• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : التبيان في تفسير القرآن ( الجزء العاشر) ، تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي .
                    • الموضوع : سورة الملك .

سورة الملك

67 - سورة الملك

مكية في قول ابن عباس والضحاك وعطاء وغيرهم وهي ثلاثون آية في الكوفي والبصري والمدني الاول واحد وثلاثون في المدني الاخير وقال الفراء: سورة الملك تسمى المنجبة لانها تنجي قاريها من عذاب القبر وروي إن في التوراة مثل (سورة الملك)

بسم الله الرحمن الرحيم

(تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير(1) ألذي خلق الموت والحيوة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور(2) الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور(3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير(4) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير(5))

خمس آيات.

قرأ حمزة والكسائي (من تفوت) بتشديد الواو بلا ألف. الباقون (تفاوت) على وزن تفاعل. ومعناهما واحد. وهو مثل: تصعر وتصاعر، وتعهد وتعاهد. والتفاوت إختلاف التناقض، وهو تباعد مابين الشيئين في الصحة. والتباين

[57]

امتناع كل واحد من المعنبين ان يصح مع الاخر.

يقول الله تعالى مخبرا عن عظمته وعلو شأنه (تبارك الذي بيده الملك) فمعنى تبارك بأنه الثابت الذي لم يزل ولا يزال. وأصل الصفة من الثبوت من البرك وهو ثبوت الطائر على الماء. ومنه البركة ثبوت الخير بنمائه.

وقيل: معناه تعاظم بالحق من لم يزل ولا يزال، وهو راجع إلى معنى الثابت الدائم.

وقيل: المعنى تبارك من ثبوت الاشياء به إذ لولاه لبطل كل شئ لانه لا يصح شئ سواه إلا مقدوره او مقدور مقدوره، الذي هو القدرة، لان الله تعالى هوالخالق لها.

وقيل: إن معناه تبارك لان جميع البركات منه، إلا ان هذا المعنى مضمن في الصفة غير مصرح به، وإنما المصرح به تعالى بستحقاق التعظيم.

وقوله (الذي بيده الملك) معناه الذي يجب كونه قادرا وانه السلطان العظيم الذي كل ملك له، ليس من ملك إلا داخل فيه لان الله تعالى مالك الملوك، وممكنهم منها. والملك هو إتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير.

وقوله (وهو على كل شئ قدير) معناه إن الذي بيده الملك والسلطان القادر على كل شئ يصح ان يكون مقدورا له وهو أخص من قولنا: وهو بكل شئ عليم، لانه تعالى يعلم كل مايصح أن يكون معلوما في نفسه، ولايوصف بكونه قادرا إلا على ما يصح ان يكون مقدورا له، لان مقدور القدرة لا يصح أن يكون مقدورا له، وكذلك ماتقضى وقته مما لا يبقى لا يصح ان يكون مقدورا في نفسه.

ثم وصف تعالى نفسه فقال (الذي خلق الموت والحياة) أي خلق الموت للتعبد بالصبر عليه، والحياة للتعبد بالشكر عليها. وقيل: وجه خلق الموت والحياة للابتلاء هو ما فيها من الاعتبار المؤدي إلى تثبيت قادر على الاضداد مع التحذير

[58]

في كل حال من مجيئ الموت الذي ينقطع به استدراك ما فات، ومع التسوية بين الغني والفقير والملك والسوقة في الموت بما يقتضي قاهرا للجميع قد عمهم بحسن التدبير فقد أذل الله ابن آدم بالموت ليكون أبعد من الطغيان في حال التمكين من العصيان. وفى كون الموت معنى خلاف بين الشيخين: أبي، وأبي هاشم.

وقوله (ليبلوكم) معناه ليعاملكم معاملة المختبر بالامر والنهي فيجازي كل عامل على قدر عمله، الابتلاء الاختبار.

