• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الانفال من ( آية 42 ـ آخر السورة ) .

سورة الانفال من ( آية 42 ـ آخر السورة )

قوله تعالى: إذا أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم(42)

________________________________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 64

[126]

آيتان في المدنيين والبصري وآية واحدة في الكوفي.

قرأ ابن كثير وابوعمرو (بالعدوة) بكسر العين، الباقون بضمها وهما لغتان قال الراعي في الكسر: وعينان حمر مآقيهما * كما نظر العدوة الجؤذر(1) وقال أوس بن حجر في الضم:

وفارس لايحل الحي عدوته *** ولوا سراعا وما هموا باقبال(2)

والعدوة شفير الوادي.

وقال البصريون: الكسر اكثر اللغات.

وقال احمد ابن يحيي: بالضم اكثر.

وقال قوم: هما لغتان سواء، وقرأ نافع وابوبكر عن عاصم وابن كثير في رواية البزي وشبل " حيي " باظهار الياء‌ين.

وقرأ الباقون بالادغام وإنما جاز الادغام في (حيي) للزوم الحركة في الثاني يجري مجرى (ردوا) إذا اخبروا عن جماعة قالوا: حيوا فخففوا وقد جاء مدغما، فقالوا حيوا ومن اختار الاظهار، فلامتناع الادغام في مضارعه من يحيي فجرى على شاكلته قال الزجاج، لان الحرف الثاني ينتقل عن لفظ الياء تقول حيي يحيى فاما احيا يحيي فلايجوز فيه الادغام عند البصريين، لان الثاني إذا سكن في الصحيح من المضاعف في نحو لم يردد كان الاظهار أجود فالمعتل بذلك أولى، لان سكونه ألزم فلذلك وجه الاظهار في (يحيي) لانه أحق من (لم يردد) لان السكون له ألزم وقد أجاز الفراء الادغام في يحيي وانشد بيتا لايعرف شاعره: وكانها بين النساء سبيكة * تمشي بشدة بأنها فتعي(3) تقدير معنى الاية واذكروا أيها المؤمنون " إذ انتم بالعدوة " وهي الجهة التي هي نهاية الشئ من احد جانبيه. ومنه قولهم عدوتا الوادي. وهما شفيراه وجانباه. و (الدنيا) بمعنى الادنى إلى المدينة. و (القصوى) بمعنى الاقصى

___________________________________

(1) تفسير الطبري 13 / 565.

(3) معاني القرآن 1 / 412

[127]

منها إلى جهة مكة، وذلك ان النبي صلى الله عليه واله واصحابه نزلوا بالجانب الادنى إلى المدينة. وقريش نزلت بالجانب الاقصى منها إلى مكة فنزلا الوادي بهذه الصفة، قد اكتنفا شفيريه.

وقوله " والركب اسفل منكم " يعني ابا سفيان واصحابه في موضع اسفل منكم إلى ساحل البحر. وإنما نصب اسفل، لان تقديره بمكان اسفل. فهو في موضع خفض، ونصب لانه لاينصرف وكان يجوز الرفع على تقدير والركب أشد سفلا منكم، ومن نصب يجوز ان يكون اراد والركب مكانا اسفل منكم بجعله ظرفا.

والذي حكيناه، هو قول الحسن، وقتادة، وابن اسحاق ومجاهد والسدي.

واصل الدنيا الدنو بالواو، بدلالة قولهم دنوت إلى الشئ أدنو دنوا، فقلبت الواو ياء. ولم تقلب مثل ذلك في القصوى، لانه ذهب بالدنيا مذهب الاسم في قولهم الدنيا والاخرة، وان كان اصلها صفة، فخففت. لان الاسم احق بالتخفيف. وتقول: ادناه ادناء واستدناه استدناء، وتدانوا تدانيا. وداناه مداناة.

و (العلو) قرار تحته قرار.

و (السفل) قرار فوقه قرار، تقول: سفل يسفل سفلا، وتسفل تسفلا وتسافل تسافلا وسفل تسفيلا، وسافله مسافلة، وهو الاسفل، وهي السفلى.

وقوله " ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد " والمواعدة وعد كل واحد من الاثنين الاخر وتواعدوا تواعدا.

و (الاختلاف) مذهب كل واحد من الشيئين في نقيض الاخر، ومنه الاختلاف في الميعاد لذهاب كل واحد من الفريقين فيما يناقض الميعاد من التقدم والتأخر والزيادة والنقصان عما انعقد به الميعاد.

وقيل: اختلافهم في الميعاد بمعنى " لو تواعدتم " أيها المؤمنون على الاجتماع في الموضع الذي اجتمعتم فيه ثم بلغكم كثرة عددهم مع قلة عددكم لتأخر تم فنقضتم الميعاد، في قول ابن اسحاق.

ووجه آخر " ولو تواعدتم " من غير لطف الله لكم " لا ختلفتم " بالعوائق والقواطع فذكر الميعاد لتأكيد امره في الاتفاق ولو لا

[128]

لطف الله مع ذلك لوقع على الاختلاف كما قال الشاعر: جرت الرياح على محل ديارهم * فكانما كانوا على ميعاد وقوله " ليقضي الله امرا كان مفعولا " معناه ليفصل الله امرا كان مفعولا من عز الاسلام وعلو اهله على عبدة الاوثان وغيرهم من الكفار بحسن تدبيره ولطفه.

وقوله " ليهلك من هلك عن بينة " معناه ليهلك من هلك عن قيام حجة عليه بما رأى من المعجزات الباهرات للنبي صلى الله عليه واله في حروبه وغيرها " ويحيى من حي عن بينة " يعني ليستبصر من استبصر عن قيام حجة، فجعل الله المتبع للحق بمنزلة الحي، وجعل الضال بمنزلة الهالك.

وقوله: " وإن الله لسميع عليم " معناه " سميع " لما يقوله القائل في ذلك " عليم " بما يضمره، فهو يجازيه بحسب ما يكون منه.

قوله تعالى: إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أريكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلّم إنه عليم بذات الصدور(43)

آية.

التقدير واذكر يا محمد " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " والهاء والميم كناية عن الكفار الذين قاتلوه يوم بدر " ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر " وهذه الرؤية كانت في المنام عند اكثر المفسرين. والرؤيا في المنام تصور يتوهم معه الرؤية في اليقظة والرؤيا على اربعة اقسام: رؤيا من الله عزوجل، ولها تأويل ورؤيا من وسوسة الشيطان، ورؤيا من غلبة الاخلاط، ورؤيا من الافكار، وكلها أضغاث أحلام إلا الرؤيا من قبل الله تعالى التي هي إلهام في المنام يتصور به الشئ كأنه يرى في اليقظة.

[129]

ورؤيا النبي صلى الله عليه واله هذه بشارة له، وللمؤمنين بالغلبة وقال الحسن: معنى " في منامك " في عينك التي تنام بها، وليس من الرؤيا في النوم، وهو قول البلخي، وهو بعيد، لانه خلاف الظاهر من مفهوم الكلام.

قال الرماني: ويجوز أن يريه الله الشئ في المنام على خلاف ما هو به، لان الرؤيا في المنام يخيل له المعنى من غير قطع وإن جاء معه تطلع من الانسان على المعنى وإنما ذلك على مثل تخييل السراب ماء من غير تطلع على أنه ماء، فهذا يجوز ان يفعله الله. ولايجوز ان يلهمه إعتقاد الشئ على خلاف ما هو به. لان ذلك يكون جهلا، ولايجوز أن يفعله الله تعالى. والنوم ضرب من السهو يزول معه معظم الحس، تقول نام ينام نوما ونومه تنويما وأنامه إنامة وتناوم تناوما واستنام استنامة.

و (المنام) موضع النوم والمضطجع موضع الاضطجاع.

و (القلة) نقصان عن عدد، كما أن الكثرة زيادة على عدد يقال: قل يقل قلة وقلله تقليلا، واستقل استقلالا وتقلل تقللا. والشئ يكون قليلا بالاضافة إلى ماهو اكثر منه.

ويكون كثيرا بالاضافة إلى ما هو أقل منه. وأقله إقلالا إذا أطاقه فصادفه قليلا في طاقته، فهو مشتق من هذا واستقل من المرض إذا قوي قوة يزول بها المرض اي وجده قليلا في قوته لايعتد به.

وقوله " لفشلتم " فالفشل ضعف الوجل لان الضعف قد يكون لمرض من غير فزع وقد يكون من فزع. فالفشل إنما هو الضعف عن فزع. وفشل يفشل فشلا فهو فاشل، وفشله تفشيلا: إذا نسبه إلى الفشل، وتفاشلوا تفاشلا.

وقوله " ولتنازعتم " فالتنازع الاختلاف الذي يحاول كل واحد منهم نزع صاحبه مما هو عليه تنازعوا تنازعا، ونازعه منازعة ونزع عن الامر ينزع نزوعا، واستنزعه إذا طلب نزوعه. وانتزعه إذا اقتلعه عن مكانه.

وقوله " ولكن الله سلم " فالسلامة النجاة من الافة. سلم يسلم سلامة وأسلمه

[130]

إسلاما إذا دفعه على السلامة، وأسلم الانسان إذا دخل في السلامة من جهة الدين وسلمه تسليما إذا نجاه.

واستسلم استسلاما اذا سلم نفسه للامر، وتسلم تسلما إذا طلب السلامة، واستلم الحجر إذا طلب لمسه على السلامة وسالمه مسالمة، وتسالما تسالما.

وقوله " إنه عليم بذات الصدور " فالصدر الموضع الاجل لكون القلب فيه. وصدر المجلس أجله، لانه موضع الرئيس، وصدر الدار مشبه بصدر الانسان لانه المستقبل منه كاستقباله من الانسان يقال صدر يصدر صدورا واصدره اصدارا وتصدر تصدرا وصدره تصديرا وصادره مصادرة، وتصادروا تصادرا.

ففائدة الاية إن الله لطف للؤمنين بما لو لم يكن لفشلوا ولاضطرف امرهم واختلفت كلمتهم.

