• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثاني) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة آل عمران (من آية 105 ـ 140) .

سورة آل عمران (من آية 105 ـ 140)

قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاء‌هم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم(105)

آية.

المعنى: قال الحسن، والربيع: المعنى بهذا التفرق في الاية اليهود والنصارى، فكأنه قال يا أيها المؤمنون " لا تكونوا كالذين تفرقوا " يعني اليهود والنصارى.

وقوله: (من بعد ما جاء‌هم البينات) معناه من بعد ما نصبت لهم الادلة ولا يدل ذلك على عناد الجميع، لان قيام البينات إنما يعلم بها الحق إذا نظر فيها واستدل بها على الحق، فان قيل إذا كان التفرق في الدين هو الاختلاف فيه، فلم ذكر الوصفان؟ قلنا: لان معنى " تفرقوا " يعني بالعداوة واختلفوا في الديانة، فمعنى الصفة الاولى مخالف لمعنى الصفة الثانية، وفيمن نفى القياس، والاجتهاد من استدل بهذه الاية على المنع من الاختلاف جملة في الاصول والفروع، واعترض من خالف في ذلك بأن قال لايدل ذلك على فساد الاختلاف في مسائل الاجتهاد، كما لا يدل على فساد الاختلاف في المسائل المنصوص عليها، كاختلاف حكم المسافر والمقيم في الصلاة والصيام، وغير ذلك من الاحكام، لان جميعه مدلول على صحته إما بالنص عليه وأما بالرضى به، وهذا ليس بشئ، لان لمن خالف في ذلك أن يقول: الظاهر يمنع من الاختلاف على كل حال إلا ما أخرجه الدليل، وما ذكره أخرجناه بالاجماع فالاجود في الطعن أن يقال: وقد دل الدليل على وجوب التعبد بالقياس والاجتهاد ! قلنا: إن يخص ذلك أيضا ويصير الكلام في صحة ذلك أو فساده، فالاستدلال بالاية إذا صحيح على نفي الاجتهاد.

وقوله: " وجاء‌هم البينات " إنما حذفت منه علامة التأنيث إذا تقدم، فكذلك لا يلحقه علامة التأنيث لشبهها علامة التثنية والجمع.

[551]

قوله تعالى: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فاما الذين اسودت وجوههم اكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون(106)

آية بلا خلاف.

الاعراب: العامل في قوله: " يوم " قوله " عظيم " وتقديره عظيم عذابهم يوم تبيض وجوه. ولا يجوز أن يكون العامل فيه عذاب موصول، قد فصلت صفته بينه، وبين معموله، لكن يجوز أن تعمل فيه الجملة، لانها في معنى يعذبون يوم تبيض وجوه، كما تقول المال لزيد يوم الجمعة فالعامل الفعل والجملة خلف منه.

المعنى: والمعني بهذه الاية الذين كفروا بعد إيمانهم.

وقيل فيهم أربعة أقوال: أحدها - قال الحسن: الذين كفروا بعد اظهار الايمان بالنفاق.

الثاني - قال قتادة الذين كفروا بالارتداد.

الثالث - قال أبي بن كعب: إنهم جميع الكفار، لاعراضهم عما يوجبه الاقرار بالتوحيد حين أشهدهم الله على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا.

الرابع - ذكره الزجاج وأبوعلي الجبائي. الذين كفروا من أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وآله بعد إيمانهم به أي بنعته وصفته قبل مبعثه، وهذا الوجه، والوجه الاول يليق بمذهبنا في الموافاة، فأما الارتداد عن الايمان الحقيقي، فلا يجوز عندنا على ما مضى في غير موضع.

فان قيل إذا كان " الذين اسودت وجوههم " كفارا " والذين ابيضت وجوههم " مؤمنين هلا دل ذلك على أنه لا واسطة بين الكفر، والايمان من

[552]

الفسق؟ قلنا لا يجب ذلك، لان ذكر اسوداد الوجوه وابيضاضها لا يمنع أن يكون هناك وجوه أخر مغبرة أو نحوها من الالوان أو يكون أدخلوا في جملة الكفار الذين اسودت وجوههم على التغليب لاعظم الصفتين كما يغلب المذكر على المؤنث، وليس ذكر اليوم بأنه تسود فيه وجوه وتبيض وجوه بمانع من أن يكون فيه وجوه عليها الغبرة، كما أن القائل إذا قال هذا يوم يعفو فيه السلطان عن قوم ويعاقب فيه قوما لا يدل على أنه ليس هناك من لايستحق واحدا من الامرين على أن الاية تدل على أن " الذين اسودت وجوههم " هم المرتدون، لانه قال " أكفرتم بعد إيمانكم " وليس كل الكفار هذه صورتهم، جاز لنا إثبات فاسقين مثل ذلك، وليس قوله: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " يجري مجرى قوله: " وإذا بشر أحدهم بالانثى ظلل وجهه مسودا "(1) لان ذاك إنما ذكر على وجه المثل، كأنه قال حال الذي يبشر بالانثى بمنزلة حالة من اسود وجهه، لما حدث فيه من التغير: وإن لم يسود في الحقيقة. وعرفنا عن ذلك دليل، وليس في هذه الاية ما يدلنا على العدول عن ظاهرها.

وجواب أما في قوله: " فأما الذين اسودت " محذوف وتقديره " فأما الذين اسودت وجوههم " فيقال لهم " أكفرتم بعد ايمانكم " فحذف لدلالة اسوداد الوجوه على حال التوبيخ حتى كأنه ناطق به، وقد يحذف القول في مواضع كثيرة استغناء بما قبله من البيان، كقوله: " ولو ترى إذا المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا "(2) أي يقولون ربنا لدلالة تنكيس الرأس من المجرم على سؤال الاقالة.

وقيل في قوله تعالى: " وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا "(3) معناه يقول " ربنا تقبل منا " ومثله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم "(4) أي يقولون " سلام عليكم " ونظائر ذلك كثيرة جدا.

___________________________________

(1) سورة النحل آية: 68.

(2) سورة الم السجدة آية: 12.

(3) سورة البقرة آية: 127.

(4) سورة الرعد آية: 25.

[553]

قوله تعالى: وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون(107)

إن قيل: لم ذكر تعالى حال الكافرين وحال المؤمنين ولم يذكر حال الفاسقين؟ قلنا: ليقابل اسوداد الوجوه لا بيضاض الوجوه بالعلامتين، وحال الفاسقين موقوفة على دلالة أخرى وآية أخرى.

وقوله: " ففي رحمة الله " قيل في معناه قولان: أحدهما - انهم في ثواب الله وان الرحمة هي الثواب.

والثاني - انهم في ثواب رحمة الله، فحذف، كما قال: " واسأل القرية "(1) ذكره الزجاج.

والاول أجود، لان الرحمة ههنا هي الثواب وإذا صح حمل الكلام على ظاهره من غير حذف كان أولى من تقدير محذوف منه من غير ضرورة.

والاية تدل على أن ثواب الله تفضل، لان رحمة الله إنما هي نعمته، وكل نعمة فانه يستحق بها الشكر، وكل نعمة تفضل، ولو لم تكن تفضلا لم تكن نعمة. وقيل في وجه كونه تضلا قولان: أحدهما - إنما كان تفضلا، لان السبب الذي هو التكليف تفضل. والثاني - إنه تفضل لانه بمنزلة ايجاز الوعد في أنه تفضل مستحق، لان المبتدئ به قد كان له أن لا يفعله، فلما فعله وجب عليه الوفاء به، لانه لايجوز الخلف، وهو مع ذلك تفضلا، لانه جر إليه تفضل، واختار الرماني هذا الوجه.

وإنما كرر الظرف في قوله: " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " لامرين: أحدهما - للتأكيد، والثاني - للبيان عن صحة الصفتين أنهم في رحمة الله، وانهم فيها خالدون، وكل واحدة قائمة بنفسها.

___________________________________

(1) سورة الصافات آية: 7.

[554]

قوله تعالى: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين(108)

آية بلا خلاف.

المعنى: قال الفراء معنى " تلك آيات الله نتلوها عليك " أي مواعظه وحججه ومعنى " نتلوها " أي نقرأها عليك. والفرق بين تلك، وهذه أن تلك إشارة إلى ما هو بعيد فجازت الاشارة بها إليه لا نقضاء الاية وصلح هذه لقربها في التلاوة، ولو كانت بعيدة لم يصلح أحدهما مكان الاخر.

وانما قال " آيات الله نتلوها عليك بالحق " فقيده (بالحق)، لانه لما حقق الوعيد بأنه واقع لامحالة نفى عنه حال الظلم كعادة أهل الخير، ليكون الانسان على بصيرة في سلوك الضلالة مع الهلاك أو الهدى مع النجاة، ومعنى " نتلوها عليك بالحق " أي معاملتي حق، ويحتمل أن يكون المراد " نتلوها " المعنى الحق، لان معنى التلاوة حق من حيث يتعلق معتقدها بالشئ على ما هوبه.

اللغة، والمعنى: والفرق بين تلوت عليه، وتلوت لديه أن عليه يدل على إقرار التلاوة، لان معنى عليه استعلاء الشئ، فهي تنبئ عن استعلائه بالظهور للنفس، كما يظهر لها بعلو الصوت وليس كذلك لديه، لان معناه عنده.

وفي الاية دلالة على فساد قول المجبرة: أن الله تعالى يريد الظلم، لانه لو أراد ظلم بعضهم لبعض، لكل قد أراد ظلمهم وكذلك لو أراد ظلم الانسان لغيره، لجاز أن يريد أن يظلمه هو، لانه لا فرق بينها في القبح، ويدل أيضا على أنه لا يفعل ظلمهم، لانه لا يفعل ما لا يريده.

[555]

وقوله: (وما الله يريد ظلما للعالمين) فيه نفي لارادة ظلمهم على كل حال بخلاف ما يقولونه.

قوله تعالى: ولله ما في السماوات وما في الارض وإلى الله ترجع الامور(109)

آية.

النظم: وجه اتصال هذه الاية بما قبلها، وجه اتصال الدليل بالمدلول عليه، لانه لما قال: " وما الله يريد ظلما للعالمين " وصله بذكر غناه عن الظلم إذ الغني عنه العالم بقبحه، ومعناه لايجوز وقوعه منه.

المعنى: وقوله: (وإلى الله ترجع الامور) لا يدل على أن الامور كانت ذاهبة عنه، لامرين: أحدهما - لانها بمنزلة الذاهبة بهلاكها وفنائها ثم اعادتها، لانه تعالى يعيدها للجزاء على الاعمال والعوض على الالام. والثاني - لانه قد ملك العباد كثيرا من التدبير في الدنيا فيزول جميع ذلك في الاخرة ويرجع إليه كله.

وقوله: " ولله ما في السماوات " معناه ولله ملك ما في السماوات.

والملك: هو ماله أن يتصرف فيه.

ولا يجوز أن يقول مكان ذلك ولله خلق ما في السماوات، لان ذلك يدخل فيه معاصي العباد، والله تعالى منزه عنها والاية خرجت مخرج التعظيم لله تعالى، وذكر عظيم المدح. وفي وقوع المظهر بموقع المضمر في قوله: " وإلى الله ترجع الامور " فيه قولان:

[556]

أحدهما - ليكون كل واحد من الكلامين مكتفيا بنفسه. والثاني - لان المظهر في اسم الله تعالى أفخم في الذكر من المضمر وصفة ملكه موضع تفخيم، وليس كقول الشاعر(1)

لا أرى الموت يسبق الموت شئ *** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا(2)

لان البيت مفتقر إلى الضمير والاية مستغينة عنه وإنما احتاج البيت إليه، لان الخبرالذي هو جملة لا يتصل بالمخبر عنه إلا بضمير يعود إليه. (وما) تقع على ما يعقل وما لا يعقل إذا ذهب به مذهب الجنس، فما يعقل داخل فيه حقيقة ولو قال بدلا منه ولله ومن في السماوات بلفظه (من) لما دخل فيه إلا العقلاء أو الكل على جهة التغليب دون الحقيقة.

الآية: 110 - 119

قوله تعالى: كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون(110)

آية واحدة.

النظم: وجه اتصال هذه الاية بما قبلها اتصال المدح على الفعل الذي تقدم به الامر، لانه قد تقدم إيجاب الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر ثم مدح على قبوله والتمسك به، ويجوز أيضا ان يكون اتصال التعظيم لله تعالى بمدح المطيعين له في الاشياء التي بينت، لانهم بلطف الله تعالى أطاعوا.

___________________________________

(1) هو؟ بن زيد. وقيل انه ينسب إلى ولده سوادة بن عدي. ونسبه بعضهم لاميه بن أبي الصلت.

(2) حماسة البحتري: 98 وشعراء الجاهلية: 468، وسيبويه 1: 30 وخزانة الادب 1: 183، 3: 534، 4: 552 وأمالي بن الشجري 1: 243، 288 وشرح شواهد المغني 296 وهو من أبيات متفرقة؟ هذه الكتب وغيرها من الحكم في التأمل في الحياة والموت.