وقال الفراء والزجاج: في الكلام اضمار وتقديره ليبلوكم فيعلم أيكم، لان حروف الاستفهام لاتشغل إلا بفعل يتعلق بالجملة على تقدير المفرد كقولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو، وتقديره وقد علمت ان احدهما في الدار (وعرفت، ونظرت) بمنزلة (علمت) في هذا، لانها توافقها في (عرفت انه في الدار) و (نظرت بقلبي انه في الدار) ومثله (سلهم أيهم بذلك زعيم)(1) أي سؤال من يطلب ان يعلم ايهم بذلك زعيم، ولو قلت اضرب ايهم ذهب لم يكن إلا نصبا، لانه بمعنى الذي.

والقديم تعالى وإن كان عالما بالاشياء قبل كونها، فانما يبتلي الخلق ويختبرهم اختبار من يطلب العلم، حتى يجازي على الفعل بحسبه، ولما كان لم يحسن الثواب والعقاب والتعظيم والا جلال إلا بعد وجود الطاعة والمعصية لم يكن بد من التكليف، والامر والنهي فاجرى عليه الاختبار مجازا.

وقوله (وهوالعزيز) في انتقامه من اعدائه والكافرين لنعمه، لايقدر أحد على مغالبته ومقاهرته، غفور لمن تاب اليه، او إن يريد التفضل باسقاط عقابه ولا يصح التكليف إلا مع الترغيب والترغيب، لان التمكين من الحسن والقبيح يقتضي ذلك، والتكليف تحميل المشقة في الامر والنهي. ثم عاد إلى صفات نفسه فقال (الذي خلق سبع سموات طباقا) أي انشأ

___________________________________

(1) سورة 68 القلم آية 40

[59]

واخترع سبع سموات واحدة فوق الاخرى (ماترى في خلق الرحمن من تفاوت) يعني من اختلاف وتناقض، وذلك يدل على ان مافيه تفاوت من الكفر والمعاصي ليس من خلق الله، لانه نفى نفيا عاما أن يكون فيما خلقه تفاوت. وتفاوت وتفوت مثل تصاغر وتصعر.

ثم نبه تعالى العاقل على صحة ما قاله من انه ليس في خلق الله تفاوت. فقال (فارجع البصر) أي فرد البصر وأدرها في خلق الله من السموات (هل ترى من فطور) أي من شقوق وصدوع يقال: فطره يفطره، فهو فاطر إذا شقه ومنه قوله (تكاد السموات يتفطرن منه)(1) أى يتصدعن.

وقال ابن عباس: معناه هل ترى من وهن، وقال قتادة: من خلل.

وقال سفيان: من شقوق.

ثم أكد ذلك بقوله (ثم ارجع البصر كرتين) أي دفعة ثانية، لان من نظر في الشئ كرة بعد أخرى بان له ما لم يكن بايناله. ثم بين انه إذا فعل ذلك وتردد بصره في خلق الله انقلب اليه بصره ورجع اليه خاسئا يعني ذليلا صاغرا - في قول ابن عباس - وذلك كذلة من طلب شيئا لم يجده وأبعد عنه (وهو حسير) قال قتادة: معناه كال معيى، فالحسير الكليل، كما يحسر البعير.

ثم أقسم الله تعالى بقوله (ولقد زينا السماء الدنيا...) لان لام (لقد) هي التي يتلقى بها القسم بأنه زين السماء أي حسنها وجملها أي السماء الدنيا بالمصابيح، يعني الكواكب وسميت النجوم مصابيح لاضاء‌تها، وكذلك الصبح.

والمصباح السراج وواحد المصابيح مصباح.

قال قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاث خصال: احدها زينة السماء. وثانيها رجوما للشياطين. وثالثها علامات يهتدى بها، فعلى هذايكون تقديره وجعلنا فيها.

___________________________________

(1) سورة 19 مريم آية 91

[60]

وقوله (واعتدنا لهم عذاب السعير) معناه إنا جعلنا الكواكب رجما للشياطين أعتدنا لهم وادخرنا لاجلهم عذاب السعير يعني النار المسعرة، فالسعير النار المسعرة المشتعلة.

