• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء الخامس) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة يونس من ( آية 51 ـ آخر السورة ) .

سورة يونس من ( آية 51 ـ آخر السورة )

قوله تعالى: أثم إذا ما وقع آمنتم به ءألآن وقد كنتم به تستعجلون(51)

آية

" أثم " دخلت الف الاستفهام على (ثم) ليدل على ان الجملة الثانية بعد الاولى مع أن للالف صدر الكلام.

وقال الطبري معنى (ثم) - ههنا - (هنالك) وهذا غلظ، لان (ثم) بالفتح تكون بمعنى هنالك، وهذه مضمومة فلا تكون الا للعطف.

والعامل في (إذا) يحتمل أمرين: احدهما - ان يكون " آمنتم به " على أن تكون (ما) صلة. الثاني - ان يكون العامل (وقع) وتكون (ما) مسلطة على الجزاء. وإنما جاز ان يعمل الفعل الاول في الجزاء دون الثاني، ولم ؟؟؟ في (إذا) لئلا يختلط الشرط بجزائه وليس كذلك (إذا) لانها مضافة إلى الفعل الذي بعدها. والوقوع الحدوث.

[391]

وقوله " آلان " مبني على الفتح، لان تعريفه كتعريف الحرف في الانتقال من معنى إلى معنى.

ومعناه عند سيبويه أنحن من هذا الوقت نفعل كذا، وفتحت لالتقاء الساكنين.

وقال الفراء: أصلها (آن) دخلت عليها الالف واللام وبنيت كالذين، ودخول الالف واللام على اللزوم لا يمكنه، كما لا يمكن الذي.

ومعنى الاية أتأمنون حلول هذا العذاب بكم؟ ثم يقال لكم إذا وقع بكم العذاب وشاهدتموه: آلان آمنتم به، وكنتم به تستعجلون. وفائدتها الابانة عما يوجبه استعجال العذاب من التوبيخ عند وقوعه حين لا يمكن استدراك الامر فيه بعد أن كان ممكنا لصاحبه.

قوله تعالى: ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون(52)

آية.

قوله (ثم) عطف على الايمان الذي وقع في حال الالجاء اليه.

و " قيل " لهم بعد ذلك هذا القول على وجه التوبيخ والتقريع، لانها ليست حال استدراك لما فات.

والمعنى انه يقال لهؤلاء آلذين آمنوا حين نزول العذاب بهم - وقيل لهم آلان وقد استعجلتم " ذوقوا عذاب الخلد " يعني الدائم.

ويقال لهم " هل تجزون " بهذا العقاب الا بما كنتم تكسبون من المعاصي والذوق طلب الطعم بالفم في الابتداء، شبهوا بالذائق لانه أشد إحساسا. وقيل لانهم يتجرعون العذاب بدخوله أجوافهم.

[392]

قوله تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل أي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين(53)

آية

معنى " ويستنبؤنك " يستخبرونك أي يطلبون النبأ الذي هو الخبر " أحق هو " يعني هذا الوعيد الذي ذكره الله في هذه الاية الاولى، فقال الله لنبيه " قل إي وربي " أي نعم وحق الله انه لحق. والحق في الدين ما شهدت به الادلة الموجبه للعلم اواقتضاه غالب الظن فيما طريقه الظن.

وقوله " وما انتم بمعجزين " أي لستم تقدرون على اعجاز الله عما يريده من انزال العذاب بكم.

قوله تعالى: ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لايظلمون(54)

آية.

أخبر الله تعالى على وجه التعظيم لهذا العذاب وشدته بأنه لو كان لمن ظلم بارتكاب المعاصي " ما في الارض " من الاموال " لافتدت به " من هول ما يلحقه من العذاب.

وفتحت (أن) بعد (لو) لانها مبنية على ما هو بمنزلة العامل لاختصاصها بالفعل، والتقدير لو كان أن لكل نفس، إلا أنه لايظهر المعنى عن اظهاره بطلب (أن) له.

وجاز أن تقع (أن) بعد (لو) ولم يجز المصدر، لان فتحها يدل على إظمار العامل اللفظي وليس كذلك المصدر، لانه مما يعمل فيه الابتداء.

والافتداء إيقاع الشئ بدل غيره لدفع المكروه يقال: فداه يفديه فدية وفداء، وافتداه افتداء، وفاداه مفاداة وتفادى تفاديا، وفداه تفدية.

وقوله " واسروا الندامة لما رأوا العذاب " أي أخفوا الندامة.

وقيل " وأسروا الندامة " رؤساء الضلالة من الاتباع والسفلة.

وقيل " أسروا الندامة " أي اخلصوها.

[393]

والندامة الحسرة على ما كان يتمنى انه لم يكن، وهي حالة معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منه ويود أنه لم يكن أوقعه.

وقال ابوعبيدة " أسروا " معناه أظهروا.

قال الازهري: هذا غلط إنما يكون بمعنى الاظهار ما كان بالشين المنقطة من فوق وقوله " وقضي بينهم بالقسط " اي فصل بينهم بالعدل " وهم لايظلمون " في القضاء والحكم بينهم وما يفعل بهم من العقاب، لانهم جروه على أنفسهم بارتكاب المعاصي.

وروي أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه واله ما يغنيهم اسرار الندامة وهم في النار؟ قال: (يكرهون شماتة الاعداء) وروي مثله عن أبي عبدالله عليه السلام.

قوله تعالى: ألا إن لله ما في السموات والارض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لايعلمون(55)

آية

" ألا " كلمة تستعمل في التنبيه، وأصلها (لا) دخلت عليها حرف الاستفهام تقريرا وتأكيدا، فصارت تنبيها وكسرت (إن) بعد (ألا) لان (ألا) يستأنف ما بعدها لينبه بها على معنى الابتداء: ولذلك وقع بعدها الامر والدعاء كقول امرئ القيس:

ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي *** وهل ينعمن من كان في العصر الخالي(1)

ووجه اتصال هذه الاية بما قبلها أحد أمرين: احدهما - للاثبات بعد النفي لان ما قبلها ليس للظالم ما يفتدي به بل جميع الملك لله تعالى. والثاني - ان يكون معناه من يملك السموات والارض يقدر على ايقاع ما توعد به.

والسموات جمع سماء وهو مأخوذ من السمو الذي هو العلو، وهي المزينة بالكواكب وهي سقف الارض، وهي طبقات، كما قال سبع سموات طباقا. وجمعت السموات، ووحدت الارض في جميع القرآن، لان طبقاتها السبع خفية عن الحس وليس كذلك السموات.

___________________________________

(1) ديوانه 158 وهو مطلع قصيدة له مشهورة.

[394]

وقوله " ألا ان وعد الله حق ولكن أكثرهم لايعلمون " صحة ذلك لجهلهم به تعالى وبما يجوز عليه وما لايجوز، وحهلهم بصحة ما أنى به النبي صلى الله عليه واله.

قوله تعالى: هو يحيي يميت وإليه ترجعون(56)

آية.

في هذه الاية اخبار منه تعالى أن الذي يملك التصرف في السموات والارض هو الذي يحيي الخلق بعد كونهم أمواتا وهو الذي يميتهم إذا كانوا أحياء. ثم يرجعون اليه يوم القيامة فيجازيهم بمثل أعمالهم إن كانوا مطيعين بالثواب الدائم، وان كانوا كفارا بالعقاب الدائم.

قال أبوعلي: في هذه الاية دلالة على أنه لايقدر على الحياة إلا الله لانه تعالى تمدح بكونه قادرا على الاحياء والاماتة، فلو كان غيره قادرا على الحياة لما كان في ذلك مدح. وفيها دلالة على كونه قادرا على الاعادة لان من قدر على النشأة الاولى يقدر على النشأة الثانية.

قوله تعالى: يا أيها الناس قد جاء‌تكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين(57)

آية

هذا خطاب من الله تعالى للمكلفين من الناس يخبرهم الله تعالى بأنه أتاهم موعظة من الله. والموعظة ما يدعوا إلى الصلاح ويزجر عن القبيح بما يتضمنه من الرغبة والرهبة ويدعو إلى الخشوع والنسك، ويصرف عن الفسوق والاثم، ويريد بذلك القرآن وما أتى به النبي صلى الله عليه واله من الشريعة.

وقوله " وشفاء لما في الصدور " فالشفاء معنى كالدواء لازالة الداء. فداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر

[395]

وأطباؤه اقل والشفاء منه أجل. والصدور جمع صدر وهو موضع القلب، وهو اجل موضع في الحي لشرف القلب.

وقوله " وهدى ورحمة للمؤمنين " وصف القرآن بأنه يقال عما يؤدي إلى الحق ودلالة تؤدي إلى المعرفة ونعمة على المحتاج لانه لايقال للملك إذا اهدى إلى ملك آخر جوهرة أنه قدر رحمه بذلك، وإن كانت نعمة يجب بها شكره ومكافأته. وإنما أضافه إلى المؤمنين، لانهم الذين انتفعوا به دون الكفار الذين لم ينتفعوا به، كما قال " هدى للمتقين " وإن كان هدى لغيرهم.

قوله تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون(58)

آية.

قرأ الحسن " فلتفرحوا " بالتاء. وبه قرأ ابوجعفر المدني ورويس وروي ذلك عن أبي بن كعب. الباقون بالياء.

وكان الكسائي يعيب القراء‌ة بالتاء وأجازها الفراء واحتج بقولهم: لتأخذوا مصافكم.

واللام في قوله " فليفرحوا " لام الامر وإنما احتيج اليها ليؤمر الغائب بها.

وقد يجوز أن يقع في الخطاب للتصرف في الكلام.

وقرأ أبوجعفر وابن عامر ورويس " تجمعون " بالتاء. الباقون بالياء.

قال ابوعلي: الجار في قوله " فبذلك يتعلق بقوله " فليفرحوا " لان هذا الفعل يصل به قال الشاعر: فرحت بما قد كان من سيديكما(1) والفاء في قوله " فبذلك فليفرحوا " زائدة لان المعنى فافرحوا بذلك ومثله قول الشاعر:

___________________________________

(1) قائله زهير ابن ابي سلمى ديوانه: 109

[396]

فاذا هلكت فعند ذلك فاجزعي(1) فالفاء في قوله فاجزعي زيادة مثل التي في " فليفرحوا " وقال الفراء " فبذلك " بدل من قوله " بفضل الله وبرحمته ".

ومن قرأ بالياء جعله أمرا للغائب، واللام انما تدخل على فعل الغائب لان المواجهة استغني فيها عن اللام بقولهم (افعل) فصار مشبها للماضي في قولك (يدع) الذي استغني عنه ب‍ (ترك)، ولو قلت بالتاء لكنت مستعملا لما هو كالمرفوض، وان كان الاصل.

ولا يرجح القراء‌ة بالتاء لكونها هي الاصل لانه اصل مرفوض.

ومن قرأ بالتاء اعتبر الخطاب الذي قبله من قوله " قد جاء‌تكم موعظة.. فلتفرحوا " وزعموا أنها في قراء‌ة ابي فافرحوا قال ابوالحسن: وزعموا انها لغة وهي قليلة بمعنى لتضرب، وانت تخاطب.

فان قيل: كيف جاء الامر للمؤمنين بالفرح، وقد ذم الله ذلك في مواضع من القرآن كقوله " إن الله لايحب الفرحين "(2) وقال " إنه لفرح فخور "(3) وغير ذلك؟.

قيل: اكثر ما جاء مقترنا بالذم من ذلك ما كان مطلقا، فاذا قيد لم يكن ذما كقوله " يرزقون فرحين "(4) وفي الاية مقيد بذلك.

فأما قوله " فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله "(5) فانه مقيد ومع ذلك فهو مذموم، لكنه مقيد بما يقتضي الذم، كما جاء مقيدا بما لا يقتضي الذم وإن قيد بما يقتضي ومقيده بحسب ما يقيد به، فان قيد بما يقتضي الذم، أفاد الذم وإن قيد بما يقتضي المدح أفاد المدح.

فأما قوله " فلما جاء‌تهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم "(6) وقوله " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله "(7) والفرح بنصر الله للمؤمنين محمود، كان ان القعود عن رسول الله بالتقييد في الموضعين مذموم.

___________________________________

(1) قد مر في 5 / 174.

(2) سورة 28 القصص آية 76.

(3) سورة 11 هود آية 10.

(4) سورة 3 آل عمران آية 170.

(5) سورة 9 التوبة آية 82.

(6) سورة 40 المؤمن آية 83.

(7) سورة 30 الروم آية 4 - 5

[397]

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله أن يقول للمكلفين افرحوا بفضل الله، وهو زيادة نعمه وانما جاز أن يقول: فضل الله، وانما هو من افضال الله، لانه في موضع افضال، كما ان النبات في موضع إنبات في قوله " أنبتكم من الارض نباتا "(1) وايضا فان اضافة الفضل إلى الله بمعنى الملك كما يضاف العبد اليه بمعنى انه مالك له. والفرح لذة في القلب بادراك ما يحب، وان شئت قلت: هو لذة في القلب بنيل المشتهى، وقد حسنه الله في هذه الاية فدل على انه لايحب الفرحين بمعنى البطرين.

