• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء السادس ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة النحل من ( آية 1 ـ 50 ) .

سورة النحل من ( آية 1 ـ 50 )

16 - سورة النحل

هي مكية إلا آية هي قوله " والذين هاجروا في الله من بعد ماظلموا " الآية.

وقال الشعبي: نزلت النحل كلها بمكة إلا قوله " وان عاقبتم " إلى آخرها.

وقال قتادة: من أول السورة إلى قوله " كن فيكون " مكي، والباقي مدني.

وقال مجاهد: أولها مكي وآخرها مدني، وهي مئة وثمان وعشرون آية ليس فيها خلاف.

الآية: 1 - 39

بسم الله الرحمن الرحيم

(أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون(1))

آية بلاخلاف.

قرأ نافع وعاصم وابوعمرو " يشركون " بالياء.

وقرأ ابن عامر وابن كثير مثل ذلك.

وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.

من قرأ بالتاء، فلقوله " فلا تستعجلوه " فرد الخطاب الثاني إلى الاول ومن قرأ بالياء قال لان الله أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فقال محمد تنزيها لله " سبحانه وتعالى عما يشركون "

[358]

وقرأ سعيد بن جبير " أتى أمر الله، فلاتستعجله " وروي عن عباس انه قال: المشركون قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ائتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين، فقال الله تعالى " أتى امر الله فلا تستعجلوه " وانما قال " أتى امر الله " ولم يقل يأتي، لان الله تعالى قرب الساعة، فجعلها كلمح البصر، فقال " وماأمر الساعة إلا كلمح البصر أوهو أقرب "(1) وقال " اقتربت الساعة "(2) وكل ماهو آت قريب، فعبر بلفظ الماضي ليكون أبلغ في الموعظه، وإن كان قوله " فلا تستعجلوه " يدل على أنه في معني يأتي، وأمر الله يراد به العذاب - في قول الحسن وابن جريح وغيرهما - وقال الضحاك: معناه فرائضه واحكامه.

وقال الجبائي: امره القيامة والاول أصح، لانهم استعجلوا عذابه دون غيره.

والتسبيح في اللغة ينقسم أربعة أقسام: احدها - التنزيه مثل قوله " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا "(3) وقال الشاعر:

أقول لما جاء‌ني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر(4)

والثاني - معنى الاستثناء كقوله " لولاتسبحون "(5) أي هلا تستثنون.

والثالث - الصلاة كقوله " فلولا انه كان من المسبحين "(6).

والرابع - النور، جاء في الحديث (فلولا سبحان وجهه) أي نوره ومعنى " تعالى ": تعاظم بأعلى صفات المدح عن ان يكون له شريك في العبادة، وجميع صفات النقص منتفية عنه.

___________________________________

(1) سورة النحل آية 77.

(2) سورة القمر آية 1.

(3) سورة الاسرى آية 1.

(4) مرهذا الشعر في 1: 134، 3: 81، 5: 241، 395.

(5) سورة القلم اية 28.

(6) سورة الصافات آية 143

[359]

قوله تعالى: (ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لاإله إلا أنا فاتقون(2))

آية بلاخلاف.

قرأ روح والكسائي عن ابي بكر " تنزل الملائكة " بالتاء وفتحها، وفتح النون والزاي ورفع الملائكة. الباقون بالياء وضمها وفتح النون وتشديد الزاي وكسرها، ونصب الملائكة، إلا أن ابن كثير واباعمرو، وورشا يسكنون النون ويخففون الزاي.

من قرأ بالياء ففاعل (ينزل) هو الضمير العائد إلى اسم الله في قوله " اتى امر الله " وإسكان النون وتخفيف الزاي وتشديدها، فكلاهما جائز، قال تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر "(1) وقال " وأنزلنا اليك الذكر "(2) فأماما روي عن عاصم من القراء‌ة بالتاء، فلانه انث الفعل باسناده إلى الملائكة كقوله " إذ قالت الملائكة "(3) وبنى الفعل للمفعول به واسنده اليهم والاول ابين.

اخبر الله تعالى أنه ينزل الملائكة بالروح من امره، واختلفوا في معنى الروح - ههنا - فقال ابن عباس: اراد به الوحي، وقال الربيع بن انس: اراد به كلام الله، وقال قوم: أراد حياة النفوس، والارشاد لهم إلى الدين، وقد فسر ذلك بقوله " ان أنذروا " وهو بدل من الروح، وموضعه الجر وتقديره ب‍ (أن أنذروا) لان الموعظة والانذار للكافر حياة، لانه تعالى شبه الكافر بالميت، فقال " او من كان ميتا فأحييناه "(4) بالاسلام.

والروح تنقسم عشرة اقسام: فالروح الارشاد والحياة، والروح الرحمة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فروح وريحان "(5) والروح النبوة لقوله " يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده "(6) والروح عيسى روح الله أي خلق من غير بشر، وقال آخرون: من غير فحل. وقيل انه سمي بذلك لكونه رحمة على عباد الله بمايدعوهم إلى الله، والروح جبرائيل.

والروح النفخ، يقال: أحييت النار بروحي أي بنفخي، قال ذو الرمة يصف الموقد والزندة:

___________________________________

(1) سورة الحجر آية 9.

(2) سورة النحل آية 44.

(3) سورة ال عمران اية 42، 45.

(4) سورة الانعام اية 122.

(5) سورة الواقعة اية 89.

(6) سورة المؤمن (غافر) اية 15

[360]

فلما بدت كفنتها وهي طفلة *** بطلساء لم تكمل ذراعا ولاشبرا

فقلت له ارفعها اليك وأحيها *** بروحك واقتته لها قيتة قدرا(1)

والروح الوحي قال الله تعالى " وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا "(2) قيل انه جبرائيل، وقيل الوحي.

والروح ملك في السماء من أعظم خلقه، فاذا كان يوم القيامة وقف صفا، والملك كلهم صفا، والروح روح الانسان.

وقال ابن عباس في الانسان روح ونفس، فالنفس هي التي تكون فيها التمييز والكلام، والروح هوالذي يكون به الغطيط والنفس، فاذا نام العبد خرجت نفسه وبقيت روحه، واذا مات خرجت نفسه وروحه معا.

وقوله " على من يشاء من عباده " يعني الانبياء يأمرهم أن يخبروا عباده أنه لا إله يستحق العبادة غير الله تعالى، ويأمرهم بأن يتقوا معاصيه ويفعلوا طاعاته.

قوله تعالى: (خلق السموات والارض بالحق تعالى عما يشركون(3) خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين(4))

آيتان بلاخلاف.

قرأحمزة والكسائي " تشركون " بالتاء في الموضعين لقوله " فلا تستعجلوه " فرد الخطاب إلى الاول. ومن قرأ بالياء فلما تقدم ذكره.

احتج الله تعالى بالآية وما قبلها ومابعدها على خلقه وأعلمهم عظيم نعمه، ودلهم على قدرته، إذ " خلق السموات والارض " بمافيهما من العجائب والمنافع، و " الخلق الانسان من نطفة " مهينة ضعيفة سيالة فرباها ودبرها حتى صار إنسانا يخاصم ويبين.

___________________________________

(1) اللسان (حيا) ذكر البيت الثاني فقط (طلس) ذكر الشطر الثاني من البيت الاول.

(2) سورة الشورى آية 52

[361]

ولو وضعنا النطفة بين أيدي الخلائق فاجتهدوا، وفكروا ماقدروا على قلبها، ولاعرفوا كيف يتمكن ويتأتى أن تقلب حالا بعد حال حتى تصير فيها روح، وعقل، وسمع، وبصر، وحتى تنطق وتعرب عن نفسها، وتحتج فتدفع عنها وقيل في معنى " خصيم مبين " قولان: أحدهما - انه أخرج من النطفة ماهذه صفته، ففي ذلك أعظم العبرة. والثاني - لماخلقه ومكنه خاصم عن نفسه خصومة أبان فيها عن نفسه.