وقيل: ينفصل من الكواكب شهاب بأن يكون رجوما للشياطين، فأما الكوكب نفسه، فليس يزول إلى أن يريد الله فناء‌ه، ففي هذه الايات بيان مايجب من تعظيم الله تعالى لم يزل ولا يزال، وأن له الملك الكبير، وانه على كل شئ قدير. وفيها بيان ما يجب اعتقاده من أن جميع ما خلقه الله فللا بتلاء، بما يصح معه التكليف للعمل الذي يوجب الثواب جزاء على الاحسان مع رحمة من تاب بالغفران وشدة الانتقام ممن أقام على معصيته وفيها بيان مايجب اعتقاده من أن جميع ماخلقه الله محكم لا تفاوت فيه، لانه على ما تقتضيه الحكمة في المتعة والعبرة وما يصح به الزجر من السيئة. وفيها بيان ما يجب اعتقاده مما اقتضت الحكمة فيه التلاؤم من غير فطور، ولا عدول عن الصواب من أمر السموات والافلاك والنجوم، وماخلق فيها من المصابيح زينة لها ورجوما للشياطين مع ان عاقبتهم إلى عذاب السعير.

[61]

قوله تعالى: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير(6) إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور(7) تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير(8) قالوا بلى قد جاء‌نا نذير فكذبنا وقلنا مانزل الله من شئ إن أنتم إلا في ضلال كبير(9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير(10) فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير(11))

ست آيات.

قرأ ابوجعفر والكسائي (فسحقا) بضم الحاء مثقل. الباقون بالتخفيف، وهما لغتان.

لما ذكر الله تعالى ما أعد للشياطين من عذاب السعير، ذكر عقيبه وعيد الكفار وما أعد لهم لاتصال ذلك بوعيد النار، فقال (وللذين كفروا) يعني بتوحيد الله وإخلاص عبادته وجحدوا نبوة رسله وما جاء‌وا به (عذاب جهنم) ثم قال (وبئس المصير) أي بئس المآل والمرجع. وإنما وصفه ب‍ (بئس) وهي من صفات الذم، والعقاب حسن، لما في ذلك من الضرر الذي يجب على كل عاقل أن يتقيه بغاية الجهد واستفراغ الوسع ومع هذا ليس يخفى المراد في ذلك على أحد ولا يجوز قياسا على ذلك أن يوصف به الفاعل، لانه لا يوصف به الفاعل إلا على وجه الذم، لانه لا يقال: بئس الرجل إلا لمن كان مستحقا للذم من حيث أن القادر قادر على الضدين. ووجه الحكمة في فعل العقاب مافيه من الزجر المتقدم للمكلف، ولا يمكن ان يكون مزجورا إلا به ولولاه لكان مغرى بالقبيح.

ثم قال تعالى (إذا ألقوا فيها) ومعناه إذا طرح الكفار في النار (سمعوا لها) يعني للنار (شهيقا) وصوتا فظيعا بنفس كالنزع، فاذا اشتد لهيب النار سمع لها ذلك الصوت كأنها تطلب الوقود، قال رؤبة:

حشرج في الجوف سحيلا او شهق * حتى يقال ناهق ومانهق(1)

___________________________________

(1) مرفى 6 / 67

[62]

وقال ابوالعالية: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق وقوله (وهي تفور) أي ترتفع، فالفور ارتفاع الشئ بالغليان، يقال: فارت القدر تفور فورا ومنه الفوارة لارتفاعها بالماء ارتفاع الغليان. وفار الدم فورانا، وفار الماء يفور فورا.

