وتقدير مقادير الاُمور اللازمة للحركة باتجاه الأهداف المرسومة التي ما خلقت الموجودات إلاّ لأجلها.

والمراد بـ (هدى)هنا، هي: الهداية الكونية، على شكل غرائز وسنن طبيعية

[126]

حاكمة على كل موجود (ولا فرق في الغرائز والدوافع سواء كانت داخلية أم خارجية).

فمثلاً، إنّ اللّه خلق ثدي المرأة وجعل في اللبن لتغذية الطفل، وفي ذات الوقت جعل عاطفة الاُمومة شديدة عند المرأة، ومن الطرف الآخر جعل في الطفل ميلاً غريزياً نحو ثدي اُمّه، فكلّ هذه الإستعدادات والدوافع وشدّة العلاقة الموجودة بين الاُم والابن والثدي مقدّر بشكل دقيق، كي تكون عملية السير نحو الهدف المطلوب طبيعية وصحيحة.

وهذا التقدير الحكيم ما نشاهده بوضوح في جميع الكائنات.

وبنظرة ممعنة لبناء كلّ موجود، وما يطويه في فترة عمره من خطوات في مشوار الحياة، تظهر لنا بوضوح الحقيقة التالية: (ثمّة برنامج وتخطيط دقيق يحيط بكل موجود، وثمّة يد مقتدرة تهديه وتعينه على السير على ضوء ما رسم له)، وهذه بحد ذاتها علامة جليّة لربوبية اللّه جلّ وعلا.

وقد اختص الإنسان بهداية تشريعية إضافة للهداية التكوينية يتلقاها عن طريق الوحي وإرسال الأنبياء عليهم السلام، لتكتمل أمامه معالم الطريق من كافة جوانبه.

وتوصلنا الآية (50) من سورة طه لهذا المعنى، وذلك لمّا نقلت لنا سؤال فرعون إلى موسى(عليه السلام) بقوله: (ومَن ربكما يا موسى)، فأجابه(عليه السلام): (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى).

وقد فُهم قول موسى(عليه السلام) بشكل مجمل في زمانه، وحتى في زمان نزول الآية المباركة في صدر الدعوة الإسلامية، ولكنّ.. مع دوران عجلة الأيّام، وتقدم العلوم البشرية، توصل الإنسان إلى معارف كثيرة ومنها ما يختص بمعرفة أنواع أحوال الموجودات الحيّة، فتوضح قول موسى(عليه السلام) أكثر فأكثر، حتى كتبت الآف الكتب في موضوع (التقدير) و(الهداية التكوينية)، ومع ما توصل إليه العلماء من معلومات

[127]

باهرة، إلاّ إنّهم يؤكّدون على أنّ ما بقي خافي عليهم، هو أكثر بكثير ممّا توصلوا لمعرفته!

وتشير الآية التالية إلى النباتات، وما يخصّ غذاء الحيوانات منها: (والذي أخرج المرعى).

واستعمال كلمة (أخرج) فيه وصف جميل لعملية تكوّن النباتات، حيث إنّه يتضمّن وجودها داخل الأرض فأخرجها الباري منها.

وممّا لا شك فيه إنّ التغذية الحيوانية هي مقدمة لتغذية الإنسان، وبالنتيجة فإنّ فائدة عملية تغذية الحيوان تعود إلى الإنسان.

ثمّ: (فجعله غُثاء أحوى).

«الغثاء»: هو ما يطفح ويتفرق من النبات اليابس على سطح الماء الجاري، ويطلق أيضاً على ما يطفح على سطح القدر عند الطبخ، ويستعمل كناية عن: كلّ ضائع ومفقود، وجاء في الآية بمعنى: النبات اليابس المتراكم.

«أحوى»: من (الحوة) ـ على زنة قوّة ـ وهي شدّة الخضرة، أو شدّة السواد، وكلاهما من أصل واحد، لأنّ الخضرة لو اشتدّت قربت من السواد، وجاء في الآية بمعنى: تجمع النبات اليابس وتراكمه حتّى يتحول لونه تدريجياً إلى السواد.