وقيل انه يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها - تعريف قدرة الله في اخراجه من النطفة ماهذه سبيله.

الثاني - تعريف نعم الله في تبليغ هذه المنزلة من خلق من نطفة.

الثالث - تعريف فاحش ماارتكب الانسان من تضييع حق الله بالخصومة.

قوله تعالى: (والانعام خلقها لكم فيها دف‌ء ومنافع ومنها تأكلون(5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون(6) وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس إن ربكم لرؤوف رحيم(7))

ثلاث آيات بلاخلاف.

الانعام جمع نعم، وهي الابل، والبقر، والغنم، سميت بذلك لنعومة مشيها بخلاف ذات الحافر الذي يصلب مشيها. ونصب بفعل مقدر يفسره مابعده، والتقدير وخلق الانعام خلقها، وإنما نصب لمكان الواو، العاطفة على منصوب قبله.

وقوله " خلقها لكم " تمام، لان المعنى خلق الانعام لكم أي لمنافعكم. ثم أخبر، فقال " فيها دف‌ء " والدف‌ء ما استدفأت به.

وقال الحسن يريد ما استدفئ به من أوبارها، وأصوافها، وأشعارها.

[362]

وقال ابن عباس: هواللباس من الاكيسة وغيرها، كأنه سمي بالمصدر ومنه دفوء يومنا دفأ، ونظيره (الكن) قال الفراء: كتبت (دف‌ء) بغير همز، لان الهمزة إذا سكن ماقبلها حذفت من الكتاب، ولو كتبت في الرفع بالواو، وفي النصب بالالف وفي الخفض بالياء كان صوابا.

وقال قتادة " فيها دف‌ء ومنافع " معناه منفعة هي بلغة، من الالبان وركوب ظهرها " ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون " وذاك أعجب مايكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسمنتها " وحين تسرحون " إذا سرحت لرعيها. فالسروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة. والاراحة رجوعها من المرعى عشيا: سرحت الماشية سرحا وسروحا وسرحها أهلها قال الشاعر:

كأن بقايا الاثر فوق متونه *** مدب الدبا فوق النقا وهو سارح(1)

وقوله " وتحمل أثقالكم " يعني هذه الانعام تحمل أثقالكم، وهو جمع ثقل، وهوالمتاع الذي يثقل حمله، وجمعه أثقال " لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس " والبلوغ المصير إلى حد من الحدود، بلغ يبلغ بلوغا وأبلغه إبلاغا، وبلغه تبلغا وتبلغ تبلغا وتبالغ تبالغا، والشق المشقة، وفيه لغتان، فتح الشين وكسرها، فالكسر عليه القراء السبعة.

وبالفتح قرأ أبوجعفر المدني. والشق أيضا أحد قسمي الشئ الذي في احدى جهتيه،، وقال قتادة: معناه بجهد الانفس، وكسرت الشين من شق الانفس مع أن المصدر بفتح الشين لامرين: احدهما - قال قوم: هما لغتان في المصدر، قال الشاعر:

وذي إبل يسعى ويحسبها له *** أخي نصب من شقها ودؤوب(2)

بالكسر والفتح، وقال العجاج: اصبح مسحول يوازي شقا(3) لكسر والفتح بمعنى يقاسي مشقة، وقال قوم: ان المعنى إلا بذهاب شق قوى النفس

___________________________________

(1) تفسير الطبري 4 1 / 1؟ (الطبعة الاولى) وروايته:

كأن بقايا الاتن فوق متونه *** مدب الذي فوق النقا وهو سارح

(2) قائله النمربن تولب. اللسان (شقق).

(3) اللسان (شقق)

[363]

ذكره الفراء والزجاج، واختاره الطبري.

وقوله " ان ربكم لرؤوف رحيم " أي رؤوف بكم رحيم، ومن رحمته أنه خلق لكم الانعام لتنتفعوا بها، على ماذكره.

قوله تعالى: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون(8) وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولوشاء لهداكم أجمعين(9))

آيتان بلاخلاف.

هذه الآية عطف على التي قبلها، فلذلك نصب " والخيل " وتقديرها، وخلق الخيل، وهي الدواب التي تركب " والبغال " واحدها بغل " والحمير " واحدها حمار " لتركبوها " وتتزينوا بها، ونصب (وزينة) بتقدير، وجعلها زينة " ويخلق مالاتعلمون " من أنواع الحيوان والجماد والنبات لمنافعكم، ويخلق من أنواع الثواب للمطيعين، وأنواع العقاب للعصاة مالاتعلمون.

وحكي عن ابن عباس: أن الآية دالة على تحريم لحم الخيل، لانها للركوب والزينة والانعام لماذكر قبل، وهو قول الحكم والاسود.

وقالوا: لانه تعالى ذكر في آية الانعام " ومنها تأكلون "(1) ولم يذكر ذلك في آية الخيل بل ذكرها للركوب والزينة. وابراهيم لم يربه بأسا، وهو قول جميع الفقهاء.

وقال جابر: كنا نأكل لحم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله " وعلى الله قصد السبيل " قال ابن عباس: معناه بيان قصد السبيل أي بيان الهدى من الضلال " ومنها جائر " أي عادل عن الحق فمن الطريق ما يهدي إلى الحق، ومنها مايضل عن الحق، ثم قال " ولوشاء لهداكم أجمعين " وقيل في معناه قولان: أحدهما - قال الحسن والبلخي: لوشاء لهداكم بالالجاء، لانه قادر على ذلك. الثاني - قال الجبائي: لوشاء لهداكم إلى الجنة.

___________________________________

(1) سورة المؤمن (غافر) آية 79

[364]

قوله تعالى: (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون(10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون(11))

آيتان بلاخلاف.

قرأ أبوبكر عن عاصم إلا الاعشى والبرجمي " ننبت " بالنون. الباقون بالياء من قرأبالياء فلما تقدم من قوله " هو الذي أنزل من السماء ماء.. ينبت لكم " وهو أشكل بماتقدم، والنون لايمتنع ايضا، يقال نبت البقل وانبته الله، وقدروي انبت البقل، وأنكر ذلك الاصمعي، وقال قصيدة زهير التي فيها (حتى إذا أنبت البقل) مبهمة قال أبوعلي فأما قوله " تنبت بالدهن "(1) فيجوز أن تكون الباء زائدة، كقوله " ولاتلقوا بأيديكم "(2) قال " وألقى في الارض رواسي أن تميد "(3) فعدى (ألقى) مرة بالباء وأخرى بغير باء، وإذا ثبت أن (انبت) في معنى (نبت) جاز ان تكون الباء للتعدي، كمالو كانت مع (نبت) كان كذلك، ويجوز ان تكون الهمزة في (انبت) للتعدي، والمفعول محذوف، والباء للحال، كأنه قال تنبت ثمرة بالدهن، فحذف المفعول و (بالدهن) في موضع حال، كأنه قال تنبت، وفيه دهن، ويجوز في (تنبت بالدهن) ان تنبت مافيه دهن.

اخبر الله تعالى انه الذي ينزل من السماء ماء يعني غيثا ومطرا لمنافع خلقه، من ذلك الماء شراب تشربونه، ومن ذلك نبات الشجر، والشجر ماينبت من الارض وقام على ساق وله ورق وجمعه أشجار، ومنه المشاجرة لتداخل بعض الكلام في بعض كتداخل ورق الشجر وقال الازهري: ما نبت من الارض شجر،

___________________________________

(1) سورة المؤمنون آية 20.