ولكن سلمهم الله من ذلك بلطفه لهم واحسانه بهم حتى بلغوا ما ارادوه من عدوهم.

قوله تعالى: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الامور(44)

آية

التقدير اذكروا أيها المؤمنون إذ يريكموهم، فالهاه والميم كناية عن المشركين، والكاف والميم كناية عن المؤمنين، أرى الله تعالى الكفار قليلين في أعين المؤمنين ليشتد بذلك طمعهم فيهم وجرأتهم عليهم، وقلل المؤمنين في أعين الكفار لئلا يتأهبوا ولايستعدوا لقتالهم ولايكترثوا بهم ويظفر بهم المؤمنون. والمراد بالرؤية ههنا الرؤية بالبصر، وهو الادراك بحاسة البصر والرائي هو المدرك. والعين حاسة يدرك بها البصر، والعين مشتركة، فمنها عين الماء، وعين الميزان، وعين الركبة، وعين الذهب، والعين النفس، والالتقاء اجتماع الاتصال، لان الاجتماع

[131]

على وجهين: اجتماع الاتصال واجتماع في معنى من غير اتصال كاجتماع القوم في الدار، وان لم يكن هناك اتصال. ويقال للعسكرين إذا تصافا التقيا لوقوع العين على العين.

فان قيل كيف قللهم الله في أعينهم مع رؤيتهم لهم؟ قلنا: بأنه يتخيلوهم بأعينهم قليلا من غير رؤية على الصحة لجميعهم وذلك بلطف من ألطافه تعالى مما يصد به عن الرؤية من قتام يستر بعضهم ولا يستر بعضا آخر.

وروي عن ابن مسعود انه قال رأيناهم قليلا حتى قلت لمن كان إلى جانبي أتراهم سبعين رجلا؟ فقال لي هم نحو المئة. فلما اسرنا رجلا منهم سألناه كم كانوا، فقال ألفا.

وقوله " ليقصي الله امرا كان مفعولا " إنما كرره في هذه الاية مع ذكره في الاية الاولى، لاختلاف الفائدة، فمعناه في الاية الاولى " ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد. ولكن ليقضي الله امرا كان مفعولا " من الالتقاء على الصفة التي حصلتم عليها. ومعناه في الثانية يقلل كل فريق في عين صاحبه " ليقضي الله امرا كان مفعولا " من اعزاز الدين بجهادكم على ما دبره لكم. وإنما قال " كان مفعولا " والمعنى يكون مفعولا في المستقبل لتحقيق كونه لامحالة حتى صار بمنزلة ما قد كان إذ قدم علم الله انه كائن لامحالة.

وقوله تعالى " والى الله ترجع الامور " اي ترجع الامور إلى ملكه وتدبيره خاصة، ويزول ملك كل من ملكه في دار الدنيا.

قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون(45)

آية بلا خلاف.

[132]

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين خاصة يأمرهم بأنهم اذا لقوا جماعة من الكفار لحربهم أن يثبتوا ويذكروا الله كثيرا، ويستنصروه عليهم لكي يفلحوا ويفوزوا بالظفر بهم، وبالثواب عند الله يوم القيامة. وقد بينا ان معنى الايمان هو التصديق بما أوجبه الله على المكلفين أو ندبهم اليه. والفئة الجماعة المنقطعة من غيرها وأصله من فأوت رأسه بالسيف اذا قطعته. والثبوت حصول الشئ في المكان على استمرار، يقال لمن استمر على صفة: قد ثبت كثبوت الطين. والذكر ضد السهو، وقد يكون الذكر القول من غير سهو.

والفئة المذكورة في الاية وان كانت مطلقة، فالمراد بها المشركة او الباغية، لان الله لايأمر المؤمنين بالثبوت لقتال احد الا من هو بهذه الصفة، ولا يأمر بقتال المؤمنين.

قوله تعالى: وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين(46)

آية.

أمر الله تعالى هؤلاء المؤمنين الذين ذكرهم بأن يطيعوا الله ورسوله، ولا يختلفوا فيضعفوا عن الحرب. والعامل في " فتفشلوا " الفاء التي هي بدل من (أن) على معنى جواب النهي كقولك لا تأت زيدا فيهينك، ولذلك عطف بالنصب في قوله " وتذهب ريحكم " عليه.

وقوله " وتذهب ريحكم " معناه كالمثل أي ان لكم ريحا تنصرون بها يقال ذهب ريح فلان اي كان يجري في امره على السعادة بريح تحمله اليها، فلما ذهبت وقف امره، فهذه بلاغة حسنة.

وقيل: المعنى ريح النصرة التي يبعثها الله مع من ينصره على من يخذله، في قول قتادة وابن زيد.

وقيل: تذهب دولتكم، من قولهم ذهب ريحه، أي ذهبت دولته. في قول ابي عبيدة وابي علي.

[133]

وقال عبيد ابن الابرص: كما حميناك يوم النعف من شطب * والفضل للقوم من ريح ومن عدد(1) اي من ريح عز ومن عدد.

وقال أبوجعفر عليه السلام: هذه الاية نزلت حين أشار خباب بن المنذر على النبي صلى الله عليه واله ان ينتقل من مكانه حتى ينزلوا على الماء ويجيؤهم من خلفهم، فقال بعضهم لاتنغفر معصاتك يا رسول الله. فتنازعوا، فنزلت الاية وعمل النبي صلى الله عليه واله على قول خباب.

قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط(47)

آية.

نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الاية ان يكونوا مثل " الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " وهم قريش، لما خرجت لتحمي العير، فلما نجا ابو سفيان ارسل اليهم ان ارجعوا، فقد سلمت عيركم وهم بالجحفة: فقال أبوجهل والله لانرجع حتى نرد بدرا وننحر جزرا، ونشرب خمرا وتعزف علينا القيان ويرانا من غشينا من اهل الحجاز، ذكره ابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وابن اسحاق.

والبطر الخروج عن موجب النعمة - من شكرها، والقيام بحقها - إلى خلافه.

وأصله الشق فمنه البيطار الذي يشق اللحم بالمبضع، وبطر الانسان بطرا وابطره كثرة النعمة عليه إبطارا وبطره تبطيرا.

والرئاء اظهار الجميل مع ابطان القبيح تقول: راء‌ى يرائي مراء‌اة ورياء.

والمرائي رجل سوء لما بينا.

والنفاق اظهار الايمان مع ابطان الكفر.

والصد المنع.

وقيل هو جعل ما يدعو إلى الاعراض

___________________________________

(1) ديوانه: 49 والطبري 13 / 575 واعجاز القرآن للباقلاني: 131 و (النعف) ما انحدر من حزونة الجبل و (شطب) اسم جبل.

[134]

فهؤلاء يصدون عن سبيل الله بما يدعون الناس إلى الاعراض عنها من معادات اهلها وقتالهم عليها وتكذيبهم بما جاء به الداعي اليها. والفرق بين الصد والمنع أن المنع ما يتعذر معه الفعل والصد ما يدعو إلى ترك الفعل.

وقوله " والله بما تعملون محيط " معناه يحتمل أمرين: احدهما - انه يحيط علمه بما يعملونه. الثاني - انه قادر على جزاء ما يعملونه من ثواب أو عقاب.

قوله تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لاغالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراء‌ت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب(48)

آية.

التقدير: واذكر " إذ زين لهم " يعني المشركين " زين لهم الشيطان اعمالهم بمعنى حسنها في نفوسهم والتزيين هو التحسين. والمعنى أن ابليس حسن للمشركين أعمالهم وحرضهم على قتال محمد، وخروجهم من مكة، وقوى نفوسهم، وقال لهم " لا غالب لكم اليوم من الناس ".

تقول غلب يغلب غلبة، فهو غالب، وغالبه مغالبة وتغالبا تغالبا وغلبه تغليبا.

والغلبة القهر للمنازع، والملك لامره.

وقوله " وإني جار لكم " حكاية عما قال ابليس للمشركين، فانه قال لهم اني جار لكم، لانهم خافوا بني كنانة لما كان بينهم، فأراد إبليس بأن يسكن خوفهم، والجار هو الدافع عن صاحبه السوء أجاره يجيره جوارا. ومنه قوله " وهو يجير ولا يجار عليه "(1) اي يعقد لمن احب دفع الضرر عنه من كل احد ولا يعقد عليه، فالجار المجير.

___________________________________

(1) سورة 23 المؤمنون آية 89

[135]

وقوله " فلما تراء‌ت الفئتان " معناه، فلما التقتا ورأى بعضهم بعضا " نكص " يعني ابليس " على عقبيه " والنكوص هو الرجوع ققهرى خوفا مما يرى.

نكص ينكص نكوصا، قال زهير.

هم يضربون حبيك البيض اذ لحقوا *** لاينكصون اذا ما استلحموا وحموا(1)

واختلفوا في ظهور الشيطان لهم حتى رأوه، فقال ابن عباس، والسدي وقتادة، وابن اسحاق: ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي في جماعة من جنده، وقال لهم: هذه كنانة قد أتتكم نجدة، فلما رأى الملائكة " نكص على عقبيه " فقال الحارث بن هشام إلى اين يا سراقة، فقال " اني أرى ما لا ترون " وهو قول أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام وقيل إنه راى جبرائيل بين يدي النبي صلى الله عليه واله.

وقال ابوعلي الجبائي حوله الله على صورة إنسان علما للنبي صلى الله عليه واله بما يخبر به عنه.

وقال الحسن والبلخي: إنما هو يوسوس من غير ان يحول في صورة انسان.

وقوله " اني اخاف الله والله شديد العقاب " حكاية عن قول ابليس حين ولى فقال لقريش اني ارى من الملائكة ما لا ترون اني اخاف الله والله شديد العقاب. وانما خافه من ان يأخذه في تلك الحال بعقوبته دون ان يكون خاف معصيته فامتنع منها.

قال الحسن: إبليس عدو الله لايخاف الله لكن كلما استؤصل جند من جنوده وقعت بذلك عليه مخافة وذلة.