وقوله " هو خير مما يجمعون " قيل فضل الله هو القرآن، ورحمته هو الاسلام " خير مما يجمعون " من الذهب والفضة. ذكره ابن عباس وابوسعيد الخدري والحسن وقتادة ومجاهد.

ومن قرأ بالياء عنى به المخاطبين والغيب، غير أنه غلب الغيب على المخاطبين، كما غلب التذكير على التأنيث، فكأنه أراد به المؤمنين وغيرهم.

ومن قرأ بالتاء كان المعنى فافرحوا بذلك ايها المؤمنون اي افرحوا بفضل الله، فان ما آتاكموه من الموعظة شفاء ما في الصدور خير مما يجمع غيركم من اعراض الدنيا.

وقال ابوجعفر عليه السلام " بفضل الله " يعني الاقرار برسول الله و " برحمته " الائتمام بعلي عليه السلام " خير مما " يجمع هؤلاء من الذهب والفضة. وإذا حملت الاية على عمومها كان هذا ايضا داخلا فيها.

قوله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءألله أذِن لكم أم على الله تفترون(59)

آية.

قال الحسن: المعنى بهذه الاية مشركوا العرب قال الله لهم " أرأيتم " ما أنزل الله لكم من رزق " أي أرزاق العباد من المطر الذي ينزله الله " فجعلتم منه حراما

___________________________________

(1) سورة 71 نوح آية 17

[398]

وحلالا " يعني ما حرموا من السائبة والوصيلة والحام، وما حرموا من زروعهم. قل يا محمد لهم " آلله أذن لكم أم على الله تفترون؟ " معناه انه لم يأذن لكم في شئ من ذلك بل انتم تكذبون في ذلك على الله. واستدل قوم بذلك على أن القياس في الاحكام لايجوز.

قال الزجاج (ما) في قوله " ما أنزل الله " في موضع نصب ب‍ (انزل) والمعنى انكم جعلتم البحائر والسوائب حراما، والله تعالى لم يحرم ذلك وتكون (ما) بمعنى الاستفهام. ويحتمل أن تكون (ما) بمعنى الذي وتكن نصبا ب‍ (أرأيتم).

والرزق منسوب كله إلى الله لانه لاسبيل للعبد اليه الا باطلاقه بفعله له او اذنه فيه اما عقلا او سمعا. ولايكون الشئ رزقا بمجرد التمكين لانه لو كان كذلك لكان الحرام رزقا، لان الله مكن فيه.

قال الرماني: التحريم عقد بمعنى النهي عن الفعل والتحليل حل معنى النهي بالاذن.

الآية: 60 - 79

قوله تعالى: وما ظن الذين يفترون على الله كذب يوم القيمة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لايشكرون(60)

آية

المعنى أي شئ يظن الذين يكذبون على الله انه يصيبهم يوم القامة على افترائهم على الله، اي لا ينبغي ان يظنوا ان يصيبهم على ذلك الا العذاب والعقاب، وجعل ذلك زجرا عن الكذب على الله.

ثم اخبر تعالى " ان الله لذو فضل على الناس " بما فعل بهم من ضروب النعم " ولكن اكثرهم لايشكرون " نعمه ولا يعترفون به ويجحدونه. وهذا خرج مخرج التقريع على افتراء الكذب، وإن كان بصورة الاستفهام وتقديره ايؤديهم إلى خير ام شر؟. وافتراء الكذب أفحش من فعل الكذب بتزويره وتنميقه فالزاجر عنه اشد.

وقيل: معنى قوله " لذو فضل على الناس " أي لم يضيق عليهم بالتحريم لما لا مصلحة لهم في تحريمه كما ادعيتم عليه.

[399]

وقيل: معناه انه لذو فضل على خلقه بتركه معاجلة الكذاب بالعقوبة في الدنيا، وامهاله إياه إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين(61)

آية.

قرأ الكسائي " يعزب " بكسر الزاي هنا وفي سبأ. الباقون بضمها، وهما لغتان.

وان كان الضم أفصح واكثر.

وقرأ حمزة وخلف ويعقوب " ولا اصغر.. ولا اكبر " بالرفع فيهما. الباقون بفتحهما.

فمن فتح الراء فلان (افعل) في الموضعين في موضع جر، لانه صفة المجرور الذي هو قوله " مثقال ذرة " وانما فتح، لان (افعل) اذا اتصل به منكر كان صفة لاتنصرف في النكرة. ومن رفعه حمله على موضع الموصوف، لان الموصوف الذي هو " من مثقال ذرة " الجار والمجرور في موضع رفع، كما كانا في موضعه في قوله " كفى بالله "(1) ومثل قوله " من إله غيره "(2) فمن رفع يجوز ان يكون صفة بمنزلة (مثل) ويجوز أن يكون استثناء كما تقول: مالكم من إله الا الله.

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 5، 44، 69، 78، 80، 131، 165، 170، ويونس آية 29 والرعد 45 والاسرى 96، والعنكبوت 52، والاحزاب 3، 48 والفتح 28.

(2) سورة 11 هود آية 50، 61، 83 وسورة 23 المؤمنون آية 23، 32

[400]

ومثله " فاصدق واكن من "(1) وغير ذلك. ويجوز أن يعطف قوله " ولا اصغر " على " ذرة " فيكون التقدير وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا مثقال اصغر، فعلى هذا لايجوز الا الجر لانه لاموضع للذرة غير لفظها، كما كان لقولك من مثقال ذرة موضع غير لفظه. ولا يجوز على قراء‌ة حمزة ان يكون معطوفا على (ذرة) كما جاز في قول الباقين لانه اذا عطف على (ذرة) وجب ان يكون اصغر مجرورا، وانما فتح، لانه لاينصرف وكذلك يكون على قول من عطفه على الجار الذي هو (من).

معنى قوله " وما تكون في شأن " ليس تكون في حال من الاحوال، لان الشأن والبال الحال نظائر وجمعه شؤن. والشأن معنى مفخم على طريق الجملة يقال: ما شأنك وما حالك وما بالك.

وقوله " وما تتلو منه من قرآن " اي وليس تتلو من القرآن، فتكون الهاء كناية عن القرآن قبل الذكر لتفخيم ذكر القرآن، كما قال " إنه أنا الله العزيز الحكيم "(2) ويحتمل أن تكون الهاء عائدة على الشأن وتقديره وما يكون من الشأن.

وقوله " وما تعملون من عمل الا كنا عليكم شهودا " اي ليس يخفى على الله شئ من اعمالكم بل يعلمها كلها ويشهدها. والمشاهدة الادراك بالحاسة. والمشاهد المدرك بحاسة اي ذات يعني عن حاسة يقال: شاهد وشهود وشهداء.

وقوله " اذ تفيضون فيه " فالاضافة الدخول في العمل على جهة الانصباب اليه، وهو الانبساط اليه في العمل مأخوذ من فيض الاناء اذا انصب من جوانبه. ومنه قوله " أفضتم من عرفات "(3) اي تفرقتم كتفرق الماء الذى ينصب من الاناء. ومثله أفاض الماء عليه وافاض في الحديث وقوله " وما يعزب عن ربك " فالعزوب الذهاب عن المعلون وضده حضور المعنى للنفس.

وتعزب اذا انفرد عن اهله.

وقال ابن عباس معنى لايعزب لايغيب.

وقوله " من مثقال ذرة " فالذر صغار النمل واحده ذرة، وهو خفيف الوزن جدا.

___________________________________

(1) سورة 63 المنافقون آية 10.

(2) سورة 27 النمل آية 9.

(3) سورة 2 البقرة آية 198

[401]

ومعنى مثقال ذرة وزن ذرة يقال: خذ هذا فانه أخف مثقالا اي اخف وزنا.

وقوله " ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الا في كتاب مبين " معناه لايخفى عليه ما وزنه مثقال ذرة ولا ما هو اصغر منها ولا ما هو اكبر الا وقد بينه في الكتاب المحفوظ وكتبته ملائكته وحفظوه.

قوله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون(62)

آية.

بين الله تعالى في هذه الاية أن أولياء‌ه لاخوف عليهم يوم القيامة من العقاب " ولا هم يحزنون " اي ولايخافون.

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هم قوم ذكرهم الله بما هم عليه من سيماء الخير والاخبات وقال ابن زيد: هم الذين آمنوا وكانوا يتقون. وقد بينهم في الاية بعدها.

وقال قوم: هم المتحابون في الله ذكر ذلك في خبر مرفوع. والاولياء جمع ولي وهو الذي يستحق من الله ان يوليه ثوابه وكرامته، وهو المطيع لله الذي يتولى اجلاله واعظامه.

وقيل: الولي النصير ولا يسمى المتولي الانعام على غيره انه وليه، لانه قد يتولى الانعام عليه للمظاهرة بالجميل في امره واستصلاحه الذي يصرف عن القبيح، وان كان عدوه. ولايجتمع الولاية والعداوة.

والخوف انزعاج القلب لما يتوقع من المكروه.

والخوف والفزع والجزع نظائر، وضده الامن، والحزن غلظ الهم مأخوذ من الحزن، وهي الارض الغليظة، وضده السرور.

قال الجبائي: هذه الاية تدل على ان المؤمنين المستحقين للثواب لايخافون يوم القيامة اصلا بخلاف ما يقول قوم انهم يخافون إلى ان يجوزوا الصراط.

وقال البلخي: ليس يمتنع ان يخافوا من اهوال يوم القيامة وان علموا ان مصيرهم إلى الجنة والثواب. وعلى ما نذهب اليه من انه يجوز ان يعاقب الله بعض الفساق ثم يردهم إلى الثواب ينبغي ان تكون الاية مخصوصة بمن لا يستحق العقاب اصلا. او نقول المراد بذلك لاخوف عليهم ولاهم يحزنون لذلك.

وروي عن الحسن عليه السلام انهم الذين ادوا فرائض الله واخذوا بسنن رسول الله وتورعوا

[402]

عن محارم الله وزهدوا في عاجل زهرة الدنيا، ورغبوا فيما عند الله واكتسبوا الطيب من رزق الله لمعايشهم لايريدون به التفاخر والتكاثر. ثم انفقوه فيما يلزمهم من حقوق واجبة، فاولئك الذين يبارك الله لهم فيما اكتسبوا ويثابون على ما قدموا منه لاخرتهم.

قوله تعالى: ألذين آمنوا وكانوا يتقون(63)

آية.

يحتمل موضع (الذين) ثلاثة أوجه من الاعراب: احدها - ان يكون نصبا بأن يكون صفة للاولياء.

والثاني - ان يكون رفعا على المدح.

والثالث - ان يكون رفعا بالابتداء، وخبره " لهم البشرى ".

اخبر الله تعالى ان الذين آمنوا هم الذين يصدقون بالله ويعترفون بوحدانيته وهم مع ذلك يتقون معاصيه.

والفرق بين الايمان والتقوى ان التقوى مضمن باتقاء المعاصي مع منازعة النفس اليها.

والايمان من الامن بالعمل من عائد الضرر.

والفرق بين الايمان بالله والطاعة له ان الطاعة من الانطياع بجاذب الامر والاراده المرغبة في الفعل.

والايمان هو الامن المنافي لانزعاج القلب.

وقوله " يتقون " فالاتقاء اصله من (وقيت) فقلبت الواو، وادغمت في تاء الافتعال كما قلبت في اتجاه وتراث.

قوله تعالى: لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الاخرة لاتبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم(64)

آية

ذكر الله تعالى ان الذين وصفهم في الاية الاولى من انهم مؤمنون بالله ويتقون معاصيه " لهم البشرى " وهي الخبر بما يظهر سروره في بشرة الوجه. والبشرى والبشارة واحد.

[403]

وقوله " في الحياة الدنيا " قيل فيه ثلاثة اقوال: احدها - قال قتادة والزهري والضحاك والجبائي: هو بشارة الملائكة عليهم السلام انها الرؤيا الصادقة الصالحة يراها الرجل او يرى له.

وقال ابوجعر عليه السلام البشرى في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن او يرى له وفي الاخرة الجنة.

والثالث - بشرى القرآن بشرف الايمان - ذكره الفراء والزجاج وغيرهما.

وقوله " لاتبديل لكلمات الله " معناه لاخلف لما وعد الله تعالى به من الثواب بوضع كلمة اخرى مكانها بدلا منها، لانها حق والحق لاخلف له بوجه.

وقوله " ذلك هو الفوز العظيم " اشارة إلى هذه البشرى المتقدمة بأنه الفوز الذي يصغر كل شئ في جنبه.

قوله تعالى: ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم(65)

آية.

ظاهر قوله " ولا يحزنك قولهم " ظاهره النهي والمراد به التسلية للنبي صلى الله عليه واله عن قولهم الذي يؤذونه به. والنهي في اللفظ القول. وانما هو عن السبيل المؤدي إلى التأذي بالقول. ومثله لااراك ههنا والمعنى لاتكن ههنا فمن كان ههنا رأيته، فكذلك المراد بالاية لاتعبأ بالاذى فيمن عني به اذاه.