(2) سورة البقرة آية 195.

(3) سورة النحل آية 15 وسورة لقمان آية 10.

[365]

قام على ساق أو لم يقم ترعاه الابل والانعام كلها.

وقوله " فيه تسيمون " اي ترعون، يقال: اسمت الابل اذا رعيتها، وقد سامت تسوم، فهي سائمة اذارعت. واصل السوم الابعاد في المرعي، والسوم في البيع الارتفاع في الثمن، والانبات اخراج الزرع، والانسان يزرع، والله تعالى ينبت.

وقوله " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات " اي ينبت بذلك المطر هذه الاشياء التي عددها لينتفعوا بها. ثم اخبر ان في ذلك لدلالة وحجة واضحة لمن يفكر فيه، فيعرف الله به، وإنما أضاف الدلالة اليهم، لانهم الذين انتفعوا بها، ولان من لم يفكر فيها فكأنها لم تنصب له.

قوله تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون(12) وما ذرأ لكم في الارض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون(13))

آيتان بلاخلاف.

قرأ ابن عامر " والشمس والقمر والنجوم مسخرات " بالرفع فيهن كلهن، وافقه حفص في رفع " والنجوم مسخرات " الباقون بالنصب فيهن كلهن، اما ابن عامر فانما رفع ذلك، لانه جعل الواو، واو حال، وابتدأ، (والشمس) رفع بالابتداء و (النجوم) نسق عليها، (والقمر) نسق عليها (والمسخرات) رفع خبرها، ومن نصبها كلها جعلها منسوقة على قوله " وسخر لكم الليل والنهار " واما حفص فانما رفع (النجوم مسخرات) فقطعها مما قبلها، فعلى هذا حجة من نصب ان يقدر فعلا آخر ينصبه به، وتقديره وجعل النجوم مسخرات.

[366]

ووجه تسخير الشمس والقمر والليل والنهار، ان الليل والنهار إنما يكون بطلوع الشمس وغروبها، فما بين غروب الشم إلى طلوع الفجر، وهو غياب ضوء الشمس، فهو ليل. ومابين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهو نهار، فالله تعالى سخر الشمس على هذا التقدير لاتختلف، لمنافع خلقه ومصالحهم وليستدلوا بذلك على ان المسخر لذلك والمقدر له حكيم ثم بين ان في ذلك التسخير لدلالات لقوم يعقلون عن الله ويتبينون مواضع الاستدلال بادلته.

وقوله " وماذرألكم في الارض مختلفا ألوانه " معنى (ما) الذي وموضعه النصب والتقدير وخلق لكم (ما). أخبر الله تعالى ان الذي خلقه وأظهره من الاجسام المختلفة الالوان ان في ذلك دلالة لقوم يذكرون وأصله يتذكرون، فادغت التاء في الذال.

والذرء إظهار الشئ بإيجاده ذرأه يذرؤه ذرء‌ا. وذرأه، وفطره، وانشاء‌ه نظائر.

وملح ذرء‌اني ظاهر البياض والاختلاف هوالامتناع من ان يسد احد الشيئين مسد الآخر ونقيضه الاتفاق.

قال قتادة: قوله " وماذرأ لكم في الارض " معناه خلق لكم " مختلفا ألوانه " من الدواب والشجر والثمار، نعما ظاهرة فاشكروها لله، قال المؤرج: ذرأ بمعنى خلق بلغة قريش.

قوله تعالى: (وهوالذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون(14) وألقى في الارض رواسي أن تميدبكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون(15) وعلامات وبالنجم هم يهتدون(16))

ثلاث آيات بلاخلاف.

[367]

وهذا تعداد لنوع آخر من نعمه، فقال " وهوالذي سخر البحر " أي ذلله لكم وسهل لكم الطريق إلى ركوبه واستخراج مافيه من انواع المنافع فتصطادون منه أنواع السمك، فتأكلون لحمه طريا، ولايجوز ان تهمز طريا، لانه من الطراوة لا من الطراء‌ة، و " تستخرجوا " من البحر حلية يعني اللؤلؤ والمرجان الذي يخرج من البحار " تلبسونها " وتتزينون بها " وترى الفلك " يعني السفن " مواخر فيه " قال الحسن معناه مقبلة ومدبرة بريح واحدة، وقال قوم: معناه منقلة، والمواخر جمع ماخرة، والمخرشق الماء من عن يمين وشمال، يقال: مخرت السفينة الماء تمخره مخرا، فهي ماخرة، والمخر ايضا صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها.

وقوله " ولتبتغوا من فضله " اي ولتكتسبوا من فضل الله ونعمه بركوب البحر، ولكي تشكروه على أياديه، والواو دخلت ليعلم ان الله خلق ذلك. وأراد جميع ذلك وقصده. ثم أخبر انه القى في الارض رواسي، وهوجمع راسية وهي الجبل العالي الثابت " ان تميدبكم " اي لئلا تميد بكم الارض.

وقال الزجاج: معناه كراهة ان تمتد، ولم يجز حذف (لا) والميد الميل يمينا وشمالا، وهو الاضطراب: ماد يميد ميدا، وهومائد.

وقوله " وانهارا وسبلا " تقديره وجعل لكم انهارا، لدلالة (القى) عليه، لانه لايجوز ان يكون عطفا على (القى) ومثله قول الشاعر:

تسمع في اجوافهن صردا *** وفي اليدين جسأة وبددا(1)

اي وترى في اليدين يبسا وتفرقا، ومثله قولهم: (علفتها تبنا وماء باردا) والمعنى وسقيتها ماء، ومثله كثير، و (سبلا) عطف على (أنهارا) لكي تهتدوا بها في سلوككم، وانتقالكم في أغراضكم.

وقوله " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " اي جعل لكم علامات. وقيل انها الجبال ونحوها.

قال ابن عباس: يعني الجبال يهتدى بها نهارا، والنجم يهتدى به ليلا، وهواختيار الطبري.

و (العلامة) صورة يعلم بها المعنى، من خط او لفظ او إشارة او هيئة، وقد تكون وضعية، وقدتكون برهانية.

___________________________________

(1) مر هذا الشعر في 5 / 107، وروايته هناك (لغطا) بدل (صردا).

[368]

وقوله و " بالنجم هم يهتدون " فالنجم هوالكوكب، ويقال: نجم النبت إذا طلع تشبيها بطلوع النجم، وانما قال - ههنا - و " بالنجم " فوحد، وقال فيماتقدم " والنجوم مسخرات " لان النجوم على ثلاثة أضرب: ضرب يهتدى بها مثل الفرقدين، والجدي، لانها لاتزول، وضرب هي الشهب، وضرب هي زينة السماء، كماقال " زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب "(1) فقوله " وبالنجم " يجوز ان يريد به النجوم، فأخبر بالواحد عن الجميع، كماقال " او الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء "(2) والنجم في قوله " النجم الثاقب "(3) يريد الثريا فقط " والنجم اذا هوى "(4) يعني نزول القرآن إذا نزل به جبرائيل (ع) وقوله " والنجم والشجر يسجدان "(5) يريد كلما نجم من الارض اي نبت، مما لايقوم على ساق كالبطيخ والقرع والضغا بيس وهو الفتاء الصغار، ويشبه الخسيس بالضغبوس أنشد ابن عرفة:

قد جربت عركي في كل معترك *** غلب الاسود فمابال الضغابيس(6)

قوله تعالى: (أفمن يخلق كمن لايخلق أفلا تذكرون(17) وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الله لغفور رحيم(18))

آيتان بلاخلاف.

في هذه الآية رد على عباد الاصنام والاوثان بأن يقال: أفمن يخلق ماتقدم ذكره من السموات والارض والشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من أنواع

___________________________________

(1) سورة الصفات آية 6.