وقوله (تكاد تميز من الغيظ) أي تكاد النار تتفرق وتنقطع من شدتها، وسمى شدتها والتهابها غيظا لان المغتاظ هو المتقطع بما يجد من الالم الباعث على الايقاع لغيره، فحال جهنم كحال المغتاظ، فالتميز التفرق والتمييز التفريق. وقال ابن عباس (تميز) أي تفرق، وهو قول الضحاك وابن زيد.

وقوله (كلما القي فيها فوج) يعني كلما طرح في النار فوج من الكفار (سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) يعني تقول لهم الملائكة الموكلون بالنار على وجه التبكيت لهم في صيغة الاستفهام: ألم يجئكم مخوف من جهة الله يخوفكم عذاب هذه النار؟ ! فيقولون في جوابهم (بلى قد جاء نانذير) أي مخوف معلم (فكذبنا) ولم نصدقه ولم نقبل منه (وقلنا ما أنزل الله من شئ) مما تدعوننا اليه وتحذروننا منه فتقول لهم الملائكة (ان أنتم إلا في ضلال كبير) أي لستم اليوم إلا في عذاب عظيم.

(وقالوا) أيضا يعني الكفار (لوكنا نسمع) من النذر ماجاؤنا به (اونعقل) مادعونا اليه وعملنا به (ماكنا في أصحاب السعير) فقال الله تعالى (فاعترفوا بذنبهم) يعني أقر اهل النار بمعاصيهم في ذلك الوقت الذي لم ينفعهم الاعتراف. فالاعتراف هو الاقرار بالشئ عن معرفة، وذلك ان الافرار مشتق من قر الشئ يقر قرا إذا ثبت، فالمقر في المعنى مثبت له والاعتراف مأخوذ من المعرفة.

فقال الله تعالى (فسحقا لاصحاب السعير) أي بعدا لهم عن الخير وعن ثواب الله ونعمه، فكأنه قال اسحقهم الله سحقا او ألزمهم الله سحقا عن الخير فجاء المصدر على غير

[63]

لفظه، كماقال الله تعالى (والله أنبتكم من الارض نباتا)(1) وتقديره فأسحقهم الله إسحاقا لانه مأخوذ منه فأما سحقته سحقا فمعناه باعدته بالتفريق عن حال اجتماعه بما صار اليه كالغبار.

وليس لاحد أن يقول: ماوجه اعترافهم بالذنب مع ما عليهم من الفضيحة به؟ ! وذلك أنهم قد علموا انهم قد حصلوا على الفضيحة اعترفوا او لم يعترفوا وانهم سواء عليهم أجزعوا أم صبروا، فليس يدعوهم إلى أحد الامرين إلا بمثل مايدعوهم إلى الاخر في أنه لا فرج فيه، فلا يصلح أن يقال لم جزعوا إلا بمثل مايصلح أن يقال لم صبروا، وكذلك لم اعترفوا بمنزلة لم لم يعترفوا على ما بيناه، والذنب مصدر لا يثنى ولا يجمع، ومتى جمع فلا ختلاف جنسه، كما يقال غطاء الناس واغطيتهم.

قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير(12) وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور(13) ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير(14) هوالذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور(15))

أربع آيات.

لماوصف الله تعالى الكفار وما أعده لهم من أليم العقاب، ذكر المؤمنين وما أعده لهم من جزيل الثواب، فقال (إن الذين يخشون ربهم) أي يخافون عذاب ربهم باتقاء معاصيه وفعل طاعاته (بالغيب) أي على وجه الاستسرار بذلك

___________________________________

(1) سورة 17 نوح آية 17

[64]

لان الخشية متي كانت بالغيب على ماقلناه كانت بعيدة من النفاق، وخالصة لوجه الله. وخشية الله بالغيب تنفع بأن يستحق عليها الثواب، والخشية في الظاهر وترك المعاصي لايستحق بها الثواب وإنما لايستحق عليها العقاب. وإنما الخشية في الغيب أفضل لا محالة.

وقوله (لهم مغفرة وأجر كبير) أي لمن خشي الله واتقاه بالغيب ستر الله على معاصيه ولهم ثواب كبير لافناء له.