وقوله " ان العزة لله جميعا " كسرت (إن) بالاستئناف بالتذكير لما ينفي الحزن لا انها مفعول القول لانها ليست حكاية عنهم، لانهم لم يقولوا ان العزة لله. ولا يجوز نصبها على ان تكون معمول القول لانهم لو قالوه لما احزن ذلك النبي صلى الله عليه واله ولو فتحت (ان) على معنى (لان) جاز.

والعزة القدرة على كل جبار بالقهر بأن لايرام ولايضام عز يعز عزا فهو عزيز.

والمعنى انه الذي يعزك وينصرك حتى تصير اعز ممن ناواك وقوله " هو السميع العليم " معناه انه يسمع قولهم ويعلم ضميرهم فيجازيهم بما تقتضية حالهم ويدفع عنك شرهم.

[404]

قوله تعالى: ألا إن لله من في السموات ومن في الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون(66)

آية

قد بينا مضى أن أصل (ألا) (لا) وانما دخلت عليها حرف الاستفهام تنبيها.

والفرق بين (ألا) و (أما) أن (ألا) للاستقبال ولاتقع بعدها (إن) الا مكسورة.

و (اما) تكون بمعنى حقا كقولهم اما انه منطلق، لانها للحال ويجوز بعد (اما) كسر (ان) وفتحها.

لما سلى الله النبي صلى الله عليه واله فقال " لايحزنك " قول هؤلاء الكفار ف‍ " ان العزة لله " يعني القدرة والقهر فانهم لايفوتونه، بين بعد ذلك ما يدل عليه وينبه على صحته وهو أن له تعالى " من في السموات ومن في الارض " يعني العقلاء. واذا كان له ملك العقلاء فما عداهم تابع لهم، ووجب ان يكون ملكا له وانما خص العقلاء تعظيما للامر.

وقوله " وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء " تحتمل (ما) في قوله " وما يتبع " وجهين: احدهما - ان تكون بمعنى (اي) كأنه قال واي شئ يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، تقبيحا لفعلهم. الثاني - ان تكون نافية، وتقديره وما يتبعون شركاء في الحقيقة والمعرفة.

وقوله " ان يتبعون الا الظن " معناه ليس يتبعون في اتخاذهم مع الله شركاء الا الظن لتقليدهم اسلافهم في ذلك او لشبهة دخلت عليهم بأنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى وبين بعد ذلك انهم ليسوا الا كاذبين بهذا القول والاعتقاد - في قوله " ان هم الا يخرصون ". وفائدة الاية الابانة عن انه يجب اخلاص العبادة لمن يملك السموات والارض وان لايشرك معه في العبادة غيره.

[405]

قوله تعالى: هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون(67)

آية

بين الله تعالى في هذه الاية ان الذي يملك من في السموات ومن في الارض " هو الذي جعل الليل " اي خلقه " لتسكنوا فيه " اي خلقه وعرضه لتسكنوا فيه وانه لاجل ذلك خلقه ليزول التعب والكلال بالسكون فيه وجعل " النهار مبصرا " وانما يبصر فيه تشبيها ومجازا واستعارة في صفة الشئ بسببه على وجه المبالغة ومثله قول جرير:

لقد لمتنا يا أم عيلان في السرى *** ونمت وما ليل المطي بنائم(1)

وقال رؤبة: ونام ليلي وتجلى همي(2) والفرق بين الجعل والفعل ان جعل الشئ قد يكون باحداث غيره كجعل الطين خزفا ولا يكون فعله إلا باحداثه.

والفرق بين الجعل والتغيير أن تغيير الشئ لايكون الا بتصييره على خلاف ما كان، وجعله يكون بتصييره على مثل ما كان كجعل الانسان نفسه ساكتا على استدامة الحال.

وقوله " ان في ذلك لايات لقوم يسمعون " اخبار منه تعالى وتنبيه على ان هذا جعل لايقدر عليه الا الله تعالى، وانه لايصح الا من عالم قاصد، وانه نعمة على الخلق بما لهم في ذلك من النفع والصلاح، وانه من الامور الازمة الدائرة، وانه منصوب للفكر لايغيب عنه طرفة عين.

___________________________________

(1) ديوانه 544 وتفسير الطبري 11 / 89 ومجاز القرآن 1 / 279.

(2) ديوانه 143 ومجاز القرآن 1 / 279

[406]

قوله تعالى: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الارض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون(68)

آية

الذين أضافوا اتخاذ الولد طائفتان: احداهما - كفار قريش والعرب، فانهم قالوا: الملائكة بنات الله. والاخرى - النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، فكذب الله الفريقين. ولايجوز اتخاذ الولد على الله على وجه التبني، كما لايجوز عليه اتخاذ إله على التعظيم، لانه لما استحال حقيقته عليه استحال مجازه المبني عليها.

وحقيقة الولد من ولد على فراشه او خلق من مائه، ولذلك لايقال: تبنى الشاب شيخا، ولا تبنى الانسان بهيمة لماكان ذلك مستحيلا، وهذه الحقيقة مستحيلة فيه تعالى، فاستحال مجازها أيضا.

واتخاذ الخليل جائز، لان الخلة اصفاء المودة التي توجب الاطلاع على سره ثقة به.

وان كان مشتقا من الخلة - بفتح الخاء - فهو لافتقاره اليه، لان الخلة هي الحاجة.

ويجوز ان يقال المسيح روح الله، لان الارواح كلها ملك لله.

وانما خص المسيح بالذكر تشريفا له بهذا الذكر كما خص الكعبة بأنها بيت الله، وان كانت الارض كلها لله تعالى.

وقوله " وسبحانه هو الغني " تنزيه من الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد لكونه غير محتاج إلى ذلك، لانه مالك ما في السموات والارض.

وقوله " ان عندكم من سلطان بهذا " إخبار منه أنه ليس مع هؤلاء الذين يتخذون مع الله ولدا برهان ولاحجة، لان السلطان هو البرهان الظاهر، ووبخهم على قولهم ذلك فقال " أتقولون على الله مالا تعلمون " لان من أقدم على الاخبار عما لا يعلم صحته ولا يأمن كونه كذبا مقبح عند العقلاء.

[407]

قوله تعالى: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لايفلحون(69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون(70)

آيتان عند الجميع.

قوله " لا يفلحون " وقف تام. أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله ان يقول للمكلفين " إن الذين " يكذبون على الله باتخاذ الولد وغير ذلك " لايفلحون " اي لا يفوزون بشئ من الثواب. وكسرت (إن) بعد القول، لانه حكاية لما يستأنف الاخبار به ولذلك دخلت لام الابتداء في الخبر، لانها تؤذن بأنه موضع ابتداء. والكذب يتعاظم الاثم عليه بحسب تعاظم الضرر به وكثرة الزواجر عنه، فالكذب على الله أعظم لكثرة الزواجر عنه لما فيه من تضييع حق المنعم بأجل النعم.

وقوله " متاع في الدنيا " رفع بأنه خبر الابتداء. وتقديره ذاك متاع أو هو متاع. ويجوز أن يكون على تقدير لهم متاع. وإنما خص بالدنيا لئلا يغتر به. والمتاع ما يقع به الانتفاع من أثاث أو غيره. والانتفاع حصول الالتذاذ. وانما جاز أن يمتعوا في الدنيادون الاخرة، لان الدنيا دار عمل والاخرة دار جزاء، ولذلك كان التكليف في الدنيا دون الاخرة.

وقوله " ثم الينا مرجعهم " فالمرجع المصير إلى الشئ بعد الذهاب عنه، فهؤلاء ابتدأهم الله ثم يصيرون إلى الهلاك بالموت. ثم يرجعون بالانشاء ثانية.

وقوله " ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " معناه انا لا نقتصر بعثهم بعد موتهم بل نوصل اليهم العذاب الشديد وننزله بهم جزاء بما كانوا يكفرون في دار الدنيا.

[408]

قوله تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاء‌كم ثم لايكن أمركم عليكم غمة ثم أقضوا إلي ولا تنظرون(71)

آية.

قرأ نافع في رواية الاصمعي عنه " فاجمعوا " من جمع. الباقون بقطع الهمزة وقرأ يعقوب " وشركاؤكم " بالرفع. الباقون بالنصب.

قال أبوعلي: ما رواه الاصمي عن نافع من وصل الهمزة من جمعت، والاكثر في الامر يقال أجمعت. كقوله " وما كنت لديهم أذ أجمعوا أمرهم "(1) وكما قال الشاعر:

(يا ليت شعري والمنى لاتنفع) هل أغدون يوما وأمري مجمع(2)

اي معد ويمكن أن يكون المراد، واجمعوا ذوي الامر منكم أي رؤساء‌كم ووجوهكم، كما قال " وأولي الامر منهم "(3) فحذف المضاف وأجرى على المضاف اليه ما كان يجري على المضاف لوثبت.

ويجوز ان يكون جعل الامر ما كانوا يجمعونه من كيدهم ثم الذين يكيدونه به، فيكون بمنزلة قوله " فاجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا " على أن أبا الحسن يزعم أن وصل الالف في " واجمعوا أمركم وشركاء‌كم " أكثر في كلام العرب.

قال " وانما يقطعون الهمزة إذا قالوا أجمعوا على كذا وكذا، قال: والقراء‌ة بالقطع غريبة. ومن وصل الهمزة حمل الشركاء على هذا الفعل الظاهر لانك جمعت الشركاء وجمعت القوم، وعلى هذا

___________________________________

(1) سورة 12 يوسف آية 102.

(2) تفسير الطبري 11 / 90 والقرطبي 8 / 362.

(3) سورة 4 النساء آية 82

[409]

قال " ذلك يوم مجموع له الناس "(1) ومن قطع الهمزة أضمر للشركاء فعلا آخر كأنه قال فاجمعوا أمركم واجمعوا شركاء‌كم أو ادعوا شركاء‌كم، قال الشاعر: علفتها تبنا وماء باردا(2) وقال آخر: شراب البان وتمر واقط وفي قراء‌ة أبي " وادعوا شركاء‌كم " ويجوز أن يكون انتصاب الشركاء على انه مفعول معه، وهو قول الزجاج، كما قالوا: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطيالسة، وقالوا: لو ترك الفصيل وامه لرضع لنبها.

ومن رفع " وشركاؤكم " كيعقوب والحسن حمله على الضمير، وتقديره فاجمعوا أنتم وشركاؤكم.

قال الزجاج: وحسن ذلك لدخول المنصوب بينهما.

ولو لم يدخل لما حسن.

ولايجوز أن تقول اجمعوا وشركاؤكم.

وانما يجوز العطف على الضمير اذا اكد.

وزعم ابوالحسن أن قوما يقيسون هذا الباب.

وقوما يقصرونه على ما سمع.

قال ابو علي الفارسي: والاول عندي أقيس.

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله أن يقرأ على هؤلاء الكفار أخبار نوح عليه السلام حين " قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي " بين أظهركم " وتذكيري " اياكم " بآيات الله " وحججه وهممتم بقتلي واذاي فافعلوا ما بدالكم فاني على الله توكلت وإنما جعل جواب الشرط " فعلى الله توكلت " مع انه متوكل عليه في جميع احواله ليبين لهم أنه متوكل في هذا على التفصيل لما في إعلامه ذلك من زجرهم عنه لان الله تعالى يكفيه أمرهم.

والتوكل والتفويض جعل الامر إلى من يدبره للثقة به في تدبيره فمن فوض أمره إلى لله فقد توكل عليه.

وقوله " ثم لا يكن أمركم عليكم غمة " معناه ليكن امركم ظاهرا مكشوفا ولا يكونن مغطى مستورا من

___________________________________

(1) سورة 11 هود آية 104.

(2) تاويل مشكل القرآن 165 وأمالي المرتضى 2 / 170 واللسان (عطف)

[410]

غممت الشئ اذا سترته، فالغمة ضيق الامر الذي يوجب الحزن، والغمة والضغطة والكربة والشدة نظائر، ونقيضه الفرجة. وقيل (غمة) معناه مغطى تغطية حيرة مأخوذة من غم الهلاك.

وقوله " فاجمعوا امركم وشركاء‌كم " فيه تهديد.

وقوله " ثم اقضوا الي ولا تنظرون " معناه افعلوا ما تريدون، على وجه التهديد لهم، وانه اذا كان الله ناصره وعليه وتوكله يبالي بمن عاداه واراد به السوء فان الله يكفيه امره. وقرئ بالفاء ومعناهما متقاربان، ولان معنى اقضوا توجهوا الي.

وقال ابن الانباري معنى " اقضوا " امضوا، يقال قضى فلان إذا مات ومضى. ومعنى " ولا تنظرون " ولا تؤخرون.

قوله تعالى: فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلاعلى الله وأمرت أن أكون من المسلمين(72)

آية

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله تمام ما حكاه عن نوح انه قال لقومه إن " توليتم اي هربتم عن الحق واتباعه ولم تقبلوه ولم تنظروا فيه. والتولي والاعراض والانصراف نظائر.

وقوله " فما سألتكم من اجر " اي لااطلب منكم اجرا على ما أؤديه اليكم من الله، فيثقل ذلك عليكم. والاجر النفع المستحق بالعمل والاجرة مضمنة بشريطة او مجرى عادة.