[557]

المعنى: وقوله: (كنتم خير أمة) إنما لم يقل أنتم لاحد أمور:

أحدها - قال الحسن أن ذلك لما قد كان في الكتب المتقدمة ما يسمع من الخير في هذه الامة من جهة البشارة. وقال نحن آخرها وأكرمها على الله. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال (أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) فهو موافق لمعنى أنتم خير أمة إلا أنه ذكر " كنتم " لتقدم البشارة به، ويكون التقدير " كنتم خير أمة " في الكتب الماضية فحققوا ذلك بالافعال الجميلة.

الثاني - أن كان زائدة ودخولها وخروجها بمعنى، إلا أن فيها تأكيد وقوع الامر لا محالة، لانه بمنزلة ما قد كان في الحقيقة، كما قال " واذكروا إذ أنتم قليل "(1) وفي موضع آخر " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم "(2) ونظيره قوله: " وكان الله غفورا رحيما " لان مغفرته المستأنفة كالماضية في تحقيق الوقوع لا محالة.

الثالث - أن (كان) تامة ههنا ومعناه حدثتم خير أمة ويكون خير أمة نصبا على الحال.

والرابع - كنتم خير أمة " في اللوح المحفوظ.

والخامس - كنتم مذ أنتم ليدل على أنه كذلك مذ أول أمرهم.

واختلف المفسرون في المعني بقوله: " كنتم خير أمة " فقال قوم: هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله ذكره ابن عباس، وعمر بن الخطاب، والسدي.

وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل.

وقال الضحاك: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله خاصة.

وقال مجاهد معناه " كنتم خير أمة " إذا فعلتم، ما تضمنته الاية من الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر. والايمان بالله والعمل بما أوجبه.

وقال الربيع: معناه " كنتم خير أمة "، لانه لم

___________________________________

(1) سورة الانفال آية: 26.

(2) سورة الاعراف آية: 85.

[558]

يكن أمة أكثر استجابة في الاسلام، من هذه الامة.

فان قيل: لم قيل للحسن معروف مع أن القبيح أيضا يعرف أنه قبيح، ولايجوز أن يطلق عليه اسم معروف؟ قلنا: لان القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه. والحسن بمنزلة النبيه الذي يعرف بجلالته وعلو قدره. ويعرف أيضا بالملابسة الظاهرة والمشاهدة فأما القبيح، فلا يستحق هذه المنزلة.

وقوله: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم) معناه لو صدقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وقوله: " منهم المؤمنون " يعني معترفون بما دلت عليه كتبهم في صفة نبينا صلى الله عليه وآله، والبشارة به.

وقيل: إنها تناولت من آمن منهم كعبد الله بن سلام، وأخيه، وغيرهما.

وقوله: (وأكثرههم الفاسقون) يعني من لم يؤمن منهم، وإنما وصفهم بالفسق دون الكفر الذي هو أعظم، لان الغرض الاشعار بأنهم خرجوا بالفسق عما يوجبه كتابهم من الاقرار بالحق في نبوة النبي صلى الله عليه وآله. وأصل الفسق الخروج. ووجه آخر وهو أنهم في الكفار بمنزلة الفساق في العصاة بخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع وأفظع من حال من لم يقدم إليه ذكر فيه، وليس في الاية ما يدل على أن الاجماع حجة على ما بيناه في أصول الفقه. وتلخيص الشافي، وجملته أن هذا الخطاب لايجوز أن يكون المراد به جميع الامة، لان أكثرها بخلاف هذه الصفة بل فيها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. ومتى كان المراد بها بعض الامة، فنحن نقول ان في الامة من هذه صفته، وهو من دل الدليل على عصمته، فمن أين لو أنا، فرضنا فقدهم، لكان إجماعهم حجة واستوفينا هناك ما تقتضيه الاسئلة والجوابات، فلانطول بذكره ههنا.

قوله تعالى: لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لاينصرون(111)

آية.

النظم: وجه اتصال هذه الاية بما قبلها اتصال البشارة بالغلبة بما تقدم من الامر بالمحاربة، لانه قد تقدم الامر بانكار المنكر، فالفريضة اللازمة إذ لم تترك إلا بالمحاربة.

[559]

المعنى، والاعراب: والاذى المذكور في الاية هو أن يسمعوا منهم كذبا على الله يدعونهم به إلى الضلالة في قول الحسن، وقتادة يقول أهل الحجار آذيتني إذا أسمعته كلاما يثقل عليه.

وقال البلخي، والطبري الاستثناء منقطع ههنا، لان الاذى ليس من الضرر في شئ، وهذا ليس بصحيح، لانه إذا أمكن حمله على الاستثناء الحقيقي لم يجز حمله على المنقطع. والمعنى في الاية لن يضروكم إلا ضررا يسيرا، فالاذي وقع موقع المصدر الاول. وإذا كان الاذى ضررا فالاستثناء متصل. والمنقطع لايكون فيه الثاني مخصصا للاول، كقولك ما في الدار أحد إلا حمارا، وكقولك ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر.

وقوله: (وإن يقاتلوكم) جزم، لانه شرط " ويولوكم " جزم لانه جزاء.

وقوله: (ثم لاينصرون) رفع على الاستئناف، ولم يعطف ليجري الثاني على مثال الاول، لان سبب التولية القتال. وليس كذلك منع النصر، لان سببه الكفر. والرفع أشكل برؤس الاي المتقدمة، وهو مع ذلك عطف جملة على جملة وفي الاية دلالة على النبوة، لوقوع مخبرها على ما تضمنته قبل وقوع مخبرها، لان يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير، وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوه صلى الله عليه وآله والمسلمين ما قاتلوهم قط إلا ولوا الادبار منهزمين.

[560]

قوله تعالى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباء‌وا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون(112)

آية بلا خلاف.

المعنى، واللغة، والاعراب: قال الحسن: المعني بقوله: " ضربت عليهم الذلة " اليهود أذلهم الله عز وجل، فلا عزلهم ولا منعة، وأدركتهم هذه الامة.

وإن المجوس لتجبيهم الجزية " وضربت " مأخوذ من الضرب، وإنما قيل ضربت، لانها ثبتت عليهم كما ثبتت بالضرب كما أخذت منه الضريبة، لانها تثبت على صاحبها كما تثبت الضرب.

وقوله: " أينما ثقفوا " أي أينما وجدوا، يقال: يقفته أي وجدته، ولقيته.

فان قيل: كيف جاز عقابهم على ما لم يفعلوه من قتل الانبياء. وإنما فعله أسلافهم دونهم.

قلنا: عنه جوابان: أحدهما - أنهم عوقبوا على رضاهم بذلك. وأجرى عليهم صفة القتل لعظم الجرم في رضاهم به، فكأنهم، فعلوه على نحو " يذبح أبناء‌هم " وإنما أمر به.

والثاني - أن تكون الصفة تعم الجميع، فيدخلوا في الجملة ويجري عليهم الوصف على التغليب كما يغلب المذكر على المؤنث إذا اجتمعا، فكذلك غلب القاتل على الراضي.

وقوله: (إلا بحبل من الله) فالحبل هو العهد من الله، وعهد من من الناس على وجه الذمة، وغيرها من وجوه الامان في قول ابن عباس، والحسن ومجاهد، وقتادة، والسدي، والربيع. وسمي العهد حبلا، لانه يعقد به الامان كما يعقد بالحبل من حيث يلزم به الشئ كما يلزم بالحبل.

وقال الاعشى:

فاذا تجوزها حبال قبيلة *** أخذت من الاخرى اليك حبالها(1)

والعامل في الباء من قوله " إلا بحبل من الله " يحتمل أن يكون العامل محذوفا المعنى إلا أن تعتصموا بحبل من الله على قول الفراء وأنشد:

___________________________________

(1) ديوانه: 24 رقم القصيدة 3 انظر 2: 545 من هذا الكتاب فثم تخريج البيت.

[561]

رأتني بحبليها فصدت مخافة *** وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق(1)

أراد رأتني أقبلت بحبليها فحذف العامل في الباء وقال آخر:(2)

قريب الخطو يحسب من رآني *** ولست مقيدا أني بقيد(3)

قال الرماني، على بن عيسى ما ذكره الفراء ضعيف من وجهين: أحدهما - حذف الموصول وذلك لايجوز عند البصريين في شئ من الكلام لانه إذا احتاج إلى صلة تبين عنه فالحاجة إلى البيان عنه بذكره أشد. وإنما يجوز حذف الشئ للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دل دليل عليه لحذف مع صلته، لانه معها بمنزلة شئ واحد. والوجه الاخر أن الكلام إذا صح معناه من غير حذف لم يجز تأويله على الحذف.

وقوله (إلا بحبل) قيل في هذا الاسثناء قولان: أحدهما - أنه منقطع، لان الدلالة لازمة لهم على كل حال، فيجري مجرى قوله: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ "(4) فعامل الاعراب موجود والمعنى على الانقطاع. ومثله " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما "(5)

___________________________________

(1) قائله حميد بن ثور الهلالي ديوانه: 35، ومعاني القرآن للفراء 1: 230، واللسان (نسع)، (فرق)، (حبل) ورواية الديوان:

فجئت بحبليها فردت مخافة *** إلى النفس روعاء الجنان فروق

ورواية اللسان مختلفة ففي مادة (حبل) مثل التبيان وفي مادة (فرق):

رأتني مجليها فصدت مخافة *** وفي الخيل روعاء الفؤاد فروق

وفي مادة (نسع):

رأتني بنسعيها فردت مخافتي *** إلى الصدر روعاء الفؤاد فروق

(2) هو أبوالطمحان القينى، حنظلة بن الشرقي من بني كنانة بن القين وهو؟ المعمرين.

وقيل انه لعدي بن زيد. وقيل للسحاج بن سباع الضبي.

(3) كتاب المعمرين: 57 ومعاني القرآن للفراء 1: 230، والاغاني طبعة دار؟ - بيروت - 2: 313، 316، وطبعة ليدن 12: 347 وحماسة البحتري: 202 وامالي القالي 1: 110 وأمالي الشريف المرتضى 1: 46، 257 واللسان (ختل) وغيرها كثير.

(4) سورة النساء آية: 91.

(5) سورة الواقعة آية: 25. وكان في المطبوعة " لا يسمعون فيها لغوا الا قيلا سلاما " والايات التي يحتمل أن يستشهد بها الشيخ اثنتان الاولى هي التي أثبتناها، والثانية في سورة مريم آية: 62 وهي " لايسمعون فيها لغوا الا سلاما ". ولا يوجد في القرآن آية مطابقة لما في المطبوعة الا بزيادة أو نقيصة.

[562]

وكل انقطاع فيه فانما هو لازالة الايهام الذي فيه يلحق الكلام فقوله: " لايسمعون فيها لغوا " قد يتوهم أنه من حيث لا يسمعون فيها كلاما، فقيل لذلك " إلا قيلا سلاما " وكذلك " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا " قد يتوهم أنه لايقتل مؤمن مؤمنا على وجه، فقيل لذلك " إلا خطأ ". وكذلك " ضربت عليهم الذلة " قد يتوهم أنه من غير جواز موادعة، فقيل إلا بحبل من الله.

الثاني - أن الاستثناء متصل، لان عز المسلمين عز لهم بالذمة، وهذا لا يخرجه من الذلة في أنفسهم.

وقوله: " وباؤا بغضب من الله " أي رجعوا بغضب الله الذي هو عقابه ولعنه.

وقوله: (وضربت عليهم المسكنة) قيل اريد بالمسكنة الذلة لان المسكين لايكون إلا ذليلا فسمي الذليل مسكينا. وقيل، لان اليهود أبدا يتفاقرون وان كانوا أغنياء لما رماهم الله به من الذلة. وقد بينا فيما تقدم أن قوله: " ويقتلون الانبياء بغير حق "(1) لايدل على أن قتلهم يكون بحق وإنما المراد أن قتلهم لايكون إلا بغير حق، كما قال " ومن يدع مع الله الها آخر لا برهان له به " والمراد ان ذلك لايكون إلا بغير برهان وكقول امرئ القيس: على لاحب لا يهتدى بمناره(2) ومعناه لامنار هناك فيهتدى به وقوله: (يعتدون) قد بينا فيما تقدم معنى الاعتداء وهو أن معناه تجاوز الحد مأخوذ من العدوان.

قوله تعالى: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون(113)

آية.

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية 21 وسورة البقرة آية 61 ولكن هناك في الا؟ (النبيين) وفي هذه الاية (الانبياء).

(2) انظ 2: 356

[563]

النزول: قال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج سبب نزول هذه الاية أنه لما أسلم عبدالله بن سلام وجماعة معه قالت احبار اليهود ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فأنزل الله تعالى " ليسوا سواء " إلى قوله: " وأولئك من الصالحين ".

اللغة، والاعراب، والمعنى: فان قيل لم ذكر مع سواء أحد الفريقين دون الاخر، ولايجوز مثله أن يقول سواء علي قيامك حتى يقول أم قعودك قلن عنه جوابان: أحدهما - أنه محذوف لدلالة ما تقدم من الكلام عليه، كما قال أبوذؤ؟:

عصاني إليها القلب إني لامرها *** مطيع فما أدري أرشد طلابها؟

ولم يقل أم غي، لان الكلام يدل عليه، لانه كان يهواها فما يبالي أرشد أم غي طلابها.