وقيل: معنى (يخشون ربهم بالغيب) أي يخافونه، وهم لايرونه.

وقيل (بالغيب) أي في سرهم وباطنهم، ومن علم ضمائر الصدور علم إسرار القائل إلى غيره.

وقال الحسن: معناه يخشون ربهم بالاخرة لانها غيب يؤمنون به، وكل من خشي ربه بالغيب خشيه بالشهادة، وليس كل من خشيه بالشهادة يخشى بالغيب.

ثم قال مهددا للعصاة (وأسروا قولكم أو اجهروا به) ومعناه إن شئتم أظهروه وإن شئتم ابطنوه فانه عالم بذلك ل‍ (انه عليم بذات الصدور) فمن علم ضمائر الصدور علم إسرار القول.

وقوله (ألا يعلم من خلق) معناه من خلق الصدور يعلم مافي الصدور ويجوز ان يكون المراد ألا يعلم من خلق الاشياء ما في الصدور. وقيل تقديره ألا يعلم سر العبد من خلقه يعني من خلق العبد، ويجوز أن يكون المراد ألا يعلم سر من خلق، وحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه. ولايجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق افعال القلوب، لانه لو أراد ذلك لقال ألا يعلم ماخلق، لانه لايعبر عما لايعقل ب‍ (من) ولا يدل ذلك على أن الواحد منا لا يخلق أفعاله من حيث أنه لا يعلم الضمائر، وإنا بينا أن المراد ألا يعلم من خلق الصدور أي خلق الاشياء والواحد منا لا يخلق ذلك فلا يجب أن يكون عالما بالضمائر.

[65]

وقوله (وهو اللطيف الخبير) معناه هو اللطيف بعباده من حيث يدبرهم بلطف التدبير، فلطيف التدبير هو الذي يدبر تدبيرا نافذا لا يخفو عن شئ يدبره به (الخبير) معناه العالم بهم وبأعمالهم.

ثم قال تعالى ممتنا على خلقه ومعددا لانواع نعمه عليهم (هوالذي جعل لكم الارض ذلولا) يعني سهلا سهلها لكم تعملون فيها ما تشتهون (فامشوا في مناكبها) قال مجاهد: مناكبها طرقها وفجاجها.

وقال ابن عباس وقتادة: مناكبها جبالها (وكلوا من رزقه) صورته صورة الامر والمراد به الاباحة والاذن، أذن الله تعالى أن يأكلوا مما خلقه لهم وجعله لهم رزقا على الوجه الذي أباحه لهم (واليه النشور) أي إلى الله المرجع يوم القيامة واليه المآل والمصير فيجازي كل واحد حسب عمله. وفي ذلك تهديد.

[66]

قوله تعالى: (ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض فاذا هي تمور(16) أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير(17) ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير(18) أوَ لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن مايمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير(19) أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور(20) أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور(21))

ست آيات.

قرأ ابن كثير (واليه النشور وأمنتم) بواو في الوصل قلبا لهمزة الاستفهام واوا لضم ما قبلها. وقرأ اهل الكوفة واهل الشام بهمزتين على أصولهم. الباقون بتحقيق الاولى وتخفيف الثانية.

يقول الله تعالى مهددا للمكلفين وزاجرا لهم عن إرتكاب معاصيه والجحد لربوبيته على لفظ الاستفهام والمراد به تفخيم الامر وتعظيم التبكيت (أأمنتم من في السماء) فالا من هو اطمينان النفس إلى السلامة من الخوف، والامن علم بسلامة النفس من الضرر يقال أمن يأمن أمنا وأمنه يؤمنه إيمانا وأمانا، والمعنى أأمن من في السماء سلطانه وامره ونهيه كما قال (وهو الله في السموات وفي الارض يعلم سركم وجهركم)(1) أي وهوالله في السموات وفي الارض معلومه، لا يخفى عليه شئ منه.