وقوله " ان اجري الا على الله " اي ليس اجري في القيام باداء الرسالة الا على الله.

وقوله " وامرت ان اكون من المسلمين " معناه قل لهم: امرني الله بأن اكون من المسلمين لامر الله بطاعته ثقة بأنها خير ما يكسبه العباد.

[411]

قوله تعالى: فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين(73)

آية.

لما حكى الله تعالى ماقال نوح لقومه في الايتين الاولتين، ذكر ما كان من قومه في مقابلة ذلك، وهو انهم كذبوه اي نسبوه إلى الكذب فيما ذكره من انه نبي الله وان الله بعثه اليهم ليدعوهم إلى طاعته، وانه تعالى عند ذلك نجا نوحا اي خلصه، وخلص الذين معه في السفينة وجعلهم خلائف معه، انه جعل الذين نجوا مع نوح لمن هلك بالغرق عبرة. وقيل انهم كانوا ثمانين نفسا.

وقال البلخي: يجوز أن يكون اراد به جعل منهم رؤساء في الارض واهلك باقي أهل الارض أجمع لتكذيبهم لنوح.

والغرق الاهلاك بالماء الغامر، وقد يغرق الحصاة بالماء على هذا المعنى. واما التغريق في رحمة الله. فانما هو تشبيه بما اكتنفه الماء الغامر.

ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله " انظر كيف كان عاقبة الذين " خوفوا بالله وعذابه فلم يخافوه، كيف اهلكهم الله ليعلمهم بذلك ان حكم هؤلاء الذين كذبوه وجحدوا نبوته حكم اولئك في أن الله يهلكهم ويدمر عليهم. يسليه بذلك عن ترك انقيادهم له.

قوله تعالى: ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين(74)

آية

أخبر الله تعالى انه بعث رسلا - بعد نوح وإهلاك قومه - إلى قومهم الذين كانوا فيهم بعد ان تناسلوا وكثروا فأتوهم بالحجج والمعجزات الدالة على صدقهم وانهم مع

[412]

ذلك " ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قيل " ويحتمل ذلك امرين: احدهما - انهم لم يكونوا ليؤمنوا بما كذبوا به قوم نوح من قبل: من توحيد الله وتصديق انبيائه والثاني - قال البلخي ما كانوا ليؤمنوا بالحجج والبينات بعد اتيان الانبياء بها بما كذبوا به من قيل يخبر عن عنادهم وعتوهم.

وقال " كذلك نطبع على قلوب المعتدين " معناه إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الكفار سمة وعلامة على كفرهم يلزمهم الذم بها، وتعرفهم بها الملائكة وإنا مثل ذلك نفعل بقلوب المعتدين. وليس المراد بالطبع في الاية المنع من الايمان، لان مع المنع من الايمان لايحسن تكليف الايمان.

والطبع جعل الشئ على صفة غيره بمعنى فيه.

والمعتدون هم الظالمون لنفوسهم الذين تعدوا حدود الله.

قوله تعالى: ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين(75)

آية.

هذا اخبار من الله تعالى انه - بعد ارسال من أرسل من الانبياء بعد نوح واهلاك قومه وما ذكره من انهم لم يؤمنوا به وانه طبع على قلوبهم عقوبة لهم على ذلك - بعث ايضا بعدهم موسى وهارون عليهما السلام نبيين مرسلين " إلى فرعون وملائه " يعني رؤسا قومه " بآياتنا " اي بأدلتنا وحججنا وانهم استكبروا عن الانقياد لها والايمان بها " وكانوا قوما مجرمين " في ذلك مستحقين للعقاب الدائم.

والملاء الجماعة الذين هم وجوه القبيلة مأخوذ من انهم تملا الصدور هيبتهم عند منظرهم.

ومنه قوله صلى الله عليه واله في قتلى بدر (اولئك الملاء من قريش).

والاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق فأما المتكبر في اوصاف الله فهو الظاهر، فان له اعلى مراتب الكبر، وهو صفة ذم في العباد ومدح في صفة الله تعالى.

[413]

والاجرام اكتساب السيئة وهي صفة ذم. واصل الاجرام القطع يقال: جرم التمر يجرمه جرما فهو جارم والجمع جرام إذا صرمه، وزمن الجرام زمن الصرام. وتجرمت السنة اذا انصرمت. وفلان جريمة اهله اي كاسبهم.

وقوله " لاجرم ان لهم النار "(1) اي لابد لهم النار قطعا قال الشاعر:

ولقد طعنت ابا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها ان يغضبوا(2)

اي حملتهم على الغضب بقطعها اياهم.

وانجرم الجسيم، والجرم الصوت، والجرم الذنب.

ووزن (موسى) مفعل وهو محمول على قياس العربية فزيادة الميم اولا اكثر من زيادة الالف اخيرا وكذلك زيادة همزة الفعل في افعل لهذه العلة.

قوله تعالى: فلما جاء‌هم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين(76)

آية

أخبر الله تعالى عن قوم فرعون الذين ذكرهم وأخبر عنهم بالاستكبار انهم قالوا مع ذلك حين جاء‌هم الحق عند الله: ان هذا الذي اتى به موسى من المعجزات والبراهين سحر ظاهر.

و (لما) تدل على ما مضى ولابد لها من الجواب و (اذ) لما مضى وتستغني عن الجواب كقولك: مضى اليه اذ قدم اي يوم قدم.

(واذا) تكون للمستقبل كحرف الجزاء. والحق معنى معتقده على ما هو به، وهو ما اتت به الرسل من البيان والبرهان عن الله تعالى. والسحر ايهام المعجزة على طريق الحيلة، ويشبه به البيان في خفاء السبب قال الشاعر:

وحديثها السحر الحلال لو انه *** لم يجن قتل المسلم المتحرز

والساحر الذي يعتقد صحة سحره كافر، لانه لايمكنه مع ذلك معرفة النبوة فان كان يمخرق بالسحر ويعلم انه باطل لم يكفر ولم يطلق عليه صفة ساحر.

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 62.

(2) مر تخريجه في 3 / 423

[414]

قوله تعالى: قال موسى أتقولون للحق لما جاء‌كم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون(77)

آية.

حكى الله تعالى عن موسى انه قال لقومه الذين نسبوه إلى السحر " أتقولون للحق لما جاء‌كم أسحر هذا " ويريد بذلك تبكيتهم وتهجينهم.

ثم قال موسى " ولا يفلح الساحرون " اي لا يفوزون بشئ من الخير. ويجوز أن يكون ذلك اخبارا من الله تعالى لاحكاية عن موسى وذلك يدل على بطلان السحر أجمع.

وقيل في تكرير الف الاستفهام في قوله " اسحر هذا " بعد ان قال " اتقولون " ثلاثة اقوال: احدها - انه يكون لتأكيد التقريع على الحذف كأنه قال اتقولون للحق لما جاء‌كم ان هذا لسحر مبين اسحر هذا.

والثاني - على وجه التكرار كقولك اتقول مال.

والثالث - أن يكون حكاية قولهم وان اعتقدوا انه السحر كما يقول الرجل للجارية اذا أتته أحق هذا. فيقولونه على التعجب.

ولو قالوا الحق لايكون سحرا. ولكن ليس بحق لقال لهم فلو كان حقا كيف كان الا هكذا من قلب الجماد حيوانا يرونه عيانا وغير ذلك من الايات.

قوله تعالى: قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباء‌نا وتكون لكما الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين(78)

آية

روى العليمي " ويكون " بالياء. الباقون بالتاء.

وجه الياء انه تأنيث غير حقيقي، وقد فصل بينهما.

ومن قرأ بالتاء فلان الكبريا لفظها لفظ التأنيث.

اخبر الله تعالى عن قوم موسى انهم قالوا له لما اظهر لهم المعجزات ودعاهم إلى

[415]

التصديق بنبوته " أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباء‌نا " اي لتصرفنا عن ذلك واللفت الصرف عن امر تقول: لفته يلفته لفتا.

ولفت عنقه اذا لواها، قال رؤبة: * ولفت لفات لها حصاد * وقال ايضا: لفتا وتهزيعا سواء اللفت التهزيع الدق واللفت اللي.

وقوله " وتكون لكما الكبرياء في الارض " قال مجاهد: الكبرياء الملك.

وقال قوم هي العظمة. وقال آخرون هي السلطان.

والكبرياء استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب.

والالف في قوله " أجئتنا " الف استفهام، والمراد به الانكار على طريق اللجاج والحجاج منهم.

فتعلقوا بالشبهة في انهم على رأي آبائهم.

وان من دعاهم إلى خلافه فظاهر امره انه يريد التأمر عليهم.

وقوله " وما نحن لكما بمؤمنين " حكاية انهم قالوا لموسى وهارون لسنا بمصدقين لكما فيما تدعيانه من النبوة.

قوله تعالى: وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم(79)

آية.

قرأ أهل الكوفة إلاعاصما " بكل سحار " بتشديد الحاء والف بعدها الباقون (ساحر) على وزن فاعل. وقد بينا الوجه في ذلك في الاعراف.

حكى الله تعالى عن فرعون انه حين أعجزه المعجزات التي ظهرت لموسى، ولم يكن له في دفعها حيلة قال لقومه ائتوني بكل ساحر عليم بالسحر بليغ في علمه.

و (فرعون) لاينصرف لانه أعجمي معرفة، وهو منقول في حال تعريفه ولو نقل في حال تنكيره انصرف كياقوت. ووزن فرعون فعلون، الواو زائدة، لانها لحقت عند سلامة الثلاثة. ومثله فردوس.

وإنما طلب فرعون كل ساحر ليتعاونوا على دفع مااتى به موسى وحتى لايفوته شئ من السحر بتأخير بعضهم. وإنما

[416]

توهم مقاومة السحرة لموسى مع قول موسى له " قد علمت ما انزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض " لانه إنما عرف ذلك فيما بعد لما بهره الامر فكان قبل ذلك على الجهل لتوهمه ان السحر يقاوم الحق.

الآية: 80 - 109

قوله تعالى: فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون(80)

آية

حكى الله تعالى ان السحرة الذين طلبهم فرعون وامر باحضارهم لما جاؤا فرعون وموسى حاضر " قال لهم موسى القوا ماانتم ملقون " وهذا ظاهره الامر ويحتمل امرين: احدهما - أن يكون قال ذلك على سبيل التحدي والالزام بمعنى: من كان عنده انه يقاوم المعجزات لزمه ان يأتي بهامعه حتى تظهر منزلته وانما جاز إلزام الباطل على الخصم ليتبين ان اصله الفاسد يوجب عليه اعتقاد ذلك الباطل. كما ان الشيطان يوجب الفساد ويدعوه إلى الضلال.

الثاني - أن يكون ذلك امرا على الحقيقة بدليل ان كان معه قوله " القوا ما انتم ملقون " انما لم يقتصر على قوله " القوا " لان المراد به القوا جمع ما انتم ملقون في المستأنف فلا يكفي منه القوا.

والالقاء اخراج الشئ عن اليد إلى جهة الارض ويشبه بذلك قولهم القى عليه مسألة والقى عليه كلمة، والالقاء والطرح نظائر.

وفي الكلام حذف، لان تقديره قال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم فأتوه بهم فقال لهم موسى.

قوله تعالى: فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين(81)

آية

قرأ ابوعمرو وحده " آلسحر " على الاستفهام. الباقون على الخبر.

[417]

قال ابوعلي الفارسي: في قراء‌ة ابي عمرو (ما) يرفع بالابتداء، وجئتم به في موضع الخبر والكلام استفهام، لان الكلام يستقبل بقوله جئتم به. ولو كانت موصولة احتاج إلى خبر آخر. وهذا الاستفهام المراد به التقرير كما، قال " أأنت قلت للناس "(1) لان موسى كان عالما بأن ذلك السحر. وانما ألحق الف الاستفهام بقوله " السحر " لان السحر بدلا من " ما " المبتدأ ولزم ان يلحق السحر الاستفهام ليساوي المبدل منه في انه استفهام، الا ترى انه ليس في قولك السحر استفهام وعلى هذا قالوا كم مالك أعشرون أم ثلاثون، فجعلت العشرون بدلا من كم فألحقت ام لانك في قولك كم درهما مالك، مدع ان له مالا.

ومن قرأ على الخبر جعل (ما) موصولة (وجئتم به السحر) صلة، والهاء مجرورة عائدة على الموصول والسحر خبر المبتدأ الذي هو الموصول.

وحكى الفراء: انه دخل الالف واللام في في قوله " السحر " للعهد، لانهم قالوا لما اتى به موسى إنه سحر، قال موسى ماجئتم به فهو من السحر.

وفي قراء‌ة اني ما جئتم به سحر بلا الف ولام.

ومن قرأ بالاستفهام جعل (ما) في قوله " ما جئتم به " للاستفهام.

ومن قرأ على الخبر جعل (ما) بمعنى الذي وفسرت (ما) بالواحد في السحر. لان المعنى عليه، وانما ذكر للتوبيخ كقولك ما صنعت الفساد.