ويمكن أن يكون اختيار هذا التعبير في مقام بيان النعم الإلهية، لأحد أسباب ثلاث:

الأوّل: إنّ حال هذه النباتات يشير بشكل غير مباشر إلى فناء الدنيا، لتكون دوماً درساً وعبرة للإنسان، فهي بعد أن تنمو وتخضر في الربيع، شيئاً فشيئاً ستيبس وتموت بعد مرور الأيّام عليها، حتى يتحول جمالها الزاهي في فصل الربيع إلى سواد قاتم، ولسان حالها يقول بعدم دوام الدنيا وانقضائها السريع.

الثّاني: إنّ النباتات اليابسة عندما تتراكم، فستتحول بمرور الوقت إلى سماد طبيعي، ليعطي الأرض القدرة اللازمة لإخراج نباتات جديدة اُخرى

[128]

الثّالث:إنّ الآية تشير إلى تكوّن الفحم الحجري من النباتات والأشجار.

فكما هو معلوم، إنّ الفحم الحجري، والذي يعتبر من المصادر المهمّة للطاقة، قد تكوّن من النباتات والأشجار التي يبست منذ ملايين السنين، ودفنت في الأرض حتى تحجرت واسود لونها بمرور الزمان.

ويعتقد بعض العلماء، بأنّ مناجم الفحم الحجري قد تكوّنت من جراء النباتات اليابسة المدفونة في داخل الأرض منذ (250) مليون سنة تقريباً!

ولو أخذنا بنظر الاعتبار مقدار الاستهلاك الفعلي للفحم الحجري في العالم، لوجدنا أنّها تؤمن احتياج النّاس لأكثر من (4000) سنة.

وتفسير الآية بالمعنى الأخير دون غيره بعيد حسب الظاهر، ولا يستبعد أن تكون الآية قد أرادت كل ما جاء في المعاني الثلاث أعلاه.

وعلى أيّة حال، فللغثاء الأحوى منافع كثيرة.. فهو غذاء جيد للحيوانات في الشتاء، ويستعمل كسماد طبيعي للأرض، وكذا يستعمله الإنسان كوقود.

فما ذكرته الآيات من صفات: الربوبية، الأعلى، الخلق، التسوية، التقدير، الهداية وإخراج المرعى، توصلنا إلى الربوبية الحقّة للّه جلّ وعلا، وبقليل من التأمل يتمكن أيّ إنسان من إدراك هذا المعنى، ليصل نور الإيمان إلى قلبه، فيشكر المنعم على ما أعطى.

* * *

بحث

مسألة التقدير والهداية العامّة للموجودات، التي تناولتها الآيات الآنفة الذكر كمظهر من مظاهر ربوبية اللّه عزّوجلّ، تعتبر من المسائل الحيوية والتي كلما تقدم الزمان وتوسعت مدارك وعلوم الإنسان، إزداد في الوصول إلى حقائق جديدة تضاف إلى معلوماته السابقة.

[129]

فالإكتشافات العلمية الجديدة في كلّ يوم تحيطنا علماً لرؤية وجوه جديدة رائعة لتقدير اللّه مخلوقاته وهدايته لها.

ويزيّن المفسّرون تفاسيرهم ببعض النماذج من تلك الأسرار الرائعة في خصوص الهداية التكوينية لحركة الحيوانات، واعتمد البعض على ما ذكره العالم المعروف (كريسي موريسن) في كتابه (أسرار خلق الإنسان)، وإليكم مختصراً ممّا جاء فيه:

1 - تقطع الطيور المهاجرة ـ في بعض الأحيان ـ الآف الكيلومترات في السنة، عابرة الصحارى والغابات والبحار، وعند عودتها تعرف طريق موطنها الأصلي بكل دقّة، ولا تضل عنه أبداً.

ومن النحل ما يبتعد عن خليته لمسافات بعيدة جدّاً، ولكنّه يعود إلى خليته بكلّ سهولة ويسر، في حين نرى الإنسان في حال عودته إلى وطنه يحتاج إلى عناوين وعلامات دقيقة، حتى لا يضل الطريق!

2 ـ الحشرات تتمتع بعيون مجهرية ذات دقّة فائقة حيّرت عقول العلماء، من حيث بنائها وقدرتها على النظر في حين أن عيون الصقور تلسكوبية تعينها على النظر لمسافات بعيدة جدّاً.

