• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء التاسع ) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الحجرات .

سورة الحجرات

49 - سورة الحجرات

مدينة إلا آية واحدة وهي قوله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم.. " إلى آخرها.

وقال قوم: كلها مدينه، وهي ثمان عشر آية بلا خلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم(1) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون(2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم(3) إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون(4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم(5))

خمس آيات.

قرأ يعقوب " لا تقدموا " بفتح التاء والدال. الباقون بضم التاء وكسر الدال

[340]

من التقديم. وقيل: انهما لغتان. قدم وتقدم مثل عجل وتعجل وقال ابن عباس والحسن: الآية " لا تقدموا " في الحكم أو في الامر قبل كلامه صلى الله عليه واله - بفتح الدال والتاء - وقال الحسن: ذبح قوم قبل صلاة العيد يوم النحر، فأمروا باعادة ذبيحة اخرى.

وقال الزجاج: المعنى لا تقدموا أعمال الطاعة قبل الوقت الذي أمر الله والنبي صلى الله عليه واله به حتى قيل لا يجوز تقدم الزكاة قبل وقتها.

وقال قوم: كانوا إذا سألوا عن شئ قالوا فيه قبل النبي صلى الله عليه واله نهوا عن ذلك، والاولى حمل الآية على عمومها فيقال: كل شئ إذا فعل كان خلافا لله ورسوله فهو تقدم بين أيديهما فيجب المنع من جميع ذلك.

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين الذين اعترفوا بتوحيده وإخلاص عبادته وأقروا بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه واله ينهاهم أن يتقدموا بين يدي النبي صلى الله عليه واله بأن يفعلوا خلاف ما أمر به او يقولوا في الاحكام قبل ان يقول او يخالفوا أوقات العبادة، فان جميع ذلك تقدم بين يديه، وأمرهم ان يتقوا الله بأن يجتنبوا معاصيه ويفعلوا طاعاته " إن الله سميع " لما يقولونه " عليم " بما ينطوون عليه ويضمرونه. ثم أمرهم ثانيا بأن قال " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " على وجه الاستخفاف به صلى الله عليه واله، فان مجاهد وقتادة قالا: جاء أعراب اجلاف من بني تميم، فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد إخرج إلينا، ولو أن إنسانا رفع صوته على صوت النبي صلى الله عليه واله على وجه التعظيم له والاجابة لقوله لم يكن مأثورما. وقد فسر ذلك بقوله " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " فان العادة جارية أن من كلم غيره ورفع صوته فوق صوته أن ذلك على وجه الاستخفاف به، فلذلك نهاهم عنه. وجهر الصوت اشد من الهمس، ويكون شديدا وضعيفا ووسطا. والجهر ظهور الصوت بقوة الاعتماد، ومنه الجهارة في المنطق.

[341]

ويقال: نهارا جهارا، وجاهر بالامر مجاهرة. ونقيض الجهر الهمس.

ثم بين تعالى انهم متى فعلوا ذلك بان يرفعوا الصوت على صوت النبي صلى الله عليه واله على الوجه الذي قلناه أن يحبط اعمالهم، والتقدير لا ترفعوا أصواتكم لان لا تحبط قال الزجاج: ويكون اللام لام العاقبة، والمعنى يحبط ثواب ذلك العمل، لانهم لو أوقعوه على وجه الاستحقاق لاستحقوا به الثواب، فلما فعلوه على خلاف ذلك استحقوا عليه العقاب، وفاتهم ذلك الثواب فذاك إحباط أعمالهم، فلا يمكن أن يستدل بذلك على صحة الاحباط في الآية على ما يقوله أصحاب الوعيد، ولانه تعالى علق الاحباط في الآية بنفس العمل، وأكثر من خالفنا يعلقه بالمستحق على الاعمال، وذلك خلاف الظاهر.