حكى الله تعالى انه لما ألقى السحرة سحرهم قال لهم موسى: الذي جئتم به السحر فمن قرأ على الخبر، واي شئ جئتم به السحر مقررا لهم ثم اخبر ان الله سيبطل هذا السحر الذي فعلتموه " ان الله لايصلح عمل المفسدين " فالاصلاح تقديم العمل على ما ينفع بدلا مما يضر.

والصلاح استقامة العمل على هذا الوجه.

والافساد تعويج العمل إلى ما يضر بدلا مما ينفع.

والفساد اضطراب العمل على هذا الوجه.

والصلاح مضمن بالنفع لانه اذا اضيف ظهر معنى النفع فيه كقولك صلاح لزيد، وهو اصلح له اي انفع له وان كان فيه فساد على غيره.

___________________________________

(1) سورة 5 المائدة آية 119

[418]

قوله تعالى: ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون(82)

آية

هذا عطف على قوله " قال موسى ما جئتم به السحر ان الله سيبطله ان الله لايصلح عمل المفسدين. ويحق الله الحق بكلماته " وقيل في معناه ثلاثة اقوال: اولها - قال الحسن: بوعده لموسى.

الثاني - قال ابوعلي: بكلامه الذي يبين به معاني الايات التي اتاها نبيه صلى الله عليه واله.

الثالث - بما سبق من حكمه في اللوح لمحفوظ بأن ذلك يكون.

واحقاق الحق معناه اظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة والايات البينة حتى يرجع الطاعن على حسيرا والمناصب له مفلولا.

وقوله " ولو كره المجرمون " معناه انه يحق وان كرهه من هو مجرم. وفي الاية دلالة على ان تعالى ينصر المحقين كلهم لنصره اياهم بالحجة فأما بالغلبة في كل حال فموقوف، لان المصلحة قد تكون بالتخلية تارة وبالحيلولة اخرى.

والحق على ضربين: احدهما - ما كان يمكن ان يكون حقا وغير حق، فهذا لا يصير حقا إلا بأن يقصد فاعله على ايقاعه حقا. فجاز ان يقال انه حق بالفاعل. والاخر لايؤثر فيه قصد فاعله فلا يقال في ذلك انه حق بالفاعل.

قوله تعالى: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين(83)

آية

أخبر الله تعالى انه لم يصدق لموسى بالنبوة الا ذرية من قومه مع خوفهم من فرعون ورؤساء قومه ان يفتنوهم.

(والذرية) الجماعة من نسل القبيلة.

[419]

وحكى ابن عباس انه اراد الاقليل من قومه.

وقيل كانت امهاتهم من بني اسرائيل وآباؤهم من القبط.

وقيل سموا ذرية لانهم اولاد الذين ارسل عليهم موسى فلم يستجب الاباء وقيل: الابناء.

وقيل: هم قوم من بني إسرائيل أخذهم فرعون بتعلم السحر وجعلهم من اصحابه.

ويحتمل أن يكون ذرية على وزن (فعلية) مأخوذا من الذر كقمرية.

والثاني - أن يكون على وزن (فعلية) من الذرو في تذروه الرياح كقولك مزقته، ويجوز أن يكون من ذرأ الله الخلق فترك همزه والفتنة في الدين الامتحان الذي يصرف عنه.

وقد يكون ذلك بالاكراه تارة وبالهدى أخرى، وبالشبهة الداعية إلى الضلال وقوله " إن فرعون لعال في الارض " فالعلو في الامر عظم الشأن فيه، وكل معنى لايخلو من أن يكون في صفة عالية أو دانية أو فيما بينهما من الجلالة والضعة.

والضمير في قوله " وملائهم " قيل فيمن يعود اليه ثلاثة اقوال: احدها - إلى الذرية فقط.

الثاني - إلى فرعون واتباعه.

الثالث - إلى فرعون، لانه معلوم.

وقوله " وإنه لمن المسرفين " اخبار منه تعالى ان فرعون لمن جملة من أبعد في مجاوزة الحق. والاسراف قد يكون في القتل وفي الاكتار من المعاصي.

قوله تعالى: وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين(84)

آية.

حكى الله تعالى عن موسى انه قال لقومه: إن كنتهم صدقتم بتوحيد الله فتوكلوا عليه إن كنتم مسلمين وانما اعاد قوله " إن كنتم مسلمين " بعد قوله " إن كنتم آمنتم بالله " ليتبين المعنى بالصفتين من الايمان والاسلام وبالتقييد والاطلاق على أن الثقة بالله توجب الاستسلام لامره.

والتوكل التوثق باسناد الامر إلى الله.

والوكالة عقد الامر لمن يقوم به مقام ما لكه.

والله عزوجل أملك بالعبد من نفسه فهو أحق بهذه الصفة.

[420]

ويوجب التوكل على الله النجاة من كل محذور، والفوز بكل سرور وحبور اذا اخلص العمل فيه وسلمت النية فيه. وحذفت ياء الاضافة من قوله " يا قوم " اجتزاء بالكسرة منها وهو في النداء أحسن من اثباتها لقوة النداء على التغيير. وفائدة الاية البيان عما يعمل عليه عند نزول الشدة من ان من كان يؤمن بالله فليتوكل على الله ويسلم امره اليه ثقة بحسن تدبيره له.

قوله تعالى: فقالوا على الله توكلنا ربنا لاتجعلنا فتنة للقوم الظالمين(85) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين(86)

آيتان

الفاء في قوله " فقالوا " فاء العطف وجواب الامر كما يقال قال السائل كذا فقال المجيب كذا. وانما جاز الفاء في الجواب ولم تجز الواو، لان الفاء ترتيب من غير مهلة، فهي موافقة لمعنى وجوب الثاني بالاول وليس كذلك الواو. لما حكى الله تعالى قول موسى لقومه " إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا " حكى ما أجاب به قومه من قولهم: توكلنا على الله، وانهم سألوا الله وقالوا " ربنا لاتجعلنا قتنة " أي محنة واعتبارا " للقوم الظالمين " وخلصنا " برحمتك من القوم " الذين كفروا بآياتك، وكل كافر ظالم لنفسه بتعرضه للعقاب وليس كل ظالم كافرا.

والفتنة أصلها البلية وهي معاملة تظهر الامور الباطنة. يقال فتنت الذهب اذا أحرقته بالنار ليظهر الخلاص وقوله " يوم هم على النار يفتنون "(1) اي يحرقون بما فيه من اظهار حالهم في الضلال وقوله " والفتنة أشد من القتل "(2) معناه التعذيب للرد عن الدين، لما فيه من اظهار النصرة أشد، ومعنى " لاتجعلنا فتنة " للقوم الظالمين " لاتمكنهم من ظلمنا بما يحملنا على اظهار الانصراف عن ديننا - في قول مجاهد - وقال ابوالضحى والجبائي معناه: لايظهروا علينا فيروا أنهم خير منا.

___________________________________

(1) سورة 51 الذاريات آية 13.

(2) سورة 2 البقرة آية 191

[421]

وقوله " ونجنا " معناه خلصنا مما فيه المخافة والشماتة. وانما جاز وصف الله تعالى بالرحمة مع كثرة استعمالها في الرقة لدلالة التعظيم على انتفاء معنى الرقة ان نعمه في الاسباغ والكثرة تقع موقع ما تبعث عليه الرقة. وانما سألوا النجاة من استعباد فرعون وملائه إياهم وأخذهم بالاعمال الشاقة والمهن الخسيسة.

قوله تعالى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلوة وبشر المؤمنين(87)

آية.

أخبر الله تعالى انه أوحى إلى موسى وأخيه بمعنى ألقى اليهما في خفاء والايحاء والايماء والاشارة نظائر، وكله بيان ودلالة. وحكى الرماني أن قوما أجازوا أن يوحي الله إلى من ليس بنبي برؤيا أو إلهام، قال: وليس يجوز عندنا على المعنى الذي يقع الوحي إلى الانبياء، لانه إنما يقع على خلاف مجرى العادة بمعجزة تشهد بأنه تعالى ألقى المعنى اليه.

ولايجوز ان تطلق الصفة بالوحي الا لنبي فان قيد ذلك على خلاف هذا المعنى كان جائزا، كقوله " وأوحى ربك إلى النحل "(1) ومعنى قوله " تبوء‌ا " اتخذا يقال: بوأته منزلا أي اتخذته له وأصله الرجوع من " باؤوا بغضب من الله "(2) أي رجعوا، والمبوء المنزل لانه يرجع اليه للمقام فيه ومنه قولهم (بؤ بشسع كليب) أي ارجع به.

وقوله " واجعلوا بيوتكم قبلة " معناه مصلى.

وقيل قبلة: مسجدا، لانهم كانوا خائفين فأمروا بأن يصلوا في بيوتهم - في قول ابن عباس ومجاهد وابراهيم والسدي والضحاك والربيع -

___________________________________

(1) سورة 16 النحل آية 68.

(2) سورة 2 البقرة آية 61 وسورة 3 آل عمران آية 112

[422]

وقال الحسن يعني قبلة نحو الكعبة. ولم يصرف (مصر) لانه مؤنث معرفة كقولك هند، ولو صرفته لخفته كما صرفت هند كان جائزا، وترك الصرف أقيس.

وقوله " وأقيموا الصلاة " أمر من الله اياهم باقامة الصلاة والدوام على فعلها " وبشر المؤمنين " أمر منه لموسى ان يبشر المؤمنين بالجنة وما وعد الله تعالى من الثواب وانواع النعيم.

قوله تعالى: وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحيوة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم(88)

آية

حكى الله تعالى في هذه الاية عن موسى عليه السلام أنه قال يا " ربنا انك اعطيت فرعون وملائه " يعني قومه ورؤساء‌هم " زينة واموالا في الحياة الدنيا " وإنما اعطاهم الله تعالى ذلك للانعام عليهم مع تعريه من وجوه الاستفساد.

و (الزينة) ما يتزين به من الحلي والثياب والمتاع. ويجوز أن يراد به حسن الصورة " ليضلوا عن سبيلك " فهذه لام العاقبة، وهي ما يؤل اليه الامر كقوله " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا "(1) ويحتمل ان يكون المعنى لئلا يضلوا عن سبيلك فحذفت (لا) كقوله " ممن ترضون من الشهداء أن تضل احداهما "(2) اي لئلا تضل احداهما، وكقوله " ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين "(3)

___________________________________

(1) سورة 28 القصص آية 8.

(2) سورة 2 البقرة آية 282.

(3) سورة 7 الاعراف آية 171

[423]

اي لئلا يقولوا. ولايجوز أن يكون لام الغرض، لان الله تعالى لا يفعل بهم الزينة ويعطيهم ويريد منهم ان يضلوا بل إنما يفعل لينتفعوا ويطيعوه ويشكروه.

وقال قوم: لو كان أراد منهم الضلال لكانوا إذا ضلوا مطيعين، لان الطاعة هي موافقة الارادة وذلك باطل بالاتفاق.

وقوله " ربنا اطمس على اموالهم " إخبار عن موسى انه دعا على قومه فسأل الله ان يطمس على اموالهم.

والطمس محو الاثر تقول: طمست عينه اطمسها طمسا وطموسا وطمست الريح آثار الديار. فدعا موسى عليه السلام عليهم بأن يقلب حالهم عن الانتفاع بها كقوله " من قبل ان نطمس وجوها "(1) والطمس تغير إلى الدبور والدروس قال كعب بن زهير:

من كل نضاخة الذفرى إذا عرفت *** عرصتها طامس الاعلام مجهول(2)

وقال قتادة والضحاك وابن زيد وابوصالح: صارت اموالهم حجارة.

وقوله " واشدد على قلوبهم " معناه ثبتهم على المقام ببلدهم بعد إهلاك اموالهم فيكون ذلك اشد عليهم.

وقوله " فلا يؤمنوا " يحتمل موضعه وجهين من الاعراب: احدهما - النصب على جواب صيغة الامر بالفاء او بالعطف على " ليضلوا " وتقريره لئلا يضلوا فلا يؤمنوا. والثاني - الجزم بالدعاء عليهم، كما قال الاعشى.

فلا ينبسط من بين عينك ما انزوى *** ولا تلقني إلا وانفك راغم(3)

وقال الفراء: ذلك دعاء عليهم بأن لايؤمنوا.

وحكى الجبائي عن قوم ان المراد بذلك الاستفهام والانكار كأنه قال: إنك لاتفعل ذلك ليضلوا عن سبيلك.

وقال احمد بن يحيى ثعلب: هذه لام الاضافة، والمعنى لضلالتهم عن سبيلك " اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم ".

وحكى البلخي: انه يجوز أن يكون ذلك على التقديم والتأخير وتقديره ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا ربنا اطمس على اموالهم وقيل إن قوله " فلا يؤمنوا " خرج مخرج الجواب للامر ومعناه الاخبار، كما يقولون انظر إلى الشمس تغرب.

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 46.

(2) انظر 1 / 226 تعليقة 1 و 3 / 216.

(3) ديوان الاعشى والاعشيين 58 وتفسير القرطبي 8 / 275

[424]

وقيل: ان المعنى لايؤمنون ايمان الجاء حتى يروا العذاب الاليم وهم مع ذلك لا يؤمنون ايمان اختيار اصلا.