وقال البلخي هو كقولك للرجل جمعت بين الفريقين حتى اذا وقع الشر بينهم خليتهم وانصرفت، وقلت اعملوا ما شئتم وتريد بذلك انك خليت بينهم دون ان يكون هناك قول، والاول هو المشهور في التفاسير.

___________________________________

(1) ديوانه 159 من قصيدته في هرم بن سنان.

والطبري 14 / 11 و (حبيك البيض) طرائق حديد.

و (البيض) الخوذ من سلاح المحارب.

و (حموا) من الحمية، وهي الانفة والغضب.

[136]

والواو دخلت في قوله " واذ زين لهم الشيطان " للعطف على خروجهم بطرا ورئاء الناس، فعطف حالهم في تزيين الشيطان اعمالهم على حالهم في خروجهم بطرا.

قوله تعالى: إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم(49)

آية.

العامل في " اذ " يحتمل أن يكون شيئين: احدهما - الابتداء والتقدير ذاك " اذ يقول " والاخر بتقدير اذكر " اذ يقول المنافقون " وهم الذين يبطنون الكفر ويظهرون الايمان " والذين في قلوبهم مرض " الشاكين في الاسلام مع اظهارهم كلمة الايمان، وهم بمكة جماعة خرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا هذا القول، وهم قيس بن الوليد بن المغيرة(1) والحارث بن زمعة وعلي بن أمية والعاص بن المنبه بن الحجاج، هذا قول مجاهد، والشعبي وقال الحسن: المرض الشرك " والذين في قلوبهم مرض " المشركون.

وقال ابوعلي فصلوا في الذكر لان المنافقين كانوا يضمرون عداوة النبي صلى الله عليه واله والمؤمنين، وكانوا هؤلاء مرتبتين وكلهم في معنى المنافقين، لان الشك في الاسلام كفر.

وقوله " غر هؤلاء دينهم " معناه ان المسلمين اغتروا بالاسلام.

والغرور: اظهار النصح مع إبطان الغش تقول: غره يغره غرورا واغتر به اغترارا ومنه الغرر، لانه عمل بما لايؤمن معه الغرور.

وقوله " ومن يتوكل على الله " معناه ومن يسلم لامر الله ويثق به ويرضى بفعله، لان التوكل على الله هو التسليم لامره مع الثقة والرضا به، تقول: وكل امره إلى الله، يكل واتكل عليه يتكل اتكالا وتوكل توكلا وتواكل القوم تواكلا اذا اتكل بعضهم على بعض، ووكل توكيلا.

___________________________________

(1) في بعض النسخ (ابوقيس بن الفاكهة بن المغيرة)

[137]

وقوله " فان الله عزيز حكيم " معناه انه قادر لايغالب واضع للاشياء مواضعها

قوله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق(50)

آية.

قرأ ابن عامر " اذ تتوفى " بتأء‌ين فأدغم احدهما في الاخرى هشام عنه. الباقون بالياء والتاء.

من قرأ بالتاء أسند الفعل إلى الملائكة كقوله " اذ قالت الملائكة "(1) ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث غير حقيقي.

هذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه واله يقول الله تعالى له: " ولو ترى " الوقت الذي تتوقى الملائكة الذين كفروا بمعنى انهم يقبضون أرواحهم على استيفائها، لان الموت انما يكون باخراج الروح على تمامها. وجواب " لو " محذوف، وتقديره لرأيت منظرا عظيما او امرا عجيبا او عقابا شديدا، وحذف الجواب في مثل هذا أبلغ، لان الكلام يدل عليه. والمرئي ليس بمذكور في الكلام لكن فيه دلالة عليه لان تقديره: لو رأيت الملائكة يضربون من الكفار الوجوه والادبار، وحذفه ابلغ وأوجز مع أن الكلام يدل عليه.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير: معنى أدبارهم استاههم لكنه كنى عنه.

وقال الحسن: معناه ظهورهم.

وقال ابوعلي: المعنى ستضربهم الملائكة عند الموت.

قال الرماني: وهذا غلط، لانه خلاف الظاهر، وخلاف الاجماع المتقدم أنه يوم بدر.

وروى الحسن: ان رجلا قال يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشرك، فقال: ذاك ضرب الملائكة.

وروي عن مجاهد ان رجلا قال للنبي صلى الله عليه واله اني حملت على رجل من المشركين فذهبت لاضربه فبدر رأسه. فقال: سبقك اليه الملائكة. وعن ابن عباس انه كان يوم بدر.

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 45

[138]

وقوله: " وذوقوا عذاب الحريق " تقديره، ويقولون يعني الملائكة للكفار يقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق يوم القيامة وحذف لدلالة الكلام عليه. ومثله قوله " ولو ترى اذا المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا "(1) أي يقولون ربنا أبصرنا، ودل الكلام عليه.

والحريق تفريق الاجسام الكبيرة العظيمة بالنار العظيمة يقال: احترق احتراقا واحرق إحراقا وتحرق تحرقا وحرقه تحريقا، وجواب " لو " محذوف، وتقديره لرأيت منظرا هائلا وإنما حذف جواب " لو " لان ذكره يخص وجها ومع الحذف يظن وجوه كثيرة فهو أبلغ.

قوله تعالى: ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد(51)

آية.

قوله " ذلك " إشارة من الملائكة للكفار إلى ماتقدم ذكره من قولهم " ذوقوا عذاب الحريق " قالوا ذلك العذاب " بما قدمت ايديكم " وموضع " بما قدمت ايديكم " يحتمل وجهين من الاعراب: أحدهما - الرفع بأنه خبر ذلك. والثاني - النصب بأنه متصل بمذوف، وتقديره ذلك جزاؤكم " بما قدمت أيديكم " وإنما قيل بما قدمت ايديكم مع أن اليد لاتعمل شيئا لتبين أنه بمنزلة ما يعمل باليد في الجناية، ولذلك لم يذكر القلوب، وإن كان بها معتمد العصيان، لانه قصد إظهار ما يقع به الجنايات في غالب الامر وتعارف الناس.

والتقديم ترتيب الشئ أولاء قبل غيره: قدمه تقديما وتقدم تقدما واستقدم استقداما وتقادم عهده تقادما واقدم على الامر إقداما.

وقوله: " ان الله ليس بظلام للعبيد " العامل في " ان " يحتمل شيئين: احدهما - أن يكون موضعه نصبا بتقدير وبأن الله او خفضا على الخلاف فيه. والثاني - ان يكون رفعا بمعنى وذلك ان الله كما تقول ذلك هذا.

___________________________________

(1) سورة 32 الم السجدة آية 12

[139]

وإنما نفى المبالغة في الظلم عنه تعالى دون نفي الظلم رأسا، لانه جاء على جواب من اضاف اليه فعل جميع الظلم، ولان ما ينزل بالكفار لولم يكن باستحقاق لكان ظلما عظيما، ولكان فاعله ظلاما.

قوله تعالى: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب(52)

آية.

العامل في قوله: " كدأب آل فرعون " الابتداء وتقديره دأبهم كدأب آل فرعون، فموضعه رفع، لانه خبر المبتدأ، كما تقول زيد خلفك، فموضع خلفك رفع بأنه خبر المبتدأ، ولفظه نصب بالاستقرار، فكذلك الكاف في " كدأب ".

والداب العادة والطريقة تقول ما ذلك دأبه ودينه وديدنه.

والمعنى انه جوزي هؤلاء بالقتل والاسر كما جوزي آل فرعون بالغرق.

وقال الزجاج الدأب إدامة الفعل داب يدأب في كذا إذا دام عليه، ودأب يداب دابا ودؤبا فهو دائب يفعل كذا اي يجري فيه على عادة.

وقال خداش بن زهير العامري: وما زال ذاك الداب حتى تجادلت * هوازن وارفضت سليم وعامر(1) وآل فرعون المراد به اتباعه فيما دعاهم اليه من ربوبيته. سموا " آل " لان مرجع امرهم اليه بسبب اكيد. والفرق بين " آل فلان " و " الاصحاب " ان الاصحاب مأخوذ من الصحبة لطلب علم او غيره. كالاصحاب في السفر، وكثر في الموافقة على المذهب، كما يقولون اصحاب مالك واصحاب الشافعي يراد به الموافقة في المذهب، لا يوصفون بأنهم آل الشافعي او ابي حنيفة. والال يرجعون اليه بالسبب الاوكد الاقرب.

___________________________________

(1) روح المعاني 10 / 17، ومجاز القرآن 1 / 248.

[140]

وقوله: " إن الله قوي " معناه قادر وقد يكون القوي بمعني الشديد، وذلك لايجوز اطلاقة على الله، وكذلك لايوصف بأنه شديد العقاب وإنما وصف عقابه بأنه شديد دون الله تعالى. فمعني الاية تشبيه حال المشركين في تكذيبهم بآيات الله التى اتى بها محمد صلى الله عليه واله بحال آل فرعون في التكذيب بآيات الله التي اتى بها موسى عليه السلام لان تعجيل العقاب لهؤلاء بالاهلاك كتعجيله لاولئك بعذاب الاستئصال.

قوله تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم(53)

آية.

الاشارة بقوله: " ذلك " إلى ما تقدم ذكره من اخذ الله الكفار بالعقاب فكأنه قال ذلك العقاب المدلول عليه بأن الله لايغير النعمة إلى النقمة إلا بتغيير النفس إلى الحال القبيحة، ف‍ " ذلك " ابتداء وخبره " بان الله " كما يقول القائل: العقاب بذنوب العباد، والكاف في " ذلك " للخطاب و " ذلك " إشارة إلى البعيد و " ذاك " إشارة إلى ما دونه، و " ذا " اشارة إلى ماهو حاضر.