وقيل: ايضا يجوز ان يكون المراد (أأمنتم من في السماء) يعني الملك الكائن في السماء (ان يخسف بكم الارض) بأمر الله، فاذا هي تمور أي تردد، فالمور هو التردد في الذهاب والمجيئ، يقال: مار يمور مورا فهو مائر، ومثله ماج يموج موجا.

وقوله (أأمنتم من السماء أن يرسل عليكم حاصبا) فالحاصب الحجارة التي يرمى بها كالحصباء، حصبه بالحصباء يحصبه حصبا إذا رماه بها.

ويقال الذي يرمى به حاصب أي ذو حصب كأن الحجر هوالذي يحصب.

وقيل: تقديره آمنوا قبل ان يرسل عليكم حاصبا، كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء.

وقوله (فستعلمون كيف نذير) فيه تهديد أي ستعرفون كيف تخويفي

___________________________________

(1) سورة 6 الانعام آية 3

[67]

وترهيبي إن عصيتموني إذا صرتم إلى عذاب النار.

ثم قال مقسما (ولقد كذب الذين من قبلهم) أي جحد من قبل هؤلاء الكفار من الامم وحدانيتي واشركوا بي غيري في العبادة وكذبوا رسلي (فاهلكتهم) واستأصلتهم (فكيف كان نكير) أي ألم اهلكهم بضروب النقمات والمثلاث.

ثم قال منبها لهم على توحيده (اولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) أي مصطفاة فوق رؤسهم في الجو باسطات أجنحتهم (ويقبضن) أي يضربن بها. أى من الطير مايضرب بجناحيه فيدف، ومنه الصفيف والدفيف (مايمسكهن إلا الرحمن) أى ليس يمنعهن من السقوط إلى الارض إلا الرحمن الذى خلق لهم الالات التي يصفون بها ويدفون، وماخلق فيها من القدرة على ذلك، ولولا ذلك لسقطت إلى الارض.

وقيل معنى مايمسكهن إلا الرحمن بتوطئة الهواء لها، ولولا ذلك لسقطت، وفي ذلك أكبر دلالة، وأوضح عبرة بأن من سخر الهواء هذا التسخير هو على كل شئ قدير. والصف وضع الاشياء المتوالية على خط مستقيم، والقبض جمع الشئ من حال البسط. والامساك اللزوم المانع من السقوط.

وقوله (إنه بكل شئ بصير) اخبار منه تعالى انه عالم بجميع الاشياء لايخفى عليه شئ منها (بصير) بماللخلق من النفع والضر.

ثم قال (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) أى من لكم معاشر الكفار يدفع عنكم عذاب الله إذا حل بكم (إن الكافرون إلا في غرور) معناه ليس الكافرون بالله العابدون للاوثان إلا في غرور أى يتوهمون أن ذلك أنفع لهم والامر على خلاف ذلك من المكروه.

ثم قال (أم من هذا الذى يرزقكم إن أمسك) الله (رزقه) بأنت يزيله ويمنعه منكم، فينزل عليكم رزقه (بل لجوا في عتو ونفور) فاللجاج تقحم الامر

[68]

كثيرا ردا للصارف عنه، يقال لجج في الامر يلج لجاجا، وقد لاجه ملاجة ولجج فلان في الحرب فهو يلج تلجيجا. ولما كان لهؤلاء المشركين صوارف كثيرة من عبادة الاوثان وهم يتقحمون على ذلك العصيان كانوا قد لجوا في عتوهم.

والعتو الطغيان وهو الخروج إلى فاحش الفساد، يقال: عتا يعتو عتوا فهوعات وجمعه عتاة.

والنفور الخروج عن الشئ هربا من الشعور بضروره، ونقيض النفور القبول وقال الجبائي: قوله (أمن هذا الذى) إلى قوله (إن امسك رزقه) تعريف حجة عرفها الله لعباده فعرفوا وأقروا بها، ولم يردوا لها جوابا فقال الله (بل لجوا في عتو ونفور).