ثم مدح تعالى من كان بخلاف من يرفع الصوت بين يدي النبي صلى الله عليه واله، فقال " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " اعظاما للنبي وإجلالا له، والغض الحط من منزلة على وجه التصغير له بحالة، يقال: غض فلان عن فلان إذا ضعف حاله عن حال من هو أرفع منه، وغض بصره إذا ضعف عن حدة النظر، وغض صوته إذا ضعف عن الجهر، وقال جرير:

فغض الطرف إنك من نمير *** فلا كعبا بلغت ولا كلابا(1)

ثم قال " اولئك " يعني الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله هم " الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " أي لا خلاص التقوى فعاملهم معاملة المختبر كما يمتحن الذهب لا خلاص جيده.

وقيل " امتحن الله قلوبهم للتقوى " اخلصها - في قول مجاهد وقتادة - وقال قوم: معناه أولئك الذين علم الله التقوى في قلوبهم، لان الامتحان يراد به العلم، فعبر عن العلم بالامتحان.

___________________________________

(1) ديوانه والطبري 26 / 69

[342]

ثم قال تعالى " لهم مغفرة " من الله لذنوبهم " وأجر عظيم " على افعالهم وطاعاتهم ثم خاطب النبي صلى الله عليه واله على وجه الذم لمن يرفع صوته من اجلاف الاعراب على النبي صلى الله عليه واله " إن الذين ينادونك " يا محمد " من وراء الحجرات " وهي جمع حجرة وكل (فعلة) بضم الفاء يجمع بالالف والتاء، لانه ليس بجمع سلامة محضة إذ ما يعقل من الذكر ألحق به، لانه اشرف المعنيين، فهو احق بالتفصيل، قال الشاعر:

اما كان عباد كفيا لدارم *** بلى ولابيات بها الحجرات(1)

أي بلى ولبني هاشم. وقرأ ابوجعفر الحجرات بفتح الجيم.

قال المبرد: أبدل من الضمة الفتحة الستثقالا لتوالي الضمتين، ومنهم من أسكن مثل (عضد وعضد) وقال ابوعبيدة: جمع حجرة وغرفة يقال: حجرات وغرفات.

ثم قال " اكثرهم لا يعقلون " لانهم بمنزلة البهائم لا يعرفون مقدار النبي صلى الله عليه واله وما يستحقه من التوقير والتعظيم.

وقيل: إن الذين رفعوا أصواتهم على النبي صلى الله عليه واله قوم من بني تميم.

وفي قراء‌ة ابن مسعود (اكثرهم بنو تميم لا يعقلون).

ثم قال " ولو أنهم صبروا " فلم ينادوك " حتى تخرج اليهم " من منزلك " لكان خيرا لهم " من أن ينادونك من وراء الحجرات (والله غفور رحيم) أي ساتر لذنوبهم إن تابوا منها لان ذلك كفر لا يغفره الله إلى بالتوبة.

___________________________________

(1) الطبري 26 / 69

[343]

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاء‌كم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين(6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون(7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم(8) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بغت إحديهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فان فاء‌ت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين(9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون(10))

خمس آيات.

قوله (يا ايها الذين آمنوا إن جاء‌كم فاسق بنبأ) خطاب من الله - عزوجل - للمؤمنين بأنه (إذا جاء‌كم فاسق) وهو الخارج من طاعة الله إلى معصيته (بنبأ) أي بخبر عظيم الشأن (فتبينوا) صدقه من كذبه ولا تبادروا إلى العمل بمتضمنه (أن تصيبوا قوما بجهالة) لانه ربما كان كاذبا وخبره كذبا، فيعمل به فلا يؤمن بذلك وقال ابن عباس ومجاهد ويزيد بن رومان وقتادة وابن أبي ليلا: نزلت الآية في الوليد ابن عقبة بن أبي معيط، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه واله في صدقات بني المصطلق خرجوا يتلقونه فرحا به وإكراما له، فظن أنهم هموا بقتله، فرجع إلى النبي صلى الله عليه واله فقال: انهم منعوا صدقاتهم، وكان الامر بخلافه.

