• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثالث) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة النساء من آية 97 ـ 114 من ( ص 402 ـ 450 ) .

سورة النساء من آية 97 ـ 114 من ( ص 402 ـ 450 )

[402]

الآيات

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً(97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا(98) فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفِوراً(99)

سبب النّزول

لقد أنذر رؤساء قريش قبل بدء غزوة بدر جميع الأفراد من أهالي مكّة الذين يستطيعون حمل السلاح، أنّ عليهم أن يتأهبوا لقتال المسلمين، محذرين بأن من يخالف هذا الأمر ستهدم داره وتصادر أمواله، وقد أدى هذا التهديد بنفر من الذين كانوا قد أسلموا في الظاهر، ولكنّهم كانوا قد رفضوا الهجرة لشدة حبهم لموطنهم ولأموالهم ... أدى بهؤلاء إِلى أن يرغموا على مشاركة الوثنيين في التحرك إِلى ساحة الحرب، وراودهم الشك في إِنتصار المسلمين لقلّة عددهم، فكان أن قتلوا وهم إِلى جانب المشركين.

فنزلت الآيات المذكورة وحدثت عن المصير الأسود الذي لاقاه هؤلاء بسبب إصرارهم على البقاء في موطن الشرك.

[403]

التّفسير

تعقيباً للبحوث الخاصّة بالجهاد، تشير الآيات الثلاث الأخيرة إِلى المصير الأسود الذي كان من نصيب أُولئك الذين ادعوا الإِسلام ولكنهم رفضوا أن يطبقوا خطة الإِسلام في الهجرة، فإنحرفوا إِلى مزالق رهبية، فكانت نتيجة إِنحرافهم أن أصابهم القتل وهم في صفوف المشركين.

فالقرآن الكريم يذكر كيف أنّ الملائكة لدى قبضهم لأرواح هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، يسألونهم عن حالهم في الدنيا وأنّهم لو كانوا حقاً من المسلمين، فلماذا اشتركوا في صفوف المشركين لقتال المسلمين (إِنَّ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ...) فيجيب هؤلاء بأنّهم تعرضوا في مواطنهم للضغط وأن ذلك أعجزهم عن تنفيذ الأمر الإِلهي (قالوا كنّا مستضعفين في الأرض).

لكن عذرهم هذا لم يقبل منهم، إذ يرد الملائكة عليهم قائلين: لماذا لم تتركوا موطن الشرك وتنجوا بأنفسكم من الظلم، والكبت عن طريق الهجرة إلى أرض غير أرضكم من أرض اللّه الواسعة، (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها).

وفي النهاية تشير الآية إِلى مصير هؤلاء، فتقول بأنّ الذين امتنعوا عن الهجرة لأسباب واهية أو لمصالحهم الشخصية، وقرروا البقاء في محيط ملوث وفضلوا الكبت والقمع على الهجرة فإِن مكان هؤلاء سيكون في جهنم، وإِن نهايتهم وعاقبتهم هناك ستكون سيئة لا محالة: (فأُولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً).

أمّا الآية الاُخرى من الآيات الثلاث المذكورة، فهي تستثني المستضعفين والعاجزين الحقيقيين لا المزيفين، فتقول: إنّ أُولئك الرجال والنساء والأطفال الذين لم يجدوا لأنفسهم مخرجاً للهجرة، ولم يتمكنوا من إِيجاد وسيلة للنجاة من

[404]

محيطهم الملوث، فهم مستثنون من حكم العذاب، لأنّ هؤلاء معذورون في الحقيقة، وإِنّ الله لا يكلف نفساً ما لا تطيق، (إِلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا).

والآية الأخيرة من الآيات الثلاث المذكورة تبيّن إحتمال أن يشمل الله بعفوه هؤلاء، إِذ تقول: (فأُولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً).

وقد يرد هنا سؤال وهو: لو أن هؤلاء الأشخاص كانوا في الحقيقة معذورين، فلماذا لا تعدهم الآية بعفو إلهي حتمي، بل تبين احتمال أن يشملهم هذا العفو إِذ تأتي الآية بعبارة «عسى» لتأكيد احتمالية الأمر؟

وجواب هذا السؤال هو نفس الجواب الذي ذكرناه في ذيل الآية (84) من سورة النساء والذي بيّنا من خلاله أن القصد من استخدام مثل هذه العبارات هو أن الحكم الوارد في الآية مقيد بشروط خاصّة يجب الإِلتفات إِليها، وهنا يكون الشرط هو أن يتبادر هؤلاء المستضعفون حقيقة إِلى الهجرة ـ دون تردد ـ حتى ما سنحت لهم فرصة ذلك دون أن يقصروا في هذا الأمر فعند ذلك يشملهم العفو الإِلهي.

نقاط يجب الإِلتفات إِليها:

1 ـ استقلال الرّوح

إِن الإِتيان بكلمة (توفى) في الآية الشريفة المارة الذكر بدلا من ذكر كلمة «الموت» إِنّما هو في الحقيقة إِشارة إِلى أنّ الموت ليس هو الفناء التام، بل هو حالة تتلقى فيها الملائكة روح الإِنسان، أي أن الملائكة يقبضون من الإِنسان روحه التي هي جوهر وجوده، فتؤخذ هذه الروح إِلى العالم الآخر، وإنّ الإِتيان بمثل هذه العبارة بصورة متكررة في القرآن الكريم، يعتبر من أوضح الأدلة القرآنية على قضية وجود الروح وبقائها بعد الموت، حيث سنتطرق إِلى ذلك لدى تفسير

[405]

الآية الخاصّة بالروح.

وإِن هذا هو جواب أولئك الذين يزعمون أنّ القرآن لم يشر مطلقاً إِلى قضية الروح(1).

2 ـ ملك الموت أم ملائكة الموت

لدى البحث في موارد متعددة من القرآن الكريم (أي حوالي 12 مورداً) والتي وردت فيها عبارة «توفى» وهي تتحدث عن الموت، نستنتج أن قبض الأرواح يقوم به ملائكة متعددون وليس ملكاً واحداً، وهؤلاء الملائكة هم المكلّفون بنقل أرواح بني آدم من هذه الدنيا إِلى العالم الآخر، ففي الآية المارة الذكر ورد اسم الملائكة بصيغة الجمع، وهذا هو أحد الأدلة على أن قبض الأرواح يقوم به ملائكة متعددون فنحن .

نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام قوله تعالى: (حتى إِذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ...).

وهناك من الآيات ما ينسب قبض الروح إِلى ملك الموت(2)، وهذا الملك هو كبير ملائكة قبض الروح الذي ذكر في الأحاديث باسم «عزرائيل».

ويتّضح لنا ممّا سبق جواب من يسأل عن كيفية قيام ملك واحد بقبض أرواح أناس عديدين في آن واحد وفي مناطق مختلفة.

ومع ذلك فإِننا لو افترضنا أنّ هناك ملك واحد فقط لقبض الأرواح لا العديد من الملائكة، فعند هذا الفرض لا يرد أيضاً أي معضل، والسبب هو أنّ التجرّد الوجودي لهذا الملك يقتضى أن تكون دائرة عمله ونفوذه وسيعة مترامية الأطراف بشكل خارق للعادة، لأن أي وجود مجرّد عن المادة يمكن أن تكون إِحاطته واسعة بما يخص عالم المادة ـ وقد نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّ

____________________________

1 ـ لمعرفة معنى «توفى» من الناحية اللغوية يرجى مراجعة الجزء الثاني من تفسيرنا هذا.

2 ـ سورة السجدة.

[406]

النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأل ملك الموت عن كيفية إِحاطته بما في العالم، أجابه هذا الملك: «ما الدنيا عندي كلها فيما سخرها الله لي ومكنني عليها إِلاّ كالدرهم في كف الرجل يقلبه كيف يشاء»(1).

ولكننا نرى في بعض الآيات أن قبض الروح ينسب إِلى الله عزّ وجلّ: (الله يتوفى الأنفس حين موتها)(2)، وهذا لا يتناقض مع الآيات السابقة، لأن في كثير من الحالات حين يتمّ عمل بوسيلة معينة، ينسب فعل هذا العمل تارة للوسيلة ذاتها، وأُخرى للذي أوجد وصنع هذه الوسيلة، وكلا النسبتين صحيحتان.

والطريف أنّ القرآن قد نسب فعل الكثير من أحداث العالم إِلى الملائكة الذين هم مكلفون من قبل الله سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أن لعبارة «ملائكة» أو «ملك» معاني واسعة تدور بين معنى «الموجودات المجرّدة العاقلة» إِلى معنى «الطاقات والقوى الطبيعية».