وقال آخر:

أراك فلا أدري أهم هممته *** وذو الهم قدما خاشع متضائل

ولم يقل أم غيره، لان حاله في التغير ينبئ أن الهم غيره أم غيره مما يجري مجراه، وهذا قول الفراء، وضعفه الزجاج، وقال، ليس بنا حاجة إلى تقدير محذوف، لان ذكر أهل الكتاب قد جرى في قوله: " يكفرون بآيات الله ويقتلون الانبياء " فتبين أن فيهم غير المؤمنين، فلا يحتاج أن يقدر وأمة غير قائمة.

الثاني - إن يكون ليسوا سواء منهم الجواد، والشجاع، فعلى القول الاول يكون رفع أمة على معنى الفعل، وتقديره لايستوي أمة هادية وأمة ضالة. وعلى القول الثاني يكون رفعها بالابتداء.

وقال الطبري لا يجوز الاقتصار في سواء على أحد الذكرين دون الاخر. وأنما يجوز في ما أدري وما أبالي.

قال الرماني: وهذا غلط، لانه ذهب عليه الفرق بين الاقتصار والحذف لان الحذف لابد فيه من خلف يقوم مقامه. والاقتصار ليس كذلك، لانه كالاقتصار على أحد المفعولين

[564]

في أعطيت، وحذفه في حسبت مر تجلا أي لنا. والخلف فيه دلالة الحال، فأما أعطيت زيدا، فلا محذوف فيه، لانه ليس معه خلف يقوم مقامه.

وقوله: (قائمة) فيه أربعة أقوال: قال الحسن وابن جريج معناه عادلة.

وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: معناه ثابتة على أمر الله.

وقال السدي معناه قائمة بطاعة الله وقال الاخفش، والزجاج: معناه ذو أمة مستقيمة، وهذا ضعيف لانه عدول عن الظاهر في أمة والحذف لادلالة عليه.

وقوله: (أناء الليل) قيل في واحده قولان: أحدهما - اني مثل نجي. والثاني - اني مثل معي.

وحكى الاخفش أنو، والجمع أناء.

قال الشاعر:

حلو ومر كعطف القدح مرته *** بكل اني حداه الليل ينتعل(1)

وروي ينتشر.

وقال الحسن، والربيع، وعبدالله بن كثير معناه ساعات الليل.

وقال ابن مسعود يريد صلاة العتمة، لان أهل الكتاب لا يعلمونها، وقال الثوري عن منصور هو الصلاة بين المغرب والعشاء.

وقال السدي يعني جوف الليل.

وقوله: (وهم يسجدون) فيه قولان: أحدهما - السجود المعروف في الصلاة. الثاني - قال الفراء، والزجاج معناه يصلون.

وبه قال البلخي، وغيره، لان القراء‌ة لاتكون في السجود، ولا في الركوع، وهذا ترك للظاهر، وعدول عنه.

ومعنى الاية يتلون آيات الله أناء الليل وهم مع ذلك يسجدون، فليست الواو حالا وإنما هي عطف جملة على جملة، والضمير في قوله (ليسوا) عائد على أهل الكتاب، لتقدم ذكرهم، وقال أبوعبيدة هو على لغة أكلونى البراغيث.

___________________________________

(1) قائله؟ الهذلي وقد نسبه بعضهم إلى المنخل السعدي.

ديوان الهذليين 2: 35 ومجاز القرآن 1: 102 وسيرة بن هشام 2: 206 ورواية اللسان (انى) والازهري عن ابن الانباري:

السالك الثغر مخشيا موارده ***، بكل اني قضاه الليل ينتعل

وفي الديوان (حذاه) بدل (حداه) فقط

[565]

ومثله قوله: " عموا وصموا كثير منهم "(1) وقال الشاعر:

رأين الغواني الشيب لاح بعارضي *** فاعرضن عني بالخدود النواضر(2)

قال الرماني، وهذا غلط، لان هذه اللغة ردية في القياس والاستعمال أما القياس، فلان الجمع عارض، والعارض لايؤكد علامته، لانه بمنزلة ما لا يعتد به، في سائر أبواب العربية وليس كالثابت للزومه فتقدم له العلامة لتؤذن به قبل ذكره ومع ذلك فجائز تركها فيه، فكيف بالعارض، ولزوم الفعل للفاعل يغني عن التثنية والجمع فيه، فلا يدخل جمع على جمع كما لا يدخل تعريف على تعريف. وأما الاستعمال، فلان أكثر العرب على خلافه.

قوله تعالى: يؤمنون بالله واليوم الاخر يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين(114)

آية واحدة.

المعنى: هذه الاية فيها صفة الذين ذكرهم في الاية التي قبلها في قوله: " أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون " فاضاف إلى ذلك أنهم مع ذلك يصدقون بالله واليوم الاخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقد بينا أن الامر بالعروف والنهي عن المنكر واجبان، وأنه ليس طريق وجوبهما العقل، وإنما طريق وجوبهما السمع، وعليه إجماع الامة. وإنما الواجب بالعقل كراهة المنكر، فقط غير أنه إذا ثبت بالسمع وجوبه، فعلينا إزالة المنكر بما يقدر عليه من الامور الحسنة دون القبيحة، لانه لايجوز إزالة قبيح بقبيح آخر، وليس لنا أن تترك أحدا

___________________________________

(1) سورة المائدة آية: 74.

(2) شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك 1: 399 وغيرها من كتب النحو كثير.

[566]

يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها سواء كانت المعصية من أفعال القلوب مثل اظهار المذاهب الفاسدة أو من أفعال الجوارح، ثم ننظر، فان أمكننا إزالته بالقول، فلا نزيد عليه، وإن لم يمكن إلا بالمنع من غير إضرار لم نزد عليه، فان لم يتم إلا بالدفع بالحرب، فعلناه على ما بيناه فيما تقدم، وان كان عند أكثر أصحابنا هذا الجنس موقوف على السلطان أو اذنه في ذلك.

وانكار المذاهب الفاسدة، لا يكون إلا باقامة الحجج والبراهين والدعاء إلى الحق، وكذلك إنكار أهل الذمة فأما الانكار باليد، فمقصور على من يفعل شيئا من معاصي الجوارح، أو يكون باغيا على إمام الحق، فانه يجب علينا قتاله ودفعه حتى يفئ إلى الحق، وسبيلهم سبيل أهل الحرب، فان الانكار عليهم باليد والقتال حتى يرجعوا إلى الاسلام أو يدخلوا في الذمة.

وقوله: (ويسارعون في الخيرات) يحتمل أمرين: أحدهما - أنهم يبادرون إليها خوف الفوات بالموت. والثاني - يعملونها غير متثاقلين فيها لعلمهم بجلالة موقعها، وحسن عاقبتها.

اللغة: والفرق بن السرعة والعجلة ان السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الابطاء وهو مذموم. والعجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها الاناة وهي محمودة.

قوله تعالى: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين(115)

آية بلا خلاف.

القراء‌ة والحجة والاعراب: قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء فيهما. الباقون بالتاء إلا أبا عمرو، فانه

[567]

كان يخبر، ووجه القراء‌ة بالياء أن يكون كناية عمن تقدم ذكره من أهل الكتاب ليكون الكلام على طريقة واحدة، ووجه التاء أن يخلطهم بغيرهم من المكلفين، ويكون خطابا للجميع في أن حكمهم واحد. وإنما جوزي ب‍ (ما) ولم يجاز ب‍ (كيف) لان (ما) أمكن من (كيف) لانها تكون معرفة ونكرة، لانها للجنس و (كيف) لاتكون إلا نكرة، لانها للحال والحال لاتكون إلا نكرة، لانها للفائدة.

اللغة والمعنى: وقوله: (فلن يكفروه) مجاز كما أن الصفة لله بأنه شاكر مجاز. وحقيقته أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكر على النعمة، فلما استعير للثواب الشكر واستعبر لنقيضه من منع الثواب الكفر، لان الشكر في الاصل هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، والكفر ستر النعمة من المنعم عليه بتضييع حقها.

ومعنى الاية فلن يمنعوا ثوابه، وسمي منع الجزاء كفرا، لانه بمنزلة الجحد له بستر، لان أصل الكفر الستر، ولذلك قيل لجاحد نعم الله ومن جرى مجراه في الامتناع من القيام بحقها: كافر، فالكافر هو المضيع لحق نعمة الله بما يجري مجرى الجحود.

وقوله: (والله عليم بالمتقين) إنما خص المتقين بالذكر، لان الكلام اقتضى ذكر جزاء المتقين، فدل على أنه لا يضيع شئ من عملهم، لان المجازي به عليم، وأنهم أمر أمرهم الفجار تعويلا على ما ذكره في غيرها من أي الوعيد.

قوله تعالى: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(116)

آية.

المعنى: لما ذكر تعالى أن عمل المتقين لن يضيع، وأنهم يجازون به، أستأنف حكم

[568]

الكافرين، وبين انه " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم " شيئا من الله وإنما خص الاموال، والاولاد بالذكر في أنهم لا يغنون عن الكافر شيئا وإن كان لا يغني عنهم غير هؤلاء أيضا شيئا، لانهما معتمد ما يقع به الاعتداد، ومما يعول عليه الانسان ويرجوه للشدائد ويفيد النفي العام، لانه إذا لم يغن عنه من هو حقيق بالغناء لمنع من لا يعجزه شئ فغناء من دونه أبعد.

اللغة: وقوله: (وأولئك أصحاب النار) إنما سموا أصحاب النار، للزومهم فيها كما يقال هؤلاء أصحاب الصحراء إذا كانوا ملازمين لها، وقد يقال أصحاب العقار بمعنى ملاكه وأصحاب الرجل أتباعه وأعوانه وأصحاب العالم من يعني به الاخذون عنه، والمتعلمون عنه، فالاضافة مختلفة.

ومعنى " لن تغني عنهم " أي لن تدفع عنهم ضرر الولاء النازل بهم ولو قيل أغناه كذا عن كذا أفاد أن أحد الشيئين صار بدلا من الاخر في نفي الحاجة، والغنى الاختصاص بما ينفي الحاجة، فان اختص بمال ينفي الحاجة، فذلك غنى. وكذلك الغنى بالجاه والاصحاب وغير ذلك، فأما الغنى في صفت الله فاختصاصه بكونه قادرا على وجه لا يعجزه شئ، وقولنا فيه: أنه غنى معناه أنه لايجوز عليه الحاجة.

وأصل النار النور، وهو مصدر. والنار جنس تجري مجرى الوصف في تضمنه معنى الاصل وزيادة عليه، لانها جسم لطيف فيه حرارة ونور.

ومنه امرأة نوار أي نافرة عن الشر عفية، لانها كالنار في الامتناع.

ومنه المنار الاعلام، لانها كالنور في البيان.

ومنه المنارة التي يسرج عليها.

[569]

قوله تعالى: مثل ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فاهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون(117)

آية.

النزول: قيل ان هذه الاية في أبي سفيان، وأصحابه يوم بدر، لما تظاهروا على النبي (ص) في الانفاق. وقيل بل نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حروب المشركين على وجه النفاق للمؤمنين.

المعنى: والمثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما مشبه به، فلما كان إنفاق المنافق والكافر ضائعا، ويستحق عليه العقاب والذم أشبه الحرث المهلك، فلذلك ضرب به المثل. وفي الاية حذف، وتقديرها مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك " ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم " فحذف الاهلاك لدلالة آخر الكلام عليه وفيه تقدير آخر، مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح، فيكون تشبيه ذلك الانفاق بالمهلك من الحرث بالرياح.

اللغة: والريح جمعه رياح ومنه الروح، لدخول الريح الطيبة على النفس، وكذلك الارتياح.

والتروح الراحة من التعب، لانه بمنزلة الروح الذي يدخل على النفس بزوال التعب.

ومنه الاستراحة، والمراوحة، لانها تجلب الريح.

ومنه الروح، لانها كالريح في اللطا؟ ومنه الرائحة، لان الريح تحملها إلى الحس، ومنه الرواح، لانه رجوع كالريح، للاستراحة.

وقول: " فيها صر " قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن زيد، والضحاك: هو البرد وأصله الصوت من الصرير.

قال الزجاج: الصر صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح ويجوز أن يكون الصر صوت الريح الباردة

[570]

الشديدة، وذلك من صفات الشمال، فانها توصف بان لها قعقعة.

المعنى: وقوله: (وما ظلمهم الله) نفي للظلم عن الله تعالى يعني في نفي استحقاقهم للثواب، واستحقاقهم للعقاب، وإن ذلك ليس بظلم منه تعالى " ولكن أنفسهم يظلمون " بذلك.

وإنما وصفهم بأنهم ظلموا أنفسهم، لامرين: أحدهما - أن ظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم، لانه لو هلك على جهة الابتلاء والمحنة لم يعتد بعاجل المضرة، للعوض الموفى عليه في العاقبة.

الثاني - أن يكونوا ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقت الزراعة، فجاء‌ت الريح فأهلكته تأديبا من الله لهم في وضع الشئ غير موضعه الذي هو حقه.

وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدروهم أكبر قد بينا لكم الايات إن كنتم تعقلون(118)

آية بلا خلاف.

المعنى: ذكر ابن عباس، الحسن: أن قوما من المؤمنين خافوا بعض المشركين في اليهود، والمنافقين المودة لما كان بينهم في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عن ذلك بهذه الاية. والبطانة معناها ههنا خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره ويسمون دخلاء أي لا تجعلوا من هذه صفته من غير المؤمنين.