وفي الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم ولا العمل، لان المعنى إن جاء‌كم فاسق بالخبر الذي لا تأمنون أن يكون كذبا فتوقفوا فيه، وهذا التعليل موجود في خبر العدل، لان العدل على الظاهر يجوز أن يكون كاذبا في خبره،

[344]

فالامان غير حاصل في العمل بخبره. وفى الناس من استدل به على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان راويه عدلا، من حيث انه اوجب تعالى التوقف في خبر الفاسق، فدل على أن خبر العدل لا يجب التوقف فيه. وهذا الذي ذكروه غير صحيح، لانه استدلال بدليل الخطاب ودليل الخطاب ليس بدليل عند جمهور العلماء. ولو كان صحيحا فليست الآية بأن يستدل بدليلها على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا بأولى من ان يستدل بتعليلها في دفع الامان من أن يصاب بجهالة إذا عمل بها على ان خبر العدل مثله، على أنه لا يجب العمل بخبر الواحد، وإن كان راويه عدلا.

فان قيل: هذا يؤدي إلى أن لا فائدة في إيجاب التوقف في خبر الفاسق إذا كان خبر العدل مثله في الفائدة. قلنا: والقول بوجوب العمل بخبر الواحد يوجب أنه لا فائدة في تعليل الآية في خبرالفاسق الذي يشاركه العدل فيه، فاذا تقابلا سقط الاستدلال بها على كل حال وبقي الاصل في انه لا يجوز المل بخبر الواحد إلا بدليل.

ومن قرأ (تبينوا) أراد تعرفوا صحة متضمن الخبر الذي يحتاج إلى العمل عليه، ولا تقدموا عليه من غير دليل، يقال: تبين الامر إذا ظهر، وتبين هو نفسه بمعنى واحد، ويقال ايضا: تبينته إذا عرفته. ومن قرأ (فتثبتوا) - بالتاء والثاء - أراد توقفوا فيه حتى يتبين لكم صحته.

وقوله (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) معناه حتى عملتم بخبر الواحد وبان لكم كذب راويه أصبحتم نادمين على ما فعلتموه. ثم خاطبهم يعني المؤمنين فقال (واعلموا) معاشر المؤمنين (أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) ومعناه لو فعل ما تريدونه في كثير من

[345]

الامور (لعنتم) أي اصابكم عنت ومكروه، يقال: أعنت الرجل إذا حملت عليه عامدا لما يكره، يقال: اعنته فعنت، وسمي موافقته لما يريدونه طاعة لهم مجازا لان الطاعة يراعى فيها الرتبة، فلا يكون المطيع مطيعا لمن دونه، وإنما يكون مطيعا لمن فوقه إذا فعل ما أمره به، ألا ترى انه لا يقال في الله تعالى: إنه مطيع لنا إذا فعل ما أردناه. ويقال فينا إذا فعلنا ما أراده الله: انه مطيع. والنبي صلى الله عليه واله فوقنا فلا يكون مطيعا لنا، فاطلاق ذلك مجاز.

وقوله (ولكن الله حبب اليكم الايمان) بما وعد من استحقاق الثواب عليه (وزينه في قلوبكم) بنصب الادلة على صحته (وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان) بما وصفه من العقاب عليه - وهو قول الحسن - وفي الآية دلالة على أن اضداد الايمان ثلاثة كفر وفسوق وعصيان.

ثم قال (أولئك) يعني الذين وصفهم الله بالايمان، وزين الايمان في قلوبهم وانه كره اليهم الفسوق وغيره (هم الراشدون) أي المهتدون إلى طريق الحق الذين أصابوا الرشد.

ثم قال (فصلا من الله ونعمة) أي فعل الله ذلك بهم فضلا منه على خلقه ونعمة مجددة، وهو نصب على المفعول له - في قول الزجاج - (والله عليهم) بالاشياء كلها (حكيم) في جميع أفعاله.