(2) سورة النور آية 31.

(3) سورة الطارق آية 3.

(4) سورة النجم 53 آية 1.

(5) سورة الرحمن آية 6.

(6) البيت لجرير ديوانه (دار بيروت) 251 واللسان (ضغبس) وقدروي (الرجال) بدل (الاسود).

[369]

العجائب، كمن لايخلق ذلك من الصنام التي هي جمادات، فكيف توجه العبادة اليها، ويسوى بينها، وبين خالق جميع ذلك، " أفلا يتفكرون " في ذلك ويعتبرون به، فان ذلك من الخطأ الفاحش. وجعل (من) فيمالايعقل، لما اتصلت بذكر الخالق.

ويتعلق بهذه الآية المجبرة، فقالوا: أعلمنا الله تعالى ان احدا لايخلق، لانه خلاف الخالق، وانه لوكان خالق غيره لوجب ان يكون مثله، ونظيره. وهذا باطل، لان الخلق في حقيقة اللغة هو التقدير والاتقان في الصنعة وفعل الشئ لاعلى وجه السهو والمجازفة بدلالة قوله " وتخلقون إفكا "(1) وقوله " واذ تخلق من الطين كهيئة الطير "(2) وقوله " احسن الخالقين "(3) كمالايجوز أنه اعظم الآلهة لمالم يستحق الآلهية غيره، وقال زهير:

ولانت تفري ماخلقت وبع‍ *** - ض القوم يخلق ثم لايفري(4)

وقال الججاج: لاأعد إلا وفيت ولاأخلق إلا فريت(5) وقال الشاعر:

ولايئط بأيدي الخالقين ولا *** أيدى الخوالق الاجبد الادم

فعلمنا بذلك جواز تسمية غيره بأنه خالق إلا انا لانطلق هذه الصفة إلا لله تعالى، لان ذلك توهم، فاذا ثبت ذلك فالوجه في الآية ماقدمنا ذكره من الرد على عباد الاصنام والجمادات التي لاتقدر على ضرر ولانفع ولاخلق شئ ولا

___________________________________

(1) سورة العنكبوت اية 17.

(2) سورة المائدة اية 113.

(3) سورة المؤمنون آية 14 وسورة الصافات آية 125.

(4) ديوانه 29 (دار بيروت) واللسان (فرا)، (خلق).

(5) وقد رواها ابن منظور في لسان العرب (خلق) قال: قال الحجاج: (ماخلقت إلا فريت ولاوعدت إلا وفيت).

[370]

استطاعة لها على فعل، وان من سوى بينها وبين من خلق ماتقدم ذكره من أنواع النعم وأشرك بينهما في العبادة، كان جاهلا بعيدا عن الصواب عادلا عن طريق الهدى.

ويقوي ذلك انه قال عقيب هذه الآية، " والذين يدعون من دون الله لايخلقون شيئا وهم يخلقون اموات غير احياء " فعلمنا انه أراد بذلك ما ماقدمنا من اسقاط رأيهم وتسويتهم بين الجماد والحي والفاعل ومن ليس بفاعل، وهذا واضح.

وقوله " وان تعدوا نعمة الله لاتحصوها " قال الحسن: لاتحصوها بأداء حقها وتعظيمها.

وقال الجبائي: لاتحصوها مفصلة لكثرتها وإن صح منكم احصاؤها على وجه الجملة.

قوله تعالى: (والله يعلم ماتسرون وماتعلنون(19) والذين يدعون من دون الله لايخلقون شيئا وهم يخلقون(20) أموات غير أحياء ومايشعرون أيان يبعثون(21))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأ يعقوب وحفص ويحيي والعليمي " والذين يدعون " بالياء. الباقون بالتاء، قال أبوعلي: هذا كله على الخطاب، لان مابعده خطاب كقوله بعد " أفلا تذكرون " وقوله " وألقى في الارض رواسي ان تميدبكم "، " وإلهكم إله واحد " فكل هذا خطاب.

فان قلت: ان فيه " والذين يدعون من دون الله " فانه لايكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للمسلمين، قيل: التقدير في ذلك قل لهم: والذين تدعون من دون الله، فلايمتنع الخطاب على هذا الوجه، ولهذا قرأ عاصم بالياء لماكان عنده ذلك اخبارا عن المشركين، ولم يجز ان يكون في الظاهر خطابا للمسلمين.

[371]

يقول الله لعباده ان الله الذي يستحق العبادة هوالذي يعلم مايظهرونه وما يستسرون به ويخفونه، وان الذين يدعون من دون الله من الاصنام لايخلقون شيئا، فضلا عن ان يخلقوا مايستحق به العبادة، وهم مع ذلك مخلوقون مربوبون، وهم مع ذلك أموات غير احياء، وانماقال أموات غير احياء، لانها في حكم الاموات في انها لاتعقل شيئا.

وقيل غير أحياء على وجه التأكيد بماصارت به، كالاموات، لانه قد يقال للحي هوكالميت إذا كان بعيدا من ان يعلم.

و (اموات) رفع بأنه خبر ابتداء، والتقدير هن أموات غير احياء، ويجوز ان يكون خبرا عن (الذين) والتقدير والذين يدعون أموات.

وقوله " ومايشعرون أيان يبعثون " اي هم لايعلمون اي وقت يحشرهم الله للجزاء والحساب، بل ذلك لايعلمه الا الله تعالى، ومعنى (أيان) متى و (متى) اوضح، لانه اغلب في الاستعمال فلذلك فسر به (أيان) وهوسؤال عن الزمان كما ان (اين) سؤال عن المكان وقال الفراء: معناه هي أموات فكيف يشعرون متى تبعث يعني الاصنام.

قال ويقال للكفار أيضا ومايشعرون أيان يبعثون، و (إيان) بكسر الهمزة لغة سليم قرأها أبو عبدالرحمن السلمي.

قوله تعالى: (إلهكم إله واحد فالذين لايؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون(22) لاجرم أن الله يعلم مايسرون ومايعلنون إنه لايحب المستكبرين(23))

آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى لعباده ان " إلهكم " الذي يستحق العبادة " إله واحد " لانه لايقدر على مايستحق به العبادة من أصول النعم سواه ثم قال ان الذين لايصدقون بالاخرة وبالبعث والنشور والثواب والعقاب، تجحد قلوبهم وتنكر ماذكرناه وهم مع ذلك " يستكبرون " اي يمتنعون من قبول الحق ألفة من أهله.

و (الاستكبار) طلب الترفع بترك الاذعان للحق ثم قال تعالى " لاجرم " اي

[372]

حق ووجب انه يعلم مايبطنونه ويخفونه في نفوسهم، وما يظهرونه، لايخفى عليه منه شئ، و " انه لايحب المستكبرين " يعني لايريد ثوابهم ولامنافعهم، ولايفعل ذلك بهم لكونهم مستحقين للعقاب.

قوله تعالى: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الاولين(24) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء مايزرون(25))

آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى إذا قيل لهؤلاء الكفار على وجه الاستفهام: ماالذي أنزل ربكم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ أجابوا بأن " قالوا: أساطير الاولين " يعني أحاديث الاولين الكاذبة، في قول ابن عباس وغيره، وأحدها أسطورة سمي ذلك، لانهم كانوا يسطرونها في الكتب.

وقوله " ليحملوا أوزاهم " أي أثقالهم من المعاصي، والوزر الاثم، والوزر الثقل، ومنه الوزير، لانه يحمل الاثقال عن الملك، يقال وازره على امره أي عاونه بحمل الثقل معه، واللام لام العاقبة، لانهم لم يقصدوا بمافعلوه ليتحملوا أوزارهم.