[571]

اللغة، والاعراب والبطن خلاف الظهر، فمنه بطانة الثوب خلاف ظهارته، لانها تلي بطنه. وبطانة الرجل خاصته، لانها بمنزلة ما يلي بطنه من ثيابه في القرب منه، ومنه البطنة وهو امتلاء البطن بالطعام. والبطان حزام البعير، لانه يلي بطنه.

وقوله: (من دونكم) (من) تحتمل وجهين: أحدهما - أن تكون دخلت للتبعيض، والتقدير لاتتخذوا بعض المخالفين في الدين بطانة. والثاني - أن يكون دخولها لتبين الصفة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة من المشركين. وهو أعم وأولى، لانه لايجوز أن يتخذ مؤمن كافرا بطانة على حال وقال بعضهم إن (من) زائدة، وهذا ليس بجيد، لانه لايجوز أن يحكم بالزيادة مع صحة حملها على الفائدة.

وقوله: (لا يألونكم خيالا) معناه لا يقصرون في أمركم خبالا من قولهم ما ألوت في الحاجة جهدا، ولا أألو الامر ألوا أي لا أقصر جهدا.

وقال الشاعر:

جهراء لاتألو إذا هي أظهرت *** بصرا ولا من علية تغنيني(1)

أي لاتقصر بصرا ولاتبصر، لانها جهراء تطلب ذلك، فلا تجده.

ومنه الالية اليمين. ومنه قوله: " ولا يأتل أولو الفضل منكم "(2) معناه لا يقصر، وقيل لا يحلف.

والاصل التقصير والخبال معناه النكال.

وأصله الفساد يقال في قوائمه خبل، وخبال أي فساد من جهة الاضطراب.

ومنه الخبل الجنون، لانه فساد العقل، ورجل مخبل الرأي أي فاسد الرأي.

ومنه الاستخبال طلب إعادة المال لفساد الزمان.

___________________________________

(1) قائله أبوالعيال الهذلي. ديوان الهذليين 2. 263، واللسان (ألا) و (جهر) وهو من شعر في؟ بينه وبين بدر بن عامر الهذلي. الجهراء: هي التي لا تصر في الشمس.

(2) سورة النور آية 22.

[572]

المعنى: وقوله: (ودوا) معناه أحبوا " ما عنتم " معناه إدخال المشقة عليكم وقال السدي: معناه " ودوا " ضلالكم عن دينكم، لان الحمل بالضلال مشقة.

وقبل معناه " ودوا " أن يفتنوكم في دينكم أي يحملونكم على المشقة ذكره ابن جريج.

اللغة: وأصل العنت المشقة: عنت الرجل عنتا إذا دخلت عليه المشقة. ومنه أكمة عنوت أي صعبة المسلك لمشقة السلوك فيها. وفلان يعنت فلانا أي يحمله على المشقة الشديدة في ما يطالبه به.

ومنه قوله تعالى: " ولو شاء الله لا عنتكم "(1).

الاعراب، والمعنى: وموضع ودوا يحتمل أن يكون نصبا لانه صفة لبطانة ويجوز أن يكون له موضع من الاعراب، لانه استئناف جملة.

وقوله: (قد بدت البغضاء من أفواههم) أي ظهر منها ما يدل على البغض " وما تخفي صدورهم أكبر قد بينالكم الايات " يعني العلامات " إن كنتم تعقلون " يعني موضع نفعه لكم ومبلغ عائدته عليكم.

وقيل: معناه " إن كنتم تعقلون " الفصل بين ما يستحقه الولي والعدو.

قوله تعالى: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الانامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور(119)

آية بلا خلاف.

___________________________________

(1) سورة البقرة آية: 220.

[573]

المعنى، واللغة، والاعراب: هذا خطاب للمؤمنين أعلمهم الله تعالى أن منافقي أهل الكتاب لا يحبونهم وأنهم هم يصبحون هؤلاء المنافقين بالبر والنصيحة، كما يفعله المحب، وإن المنافقين على ضد ذلك، فأعلمهم الله مايسره المنافقون في باطنهم، وذلك من آيات النبي صلى الله عليه وآله.

قال الفراء: العرب إذا جاء‌ت إلى اسم مكنى قد وصف بهذا، وهذان، وهؤلاء، فرقوا بين (ها) وبين (ذا) فجعلوا المكنى منهما في جهة التقريب، لا غير يقولون: أين أنت، فيقول القائل: هأنذا، ولا يكادون يقولون ها أنا. ومثله في التثنية والجمع. ومثله قوله: " ها أنتم أولاء تحبونهم " وربما أعادوها فوصلوها بذا، وهذان وهؤلاء، فيقولون ها أنت هذا قائما، وها أنتم هؤلاء.

قال الله تعالى: " ها أنتم هؤلاء جادلتم "(1) فان كان الكلام على غير تقرب أو كان على خبر يكتفي كل واحد منهما بصاحبه بلا فعل، والتقريب لابد فيه من فعل لنقصانه وأحبوا أن يفرقوا بين معنى التقريب، وبين معنى الاسم الصحيح، قال الازهري: يحتمل أولا أن يكون منادى كأنه فال يا أولاء.

وقال نحاة البصريين (ها) للتنبيه. وأنتم مبتدأ وأولاء خبره ويحبونهم حال.

وقال الفراء: يحبونهم خبر.

وقال الزجاج: يجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين ويحبونهم صلة ويكون التقدير الذين يحبونهم. ويجوز أن يكون حالا بمعنى " ها أنتم أولاء " محبين لهم. ويكون " أنتم مبتدأ وأولاء خبره. ويحبونهم حالا والمعنى انظروا إلى أنفسكم محبين لهم ولا يجوز أن تقول: ها قومك أولاء، كما جاز " ها أنتم أولاء "، لان المضمر أحق ب‍ (ها) التي للتنبيه، لانه كالمبهم في عموم ما يصلح له. وليس كذلك الظاهر.

وقال الفراء: إنما ذاك على جهة التقريب في المضمر، والاعتماد على غيره في الخبر.

قال الحسن بن علي المغربي أولاء يعني به المنافقين، كما تقول ما أنت زيدا يحبه، ولا يحبك. وهذا مليح غير أنه يحتاج أن يقدر عامل في أولاء ينصبه، يفسره قوله:

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 108

[574]

" يحبونهم " لانه مشغول لا يعمل فيما قبله كقوله: " والقمر قدرناه "(1) في من نصبه وأولاء للرجال، وللنساء أولات. وهو مبني على الكسر. وكان الاصل السكون والالف قبلها ساكنة فحرك لالتقاء الساكنين على أصل الكسرة.

قوله: (وتؤمنون بالكتاب كله) الكتاب واحد في موضع الجمع، لانه أريد به الجنس، كما يقال كثر الدرهم في أيدي الناس ويحتمل أن يكون مصدرا من قولك كتبت كتابا. والمراد بالكتاب ههنا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه وفي إفراده ضرب من الايجاز، واشعار بالتفصيل في الاعتقاد، لانهم يؤمنون بها في الجملة. والتفصيل من حيث يؤمنون بما أنزل على ابراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وسائر الانبياء.

وقوله: " وإذا لقوكم قالوا آمنا " معناه إذا رأوكم قالوا صدقنا " وإذا خلوا " مع أنفسهم " عضوا عليكم الانامل من الغيظ " فالعض بالاسنان.

ومنه العض علف الامصار، لان له مضغة في العض يسمن عليها المال.

ومنه رجل عض: لزاز الخصم، لانه يعض بالخصومة.

وكذلك رجل عض فحاش، لانه يعض بالفحش والانامل أطراف الاصابع في قول قتادة، والربيع، وأصلها النمل المعروف، فهو مشبه به في الرقة، والتصرف بالحركة.

ومنه رجل نمل أي نمام، لانه ينقل الاحاديث الكرهة كنقل النملة في الخفاء والكثرة.

وواحد الانامل أنملة.

وقال الزجاج ولم يأت على هذا المثال ما يعني به الواحد إلاشذ، فأما الجمع، فكثير نحو أفلس وأكعب وقوله: (قل موتوا بغيظكم) معناه الامر بالدعاء عليهم. وإن كان لفظه لفظ الامر، كأنه قال قل: أماتكم الله بغيظكم وفيه معنى الذم لهم، لانه لايجوز أن يدعا عليهم هذا الدعاء إلا وقد استحقوه بقبيح ما أتوه.

___________________________________

(1) سورة يس آية: 39.

[575]

الآية: 120 - 129

قوله تعالى: إن تمسسكم حسنة تسوء‌هم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط(120)

آية بلا خلاف.

قرأ عمرو، ونافع، وابن كثير " لا يضركم " خفيفة. الباقون مشددة الراء. وهما لغتان ضاره يضيره، وضره يضره ضرا بمعنى واحد.

قوله: " إن تمسسكم " حسنة فالمراد بالحسنة ههنا ما أنعم الله عليهم به من الالفة والغلبة باجتماع الكلمة، والمراد بالسيئة المحنة باصابة العدو منهم لاختلاف الكلمة، وما يؤدي إليه من الفرقة هذا قول الحسن، وقتادة والربيع وابن جريج.

وقوله: (وإن تصبروا وتتقوا) يعني تتقوا الله بامتناع معاصيه، وفعل طاعاته " لا يضركم كيدهم " فالكيد المكر الذي يغتال به صاحبه من جهة حيلة عليه ليقع في مكروه به، وأصله المشقة تقول: رأيت فلانا يكيد بنفسه أي يقاسي المشقة في سياق المنية، ومنه المكايدة لايراد ما فيه المشقة. والمكيدة الحيلة لايقاع ما فيه المشقة.

وقوله: (لا يضركم) مبني على الضم نحو مذ ولوفتح أو كسر لكان جائزا في العربية وزعم بعضهم أنه رفع على حذف الفاء بتقدير، فلانا يضركم وأنشد:

فان كان لا يرضيك حتى تردني *** إلى قطري لا أخالك راضيا(1)

وهذا ضعيف، لان الحذف إنما يجوز، لضرورة الشعر والقرآن لايحمل على ضرورة الشعر.

وقوله: (إن الله بما تعملون محيط) معناه عالم به من جميع جهاته مقتدر عليه.

قوله تعالى: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم(121)

آية.

___________________________________

(1) قائله سوار بن المضرب السعدي التميمي. نوادر أبي زيد: 54، ومعاني القرآن للفراء 1: 32؟، وحماسة ابن الشجري: 54، 55.

[576]

المعنى، اللغة، والاعراب قال ابن عباس، وقتادة والربيع، والسدي، وابن اسحق، وهو قول أبي جعفر (ع): كان غدو النبي صلى الله عليه وآله مبوئا للمؤمنين يوم أحد، وقال الحسن ومجاهد: كان يوم الاحزاب.

النبوئة اتخاذ المواضع لصاحبه وأصلها اتخاذ منزل تسكنه، تقول بوأته منزله أبوئه تبوئة، ومنه المباء‌ات المراح، لانه رجوع إلى المستقر المتخذ وأبأت الابل أبيئها اباء‌ة إذا رددتها إلى المباء‌ة.

ومنه بوأت بالذنب أي رجعت به محتملا له.

وقوله: " والله سميع عليم " قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها انه تهدد والمراد " سميع " لما يقول المنافقون " عليم " بما يضمرون.

الثاني - " سميع " لما يقوله النبي صلى الله عليه وآله للمؤمنين " عليم " بما؟ تزكية له صلى الله عليه وآله.

الثالث - " سميع " ما يقوله المشيرون عليك " عليم " بما يضمرونه، لانهم اختلفوا، فمنهم من أشار بالخروج، ومنهم ومن أشار بالمقام. وفيه تزكية للزاكي وتهدد للغاوي.

ومعنى " تبوئ المؤمنين " مثل تبوئ للمؤمنين حذف اللام، كما قال " ردف لكم "(1) ويجوز ردفكم، فاذا عداه، فعناه رتب المؤمنين على مواضعهم قدمة. وإذا لم يتعد فمعناه تتخذ لهم مواضع.

ومثله قول الشاعر:

استغفر الله ذنبا لست محصيه *** رب العباد إليه الوجه والعمل(2)

ومعناه من ذنب، والعامل في (إذ) محذوف، وتقديره واذكر إذ غدوت من أهلك فحذف لدلالة الكلام عليه ولا يجوز أن يكون العامل غدوت، لانه مضاف إليه بمنزلة الصلة له.

___________________________________

(1) سورة النمل آية 72.

(2) معاني القرآن للفراء 1: 233 وسيبويه 1: 17 والخزانة 1: 486 وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها.

[577]

قوله تعالى: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون(122)

آية.

التقدير واذكر " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " وقال الزجاج العامل في (إذ) " همت أن تفشلا " والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت.

والطائفتان: هما بنو سلمة وبنو حارثة حيان من الانصار في قول ابن عباس، وجابر بن عبدالله: الحسن وقتادة، ومجاهد، والربيع، والسدي، وابن اسحاق، وابن زيد، وأبي جعفر وأبي عبدالله (ع).

وقال الجبائي: هما قوم من المهاجرين، والانصار.

والفشل الجبن في قول ابن عباس تقول فشل يفشل فشلا.