3 ـ حينما يسير الإنسان بين عتمة الليل الداكنة فلابدّ له من إضاءة تعينه في مسيره، إلاّ أنّ كثيراً من الطيور تصل أهدافها في حلكة الليل الدامس، مستعينة بما لعيونها من قدرة على التحسس بالأشعة ما دون الحمراء! ولبعضها مراكز حسّاسة تشبه في عملها الرادارات المتطورة!

4 ـ للكلاب حاسة شم مميزة، تستطيع من خلالها معرفة أيّ كائن حي يقع في طريقها، وهذا ما لا يتوفر عند الإنسان، بالرغم من التقدم التقني الذي وصل إليه.

5 ـ حاسة السمع عند جميع الحيوانات أقوى وأدق من سمع الإنسان بدرجات، على الرغم من استعمال الإنسان للأجهزة العلمية المتطورة في سمعه،

[130]

بحيث يستطيع أن يستمع إلى حركة أجنحة ذبابة على بُعد عدّة كيلومترات منه!

ولعل السرّ في هذا التفاوت بين قدرة حواس الإنسان والحيوان، يرجع إلى القدرة العقلية المودعة في الإنسان، والتي بها يسد كلّ نقص، فيما لا تمتلك الحيوانات هذه القدرة الفعالة

6 ـ وثمّة حركة عجيبة عند بعض الأسماك الصغيرة، فهي تقضي السنين من عمرها في البحار، ولكن حين يحين وقت وضع البيض، فإنّها تترك البحار متجهة إلى تلك الأنهار التي فيها ولدت، فتسير بعكس التيار لمدّة طويلة حتى تصل إلى مسقط رأسها، المكان المناسب لتكاثرها!

7 ـ والاعجب منها حياة بعض الأسماك وحيوانات الماء التي تسلك في حياتها عكس الصنف السابق.

* * *

[131]

الآيات

سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى(6) إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7) وَنُيَسِّرُكَ لَليُسْرَى(8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى(9)سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى(10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى(12) ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى(13)

التّفسير

التوفيق الرّباني:

فيما كان الحديث في الآيات السابقة عن ربوبية اللّه وتوحيده جلّ شأنه، والهداية العامّة للموجودات، وكذا عن تسبيح الرّب الأعلى.. تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن: القرآن والنّبوّة، وهداية الإنسان، وكذا البيان القرآني للتسبيح.

فتقول الآية الاُولى مخاطبة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): (سنقرئك فلا تنسى).

فلا تتعجل نزول القرآن، ولا تخف من نسيان آياته، فالذي أرسلك بهذه الآيات لهداية البشرية كفيل بحفظها، ويخطها على قلبك الطاهر بما لا يمكن لآفة النسيان من قرض ولو حرف واحد منها أبداً.

[132]

وتدخل الآية في سياق الآية (114) من سورة طه: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربّ زدني علماً)، وكذا الآية (16) من سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرءانه) تدخل في سياقهما.

ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى، وأنّ كلّ خير منه، تقول الآية: (إلاّ ما شاء اللّه إنّه يعلم الجهر وما يخفى).

ولا يعني هذا الاستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وطراً، وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى، ومشيئته هي الغالبة أبداً، وإلاّ لتزعزعت الثقة في قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

وبعبارة اُخرى، إنّما جاء الاستثناء لتبيان الفرق بين علم اللّه تعالى الذاتي، وعلم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) المعطى له من بارئه.

والآية تشبه إلى حد ما ما جاء في الآية (108) من سورة هود، بخصوص خلود أهل الجنّة: (وأمّا الذين سعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاءً غير مجذوذ).

فـ (خالدين فيها) دليل على عدم خروج أهل الجنّة منها أبداً، فإذن.. عبارة (إلاّ ما شاء ربّك) تكون إشارة إلى حاكمية الإرادة والقدرة الإلهية، وارتباط كلّ شيء بمشيئته جلّ وعلا، سواءً في بداية الوجود أم في البقاء.

وممّا يشهد على ذلك أيضاً.. أنّ حفظ بعض الاُمور ونسيان اُخرى تعتبر حالة طبيعية بين بني آدم، ولكنّ اللّه تعالى ميزّ حبيبه المصطفى بأن جعل فيه ملكة حفظ جميع آيات القرآن، والأحكام والمعارف الإسلامية، حينما خاطبه بـ : (سنقرئك فلا تنسى).