قوله تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم(22) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون(23) قل هو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون(24) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين(25) قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين(26))

خمس آيات.

قوله (أفمن يمشي....) مثل ضربه الله قال ابن عباس: هو مثل ضربه الله عزوجل للكافر وشبهه بمن يمشى مكبا على وجهه. والمؤمن شبهه بمن يمشي سويا على صراط مستقيم.

وقال قتادة: الكافر يحشر يوم القيامة يمشي على وجهه مكبا، والمؤمن يمشى على صراط مستقيم.

[69]

وفى الاية دلالة على وجوب النظر في الدين، لانه تعالى ضرب المثل بالناظر في ما يسلكه حتى خلص إلى الطريق المستقيم فمدحه بهذا وذم التارك للنظر مكبا على وجهه لايثق بسلامة طريقه، يقال: اكب يكب اكبابا فهو مكب في مالا يتعدى قال الاعشى:

مكبا على روقيه يحفر عرقها * على ظهر عريان الطريقة أهيما(1)

فاذا تعدى قيل: كببت فلانا على وجهه، وأكبه الله لوجهه.

ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه واله (قل) لهؤلاء الكفار إن الله تعالى (هو الذي أنشاكم) بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود واخترعكم (وجعل لكم السمع والابصار) تسمعون بالسمع المسموعات وتبصرون بالبصر المبصرات (والافئدة) يعني القلوب تعقلون فيها أي بما فيها من المعلوم تعلمون بها وتميزون بها، فهذه نعم من الله تعالى يجب عليكم أن تشكروها وتحمدوا الله عليها فانتم (قليلا ماتشكرون) أي قليلا شكركم، ويجوز أن يكون المعنى إنكم تشكرون قليلا.

ثم قال (قل) لهم يامحمد (هو) الله تعالى (الذي ذرأكم في الارض) أي خلقكم أولا وأوجدكم (واليه تحشرون) أي تبعثون اليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. ثم حكى تعالى ما كان يقوله الكفار فانهم كانوا (يقولون) مستهزئين مكذبين بأنه من عند الله (متى هذا الوعد) الذي تعدوننا به من العذاب والهلاك (إن كنتم صادقين) معاشر المؤمنين والمسلمين، فقال الله تعالى (قل) لهم يا محمد (إنما العلم عند الله) يعني علم وقت قيام الساعة على اليقين عند الله لم يطلع عليه احدا من البشر، كما قال (إن الله عنده علم الساعة)(2) (وإنما أنا نذير) لكم مخبر مخوف من عقاب الله تعالى

___________________________________

(1) ديوانه (دار بيروت) 188.

(2) سورة 31 لقمان آية 34

[70]

(مبين) مالكم فيه من الصلاح والنجاة من العقاب. والنذير هو الدال على موضع المخافة فكل من دعا إلى حق إما رغبة أو رهبة فهو نذير إلا انه صار علما في صفات الانبياء عليهم السلام.

قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدّعون(27) قل أرأيتم إن أهلكنيَ الله ومن معيَ أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم(28) قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين(29) قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين(30))

أربع آيات.

قرأ يعقوب (تدعون) خفيفة. الباقون بالتشديد.

وقرأ الكسائي (فسيعلمون من هو) بالياء على الغيبة. الباقون بالتاء على الخطاب، أي قل لهم.

لما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم استبطؤا عذاب الله واهلاكه لهم مستهزئين بذلك، فقالوا متي هذا الوعد، قال الله تعالى حاكيا عنهم إذا رأوا مايوعدون به (فلما رأوه زلفة) قال الحسن: معناه معاينة.

وقال مجاهد: يعني قريبا.

والزلفة المنزلة القريبة والاصل فيه القرب، يقال: أزدلف اليه أزدلافا إذا تقرب اليه.