وقوله " كاملة " معناه حمل المعاصي تامة على أقبح وجوهها من غير اخلال بشئ منها " ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " معناه إنهم يتحملون مع أوزارهم من أوزار من أضلوه عن دين الله وأغووه عن اتباع الحق، بغير علم منهم بذلك بل كانوا جاهلين.

والمعنى إن هؤلاء كانوا يصدون من أراد الايمان بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فعليهم آثامهم وآثام أبنائهم لاقتدائهم بهم.

[373]

وعلى هذا ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (ايما داع دعا إلى الهدى فاتبع، فله مثل اجورهم من غير ان ينقص من اجورهم شئ، وايما داع دعا إلى الضلالة فان عليه مثل اوزار من اتبعه من غير ان ينقص من اوزارهم شئ).

والوجه في تحملهم أوزار غيرهم أحد شيئين: احدهما - انه اراد بذلك إغواء هم واضلالهم، وهي اوزارهم فأضاف الوزر إلى المفعول به، كما قال " اني اريد أن تبوء باثمي واثمك "(1) والثاني - ان يكون أراد اقتداء غيرهم بهم فيستحقون على معصيتهم زيادة عقاب، فجاز لذلك أن يضاف اليهم.

ثم أخبر تعالى فقال " ألا ساء مايزرون " أي بئس الشئ الذي يتحملونه، لانهم يحملون مايؤدي إلى العقاب، ومعنى يزرون يحملون ثقل الآثام.

قوله تعالى: (قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون(26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين(27))

آيتان بلاخلاف.

قرأ نافع وحده " تشاقون " بكسر النون اراد تشاقونني، فحذف النون تخفيفا وحذف الياء اجتزاء بالكسرة، وقد ذكر فيما مضى علة ذلك في قوله " فبم تبشرون "(2) وقرأ الباقون بفتح النون، لا يجعلونه مضافا إلى الياء. والنون في هذه القراء‌ة علامة الرفع، والنون مع الياء المحذوفة في موضع النصب.

___________________________________

(1) سورة المائدة اية 30.

(2) سورة الحجر آية 54

[374]

ومعنى " تشاقون " أي يعادون الله فيهم فيجعلونها شركاء له، والشقاق الخلاف في المعنى، ومعنى " تشاقون " تكونون في جانب، والمسلمون في جانب، لايكونون معهم يدا واحدة، ومن ثم قيل لمن خرج عن طاعة الامام وعن جماعة المسلمين: شق العصا أي صار في جانب عنهم، فلم يكن مجتمعا في كلمتهم.

يقول الله ان الذين من قبل هؤلاء الكفار " قد مكروا " واحتالوا على رسلهم والمكر الفتل والحيلة إلى جهة منكرة، يقال مكر به يمكر مكرا، فهو ماكر ومكار، ثم قال: فان الله تعالى أتى أمره وعقابه " بنيانهم " التي بنوها فهدمها " فخر عليهم السقف من فوقهم " وقيل في معنى " من فوقهم " قولان: احدهما - انه قال ذلك تأكيدا، كقولك قلت انت. الثاني - انهم كانوا تحته، وقد يقول القائل: تهدمت علي المنازل، وان لم يكن تحتها، وأيضا فليعلم انهم لم يكونوا فوق السقوف.

وقال ابن عباس وزيد بن اسلم: الذين خر عليهم السقف من فوقهم نمرود ابن كنعان.

وقال غيرهم: بخت نصر، وقال الزجاج وأبوبكر بن الانباري: المعنى فأتى الله مكرهم من اصله اي عاد ضرر المكر عليهم وبهم. وذكر الاسا مثلا كما ذكر السقف، مع انه لاسقف ثم ولا أساس، وهذا الذي ذكره يليق بكلام العرب ويشبهه، والمعنى إن الله أتى بنيانهم من القواعد اي قلعه من اصله كقولهم: أتي فلان من مأمنه اي أتاه الهلاك من جهة مأمنه وأتاهم العذاب من جهة الله " وهم لايشعرن " أي لايعلمون انه من جهة الله نزل بهم العذاب.

ثم قال انه تعالى مع ذلك يخزيهم يوم القيامة أي يذلهم بأنواع العذاب ويقول لهم أين شركائي الذين اتخذتموهم آلهة، فعبد تموهم يعني الذين كنتم تشاقون فيهم الله تعالى وتخرجون عن طاعة الله. ثم أخبر ان الذين أعطوا العلم والمعرفة بالله تعالى وأوتوه يقولون لهم: ان الخزي يعني الذل والهوان " اليوم " والسوء الذي هو العذاب، " على الكافرين " الجاحدين لنعمه المنكرين لتوحيده وصدق انبيائه.

[375]

قوله تعالى: (ألذين تتوفاهم الملئكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون(28) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين(29) وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين(30))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأحمزة " الذين يتوفاهم " بالياء. الباقون بالتاء، من قرأبالتاء فلتأنيث لفظة الملائكة، ومن قرأ بالياء، فلان التأنيث غير حقيقي وقد مضى نظيره كثيرا.

يقول الله تعالى ان الخزي اليوم والسوء على الكافرين، الذين يتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم و " الذين " في موضع الجر بأنه بدل من الكافرين وانما قال ذلك ليعلم به ان الوعيد يتناول من كان مات على كفره، لانه ان تاب لم يتوجه الوعيد اليه، ومعنى " تتوفاهم الملائكة " أي تقبض ارواحهم بالموت، ظالمي انفسهم بما فعلوه من ارتكاب المعاصي التي استحقوا بها العقاب. والظالم من فعل الظلم، ويصح ان يظلم الانسان نفسه كما يظلم غيره.

وقوله " فألقوا السلم " اي استسلموا للحق حين لاينفعهم السلم، يعني الانقياد والاذعان.

وقوله " ماكنا نعمل من سوء " اي قالوا ماعملنا من سوء، فكذبهم الله، وقال " بلى " قد فعلتم والله عالم بماكنتم تعملون في الدنيا من المعاصي وغيرها. وقيل في معنى ذلك قولان:

[376]

احدهما - ماكنا نعمل من سوء عند انفسنا، لانهم في الآخرة ملجؤن إلى ترك القبيح والكذب، ذكره الجبائي.

وقال الحسن وابن الاخشاذ: في الآخرة مواطن يلجؤن في بعضها دون بعض، ثم بين انه تعالى يقول لهم " ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها " اي مؤبدين فيها " فلبئس مثوى المتكبرين " قسم من الله تعالى انها بئس المأوى لمن تكبر على الله، ولم يعمل بطاعته، " وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم " اي اي شئ " انزل ربكم قالوا خيرا " على معنى ماذا، والمعنى انزل الله خيرا، وانما نصب (خيرا) ههنا بعد قوله " قالوا " ورفع " اساطير " فيما تقدم لامرين. احدهما - انهم جحدوا التنزيل، فقالوا إنما هي اساطير الاولين وأقر المؤمنون بالتنزيل، فقالوا أنزل ربنا خيرا. والثاني - قال سبيويه ان يكون الرفع على تقدير ماالذي انزل ربكم فيكون ذا بمعنى الذي، وفي النصب يكون (ذا، وما) بمنزلة اسم واحد وقوله " الذين احسنوا الحسنى " يحتمل ان يكون من كلام من قال خيرا، ويحتمل ان يكون اخبارا من الله تعالى، وهو الاقوى، لانه ابلغ في باب الدعاء إلى الاحسان، فأجاز الحسن والزجاج كلا الوجهين، والمعنى ان للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة مكافأة لهم في الدنيا قبل الآخرة خيرا " ولنعم دار المتقين " يعني الجنة التي يدخلها الذين اتقوا معاصي الله وفعلوا طاعاته.