وقيل: اُريد بهذا الإستثناء تلك الآيات التي نسخ محتواها ونسخت تلاوتها أيضاً.

ولكن لعدم ثبوت وجود هكذا آيات، فلا يمكننا الإعتماد على هذا القول

[133]

الآنف أعلاه.

وقيل أيضاً: إنّ الإستثناء يختص بقراءة بعض الآيات، فعلى هذا يكون مفهوم الآية هو: إنّنا سنقرئك آيات القرآن إلاّ بعض الآيات التي أراد اللّه عزّوجلّ أن تبقى في مخزون علمه..

ولا يتوافق هذا القول مع سياق الآية.

أمّا جملة: (إنّه يعلم الجهر وما يخفى) فلبيان علّة أمر تضمّنته جملة (سنقرئك)، أي: إنّ العليم جلّ اسمه عالم بجميع حقائق الوجود، أمّا ما يوحيه إليك، فهو ما يحتاج إليه البشر، ويصلك بالكامل دون أن ينقص منه شيء.

وقيل أيضاً: إنّ مراد الآية هو: على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يتعجل في أخذ الوحي، وأنّ لا يخشى نسيانه، فاللّه الذي يعلم الاُمور ما خفي منها وما ظهر، سوف لا يتركه وقد تعهد له بالحفظ.

وعلى أيّة حال، فمن معاجز النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل(عليه السلام)، دون أنّ ينسى منها شيئاً أبداً.

وتخاطب الآية التالية النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) مسلية له: (ونيسّرك لليسرى).(1)

أي، إخبار النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بصعوبة الطريق في كافة محطاته، من تلقي الوحي وحفظه حتى البلاغ والنشر والتعليم والعمل به، وتطمئنه بالرعاية والعناية الربانية، بتذليل صعابه من خلال تيسيرها له(صلى الله عليه وآله وسلم).

ويمكن كذلك أن تكون إشارة الآية إلى أن طبيعة الرسالة الإسلامية والتكاليف التي تضمّنتها، طبيعة سهلة وسمحة، خالية من الحرج والمشقّة.

وهذا المعنى يعطي شمولية أكثر لمفهوم الآية، بالرغم من أنّ أكثر المفسّرين قد حددوا الآية ببعد واحد من أبعاد مفهومها.

_______________________________________

1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ مفهوم الآية هو: «نيسّر اليسرى لك»، وإنّما حصل فيها التقديم والتأخير للتأكيد، وهذا على أن لا تكون «نيسرك» بمعنى (نوفقك)، وإلاّ لم تكن هناك حاجة للتقديم والتأخير.

[134]

وحقّاً، فلولا توفيق اللّه وتيسيره للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لما أمكنه من التغلب على كل تلك المشاكل والصعاب التي واجهته في حياته الرسالية، وحياته الشريفة تنطق بذلك.

فنراه بسيطاً في لباسه، قنوعاً في طعامه، متواضعاً في ركوبه، وتارة ينام على الفراش واُخرى على التراب بل وعلى رمال الصحراء أيضاً.

فليس في حياته الشريفة أيّ تكلف، ولا أدنى تشريف من التشريفات الزائفة الواهية المحيطة بزعماء ورؤساء أيّ قوم أو اُمّه.

وبعد أن تبيّن الآيات العناية الرّبانية للنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، تنتقل إلى بيان مهمته الرئيسية: (فذكّر إن نفعت الذكرى).

قيل: الإشارة هنا إلى أنّ التذكير بحدّ ذاته نافع، وقليل اُولئك من الذين لا ينتفعون به، والحد الأدنى للتذكير هو إتمام الحجّة على المنكرين، وهذا بنفسه نفع عظيم.(1)

ولكن ثمّة من يعتقد أنّ في الآية محذوف، والتقدير: (فذكّر إن نفعت الذكرى أو لم تنفع)، وهذا يشبه ما جاء في الآية (18) من سورة النحل: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر)، فذكر «الحر» وأضمر (البرد) لوضوحه بقرينة المقابلة.

وهناك مَن يؤكّد على أنّ الجملة الشرطية في الآية، لها مفهوم، والمراد: أنّه يجب عليك التذكير إذا كان نافعاً، فإن لم يكن نافعاً فلا يجب.