وقال بعضهم: اللام لام (كي) وانه اعطاهم الاموال والزينة لكي يضلوا عقوبة وهذا خطأ، لانه يوجب ان يكون ضلالهم عن الدين طاعة لله.

قوله تعالى: قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لايعلمون(89)

آية

حكى الله تعالى أنه اجاب موسى وهارون، فقال لهما " قد اجيبت دعوتكما " والجواب موافقة للدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة. فالله تعالى يجيب الدعاء إذا وقع بشروط الحكمة. واختلفوا في هل يجوز أن يجيب الله تعالى دعوة الكافر أم لا؟ فقال ابوعلي الجبائي: لايجوز لان اجابته إكرام له كما يقولون: فلان مجاب الدعوة اي هو رجل صالح.

والكافر ليس بهذه المنزلة.

وقال ابوبكر بن الاخشاد: يجوز ذلك إذا كان فيه ضرب من المصلحة.

والاجابة قد تكون من الاعلى للادون من غير ترغيب المدعو.

والطاعة لا تكون إلا من الادنى للاعلى.

ولايجوز عند اكثر المحصلين ان يدعو نبي على قومه من غير إذن سمعي، لانه لايأمن أن يكون منهم من يتوب مع اللطف في التبقية، فلايجاب. ويكون ذلك فتنة. والدعوة طلب الفعل بصيغة الامر وقد يدعى بصيغة الماضي كقولك: غفر الله لك واحسن اليك، وجزاك الله خيرا.

وإنما قال " اجيبت دعوتكما " والداعي موسى لان دعاء موسى كان مع تأمين هارون - على ما قاله الربيع وابن زيد وعكرمة ومحمد بن كعب وأبوالعالية - والمؤمن داع، لان المعنى في التأمين اللهم اجب هذا الدعاء.

وقوله " فاستقيما " امر منه تعالى لهما بالاستقامة في دعائهما لفرعون

[425]

وقومه على ما أمرتكما به ولاتتبعا سبيل الجاهلين لوعدي ووعيدي فانه لاخلف له.

وقال ابن جريح: مكث فرعون بعد هذه الامور اربعين سنة.

وقوله " ولاتنبعان سبيل الذين لايعلمون " نهي منه تعالى لموسى وهارون أن يتبعا طريقة من لا يؤمن بالله ولايعرفه.

وقرأ ابن عامر وحده " ولاتتبعان " مخففة النون الا الداحوني عن هشام، فانه خير بين تخفيفها وتشديدها.

وقرأ ابن عامر وحده " ولاتتبعان " ساكنة التاء مخففة مشددة النون.

وفي قراء‌ة الاخفش الدمشقي عن ابن عامر بتخفيف التاء والنون.

الباقون بتشديد التاء والنون.

قال ابوعلي النحوي: من شدد النون فلان هذه النون الثقيلة إذا دخلت على (تفعل) فتح لام الفعل، لدخولها وبني الفعل معها على الفتح نحو (لتفعلن) وحذفت النون التي تثبت في (تفعلان) في حال الرفع مع النون الشديدة، وحذف الضم في (لتفعلن)، وإنما كسرت الشديدة بعد ألف التثنية. لوقوعها بعد الف التثنية، فاشبهت التى تلحق الالف في رجلان، لما كانت في هذه مثلها، ودخلت لمعنى كدخولها، ولم يعتد بالنون قبلها، لانها ساكنة، ولانها خفيفة فصارت المكسورة كأنها وليت الالف.

ومن خفف النون يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة كما خففوا (رب) و (ان) ونحوهما، وحذفوا الاولى من المثلين كما أبدلوا الاولى من المثلين في نحو (قيراط ودينار) ولان اصلهما (قراط ودنار) فأبدلوا من إحدى النونين ياء. ويحتمل ان يكون حالا من قوله " فاستقيما " وتقديره فاستقيما غير متبعين. ويحتمل ان يكون على لفظ الخبر والمراد به الامر.

[426]

قوله تعالى: وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنَت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين(90)

آية.

قرأ أهل الكوفة الا عاصما " آمنت انه " بكسر الالف. الباقون بفتحها.

قال ابوعلي: من فتح الهمزة فلان هذا الفعل فصل بحرف الجر في نحو " يؤمنون بالغيب "(1) و " يؤمنون بالجبت "(2) فلما حذف الحرف وصل الفعل إلى (ان) فصار في موضع نصب او خفض على الخلاف في ذلك.

ومن كسر الالف حمله على القول المضمر كأنه قال " آمنت " فقلت إنه، واضمار القول في نحو هذا كثير. وهذا احسن لان قوله (انه لا إله إلا الله) في المعنى ايمان، واذا قال آمنت فكأنه ذكر ذلك.

وقال الرماني: من كسر (إن) جعله بدلا من (آمنت).

ومن فتح جعله معمول (آمنت) وفي الكلام حذف، لان تقديره فاتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا فيه فغرقناه حتى اذا ادركه الغرق.

حكى الله تعالى أنه جاوز ببني إسرائيل البحر بمعنى اخرجهم منه بأن جفف لهم البحر وجعله طرقا حتى جاوزوه. والمجاوزة الخروج عن الحد من احدى الجهات الاربعة، لانه لو خرج عن البحر بقليل وهو متعلق عليه لم يكن قد جاوزه.

والبحر مستقر الماء الواسع بحيث لايدرك طرفه من كان في وسطه. ويقال: ما فلان إلا بحر لسعة عطائه.

وقوله " فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا " فالاتباع طلب اللحاق بالاول: اتبعه إتباعا وتبعه بمعنى.

وحكى ابوعبيدة عن الكسائي انه قال إذا اريد انه اتبعه خيرا او شرا قالوا بقطع الهمزة، واذا اريد انه اقتدى بهم واتبع أثرهم قالوا بتشديد التاء ووصل الهمزة.

والبغي طلب الاستعلاء بغير حق. والباغي مذموم لقوله تعالى " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى امر الله "(3).

و (عدوا) معناه عدوانا وظلما.

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 3.

(2) سورة 4 النساء آية 50.

(3) سورة 49 الحجرات آية 9

[427]

وقوله " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا اسرائيل " اخبار منه تعالى أن فرعون حين لحقه الغرق والهلاك قال ما حكاه الله وكان ذلك ايمان إلجاء لايستحق به الثواب كما لايستحق بالايمان الضروري.

وقوله " بغيا وعدوا " نصب على المصدر والمراد بغيا على موسى وقومه واعتداء عليهم.

قوله تعالى:  ءألآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين(91)

آية

قرأ أبوجعفر من طريق النهرواني ونافع إلا ابا طاهر عن اسماعيل واحمد ابن صالح عن قالون والحلواني عن قالون من طريق الحمامي " الان " في الموضعين في هذه السورة بالقاء حركة الهمزة على اللام وحذف الهمزة منهما.

قال ابوعلي النحوي: اعلم ان لام المعرفة إذا دخلت على كلمة أولها الهمزة فخففت الهمزة فان في تخفيفها وجهين: احدهما - ان تحذف وتلقى حركتها على اللام وتقر همزة الوصل فيقال الحمر بالالف. والثاني - ان يقولوا: كالحمر بلا الف فيحذفون همزة الوصل، فالذين أثبتوا الهمزة فلان التقدير باللام السكون وان كانت في اللفظ متحركة.

واللغة الاخرى كما انشد الكسائي:

فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة *** فبح لان منها بالذي انت بائح(1)

فاسكن الحاء لما كانت اللام متحركة، ولو لم يعتد بالحركة كما لم يعتد في الوجه الاول تحرك الحاء بالكسر كما يحركه في بح اليوم.

ومعنى (الان) فصل بين الزمان الماضي والمستقبل مع انه إلى الحاضر ولهذا بني كما بني (اذا) وعرف (الان) بالالف واللام (وامس) بتضمين حرف التعريف لان ما مضى بمنزلة المضمن في المعنى في أنه ليس له صورة.

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1 / 300 وهو في اللسان (أين)

[428]

والحاضر في معنى المصرح في صحة الصورة. واختلفوا فيمن القائل هذا القول، فقال الجبائي: ان القائل له ملك قال ذلك بأمر الله.

وقال (غيره) ان ذلك كلام من الله قاله له على وجه الاهانة والتوبيخ وكان ذلك معجزة لموسى عليه السلام ومعنى الاية حكاية ما قبل لفرعون حين قال " آمنت أنه لا اله لا الذي آمنت به بنوا اسرائيل " بانك تقول هذا في هذه الساعة " وقد عصيت قبل " هذا " وكنت من المفسدين " في الارض بقتل المؤمنين وادعاء الالهية، وغيرذلك من انواع الكفر !.

قوله تعالى: فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون(92)

آية.

قرأ يعقوب وقتيبة " ننجيك " بالتخفيف. الباقون بالتشديد.

معنى قوله " ننجيك ببدنك " نلقيك على نجوة من الارض ببدنك عريانا دون روحك قال أوس بن حجر:

فمن بنجوته كمن بعقوبه *** والمستكن كما يمشي بقرواح(1)

القرواح حيث لاماء ولامطر، والبدن مستكن روح الحيوان على صورته وكل حيوان له روح وبدن، والحي في الحقيقة الروح دون البدن عند قوم، وفيه خلاف.

ومعنى قوله " لتكون لمن خلفك آية " قيل فيه قولان. احدهما - لمن يأتي بعدك ممن يراك على تلك الصفة وقد كنت تدعي الربوبية. الثاني - ان بني اسرائيل قالوا: مامات فرعون، فالقاه الله تعالى على نجوة من الارض ليروه، ذهب اليه ابن عباس وقتادة.

وقوله " وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون " اخبار منه تعالى أن كثيرا من الخلق غافلون عن الفكر في

___________________________________

(1) مر هذا البيت في 1 / 218 و 3 / 326 منسوب إلى عبيد بن الابرص

[429]

حجج الله وبيناته أي ذاهبون عنها والغفلة ذهاب المعنى عن النفس ونقيضها اليقظة، والمراد بذمهم بالغفلة عن آيات الله التعريض بأنهم تركوا النظر في آيات الله.

قوله تعالى: ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاء‌هم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه يختلفون(93)

آية

قوله " ولقد بوأنا " اخبار منه تعالى أنه وطأ منزل بني اسرائيل والتبوء توطئة المنزل لصاحبه الذي يأوي اليه، تقول: بوأته منزلا تبويئا وتبوأ، وباء بالامر بواء أي رجع.

وقوله " مبوأ صدق " أي منزل صدق أي فيه فضل كفضل الصدق، كما يقال: أخو صدق وقيل: انه يصدق فيما يدل عليه من جلالة النعمة.

وقوله " ورزقناهم من الطيبات " أي ملكناهم الاشياء اللذيذة. والرزق العقد على العطاء الجاري، ودلت الاية على سعة ارزاق بني اسرائيل.

وقوله " فما اختلفوا حتى جاء‌هم العلم " قيل في معناه وجهان: احدهما - أنهم كانوا على الكفر فما اختلفوا حتى جاء‌هم الدليل المؤدي إلى العلم من جهة الرسول والكتاب، فآمن فريق وكفر آخرون - وهو قول الحسن وابن جريح وابن زيد - وقال قوم: كانوا على الاقرار بالنبي قبل مبعثه بصفته ونعته، فما اختلفوا حتى جاء‌هم معلوم العلم به. والمنزل الصدق الذي أنزلوه قيل فيه ثلاثة اقوال: قال الحسن: هو مصر وهو منزل صالح خصب آمن. وقال قتادة: هو الشام وبيت المقدس. وقال الضحاك: هو الشام ومصر.

وقوله " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " اخبار منه تعالى انه الذي يتولى الفصل بين بني اسرائيل في الامور التي يختلفون فيها.

[430]

قوله تعالى: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرئون الكتاب من قبلك لقد جاء‌ك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين(94)

آية

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه واله يقول له " إن كنت في شك مما " أي من الذي " أنزلنا اليك " والشك هو توقف النفس فيما يخطر بالبال عن اعتقاده على ما هو به، وعلى ما ليس به.

وقيل: إن هذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه واله فان المراد به الذين كانوا شاكين في نبوته.

وقال قوم: إن معناه فان كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على نبينا اليك، ومثله قول القائل لعبده: إن كنت مملوكي فانتبه إلى امري.

وقوله الرجل لابنه: ان كنت ابنى فبرني.

وقوله " إن كنت والدي فتعطف علي.

وحكى الزجاج وجها ثالثا وهو أن يكون معنى (إن) معنى (ما) والتقدير: ما كنت في شك مما أنزلنا اليك " فاسأل الذين " أي لسنا نريد بأمرك لانك شاك لكن لتزداد بصيرة، كما قال لابراهيم " أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي "(1) وقوله " فاسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك " قيل: انما أمره بأن يسأل اهل الكتاب مع جحد اكثرهم لنبوته لامرين: احدهما - ان يكون امره بأن يسأل من آمن من اهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الاحبار وابن صوريا، ذهب اليه ابن عباس ومجاهد وابن زيد والضحاك.