قوله تعالى: (جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الانهار لهم فيها مايشاءون كذلك يجزي الله المتقين(31) ألذين تتوفاهم الملئكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بماكنتم تعملون(32))

آيتان بلاخلاف.

[377]

يحتمل رفع جنات وجهين: احدهما - ان تكون خبر ابتداء محذوف وتقديره هي جنات يدخلونها، كأن قائلا لما قال الله " ولنعم دار المتقين " قال: ماهذه الدار؟ فقيل: هي جنات عدن. والثاني - ان يكون رفعا بالابتداء وخبره " نعم دار المتقين " وقد قدم الخبر والتقدير جنات عدن " نعم دار المتقين ".

ثم وصف هذه الجنات بما فيها، فقال " تجرى من تحتها الانهار " لان الجنة هي البستان الذي فيه الاشجار، والانهار تجري تحت الاشجار، وقيل لان انهار الجنة في اخاديد. ثم اخبر ان لهؤلاء الذين دخلوا الجنة لهم فيها ما يشاؤنه ويشتهونه.

ثم قال مثل ذلك يجازي الله تعالى الذين يتقون معاصيه، ويعملون بطاعاته.

ثم قال " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين أي صالحين بأعمالهم الجميلة خلاف من تتوفاهم خبيثين بأعمالهم القبيحة. وأصل الطيبة حال المستلذ من الاطعمة، يقول الملائكة لهم سلا عليكم ادخلوا الجنة جزاء على أعمالكم في الدنيا من الطاعات.

قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملئكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وماظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون(33) فأصابهم سيآت ماعملوا وحاق بهم ماكانوا به يستهزؤن(34))

آيتان بلا خلاف.

قرأ اهل الكوفة إلا عاصما " إلا أن يأتيهم " بالياء. الباقون بالتاء وقد بينا وجهه، ومعنى قوله " هل ينظرون " ينتظرون، يعني هؤلاء الكفار إلا أن تأتيهم الملائكة، يعني بالموت أو الهلاك، أو يأتي أمر ربك يعني يوم القيامة، ذكره مجاهد وقتادة.

[378]

ثم أخبر تعالى ان الذين مضوا - فيما سلف من الكفار - فعلوا مثل فعل هؤلاء من تكذيب الرسل، وجحد توحيده، وانكار رسله، فأهلكهم الله فما الذي يؤمن هؤلاء أن يهلكهم. ثم اخبر تعالى انه باهلاكه اياهم لم يظلمهم، ولكن هم الذين ظلموا انفسهم فيما مضى بالمعاصي التي استحقوا بها الهلاك.

ثم اخبر تعالى انه اصابهم يعني الكفار جزاء سيئات اعمالهم، وهي القبائح، " وحاق بهم " اي حل بهم وبال " ماكانوا به يستهزئون " أي يسخرون برسل الله وبأنبيائه.

قوله تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين(35))

آية بلاخلاف.

حكى الله تعالى عن المشركين مع الله إلها آخر ومعبودا سواه أنهم قالوا " لو شاء الله " اي لو أراد الله لم نكن نعبد شيئا من دونه، من الاصنام والاوثان، لا " نحن ولاأباؤنا ولاحرمنا " من قبل نفوسنا شيئا، بل اراد الله ذلك منا، فلذلك فعلنا، كما يقول المجبرة الضلال، فكذبهم الله وانكر عليهم، وقال مثل ذلك فعل الذين من قبلهم، من الكفار الضلال كذبو رسل الله، وجحدوا انبياء‌ه ثم عذر انبيائه، فقال " هل على الرسل إلا البلاغ " الظاهر اي ليس عليهم إلا ذلك. وفي ذلك ابطال مذهب المجبرة، لان الله انكر عليهم قولهم إنه " لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شئ " ومثل هذه الآية التي في الانعام(1) وقد بيناها مستوفاة.

___________________________________

(1) اية 148 من سورة الانعام في 4: 333 - 335

[379]

قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين(36))

آية بلاخلاف.

اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد ارسل في كل امة من الامم السالفة رسولا بأن " اعبدوا الله " اي امرهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وان يجتنبوا عبادة الطاغوت، وهوكل مايعبد من دون الله.

وقيل: الطاغوت اسم الشيطان ويكون المعنى " اجتنبوا " اغواء الشيطان، وكل داع يدعو إلى الفساد.

ثم اخبر عن المبعوث اليهم بأن منهم من لطف الله لهم بما علم انه يؤمن عنده، فآمن عنده، فسمى ذلك اللطف هداية، ولم يرد نصب الادلة على الحق لانه تعالى سوى في ذلك بين المؤمن والكافر، كماقال " فاما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى "(1) ويحتمل أن يكون المراد فمنهم من هداه الله إلى الجنة بايمانه.

وقوله " ومنهم من حقت عليه الضلالة " قيل فيه قولان: احدهما - لانهم ضلوا عن طريق الحق وكفروا بالله، وهو قول الحسن. الثاني - حقت عليهم الضلالة عن طريق الجنة بما ارتكبوه من الكفر.

والضلالة - ههنا - المراد به العدول عن الجنة، وقد سمى الله العقاب ضلالا، فقال " ان المجرمين في ظلال(3) " اي عذاب.

ثم قال قل لهم " سيروا في الارض " وتعرفوا اخبار من مضى وتبينوا كيف كان عاقبة الذين كذبوا بآيات الله، ولم يصدقوا

___________________________________

(1) سورة حم السجدة آية 17.

(2) سورة القمر آية 47

[380]

رسله، فان الله اهلكهم ودمر عليهم، كقوم هود، ولوط، وثمود، وغيرهم، فان ديارهم عليها آثار الهلاك والدمار ظاهرة.

قوله تعالى: (إن تحرص على هداهم فإن الله لايهدي من يضل وما لهم من ناصرين(37))

آية بلاخلاف.

قرأ اهل الكوفة " يهدي " بفتح الياء وكسر الدال. الباقون بضم الياء وفتح الدال، ولم يختلفوا في ضم ياء يضل وكسر الضاد.

فمن فتح الياء وكسر الدال احتمل ذلك امرين: احدهما - انه اراد ان الله لايهدي من يضله. والثاني - أن من اضله الله لايهتدي.

ومن ضم الياء أراد من أضله الله لايقدر أحد ان يهديه، وقووا ذلك بقراء‌ة أبي " لاهادي لمن اضل الله " واسم الله تعالى اسم (إن) و (يضل) الخبر.

ومعنى اضلال الله - ههنا - يحتمل امرين: احدهما - ان من حكم الله بضلاله وسماه ضالا، لايقدر أحد ان يجعله هاديا ويحكم بذلك. والثاني - إن من أضله الله (عزوجل) عن طريق الجنة لااحد يقدر على هدايته اليها، ولايقدر هوايضا على أن يهتدي اليها.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ان تحرص " يامحمد على ان يؤمنوا ويهتدوا إلى الجنة، فهم بسوء اختيارهم لايرجعون عن كفرهم، والله تعالى قد حكم بكفرهم وضلالهم واستحقاقهم للعقاب، فلا أحد يقدر على خلاف ذلك.

[381]

و (من) في الوجهين في موضع رفع، فمن ضم الياء رفعها لانها لم يسم فاعلها، ومن فتح الياء، فلانها الفاعل.

والمراد بالآية التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لمن لا يفلح بالاجابة، لانهما كه في الكفر، وان ذلك ليس تقصيرا من جهتك بل انه ليس إلى فلاح مثل هذا سبيل.