ثم قال (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) يقتل بعضهم بعضا (فأصلحوا بينهما) حتى يصطلحا، وقرأ يعقوب (بين أخوتكم) حمله على أنه جمع (أخ) أخوة لان الطائفة جمع.

ومن قرأ على التثنية رده إلى لفظ الطائفتين، وقرأ زيد ابن ثابت وابن سيرين وعاصم الجحدري (بين اخويكم) والمعاني متقاربة.

[346]

وقوله (وإن طائفتان من المؤمنين) لا يدل على أنهما إذا اقتتلا بقيا على الايمان، ويطلق عليهما هذا الاسم، بل لا يمتنع ان يفسق احد الطائفتين او يفسقا جميعا، وجرى ذلك مجرى ان تقول: وإن طائفة من المؤمنين ارتدت عن الاسلام فاقتلوها.

ثم قال (فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ) أي فان بغت إحدى الطائفتين على الاخرى بأن تطلب ما لا يجوز لها وتقابل الاخرى ظالمة لها متعدية عليها (فقاتلوا التي تبغي) لانها هي الظالمة المتعدية دون الاخرى (حتى تفئ إلى أمر الله) أي حتى ترجع إلى أمر الله وتترك قتال الطائفة المؤمنة.

ثم قال (فان فاء‌ت) أي رجعت وتابت وأقلعت وأنابت إلى طاعة الله (فأصلحوا بينهما) يعني بينها وبين الطائفة التى كانت على الايمان ولم تخرج عنه بالقول، فلا تميلوا على واحدة منهما (وأقسطوا) أي اعدلوا (إن الله يحب المقسطين) يعني العادلين، يقال: أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار.

قال الله تعالى (وأما القاسطون فكانوا الجهنم حطبا)(1). وقيل: إن الآية نزلت في قبيلتين من الانصار وقع بينهما حرب وقتال - ذكره الطبري -. ثم اخبر تعالى (إنما المؤمنون) الذين يوحدون الله تعالى ويعملون بطاعاته ويقرون بنبوة نبيه ويعملون بما جاء به (أخوة) يلزمهم نصرة بعضهم بعضا (فأصلحوا بين أخويكم) يعني إذا رجعا جميعا إلى الحق وما أمر الله به (وأتقوا الله) أي اجتنبوا معاصيه وافعلوا طاعته واتقوه في مخالفتكم (لعلكم ترحمون) معناه لكي ترحمون لان (لعل) بمعنى الشك والشك لا يجوز على الله تعالى، قال الزجاج: سموا المؤمنين إذا كانوا متفقين في دينهم بأنهم أخوة، لا تفاقهم في الدين ورجوعهم إلى اصل النسب لانهم لآدم وحواء.

___________________________________

(1) سورة 72 الجن آية 15

[347]

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون(11) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم(12) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقيكم إن الله عليم خبير(13) قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم(14) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون(14))

خمس آيات.

[348]

قرا اهل البصرة (لا يألتكم) بالهمزة. الباقون (لا يلتكم) بلا همزة، وهما لغتان، يقال: ألت يألت إذا أنقص، ولات يليت مثل ذلك.

وفى المصحف بلا الف وقال الشاعر:

وليلة ذات ندى سريت *** ولم يلتني عن سراها ليت(1)

ومعنى الآية لا ينقصكم من أعمالكم شيئا، ومنه قوله (وما ألتناهم من عملهم من شئ)(2) أي ما نقصناهم.

وقرأ يعقوب (ميتا) بالتشديد. الباقون بالتخفيف. والتشديد الاصل، وهو مثل سيد وسيد.

يقول الله مخاطبا للمؤمنين الذين وحدوده وأخلصوا العبادة له وصدقوا نبيه وقبلوا ما دعاهم الله اليه (لا يسخر قوم من قوم) ومعناه لا يهزأ به ويتلهى منه، وقال مجاهد: لا يسخر غني من فقير لفقره بمعنى لا يهزأ به، والسخرية بالاستهزاء ولو سخر المؤمن من الكافر احتقارا له لم يكن بذلك مأثوما، فأما في صفات الله، فلا يقال إلا مجازا كقوله (فانا نسخر منكم كما تسخرون)(3) معناه إنا نجازيكم جزاء السخرية.