وقيل: «إن»: ـ في الآية ـ ليست شرطية، وجاءت بمعنى (قد) للتأكيد والتحقيق، فيكون مراد الآية: (ذكر فإنّ الذكرى مفيدة ونافعة).

ويبدو لنا أنّ التّفسير الأوّل مرجح على بقية التّفاسير الثّلاث، بقرينة سلوك

_______________________________________

1 ـ وما في الآية بخلاف ما جاء في الآية (6) من سورة البقرة: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، لأنّها تختص بفئة قليلة من النّاس، وإلاّ فأكثر النّاس يتأثرون بالبلاغ المبين، وإن كانوا بدرجات متفاوتة، وعليه.. فالجملة الشرطية في الآية المبحوثة من قبيل القيد بالغالب الأعم.

[135]

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في نشره الإسلام، تبليغه الحق، فإنّه كان يعظ وينذر الجميع.

وتقسم الآيات التالية النّاس إلى قسمين، من خلال مواقفهم تجاه الوعظ والإنذار، الذي مارسه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)...: (سيذّكر من يخشى)

نعم، فإذا ما فقد الإنسان روح «الخشية»، والخوف ممّا ينبغي أن يخاف منه، وإذا لم تكن فيه روحية طلب الحق ـ والتي هي من مراتب التقوى ـ فسوف لا تنفع معه المواعظ الإلهية، ولا حتّى تذكيرات الأنبياء ستنفعه، على هذا الأساس كان القرآن «هدىً للمتقين».

وتذكر الآية التالية القسم الثّاني، بقولها: (ويتجنبها الأشقى)(1).

وجاء عن ابن عباس، إنّ الآية السابقة: (سيذّكر من يخشى) نزلت في (عبد اللّه بن اُم مكتوم)(2) ، ذلك البصير المؤمن الذي جاء إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) طلباً للحق والتبصر به.

وروي، إنّ الآية: (ويتجنبها الأشقى) نزلت في (الوليد بن المغيرة) و(عتبة بن ربيعة) من رؤوس الشرك والكفر(3) .

وقيل: يراد بالأشقى، المعاندين للحق بعداء، فالنّاس على ثلاثة أقسام: إمّا عارف وعالم، وإمّا متوقف شاك، أو معاند، وأفراد الطائفة الاُولى والثّانية ينتفعون من التذكير طبيعياً، فيما لا ينفع القسم الثّالث منهم، وليس للتذكير من أثر عليه سوى إتمام الحجّة.

ويُفهم من سياق الآية، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينذر ويعظ حتى المعاندين، لكنّهم كانوا يتجنبونه ويهربون منه.

يبدو من خلال الآيتين الآنفتي الذكر أنّ «الشقاء» يقابل «الخشية» في حين

_______________________________________

1 ـ يعود ضمير «يتجنبها» على «الذكرى» الواردة في الآيات السابقة.

2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7110.

3 ـ تفسير الكشّاف; روح المعاني (في ذيل الآيات المبحوثة).

[136]

أنّ (السعادة) هي التي تقابله، ولعل هذا التقابل يستبطن حقيقة كون أساس سعادة الإنسان مبنية على إحساسه بالمسؤولية وخشيته.

ويعرض لنا القرآن عاقبة القسم الثّاني: (الذي يصلى النّار الكبرى).. (ثمّ لا يموت فيها ولا يحيى).

أيّ، لا يموت ليخلص من العذاب، ولا يعيش حياةً خالية من العذاب، فهو أبداً يتقلقل بالعذاب بين الموت والحياة!

ولكن ما هي «النّار الكبرى»؟

قيل: إنّها أسفل طبقة في جهنم، وأسفل السافلين، ولِمَ لا يكون ذلك وهم أشقى النّاس وأشدّهم عناداً للحق.

وقيل أيضاً: إنّ وصف تلك النّار بـ «الكبرى» مقابل (النّار الصغرى) في الحياة الدنيا.

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: «إنّ ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنّم، وقد اُطفئت سبعين مرّة بالماء ثمّ التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطيقها»(1).

وفي وصف نسبة بلاء الدنيا إلى بلاء الآخرة، يقول أمير المؤمنين(عليه السلام)، في دعاء كميل: «على أنّ ذلك بلاء مكروه قليل مكثه، يسير بقاؤه، قصير مدّته...».