وقوله " لم يك " اصله يكون فحذفت الواو للجزم وإلتقاء الساكنين، ثم حذفت النون استخفافا لكثرة الاستعمال مع انه لايقع بالحذف إخلال بالمعنى، لان " كان ويكون " أم الافعال الا ترى أن كل فعل فيه معناها، لانك إذا قلت ضرب معناه كان ضرب: ويضرب معناه يكون يضرب فلما قربت بأنها ام الافعال وكثر الاستعمالها احتمل الحذف ولم يحتمل نظائرها، وذلك مثل لم يجز ولم يصن كما جاز فيما.

والتغيير تصيير الشئ على خلاف ما كان بما لو شوهد لشوهد على خلاف ما كان. وانما قيل بما لو شوهد لشوهد على خلاف ما كان للتفريق بينه وبين ما يصير على خلاف ما كان بالحكم فيه بما لم يكن عليه،

[141]

ألا ترى ان المعلوم بعد ان لم يكن معلوما لايتغير بهذا العلم، لانه لو شوهد لم يشاهد على خلاف ما كان، والقدرة شوهدت على خلاف ما يشاهد العجز.

وفي الاية دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لانها تدل على انه لايكون العقاب الا بتغيير النفس إلى مالا يجوز ان يغير اليه، وهذا يبين انه لا يحسن من الله العقاب الا لمن فعل قبيحا او اخل بواجب، وذلك يبطل قول من قال: يجوز ان يعاقب الله البرئ بجرم السقيم، وجملة معنى الاية إنا اخذنا هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، وتغييرهم نعمة الله عليهم من بعث رسوله وتكذيبهم إياه واخراجهم له من بين اظهرهم، ففعلنا بهم مثل مافعلنا بالماضين من الكفار.

قوله تعالى: كداب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين(54)

آية

انما اعاد قوله: " كداب آل فرعون والذين من قبلهم " لاعلى وجه التكرار بلافائدة بل لوجهين: احدهما - قال ابوعلي: لانه على نوعين مختلفين من العقاب.

وقال الرماني: فيه تصريف القول في الذم بما كانوا عليه من قبح الفعل وتقدير الكلام: دأب هؤلاء الكفار مثل داب آل فرعون.

ويحتمل ان يكون كناية عن هؤلاء الكفار " كذبوا بآياتنا ".

والتكذيب نسبة الخبر إلى الكذب، فالتكذيب بالحق مذموم، والتكذيب بالباطل - لانه باطل - ظاهره امره محمود، وانما وجب في التكذيب بآيات الله تعجيل العقوبة، ولم يجب ذلك في غيره، لما في تعجيل عقوبتهم من الزجر لغيرهم، فيصلحون به مع علم الله بأنه ليس فيهم من يفلح - على مذهب من يقول: لو علم الله ان فيهم من يؤمن، لابقاه.

[142]

وانما كان التكذيب بآيات الله من اعظم الاجرام، لما يتبعه من تضييع حقوق الله فيما يلزم من طاعاته التي لاتصح الا بالتصديق بآياته التي جاء‌ت بها رسله.

اخبر الله انه كما اهلك هؤلاء الكفار بتكذيبهم النبي صلى الله عليه واله كذلك اهلك من الكفار قوما آخرين بتكذيبهم بآيات الله، واغرق آل فرعون بمثل ذلك، ثم اخبر ان كل هؤلاء كانوا ظالمين لنفوسهم بارتكاب معاصي الله وبترك طاعاته.

قوله تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لايؤمنون(55)

آية

الشر الرامي بالمكاره كشرر النار ومثله الضرر، وضد الشر الخير وضد الضرر النفع.

والدابة ما من شأنه ان يدب على الارض لكن بالعرف لايطلق إلا على الخيل، ومن ذلك قوله " وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها(1) " وقوله " عند الله " معناه في معلوم الله وفي حكمه.

وأصل " عند " أن يكون ظرفا من ظروف المكان إلا أنه قد تصرف فيها على هذا المعنى.

والفاء في قوله " فهم لايؤمنون " عطف جملة على جملة، وهو من الصلة، كأنه قال: كفروا مصممين على الكفر " فهم لا يؤمنون " وانما حسن عطف جملة من ابتداء وخبره على جملة من فعل وفاعل، لما فيها من التأدية إلى معنى الحال وذلك ان صلابتهم بالكفر ادى إلى الحال في انهم لايؤمنون.

فاخبر الله تعالى في هذه الاية ان شر خصلة يكون الانسان عليها هو الكفر لما في ذلك من تضييع نعم الله التي توجب اعظم العقاب.

والاية متناولة لمن علم الله منه انه لايؤمن، لان قوله " فهم لا يؤمنون " اخبار عن نفى ايمانهم فيما بعد.

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 6.

[143]

قوله تعالى: ألذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لايتقون(56)

آية.

قال مجاهد: هذه الاية نزلت في بني قريظة، لما نقضت عهد النبي صلى الله عليه واله في ألا يحاربوه ولايمالؤا عليه، فنقضوا عهده، ومالؤا عليه، وعاونوا قريشا يوم الخندق، فانتقم الله منهم. والمعاهدة المعاقدة على أمر يتقدم فيه للوثيقة به بالايمان المؤكدة على ما يعقد عليه، ونقض العهد مثل نقض الوعد لانه حق للمعاهد كما ان ذلك حق للموعود. ونقض العزم هو الرجوع عما عزم عما عزم عليه.

والنقض يكون بشيئين: احدهما - فيما كان من بناء وشبهه. الثاني - في عقد او امر يعزم عليه.

وقوله تعالى " ثم ينقضون " عطف المستقبل على الماضي، لان الغرض ان من شأنهم نقض العهد مرة بعد اخرى في مستقبل اوقاتهم بعد العهد اليهم.

وقوله " فهم لايتقون " معناه نقضوا عهدك من غير ان يتقوا عقاب الله عاجلا وآجلا.

قوله تعالى: فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون(57)

آية

معنى " تثقفن " تصادفن وتلقين. واصله الادراك بسرعة تقول ثقف الكلمة فهو ثقف، وثقفه اذا قومه وثاقفة مثاقفة اذا تدارك كل واحد منهما امر صاحبه بسرعة ودخلت نون التأكيد لما دخلت " ما " ولو لم تدخله لما حسن دخول النون، لان دخول " ما " كدخول القسم في أنه علامة تؤذن أنه من مواضع التأكيد المطلوب من التصديق، لان النون تدخل لتأكيد المطلوب فيما يدل على المطلب، وهي في

[144]

ستة مواضع: الامر، والنهي، والاستفهام، والعرض، والقسم، والجزاء مع " ما " وقوله " فشرد بهم من خلفهم " يحتمل معنيين: احدهما - اذا اسرتهم فنكل بهم تنكيلا يشرد غيرهم من ناقضي العهد خوفا منك، وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد. الثاني - افعل بهم من القتل ما يفرق من خلفهم، في قول الزجاج.

والتشريد التفريق على اضطراب، شرد يشرد شرودا وشرده تشريدا وتشرد تشردا.

ودابة شرود. والتشريد والتطريد والتبديد والتفريق نظائر.

وقوله " لعلهم يذكرون " معناه لكي يفكروا فيتعظوا وينزجروا عن الكفر والمعاصي.

وروي في الشواذ " من خلفهم " والمعنى نكل بهم انت يا محمد من ورائهم والاول اجود. وعليه القراء.

قوله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لايحب الخائنين(58)

آية.

بني المضارع مع نون التأكيد، لان النون لما أبطلت السكون اللازم للجزم الذي هو أمكن في الفعل، كانت على إبطال غيره من الاعراب أقوى. وإنما بني على الفتح لسلامتها من البابين الكسرة والضمة في المؤنث والجمع، في قولهم لاتحسبن يا امرأة، ولا تحسبن يا قوم. وتثبت الالف مع الجازم في (أما تخافن) ولم تثبت مع الجازم في قولك (لا تخف القوم) لان الحركة في هذا عارضة، لان التقاء الساكنين من كلمتين.

أمر الله تعالى نبيه انه متى خاف - ممن بينه وبينه عهد - خيانة أن ينبذ اليه عهده على سواء. والخيانة نقض العهد فيما ائتمن عليه، تقول: خانه يخونه خيانة، واختان

[145]

المال اختيانا. وتخونه تخونا وخونه تخوينا.

و (النبذ) القاء الخبر إلى من لا يعلمه بما يوجب أنه حرب بنقض عهد أو إقامة على بغي تقول: نبذ ينبذ نبذا وانتبذ انتباذا وتنابذ القوم تنابذا، ونابذه منابذة.

وقوله " على سواء " قيل في معناه قولان: احدهما - على استواء في العلم به أنت وهم في انكم حرب لئلا يتوهموا أنك العهد بنصب الحرب. والثاني - ان معناه على عدل من قول الراجز:

فاضرب وجوه الغدر الاعداء *** حتى يحيوك على السواء(1)

أي على العدل.

ومنه قيل للوسط سواء، لاعتداله إلى الجهات، كما قال حسان بن ثابت: يا ويح انصار النبي ورهطه * بعد المغيب في سواء الملحد(2) اي في وسطه.

وقال الوليد بن مسلم: معناه على مهل وهذا بعيد، لانه لايعرف في اللغة. فان قيل كيف جاز نبذ العهد ونقضه بالخوف من الخيانة؟ قيل: انما فعل ذلك لظهور امارات الخيانة التي دلت على نقض العهد ولم تشتهر ولو اشتهرت لم يجب النبذ، كما حارب رسول الله صلى الله عليه واله أهل مكة، لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمة النبي صلى الله عليه واله فلما فعلوا ذلك فعلا ظاهرا مشهورا أغنى ذلك عن نبذ العهد اليهم، ولو نقضوه على خفى لم يكن بد من نبذ العهد اليهم، لئلا ينسب إلى نقض العهد والغدر.

وقوله " ان الله لايحب الخائنين " معناه انه يبغضهم وانما عبر بحرف النفي، لان صفة النفي تدل على الاثبات إذا كان هناك ما يدل عليه، وهو أبلغ في هذا الموضع لان معناه: انهم حرموا محبة الله بخيانتهم واوجب ذلك بغضه اياهم. ومحبة الله للخلق ارادة منافعهم وبغضه اياهم ارادة عقابهم.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 14 / 27 والقرطبي 8 / 33.