ثم قال (عسى أن يكونوا خيرا منهم) لانه ربما كان الفقير المهين في ظاهر الحال خيرا عند الله وأجل منزلة واكثر ثوابا من الغني الحسن الحال.

وقال الجبائي: يجوز ان يكونوا خيرا منهم في منافع الدنيا، وكثرة الانتفاع بهم.

وقوله (ولا نساء من نساء) أي ولا يسخر نساء من نساء على هذا المعنى (عسى أن يكن خيرا منهن) ويقال: هذا خير من هذا بمعنى أنفع منه في ما يقتضيه العقل، وكذلك كان نسب رسول الله صلى الله عليه واله خير من نسب غيره، ثم قال (ولا تلمزوا أنفسكم)

___________________________________

(1) تفسير الطبرى 26 / 82 وقد مر في 6 / 445.

(2) سورة 52 الطور آية 21.

(3) سورة 11 هود آية 38

[349]

فاللمز هو الرمي بالعيب لمن لا يجوز ان يؤذى بذكره، وهو المنهي عنه، فأما ذكر عيبه، فليس بلمز، وروي انه صلى الله عليه واله قال (قولوا في الفاسق ما فيه كي يحذره الناس) وقال الحسن: في صفة الحجاج أخرج الينا نباتا قصيرا قل ما عرفت فيها إلا عنه في سبيل الله ثم جعل يطبطب بشعيرات له، ويقول: يابا سعيد. ولو كان مؤمنا لما قال فيه ذلك.

وقال ابن عباس وقتادة: معناه لا يطعن بعضكم على بعض كما قال (ولا تقتلوا أنفسكم)(1) لان المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتله اخاه قاتل نفسه.

وقوله (ولا تنابزوا بالالقاب) قال ابوعبيدة: الانباز والالقاب واحد فالنبز القذف باللقب، نهاهم الله أن يلقب بعضهم بعضا.

وقال الضحاك: معناه كل اسم او صفة يكرة الانسان أن يدعى به، فلا يدع به. وإنما يدعى بأحب اسمائه اليه.

وقوله (بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) لا يدل على ان المؤمن لا يكون فاسقا لان الايمان والفسق لا يجتمعان، لان ذلك يجري مجرى ان يقال: بئس الحال الفسوق مع الشيب على ان الظاهر يقتضي ان الفسوق الذي يتعقب الايمان بئس الاسم، وذلك لا يكون إلا كفرا، وهو بئس الاسم.

ثم قال (ومن لم يتب) يعني من معاصيه ويرجع إلى طاعة الله ومات مصرا (فاولئك هم الظالمون) الذين ظلموا نفوسهم بأن فعلوا ما يستحقون به العقاب. ثم خاطبهم ايضا فقال (يا ايها الذين آمنوا) أي صدقوا بوحدانيته (اجتنبوا كثيرا من الظن) وإنما قال (كثيرا) لان في جملته ما يجب العمل عليه، ولا يجوز مخالفته.

وقوله (ان بعض الظن أثم) فالظن الذي يكون إثما

___________________________________

(1) سورة 4 النساء آية 28

[350]

إنما هو ما يفعله صاحبه وله طريق إلى العلم بدلا منه مما يعمل عليه، فهذا ظن محرم لا يجوز فعله، فأما مالا سبيل له إلى دفعه بالعلم بدلا منه، فليس باثم، فلذلك كان بعض الظن أثم، دون جميعه، والظن المحمود قد بينه الله ودل عليه في قوله (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا)(1): يلزم المؤمن أن يحسن الظن به ولا يسئ الظن في شئ يجد له تأويله جميلا، وإن كان ظاهره القبيح. ومتى فعل ذلك كان ظنه قبيحا.