* * *

_______________________________________

1 ـ بحار الانوار، ج8: ص288، الحديث 21.

[137]

الآيات

قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى(14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَوةَ الدُّنْيَا(16) وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىْ(17) إِنَّ هَـذا لَفِى الصُّحُفِ الاُْولى(18) صُحُفِ إِبْرهِيمَ وَمُوسَى(19)

التّفسير

اُسس دعوة الأنبياء جميعاً (عليهم السلام):

بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة العذاب ومعاناة أهله، يأتي الحديث عن الذين نفعتهم الذكرى، ممن استمعوا إلى دعوة الهدى فطهروا أنفسهم من المعاصي والآثام، وخشعت قلوبهم لذكر اللّه.. ويقول القرآن: (قد أفلح مَن تزكّى).

(وذكر اسم ربّه فصلى).

فأساس الفلاح بالنجاة من العذاب والفوز بالنعيم الخالد، يعتمد على ثلاثة أركان رئيسية: «التزكية»، «ذكر اسم اللّة» و«الصلاة».

وقيل في معنى «التزكية» عدّة أقوال:

الا

[138]

أوّل: تطهير الروح وتزكيتها من الشرك، بقرينة الآيات السابقة، وباعتبار أن التطهير من الذنوب وعبادة اللّه، يعتمد بالأساس على التطهير من الشرك، فهو مقدمته اللازمة.

الثّاني: تطهير القلب من الرذائل الأخلاقية، والقيام بالأعمال الصالحة، بدلالة آيات الفلاح الواردة في كتاب اللّه الكريم، كالآيات الاُولى من سورة المؤمن التي ذكرت أعمالاً صالحة بعد أن قالت: (قد أفلح المؤمنون)، وكذا الآية (9) من سورة الشمس التي قالت، بعد ذكر مسألة التقوى والفجور: (قد أفلح مَن زكّاها).

الثّالث: «زكاة الفطرة» التي تؤدى يوم عيد الفطر، لأنّها تدفع أوّلاً ثمّ يصلى صلاة العيد، وهذا المعنى قد ورد في جملة رّوايات ، رويت عن الإمام الصادق(عليه السلام)(1)، كما وروي في كتب أهل السنة ما يؤيد هذا المعنى نقلاً عن  أمير المؤمنين(عليه السلام)(2).

ويواجه القول الثّالث بالإشكال التالي: إنّ سورة الأعلى مكيّة، في حين أن تشريع زكاة الفطرة وصوم شهر رمضان وصلاة العيد قد نزل في المدينة.

فأجاب البعض: لا مانع من اعتبار أوائل آيات السّورة مكّية وأواخرها مدنية، فتكون الآيات المبحوثة مدنية.

ويحتمل أن يكون التّفسير المذكور من قبيل بيان مصداق واضح للآية، وليس مطلق مراد الآية.

الرّابع: يراد بـ «التزكية» في الآية بمعنى: إعطاء الصدقة.

المهم أن «التزكية» ذات مداليل واسعة تشمل: تطهير الروح من الشرك، تطهير الأخلاق من الرذائل، تطهير الأعمال من المحرمات والرياء، تطهير الأموال والأبدان بإعطاء الزكاة والصدقات في سبيل اللّه، (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص556، الحديثين (19 و 20).

2 ـ روح المعاني، ج30، ص110، وتفسير الكشّاف، ج4، ص740.

[139]

وتزكيهم بها).

وبهذا تجمع كلّ الأقوال المذكورة لتدخل في مفهوم التزكية الواسع المداليل.

والجدير بالذكر أنّ الآيات محل البحث تتحدث عن التزكيّة أولاً، ثمّ ذكر اللّه ثمّ الصلاة.

وقد أشار بعض المفسّرين إلى هذه المراتب، بعد أن جدولها بالمراحل العملية الثلاثة للمكلف:

الاولى: إزالة العقائد الفاسدة من القلب.

الثّانية: حضور معرفة اللّه وصفاته وأسمائه في القلب.

الثّالثة: الإشتغال بخدمته وفي سبيله جلّ وعلا.