وقوله " ومالهم من ناصرين " معناه ليس لهم ناصر ينصرهم ويخلصهم من العقاب، وذلك يبين انه ليس المراد بالاية الضلال عن الدين، وانما المراد ماقلناه من عدولهم عن الثواب إلى العقاب. والحرص طلب الشئ بجد واجتهاد، تقول: حرص يحرص حرصا، وحرص يحرص بكسر الراء في الماضي، وفتحها في المستقبل، والاول لغة أهل الحجاز.

قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لايبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لايعلمون(38) ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين(39))

آيتان بلاخلاف.

يقول الله تعالى ثم ان هؤلاء الكفار حلفوا بالله على قدر طاقتهم وجهدهم انه لا يحشر الله أحدا يوم القيامة، ولايحييه بعدموته.

ثم كذبهم تعالى في ذلك، فقال: " بلى " يحشرهم الله ويبعثهم " وعدا " وعدهم به، ولايخلف وعده.

ونصب " وعدا " على المصدر والتقدير وعد وعدا.

وقال الفراء: تقديره بلى ليبعثهم وعدا حقا، ولو رفع على معنى ان ذلك وعد عليه حق كان صوابا والمعنى وعدوعدا عليه حقا ذلك الوعد ليس له خلف " ولكن اكثر الناس لا يعلمون " صحة ذلك لكفرهم بالله وجحدهم انبياء‌ه.

وقوله " ليبين لهم الذي يختلفون فيه " في دار الدنيا، لانه يخلق فيهم العلم

[382]

الضروي يوم القيامة، الذي يزول معه التكليف ويزول خلافهم فيه، ويعلم ايضا كل كافر انه كان كاذبا في الدنيا في قوله: إن الله لايبعث احدا بعد موته، هذا إن جعلنا قوله " ليبين " متعلقا ب‍ (بلى) يبعثهم الله. ويحتمل ان يكون متعلقا بقوله " ولقد بعثنا في كل امة رسولا... ليبين الذي يختلفون فيه " ويهديهم إلى طريق الحق ويثيبهم عليه.

الآية: 40 - 81

قوله تعالى: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون(40))

آية بلاخلاف.

قرأ الكسائي وابن عباس " فيكون " نصبا. الباقون رفعا.

فمن نصب جعله عطفا على " ان نقول.. فيكون " ولايجوز ان يكون نصبا على جواب الامر لان ماينتصب لاجل جواب الامر هو مايكون فعلان، ويجب الثاني من اجل الاول، كقولك ائتني فأكرمك فالاكرام يجب من اجل الاتيان، وليس كذلك في لآية، لانه انما هو فعل واحد أمر، واخبر انه يكون، ولذلك اجمع القراء على رفع الذي في آل عمران في قوله " ان مثل عيسى عندالله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون "(1) وقد أجار الزجاج النصب على ان يكون جوابا، وهو غلط.

من رفع اراد أن يقول له كن، فانه يكون.

وقيل في معنى الآية قولان: احدهما - انه بمنزلة قوله (كن) في انه يكون منا من غير كلفة ولامعاناة والثاني - ان قول " كن " علامة للملائكة تدلهم على انه سيحدث كذا وكذا عند سماعه.

___________________________________

(1) سورة ال عمران اية 59

[383]

قوله تعالى: (والذين هاجروا في الله من بعد ماظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون(41) ألذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون(42))

آيتان بلاخلاف.

موضع " الذين " رفع بالابتداء، والخبر " لنبوئنهم " يقول الله تعالى ان الذين هاجروا من ديارهم فرارا بدينهم، واتباعا لنبيهم، من بعد ان ظلمهم قومهم وآذوهم وبخسوهم حقوقهم، فان الله تعالى يبوئهم في الدنيا حسنة.

والتبوء الاحلال بالمكان للمقام، يقال تبوأ منزلا يتبوأ اذا اتخذه، وبوأه غيره تبويئا اذا احله غيره، ومنه " بوأنا بني اسرائيل مبوء صدق "(1) وقال ابن عباس وقتادة والشعبي: تبوأهم الله المدينة، واحل لهم فيها غنيمة حسنة يأخذونها من اموال الكفار.

ثم اخبر ان ما اعدة لهم من الاجر في الآخرة ونعيم الجنة اكثر من ذلك بكثير لوكانوا يعلمون.

ثم وصف الذين هاجروا، فقال الذين صبروا على جهاد اعدائه واحتملوا الاذي في جنب الله واسندوا أمرهم اليه تعالى وتوكلوا عليه، فمن كان بهذه الصفة يستحق ماذكرناه، ومن كان بخلاف لم يستحق منه شيئا.

وقيل: إن الآية نزلت في عمار وصهيب وأمثالهم الذين كانوا يعذبون بمكة.

___________________________________

(1) سورة 10 يونس اية 93

[384]

قوله تعالى: (وماأرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون(43) بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم ولعلهم يتفكرون(44))

آيتان بلاخلاف.

هذا خطاب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول له إنالم نرسل من قبلك إلا رجالا امثالك من البشر " نوحي اليهم " أي يوحي الله اليهم.

ومن قرأ بالنون، وهو حفص، أراد نوحي نحن، إخبار منه تعالى.

ثم قال الله لهم " فاسألوا اهل الذكر إن كنتم لاتعلمون " صحة ما اخبرناكم به من أنا ارسلنا رجالا قبلك وأوحينا اليهم.

وقال ابن عباس ومجاهد: المعني بأهل الذكر أهل الكتاب ومنهم من قال: المراد من آمن من اهل الكتاب، ومنهم من قال: امر مشركي العرب ان يسألوا اهل الكتاب عن ذلك فانهم لايتهمونهم.

وقال ابن زيد: يريد اهل القرآن لان الذكر هوالقرآن.

وقال الرماني والازهري والزجاج: المعني بذلك اهل العلم بأخبار من مضى من الامم، سواء كانوا مؤمنين او كفارا، وماآتاهم من الرسل قال: وفي ذلك دلالة على انه يحسن ان يرد الخصم - اذا التبس عليه امر - إلى أهل العلم بذلك الشئ ان كان من اهل العقول السليمة من آفة الشبه.

والذكر ضد السهو وسمي العلم بذلك، لانه منعقد بالعلم، وهو بمنزلة السبب المؤدي اليه في ذكر الدليل، واذا تعلق هذا التعلق حسن ان يقع موقعه وينبئ عن معناه.

وروى جابر عن ابي جعفر (ع) انه قال: (نحن اهل الذكر).

وقوله " بالبينات والزبر " العامل بالباء أحد امرين: احدهما - قوله " أرسلنا " والتقدير ماارسلنا قبلك إلا رجالا بالبينات نوحي اليهم. الثاني - ان يكون على حذف (أرسلنا بالبينات) كما قال الاعشى:

وليس مجيرا إن أتى الحي خائف *** ولاقائل إلا هو المتعيبا(1)

___________________________________

(1) ديوان دار بيروت. 8 وتفسير الطبري 14: 69

[385]

أي أعني المتعيبا، ومثل الاول، قول الشاعر:

نبئتهم عذبوا بالنار جارتهم *** وهل يعذب إلا الله بالنار(1)

وقوله " بالبينات والزبر " اي بالدلالات الواضحات والكتب المنزلة.

والزبر الكتب، واحدها زبور، يقال: زبرت الكتاب أزبره زبرا إذا كتبته.

ثم قال " وأنزلنا اليك " يامحمد " الذكر " يعني القرآن " لتبين للناس مانزل إليهم " فيه من الاحكام والدلالة على توحيد الله، لكي يتفكروا في ذلك ويعتبروا، وانما قال " وماأرسلنا من قبلك إلا رجالا " مع انه أرسل قبله الملائكة، لان المعنى وما أرسلنا من قبلك إلى الامم الماضية إلارجالا بدلالة الآية، لانهما حجة عليهم في انكار رسول الله إلى الناس من الرجال.