والجبن ليس من فعل الانسان وتحقيقه على هذا همت بحال الفشل إلا أنه وضع كلام موضع كلام.

وليس في الاية أن همهما بالفشل كان معصية، لانه قد يكون من غير عزم على حال الفشل بل بحديث النفس به، ومن قال كان معصية قال هي صغيرة، لقوله " والله وليهما " وروي عن جابر بن عبدالله أنه قال فينا نزلت وما أحب أنها لم تكن، لقوله: " والله وليهما " وكان سبب همهم بالفشل في قول السدي، وابن جريج أن عبدالله ابن أبي بن سلول دعاهما إلى الرجوع إلى المدينة عن لقاء المشركين يوم أحد فهما به ولم يفعلاه وقال أبوعلي: بل كان ذلك باختلافهم في الخروج إلى العدو أو المقام حتى هموا بالفشل.

والتاء مدغمة في الطاء في قوله: " إذ همت طائفتان " لانها من مخرجها فصارت بمنزلتها مع مثلها نحو همت تفعل ومثله " وقالت طائفة "(1) ويجوز أيضا إدغام الطاء في التاء إلا انك تبقي الاطباق نحو " احطت بما لم تحط "(2) والاول أحسن.

___________________________________

(1) سورة الاحزاب آية: 13.

(2) سورة النمل آية: 22.

[578]

قوله تعالى: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون(123)

آية.

النزول واللغة: هذه الاية نزلت في وصف ما من الله تعالى على المؤمنين من النصر والامداد بالملائكة وظفر المؤمنين بالمشركين مع قلة المؤمنين وقوة المشركين.

فانه روي عن ابن عباس (ره) أنه قال كان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا والانصار مئتين وستة وثلاثين رجلا الجميع ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا. وكان المشركون نحوا من ألف رجل. وبدر ما بين مكة والمدينة وقال الشعبي سمي بدرا لان هناك ماء لرجل يسمى بدرا، فسمي الموضع باسم صاحبه.

وقال الواقدي عن شيوخه إنما هو اسم للموضع كما يسمى كل بلد باسم يخصه من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه.

وقوله: (وأنتم أذلة) جملة في موضع الحال. والذلة الضعف عن المقاومة، وضدها العزة، وهي القوة على الغلبة، ويقال للجمل المنقاد من غير صعوبة: ذلول لانقياده انقياد الضعيف، فأما الذليل فانما ينقاد على مشقة. ومنه تذليل الطريق، ونحوه، وهو توطئة الاصل. وفيه الضعف عن المقاومة.

وقوله: " أذلة " جمع ذليل وفعيل قياسه أن يجمع على فعلاء إذا كان صفة، مثل ظريف وظرفاء، وكريم وكرماء، وعليم وعلماء، وشريك وشركاء، فجمع على أفعلة كراهية التضعيف، فعدل إلى جمع الاسماء نحو قفيز وأقفزة، فقيل ذليل وأذلة وعزيز وأعزة.

المعنى: ووصفهم الله بأنهم أذلة لانهم كانوا ضعفاء قليلي العدد قليلي العدة.

وروي عن بعض السلف الصالح أنه قرأ " وأنتم ضعفاء " قال ولايجوز وصفهم بأنهم أذلة،

[579]

وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله. وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر أمير المؤمنين علي بن طالب (ع). وصاحب راية الانصار سعد بن عبادة.

وقوله " فاتقوا الله " معناه اتقوا معاصيه واعملوا بطاعته. ويجوز أن يكون المراد اتقوا عقاب الله بترك المعاصي، والعمل بطاعته، لان أصل الاتقاء هو الحجز بين الشيئين بما يمنع من وصول أحدهما إلى الاخر كما تقول اتقاه بالترس أو غيره، ووجه ادخال هذه الاية وهي متعلقة بقصة بدر بين قصة أحد أن الله تعالى وعد المؤمنين النصر يوم أحد إن صبروا وثبتوا أن يمدهم بالملائكة كما نصرهم يوم بدر، وأمدهم بالملائكة فلما لم يصبروا وتركوا مراكزهم أصاب العدو منهم ما هو معروف.

قوله تعالى: إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين(124)

آية بلا خلاف.

قرأ ابن عامر وحده منزلين بتشديد الزاي الباقون بالتخفيف. التقدير اذكروا " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم " وفيه إخبار أن النبي صلى الله عليه وآله قال لقومه: ألن يكفيكم يوم بدر بأن أمدكم بثلاثة الاف من الملائكة منزلين، ثم قال " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " يعني يوم أحد.

وقال ابن عباس، والحسن وقتادة، ومالك بن ربيعة وغيرهم: ان الامداد بالملائكة كان يوم بدر.

وقال ابن عباس لم يقاتل الملائكة (ع) إلا يوم بدر، وكانوا في غيره من الايام عدة ومددا.

وقال الحسن: كان جميعهم خمسة آلاف.

وقال غيره: كانوا ثمانية آلاف.

اللغة: وقوله: " ألن يكفيكم " فالكفاية مقدار يسدبه الخلة تقول: كفاه يكفيه كفاية، فهو كاف: إذا قام بالامر، واستكفيته أمرا فكفاني، واكتفى به اكتفاء. وكفاك هذا الامر أى حسبك.

[580]

والفرق بين الاكتفاء والاستغناء، أن الاكتفاء هو الاقتصار على ما ينفي الحاجة والاستغناء الاتساع فيما ينفي الحاجة، فلذلك يوصف تعالى بأنه غني بنفسه لاتساع مقدوره من حيث كان قادرا لنفسه لا يعجزه شئ.

وقوله: " أن يمدكم " فالامداد هو إعطاء الشئ حالا بعد حال. والمعني في الاية ان الله أعطاهم القوة في أنفسهم ثم زادهم قوة بالملائكة والمد في السير هو الاستمرار عليه.

وامتد بهم السير: إذا طال، واستمر، ومددت الشئ إذا جذبته.

والمد زيادة الماء تقول: مد الماء وأمد الجرح وامددت العسكر.

والمادة زيادة مستمرة، والمدة أوقات مستمرة إلى غاية.

والمداد ما يكتب به.

والمد مكيال مقداره ربع الصاع.

قوله تعالى: بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين(125)

آية.

القراء‌ة والمعنى: قرأ ابن كثير، وأبوعمرو، وعاصم " مسومين " بكسر الواو. الباقون بفتحها.

والقراء‌ة بالكسر أقوى، لان الاخبار وردت بأنهم سوموا خيلهم بعلامة جعلوها عليها.

وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، والضحاك: كانوا علموا بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها.

وروى هشام عن عروة قال: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق وعليهم عمائم صفر.

قال السدي، وغيره من أهل التأويل: معنى " مسومين " معلمين.

اللغة، والمعنى: ومن قرأ بالفتح أراد معنى مرسلين من الابل السائمة يعني المرسلة في المرعي

[581]

والسيما العلامة قال الله تعالى " سيماهم في وجوههم من أثر السجود "(1) فالتسويم العلامة قال الشاعر:

مسومين بسيما النار أنفسهم *** لا مهتدين ولا بالحق راضينا

وأصل الباب السوم في المرعى، وهو الاستمرار فيه فمنه السيماء، لانهم كانوا يعلمونها: إذا أرسلت في المرعى لئلا تختلط، ومنه السوم في البيع، ومنه سوم الريح استمرارها في هبوبها. ومنه سوم الخسف، لانه استمرار في إلزام الشر.

وقوله: " ومن فورهم " قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع، والسدي وابن زيد: معناه من وجههم.

وقال مجاهد والضحاك وأبوصالح من غضبهم، فعلى القول الاول إنما هو فور الانتداب لهم، وهو ابتداؤه، وعلى القول الثاني فور الغضب، وهو غليانه. وأصل الفور فور القدر، وهو غليانها عند شدة الحمى، فمنه فورة الغضب، لانه كفور القدر بالحمى، ومنه جاء فلان على الفور أي على أشد الحمى، لفعله قبل أن تبرد نفسه. ومنه فارت العين بالماء أي جاشت به ومنه الفوارة، لانها تفور بالماء كما تفور القدر بما فيها.

فان قيل: كيف قال في الاية الاولى ان لامداد بثلاثة آلاف، وفي هذه بخمسة آلاف. وهذا ظاهر التناقض؟ ! قلنا: لا تناقض في ذلك لان في الاية الاولى وعد الله المؤمنين على لسان نبيه بأن يمدهم بثلاثة آلاف منزلين ثم قال " بلي إن تصبروا وتتقوا " يعني تصبروا على الجهاد، والقتال، وتتقوا معاصي الله " ويأتوكم من فورهم " وهذا يعني ان رجعوا إليكم، لان الكفار في غزاة أحد بعد انصرافهم ندموا لم لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع، فأوحى الله تعالى إلى نبيه أن يأمر أصحابه بالتهيؤ للرجوع إليهم. وقال لهم " ان يمسسكم قرنح فقد مس القوم قرح مثله "(2) ثم قال إن صبرتم على الجهاد وراجعتم الكفار، وأمدكم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، فأخذوا في

___________________________________

(1) سورة الفتح آية: 29.

(2) سورة آل عمران آية: 140.

[582]

الجهاز فبلغ ذلك قريشا فخافوهم أن يكون قد التأم اليهم من كان تأخر عنهم وانضم إليهم غيرهم، فدسوا نعيم بن مسعود الاشجعي حتى قصدهم بتعظيم أمر قريش واسرعوا.

والقصة معروفة ولذلك قال قوم من المفسرين: ان جميعهم ثمانية آلالف وقال الحسن جميعهم خمسة آلاف منهم الثلاثة آلاف المنزلين على أن الظاهر يقتضي أن الامداد بثلاثة آلاف كان يوم بدر، لان قوله: " إذ تقول للمؤمنين " متعلق بقوله: " ولقد نصركم الله ببدر " " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " ثم استأنف حكم يوم أحد، فقال: " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم " يعني رجعوا عليكم بعد انصرافهم امدكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. والقسة في ذلك معروفة على ما بيناه وعلى هذا لا تنافي بينهما، وهذا قول البلخى رواه عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: لم يمدوا يوم أحد ولا بملك واحد. فان قيل لم لم يمدوا بالملائكة في سائر الحروب؟ قلنا: ذلك تابع للمصلحة فاذا علم الله المصلحة في إمدادهم أمدهم.

قوله تعالى: وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم(126)

آية.

الهاء في قوله: " وما جعله الله " عائدة على ذكر الامداد والوعد فيعود على معلوم بالدلالة عليه غير مذكور باسمه لان يمدد يدل على الذكر للامداد ومثله " إذ عرض عليه بالعشي الصا؟ الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب "(1) أي الشمس.

وقال لبيد:

حتى إذا ألقت يدا في كافر *** وأجن عورات الثغور وظلامها(2)

أي القت الشمس فرد الضمير إلى معلوم ليس بمذكور.

وقال قوم: ان الضمير

___________________________________

(1) سورة ص آية: 32.

(2) دائرة المعارف لوجدي. وغيرها.

الكافر: الليل والاجنان: الستر والثغر: موضع المخافة.

[583]

راجع إلى الامداد نفسه. والاول أقوى لان البشرى في صفات الانزال وذلك يليق بذكر الامداد.

والفرق بين قوله: " ولتطمئن قلوبكم به " وقوله واطمئنانا لقلوبكم، أن الوعد في أحدهما اطمئنان، وفي الاخر سببه الا؟، فهو أشد في تحقيق الكلام من أجل دخول اللام.

وقوله: " وما النصر إلا من عند الله " معناه أن الحاجة لازمة في المعونة وان امدهم بالملائكة فانهم لايستغنون عن معونته طرفة عين في تقوية قلوبهم وخذلان عدوهم بضعف قلوبهم إلى غير ذلك من الامور التي لاقوام لهم إلا بها ولا متكل لهم إلا عليها.

فان قيل: كيف قال " وما النصر إلا من عند الله " وقد ينصر المؤمنون بعضهم بعضا وبعض المشركين بعضا؟ قلنا: لان نصر بعض المؤمنين بعضا من عبدالله لانه بمعونته وحسن توفيقه، وأما نصر المشركين بعضهم، لبعض، فلا يعتد به، لانه بخذلان الله من حيث أن عاقبته إلى شر مآل من العقاب الدائم.

وقوله " العزيز الحكيم " معناه ههنا العزيز في انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين، الحكيم في تدبيره للعالمين ليعلمهم بأن حربهم للمشركين يجري على اعزاز الدين، والحكمة في تدبير المكلفين ومعنى العزيز المنيع باقتداره.

قوله تعالى: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين(127)

آية.

المعنى: قوله: " ليقطع طرفا من الذين كفروا " يحتمل أن يتصل بثلاثة أشياء: أحدها - " وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفا من الذين ".

الثاني - بقوله ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفا.

الثالث - ذلك التدبير ليقطع طرفا.

[584]

واليوم الذي قطع فيه الطرف من الذين كفروا: هو يوم بدر بقتل صناديدهم ورؤسائهم وقادتهم إلى الكفر في قول الحسن، والربيع، وقتادة.

وقال السدي: هو يوم أحد قتل منهم ثمانية عشر رجلا.