(2) تفسير القرطبي 8 / 33 وقد مر في 1 / 405 من هذا الكتاب.

[146]

والايتان معا نزلتا في بني قريظة، قال الواقدي: نزلت هذه الاية في بني قينقاع، وبهذه الاية سار النبي صلى الله عليه واله اليهم.

قوله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون(59)

آية.

قرأ ابن عامر وحمزة وحفص وأبوجعفر " ولا يحسبن " بالياء. الباقون بالتاء.

وقرأ ابن عامر " انهم " بفتح الهمزة. الباقون بكسرها.

قال أبوعلي الفارسي: من قرأ بالتاء جعل " الذين كفروا " المفعول الاول و " سبقوا " المفعول الثاني، وموضعه النصب، وهو واضح.

ومن قرأ بالياء احتمل ثلاثه اشياء: احدها - (لا يحسبن الذين كفروا) وهو قول أبي الحسن. الثاني - أن يكون أضمر المفعول الاول وتقديره: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقونا واياهم سبقوا الثالث - ان يقدر على حذف (أن) كانه قال: ولا يحسبن الذين كفروا ان سبقوا.

قال الزجاج يقوي ذلك، ان في قراء‌ة ابن مسعود " إنهم لايعجزون " فعلى هذا يكون ان سبقوا سد مسد المفعولين، كما ان قوله " أحسب الناس أن يتركوا ان يقولوا "(1) كذلك.

ومن فتح الهمزة جعل الجملة متعلقة بالجملة الاولى والتقدير ولا تحسبنهم سبقوا، لانهم لايفوتون فهم يجازون على كفرهم.

ومن كسر استأنف الكلام، قال ابوعبيدة: سبقوا معناه فاتوا، فانهم لايعجزون اي لايفوتون، ومثله " أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا " ثم استأنف، فقال: " ساء‌ما يحكمون(2) فكذلك ها هنا استأنف الكلام.

___________________________________

(1) سورة 29 العنكبوت آية 2.

(2) سورة 29 العنكبوت آية 4.

[147]

وانما امتنع الاقتصار على احد المفعولين في (حسب) لان المفعول الثاني خبر عن الاول، والفعل متعلق بما دلت عليه الجملة فهو بخلاف (اعطيت) في هذا. والحسبان هو الظن.

وقال الرماني: هو شك يقوى فيه احدى النقيضين لقوة المعنى في حيز القولين.

وأصله الحساب، لان المعنى فيه داخل فيما يحسب به ويعمل عليه.

والاحتساب قبول الحساب والاعتداد به وفي المضارع لغتان، فتميم تفتح السين وأهل الحجاز يكسرونها.

والسبق تقدم الشئ على طالب اللحوق به: سبق يسبق سبقا وتسابقا تسابقا، وسابقة مسابقة واستبقوا استباقا وسبقه تسبيقا إذا أعطاه السبق.

والسابق والمصلي في صفة الفرس.

والاعجاز ايجاد ما يعجز عنه: أعجزه إعجازا وعجزه تعجيزا وعاجزه معاجزة واستعجز استعجازا.

وقال ابوعبيدة: معنى " لا يعجزون " لا يفوتون.

وقال الحسن: معنى لايعجزون الله لا يفوتونه حتى لا يثقفنهم يوم القيامة.

وقال الجبائي: معناه لا يعجزونك حتى يظفرك الله بهم.

وقال الزجاج: المعنى لا يحسبن من أفلت من هذه الحرب قد سبق إلى الحياة.

وقال الزجاج: يجوز أن تكون (لا) صلة على ضعف فيه.

والمعنى لايحسبن الذين كفروا انهم يعجزون. اي يفوتون.

الآية: 60 - 75

قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لاتعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لاتظلمون(60)

آية.

امر الله تعالى المؤمنين ان يعدوا ما قدروا عليه من السلاح وآلة الحرب والخيل وغير ذلك. والاعداد اتخاذ الشئ لغيره مما يحتاج اليه في امره ولو اتخذه له في

[148]

نفسه محبة له لم يكن اعدادا وهو مما يعد فيما يحتاج اليه من غيره والاستطاعة معنى تنطاع بها الجوارح للفعل مع انتفاء المنع، تقول: استطاع استطاعة، وطاوع مطاوعة واطاع طاعة، وتطوع تطوعا، وانطاع انطياعا.

وقوله تعالى " من قوة " اي مما تقوون به على عدوه.

وقيل: معناه من الرمي، ذكره الفراء.

ورواه عن النبي صلى الله عليه واله عقبة بن عامر، على ما ذكره الطبري.

وقال عكرمة: اراد به الحصون.

وقوله تعالى: " ومن رباط الخيل " فالرباط شد ايسر من العقد.

ربطه يربطه ربطا ورباطا وارتبطه ارتباطا ورابطه مرابطة.

وقوله " ترهبون به عدو الله وعدوكم " فالهاء في (به) راجعة إلى الرباط وذكره لانه على لفظ الواحد وان كان في معنى الجمع، لانه كالجراب والقراب والذراع.

والارهاب ازعاج النفس بالخوف تقول: ارهبه ارهابا ورهبه ترهيبا ورهب رهبة وترهب ترهبا واسترهبه استرهابا، وقال طفيل:

ويل ام حي دفعتم في نحورهم *** بني كلاب غداة الرعب والرهب(1)

والعدو المراصد بالمكاره لتعديتها إلى صاحبها والعدو ضد الولي.

وقوله " وآخرين من دونهم " لاتعلمونهم تقديره وترهبون آخرين، فهو نصب ب‍ (ترهبون) يجوز ان يكون نصبا بقوله: (وأعدوا لهم) وللاخرين من دونهم. وقيل في المعنيين بذلك خمسة اقوال:

احدها - قال مجاهد: هم بنو قريظة وقال السدي. هم اهل فارس. وقال الحسن وابن زيد: هم المنافقون.

الرابع - الجن، وهو اختيار الطبري، قال: لان الاعداد للاعداء دخل فيه جميع المتظاهرين بالعداوة فلم يبق إلا من لايشاهد.

الخامس - قال الجبائي: كل من لا تعرفون عداوته داخل فيه.

ومعنى " لاتعلمونهم " لاتعرفونهم فلذلك لم يكن معه المفعول الثاني.

___________________________________

(1) ديوانه: 65 ومجاز القرآن 1 / 249.

[149]

وقوله: " الله يعلمهم " معناه يعرفهم كما قال الشاعر:

فان الله يعلمني ووهبا *** وإنا سوف نلقاه كلانا(1)

وقوله تعالى: " وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف اليكم وانتم لاتظلمون " يعني ما من شئ تنفقونه في الجهاد إلا والله يوفيكم ثوابه على ذلك بأتم الجزاء ولا تبخسون، فمعنى الاية الامر باعداد السلاح والكراع لاخافة اعداء الله بما يملا صدورهم من الاستعداد لقتالهم مع تضمن اخلاف ما انفق في سبيل الله بأحوج ما يكون صاحبه اليه بما تربح فيه تجارته.

قوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم(60)

آية.

قرأ ابوبكر عن عاصم " السلم " بكسر السين. الباقون بفتحها وفي ذلك ثلاث لغات: الفتح والكسر مع سكون اللام، وفتح السين واللام معا ومعناها المسالمة ولذلك أنث قال رجل من اليمن جاهلي: أنا بل انني سلم * لاهلك فاقبلي سلمى(2) قال ابوالحسن: السلم فيها الكسر والفتح لغتان.

وقال غيره: السلم بفتح السين واللام على ثلاثة أوجه.

تقول: أخذت الاسير سلما اي على الاستسلام.

والسلم السلف على السلامة.

والسلم شجر واحده سلمة، تقول له بالسلامة.

وقوله: " وان جنحوا للسلم " معناه ان مالوا إلى المسالمة، تقول: جنح يجنح جنوحا وجنحت السفينة إذا مالت إلى الوقوف، ومنه جناح الطائر لانه يميل به في احد شقيه.

___________________________________

(1) قائله النمر بن ثولب العلكي. الاقتضاب: 303، والمفصل للزمخشري: 88 وتفسير الطبري 14 / 39.

(2) مجاز القرآن 1 / 250 والتاج واللسان (سلم).

[150]

ولا جناح عليه في كذا اي لاميل إلى مأثم، قال ابوزيد: جنح يجنح جنوحا إذا اعطى بيده او عدل إلى ما يحب القوم، وجنح العدو والخيل، وجنحت الابل إذا اخفضت في السير.

وليس في الاية ما يدل على ان الكفار إذا ما لو إلى الهدنة وجب اجابتهم اليها على كل حال، لان الاحوال تختلف في ذلك، فتارة تقتضي الاجابة، وتارة لاتقتضي، وذلك إذا وتروا المسلمين بأمر يقتضي الغلظة مع حصول العدة والقوة.

فان قيل: اذا جازت الهدنة مع الكفار فهلا جاز المكافة في أمر الامامة حتى يجوز تسليمها إلى من لا يستحقها؟ قلنا: تسليم الامامة إلى من لا يستحقها فساد في الدين كفساد تسليم النبوة إلى مثله.

وقوله " وتوكل على الله " اي فوض امرك اليه تعالى وثق بأنه لايدبره الا على ما تقتضيه الحكمة.

واختلفوا هل في الاية نسخ؟ فقال الحسن وقتادة وابن زيد: نسخها قوله: " اقتلوا المشركين "(1) وقال قوم: ليست منسوخة، لانها في الموادعة لاهل الكتاب والاخرى في عباد الاوثان، والصحيح أنها ليست منسوخة، لان قوله: " اقتلوا المشركين " نزلت في سنة تسع وبعث بها رسول الله إلى مكة ثم صالح اهل نجران بعد ذلك على الفي حلة: ألف في صفر وألف في رجب.

وقوله " إنه هو السميع العليم " معناه انه يسمع دعاء من يدعوه عليم بما تقتضي المصلحة من اجابته وحسن تدبيره.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 6.