3 ـ من هو المستضعف؟

لدى البحث في الآيات القرآنية والأحاديث والروايات يستنتج أن المستضعف هو ذلك الشخص الذي يعاني من ضعف فكري أو بدني أو اقتصادي يمنعه من التعرف على الحق والباطل، أو أنه ذلك الذي يستطيع التعرف على العقيدة الصادقة الحقة، إِلاّ أنّه ولمعاناته من عجز جسماني أو مالي أو قيود يفرضها عليه المحيط الذي يعيش فيه، يعجز عن أداء واجباته التي كلّف بها بصورة كاملة، كما يعجز عن القيام بالهجرة.

وعن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أنّه قال: «ولا يقع اسم الإِستضعاف على من بلغته الحجة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه»(3).

____________________________

1 ـ تفسير البرهان، الجزء الثاني، ص 391، هامش الآية الأُولى من سورة الإِسراء.

2 ـ من سورة الزمر الآية 42.

3 ـ نور الثقلين، الجزء الأول، ص 536.

[407]

وعن الإِمام موسى بن جعفر(عليه السلام) أنه حين سئل: أي قوم يقال لهم المستضعفون؟ فأجاب(عليه السلام) كتابة: «الضعيف من لم ترفع له حجة، ولم يعرف الإِختلاف، فإِذا عرف الإِختلاف فليس بضعيف»(1).

وواضح من الروايات المذكورة أنّ المستضعف هو ذلك الذي يعاني من ضعف فكري عقائدي، إلاّ أنّ الآية موضوع البحث والآية (75) من نفس هذه السورة التي سبق وأن تحدثنا فيها تدلان على أنّ المستضعف هو ذلك الذي استضعف عملياً، فهو يعرف الحق ويميزه، ولكن الكبت الذي يعاني منه في المحيط الذي يعيش فيه لا يسمح له بالعمل بالحق الذي عرفه.

* * *

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء الأول، ص 539.

[408]

الآية

وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ في الاَْرْضِ مُرَغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً(100)

التّفسير

الهجرة حكم اسلامي بنّاء:

بعد أنّ بحثت الآيات السابقة حول الأفراد الذين يقعون فريسة الذّل والمسكنة بسبب عدم إِيفائهم بواجب الهجرة، تشرح الآية الأخيرة بشكل صريح وحاسم أهمية الهجرة في قسمين:

في القسم الأوّل: تشير هذه الآية إِلى نعم وبركات الهجرة في الحياة الدنيا، فتقول إن االذي يهاجر في سبيل الله إِلى أي نقطة من نقاط هذه الأرض الواسعة، سيجد الكثير من النقاط الآمنة الواسعة ليستقر فيها، ويعمل هناك بالحقّ ويرغم أنف المعارضين (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ...).

ويجب الإِلتفات إِلى أن عبارة «مراغم» مشتقة من المصدر «رغام» على وزن «كلام» والذي يعني التراب، والإِرغام معناه التمريغ في التراب والإِذلال

[409]

و«مراغم» صيغة لإِسم المفعول واسم مكان أيضاً.

وقد وردت في الآية هذه بمعنى اسم مكان كذلك، أي أنّها المكان الذي يمكن فيه تحقيق الحق وتطبيقه والعمل به، كما يمكن فيه إِدانة المعارضين للحق وتمريغ أنفهم بالتراب.

بعد ذلك تشير الآية في القسم الثاني منها إِلى الجانب المعنوي الأخروي للهجرة: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إِلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً)، وعلى هذا الأساس فإِن المهاجرين في كل الأحوال سينالهم نصر كبير، سواء وصلوا إِلى المكان الذي يستهدفونه ليتمتعوا فيه بحرية العمل بواجباتهم، أو لم يصلوا إِليه فيفقدوا حياتهم في هذا الطريق، وفي هذا المجال وعلى الرغم من بداهة حقيقة تلقي الصالحين أجرهم من الله سبحانه وتعالى، إِلاّ أنّ الآية موضوع البحث قد صرحت بهذا الأمر بقولها: (فقد وقع أجره على الله ....) وهذا يوضح مدى عظمة وأهمية الثواب والأجر الذي يناله المهاجرون.

الإِسلام والهجرة:

إِنّ الإِسلام ـ إِستناداً إِلى هذه الآية وآيات كثيرة أُخرى ـ يأمر المسلمين بكل صراحة بالهجرة من المحيط الذي يعانون فيه ـ لأسباب خاصّة ـ من عدم التمكن من أداء واجباتهم إِلى محيط ومنطقة آمنة، وسبب هذا الأمر واضح، لأنّ الإِسلام لا يُحدّ بمكان ولا يقيد بمحيط معين خاص، ولهذا فإِن التمسك المفرط بالمحيط ومحل التولد والعلاقات المختلفة الاُخرى لا تقف في نظر الإِسلام حائلا دون هجرة المسلمين.

ولذلك نرى إِنفصام كل هذه العلاقات في الصدر الأوّل للإِسلام ومن أجل حماية الإِسلام وتقدمه، وفي هذا المجال يقول أحد المؤرخين الغربيين: إنّ

[410]

القبيلة والعائلة هما الشجرة الوحيدة التي تنبت في الصحراء، ولن يستطيع أحد الحياة دون اللجوء إِليها، إِلاّ أنّ محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قلع هذه الشجرة التي نمت بلحم ودم عائلته، وفعل ذلك من أجل ربه وخالقه (فقد فصم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) علاقته بقريش في سبيل الإسلام)(1).

علاوة على ما ذكر فإِن من بين جميع الموجودات الحيّة، حين تتعرض حياة أي واحداً أو مجموعة منها إِلى الخطر، نراها تضطر إِلى ترك مكان تواجدها والهجرة منه إِلى مأوى وملجأ أمن آخر، والكثير من أبناء البشر الأقدمين عمدوا إِلى الهجرة من مكان ولادتهم ـ بسبب تغير الظروف الجغرافية فيه ـ إِلى نقاط أُخرى من العالم من أجل مواصلة الحياة، وليس البشر وحدهم الذين مارسوا الهجرة، بل هناك من بين الحيوانات أنواع كثيرة عرفت بالحيوانات المهاجرة، مثل الطيور التي تضطر أحياناً إِلى الدوران حول الأرض تقريباً من أجل إِيجاد مأوى تواصل فيه حياتها، وبعض هذه الطيور تهاجر من القطب الشمالي إِلى القطب الجنوبي، وأحياناً تقطع مسافة حوالي (18) ألف كيلومتر للوصول الى المكان الذي تريد العيش فيه.

وهذه الشواهد هي خير دليل على أنّ الهجرة هي إِحدى القوانين الخالدة للحياة، فهل يصح أن يكون الإِنسان أقل حظاً من الحيوان في هذا المجال؟

وحين تتعرض، حياته المعنوية، وكيانه وأهدافه المقدسة التي هي أثمن وأغلى من حياته المادية إِلى الخطر، فهل يستطيع هذا الإِنسان البقاء في مكان الخطر متشبثاً بالأرض والمولد وغير ذلك متحملا ألوان الذل والإِهانة والحرمان وسلب الحريات، والأهم من ذلك كلّه زوال أهدافه التي يعيش من أجلها؟!

أو أن عليه أن يختار قانون الطبيعة في الهجرة، ويترك ذلك المكان، ويختار مكاناً آخر يتيسر فيه المجال لنموه المادي والمعنوي؟

____________________________

1 ـ محمّد خاتم الأنبياء، الجزء الأول.

[411]

الطريف في هذا الأمر أنّ الهجرة ـ أي تلك الهجرة التي كانت لأجل حفظ النفس وحماية الشريعة الإِسلامية ـ تعتبر مبدأ ـ أو بداية ـ التاريخ الإِسلامي، وهي بذلك تعد البنية الأساسية لكل الأحداث السياسية والاعلامية والإِجتماعية للمسلمين.

فلننظر لماذا انتخبت هجرة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مبدأ ـ أو بداية ـ للتاريخ الإِسلامي؟

إِنّ هذا الموضوع جدير بالملاحظة، لأنّنا نعلم أن أي مجموعة بشرية صغرت أو كبرت، تتخذ لنفسها مبدأ أو بداية تاريخية تحسب منه تاريخها، فالمسيحيون مثلا اتّخذوا بداية تاريخهم السنة التي ولد فيها عيسى(عليه السلام)، أمّا المسلمون فمع وجود أحداث مهمة كثيرة وقعت لهم قبل الهجرة، مثل يوم ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوم البعثة المحمّدية الشريفة، وفتح مكّة، ووفاة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنهم لم يتخذوا أي واحد من الأحداث مبدأ أو بداية لتاريخهم، بل اعتبروا حادثة الهجرة وحدها بداية للتاريخ الإِسلامي.