وإنما قال: " ليقطع طرفا " منهم ولم يقل ليقطع وسطا منهم، لانه لايوصل إلى الوسط منهم إلا بعد قطع الطرف ومثله " قاتلوا الذين يلونكم "(1) والمراد بالاية ليقطع قطعة منهم.

اللغة: وقوله: " أو يكبتهم " فالكبت الخزي. ومعناه أو يخزيهم في قول الربيع، وقتادة.

وقال الخليل: الكبت صرع الشئ على وجهه كبتهم الله فانكبتوا.

وحقيقة الكبت شدة وهن يقع في القلب فربما صرع الانسان لوجهه للخور الذي يدخله.

وقوله: " فينقلبوا " أي فيرجعوا " خائبين " الخائب المنقطع عما أمل، ولا تكون الخيبة إلا بعد الامل، لانها امتناع نيل ما أمل. واليأس قد يكون قبل الامل ويكون بعده. واليأس والرجاء نقيضان يتعاقبان كتعاقب الخيبة والظفر، يقال: خاب يخيب خيبة وخيبه الله تخييبا. والخيبة حرمان المراد.

قوله تعالى: ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون(128)

آية بلا خلاف.

القصة، والمعنى: روي عن أنس بن مالك وابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع: انه لما كان من المشركين يوم أحد من كسر رباعية النبي صلى الله عليه وآله وشجه حتى جرت الدماء على وجهه، قال كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم، وهو مع ذلك حريص على

___________________________________

(1) سورة التوبة آية: 124.

[585]

دعائهم إلى ربهم، فنزلت هذه الاية، فأعلمه الله أنه ليس إليه فلاحهم وأنه ليس إليه إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين. وكان الذي كسر رباعيته وشجه في وجهه عتبة بن أبي وقاص، فدعا (ع) عليه الا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا، فمات كافرا قبل حول الحول.

وقيل: انه هم بالدعاء عليهم، فنزلت الاية تسكيناله، فكف عن ذلك.

وقال أبوعلي الجبائي: انه استأذن ربه يوم أحد في الدعاء عليهم، فنزلت الاية، فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال وإنما لم يؤذن فيه لما كان في المعلوم من توبة بعضهم، وإنابته، فلم يجز أن يقتطعوا عن التوبة بعذاب الاستئصال.

فان قيل كيف قال " ليس لك من الامر شئ " مع أن له أن يدعوهم إلى الله ويؤدي إليهم ما أمره بتبليغه؟ قيل: لان معناه ليس لك من الامر شئ في عقابهم أو استصلاحهم حتى تقع إنابتهم، فجاء الكلام على الايجاز، لان المعنى مفهوم لدلالة الحال عليه وأيضا فانه لايعتد بما له في تدبيرهم مع تدبير الله لهم، فكأنه قال ليس لك من الامر شئ على وجه من الوجوه.

وقوله: " أو يتوب عليهم " قيل في معناه قولان: أحدهما - أو يلطف لهم بما يقع معه توبتهم، فيتوب عليهم بلطفه لهم. والاخر - أو يقبل توبتهم إذا تابوا، كما قال تعالى " غافر الذنب وقابل التوب "(1) ولاتصح هذه الصفة إلا الله عزوجل، لانه يملك الجزاء بالثواب، والعقاب.

فان قيل: كيف قال " أو يعذبهم " مع ما في المعلوم من أن بعضهم يؤمن؟ قيل: لانهم يستحقون ذلك باجرامهم بمعنى أنه لو فعل بهم لم يكن ظلما، وان كان لايجوز أن يقع لوجه آخر يجري مجرى تبقيتهم لاستصلاح غيرهم.

وقيل في نصب " أو يتوب عليهم " وجهان: أحدهما - أنه بالعطف على " ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم " " أو يتوب عليهم أو يعذبهم " ويكون " ليس لك من الامر شئ " اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عيله كما تقول: ضربت زيدا فانهم ذاك وعمرا.

___________________________________

(1) سورة المؤمن آية: 3.

[586]

الثاني أن تكون أو بمعنى إلا أن، كأنه قال: ليس لك من الامر شئ " إلا أن يتوب عليهم أو يعذبهم فيكون أمرك تابعا لامر الله برضاك بتدبيره فيه قال امرؤ القيس:

فقلت له: لاتبك عينك إنما *** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا(1)

أراد إلا أن نموت أو حتى نموت.

قوله تعالى: ولله ما في السماوات وما في الارض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم(129)

آية بلا خلاف.

عموم قوله: " ولله ما في السماوات وما في الارض يقتضي أن له تعالى ملك ما في السماوات، وما في الارض، وأن له التصرف فيهما كيف شاء بلا دافع، ولا مانع، غير أنه لابد من تخصيص هذا العموم من حيث أنه ينزه عن الصاحبة والولد على كل وجه. واوجه ما قلناه. وانما ذكر لفظ (ما) لانها أعم من (من) لانها تتناول ما يعقل، وما لا يعقل، لانها تفيد الجنس ولو قال من في السماوات ومن في الارض لم يدخل فيه إلا العقلاء إلا أن يحمل على التغليب وذلك ليس بحقيقة.

وقوله: " يغفر لمن يشاء " دليل على أن حسن العفو عن مستحق العذاب، وان لم يتب لانه لم يشترط فيه التوبة.

وقوله: " ويعذب من يشاء " يعني ممن يستحق العذاب، لان من لا يستحق العذاب لايشأ عذابه، لانه ظلم يتعالى الله عن ذلك وفي ذلك دلالة على جواز العفو بلا توبة، لانه علق عذابه بمشيئته، فدل على أنه لو لم يشأ، لكان له ذلك، ولا يلزم على ما قلناه الشك في جواز غفران عقاب الكفار، لان ذلك أخرجناه من العموم بدلالة إجماع الامة على أنه لايغفر الشرك.

___________________________________

(1) ديوانه: 89 يقول: انا نطلب الملك فان وصلنا اليه والا نبقي في طلبه حتى نموت. دونه وهذا؟

[587]

وبقوله: " ان الله لايغفر أن يشرك به "(1) ولولا ذلك لكنا نجوز العفو عنهم أيضا ووجه اتصال هذه الاية بما قبلها أنه لما قال ليس لك من الامر شئ عقب ذلك بأن الامر كله لله في السماوات والارضين.

الآية: 130 - 140

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون(130)

آية .

النظم، والمعنى: لما ذكر الله تعالى أن له عذاب من يشاء، والعفو عمن يشاء، وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لا ستحقوا عليه العقاب، وعذبوا عليه، وهو الربا، والربا المنهي عنه قال عطا، ومجاهد: هو ربا الجاهلية، وهو الزيادة على أصل المال بالتأخير عن الاجل الحال. ويدخل فيه كل زيادة محرمة في المعاملة من جهة المضاعفة، ووجه تحريم الربا هو المصلحة التي علمها الله تعالى.

وقيل فيه وجوه على وجه التقريب: منها للفصل بينه وبين البيع.

ومنها - أنه مثال العدل يدعو إليه ويحض عليه.

ومنها - أنه يدعوا إلى مكارم الاخلاق بالاقراض وانظار المعسر من غير زيادة.

وهذا الوجه روي عن أبي عبدالله (ع).

وقوله: " أضعافا مضاعفة " قيل في معناه ههنا قولان: أحدهما - للمضاعفة بالتأخير أجلا بعد أجل كلما أخر عن أجل إلى غيره زيد عليه زيادة على المال الثاني - " أضعافا مضاعفة " أي يضاعفون في أموالكم.

وقيل في تكرير تحريم الربا ههنا مع ما تقدم في قوله: " وأحل الله البيع وحرم الربا "(2) وغير ذلك قولان:

___________________________________

(1) سورة النساء آية: 47، 115.

(2) سورة البقرة آية: 275.

[588]

أحدهما - للتصريح بالنهي عنه بعد الاخبار بتحريمه لما في ذلك من تصريف الخطر له وشدة التحرز منه.

الثاني - لتأكيد النهي عن هذا الضرب منه الذي يجري على الاضعاف المضاعفة.

وقوله: " واتقوا الله " معناه اتقوا معاصيه.

وقيل: " اتقوا عذابه بترك معاصيه " لعلكم تفلحون "، لكي تنجحوا بادراك ما تأملونه، وتفوزوا بثواب الجنة، لان (لعل) وان كان للشك، فان ذلك لايجوز على الله تعالى. وقد بينا لذلك نظائر فيما مضى.

قوله تعالى: واتقوا النار التي اعدت للكافرين(131) واطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون(132)

آيتان بلا خلاف.

المعنى: فان قيل كيف قال " واتقوا النار التي أعدت للكافرين " وعندكم يجوز أن يدخلها الفساق أيضا. وعند المعتزلة كلهم يدخلها الفساق قطعا.

وهلا قال: أعدت للجميع؟ قلنا أما على ما نذهب إليه، ففائدة ذلك اعلامنا أنها أعدت للكافرين قطعا. وذلك غير حاصل في الفساق، لانا نجوز العفو عنهم.

ومن قال أعدت للفساق قال اضيفت إلى الكافرين، لانهم أحق بها. وإن كان الجميع يستحقونها، لان الكفر أعظم المعاصي فاعدت النار للكافرين. ويكون غيرهم من الفساق تبعا لهم في دخولها.

فان قيل: فعلى هذا هل يجوز أن يقال: ان النار أعدت لغير الكافرين من الفاسقين؟ قلنا عن ذلك أجوبة: أحدها - قال الحسن يجوز ذلك، لانه من الخاص الذي معه دلالة على العام، كما قال: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم "(1) وليس كل من دخل النار كفر بعد إيمانه.

[589]

ومثله قوله: " كلما القي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير "(2) وليس كل الكفار يقول ذلك.

ومنه قوله: " فكبكبوا فيهاهم والغاوون وجنود ابليس أجمعون.

قالوا وهم فيها يختصمون تالله ان كنا لفي ضلال مبين اذ نسويكم برب العالمين "(3) وليس كل الكفار سووا الشياطين برب العالمين.

والثاني - أنه لا يقال أعدت لغيرهم من الفاسقين، لان اعدادها للكافرين من حيث كان عقابهم هو المعتمد وعقاب الاخرين له تبع، كما قال: " وجنة عرضها السماوات والارض أعدت للمتقين "(4) ولا خلاف أنه يدخلها الاطفال والمجانين إلا أنهم تبع للمتقين، لانه لولاهم لم يدخلوها. ولا يقال: إن الجنة أعدت لغير المتقين.

الثالث - أن تكون هذه النار نارا مخصوصة فيها الكفار خاصة دون الفساق وان كان هناك نار أخرى يدخلها الفساق، كما قال: " لا يصلاها إلا الاشقى الذي كذب وتولى "(5) وكما قال: " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار "(6) وهذا قول أبي علي.

واستدل البلخي بهذه الاية على أن الربا كبيرة، لان تقديره " واتقوا النار التي أعدت للكافرين " ان يأكلوا الربا، فيستحقونها.

والاجماع حاصل على أن الربا كبيرة، فلا يحتاج إلى هذا التأويل، لان الاية يكمن أن يقول قائل: إنها بمعنى الزجر والتحذير عن الكفر، فقط وقوله: " أعدت " فالاعداد هو تقديم عمل الشئ لغيره مما هو متأخر عنه وقد قدم فعل النار ليصلاها الكفار. والاعداد والايجاد والتهيئة والتقدمة متقاربة المعنى.

وقوله: " واطيعوا الله والرسول ": أمر بالطاعة لله ورسوله. والوجه في الامر بالطاعة لله ورسوله مع إن العقل دال عليه يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون ذلك تأكيدا لما في العقل، كما وردت نظائره، كقوله:

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 106.

(2) سورة الملك آية: 8.

(3) سورة الشعراء آية: 94 - 98.

(4) سورة آل عمران آية: 133.

(5) سورة الليل: 15 - 16.

(6) سورة النساء آية: 144.

[590]

" ليس كمثله شئ "(1) " ولا تدركه الابصار "(2) وغير ذلك.

والثاني - لا تصاله بأمر الربا الذي لاتجب الطاعة فيه إلا بالسمع، لانه ليس مما يجب تحريمه عقلا كما يجب تحريم الظلم بالعقل.

فان قيل: إذا كانت طاعة الرسول طاعة الله فما وجه التكرار؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما - المقصود بها طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة الله تعالى. الثاني - ليعلم أن من أطاعه فيما دعا إليه كمن أطاع الله، فيسارع إلى ذلك بأمر الله. والطاعة موافقة الارادة الداعية إلى الفعل بطريق الرغبة، والرهبة. ولذلك صح أن يجيب الله تعالى عبده، وان لم يصح منه أن يطيعه، لان الاجابة إنما هي موافقة الارادة مع القصد إلى موافقتها على حد ما وقعت من المريد.

وقوله: " لعلكم ترحمون " يحتمل أمرين: أحدهما - لترحموا. وقد بينا لذلك نظائر.

والثاني - ان معناه ينبغي للعباد أن يعملوا بطاعة الله على الرجاء للرحمة بدخول الجنة، لئلا يزلوا فيستحقوا الاحباط والعقوبة أو يوقعوها على وجه لا يستحق به الثواب، بل يستحق به العقاب.

وفيها معنى الشك، لكنه للعباد دون الله تعالى.