وقوله (ولا تجسسوا) أي لا تتبعوا عثرات المؤمن - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال ابوعبيدة التجسس والتجسس واحد وهو التبحث يقال: رجل جاسوس، والجاسوس والناموس واحد. وقيل للمؤمن حق على المؤمن ينافي التجسس عن مساوئه. وقيل: يجب على المؤمن أن يتجنب ذكره المستور عند الناس بقبيح، لان عليهم أن يكذبوه ويردوا عليه، وإن كان صادقا عندالله، لان الله ستره عن الناس، وإنما دعى الله تعالى المؤمن إلى حسن الظن في بعضهم ببعض للالفة والتناصر على الحق، ونهوا عن سوء الظن لما في ذلك من التقاطع والتدابر.

وقوله (ولا يغتب بعضكم بعضا) فالغيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة منه. ويروى في الخبر إذا ذكرت المؤمن بما فيه مما يكرهه الله، فقد اغتبته وإذا ذكرته بما ليس فيه، فقد بهته.

وقوله (ايحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) معناه ان من دعي إلى اكل لحم أخيه فعافته نفسه، فكرهته من جهة طبعه، فانه ينبغي إذا دعي إلى عيب أخيه فعافته نفسه من جهة عقله، فينبغي أن يكرهه، لان داعي العقل أحق بأن يتبع من داعي الطبع لان داعي الطبع أعمى وداعي العقل بصير، وكلاهما

___________________________________

(1) سورة 24 النور آية 12

[351]

في صفة الناصح، وهذا من أحسن ما يدل على ما ينبغي ان يجتنب من الكلام. وفي الكلام حذف، وتقديره أيحب احدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فيقولون: لا، بل عافته نفوسنا، فقيل لكم فكرهتموه، فحذف لدلالة الكلام عليه.

وقال الحسن: معناه فكما كرهتم لحمه ميتا فأكرهوا غيبته حيا، فهذا هو تقدير الكلام.

وقوله (واتقوا الله) معطوف على هذا الفعل المقدر، ومثله (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك)(1) والمعنى ألم نشرح، قد شرحنا فحمل الثاني على معنى الاول، لانه لا يجوز ان يقول ألم وضعنا عنك.

ثم قال (واتقوا الله) باجتناب معاصيه وفعل طاعاته (ان الله تواب) أي قابل لتوبة من يتوب اليه (رحيم) بهم.

ثم قال (قالت الاعراب آمنا) قال قتادة: نزلت الآية في اعراب مخصوصين انهم قالوا (آمنا) أي صدقنا بالله وأقررنا بنبوتك يا محمد، وكانوا بخلاف ذلك في بواطنهم، فقال الله تعالى لنبيه (قل) لهم (لن تؤمنوا) على الحقيقة في الباطن (ولكن قولوا أسلمنا) أي استسلمنا خوفا من السبي والقتل - وهو قول سعيد بن جبير وابن زيد - ثم بين فقال (ولما يدخل الايمان في قلوبكم) بل أنتم كفار في الباطن.

ثم قال لهم (وإن تطيعوا الله ورسوله) وترجعوا إلى ما يأمرانكم به من طاعة الله والانتهاء عن معاصيه (لا يلتكم من أعمالكم شيئا) أي لا ينقصكم من جزاء أعمالكم شيئا (ان الله غفور رحيم) أي ساتر لذنوبهم إذا تابوا رحيم بهم في قبول توبتهم. ثم وصف المؤمن على الحقيقة فقال (إنما المؤمنون) على الحقيقة (الذين آمنوا بالله) وصدقوا وأخلصوا بتوحيده (ورسوله) أي واقروا بنبوة نبيه

___________________________________

(1) سورة 94 الانشراح آية 1 - 2

[352]

(ثم لم يرتابوا) أي لم يشكوا في شئ من أقوالهما (وجاهدوا بأموالهم وانفسهم في سبيل الله) ثم قال (اولئك هم الصادقون) في أقوالهم دون من يقول بلسانه ما ليس في قلبه.