[151]

قوله تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين(62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم(63)

آيتان في الكوفي والمدني، وآية في البصري.

هذا خطاب للنبي صلى الله عليه واله يقول له: " ان يريدوا " يعني الكفار.

وقيل هم بنو قريظة، ومعناه ان قصدوا بالصلح خديعتك.

والخديعة اظهار المحبوب في الامر للاستجابة له مع ابطان خلافه: خدع خدعا وخديعة واختدعه اختداعا وتخادع له تخادعا. وانخدع انخداعا.

وقوله " فان حسبك الله " معناه، فان الله كافيك يقال: اعطاني ما احسبني اي كفاني.

واصله الحساب، وانما اعطاه بحساب ما يكفيه.

وقوله " هو الذي ايدك بنصره " وبالمؤمنين " فالتأييد التكمين من الفعل على اتم ما يصح فيه، تقول: ايده تأييدا وتأيد تأيدا. والايد القوة.

والمعنى ان الله قواه بالنصر من عنده، بالمؤمنين الذين ينصرونه على اعدائه.

وقوله " وألف بين قلوبهم " والتأليف الجمع على تشاكل، فلما جمعت قلوبهم على تشاكل فيما تحبه وتنازع اليه كانت قد الفت، ولذلك قيل: هذه الكلمة تأتلف مع هذه، ولا تأتلف.

والمراد بالمؤمنين الانصار وبتأليف قلوبهم ما كان بين الاوس والخزرج من العداوة والقتال، هذا قول ابي جعفر عليه السلام والسدي وبشر بن ثابت الانصاري وابن اسحاق.

وقال مجاهد: هو في كل متحابين في الله. وانما كان الجمع على المحبة تأليفا بين القلوب، لانه مأخوذ من الالفة وهي الاجتماع على الموافقة في المحبة، ولا يجوز في الجمع على البغضاء ان يمسى بذلك.

وقوله " لو انفقت ما في الارض جميعا " فالانفاق اخراج الشئ عن الملك.

والمعنى " لو انفقت ما في الارض جميعا " لتجمعهم على الالفة ماتم لك ذاك، ولكن الله الف بينهم بلطف من الطافه وحسن تدبيره، وبالاسلام الذي هداهم الله اليه. ونصب " جميعا " على الحال.

وقوله " انه عزيز حكيم " معناه قادر لا يمتنع عليه شئ يريد فعله " حكيم عليم " لايفعل الا ما تقتضيه الحكمة فعلى ذلك جمع قلوبهم على الالفة.

[152]

قوله تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين(64)

آية.

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه واله يقول له: يكفيك ان يكون ناصرك على اعدائك الله تعالى، والذين اتبعوك من المؤمنين من المهاجرين والانصار، وانما كرر قوله " حسبك " مع انه قد ذكر فيما قبل، لان المعنى هناك إن أرادوا اخداعك كفاك الله امرهم. وهاهنا معناه عام في كل ما يحتاج فيه إلى كفاية الله اياه.

وقوله " ومن اتبعك " يحتمل اعرابه وجهين: احدهما - ان يكون نصبا.

والمعنى ويكفي من اتبعك على التأويل، لان الكاف في موضع خفض بالاضافة لكنه مفعول به في المعنى، فعطف على المعنى، وليس ذلك بكثير.

واجاز الفراء الرفع لقوله " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين " ومثله قوله " انا منجوك واهلك "(1) وقال الشاعر: اذا كانت الهيجاء وانشقت العصا * فحسبك والضحاك سيف مهند(2) وهو معنى قول الشعبي وابن زيد.

وقال الحسن: هو عطف على اسم الله، فيكون رفعا.

والكسائي، والفراء، والزجاج أجازوا الوجهين وحمل عليهما معا ابوعلي الجبائي.

والاتباع موافقة الداعي فيما يدعوا اليه من اجل دعائه.

والمؤمنون يوافقون النبي صلى الله عليه واله في كل ما دعا اليه.

وقال الواقدي: نزلت هذه الاية في بني قريظة وبني النضير لما قالوا له: نحن نسلم ونتبعك.

___________________________________

(1) سورة 29 العنكبوت آية 33.

(2) القرطبي 8 / 42 ومعاني القرآن 1 / 417 وتفسير القاسمي 8 / 303

[153]

قوله تعالى: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لايفقهون(65)

آية.

وهذا ايضا خطاب للنبى صلى الله عليه واله يأمره الله بأن يحرض المؤمنين على قتال المشركين.

والتحريض والحث نظائر، وهو الدعاء الاكيد بتحريك النفس على أمر من الامور. وضده التفتير. والمعنى حثهم على القتال.

والتحريض الحث على الشئ الذي يعلم معه انه حارض إن خالف وتأخر.

والحارض هو الذي قارب الهلاك.

ومنه قوله: " حتى تكون حرضا " اي حتى تذوب غما على ذلك وتقارب الهلاك " او تكون من الهلالكين "(1) وحارض فلان على أمره إذا واظب عليه.

والتحريض ترغيب في الفعل بما يبعث على المبادرة اليه مع الصبر عليه.

والقتال محاولة الصد والمنع بما فيه تعرض للقتل.

والمجاهدة ان يقصد إلى قتل المشركين بقتاله، ومن يدفع عن نفسه فليس كذلك.

والصبر هو حبس النفس عما تنازع اليه من صد ما ينبغي أن يكون عليه وضده الجزع، وقال الشاعر:

فان تصبروا فالصبر خير مغبة *** وان تجزعا فالامر ما تريان(2)

والغلبة الظفر بالبغية في المحاربة قتلا او اسرا او هزيمة. وقد يقال في الظفر بالبغية في المنازعة بالغلبة.

ومعنى " لايفقهون " هاهنا انهم على جهالة، خلاف من يقاتل على بصيرة، وهو يرجوبه ثواب الاخرة.

وقال قوم: معناه لايعلمون ما لهم من استحقاق الثواب بالقتال.

وقوله " ان يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين " وان كان بلفظ الخبر، فالمراد به الامر، ويدل على ذلك قوله " الان خفف الله عنكم " لان التخفيف لايكون الا بعد المشقة.

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 85.

(2) مجمع البيان 2 / 556

[154]

قوله تعالى: ألآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين(66)

آية.

قرأ اهل الكوفة " إن يكن.. مئة. وان يكن.. الف " بالياء فيهما وافقهم اهل البصرة في الاولى.

وقرأ اهل الكوفة الا الكسائي " ضعفا " بفتح الضاد الباقون بضمها، ولكنهم سكنوا العين الا ابا جعفر، فانه فتحها ومد وهمز على وزن " فعلاء " على الجمع.

ومن قرأ " ان يكن " بالياء فلان المراد به المذكر بدلالة قوله " يغلبوا " وكذلك ماوصف به المئة بقوله " صابرة " لانهم رجال: حملا على المعنى كما حمل على المعنى في قوله " فله عشر أمثالها "(1) فأنث لما كانت في المعنى حسنات.

ومن قرأ بالتاء فلان اللفظ التأنيث.

ومن قرأ الاول بالتاء والثاني بالياء فلان القراء‌ة بالتاء في الاولى أشد مشاكلة لقوله " مئة صابرة " وليس كذلك في الاخرى، لانه اخبر عنهم بقوله " يغلبوا ".

وقال سيبويه يقال: ضعف ضعفا فهو ضعيف. قال وقالوا الفقر كما قالوا الضعف، فعل ذلك انهما لغتان.

هذه الاية نسخت حكم ما تقدمها، لان في الاولى كان وجوب ثبات الواحد للعشرة والعشرة للمئة، فلما علم الله تعالى ان ذلك يشق عليهم وتغيرت المصلحة في ذلك نقلهم إلى ثبات الواحد للاثنين والمئة للمئتين، فخفف ذلك عنهم، وهو قول ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد والسدي وعطا والبلخي والجبائي والرماني، وجميع المفسرين. والتخفيف رفع المشقة بالخفة.

والخفة نقيض الثقل والخفة والسهولة بمعنى واحد.

والضعف نقصان القوة، وهو من الضعف لانه ذهاب بعض القوة

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 160

[155]

وقوله " باذن الله " فالاذن الاطلاق في الفعل، لانه يسمع بالاذن، ومنه الاذان والايذان والاستئذان، وقوله " الان " مبني مع الالف واللام لانه خرج عن التمكن بشبه الحرف، لانه ينكر تارة ويعرف أخرى، فاستبهم استبهام الحروف بأنه للفصل بين الزمانين على انتقال معناه إلى الذي يليه من الوقت كما ينتقل امس، فالامس والغد والان نظائر واحكامها مختلفة لعلل لزمتها.

وقوله تعالى " والله مع الصابرين " معناه انه معهم بالمعونة لهم. والمعنى ان معونة الله مع الصابرين وحقيقة " مع " ان تكون للمصاحبة للجهة بالمعونة وذلك لايجوز عليه تعالى.

وقيل هذه الاية نزلت بعد الاولى بمدة.

قوله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة والله عزيز حكيم(67)

آية.

قرأ اهل البصرة وابن شاهي " ان تكون " بالتاء. الباقون بالياء.

وقرأ ابو جعفر " أسارى " ومن الاسارى - بفتح الهمزة منهما وبألف بعد السين - وافقه ابو عمرو في الثاني. الباقون بفتح الهمزة وسكون السين من غير الف فيهما.

من قرأ بالتاء فلان لفظ الاسرى لفظ التأنيث، فحمله على اللفظ.

ومن قرأ بالياء فلان الفعل متقدم والاسرى المراد به المذكورون.

وايضا فقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من ذلك إذا انفرد يذكر الفعل معه، مثل جاء الرجل وحضر القاضي امرأة، فاذا اجتمعت هذه الاشياء كان التذكير اولى. واختار الاخفش التذكير.

وقال ابوعلي الفارسي: الاسرى اقيس من الاسارى لان اسير فعيل بمعنى مفعول، وما كان كذلك لا يجمع بالواو والنون، ولا بالالف والتاء.