ومنه (مزدلفة) لانها منزلة قريبة من مكة، وجمع زلفة زلف، قال العجاج:

ناج طواه الاين مما وجفا * طي الليالي زلفا فزلفا

[71]

سماوة الهلال حتى احقوقفا(1) وقوله (سئت وجوه الذين كفروا، أي ظهر فيها ما يفهم من الكآبة والحزن تقول: ساء يسوء سوأ، ومنه السوائي، ومنه أساء يسئ إساء‌ة، فهو مسئ إذا فعل قبيحا يؤدي إلى الغم (وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) أى ويقال لهؤلاء الكفار إذا شاهدوا العذاب (هذا الذي كنتم به تدعون) أي تطلبون به خلاف ما وعدتم به على طريق التكذيب بالوعد: كأنه قيل هذا الذي كنتم به تكذبون في إدعائكم انه باطل.

والادعاء الاخبار بما يوعد اليه القائل دون المعنى، فاذا ظهر دليله خرج من الادعاء لانه حينئذ يدعو إليه المعنى، وكذلك الاخبار بما يدعو إلى نفسه في الفعل ليس بدعوى، قال الزجاج: (تدعون) يجوز ان يكون يريد يفعلون من الدعاء، ويجوز أن يكون من الدعوى، قال الفراء: والتشديد والتخفيف واحد مثل تذكرون وتذكرون وتدخرون وتدخرون.

ثم قال للنبي صلى الله عليه واله (قل) لهم يا محمد (أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي) بان يميتنا (أورحمنا) بتأخير آجالنا ما الذى ينفعكم من ذلك في رفع العذاب الذى استحققتموه من الله فلا تعللوا في ذلك بما لايغني عنكم شيئا.

وقيل إن الكفار كانوا يتمنون موت النبي وموت أصحابه فقيل لهم (أرأيتم إن أهلكني الله) باماتتي وإماتة اصحابي فما الذى ينفعكم ذلك في النجاة من عذاب أليم.

وقل لهم (فمن) الذي (يجير الكافرين من عذاب أليم) حتى لا يعذبوا ولا يعاقبوا، فلا يمكنهم الاحالة على من يجيرهم من الله ويخلصهم من عذابه.

ثم قال (قل) لهم على وجه الانكار عليهم والتوبيخ لهم على فعلهم (هو الرحمن) يعني الله تعالى هو الذي عمت نعمه جميع الخلائق واستحق الوصف بالرحمن

___________________________________

(1) مرفي 6 / 79 و 8 / 29 و 9 / 280، 370

[72]

(آمنابه) أي صدقنا بوحدانيته (وعليه توكلنا) أى اعتمدنا عليه وفوضنا أمورنا اليه، فالتوكل الاعتماد على تفضل الله وحسن تدبيره وقل لهم (فستعلمون) معاشر الكفار (من) الذى (هو في ضلال مبين) أى بين.

ومن قرأ بالياء معناه فسيعلم الكفار ذلك.

ثم قال (قل) لهم يا محمد (أرأيتم) معاشر الكفار (إن أصبح ماؤكم غورا) أى غائرا وصف الغائر بالغور الذى هو المصدر مبالغة، يقال ماء غور، وما آن غور، ومياه غور كما يقال: هؤلاء زور فلان وضيفه، لانه مصدر - في قول الفراء وغيره - (فمن يأتيكم بماء معين) معناه من الذى يجيئكم بماء معين إذا غارت مياهكم.

قال قوم: الماء المعين الذى تراه العيون.

وقال قتادة والضحاك: هو الجارى، فالاول مفعول من العين، كمبيع من البيع، والثاني من الامعان في الجرى، ووزنه (فعيل) كأنه قال ممعن في الجرى والظهور، وقال الحسن أصله من العيون.

قال الجبائي قوله (قل أرايتم إن اصبح ماؤكم غورا) تعريف حجة الله لعباده عرفوها وأقروا بها ولم يردوا لها جوابا.

[73]


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=1321
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18