وقوله " يا ايها الناس " خطاب للخلق كافة من ولد آدم يقول لهم " إنا خلقناكم " باجمعكم " من ذكر وانثى " يعني آدم وحوا عليهما السلام وقال مجاهد: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة بدلالة الآية " وجعلناكم شعوبا وقبائل " فالشعوب النسب الابعد، والقبائل الاقرب - في قول مجاهد وقتادة - وقيل الشعوب أعم، والقبائل اخص. وقال قوم: الشعوب الافخاذ والقبائل اكثر منهم. والشعوب جمع شعب، وهو الحي العظيم، والقبائل مأخوذ من قبائل الرأس، وقبائل الحقبة التي يضم بعضها إلى بعض، فاما الحي العظيم المستقر بنفسه فهو شعب، قال ابن احمر:

من شعب همدان او سعد العشيرة او *** خولان او مذحج جواله طربا(2)

والقبائل جمع قبيلة، وقوله " لتعارفوا " معناه جعلكم كذلك لتعارفوا، فيعرف بعضكم بعضا.

ومن قرأ بالياء مشددة، أدغم أحداهما في الاخرى، ومن خفف حذف أحداهما.

ثم قال " إن اكرمكم عندالله أتقاكم " لمعاصيه، واعملكم بطاعته قال البلخي: اختلف الناس في فضيلة النسب، فانكرها قوم، واثبتها آخرون والقول عندنا في ذلك انه ليس احد أفضل من مؤمن تقي، فان الحسب والنسب والشرف لا يغنيان في الدين شيئا، لان لهما فضلا كفضل الخز على الكرباس والكتان على البهاري وكفضل الشيخ على الشاب. فان الطبائع مبنية والاجماع واقع على بأن شيخا وشابا لو باستويا في الفضل في الدين لقدم الشيخ على الشاب

___________________________________

(1) الطبرى 26 / 80 نسبة إلى ابن عمر الباهلي وروايته (هاجرا له) بدل (جواله)

[353]

وزيد في تعظيمه وتبجيله، وكذلك الاب والابن لو استويا في الفضل في الدين لقدم الاب، وكذلك السيد وعبده. وهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء، وكذلك لو أن رجلين استويا في الدين ثم كان احدهما له قرابة برسول الله أو بالخيار الصالحين لوجب أن يقدم المتصل برسول الله وبالصالح، ويزاد إكرامه في تعظيمه وتبجيله، وكذلك إذا استويا وكان في آباء احدهما أنبياء ثلاثة وأربعة، وكان في آباء الآخر نبي واحد كان الاول مستحقا للتقديم، وكذلك لو كان لاحدهم أب نبي إلا انه من الانبياء المتقدمين، وكان ابوالآخر هو النبي الذي بعث الينا كان الثاني اعظم حقا وأحق بالتقديم، وكذلك لو كان احدهما له آباء معروفون بالفضل والاخلاق الجميلة والافعال الشريفة وبالوقار وبالنجدة والادب والعلم كانت الطبايع مبنية على تقديمه على الآخر.

فان قيل: الطبائع مبنية على تقديم ذوي المال فيجب ان يكون الغنى وكثرة المال شرفا. قلنا: كذلك هو لا ننكر هذا ولا ندفعه.

فان قيل: إذا كان لاحدهما مال لا يبذل، والآخر قليل المال يبذل قدر ما يملكه من الحقوق ويضعه في مواضعه؟ قلنا الباذل أفضل من الذي لا يبذل. وإنما تكلمنا في الرجلين إذا استويا في خصالهما وفضل أحدهما كثرة المال وكان واضعا له في موضعه باذلاله في حقوقه وكذلك لو أن رجلا كان ذا حسب وشرف في آبائه إلا انه كان فاسقا او سخيفا او وضيعا في نفسه كان الذي لا حسب له وهو عفيف نبيل افضل منه بالاوصاف التي لا تخفى. وكان حسب ذلك السخيف مما يزيده وبالا، ومعنى الحسب أنه يحسب لنفسه آباء أشرافا فضلا، وعمومة وأخوة - انتهى كلام البلخي -.