والثاني - سلهم عن صفة النبي صلى الله عليه واله المبشر به في كتبهم ثم انظر فمن وافق فيه تلك الصفة. وقال البلخي ذلك راجع إلى قوله " فما اختلفوا إلا من بعد ما جاء‌هم العلم " فأمره بأن يسألهم هل الامر على ذلك؟ فانهم لا يمتنعون عن الاخبار به ولم

___________________________________

(1) سورة 2 البقرة آية 260

[431]

يأمره بان يسألهم هل هو محق فيه أم لا؟ ولا ان ما انزله عليه صدق ام لا؟ ووجه آخر وهو انه انما امره أن يسألهم ان كان شاكا ولم يكن شاكا فلا يجب عليه مسألتهم وهذا معنى ما روي عنه صلى الله عليه واله انه قال (ما شككت ولاانا شاك).

وقوله " لقد جاء‌ك الحق من ربك " قسم منه تعالى بأنه قد جاء‌ك يا محمد الحق من عند ربك لان لام (لقد) القسم.

وقوله " فلا تكونن من الممترين " اي لا تكونن من الشاكين. والامتراء طلب الشك مع ظهور الدليل، وهو من مري الضرع اي مسحه ليدر، فلا معنى لمسحه بعد دروره بالحلب.

وقال سعيد بن جبير والحسن وقتادة وابوعبدالله عليه السلام: لم يسأل النبي صلى الله عليه واله ويقوي ان الخطاب متوجه إلى النبي والمراد به غيره قوله بعد هذا " قل يا ايها الناس ان كنتم في شك ".

قوله تعالى: ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين(95)

آية

هذا الكلام عطف على قوله " فلا تكونن من الممترين. ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله " أي من جملة من يجحد بآيات الله ولا يصدق بها فانك ان فعلت ذلك كنت من الخاسرين.

والمراد بالخطاب غير النبي صلى الله عليه واله من جملة أمته من كان شاكا في نبوته.

والنون في قوله (لاتكونن) نون التأكيد، وهي تدخل في غير الواجب لانك لاتقول انت تكونن، ودخلت في القسم على هذا الوجه لانه يطلب بالقسم التصديق، وبني الفعل مع نون التأكيد لانها ركبت مع الفعل على تقدير كلمتين كل واحدة مركبة مع الاخرى مع ان الاولى ساكنة، واقتضت حركة بناء لالتقاء الساكنين.

وانما شبه الكافر بالخاسر مع ان حاله اعظم من حال الخاسر لان حال الخاسر قد جرت بها عادة. وذاق طعم الحسرة فيها فرد اليها لبيان أمرها، وخسران النفس الذي هو أعظم منها.

[432]

قوله تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لايؤمنون(96) ولو جاء‌تهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم(97)

آيتان

عند الجميع قد ذكرنا اختلافهم في (كلمة وكلمات) وإن من وحد فلانه اسم جنس. ومن جمع اراد اختلاف الالفاظ.

اخبر الله تعالى " ان الذين حقت عليهم كلمة ربك " يا محمد اي وجب عليه التحقيق بأنهم لا يؤمنون من غير شرط ولا تقييد، تقول: حق الامر يحق حقا. وانما جاز وصف جملة من الكلام بالكلمة لانه لما كان في معنى واحد صار بمنزلة الكلمة الواحدة، ولذلك قالوا في قصيدة من الشغر انها كلمة.

وقوله " حتى يروا العذاب الاليم " معناه انهم انما يؤمنون اذا شاهدوا العذاب فآمنوا ملجئين ايمانا لاينفعهم. والرؤية في الاية رؤية العين، لانها تعدت إلى مفعول واحد. والعذاب وان كان ألما وهو لا يصح ان يرى فلانه ترى اسبابه ومقدماته فصار بمنزلة ما يرى، فلذلك اخبر عنه بالرؤية له.

وقوله " ولو جاء‌تهم كل آية " اعلام بأن هؤلاء الكفار لالطف لهم يؤمنون عنده ايمان اختيار وانما جاز تكليفه الايمان باخبار الله تعالى انه لايؤمن للانعام بالمنافع في احوال التكليف التي لا تحصى كثرة مع ما في ذلك من اللطف لغيره. ولاظلم فيه لاحد. وانما يظلم الكافر نفسه بسوء اختياره. وانما انث قوله " جاء‌تهم كل آية " لانه مضاف إلى الاية وهي مؤنثة كما قالوا: ذهبت بعض اصابعه.

ومعنى الاية الاخبار عن ان هؤلاء لايؤمنون ايمانا يستحقون به الثواب، ولا ينافي ذلك قدرتهم على الايمان كما انه اذا اخبر انه لايقيم القيامة الساعة لم يمنع ذلك من قدرته على اقامتها في الحال. وقيل ان التقدير في الاية ان الذين لايؤمنون حقت عليهم كلمة ربك.

[433]

قوله تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحيوة الدنيا ومتعناهم إلى حين(98)

آية

معنى (فلولا) هلا، وهي تستعمل على وجهين: احدهما - على وجه التحضيض والثاني - على وجه التأنيب كقولك: هلا يأتي زيد بحاجتك، وهلا امتنعت من الفساد الذي رغبت اليه.

قال الشاعر:

تعدون عقر النيب افضل مجدكم *** بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا(1)

أي هلا تعدون الشجعان.

وقوله " الا قوم يونس " نصب لانه منقطع كما قال الشاعر:

أعيت جوابا وما بالربع من أحد *** إلا الاواري لايا ما ابينها

والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد(2) وحكى الفراء: لا إن ما أبينهما وقال: جمع الشاعر بين ثلاثة أحرف في النفي (لاوان وما) وانما جاز فلولا كانت قرية آمنت لان المراد أهل قرية فحذف اختصارا من غير اخلال بالمعنى.

وقوله " فنفعها ايمانها " معناه هلا كانت اهل قرية آمنت في وقت ينفعها الايمان، وجرى هذا مجرى قول فرعون " حتى اذا أدركه الغرق قال آمنت انه لا اله الا الذي "(3) فاعلم الله أن الايمان لاينفع عند نزول العذاب ولا عند حضور الموت، وقوم يونس لم يقع بهم العذاب كأنهم لما رأوا الاية الدالة على العذاب آمنوا فلما آمنوا كشف عنهم العذاب.

___________________________________

(1) انظر 1 / 319، 435.

(2) مر هذا الشعر في 1 / 44، 151 و 3 / 327 و 4 / 191.

(3) سورة 10 يونس آية 90

[434]

والنفع هو اللذة، ومعناه ههنا انه وجبت لهم اللذة بفعل ما يؤدي اليها كما أن الصلة بالمال نفع، لانه يؤدي إلى اللذة، وكذلك أكل الطعام الشهي وتناول الكرية عند الحاجة نفع لانه يؤدي إلى اللذة. والخزي هو الهوان الذي يفضح صاحبه ويضع من قدره.

وقال الجبائي: المراد بأهل القرية - على قول كثير من أهل التأويل - ثمود الذين أهلكهم الله بكفرهم، والتقدير هلا أهل قرية سوى قوم يونس آمنوا فنفعهم ايمانهم وزال عنهم العذاب كما آمن قوم يونس لما أحسوا بنزول العذاب، فكشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعهم وبقاهم أحياء سالمين في الدنيا بعد توبتهم إلى مدة من الزمان. وهذا الذي ذكره إنما كان يجوز لو كان (إلا) قوم يونس) رفعا وكان يكون " الا قوم يونس " صفة أو بدلا من الاول لان المعنى إلا قوم يونس محمول على معنى هلا كان قوم قرية أو قوم نبي آمنوا الا قوم يونس، قال الزجاج: لم يقرأ أحد بالرفع، ويجوز في الرفع أن يكون بدلا من الاول، وإن لم يكن من جنس الاول كما قال الشاعر:

وبلدة ليس لها أنيس *** لا اليعافير والا العيس(1)

وقال ابوعبيدة (الا) ههنا بمعنى الواو، والمعنى وقوم يونس.

وقال الحسن معنى الاية انه لم يكن فيما خلا أن يؤمن أهل قرية بأجمعها حتى لايشذ منهم أحد الا قوم يونس. فهلا كانت القرى كلها هكذا. وقرأ طلحة بن مصرف يونس ويوسف بكسر النون والسين أراد أن يجعل الاسمين عربيين مشتقين من أسف وأنس، وهو شاذ.

فان قيل: قوله " كشفنا عنهم العذاب " يدل على نزول العذاب بهم فكيف ينفع مع ذلك الايمان، وهل ذلك الا ضد قوله " فلم يك ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا "(2)؟ قلنا: ليس يجب ان يكون العذاب نزل بهم بل لا يمتنع أن يكون ظهرت لهم دلائله وان لم يروا العذاب كما أن العليل المدنف قد يستدرك التوبة

___________________________________

(1) مر تخريجه في 1 / 151 و 3 / 327.

(2) سورة 40 المؤمن آية 85

[435]

فيقبل الله توبته قبل ان يتحقق الموت، فاذا تحققه لم يقبل بعد ذلك توبته.

وقد قال الله تعالى " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها "(1) ولا يدل ذلك على انهم كانوا دخلوا النار فأنقذوا منها فكذلك لا يمتنع ان يكون كشف عنهم العذاب وان لم يكن حل بهم ولا عاينوه اذا كان قد قرب منهم واستحقوه في الحكم.

قوله تعالى: ولو شاء ربك لأمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين(99)

آية

أخبر الله تعالى في هذه الاية انه لو شاء وأراد " لامن من في الارض كلهم جميعا " فكلهم رفع لانه تأكيد ل‍ (من) وهي مرتفعة بالايمان (وجميعا) منصوب على الحال. والمشيئة والارادة والايثار والاختيار نظائر، وانما يختلف عليهم الاسم بحسب مواقعها على ما بيناه في الاصول.

وقيل: إن الشئ مشتق من المشيئة لانه مما يصح ان يذكر ويشاء، كما اشتقوا المعنى من عنيت.

ومعنى الاية الاخبار عن قدرة الله وانه يقدر على ان يكون الخلق على الايمان، كما قال " إن نشاء ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين "(2) وانما أراد بذلك الاخبار عن قدرته بلا خلاف، ولذلك قال بعد ذلك " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ومعناه انه لاينبغي ان يريد إكراههم لان الله عزوجل يقدر عليه ولا يريده، لانه ينافي التكليف، وأراد بذلك تسلية النبي صلى الله عليه واله والتخفيف عنه مما يحلقه من التحسر والحرص على ايمانهم.

وفي الاية دلالة على بطلان قول المجبرة، فانه تعالى لم يزل شايئا وانه لا يوصف بالقدرة ايضا، لانه تعالى اخبر انه لويشاء لقدر عليه لكنه لم يشأ فلذلك لم

___________________________________

(1) سورة 3 آل عمران آية 103.

(2) سورة 26 الشعراء آية 4

[436]

يوجد ولو كان شايئا لم يزل لما جاز ان يقول ولو شاء ربك كما لايجوز أن يقول لوشاء لقدر لما كان قادرا حاصلا لم يزل.

قوله تعالى: وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون(100)

آية

قرأ ابوبكر إلا الاعشى والبرجمي (ونجعل) بالنون. الباقون بالياء.

من قرأ بالياء فلانه تقدم ذكر الله فكنى عنه.

ومن قرأ بالنون ابتدأ بالاخبار عن الله.

ومعنى قوله " وما كان لنفس ان تؤمن إلا باذن الله " انه لايمكن احد ان يؤمن إلا باطلاق الله له في الايمان وتمكينه منه ودعاء‌ه اليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك.

وقال الحسن وابوعلي الجبائي: اذنه ههنا أمره كا قال " يا أيها الناس قد جاء‌كم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم "(1) وحقيقة اطلاقه في الفعل بالامر، وقد يكون الاذن بالاطلاق في الفعل برفع التبعة.

وقيل: معناه وما كان لنفس أن تؤمن إلا بعلم الله.

وأصل الاذن الاطلاق في الفعل فأما الاقدار على الفعل فلا يسمى أذنا فيه، لان النهي ينافي الاطلاق.

قال الرماني: والنفس خاصة الشئ التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشئ، ونفسه وذاته واحد إلا انه قد يؤكد بالنفس ولايؤكد بالذات. والنفس مأخوذة من النفاسة.

وقوله " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " قيل في معناه قولان: احدهما - قال الفراء: الرجس العذاب يجعله على الذين لا يعقلون امر الله ولا نهيه ولا ما يدعوهم اليه. والثاني - قال الحسن: الرجس الكفر أي يجعله بمعنى انه

___________________________________

(1) سورة 4 النساء 169

[437]

يحكم انهم اهله ذما لهم واسما " على الذين لا يعقلون " اي كانهم لايعقلون شيئا ذما لهم وعيبا وقال ابن عباس: الرجس الغضب والسخط.

وقال ابوعبيدة الرجز العذاب ومثله الرجس، ومنه قوله " لان كشفت عنا الرجز "(1) وقوله " فلما كشفنا عنهم الرجز "(2) وقوله " والرجز فاهجر "(3) معناه وذا الرجز أي الذي تؤدي عبادته إلى العذاب.

وقال الحسن: الرجز بضم الراء العذاب، وبكسرها الرجس.