قوله تعالى: (أفأمن الذين مكروا السيآت أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لايشعرون(45) أو يأخذهم في تقلبهم فماهم بمعجزين(46) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم(47))

ثلاث آيات بلاخلاف.

يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " أفأمن الذين مكروا " بالنبي والمؤمنين، وفعلوا السيئآت واحتالوا الفعل القبيح، على وجه الانكار عليهم، فاللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الانكار " أن يخسف الله بهم الارض " من تحتهم عقوبة لهم على كفرهم او يجيئهم العذاب من جهة، لايشعرون بها، على وجه الغفلة " أو يأخذهم في تقلبهم " وتصرفهم، بأن يهلكهم على سائر حالاتهم، حتى لاينفلت منهم أحد، فماهم بفائتين.

___________________________________

(1) تفسير الطبري 14: 69 ومجمع البيان 3: 362

[386]

والمعنى إن مايريد الله بهم من الهلاك لايمتنع عليه مايريده منهم " او يأخذهم على تخوف " وقيل في معنى " تخوف " قولان: احدهما - قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: على تنقص بمعنى انه يؤخذ الاول فالاول حتى لايبقى منهم احد، لان تلك حال يخاف معها الفناء ويتخوف معها الهلاك، وقال الشاعر:

تخوف السير منها تامكا قردا *** كما تخوف عود النبعة السفن(1)

اي ينقص السير منامها بعدتموكه، كما ينحت العود فيدق بعد غلظه.

وقال الآخر:

تخوف عدوهم مالي وأهلي *** سلاسل في الحلوق لها صليل(2)

والثاني - روي عن ابن عباس - في رواية أخرى - ان معناه على تفزيع.

وقال الحسن: تهلك القرية فتخوف القرية الاخرى، وقال الفراء: تخوفته، وتحوفته - بالخاء والحاء - إذا انتقصته من حافاته.

ومثله " ان لك في النهار سبحا طويلا "(3) بالخاء والحاء، سمعت العرب تقول سبحي صوفك، وهو شبيه بالندف، والسبخ مثل ذلك، قال المبرد: لايقال تحوفته، وإنما هو تحيفته.

___________________________________

(1) قائله ابن مقبل، اللسان (خوف) وتفسير الطبري 14: 70 ومجمع البيان 3: 363.

(2) تفسير الطبري 14: 71 ومجمع البيان 3: 363.

(3) سورة المزمل آية 7

[387]

قوله تعالى: (أو لم يروا إلي ماخلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون(48) ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من دابة والملئكة وهم لا يستكبرون(49) يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون مايؤمرون(50))

ثلاث آيات بلاخلاف.

قرأ حمزة والكسائي وخلف " اولم تروا " بالتاء، الباقون بالياء. من قرأ بالتاء حمله على الجمع. ومن قرأ بالياء، فعلى ماقبله، من قوله " ان يخسف الله بهم الارض او يأتيهم.. او يأخذهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رأوا ذلك وتيقنوه، فلذلك عدل عن الخطاب.

وقرأ ابوعمرو ويعقوب " تتفيؤا ظلاله " بالتاء. الباقون بالياء، فمن أنث فلتأنيث الظلال، لانه جمع ظل، فكل جميع مخالف الآدميين، فهو مؤنث تقول: هذه الاقطار وهذه المساجد.

ومن ذكر، فلان الظلال وإن كان جمعا، فهو على لفظ الواحد مثل (جدار)، لان جمع التكسير يوافق الواحد.

يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانيته، وكذبوا نبيه، على وجه التنبيه لهم على توحيده " اولم يروا " هؤلاء الكفار " إلى ماخلق الله " من جسم قائم، شجر اوجبل او غيره، فصير ظلاله فيئا اي تدور عليه الشمس ثم يرجع إلى ماكان قبل زوال الشمس عنه.

وقال ابن عباس (يتفيئو) يرجع من موضع إلى موضع ويتميل، يقال منه: فاء الظل يفئ فيئا إذا رجع، وتفيأ يتفيؤ تفيؤا بمعنى واحد.

وقوله " عن اليمين والشمائل " معناه في اول النهار وآخره - في قول قتادة والضحاك وابن جريج - يتقلص الفئ عن الجبل من جهة اليمين وينقص بالعشي من جهة الشمال.

وإنما قال عن اليمين - على التوحيد - والشمائل - على الجمع - لاحد أمرين: احدهما - انه اراد باليمين الايمان، فهو متقابل في المعنى، ويتصرف في اللفظ على الايجاز، كماقال الشاعر:

[388]

بفي الشامتين الصخر ان كان هدني *** زرية شبلي مخدر في الضرا غم(1)

والمعنى بأفواه، وقال آخر:

الواردون وتيم في ذرى سبإ *** قد عض اعناقهم جلد الجواميس(2)

وقوله " سجدالله وهم داخرون " معناه إنها خاضعة لله ذليلة، بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها، بمالولاه لبطلت، ولم يكن لها قوام طرفة عين، فهي في ذلك كالساجد، من العباد بفعله، الخاضع بذاته، كأنه من بسط الشمس عليه في أول النهار.

ثم قبضها عنه إلى الجهة الاخرى.

ثم قبضها ايضا عنه، فتغيرت حاله.

والتغيير يقتضي مغيرا غيره ومدبرا دبره.

قال الحسن: اما ذلك فيسجد لله، واما انت فلا تسجد لله؟ ! بئس والله ماصنعت.

و (الداخر) الخاضع الصاغر، دخر يدخر دخرا ودخورا، إذا ذل وخضع قال ذو الرمة:

فلم يبق إلا داخر في مخيس *** ومنجحر في غير أرضك في جحر(3)

ثم أخبر تعالى انه يسجد له جميع " مافي السموات ومافي الارض " والسجود هو الخضوع بالعبادة او الدعاء إلى العبادة، فكل شئ من مقدوراته تعالى يسجد بالدعاء إلى العباده بمافيه من الآية، الذي يقتضي الحاجة اليه تعالى، وكل محق من العباد فهو يسجد بالعبادة.

وقوله " من دابة " معنى (من) ههنا هي التي تبين، تبيين الصفة، كأنه قال ومافي الارض الذي هو دابة تدب على الارض.

وقوله " والملائكة " اي وتسجد له الملائكة، وتخضع له بالعبادة، و " هم " يعني الملائكة، غير مستكبرين،

___________________________________

(1) مجمع البيان 3: 363 وتفسير الطبري 14: 73.

وروايته: بفي الشامتين ان كان هدني ودية شبلي محدد في الضراغم.

(2) قائله جرير: ديوانه (دار بيروت) 252، وتفسير الطبري 14: 73 ومجمع البيان 3: 363 وروايته الديوان:

تدعوك تيم وتيم في قرى سبإ *** قد عض اعناقهم جلد الجواميس

(3) اللسان (خيس) نسبه إلى الفرزق خطأ

[389]

ولاطالبين بذلك التكبر بل مذعنين بالحق متذللين، غير آنفين، من الاذعان به.

" يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون مايؤمرون " قيل في معناه قولان: احدهما - يخافون عقاب ربهم من فوقهم، لانه يأتي من فوق. الثاني - انه لما وصف بأنه عال ومتعال، على معنى قادر، لا قادر أقدر منه، فقيل صفته في أعلى مراتب صفات القادرين، حسن ان يقال " من فوقهم " ليدل على ان هذا المعنى من الاقتدار الذي لايساويه قادر، وقوله " ويفعلون ما يؤمرون " يعني الملائكة يفعلون مايأمرهم الله به، ولايعصونه، كماقال " لا يعصون الله ماامرهم ويفعلون مايؤمرون "(1)

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1268
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28