إِنّ التاريخ يقول أنّ المسلمين بدأوا يفكرون بتعيين بداية تاريخهم الذي له أهمية عامّة وشاملة في زمن الخليفة الثاني الذي توسعت في عهده رقعة البلاد الإِسلامية ـ وأنّ المسلمين بعد البحث الكثير في هذا الأمر، اختاروا رأي علي بن أبي طالب(عليه السلام) بإِتّخاذ حادثة الهجرة النبوية الشريفة مبدأ وبداية للتاريخ الإِسلامي(1).

والحقيقة أنّ هذا الإِختيار كان هو المتعيّن، لأنّ الهجرة كانت أهم والمع حدث أو برنامج حصل للإِسلام، وكانت الهجرة مبدأ فصل جديد مهم في التاريخ الإِسلامي، فالمسلمون حين وجودهم في مكّة كانوا يمارسون تعلم شؤونهم

____________________________

1 ـ تاريخ الطبري، الجزء الثاني، ص 112، ويجب التنبيه إِلى وجود رسائل من أيّام الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، مذيلة بالتاريخ الهجري. راجع كتاب (مكاتيب الرّسول) للأحمدي.

[412]

الحياتية وفق دينهم الجديد (الاسلام) ولم تكن لديهم في هذه الحالة ـ على ما يبدو ـ أي قدرة سياسية وإجتماعية، ولكنهم بعد الهجرة شكلوا مباشرة الدولة الإسلامية التي تقدمت بسرعة فائقة ـ في كل المجالات ـ ولو أنّ المسلمين لم يذعنوا لأمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)في اختيار الهجرة وفضلوا البقاء في مكّة، لما تيسر عند ذلك للإِسلام أن يمتد خارج حدود مكّة، بل حتى كان من الممكن أن يقبر الإِسلام في مكّة ويمحى أثره.

ويتّضح لنا أنّ الهجرة لم تكن حكماً خاصاً بزمن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل أنّها تجب على المسلمين متى ما تعرضوا لظروف مشابهة لتلك الظروف التي اضطرت النّبي وأصحابه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى ترك مكّة والهجرة إِلى المدينة.

والقرآن يعتبر الهجرة في الأساس جوهراً لوجود الحرية والرفاه، وقد أشارت الآية ـ موضوع البحث ـ إِلى هذا الأمر، كما أن الآية (41) من سورة النحل تشير من جانب آخر إِلى هذه الحقيقة، إِذ تقول: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدّنيا حسنة).

وتجدر الإِشارة ـ أيضاً ـ إِلى هذه النقطة، وهي أنّ الهجرة في نظر الإِسلام لا تقتصر على الهجرة المكانية والخارجية، بل يلزم قبل ذلك أن تتحقق لدى الفرد المسلم هجرة باطنية في نفسه، يترك بها كل ما ينافي الأصالة والكرامة الإِنسانية، لكي يتيسر له بهذا السبيل إِلى الهجرة المكانية ـ إِذن فالهجرة الباطنية ضرورية قبل أن يبدأ الإِنسان المسلم هجرته الخارجية ـ وإِذا لم يكن هذا الإنسان بحاجة إِلى الهجرة الخارجية، يكون قد نال درجة المهاجرين بهجرته الباطنية.

والإساس في الهجرة هو الفرار من «الظلمات» إِلى «النور» ومن الكفر إِلى الإِيمان، ومن الخطأ والعصيان إِلى إطاعة حكم الله، لذلك نجد في الحديث ما يدل على أنّ المهاجرين الذين هاجروا بأجسامهم دون أن تتحقق الهجرة في بواطنهم وأرواحهم، ليسوا في درجة المهاجرين، وعلى عكس هؤلاء فإِنّ من تتحقق لديه

[413]

الهجرة الباطنية الروحية ولم يتمكن أو لم يحتج إِلى الهجرة الخارجية فهو في عداد المهاجرين حقاً.

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قوله: «ويقول الرجل هاجرت، ولم يهاجر، إِنّما المهاجرون الذين يهجرون السيئات ولم يأتوا بها».

وعن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من فر بدينه من أرض إِلى أرض وإِن كان شبراً من الأرض، استوجب الجنّة وكان رفيق محمّد وإِبراهيم(عليهما السلام)»(1). لأنّ هذين النّبيين هما قادة وأئمّة مهاجري العالم.

* * *

____________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء الأول، ص 541.

[414]

الآية

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الْصَّلَوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَـفِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً(101)

التّفسير

صلاة المسافر:

بعد الآيات التي تحدثت سابقاً عن الجهاد والهجرة، تتطرق الآية (101) من سورة النساء ـ التي هي موضوع بحثنا الآن ـ إِلى صلاة المسافر، فتبيّن أن لا مانع للمسلم من أن يقصر صلاته لدى السّفر إِذا خاف من خطر الكافرين الذين هم الأعداء البارزون للمسلمين، وقد عبّرت هذه الآية عن السّفر بالضرب في الأرض، لأنّ المسافر يضرب الأرض برجليه لدى السّفر(1).

ويرد هنا سؤال: وهو أن الآية هذه قد جعلت الخوف من العدو شرطاً لقصر الصّلاة، بينما نقرأ في البحوث الفقهية أنّ حكم صلاة القصر يعتبر حكماً عاماً يشمل جميع أنواع السّفر، سواء كان فيه الخوف من الأعداء أو كان سفراً آمناً لا خوف فيه، وقد وردت روايات عديدة عن طرق الشيعة والسنة في مجال صلاة

____________________________

1 ـ مفردات الراغب، مادة «ضرب».

[415]

القصر تؤيد كلّها شمولية حكم صلاة القصر لكل أنواع السّفر المباح(1).

وفي جواب هذا السؤال يجب القول: بأنّ تقييد حكم القصر في صلاة بالخوف قد يكون سببه واحداً من الموارد التالية:

أ ـ إِنّ القيد جاء بسبب وضع المسلمين في بداية العصر الإِسلامي، ويصطلح على هذا القيد بـ «القيد الغالب» أي أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمن كانت مشوبة بالخوف، وجاء في علم الأُصول أنّ القيود الغالبة لا مفهوم لها مستدلا بآية (وربائبكم اللاتي في حجوركم)(2) أي بنات نسائكم اللواتي تربونهنّ وهنّ من أزواج سابقين وهنّ حرام عليكم.

حيث نواجه في هذه الآية نفس مسألة «القيد الغالب» لأن بنات الزوجة يعتبرن محارم للزوج ـ سواء تربين في حجره أم لم يتربين لديه ـ ولكن بما أنّ أغلب النساء المطلقات اللواتي يتزوجن مرّة أُخرى هنّ نساء شابات لديهنّ أطفال صغار تتمّ تربيتهم في حجر الزوج الجديد، لذلك جاءت الآية بقيد «حجوركم».

ب ـ ويعتقد بعض المفسّرين أنّ صلاة القصر شرعت في البداية لزمن الخوف ـ كما جاء في الآية موضوع البحث ـ وإِنّ هذا الحكم قد توسع فيما بعد فشمل جميع الحالات.

ج ـ ويحتمل أيضاً أن يكون في هذا القيد جانب توكيدي، أي أن صلاة القصر لازمة للمسافر أينما كان، ولكن في حالة الخوف من العدو تكون هذه الصّلاة مؤكدة أكثر.

وعلى أي حال، فليس هناك من شك أنّ صلاة القصر للمسافر ـ مع الاخذ

____________________________

1 ـ للإِطلاع أكثر راجع الجزء الخامس من كتاب وسائل الشيعة، وكتاب سنن البيهقي، الجزء الثّالث، ص 134 وغيرهما من الكتب.

2 ـ النساء، 23.

[416]

بنظر الاعتبار الرّوايات المفسّرة لهذه الآية ـ لا تقتصر على حالة الخوف، ولهذا السبب فإِن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان في أسفاره حتى في موسم الحج (في أرض منى) يقصر صلاته.

سؤال:

وهنا يرد سؤال آخر، وهو أنّ الآية قد أتت بعبارة (ولا جناح عليكم) وليس في هذه العبارة دلالة الحتمية في الحكم، أي لا تحتم على المسافر أن يقصر صلاته، فكيف يمكن القول أنّ صلاة القصر واجب عيني للمسافر وليس واجباً تخييرياً؟

الجواب:

لقد وجّه هذان السؤالان إِلى أئمّة الإِسلام، فأشاروا لدى الإِجابة عليهما إِلى نقطتين مهمتين:

النّقطة الأُولى: هي أنّ عبارة «لا جناح»، أي لا ذنب عليكم، قد استخدمت في بعض الموارد في القرآن الكريم للدلالة على الوجوب، فمثلا في آية: (إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)(1) في حين أن جميع المسلمين يعرفون أنّ السعي بين الصفا والمروة واجب سواء في الحج أو العمرة.

وكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) والمسلمون يؤدون السعي بعنوان الواجب ... وقد نقل عن الإِمام الباقر(عليه السلام) حديث بهذا المضمون(2).

وبعبارة أُخرى فإِنّ عبارة «لا جناح» ـ في الآية موضوع البحث وكذلك في آية الحج ـ جاءت لنفي التحريم، والسبب هو أنّ بعض المسلمين في بدء الإِسلام، ولوجود أصنام على جبلي الصفا والمروة، كانوا يظنون أنّ السعي بينهما من

____________________________

1 ـ من سورة البقرة، الآية 158.

2 ـ نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 542.

[417]

عادات وتقاليد الوثنيين، في حين أنّه لم يكن كذلك، فجاءت عبارة ـ «لا جناح» في الآية المذكورة لرفع الوهم الحاصل.

وكذلك في حالة المسافر، من الممكن أن يتوهّم البعض أنّ قصر الصّلاة في السّفر قد يعتبر نوعاً من المعصية، فجاء القرآن الكريم في الآية بعبارة «لا جناح» لرفع هذا الوهم أيضاً.

والنّقطة الثّانية: هي أنّ بعض الرّوايات قد أشارت إِلى أنّ قصر الصّلاة في السّفر نوع من التسهيل الإِلهي، وتقتضي الأدب أن لا يرد هذا التسهيل ولا يتجاهل.

وفي روايات أهل السنّة نقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في موضوع قصر الصّلاة: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»(1).

كما ورد مثل هذا الحديث في مصادر الشّيعة حيث ينقل الإِمام الصّادق(عليه السلام)عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله بأن: الإِفطار في السّفر وقصر الصّلاة فيه هديتان الهيتان فمن انصرف عنهما أصبح رادّاً لهدية الله(2).

أمّا النّقطة الثّالثة: التي يجب الإِنتباه لها فهي أنّ بعض المسلمين قد تصوروا أن الآية (101) من سورة النساء تبيّن حكم صلاة الخائف (أثناء الحروب وأمثال ذلك) ويستدلون لذلك بعبارة (إِن خفتم) الواردة في الآية، ولكن جملة (إِذا ضربتم في الأرض) فيها مفهوم عام يشمل كل أنواع السّفر سواء كان من الأسفار الإِعتيادية أو كان سفراً من أجل الجهاد، والذي تناولته الآية التالية بصورة مستقلة.

إِذن فعبارة (إِن خفتم) ـ وكما أسلفنا ـ تعتبر نوعاً من القيود أو الشروط

____________________________

1 ـ جاء هذا الحديث في سنن البيهقي، الجزء الثّالث، ص 134 نقلا عن صحيح مسلم، كما ورد في كتب التفاسير والفقه أيضاً.

2 ـ وسائل الشيعة الجزء الخامس، ص 540.

[418]

الغالبة، حيث أنّ أغلب أسفار المسلمين في ذلك الزمان كانت مشوبة بالخوف والخطر ـ لذلك فلا دلالة على اقتصار الآية على الصّلاة في حالة الخوف، بالإِضافة إِلى ذلك، فإِنّ الخوف من هجوم العدو موجود أثناء الحروب وليس في محلّه أن يقال لمن في ساحة الحرب (إِن خفتم) من هجوم العدو، وهذا دليل آخر على أنّ الآية تشير إِلى جميع أنواع السّفر التي يحتمل أن يوجد فيها بعض الأخطار على المسافر.

كما يجب التنبيه إِلى أنّ شروط صلاة المسافر لم ترد في القرآن، كما لم ترد شروط وأوصاف بقية الأحكام الإِسلامية فيه أيضاً، بل أشارت إِلى ذلك السنّة الشريفة.

ومن هذه الشروط أنّ صلاة القصر لا تجب في الأسفار التي لا تبلغ المسافة فيها ثمانية فراسخ، لأنّ المسافر في تلك الأيّام كان يقطع في اليوم الواحد مسافة الثمانية فراسخ بصورة اعتيادية.

والشرط الآخر هو أنّ المسافر الذي يتّخذ من السّفر حرفة لنفسه أو جزءاً من برنامج حياته اليومية مستثنى من القصر في الصّلاة، لأنّ السّفر بالنسبة إِلى أمثال هؤلاء أمر اعتيادي، وليس أمراً استثنائياً.

كما أنّ من يسافر من أجل ارتكاب معصية، لا يكون مشمولا لحكم صلاة المسافر، أي لا يجوز له القصر في الصّلاة، والسبب هو أن حكم القصر يعتبر نوعاً من التسهيل الإِلهي، ولا يمكن أن يشمل هذا التسهيل من يسير في طريق معصية الله.

كما أنّ أي مسافر لم يصل إِلى حدّ الترخيص (أي إِلى النقطة التي لا يمكن سماع صوت أذان المدينة فيها، أو لا يمكن مشاهدة أسوار المدينة عندها) لا يمكنه أن يقصر صلاته، لأنّه في هذه الحالة لا يعد خارجاً عن حدود المدينة ولا يعتبر في عداد المسافرين.

[419]

وبالإِضافة إِلى ما ذكر هناك أحكام أُخرى ذكرتها كتب الفقه بالتفصيل، وقد ذكرت الأحاديث التي وردت في هذا الأمر كتب الحديث.

* * *

[420]

الآية

وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذىً مِّن مَّطَر أَوْكُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَـفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً(102)

سبب النّزول

نزل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع عدد من المسلمين أرض الحديبية ـ وهم في طريقهم إِلى مكّة ـ فسمعت قريش بذلك فبعثت بخالد بن الوليد على رأس زمرة من مئتي شخص لإِعتراض طريق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين الذين معه ومنعهم من الوصول إِلى مكّة، فاستقرّ خالد والذين رافقوه في الجبال القريبة من مكة.

ولما كان موعد صلاة الظهر، أذن بلال، فصلّى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين جماعة، فشاهد خالد بن الوليد صلاة المسلمين ففكر في خطّة للهجوم على المسلمين، وأخبر جماعته أن يغتنموا فرصة أداء المسلمين لصلاة العصر التي

[421]

يعتبرونها أعزّ عليهم من أعينهم، فيباغتونهم بهجوم خاطف وهم في الصّلاة ويقضون عليهم.

وفي هذه الأثناء نزلت الآية بحكم صلاة الخوف التي تصون المسلمين من كل هجوم خاطف.

وهذه الآية إِحدى معاجز القرآن الكريم حيث أخبرت عن وقوع هجوم قبل قيام العدو بتنفيذه وبذلك أفشلت خطة العدو، ويقال بأنّ خالداً أعلن إِسلامه حال مشاهدته لذلك المشهد بعينه.

التّفسير

بعد آيات الجهاد السابقة تبيّن هذه الآية للمسلمين طريقة صلاة الخوف التي تؤدى في ساحة الحرب، فتخاطب الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة: (وإِذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم ...) فإِذا سجدت جماعة وانقضت الركعة الأُولى من الصّلاة، على النّبي أن يقف في مكانه فتؤدي الجماعة ـ سريعاً ـ الركعة الثّانية وتعود إِلى ساحة القتال لمواجهة العدو.

وتأتي بعد ذلك الجماعة الثّانية التي لم تصل بعد، وتأخذ مكان الجماعة الأُولى فتصلّي مع النّبي: (فإِذا سجدوا فليكونوا من روائكم ولتأت طائفة أُخرى لم يصلّوا فليصلّوا معكم ...) وعلى الجماعة الثّانية أن لا تضع أرضاً لامة حربها، بل تحتفظ بها معها: (وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ...).

وتشير الآية إِلى أنّ أداء الصّلاة بهذا الأُسلوب من أجل أن يبقى المسلمون في مأمن من أي هجوم مباغت قد يقوم به العدو عليهم، لأنّه يتحين الفرص دائماً لتنفيذ هذا الهجوم، ويتمنى لو تخلى المسلمون وغفلوا عن أسلحتهم وأمتعتهم ليشنّ عليهم حملته الغادرة: (ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ...).

[422]

ولما كان حمل السلاح والوسائل الدفاعية الأُخرى صعباً أثناء أداء الصّلاة في بعض الأحيان مثل أن يكون بعض المسلمين يعانون من ضعف بدني أو مرضي أو جراحات تحملوها من ساحة القتال، فيشق عليهم بذلك حمل السلاح أو وسائل الدفاع الأخرى، لذلك تأمر الآية في الختام قائلة: (ولا جناح عليكم إِن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم).