النظم: وقيل في وجه اتصل هذه الاية بما قبلها قولان: أحدهما - لاتصال الامر بالطاعة بالنهي عن أكل " الربا أضعافا مضاعفة " كأنه قال وأطيعوا الله فيما نهاكم عنه من أكل الربا، وغيره لتكونوا على سبيل الهدى.

الثاني - قال ابن اسحاق: انه معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وآله، بما أمرهم به يوم أحد: من لزوم مراكزهم، فخالفوا واشتغلوا بالغنيمة إلا

___________________________________

(1) سورة الشورى آية: 11.

(2) سورة الانعام آية 103.

[591]

طائفة منهم قتلوا. وكان ذلك سبب هزيمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.

قوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والارض اعدت للمتقين(133)

آية.

قرأ نافع وابن عامر " سارعوا " بلا واو، والباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام بلا واو.

وفي مصاحف أهل العراق بالواو، والمعنى واحد، وإنما الفرق بينهما استئناف الكلام إذا كان بلا واو، ووصلها بما تقدم إذا قرئ بواو، لانه يكون عطفا على ما تقدم.

وفي هذه الاية الامر بالمبادرة إلى مغفرة الله باجتناب معصيته وإلى الجنة التي عرضها السماوات والارض بفعل طاعته.

واختلفوا في قوله " عرضها السماوات والارض " فقال ابن عباس، الحسن: معناه عرضها كعرض السماوات السبع، والارضين السبع إذا ضم بعض ذلك إلى بعض، واختاره الجبائي، والبلخي.

وإنما ذكر العرض بالعظم دون الطول، لانه يدل على أن الطول أعظم، وليس كذلك لو ذكر الطول بدلا من العرض.

ومثل الاية قوله: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة "(1) ومعناه إلا كبعث نفس واحدة.

وقال الشاعر:

كأن عذيرهم بجنوب سلى *** نعام قاق في بلد قفار(2)

أي عذير نعام وقال آخر:

___________________________________

(1) سورة لقمان آية: 28.

(2) قائله شفيق بن جزء بن زياح الباهلي وقد نسبه بعضهم لاعشي باهلة. ونسب أيضا للنابغة خطا.

اللسان (فوق) (سلل)، ومعجم البلدان (سلى)، والكامل للمبرد 2: 196 وكان شفيق قد اغار على بني ضبة بروضة سلى، وروضة ساجر فهزم أهلهما. وهما روضتان لعكل.

وضبة وعدي وتيم وعكل حلفاء.

متجاورون فلما هزموا قال بهم شفيق أبيات منها هذا البيت.

والعذير: الحال المقاقات صوت الطائر اذ كان مذعورا والقفار: المكان الذي ليس به انس كأنه يقول هزمناهم شر هزيمة وكانت حالهم مثل حال الطائر الذي في أرض قفرة اذا أتاه الصياد.

[592]

حسبت بغام راحلتي عناقا *** وما هي ويب غيرك بالعناق(1)

أي صوت عناق.

وقال أبومسلم: معناه: ثمنها لو بيعت كثمن السماوات والارض لو بيعا. كما يقال عرضت هذا المتاع للبيع.

والمراد بذلك عظم مقدارها، وجلالة قدرها، وانه لا؟ شئ وإن عظم، وهذا مليح غير أن فيه تعسفا شديدا.

فان قيل إذا كانت الجنة عرضها السماوات والارض فأين تكون النار؟ !

الجواب أنه روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه لما سئل عن ذلك، فقال: (سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل) وهذه معارضة فيها إسقاط المسألة، لان القادر على أن يذهب بالليل حيث شاء قادر على أن يذهب بالنهار حيث شاء وروي أنه سئل عن ذلك ابن عباس، وغيره من الصحابة، فان قيل فان الجنة في السماء، فكيف يكون لها هذا العرض؟ قيل له يزاد فيها يوم القيامة.

ذكره أبوبكر أحمد بن علي على تسليم انها في السماء ويجوز أن تكون الجنة مخلوقة في غير السماوات والارض.

وفي الناس من قال: ان الجنة والنار ما خلقتا بعد وإنما بخلقهما الله على ما وصفه.

وقال البلخي المراد بذلك وصفها بالسعة والعظم، كما يقول القائل في دار واسعة هذه دنيا وغرضه بذلك وصفه لها بالكبر.

وقوله: " اعدت للمتقين " معنى المتقين المطيعين لله ورسوله لاجتنابهم المعاصي وفعلهم الطاعات. ويجوز لاحتجازهم بالطاعة من العقوبة. وإنما أضيفت إلى المتقين، لانهم المقصودون بها، وان دخلها الاطفال، والمجانين، فعلى وجه التبع، وكذلك حكم الفساق لو عفي عنهم.

وفيمن تكلم في أصول الفقه من استدل بقوله: " وسارعوا إلى مغفرة " على أن الامر يقتضي الفور دون التراخي، لانه تعالى أمر بالمسارعة والمبادرة إلى مغفرة وذلك يقتضي التعجيل.

ومن خالف في تلك، قال: المسارعة إلى ما يقتضي

___________________________________

(1) قائله ذو الخرق الطهوري أو الطهوي انظر الاختلاف في اسمه في؟ والمختلف 119، وخزانة الادب 1: 20، 21 ونوادر أبي زيد: 116، ومعاني القرآن للفراء 1: 61 - 62، واللسان (ويب)، (عنق)، (عقا)، (بغم) وغيرها وهو من أبيات يقولها لذئب قد تبعه في طريقه والعناق هي انثى المعز والبغام صوت الظبية أو الناقة واستعاره هنا للمعز

[593]

الغفران واجبة وهي التوبة، ووجوبها على الفور. فمن أين أن جميع المأمورات كذلك.

قوله تعالى: الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين(134)

آية.

المعنى: " الذين " في موضع الجر، لانه صفة المتقين، فذكر الله صفاتهم التي تعلو بها درجاتهم منها: أنهم يتقون عذاب الله بفعل طاعته، والانتهاء عن معصيته. وانهم ينفقون في السراء، والضراء وقد بينا فيما تقدم معنى الانفاق. وقيل في معنى السراء والضراء.

قولان: أحدهما - قال ابن عباس في اليسر، والعسر، فكأنه قال في السراء بكثرة المال، والضراء بقلته. الثاني - في حال السرور، وحال الاغتمام. أي لا يقطعهم شئ من ذلك عن انفاقه في وجوه البر، فيدخل فيه اليسر والعسر. وإنما خصا بالذكر في التأويل الاول، لان السرور بالمال يدعو إلى الظن به. كما يدعو ضيقه إلى التمسك به خوف الفقر، لانفاقه.

وقوله تعالى: " والكاظمين الغيظ " أي المتجر عين له، فلا ينتقمون ممن يدخل عليهم الضرر بل يصبرون على ذلك، ويتجرعونه.

اللغة: وأصل الكظم شد رأس القربة عن ملئها.

تقول: كظمت القربة إذا ملاتها ماء ثم شددت رأسها.

وفلان كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا حزنا.

ومنه قوله: " وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم "(1) أي ممتلئ حزنا. وكذلك إذا

___________________________________

(1) سورة يوسف آية: 74.

[594]

امتلا غضبا لم ينتقم، وكظم البعير، والناقة إذا لم تجر.

والكظامة القناة التي تجري تحت الارض، وسميت بذلك، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة.

ويقال: أخذ بكظمه أي بمجرى نفسه، لانه موضع الامتلاء بالنفس.

وكظامة الميزان المسمار الذي يدور فيه اللسان، لانه يشده ويعتمد عليه.

والفرق بين الغيظ، والغضب أن الغضب ضد الرضا، وهو ارادة العقاب المستحق بالمعاصي، ولعنه.

وليس كذلك الغيظ، لانه هيجان الطبع بكره ما يكون من المعاصي، ولذلك يقال غضب الله على الكفار، ولايقال اغتاظ منهم.

المعنى: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (ما من جرعة يتجرعها الرجل أو الانسان أعظم أجرا من جرعة غيظ في الله) وفي الاية دلالة على جواز العفو عن المعاصي وإن لم يتب، لانها دلت على الترغيب في العفو من غير ايجاب له باجماع المسلمين.

وقوله " والله يحب المحسنين " معناه يريد اثابتهم وتنعيمهم.

والمحسن يحتمل أمرين: أحدهما - من هو منعم على غيره على وجه عار من وجوه القبح. ويحتمل أن يكون مشتقا من الافعال الحسنة التي منها الاحسان إلى الغير، وغير ذلك من وجوه الطاعات والقربات.

قوله تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون(135)

آية بلا خلاف.

الاعراب: قوله: " والذين " يحتمل أن يكون موضعه جرا بالعطف على المتقين،

[595]

فيكون من صفتهم ما تضمنه على قول الحسن، ويحتمل أن يكون رفعا على الاستئناف، ويكون عطف جملة على جملة، فيكون من صفة فرقة غير الاولى، ويجوز أن يرجع إلى الاولى في الموضع على المدح.

المعنى: وقوله: " إذا فعلوا فاحشة " يحتمل أن يكون أراد غير الظلم، ولذلك عطف عليه بقوله: " أو ظلموا أنفسهم " حتى لا يكون تكرارا.

وقال الرماني: أراد بالفاحشة الكبيرة، وب‍ " ظلموا أنفسهم " الصغيرة.

وقال مجاهد: هما ذنبان وأصل الفاحشة الفحش، وهو الخروج إلى عظم القبح في العقل أو رأي العين فيه. وكذلك قيل للطويل المفرط أنه الفاحش الطول، وأفحش فلان في كلامه إذا أفصح بذكر الفحش.

وقال جابر والسدي: الفاحشة ههنا: الزنا أو ما جرى مجراه من الكبير.

وقوله: " ذكروا الله " في معناه قولان: أحدهما - ذكروا وعيد الله، فيكون من الذكر بعد النسيان. والمدح على أنهم تعرضوا للذكر. والاخر - انهم ذكروا الله بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، فانا تبنا، نادمين عليها مقلعين عنهاوقال ابن مسعود، وعطا ابن ابي رياح: كانت بنو اسرائيل إذا أذنب الواحد منهم ذنبا أصبح مكتوبا على بابه كفارة ذنبك اجدع اذنك اجدع انفك، فسهل الله ذلك على هذه الامة بأن جعل توبتها الاستغفار بدلا منه منة منه تعالى.

وقوله: (ومن يغفر الذنوب إلا الله) الرفع محمول على المعنى.

وتقديره: وهل يغفر الذنوب إلا الله أو هل رئي أحد يغفر الذنوب إلا الله.

فان قيل: كيف قال: " ومن يغفر الذنوب إلا الله " وقد يغفر بعضنا لبعض اساء‌ته إليه؟ قلنا عنه جوابان: أحدهما - أنه أراد بذلك غفران الكبائر العظام، لان الاساء‌ة من بعضنا لبعض صغيرة بالاضافة إلى ما يستحق من جهتة. والثاني - أنه لايغفر الذنب الذي يستحق عليه العقاب إلا الله تعالى.

[596]

وقوله: (ولم يصروا على ما فعلوا) فالاصرار هو المقام على الذنب من غير اقلاع منه بالتوبة في قول قتادة.

وقال الحسن: هو فعل الذنب من غير توبة والاول أقوى، لانه نقيض التوبة. وأصله الشد من الصرة والصر شدة البرد، والاصرار إنما هو ارتباط الذنب بالاقامة عليه. وما قاله الحسن هو في حكم الاصرار.

وقوله: " وهم يعلمون " ههنا يحتمل أمرين: أحدهما - وهم يعلمون الخطيئة ذاكرين لها غير ساهين، ولا ناسين. قال الجبائي، والله عزوجل يغفر للعبد ما نسيه من ذنوبه، وان لم يتب منه بعينه، كما يغفر له ما تاب منه، لانه قد فعل في حال النسيان جميع ما عليه. والثاني - وهم يعلمون الحجة في أنها خطيئة.

وأما من اجتهد في الاحكام فأخطأ على مذهب من يقول بالاجتهاد، فلا اثم عليه، وكذلك من تزوج بذات محرم من الرضاع أو النسب وهو لايعلم، أو غير ذلك، فلا إثم عليه بلا خلاف لانه لم يعلم ذلك، فاقدم عليه، ولا يلزم عليه ذلك أن يكون الكافر معذورا بكفره إذا لم يعلمه قبيحا، لان الكافر له طريق إلى العلم به، وكذلك نقول: إن من أسلم في دار الحرب، وخرج فاستحل في طريقه الخمر أو لحم الخنزير قبل أن يعلم تحريمها من الشرع، فلا اثم عليه، لانه في تلك الحال لا طريق له إلى العلم بقبحه.

قوله تعالى: أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين(136)

آية واحدة.

قوله: " أولئك " اشارة إلى من تقدم وصفهم من المتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، ويكظمون الغيظ، ويعفون عن الناس، " وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم "، فقال هؤلاء: " لهم جنات

[597]

تجري من تحتها الانهار خالدين فيها " وقد مضى تفسير ذلك أجمع فيما مضى ثم قال: " ونعم أجر العاملين " يعني ما وصفه من الجنات وأنواع الثواب، والغفرة بستر الذنب حتى تصير كأنها لم تعمل في زوال العار بها والعقوبة بها، والله تعالى متفضل بذلك لانا بينا أن اسقاط العذاب(1) عند التوبة تفضل منه تعالى، فأما استحقاق الثواب بالتوبة فواجب عقلا لا محالة، لانه لو لم يكن مستحقا لذلك لقبح تكليفه التوبة لما فيها من المشقة والكلفة.