[354]

وقوله " إن الله عليم خبير " يعني بمن يعمل طاعاته ويتقي معاصيه " خبير " بذلك لا يخفى عليه شئ من ذلك. ثم وصف المؤمنين الذين تقدم ذكرهم فقال " اولئك هم الصادقون " على الحقيقة الذين يستحقون ثواب الله تعالى.

قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الارض والله بكل شئ عليم(16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هديكم للايمان إن كنتم صادقين(17) إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعملون(18))

ثلاث آيات.

قرأ ابن كثير وحده " بما يعملون " بالياء على الغيبة. الباقون بالتاء على الخطاب. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه واله " قل " لهؤلاء الكفار " أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الارض والله بكل شئ عليم " فالتعليم تعريض من لا يعلم حتى يعلم بافهام المعنى او خلق العلم له في قلبه، فعلى هذا لا يجوز ان يعلم العالم لنفسه الذي يعلم المعلومات كلها بنفسه، ولا يحتاج إلى من يعلمه ولا إلى علم يعلم به، كما انه من يكون قديما بنفسه استغنى عن موجد يوجده، وإنما يحتاج إلى التعليم من يجوز أن يعلم وألا يعلم، ومن يخفى عليه شئ دون شئ، ففي الآية دلالة على ان العالم بكل وجه لا يجوز ان يعلم.

والمعني بالآية هم الذين ذكرهم في الآية الاولى وبين أنهم منافقون لقول الله لهم " أتعلمون الله بدينكم " إنا آمنا بالله وبرسوله، وهو تعالى يعلم منكم خلاف ذلك من الكفر والنفاق، فلفظه لفظ الاستفهام والمراد به الانكار.

[355]

ثم خاطب نبيه صلى الله عليه واله فقال " يمنون عليك أن أسلموا " فالمن القطع بايصال النفع الموجب للحق، ومنه قوله " فلهم اجر غير ممنون "(1) أي غير مقطوع، ومنه قولهم: المنة تكدر الصنيعة وقيل: إذا كفرت النعمة حسنت المنة. ومن لا أحد إلا وهو محتاج اليه، فليس في منه تكدير النعمة، لان الحاجة لازمة لامتناع أن يستغنى عنه بغيره. واكثر المفسرين على ان الآية نزلت في المنافقين.

وقال الحسن: نزلت في قوم من المسلمين قالوا: أسلمنا يا رسول الله قبل ان يسلم بنو فلان، وقاتلنا معك بني فلان.

وقال الفراء: نزلت في اعراب من بني أسد قدموا على النبي صلى الله عليه واله بعيالاتهم طمعا في الصدقة، وكانوا يقولون أعطنا، فانا أتيناك بالعيال والاثقال وجاء‌تك العرب على ظهور رواحلها، فأنزل الله فيهم الآية.

ثم قال " بل الله يمن عليكم " بانواع نعمه و " بأن هداكم للايمان " وارشدكم اليه بما نصب لكم من الادلة عليه ورغبكم فيه " إن كنتم صادقين " في إيمانكم الذي تدعونه. ومتى كنتم صادقين يجب أن تعلموا ان المنة الله عليكم في إيمانكم، لا لكم على الله ورسوله.

وموضع " أن اسلموا " نصب ب‍ " يمنوا " وهو مفعول به.

وقيل: موضعه الجر، لان تقديره بأن اسلموا.

ثم قال إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما يعملون من طاعة ومعصية وإيمان وكفر في باطن او ظاهر لا يخفى عليه شئ من ذلك.

___________________________________

(1) سورة 95 التين آية 6


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1304
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20