وهذا مشروط بأن يحتفظ المسلمون بما يقيهم من وسائل الدفاع كالدروع، وأمثالها حتى في حالة وجود العذر كالضعف أو المرض، وذلك لحماية أنفسهم إِذا باغتهم العدو بهجومه إِلى أن تصلهم الإِمدادات حيث تقول الآية : (وخذوا حذركم ...).

وهنا عدّة ملاحظات جديرة بالإِنتباه، هي:

1 ـ واضح أنّ الهدف من وجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بين المسلمين في حال إِقامة صلاة الخوف، لا يعني أنّ هذه الصّلاة لا تقام إِلاّ بوجود النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل القصد والهدف هنا في الآية هو أن يكون للمقاتلين والمجاهدين إِمام أو قائد يتقدمهم ويؤمهم في صلاة الجماعة أثناء الحرب، ومن هذا المنطلق نرى الإِمام علي والإِمام الحسين(عليهما السلام) قد أقاما صلاة الخوف، كما أنّ العديد من قادة الجيوش الإِسلامية كحذيفة قد قاموا بهذه العبادة الإِسلامية في ساعات الضرورة(1).

2 ـ والآية تأمر المجموعة الأُولى بأن تحتفظ بسلاحها أثناء أداء صلاة الخوف، لكنها تقول للمجموعة الثّانية أن لا تلقي أرضاً بوسائلها الدفاعية كالدروع والأسلحة الأُخرى.

ومن المحتمل أن يكون الفرق بين هاتين المجموعتين هو أنّ العدو قد لا يكون على علم بعد بخطة المسلمين أثناء أداء المجموعة الأُولى لصلاتها، وفي

____________________________

1 ـ كنز العرفان، الجزء الأوّل، ص 191.

[423]

هذه الحالة يكون احتمال هجوم العدو على المسلمين ضعيفاً، أمّا بالنسبة للمجموعة الثانية ـ حين ـ ينتبه العدو لمراسم الصّلاة فيكون هجومه على المسلمين أكثر احتمالا.

3 ـ إِنّ القصد من الإِحتفاظ بالمتاع المطلوب من المسلمين في الآية ـ موضوع البحث ـ هو أن يراقب المسلمون وسائلهم الأُخرى الحربية والشخصية والغذائية والحيوانات التي جلبوها لتكون غذاء لهم، بالإِضافة إِلى الدفاع عن أنفسهم.

4 ـ من الواضح أنّ أداء الصّلاة جماعة ليست واجبة في الإِسلام، لكنّها من المستحبات المؤكدة كثيراً، وهذا الآية تعتبر أحد الأدلة الحية على التأكيد بالنسبة لأهمية مراسيم صلاة الجماعة في الإِسلام، بحيث إنّ هذه الصّلاة ـ صلاة الجماعة ـ تقام حتى في ساحة الحرب بالإِستفادة من أسلوب وطريقة صلاة الخوف، ويستدل من هذا الموضوع على أهمية الصّلاة نفسها بالإِضافة إِلى أهمية إِقامتها جماعة.

ومن الطبيعي أن يكون لصلاة الجماعة تأثير نفسي ومعنوي على المقاتلين من زاوية التنسيق في الهدف، كما أنّ لها تأثير على العدو ـ أيضاً ـ حين يرى أنّ المسلمين حتى وهم في ساحة القتال يهتمون بواجباتهم الدينية.

كيفية صلاة الخوف:

لا يبدو في الآية ـ موضوع البحث ـ التوضيح اللازم لكيفية أداء صلاة الخوف. وهذا هو أُسلوب القرآن إِذ يبيّن كليات الحكم، ويترك شرح الأحكام إِلى السنّة الشريفة.

وطريقة أداء صلاة الخوف ـ كما توضحها السنّة ـ هي أن تتحول الصّلاة الرباعية إِلى صلاة ثنائية، أي تحويل صلاة الظهر أو العصر مثلا التي هي أربع ركعات في كل منهما إِلى صلاة بركعتين، فتصلي المجموعة الأُولى ركعة واحدة

[424]

مع الإِمام، ثمّ يتوقف الإِمام بعد أداء الركعة الأُولى فتؤدي المجموعة الأُولى الركعة الثانية فرادى، ثمّ تعود إِلى جبهة القتال، فتأتي المجموعة الثانية لتأخذ مكان المجموعة الأُولى خلف الإِمام، فتؤدي الركعة الأُولى جماعة مع الإِمام وتؤدي الركعة الثّانية فرادى (وقد رودت طرق أُخرى لأداء صلاة الخوف، ولكن أشهرها الطريقة التي تحدثنا عنها هنا).

* * *

[425]

الآية

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَـماً وَقُعُوداً(1) وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـباً مَّوْقُوتاً(103)

التّفسير

أهمية فريضة الصّلاة:

بعد أن ذكرت الآية السابقة صلاة الخوف، وأكدت ضرورة إِقامتها حتى في جبهات الحرب، تحث الآية (103) المسلمين على أن لا ينسوا ذكر الله بعد أداء الصّلاة، وليذكروا الله حين قيامهم وقعودهم وأثناء نومهم على جنوبهم وليسألوه العون والنصر، والقصد من ذكر الله في حالة القيام والقعود والنوم على الجنبين، يحتمل أن يكون في فترات الإِستراحة التي تسنح للمسلمين وهم في ساحة الحرب، كما يحتمل أن تكون في الحالات المختلفة للقتال، أي أثناء وقوف المقاتل أو جلوسه أو استلقائه على أحد جنبيه وهو يقاتل بأحد أنواع الأسلحة الحربية كالقوس والسهم مثلا.

____________________________

1 ـ «قيام» تارةً يأتي بمعناه المصدري، (ويعني به حالة القيام، وتارةً يأتي للجمع أي «قائمين» ـ و«قعود» كذلك أيضاً، فيأتي بمعنى حالة القعود والجلوس، ويأتي بمعنى «قاعدين» للجمع. وفي الآية اعلاه يحتمل كلا الأمرين.

[426]

إِنّ هذه الآية تشير في الحقيقة إِلى أمر إِسلامي مهم، يدل على أنّ أداء الصّلاة في أوقات معينة ليس معناه أن ينسى الإِنسان ذكر الله في الحالات الأُخرى، فالصّلاة أمر انضباطي يحيى ويجدد روح التوجه إِلى الله لدى الفرد، فيستطيع في أوقات أُخرى غير وقت الصّلاة أن يحتفظ بذكر الله في ذهنه، سواء كان في ساحة القتال أو في مكان آخر.

وقد فسّرت هذه الآية في روايات عديدة على أنّها تبيّن كيفية أداء الصّلاة بالنسبة للمرضى، أي أنّهم إِذا استطاعوا فليؤدوا الصّلاة قياماً، وإِن لم يقدروا على ذلك فقعوداً، وإِذا عجزوا عن القعود فعلى أحد جنبيهم.

وهذا التّفسير في الحقيقة نوع من التعميم والتوسع في معنى الآية، ولو أنّها لا تخص هذا المجال(1).

وتؤكد هذه الآية أنّ حكم صلاة الخوف هم حكم استثنائي طارىء، وعلى المسلمين إِذا ارتفعت عنهم حالة الخوف أن يؤدوا صلاتهم بالطريقة المعتادة (فإِذا اطمأننتم فأقيموا الصّلاة ...).

وتوضح الآية في النهاية سرالتأكيد على الصّلاة بقولها إن الصّلاة فريضة ثابتة للمؤمنين وأنّها غير قابلة للتغيير: (... إِنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً).

إِنّ عبارة «موقوت» من ا لمصدر «وقت»، وعلى هذا الأساس فإِن الآية تبيّن أنّه حتى في ساحة الحرب يجب على المسلمين أداء هذه الفريضة الإِسلامية، لأنّ للصّلاة أوقات محددة لا يمكن تخطيها(2).

ولكن الروايات العديدة التي وردت في شرح هذه الآية تبيّن أنّ عبارة

____________________________

1 ـ للإِطلاع أكثر عن الآحاديث التي وردت في هذا المجال راجع كتاب نور الثقلين الجزء الأوّل، ص 545.

2 ـ ويؤيد كتاب كنز العرفان، في الجزء الأوّل، ص 59، هذا المعنى، كما جاء في تفسير التبيان وفي مجمع البيان أيضاً ذكر هذا الأمر.

[427]

«موقوتاً» تعني «ثابتاً» و«واجباً» ممّا لا ينافى مفهوم الآية أيضاً، والنتيجة هي أنّهما قريبين من المعنى الأوّل.