ويمكن القول: إنّ الصلاة فرع لذكر اللّه، فإذا لم يذكر الإنسان ربّه، لم يسطع نور الإيمان في قلبه، وعندها فسوف لن يقوى على الوقوف للصلاة، والصلاة الحقّة هي تلك التي يصاحبها التوجّه الكامل والحضور التام بين يديه عزّوجلّ وهذان التوجّه والحضور إنّما يحصلان من ذكره سبحانه وتعالى.

أمّا ما ذكره البعض، من أنّ ذكر اللّه هو قول «اللّه أكبر» أو «بسم اللّه الرحمن الرّحيم» في بداية الصلاة، فإنّما هو بيان لأحد مصاديق الذكر ليس إلاّ.

ويشير البيان القرآني إلى العامل الأساس في عملية الإنحراف عن جادة الفلاح: (بل تؤثرون الحياة الدنيا).. (والآخرة خير وأبقى).

ونقل الحديث النّبوي الشريف هذا المعنى، بقوله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».(1)

فالإنسان العاقل لا يجيز لنفسه أن يبيع الدار الباقية بأمتعة فانية، ولا أن يستبدل اللذائذ المحدودة والمحفوفة بألوان الآلآم بالنعم الخالدة والنقية الخالصة.

_______________________________________

1 ـ وروي الحديث بصور عدّة عن الإمام الصادق(عليه السلام) والإمام السجاد(عليه السلام)، وورد معنى الحديث عن الإنبياء(عليهم السلام)أيضاً، ممّا يشير إلى أهميته البالغة.

[140]

وتختم السّورة بـ : (إنّ هذا لفي الصحف الاُولى).. (صحف إبراهيم وموسى).(1)

ولكن، ما المشار إليه بـ «هذا»؟

فبعض قال: إنّه إشارة إلى الأمر بالتزكية وذكر اسم اللّه والصلاة وعدم إيثار الحياة الدنيا على الآخرة.

وذلك من أهم تعاليم جميع الأنبياء(عليهم السلام)، كما وورد هذا الأمر في جميع الكتب السماوية.

واعتبره آخرون: إنّه إشارة لجميع ما جاء في السّورة، حيث أنّها ابتدأت بالتوحيد مروراً بالنبوة حتى ختمت بالأعمال.

وعلى أيّة حال، فهذا التعبير يبيّن أهميّة محتوى السّورة، أو خصوص الآيات الأخيرة منها، حيث اعتبرها من الاُصول الأساسية للأديان، وممّا حمله جميع الأنبياء(عليهم السلام) إلى البشرية كافة.

«الصحف»: جمع و(صحيفة)، وهي اللوح الذي يكتب عليه.

ونستدل بالآية الأخيرة بأنّ لإبراهيم وموسى(عليهما السلام) كتباً سماوية.

وروي عن أبي ذر(رضي الله عنه)، إنّه قال: قلت يارسول اللّه، كم الأنبياء؟

فقال: «مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً».

قلت: يارسول اللّه، كم المرسلون منهم؟

قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيتهم أنبياء».

قلت: كان آدم(عليه السلام) نبيّاً؟

قال: «نعم، كلمة اللّه وخلقه بيده.. يا أباذر، أربعة من الأنبياء عرب: هود وصالح وشعيب ونبيّك». قلت: يار سول اللّه، كم أنزل اللّه من كتاب؟

_______________________________________

1 ـ يمكن أن تكون «صحف إبراهيم وموسى» توضيحاً للصحف الاُولى، كما ويمكن أن تكون إشارة لأحد مصاديق الصحف، وإلاّ فهي تشمل جميع كتب الأنبياء السابقين.

[141]

قال: «مائة واربعة كتب، أنزل اللّه منها على آدم(عليه السلام) عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خط بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزّبور والفرقان»(1). (اُنزلت على موسى وعيسى وداود ومحمّد على نبيّنا وآله وعليهم السلام).

و«الصحف الاُولى»: مقابل «الصحف الأخيرة» التي اُنزلت على المسيح(عليه السلام)وعلى النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

* * *

بحث

شرح الحديث الشريف: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»

لما كان تفضيل الآخرة على الدنيا من الاُمور الجليّة لدى المؤمنين، فكيف تصيب الغفلة الإنسان المؤمن فيقع في فخ الخطايا والذنوب؟!