قوله تعالى: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين(137)

آية.

المعنى: معنى قوله: " قد خلت من قبلكم سنن " أي سنن من الله تعالى في الامم السالفة ذ(2) كذبوا رسله وجحدوا نبوتهم بالاستئصال، والاجتياح، كعاد، وثمود، وقوم صالح، وقوم لوط الذين أهلكهم الله بأنواع العذاب من الاستئصال(3) فبقيت(4) لهم آثار في الديار فيها أعظم الاعتبار والاتعاظ - على قول الحسن، وابن اسحاق - فأمر الله أن يسيروا في الارض، ويتعرفوا أخبارهم، وما نزل بهم ليتعظوا بذلك، وينتهوا عن مثل ما فعلوه.

وقال الزجاج: معناه " قد خلت من قبلكم " أهل " سنن " في الشر.

اللغة والمعنى: والسنة: الطريقة المجعولة ليقتدى بها، فمن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وآله.

___________________________________

(1) في المخطوطة (أ): العقاب.

(2) في المطبوعة ومخطوطة (أ): (اذا).

(3) في المخطوطة (أ) ساقط سطر من هذا الموضع.

(4) في المطبوعة (وبقيت).

[598]

وقال لبيد:

من معشر سنت لهم آباؤهم *** ولكل قوم سنة وإمامها(1)

وقال سليمان بن قتة:(2)

وإن الالى بالطف من آل هاشم *** نأسوا فسنوا للكرام التأسيا(3)

سنة الله عزوجل الاهلاك للامم الضالة بهذه المنزلة.

وأصل السنة الاستمرار في جهة.

سن الماء سنا: إذا صبه حتى يفيض من الاناء.

وسنه بالمسن إذا أمره عليه لتحديده.

وفلان مسنون الوجه أي مستطيلة.

وقوله: " من حمأ مسنون " قيل معناه متغير، لاستمرار الزمان به حتى تغير.

ومنه السن واحد الاسنان، لاستمرارها على منهاج.

والسنان، لاستمرار الطعن به.

والسنن استمرار الطريق.

والخلو: الانفراد، فمنه الخلاء، لانفراد المكان.

ومنه التخلية لانفراد الشئ بها عن صاحبه.

ومنه الخلية من النوق التي خلا ولدها بذبح أو موت، لانفرادها عنه.

والخلية من السفن التي تخلى تسير في نفسها.

ومنه الخلا مقصور: الحشيش اختليته إذا قطعته، لانفراد بالقطع.

ومنه المخلاة.

ومن ذلك المخالاة المخادعة، لانفراد صاحبها بمن يخاليه يوهمه التخصص به، فمعنى " خلت " انفردت بالهلاك دون من بقي.

وقوله: (فانظر كيف كان عاقبة) فالعاقبة هو ما يؤدي إليها السبب المتقدم، وليس كذلك الاخرة، لانه قد كان يمكن أن تجعل هي الاولى في العدة للمكذبين يريد به الجاحدين البعث، والنشور، والثواب، والعقاب الدافعين لمن يخبر بذلك بالرد بالتكذيب، فجازاهم الله تعالى في الدنيا بعذاب الاستئصال، ولهم في الاخرة عظيم النكال.

___________________________________

(1) البيت من معلقته الشهيرة البارعة يذكر بها قومه وفضلهم.

يقول: هذه الصفات الحميدة - التي تقدم وصفها - هي سنة آبائهم..

(2) (قتة) أمه وهو مولى لتيم قريش، وهو من التابعين.

وزعم بعضهم أنه (سليمان) ابن ضبيب المحارمي) وهو خطأ.

(3) تاريخ الطبري 7: 184، وانساب الاشراف 5: 339 وأمالي الشجري 1: 131، واللسان (أمي) وغيرها. وهذا البيت أنشده مصعب بن الزبير قبل مقتله

[599]

وقوله تعالى: هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين(138)

آية اجماعا.

قال الحسن وقتادة: قوله: " هذا " إشارة إلى القرآن، ووصفه بأنه بيان، لانه دلالة للناس، وحجة لهم، والبيان هو الدلالة.

وقال ابن اسحاق هو إشارة إلى ما تقدم ذكره في قوله: " قد خلت من قبلكم سنن.. " الاية أي هذا الذي عرفتكم بيان للناس، وهو اختيار البلخي، والطبري.

والفرق بين البيان، والهدى - على ما قاله الرماني - أن البيان إظهار المعنى للنفس كائنا ما كان.

والهدى: بيان لطريق الرشد، ليسلك دون طريق الغي.

والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك، بما فيه من الزجر عن القبيح، والدعاء إلى الجميل.

وقيل الموعظة: هو ما يدعوا(1) بالرغبة، والرهبة إلى الحسنة بدلا من السيئة.

والهدى المذكور في الاية يحتمل معنيين: أحدهما - أن يكون عبارة عن اللطف الذي يدعوا إلى فعل الطاعة بدلا من المعصية، لانه بمنزلة الارشاد. والاخر - الدلالة على طريق الرشد. وإنما أضيف إلى المتقين، وان كان هدى لجميع المكلفين، لانهم المنتفعون به دون غيرهم.

ولايجوز ان يقال: القرآن هدى وموعظة للفاجرين إلا بتفسير وبيان، لان في(2) ذلك إيهاما، لانتفاعهم به فان قيد بأنه دلالة لهم وداع لهم إلى فعل الطاعة، وذكر ما يزيل الايهام كان جائزا. وينبغي أن يتبع في ذلك ما ورد به القرآن.

___________________________________

(1) في المخطوطة أ (بالموعظة ما يدعو) باسقاط هو(2) في المخطوطة (أ) لان ذلك باسقاط في.

[600]

قوله تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الا علون إن كنتم مؤمنين(139) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الايام ندوالها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين(140)

آيتان.

القراء‌ة، واللغة: قرأ أهل الكوفة إلا حفصا " قرح " بضم القاف. والباقون بفتحها.

والفرق بينهما أن القرح - بفتح القاف - الجراح، والقرح - بالضم - ألم الجراح على قول أكثر المفسرين.

وقيل هما لغتان.

المعنى، والنزول: وقال ابن عباس، والحسن، والربيع: القرح ما أصاب المسلمين يوم أحد وأصاب المشركين يوم بدر.

وقال الزهري، وقتادة، وابن أبي نجيح: هذه الاية نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل، والجراح، وكان سبب نزول الاية ما قدمنا ذكره من أن الله تعالى أراد أن يرعب الكفار، فأمر المسلمين أن يتبعوا المشركين على ما بهم من الجراح، والالم وحثهم على ذلك ونهاهم عن الوهن والحزن، ووعدهم بأنهم الاعلون إن تمسكوا بالايمان، لان المشركين كانوا هموا بالعود إلى المدينة، والغارة فيها، فلما بلغهم عزيمة المسلمين على تتبعهم خافوهم.

وقال بعضهم لبعض يوشك أن يكون انضم إليهم من كان قعد عنهم، وأعانهم أحلافهم من بني قريظة، والنضير فدسوا نعيم بن مسعود الاشجعي وبذلوا له عشر قلائص على أن يثبط المسلمين عن تتبعهم، ويقول: إنهم تجمعوا وانضم إليهم حلفلؤهم، وهم يريدونكم ولا طاقة لكم بهم، وأسرعوا المسير إلى مكة فأوحى الله بذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وأعلمه ما قالوا لنعيم، فلما قال لهم ما قال، قال المسلمون: " حسبنا الله ونعم الوكيل " وفيهم نزلت الاية(1) " الذين قال لهم الناس ان

___________________________________

(1) في المخطوعة (أ) زيادة: وهي قوله تعالى.

[601]

الناس قد جمعوا لكم " إلى قوله: " والله ذو فضل عظيم "(1) وما بعده.

وإنما قال: " إن كنتم مؤمنين " مع أنهم كانوا مؤمنين للبيان عن ان الايمان يوجب تلك الحال، وتقديره إن من كان مؤمنا يجب عليه ألا يهن ولا يحزن، لثقته بالله. يحتمل أيضا أن يكون معناه إن كنتم مصدقين بوعدي لكم بنصرتي إياكم حتى تستعلوا على عدوكم، وتظفروا بهم.

اللغة، والاعراب، والمعنى: والوهن الضعف، وهن يهن وهنا، فهو واهن: إذا ضعف.

وأوهنه يوهنه ايهانا.

وتوهن توهنا، ووهنه توهينا.

والوهن: ساعة تمضي من الليل.

والواهن عرق مستبطن حبل العاتق إلى الكتف.

وقوله: (وأنتم الاعلون) جملة في موضع الحال، كأنه قال لا تحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم، ويحتمل أن لا يكون لها موضع من الاعراب، لانها اعتراض بوعد مؤكد، وتقديره " ولا تهنوا ولاتحزنوا " " إن كنتم مؤمنين " " وأنتم " مع ذلك " الاعلون ".

وأصل الاعلون الاعلوون، فحذفت احدى الواوين استثقالا، وهي الاصلية وبقيت واو الجمع، لانها لمعنى.

فأما في التثنية فتقول: إنتما الاعليان، فتقلب الواو ياء، ولاتحذفها، لانه ليس هناك ضرورة.

وقوله: " ان يمسسكم " فالمس هو اللمس بعينه، وقيل الفرق بينهما أن اللمس لصوق باحساس والمس لصوق فقط(2) وقال ابن عباس: معناه إن يصبكم(3).

وقوله: (وتلك الايام نداولها بين الناس) قال الحسن، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن اسحاق: يصرفها مرة لفرقة، ومرة عليها، والدولة: الكرة

___________________________________

(1) سورة آل عمران آية: 173.

(2) في المطبوعة الواو ساقطة.

(3) في المخطوطة أن التهكم.

[602]

لفرقة بنيل المحبة. وادال الله فلانا من فلان: إذا جعل الكرة له(1) عليه.

وقال الحجاج: إن الارض ستدال منا كما ادلنا منها، " ونداولها " إنما هو بتخفيف المحنة تارة وتشديدها أخرى بدليل " إن الله لايحب الظالمين " ولو كانت المداولة بالنصر لا محالة، للمؤمنين تارة وللكافرين تارة، لكان محبهم من حيث هو ناصر لهم، والعامل في قوله، وليعلم الله يحتمل أمرين: أحدهما - ان يكون محذوفا يدل عليه أول الكلام، وتقديره وليعلم الله الذين آمنوا نداولها. الثاني - أن يعمل فيه " نداولها " الذي في اللفظ، وتقديره نداولها بين الناس لضروب من التدبير.

" وليعلم الله الذين آمنوا " وخبر ليعلم يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون محذوفا وتقديره " وليعلم الله الذين آمنوا " متميزين بالايمان من غيرهم، ولا يكون على هذا يعلم بمعنى يعرف، لانه ليس المعنى على تعرف الذوات بل المعنى على أن يعلم تميزها بالايمان. والثاني - " وليعلم الله الذين آمنوا " بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي يعاملهم معاملة من يريد أن يعرفهم الله بهذه الحال.

وقال أبوعلي: معناه وليصبروا فعبر عن الصبر بالعلم.

وقال البلخي " وليعلم الله " ايمانكم موجودا أي تفعلونها، فيعلمه الله كذلك.

ومعنى قوله: " ويتخذ منكم شهداء " فيه قولان: أحدهما - قال الحسن، وقتادة، وابن اسحاق، ليكرم بالشهادة من قتل يوم أحد. الثاني - ويتخذ منكم شهداء على الناس بما يكون منهم من العصيان، لما لكم فيه من التعظيم، والتبجيل - هذا قول البلخي والجبائي - والاول أقوى لانه في ذكر القتل، فان قيل لم جعل الله مداولة الايامم بين الناس، وهلا كانت ابدا لاولياء الله دون أعدائه؟ قلنا ذلك تابع للمصلحة، وما تقتضيه الحكمة أن يكونوا تارة في

___________________________________

(1) في المخطوطة (الحكم له).

[603]

شدة وتارة في رخاء‌فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الطاعة، واحتقار الدنيا الفانية المنتقلة من قوم إلى قوم حتى يصير الغني فقيرا، والفقير غنيا، والنبيه خاملا، والخامل نبيها، فتقل حينئذ الرغبة فيها والحرص على جمعها، ويقوي الحرص على غيرها مما نعيمه دائم، وسروره غير منقطع.

وقوله: " والله لا يحب الظالمين "(1) معناه لايريد منافعهم، وعلى مذهبنا ينبغي أن يكون ذلك مخصوصا بالكفار، لانهم إذا كانوا مؤمنين، فلهم ثواب. والله تعالى لابد أن يريد فعل ذلك بهم ويحتمل أن يكون المراد بذلك " لا يحب الظالمين " إذا كانوا مؤمنين محبة خالصة لايشوبها إرادة عقابهم، لان ذلك يختص من لا عقاب عليه.

انتهى المجلد الثاني ويليه المجلد الثالث وأوله: (ولميحص الله الذين آمنوا..)(141)

___________________________________

(1) وقوله ساقطة من المطبوعة

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1221
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19