سؤال:

يقول البعض: إِنّهم لا ينكرون فلسفة واهمية الصّلاة وآثارها التربوية، ولكنهم يسألون عن ضرورة إِقامتها في أوقات محددة، ويرون أن الأحسن أن يترك الناس أحراراً لكي يؤدي كل منهم الصّلاة متى ما سنحت له الفرصة أو متى ما وجد استعداداً روحياً لأداء هذه الفريضه؟

الجواب:

إِنّ التّجربة قد أثبت أنّ القضايا التربوية لو لم تخضع لشروط وقيود معينة، فإِن العديد من الناس سيتجاهلون ويتركون هذه القضايا، وسيؤدي هذا التجاهل إِلى أن تتزلزل أركانها، لذلك فإِن القضايا التربوية يجب أن تخضع لقيود خاصّة ويخصص لأدائها أوقات محددة، وأن لا يسمح لأحد بتخطي هذه القيود أو تجاهل تلك الأوقات، خاصّة وإِنّ أداء فريضة كالصّلاة وفي وقت معين وبصورة جماعية يظهر عظمتها وهيبتها وتأثيرها القوي الذي لا يمكن لأحد نكرانه، والصّلاة في الحقيقة من أهم العوامل في تربية الإِنسان وتكوين شخصيته الإِنسانية.

* * *

[428]

الآية

وَلاَ تَهِنُوا فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(104)

سبب النّزول

قرع السّلاح بسلاح يشابهه:

روي عن ابن عباس ومفسّرين آخرين أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بعد الأحداث الأليمة لواقعة أحد ـ صعد إِلى جبل أحد وكان على الجبل أبوسفيان، فخاطب النّبي بلهجة الفاتح بقوله: «يا محمّد يوم بيوم بدر!» وعنى أبوسفيان بذلك أن إِنتصارهم في أُحد كان مقابل هزيمتهم في واقعة بدر.

فطلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من المسلمين أن يردوا عليه فوراً، ولعل النّبي أراد أن يثبت لأبي سفيان إِنّ من تربوا في ظل الرسالة الإِسلامية يتمتعون بكامل الوعي، فرد المسلمون على أبي سفيان: هيهات أن يستوي الوضع بين المؤمنين والمشركين، فشهداء المؤمنين في الجنّة وقتلى المشركين في النّار.

فأجاب أبو سفيان ـ صارخاً ومفتخراً ـ بالعبارة التالية:

«لنا العزّى ولا عزّى لكم» فردّ عليه المسلمون:

[429]

«الله مولانا ولا مولى لكم» ولما عجز أبوسفيان عن الردّ على هذا الجواب والشعار الإِسلامي الحي تخلى عن صنمه «العزى» وعرج على صنم آخر هو «هبل» متوسلا إِليه بقوله: «أُعل هبل، أُعل هبل» فردّ عليه المسلمون بجواب قوي علّمهم إِياه نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو:

«الله أعلى وأجل».

فما أعيت أبا سفيان الحيلة ولم تجده شعاراته الوثنية نفعاً قال صارخاً: «موعدنا في أرض بدر الصغرى».

عاد المسلمون من ساحة القتال مثخنين بالجراح، وحين كان يعتصرهم الألم من أحداث أُحد، نزلت الآية المذكورة أعلاه محذرة المسلمين من الغفلة عن المشركين مطالبة إِياهم بملاحقة قوى الشرك دون كلل أو ملل، وأن لا يتأثروا بحوادث مؤلمة كحادثة أُحد، فهب المسلمون وهم في تلك الحالة لملاحقة العدو، فما أن سمع المشركون بعزم المسلمين حتى أسرعوا الخطى مبتعدين عن المدينة وعادوا إِلى مكّة(1).

إِنّ سبب النّزول هذا يعلّمنا أنّ المسلمين يجب أن لا يغيب عن بالهم أنواع التكتيك الذي يستخدمه العدو، وأن يواجهو كل أسلوب حربي يتبعه العدو، سواء الأسلوب القتالي أو النفسي بأسلوب إِسلامي أقوى، وأعنف من أسلوب العدو، وأن يواجهوا منطق الأعداء بمنطق أقوى وأشد، ويقابلوا سلاحهم بسلاح أمضى، وحتى شعارات الأعداء يجب أن تقابل بشعارات إِسلامية ضاربة، وبغير ذلك فإِنّ الرياح ستجري بما يشتهيه الأعداء.

ومن هذا المنطلق، فإِنّنا نحن المسلمين ـ بدلا من أن نجلس ونذرف الدموع على ما مر ويمر علينا من أحداث مؤلمة مريرة، وما تشهده مجتمعاتنا من مفاسد رهيبة تحيط بهذه المجتمعات من كل جانب، علينا أن نبادر بصورة فعالة إِلى

____________________________

1 ـ تفسير التبيان الجزء الثّالث، ص 314، تفسير مجمع البيان، الجزء الثّالث، ص 105.

[430]

العمل، فنواجه العدوان المكتوب بكتابات تدحضه وتقمعه، ونواجه الإِعلام الضال المسموم المضلل بأسلوب إِعلامي يحبطه ويقضي على أمره، ونقابل مراكز اللهو الخليع ببناء مراكز للهو البرىء السليم لشبابنا وابنائنا، ونقرع الأفكار والأطروحات والمذاهب السياسية والإِقتصادية والإِجتماعية بالفكر الإِسلامي الجامع باسلوب عصري يفهمه الجميع.

وإِذا استطعنا أن نواجه اعداءنا بهذه الصورة فقد أفلحنا في الحفاظ على كياننا الإِسلامي، وفي أن نبرز للعالم بشكل مجتمع تقدمي أصيل.

التّفسير

أعقبت الآية ـ موضوع البحث هذه ـ الآيات السابقة التي تحدثت عن الجهاد والهجرة واستهدفت إحياء روح التضحية والفداء لدى المسلمين بقولها: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم) وهذا تأكيد على ضرورة أن لا يواجه المسلمون عدوهم اللدود باسلوب دفاعي، بل عليهم أن يقابلوا هذا العدو بروح هجومية دائماً، لأنّ هذا الأسلوب الأخير له أثر قامع للعدو ومؤكد على معنوياته.

وقد جرّب المسلمون هذا الأمر في مواجهتهم للعدو بعد واقعة أُحد التي هزموا فيها، فارغموا العدو على الفرار مع أنّه كان لم يزل يتلذذ بطعم الإِنتصار الذي أحرزه في أُحد. إِذ لما علم المشركون بقدوم المسلمين خافوا من العودة إِلى ساحة القتال، وأسرعوا مبتعدين عن المدينة.

بعد ذلك تأتي الآية باستدلال حي وواضح للحكم الذي جاءت به، فتسأل المسلمين لماذا الوهن؟ فأنتم حين يصيبكم ضرر في ساحة الجهاد فإِنّ عدوكم سيصيبه هو الآخر سهم من هذا الضرر، مع فارق هو أنّ المسلمين يأملون أن يعينهم الله ويشملهم برحمته الواسعة، بينما الكافرون لا يرجون ولا يتوقعون ذلك، حيث تقول الآية: (إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ...).

[431]

وفي الختام ـ ومن أجل إِعادة التأكيد ـ تطلب الآية من المسلمين أن لا ينسوا علم الله بجميع الأُمور، فهو يعلم معاناة المسلمين ومشاكلهم وآلامهم ومساعيهم وجهودهم، ويعلم أنّهم أحياناً يصابون بالتهاون والفتور، فتقول الآية: (وكان الله عليماً حكيماً) وسيرى المسلمون نتيجة كل الحالات تلك.

* * *

[432]

الآيتان

إِنَّآ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً(105) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً(106)

سبب النّزول

لقد نقلوا واقعة مفصلة عن سبب نزول الآيتين المذكورتين، خلاصتها أنّ في قبيلة بني الأبيرق المعروفة نسبياً كان ثلاثة أشقاء هم «بشر» و«بشير» و«مبشر» سطا أحدهم وهو «بشير» على دار أحد المسلمين ويدعى «رفاعة» فسرق سيفه ودرعه وكمية من الغذاء، وكان ابن أخيه ويدعى «قتادة» من مجاهدي بدر فأخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالواقعة.

ولكن الأشقاء الثّلاثة إتهموا شخصاً من المسلمين اسمه «لبيد» الذي كان يسكن في دار واحد معهم، فتألم لبيد ألماً شديداً من هذه التهمة الباطلة واستل سيفه وتوجه إِلى الأشقاء الثلاثة صارخاً في وجوههم قائلا: «اتتهمونني أنا بالسّرقة وانتم أجدر بهذا العمل؟ فانتم هم اُولئك المنافقون الذين كنتم تهجون النّبي وتنسبون أبيات الهجو إِلى قريش، فأمّا أن تثبتوا ما تنسبونه لي من تهمة، أو أن أهوى بسيفي على رؤسكم».