[156]

وإنما يجمع على فعلى مثل جريح وجرحى وقتيل وقتلى وعفير وعفرى، ولديغ ولدغى، وكذلك لك من اصيب في بدنه مثل مريض ومرضى واحمق وحمقى وسكران وسكرى.

ومن قرأ اسارى شبهه بكسالى وقالوا كسلى شبهوه باسرى.

واسارى في جمع اسير ليس على بابه، وقال ابوالحسن: الاسرى مالم يكن موثقا والاسارى موثوقون.

قال: والعرب لاتعرف ذلك بل هما عندهم سواء.

وقال الازهري: الاسارى جمع اسرى فهو جمع الجمع، والاسر الشد على المحارب بما يصير به في قبضة الاخذ له. واصله الشد، يقال: قتب مأسور اي مشدود وكانوا يشدون الاسير بالفداء.

والمعنى: ما كان لنبي ان يحبس كافرا للفداء والمن حتى يثخن في الارض، والاثخان في الارض تغليظ الحال بكثرة القتل.

وقال مجاهد: الاثخان القتل. والثخن والغلظ والكثافة نظائر.

وقوله " يريدون عرض الدنيا " يعني تريدون الفداء والعرض متاع الدنيا وسماه عرضا لقلة لبثه لانه بمعنى العرض في اللغة.

وقوله " والله يريد الاخرة " معناه والله يريد عمل الاخرة من الطاعات التي تؤدي إلى الثواب وإرادة الله لنا خير من إرادتنا لانفسنا.

وقوله " والله عزيز حكيم " معناه يريد عمل الاخرة، فانه يعزكم ويرشدكم إلى اصلاحكم، لانه عزيز حكيم، فلاتخافوا قهرا مع إعزازه اياكم. وهذه الاية نزلت في اسارى بدر قبل ان يكثر الاسلام، فلما كثر المسلمون قال الله تعالى " فاما منا بعد وإما فداء "(1) وهو قول ابن عباس وقتادة.

وقال فادوهم بأربعة الاف، وفي الاية دليل على بطلان مذهب المجبرة لانه تعالى فصل إرادة نفسه من إرادتهم، ولو كان يريد ما ارادوه لم يصح هذا الفعل من التفصيل فان قيل: كيف يكون القتل فيهم كان اصلح وقد اسلم منهم جماعة، ومن علم الله من حاله انه يؤمن يجب تبقيته؟ ! قلنا: في ذلك خلاف، فمن قال: لايجب ذلك لا يلزمه السؤال.

___________________________________

(1) سورة 47 محمد آية 4

[157]

ومن قال: ذلك اوجب قال: ان الله اراد ان يأمرهم بأخذ الفداء وإنما عاتبهم على ذلك لانهم بادروا اليه قبل ان يؤمروا به.

قوله تعالى: لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم(68)

آية.

قيل في معنى قوله " لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم " قولان: قال الحسن لو لا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ من انه لا يعذبهم على ذلك. وقال غيره: لو لا ما كتب الله فيه انه يغفر لاهل بدر ماتقدم وما تأخر.

الثاني - قال مجاهد: يعني ماذكره من قوله " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا "(1) فكأنه قال: لا اعذب إلا بعد المظاهرة في البيان وتكرير الحجة به. وقال قوم " لو لا ماكتبه الله " من ان الفدية ستحل لهم فيما بعد، ذهب اليه سعيد ابن جبير.

ومعنى الاية " لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم " من فداء الاسرى والغنيمة عذاب عظيم، لانهم اخذوه قبل ان يؤذن لهم. وقد كان سبق ان الله سيحله لهم في قول ابن عباس والحسن، وقال الجبائي: والمعنى " لو لا كتاب من الله سبق " وهو القرآن الذي آمنتم به واستحقيتم لذلك غفران الصغائر لمسكم فيما اخذتم به من الفداء عذاب عظيم. ولايجوز ان يكون المراد به الا الصغائر لانهم قبل الغفران لم يكونوا فساقا اجماعا.

قال الجبائي: وقد كان من النبي صلى الله عليه واله في هذا معصية اجماعا من غير تعيين ما هي، واظن انها في ترك قتل الاسرى وهذا الذي ذكره غير صحيح، لانه لا إجماع في ذلك بل عندنا لايجوز على النبي صلى الله عليه واله فعل شئ من القبائح صغيرا كان او كبيرا لما في ذلك من التنفير عنه على ما بيناه في غير موضع.

___________________________________

(1) سورة 17 الاسرى آية 15

[158]

واكثر المفسرين على ان النبي صلى الله عليه واله لم يقع منه خلاف لامر الله وقد روي ان النبي صلى الله عليه واله كره اخذ الفداء حتى راى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه، فقال يا رسول الله هذا اول حرب لقينا فيه المشركين اردت ان يثخن فيهم القتل حتى لايعود احد بعد هذا إلى خلافك وقتالك، فقال رسول الله: قد كرهت ما كرهت، ولكن رايت ما صنع القوم، فالمعصية في ذلك كانت من قوم من الصحابة الذين مالوا إلى الدنيا واخذ الفداء.

وقد قال البلخي ايضا إن اجلاء الصحابة براء من ذلك.

وروي عن النبي صلى الله عليه اله انه قال إن الغنائم احلت لي ولم تحل لنبي قبلي.

ومعنى " لو لا " امتناع الثاني لوقوع الاول كقولك: لو لا زيد بالمكان الذي هو به لاتيتك، فامتنع الاتيان لمكان زيد.

والسبق يكون تقدما في الزمان والمكان والرتبة بأن يكون له وإن لم يكن فيها.

والمس مماسة يقع معها إدراك، وهو كاللمس في الحقيقة.

والعظيم ما يصغر فيه قدر غيره، ويكون ذلك بعظم الجثة تارة وبعظم الشأن أخرى.

والعظيم هو المستحق للصفة بأن قدر غيره صغير عنده.

وقال أبوجعفر عليه السلام كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية من فضة والاوقية أبعون مثقالا إلا العباس فان فداء‌ه كان مئة اوقية وكان أخذ منه حين أسر اثنين وعشرين اوقية ذهبا، فقال النبي صلى الله عليه واله ذاك غنيمة ففاد نفسك وابني اخيك عقيل ونوفل بن الحارث، فقال: ليس معي، فقال: اين الذهب الذي سلمته إلى ام الفضل وقلت: ان حدث بي حدث، فهو لك وللفضل وعبدالله وميثم، فقال من اخبرك بهذا؟ قال: الله، قال: اشهد انك رسول الله، والله ما اطلع على هذا احد إلا الله تعالى.

[159]

قوله تعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم(69)

آية.

أباح الله تعالى للمؤمنين بهذه الاية أن يأكلوا مما غنموه من اموال المشركين بالقهر من دار الحرب. ولفظه وإن كان لفظ الامر. فالمراد به الاباحة ورفع الحظر.

والغنيمة ما أخذ من دار الحرب بالقهر.

والفئ ما رجع إلى المسلمين، وانتقل اليهم من المشركين.

والاكل تناول الطعام بالفم مع المضغ والبلع، فمتى فعل الصائم هذا فقد أكل في الحقيقة.

والفرق بين الحلال والمباح ان الحلال من حل العقد في التحريم والمباح من التوسعة في الفعل وان اجتمعا في الحل والطيب المستلذ، وشبه الحلال به فسمي طيبا. واللذة نيل المشتهى.

قال الزجاج: الفاء في قوله " فكلوا " على تقدير قد أحللت لكم الفداء فكلوه.

وقوله " واتقوا الله " معناه اتقوا معاصيه فان الله غفور رحيم لمن اطاعه وترك معاصيه.

قوله تعالى: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم(70)

آية

قرأ ابوعمرو وحده من السبعة وابوجعفر " الاسارى " الباقون " الاسرى " وابوعمرو جمع المذهبين في الاول والثاني. وحمله الباقون على النظير في المعنى.

وقد فسرنا فيما مضي الاسير من اخذ من دار الحرب من أهلها، ولو اخذ مسلم لكان قد فك اسره.

خاطب الله بهذه الاية نبيه صلى الله عليه واله وامره ان يقول لمن حصل في يده من الاسرى يعني من حصل في وثاقه وسماه في يده لانه بمنزلة ما

[160]

قبض على يده بالاستيلاء عليه ولذلك يقال في الملك المتنازع فيه لمن اليد؟ وقوله " ان يعلم الله في قلوبكم خيرا " يعني اسلاما.

وقيل معناه إن يعلم منكم خيرا في المستقبل بأن يفعلوه فيعلمه الله موجودا، لان ما لم يفعل لا يعلمه موجودا والخير النفع العظيم، وهو هاهنا البصيرة في دين الله وحسن النية في امر الله.

وقوله " يؤتكم خيرا " يعني يعطيكم خيرا " مما اخذ منكم " من الفداء.

وقال الحسن اطلقهم بالفداء، ولو لم يسلمو لم يتركهم.

وقوله " ويغفر لكم " يعني زيادة مما يؤتيهم يغفر لهم معاصيهم ويسترها عليهم لانه غفور رحيم.

وروي عن العباس انه قال: كان معي عشرون اوقية فأخذت مني فاعطاني مكانها عشرين عبدا ووعدني بالمغفرة.

وقال العباس في نزلت وفي اصحابي هذه الاية، وهو قول ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم: قوله تعالى: وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم(71)

آية.

معنى الاية ان هؤلاء الاسارى ان علم الله في قلوبهم خيرا اخلف عليهم خيرا مما اخذ منهم. وان عزموا على الخيانة، ونقض العهد وفعلوا خلاف ما وقع عليه العقد من تأدية فرض الله، فقد خانوا الله من قبل هذا. والمعنى فقد خانوا أولياء الله، لان الله لايمكن ان يخان، لانه عالم بالاشياء كلها لايخفى عليه خافية.

والخيانة هاهنا نقض الطاعة لله ورسوله التى شهدت بها الدلالة.