وقال الفراء: يجوز أن يكون الرجز بمعنى الرجس وقلبت الزاي سينا كما قالوا اسد وأزد.

قوله تعالى: قل انظروا ماذا في السموات والارض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون(101)

آية

امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله أن يأمر الخلق بالنظر لانه الطريق المؤدي إلى معرفة الله تعالى. والنظر المراد في الاية الفكر والاعتبار.

وقال الرماني: هو طلب الشئ من جهة الفكر كما يطلب ادراكه بالعين.

ومعنى قوله تعالى " ماذا في السموات والارض " أي ما فيهما من العبر من مجئ الليل والنهار مجرى البحور والافلاك ونتاج الحيوان وخروج الزرع والثمار، ووقوف السماوات والارض بغير عماد، لان كل ذلك تدبير يقتضي مدبرا لايشبه الاشياء ولا تشبهه.

وقوله " وما تغني الايات والنذر عن قوم لا يؤمنون " قيل في معناه قولان: احدهما - أن تكون (ما) نفيا بمعنى ما يغني عنهم شيئا بدفع الضرر، اذا لم يفكروا فيها ولم يعتبروا بها كقولك: وما يغني عنك المال شيئا اذا لم تنفقه في وجوهه.

___________________________________

(1، 2) سورة 7 الاعراف آية 133، 134.

(2) سورة 74 المدثر آية 5

[438]

والاخر - أن تكون (ما) للاستفهام كقولك أي شئ يغني عنهم من اجتلاب نفع أو دفع ضرر إذا لم يستدلوا بها.

والنذر جمع نذير وهو صاحب النذارة وهي اعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة.

قوله تعالى: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين(102)

آية

خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله بلفظ الاستفهام والمراد به النفي لان تقديره ليس ينتظر هؤلاء الكفار الامثل أيام الذين خلوا من قبلهم. وانما قابل بين الايام المنتظرة والايام الماضية في وقوع العذاب والحسرة حين لا تنفع الندامة.

والانتظار هو الثبات لموقع ما يكون من الحال، تقول: انتظرني حتى ألحقك ولو قلت توقعني لم تكن أمرته بالثبات. والمثل في الجنس ماسد أحدهما مسد صاحبه فيما يرجع إلى ذاته والمثل في غير الجنس ما كان على المعنى يقربه من غيره كقربه من جنسه كتشبيه اعمال الكفار بالسراب.

وقوله " قل فانتظروا اني معكم من المنتظرين " أمر من الله لنبيه أن يقول لهم: انتظروا ما وعد الله به من العقاب فاني منتظر نزوله بكم مع جميع المنتظرين كما وعد الله به.

قوله تعالى: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين(103)

آية

قرأ يعقوب " ثم ننجي " بالتخفيف.

وقرأ الكسائي ويعقوب وحفص والكسائي عن ابي بكر " ننجي المؤمنين " بالتخفيف. الباقون بالتشديد فيهما.

[439]

قال ابوعلي النحوي: يقال نجا زيد نفسه، فاذا عديته، فان شئت قلت أنجيته وان شئت قلت نجيته.

ومن شدد فلقوله " ونجينا الذين آمنوا "(1) ومن خفف فلقوله " فأنجاه الله من النار "(2) وكلاهما حسن.

أخبر الله تعالى أنه إذا اراد إهلاك قوم استحقوا الهلاك نجى رسله من بينهم وخلصهم من العقاب، ويخلص مع الرسل المؤمنين الذين أقروا له بالوحدانية وللرسل بالتصديق.

وقوله " كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين " وجه التشبيه في ذلك أن نجاة من يقر من المؤمنين كنجاة من مضى في أنه حق على الله ثابت لهم ويحتمل أن يكون العامل في " كذلك " ننجي الاول وتقديره ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك الانجاء ويحتمل أن يعمل فيه الثاني، وكذلك حقا علينا.

ومعنى قوله " حقا علينا " يحتمل أمرين: احدهما - أن يكون معناه واجبا علينا ننجي المؤمنين من عقاب الكفار، ذكره الجبائي. والثاني - أن يكون على وجه التأكيد كقولك مررت بزيد حقا إلا أن علينا يقتضي الوجه الاول. والنجاة مأخوذة من النجوة وهي الارتفاع عن الهلاك. والسلامة مأخوذة من إعطاء الشئ من غير نقيصه، اسلمته اليه اذا اعطيته سالما من غير آفة.

قوله تعالى: قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفيكم وأمرت أن أكون من المؤمنين(104)

آية.

___________________________________

(1) سورة 41 حم السجدة آية 18.

(2) سورة 29 العنكبوت آية 24

[440]

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله ان يقول للخلق " يا أيها الناس ان كنتم في شك من ديني " فان ديني أن " لا أعبد الذين تعبدون من دون الله " أي إن كنتم في شك مما أذهب اليه من مخالفتكم فاني أظهره لكم وأبرء مما أنتم عليه وأعرفكم ما أمرت به وهو أن أكون مؤمنا بالله وحده وأن أقيم وجهي للدين حنيفا.

إن قيل: لم قال " إن كنتم في شك من ديني " مع اعتقادهم بطلان دينه؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة: احدها - أن يكون على وجه التقدير أي من كان شاكا في أمري وهو مصمم على أمره فهذا حكمه. والثاني - انهم في حكم الشاك للاضطراب الذي يجدون نفوسهم عليه عند ورود الايات والثالث - ان فيهم الشاك فغلب ذكرهم، وإنما جعل جواب (ان كنتم في شك) (لاأعبد) وهو لايعبد غير الله شكورا أولم يشكوا، لان المعنى لاتطمعوا أن تشككوني بشككم حتى أعبد غير الله كعبادتكم، كأنه قيل: إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله بشككم ولكن أعبدالله الذي يتوفاكم أي الذي أحياكم ثم يقبضكم وهو الذي يحق له العبادة دون أوثانكم ودون كل شئ سواه.

قوله تعالى: وأن أقم وجهك الذين حنيفا ولا تكونن من المشركين(105)

آية

هذه الاية عطف على ما قبلها والتقدير وأمرت أن أكون من المؤمنين، وقيل لي: أقم وجهك وقيل في معناه قولان: احدهما - استقم باقبالك على ما أمرت به من القيام باعباء النبوة وتحمل أمر الشريعة ودعاء الخلق إلى الله بوجهك، اذ من أقبل على الشئ بوجهه يجمع همته له فلم يضجع فيه. والثاني - أن يكون معناه أقم وجهك في الصلاة بالتوجه نحو الكعبة.

والاقامة نصب الشئ المنافي لاضجاعه تقول: أقام العود إذا جعله على تلك الصفة فأما أقام بالمكان فمعناه استمر به. والوجه عبارة عن عضو مخصوص ويستعمل بمعنى الجهة كقولهم: هذا معلوم في وجه كذا، ويستعمل بمعنى الصواب كقولك: هذا وجه الرأي.

[441]

وقيل في معنى الحنيف قولان: احدهما - الاستقامة.

وقيل للمايل القدم أحنف تفاؤلا.

والثاني - الميل، وقيل الحنف في الدين لانه ميل إلى الحق.

وقوله " ولا تكونن من المشركين " معناه نهي عن الاشراك مع الله تعالى غيره في العبادة تصريحا بالتحذير عن ذلك والذم لفاعله.

قوله تعالى: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين(106)

آية

قيل في معنى قوله " ولاتدع من دون الله " قولان: احدهما - لاتدعه إلها كما يدعو المشركين الوثن إلها. الثاني - لا تدعه دعاء الالهة في العبادة بدعائه.

والدعاء يكون على وجهين: احدهما - بلفظ النداء كقولك: يا زيد اذا دعوته باسمه. والثاني - أن تدعوه إلى الفعل وتطلب منه فعله كقول القائل لمن فوقه: إفعل.

وقوله " ولا تدع من دون الله " معناه لاتدع غير الله إلها. وانما قال " ما لا ينفعك ولا يضرك " مع أنه لو نفع وضر لم تحسن عبادته لامرين: احدهما - أن يكون معناه ما لا ينفك ولا يضرك نفع الاله وضره والثاني - انه إذا كان عبادة غير الله ممن يضر وينفع قبيحة فعبادة من لا يضر ولاينفع أقبح وأبعد من الشبهة.

وقوله " فان فعلت فانك اذا من الظالمين " معناه انك إن خالفت ما أمرت به من عبادة الله كنت ظالما لنفسك بادخال الضرر الذي هو العقاب عليها. وهذا الخطاب وإن كان متوجها إلى النبي فالمراد به أمته، ويجوز أن يكون الانسان يضر نفسه بما يفعل بأن يؤديها إلى الضرر. ولايجوز أن ينعم على نفسه لان النعمة تقتضي شكر المنعم عليه وذلك لايمكن من الانسان ونفسه كما لايمكن أن يثبت له في نفسه مال أو دين.

[442]

قوله تعالى: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم(107)

آية

قوله " وان يمسسك الله بضر " اي ان احل بك الضر، لان المس الحقيقي لايجوز عليه، لان حقيقتها تكون بين الجسمين، لكن لما ادخل الباء للتعدية جرى مجرى ان تقول يمسك من امسه. وأما اذا لم يتعد فيكون كقوله " مسني الضر "(1) والمماسة والمطابقة والمجامعة نظائر، وضدها المباينة.

والكشف رفع الساتر المانع من الادراك.

فكأن الضر ههنا كأنه ساتر يمنع من ادراك الانسان.

وقوله " وان يردك بخير " تقديره وان يرد بك الخير، وجاز على التقديم والتأخير كما يقول القائل: فلان يريدك بالخير ويريد بك الخير. والمعنى انه لاراد لما يريد الله بخلقه فان اراد بهم سوء‌ا لايقدر على دفعه احد. وان ارادهم بخير فلا يقدر احد على صرفه عنهم " يصيب به من يشاء من عباده " يعني بالخير.

وقوله " وهو الغفور الرحيم " معناه انه الغفار لكل من تاب من شركه وذنبه فلا ييأس من ذلك احد في حال تكليفه. وعندنا يجوز أن يغفر الله ذنب المؤمن من غير توبة. و (الرحيم) معناه انعامه على جميع خلقه.

___________________________________

(1) سورة 21 الانبياء آية 83

[443]

قوله تعالى: قل يا أيها الناس قد جاء‌كم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل(108)

آية

امر الله تعالى نبيه في هذه الاية أن يقول للخلق قد جاء‌كم الحق من الله وهو الذي من عمل به من العباد نجا، وضده الباطل وهو الذي من عمل به هلك، فمن علم بالحق كان حكيما. ومن عمل بالباطل كان سفيها.

والمراد بالحق ههنا ما أتى به النبي صلى الله عليه واله من القرآن والشرائع والاحكام وغير ذلك من الايات والدلالات " فمن اهتدى " بها بأن نظر فيها وعرفها حقا وصوابا " فانما يهتدي لنفسه " ومعناه فان منافع ذلك تعود عليه من الثواب دون غيره " ومن ضل " عنها وعدل عن تأملها والاستدلال بها والعمل بموجبها " فانما يضل " عن منافع نفسه وهو الجاني عليها.

وقوله " وما أنا عليكم بوكيل " معناه وما أنا عليكم بوكيل في منعكم من اعتقاد الباطل بل انظروا لانفسكم نظر من يطالب بعمله ولايطالب غيره بحفظه كأنه قال ما أنا حافظكم من الهلاك اذا لم تنظروا لانفسكم ولم تعملوا بما بخلصها ما يحفظ الوكيل مال غيره.

قوله تعالى: واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين(109)

آية

أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله ان يتبع ما يوحى اليه. والايحاء إلقاء المعنى في النفس على وجه خفي وهو ما يجئ به الملك إلى النبي صلى الله عليه واله عن الله تعالى فيلقيه اليه ويخصه به من غير أن يرى ذلك غيره من الخلق.

وقوله " واصبر " امر من الله تعالى له بالصبر وهو تجرع مرارة الامتناع

[444]

من المشتهى إلى الوقت الذي يجوز فيه تناوله، كصبر الصائم على الجوع والعطش، وكصبر النفس عن تناول المحرمات. وانما يعين على الصبر العلم بعاقبته وكثرة الفكر فيه وفي الخير الذي ينال به وبذكر ما وعد الله على فعله من الثواب وعلى تركه من العقاب.

وقوله " حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين " امر منه تعالى للنبي صلى الله عليه واله بالصبر على اذى المشركين وعلى قولهم انك ساحر كذاب ومجنون، حتى يحكم فيأمرك بالهجرة والجهاد.

قال الحسن: وقد كان الله اعلمه انه سيفرض عليه جهاد الكفار. وقيل نسخ ذلك فيما بعد بالامر بالجهاد، والتقدير إلى أن يحكم الله بهلاكهم وعذابهم في يوم بدر وغيره " وهو خير الحاكمين " معناه خير الحكام لانه قد يكون حاكم افضل من حاكم مع كونهما محقين كمن يحكم على الباطن فانه افضل ممن يحكم على الظاهر، لان الاول لايقع إلا حقا، والاخر يجوز أن يكون حقا في الظاهر وان كان فاسدا في الباطن.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1255
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28