[433]

فلمّا رأى أخوة السارق ذلك حاولوا استرضاء «لبيد» ولكنّهم لمّا علموا أنّ القضية قد وصلت إِلى أسماع النّبي بواسطة «قتادة» لجؤوا إِلى أحد متكلمي قبيلتهم فطلبوا منه أن يذهب مع جمع من الناس إِلى النّبي ويتظاهر بأنّ الحق إِلى جانبهم ليبرىء السارق ويتهم «قتادة» بتلفيق التهمة على شقيقهم، وقد قبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) استناداً إِلى واجب العمل بظاهر الأُمور ـ شهادة تلك المجموعة وأنّب «قتادة» على عمله.

وقد تألم «قتادة» الذي كان يعرف نفسه بريئاً ... تألم من هذه الواقعة وعاد إِلى عمّه وأخبره بالحادث مظهراً أسفه الكبير لما حصل، فخفف عليه عمّه وقال «لا تحزن يا قتادة إِن الله في عوننا» فنزلت الآيتان المذكورتان لتعلنا براءة الرجل، وتؤنبا مرتكبي الخيانة الحقيقيين.

ونقلوا ـ أيضاً ـ واقعة أُخرى في سبب نزول الآيتين، وهي أن درعاً لأحد الأنصار كانت قد سرقت في إِحدى الحروب، وكان الشك يدور على شخص من قبيلة «الأبيرق» في سرقة ذلك الدرع، ولما علم السارق بأنّ الشكوك بدأت تدور حوله رمى بالدرع في دار أحد اليهود، وطلب من قبيلته أن يشهدوا ببراءته أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويستدلوا بذلك على وجود الدرع في دار اليهودي، ولمّا رأى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الأمر بتلك الصورة برأ هذا السارق بحسب ظاهر الشهادة التي جاءت لصالحه واُدين الرجل اليهودي بسرقة الدرع، فنزلت الآيتان المذكورتان لتوضحا الحقيقة.

التّفسير

منع الدّفاع عن الخائنين:

يعرف الله سبحانه وتعالى ـ في بداية الآية (105) من سورة النساء ـ نبيّه محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ الهدف من إِنزال الكتاب السماوي هو تحقيق مبادىء الحق

[434]

والعدالة بين الناس، إِذ تقول الآية: (إِنّا أنزلنا إِليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين الناس بما أراك الله ...).

ثمّ يحذّر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من حماية الخائنين أبدأ بقوله: (ولا تكن للخائنين خصيماً).

ومع أنّ الآية خطاب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن ممّا لا شك فيه هو أنّ هذا الحكم حكم عام لجميع القضاة والمحكمين، وبهذا الدليل فإِنّ مثل هذا الخطاب ليس المفهوم منه أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تبدر منه مثل هذه الأعمال، لأن الحكم المذكور يشمل جميع الأفراد.

أمّا الآية الأُخرى فهي تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، إِذ تقول: (واستغفر الله إِن الله كان غفوراً رحيماً).

وحول سبب الإِستغفار المطلوب في هذه الآية توجد احتمالات عديدة، هي:

الأوّل: إِنّ الإِستغفار هو لترك الأولى الذي حصل بسبب الإِستعجال في الحكم في القضية التي نزلت بسببها الآيتان، أي مع أنّ ذلك القدر من الإِعتراف، وشهادة الطرفين كان كافياً لإِصدار الحكم من قبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّه كان الأحرى أن يجري تحقيق أكثر في ذلك المجال.

والثّاني: هو أنّ النّبي قد حكم في تلك القضية وفقاً لقوانين القضاء الإِسلامي، وبما أنّ الأدلة التي جاء بها الخائنون كانت بحسب الظاهر أقوى، لذلك أعطى الحق لهم، وبعد انكشاف الحقيقة ووصول الحق إِلى صاحبه يأتي الأمر بطلب المغفرة من الله، ليس لذنب مرتكب، بل لتعرض حق فرد مسلم إِلى خطر الزوال بسبب خيانة البعض من الأشخاص (أي أن الإِستغفار بحسب الإِصطلاح ـ لأجل الحكم الحقيقي لا الحكم الظاهري).

وقد احتمل البعض أن يكون الإِستغفار مطلوباً من طرفي الدعوى اللذين

[435]

ظهر منهما الخلاف في عرض ومتابعة دعواهما.

وفي حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِنّما أنا بشر، وإِنّكم تختصمون إِليّ ولعل بعضكم يكون الحن بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإِنّما أقطع له قطعة من نار»(1).

يتبيّن لنا من هذا الحديث أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مكلّف بالحكم وفقاً لظاهر القضية واستناداً إِلى أدلة طرفي الدعوى، وبديهي أن الحق في مثل هذه الحالة يصل إِلى صاحبه، ويحتمل أحياناً أن لا ينطبق ظاهر الدليل وشهادة الشهود مع الحقيقة، فيجب الإِنتباه هنا إِلى أنّ حكم الحاكم لا يغير من الحقيقة شيئاً فلا يصبح الحق باطلا ولا الباطل حقاً.

* * *

____________________________

1 ـ تفسير المنار، الجزء الخامس، ص 394، نقلا عن صحيحي مسلم والبخاري.

[436]

الآيات

وَلاَ تُجَـدِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً(107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَيَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً(108) هَـأَنتُمْ هَـؤُلاَءِ جَـدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَـدِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا(109)

التّفسير

بعد الآيات التي جاءت بتحريم الدّفاع عن الخائنين، تستطرد الآيات الثلاث الأخيرة في التشديد على حرمة الدفاع عن الخائنين، بالأخص اُولئك الذين يخونون أنفسهم.

ويجب الإِنتباه هنا إِلى أن الآية (107) تشير إِلى الذين يخونون أنفسهم، بينما الذي عرفنا من سبب نزول الآيات السابقة، هو أنّها نزلت في شأن الذين يخونون الغير، وفي هذا إِشارة إِلى ذلك المعنى الدقيق الذي ينبه إِليه القرآن في العديد من الآيات، وهو أن أي عمل يصدر عن الإِنسان يتأثر بنتيجته ـ سواء كانت حسنة أو سيئة ـ الإِنسان ذاته قبل غيره، كما جاء في الآية (7) من سورة

[437]

الإِسراء، إِذ تقول (إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإِنْ أسأتم فلها).

أو أنّ الآية المذكورة تشير إِلى موضوع آخر أكّد عليه القرآن أيضاً، وهو أن جميع أفراد البشر هم جميعاً كأعضاء جسد واحد، فإِذا أضر أحدهم بغيره فكأنما أضرّ بنفسه، أي يكون بالضبط كالذي يصنع نفسه بنفسه.

والأمر الآخر في الآية أنّها لا تخص الذين يرتكبون الخيانة لمرّة واحدة ثمّ يندمون على ما فعلوا، حيث لا ضرورة لإِستعمال العنف والشدة مع هؤلاء، بل هم بحاجة إِلى الرأفة أكثر، والشدّة يجب أن تطبق على اُولئك الذين يحترفون الخيانة وتكون جزءاً من حياتهم.

ويدل على هذه القرينة الواردة في الآية من خلال عبارة (يختانون) التي هي فعل مضارع يدل على الإِستمرارية، بالإِضافة إِلى القرينة الأخرى التي تفهم من عبارتي (خوان) أي كثير الخيانة و(أثيم) أي كثير الذّنب، والكلمة الأخيرة جاءت لتأكيد عبارة «خوان» في الآية، كما أنّ الآية السابقة جاءت بكلمة «خائن» التي هي اسم فاعل والتي لها معنى وصفي يدل على تكرار الفعل.

لقد تعرض الخائنون في الآية الأُخرى إِلى التوبيخ، حيث قالت أن هؤلاء يستحيون أن تظهر بواطن أعمالهم وسرائرهم وتنكشف إِلى الناس، لكنهم لا يستحيون لذلك من الله سبحانه وتعالى، إِذ تقول الآية: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ...) فلا يتورع هؤلاء من تدبير الخطط الخيانية في ظلام الليل، والتحدث بما لا يرضى الله الذي يراهم ويراقب أعمالهم، أينما كانوا: (وهو معهم إِذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً).

بعد ذلك تتوجه الآية (109) من سورة النساء بالحديث عن شخص السارق الذي تمّ الدفاع عنه، وتقول بأنّه على فرض أن يتمّ الدفاع عن هؤلاء في الدنيا فمن يستطيع الدفاع عنهم يوم القيامة، أن من يقدر أن يكون لهؤلاء وكيلا ليرتب أعمالهم ويحل مشاكلهم؟! حيث تقول الآية: (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في

[438]

الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا). ولذلك فإِنّ الدفاع عن هؤلاء الخونة في الدنيا ليس له أثر إِلا القليل، لأنّهم سوف لا يجدون أبداً من يدافع عنهم أمام الله في الحياة الآخرة الخالدة.