وقوله " فامكن منهم " المعنى لما خانوا بأن خرجوا إلى بدر وقاتلوا مع المشركين، فقد امكن الله منهم بان غلبوا واسروا. فان خانوا ثانيا فيمكن الله منهم مثل ذلك. والامكان هو القدرة على الشئ مع ارتفاع المانع، وما لو حرص عليه صاحبه اتم الحرص لم

[161]

يصح ان يقع منه لايكون امكانا، فالامكان ينافي المنع والالجاء كما ينافي العجز القدرة.

وقوله " والله عليم حكيم " معناه عالم بما تقولونه وما في نفوسكم وبجميع الاشياء " حكيم " فيما يفعله. والحكيم هو العالم بوجوه الحكمة في الفعل مما يصرف عن خلافها والاصل في الحكمة المنع فهي تمنع الفعل من الخلل والفساد.

قوله تعالى: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير(72)

آية.

قرأ حمزة " ولايتهم " بكسر الواو.

الباقون بفتحها.

قال الزجاج: إنما جاز الكسر لانه يشبه الصناعة كالخياطة والقصارة والحياكة، وقال الشاعر في الفتح: دعيهم فهم ألب علي ولاية * وحفرهم ان يعلموا ذاك دائب(1) قال ابوعبيدة: بفتح الواو مصدر المولى تقول: مولى بين الولاية وإذا كسرت فهو من وليت الشئ.

قال ابوالحسن: يفتح الواو من الولاية إلا الولاية في السلطان بكسر الواو، وكسر الواو في الاخرى لغة.

وقرأ الاعمش بكسر الواو من الولاية في الدين هنا.

قال ابوعلي الفارسي: الولاية هاهنا في الدين والفتح أجود.

قال ابوالحسن. وهي قراء‌ة الناس.

وعن الاعمش أنه كسر الواو، وهي لغة. وليست بذلك.

___________________________________

(1) معاني القرآن 1 / 419

[162]

قال المبرد عن الاصمعي: ان الاعمش لحن في كسره لذلك.

قال ابوعلي: إذا كان ذلك لغة لايكون لحنا.

قال الفراء: والكسر أحب الي، لانها ولاية المواريث.

وقال الازهري: في النصرة والنسب بفتح الواو. وفي الامارة بكسرها.

اخبر الله تعالى في هذه الاية عن احوال المؤمنين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة بقوله " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " وعن احوال الانصار بقوله " والذين آووا ونصروا " يعني النبي صلى الله عليه واله.

ثم قال " اولئك " يعني المهاجرين والانصار " بعضهم اولياء بعض " والهجرة فراق الوطن إلى غيره من البلاد فرارا من المفتنين في الدين، لانهم هجروا دار الكفار إلى دار الاسلام.

والجهاد تحمل المشاق في قتال اعداء الدين جاهد جهادا وجهده الامر جهدا واجتهد اجتهادا، وجاهد مجاهدة.

والايواء ضم الانسان صاحبه اليه بانزاله عنده وتقريبه له، تقول: آواه يؤويه ايواء واوى يأوي اويا، وأويت معناه رجعت إلى المأوى.

والولاية عقد النصرة للموافقة في الديانة.

ثم اخبر الله تعالى عن الذين آمنوا ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة فقال " والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ " وقيل في معناه قولان: احدهما - ولاية القرابة نفاها عنهم لانهم كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الرحم - في قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي - وعن ابي جعفر عليه السلام انهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الاولى. الثاني - انه نفي الولاية التي يكونون بها يدا واحدة في الحل والعقد، فنفى عن هؤلاء ما اثبته للاولين حتى يهاجروا.

ثم قال " وإن استنصروكم " اي طلبوا نصركم " في الدين " يعني الذين آمنوا ولم يهاجروا " فعليكم النصر " اي نصرهم بسبب الايمان الذي يجب علكيم ان تنصروهم على الكفار " إلا على قوم بينكم " وبينهم ميثاق، يعني موادعة ومهادنة تقتضيه من جهة ان عقدهم بخلاف عقدهم.

[163]

وقيل انه نسخ ذلك بقوله " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض "(1).

وقوله " والله بما تعملون بصير " يعني عالم بما يعملونه.

قوله تعالى: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير(73)

آية.

اخبر الله تعالى عن الكافرين أن بعضهم اولياء بعض بمعنى النصرة، لانه ينصر بعضهم بعضا.

وقوله " الا تفعلوه " الهاء عائدة إلى معنى ما أمروا به في الاية الاولى والثانية، ومخرجه مخرج الخبر والمراد به الامر، وتقديره الا تفعلوا ما امرتم به من التناصر والتعاون والبراء‌ة من الكفار " تكن فتنة في الارض وفساد كبير " على المؤمنين الذين لم يهاجروا.

فالفتنة هاهنا المحنة بالميل إلى الضلال لانه إذا لم يتوال المؤمن المؤمن على ظاهر حاله من الايمان والفضل، ولم يدعه إلى التبري من الضلال ادى ذلك إلى الضلال.

والفساد ضد الصلاح وهو الانقلاب إلى الضرر القبيح.

والصلاح جريان الشئ على استقامة.

والولي هو المختص بالعقد على النصرة في وقت الحاجة، وقد يعقد بالعزم، وقد يعقد بالحكم.

وقيل في معنى قوله " والذين كفروا بعضهم اولياء بعض " قولان: احدهما - في الميراث، في قول ابن عباس، وابي مالك. والثاني - قال قتادة وابن اسحق في النصرة.

___________________________________

(1) سورة 9 التوبة آية 72

[164]

قوله تعالى: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم(74)

آية.

اخبر الله تعالى في هذه الاية ان الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله وهاجروا من ديارهم وأوطانهم، يعني من مكة إلى المدينة، وجاهدوا مع ذلك في سبيل الله وقتال اعدائه. والذين آووا من الانصار ومعناه ضموهم اليهم ونصروا النبي صلى الله عليه واله بأنهم المؤمنون حقا، وقيل في معناه قولان: احدهما انهم المؤمنون الذين حققوا ايمانهم لما يقتضيه من الهجرة والنصرة بخلاف من اقام بدار الشرك. الثاني - قال ابو علي الجبائي: معناه انهم المؤمنون حقا، لان الله حقق ايمانهم بالبشارة التي بشرهم بها، ولو لم يهاجروا ولم ينصروا لم يكن مثل هذا.

واختلفوا في هل تصح الهجرة في هذا الزمان أو لا؟ فقال قوم: لا تصح لان النبي صلى الله عليه واله قال: لاهجرة بعد الفتح ولان الهجرة انتقال من دار الكفر إلى دار الاسلام على هجر الاوطان، وليس يقع مثل هذا في هذا الزمان لاتساع بلاد الاسلام إلا أن يكون نادرا لايعتد به.

وقال الحسن: بقيت هجرة الاعراب إلى الامصار إلى يوم القيامة.

والاقوى أن يكون حكم الهجرة باقيا، لان من أسلم في دار الحرب ثم هاجر إلى دار الاسلام كان مهاجرا، وسمي الجهاد في سبيل الله لانه طريق إلى ثواب الله في دار كرامته.

وقوله " لهم مغفرة ورزق كريم " اخبار منه تعالى أن لهؤلاء المغفرة لذنوبهم والرزق الكريم يعني العظيم الواسع والكريم الذي يصح منه الكرم من غير مانع.

والكرم الجود العظيم والشرف قال الشاعر: تلك المكارم لاقعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وقيل: الرزق الكريم هنا طعام الجنة لانه لا يستحيل إلى أجوافهم نجوا بل يصير كالمسك ريحا.

[165]

قوله تعالى: والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فاولئك منكم وأولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم(75)

آية.

اخبر الله تعالى بأن الذين هاجروا بعد هجرة من هاجر، وقيل أراد بعد الفتح وجاهدوا مع المؤمنين بأن قال " فأولئك منكم " ومعناه حكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم ومواريثهم ونصرتهم.

وقوله " وأولو الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " قيل في معنى " كتاب الله " قولان: احدهما - في كتاب الله من اللوح المحفوظ، كما قال " ما أصاب من مصيبة في الارض، ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها "(1). والثاني - قال الزجاج: يعني في حكم الله.

ومعنى " أولوا " ذووا، واحده ذو، ولا واحد له من لفظه. وفي الاية دلالة على ان من كان قرباه أقرب إلى الميت كان أولى بالميراث سواء كان عصبة اولم يكن او له تسمية او لم يكن لان مع كونه اقرب تبطل التسمية. ومن وافقنا في توريث ذوي الارحام يستثني العصبة، وذوي السهام. وهذه الاية نسخت حكم التوارث بالنصرة والهجرة فانهم كانوا لايورثون الاعراب من المهاجرين على ما ذكره في الايات الاول.

ومن قال: الولاية في الاية الاولى ولاية النصرة دون الميراث يقول: ليست هذه ناسخة لها بل هما محكمتان. ودخلت الفاء في قوله: " فاولئك " كما تقول الذي يأتيني فله درهم، لان فيه معنى المجازات وقال مجاهد: في هذه الايات الثلاث ذكر ما ولاية رسول الله بين

___________________________________

(1) سورة 57 الحديد آية 22

[166]

المهاجرين والانصار في الميراث، ثم نسخ ذلك بآخرها من قوله " وأولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله " وقال عبدالله بن الزبير نزلت في العصبات كان الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وارثك فنزلت " وأولو الارحام " إلى آخرها.

وقال الحسن: والذين آمنوا من بعد يعني بعد فتح مكة.

وقوله " منكم " معناه مؤمنون مثلكم، ولاهجرة بعد فتح مكة، وقال: الهجرة إلى الامصار قائمة إلى يوم القيامة. وكان الحسن يمنع ان يتزوج المهاجر إلى اعرابية.

وروي عن عمر انه قال: لاتنكحوا أهل مكة، فانهم اعراب. وأكثر هذه السورة في قصة بدر. وكانت في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة، من شهد هذه الواقعة فله الفضل.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1249
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29