ويكمن الجواب في جملة واحدة: عند غلبة الشهوات على وجود الإنسان ومصدر قوّة الشهوات هو: حبّ الدنيا.

يتضمّن حبّ الدنيا: حبّ المال، المقام، الشهوة الجنسية، حبّ التفوق، حبّ الذات، وحبّ الإنتقام...الخ.. وإذا ما غلب هذا الحبّ على وجود الإنسان فسيهتز كيانه بإعصار شديد ولا تستطيع كلّ معارف وعلوم وعقائد الإنسان من أن تقف أمام جموحه، حتى يصل الإنسان لفقدان قدرة التشخيص، فيقدم بالنتيجة الدنيا على الآخرة.

فـ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» أمر محسوس ومجرّب في حياتنا وحياة

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص746.

[142]

الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا.

وعليه.. فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلاّ بإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.

ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة إنتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة، فما يبذر اليوم يحصد غداً، ولابدّ للإنسان أن العاقل ن يختار الطريق الذي يوصله إلى الهدف المنشود فيما إذا وقف بين مفترق طريقين، واحد يؤدي للحصول على متاع الدنيا الزائل، والآخر يوصل إلى نيل رضا الباري سبحانه وتعالى.

ونظرة ـ وإن كانت سريعة ـ إلى ملفات الجرائم سترينا واقعية الحديث المذكور، وإذا ما تأملنا في بواعثها الحقيقية، فسيتوضح الحديث أكثر فأكثر.

ولا تخرج علل الحروب وسفك الدماء (حتى بين الاخوة والأصدقاء) عن هذا الإطار المهلك (حبّ الدنيا).

فكيف النجاة، وكلنا أبناء هذه الدنيا و«لا يلام الولد على حبّه لاُمه» كما جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام)؟!

إنّ زورق النجاة من تلاطم أمواج وهيجان حبّ الدنيا لا يبنى إلاّ بالتربية الفكرية والعقائدية، ومن ثمّ تهذيب النفس ومجاهدتها، بالإضافة إلى الإعتبار من عواقب عبدة الدنيا.

فما كانت عاقبة الفراعنة مع كلّ ما كان لهم من قوّة؟! وأين هو الآن قارون وكنوزه التي لا يقدر مجموعة من الرجال على حمل مفاتيحها إلاّ بشقّ الأنفس؟! وحتى القوى المتسلطة في عصرنا المعاش، ليس لهم سوى فترة زمنية محدودة، فترى عروشها تتهاوى، وهم بين فار ومختبىء في أقذر المكانات وبين مَن سيلفه التراب، لينتقل بعدها إلى العالم الذي كان يكذّب وجوده.. أو ليس ذلك أفضل واعظ لنا؟!

[143]

ونختم بحثنا بما روي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليهما السلام)، حينما سئل عن أيّ الأعمال أفضل عند اللّه؟

قال: «ما من عمل بعد معرفة اللّه عزّوجلّ ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، فإنّ لذلك لشعباً كثيرة، وللمعاصي شعب.

فأوّل ما عصي اللّه به «الكبر»، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، ثمّ «الحرص» وهي معصية آدم وحواء حين قال اللّه عزّوجلّ لهما: (كُلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة، وذلك إنّ أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه، ثمّ «الحسد» وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حبّ النساء، وحبّ الدنيا(1)، وحبّ الرئاسة، وحبّ الراحة، وحبّ الكلام، وحبّ العلو والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهن في حبّ الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد ذلك: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(2).

اللّهم، اخرج حبّ الدنيا من قلوبنا..

اللّهم، خذ بأيدينا إلى صراطك القويم، وأبلغنا مغرمنا..

اللّهم، إنّك تعلم الجهر وما يخفى، فاغفر لنا ما ظهر من ذنوبنا وما خفى..

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الأعلى

* * *

_______________________________________

1 ـ يبدو أنّ «حبّ الدنيا» هنا، بمعنى (حبّ البقاء في الدنيا)، باعتباره كأحد الشعب السبعة، ويبدو أنّه يرادف (طور الأمد).

2 ـ اُصول الكافي، ج2، ص239، باب حبّ الدنيا والحرص عليها، الحديث 8، وفي هذا الباب توجد رواية اُخرى بهذا الشأن.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338060

  • التاريخ : 29/03/2024 - 08:32

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net