والحقيقة هي أنّ الآيات الثلاث الأخيرة تحمل في البداية إِرشادات إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإِلى كل قاض يريد أن يحكم بالحق، بأن ينتبهوا حتى يفوتوا الفرصة على اُولئك الذين يريدون انتهاك حقوق الآخرين، عبّر وسائل مصطنعة وشهود مزورين.

بعد ذلك تحذر الآية الخائنين ومن يدافع عنهم، بأن ينتظروا عواقب سيئة لأعمالهم في هذه الدنيا وفي الآخرة أيضاً.

وفي تلك الآيات سر من أسرار البلاغة القرآنية، حيث أنّها أحاطت جميع جوانب القضية وأعطت الإِرشادات والتحذيرات اللازمة في كل مورد، مع أنّ موضوع القضية يبدو موضوعاً صغيراً بحسب الظاهر، إِذ يدور حول درع مسروقة أو مواد غذائية أو يهودي من أعداء الإِسلام.

وقد تناولت الآية ـ أيضاً ـ الإِشارة إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يعتبر إِنساناً معصوماً عن الخطأ، كما أشارت إِلى الأفراد الذين يحترفون الخيانة، أو الذين يدافعون عن الخائنين إِندفاعاً وراء عصبيات قبلية، إِشارات تتناسب ومنزلة الأشخاص المشار إِليهم في الآيات المذكورة.

* * *

[439]

الآيات

وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً(110) وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً(111) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَـناً وَإِثْماً مُّبِيناً(112)

التّفسير

لقد بيّنت هذه الآيات الثلاث، ثلاثة أحكام كلية بعد أن تطرقت الآيات السابقة إِلى مسائل خاصّة بالخيانة والتهمة.

1 ـ لقد وردت في الآية (110) من الآيات الثلاث أعلاه الإِشارة أوّلاً إِلى هذه الحقيقة وهي أن باب التوبة مفتوح أمام المسيئين على كل حال، فإِذا ارتكب أحد ظلماً بحقّ نفسه أو غيره، وندم حقيقة على فعلته، أو استغفر الله لذنبه، وكفّر عن خطيئته فيجد الله غفوراً رحيماً، حيث تقول الآية: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً).

2 ـ يجب الإِنتباه إِلى أنّ الآية الأُولى تشير إِلى نوعين من الذنوب، حيث جاءت فيها كلمة «سوء» وكلمة «الظلم» للنفس، ولدى النظر إِلى قرينة المقابلة، وكذلك الأصل اللغوي لعبارة «سوء» التي تعني هنا الإِضرار بالغير، يفهم من الآية

[440]

أنّ أي نوع من الذنوب ـ سواء كانت من نوع الإِضرار بالغير، أو الإِضرار بالنفس قابلة للغفران إِذا تاب فاعلها توبة حقيقية وسعى إِلى التكفير عنها.

ويفهم ـ أيضاً ـ من العبارة القرآنية: (يجد الله غفوراً رحيماً) إنّ التوبة الحقيقية لها من الأثر بحيث يجد الإِنسان التائب نتيجتها في باطن نفسه، فمن ناحية فإنّ تأنيب الضمير الذي يخلقه إرتكاب الذّنب يزول عن المذنب التائب نظراً للغفران الذي يناله من الله الغفور، ومن جانب آخر يحسّ الإِنسان التائب بالقرب إِلى الله بسبب رحمته سبحانه وتعالى بعد أن كان يحس بالبعد عنه بسبب الذنب الذي ارتكبه.

3 ـ إِنّ الآية الثانية من الآيات الثلاث الأخيرة، تحكي نفس الحقيقة التي وردت بصورة إِجمالية في الآيات السابقة، حيث تؤكّد أنّ أي ذنب يقترفه الإِنسان ستكون نتيجته في النهاية على المذنب نفسه، ويكون قد أضرّ بنفسه بذنبه، إِذ تقول الآية: (ومن يكسب إِثماً فإِنّما يكسبه على نفسه ...).

وفي آخر الآية تأكيد على أنّ الله عالم بأعمال العباد، وهو حكيم يجازي كل إِنسان بما يستحقه: (وكان الله عليماً حكيماً).

وبالصورة المارة الذكر فإِنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر، فإِنّ اضرارها ستلحق أحياناً بالغير وتلحق أحياناً أُخرى بمرتكبها، ولكن بالتحليل النهائي، فإِنّ الذنب تعود نتيجته كلها إِلى الإِنسان المذنب نفسه، وإِن الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شيء في روح ونفس الشخص المذنب.

4 ـ أمّا الآية الثّالثة من الآيات الإخيرة، فهي تشير إِلى خطورة خطيئة إِتهام الناس الأبرياء، إِذ تقول: (ومن يكسب خطيئة أو إِثماً ثمّ يرم به يريئاً فقد احتمل بهتاناً وإِثماً مبيناً).

وقد قسمت هذه الآية الذنب الذي يرتكبه شخص وينسبها زوراً إِلى غيره، إِلى قسمين: سمت الأوّل بالخطيئة، والثّاني بالإِثم.

[441]

وقد قال المفسّرون الكثير في شأن الفرق بين هذين النوعين من الذنب، وأقرب الأقوال إِلى الذهن هو أنّ الخطيئة مشتقة من الخطأ، والذي يعني في الأصل: الزلل أو الذنب الذي يصدر دون قصد من صاحبه، ويكون أحياناً مشمولا بالكفارة والغرامة لكن معنى الخطيئة قد توسع تدريجياً، وأخذ يشمل كل ذنب سواء المتعمد أو غير المقصود، حيث أنّ روح الإِنسان لا تحتمل الذنب ـ أكان عمداً أو عن غير عمد ـ وحين يصدر الذنب من الإِنسان إِنّما هو في الحقيقة نوع من الزلل والخطأ الذي لا يناسب مقامه كإِنسان.

والنتيجة من هذا القول أنّ الخطيئة لها معنى واسع يشمل الذنب المتعمد والذنب الصادر عن غير عمد، أمّا كلمة «إثم» فتطلق عادة على الذنوب الصادرة عن عمد، وتعني ـ في الأصل ـ ذلك الشيء الذي يمنع الإِنسان من عمل معين، ولما كانت الذنوب تحول دون وصول الخيرات إِلى الإِنسان فقد سميت «إثماً».

وتجدر الإِشارة إِلى أنّ الآية استخدمت كناية جميلة بالنسبة للتهمة، وهي أنّها جعلت الذنب في هذا المجال كالسهم، وجعلت نسبته إِلى الغير زوراً بمثابة رمي السهم صوب الهدف، وهذه إِشارة إِلى أنّه في حين أن تصويب السهم نحو إِنسان آخر قد يؤدي إِلى القضاء عليه، فإنّ رمي الإِنسان البريء بذنب لم يقترفه يكون بمثابة رمية بسهم يقضي على سمعته التي هي بمنزلة دمه.

وبديهي أنّ وزر وعاقبة هذا العمل تكونان في النهاية ـ وإِلى الأبد ـ على عاتق الشخص الذي ينسب التهمة زوراً إِلى غيره، وأن عبارة «احتمل» الواردة في الآية تعني أخذ على عاتقه إِنّما جاءت للدلالة على ثقل وبقاء هذه المسؤولية!

جريمة البهتان:

إِنّ اتهام إِنسان بريء يعتبر من أقبح الأعمال التي أدانها الإِسلام بعنف، وإِنّ الآية المذكورة أخيراً التي وردت بهذا الشأن ـ بالإِضافة إِلى الروايات الإِسلامية

[442]

العديدة التي إِلى جانبها ـ توضح رأي الإِسلام الصريح عن هذا العمل.

ينقل الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السلام) عن أحد الحكماء أنّه قال: «أن البهتان على البريء أثقل من جبال راسيات»(1) ونقل عنه(عليه السلام) قوله: «إِذا أتهم المؤمن أخاه إنماث الإِيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء» أي أن الإِيمان يذوب ويزول من قلب المؤمن بسبب إِتهامه لأخيه المؤمن، كما يذوب الملح في الماء ويزول عن النظر(2).

فالتهمة والبهتان ـ في الحقيقة ـ هما أقبح أنواع الكذب، لأنّهما بالإِضافة إِلى احتوائهما لمفاسد الكذب، فإِنّهما أيضاً يحملان أضرار الغيبة، وهما كذلك من أسوأ أنواع الظلم والجور ولهذا السبب يقول(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص: «من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيهما ما ليس فيهما أقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار حتى يخرج ممّا قاله»(3).

وحقيقة الأمر أن إِشاعة مثل هذا العمل الجبان ـ في أي محيط إِنساني كان ـ يؤدي في النهاية إِلى إِنهيار نظام العدالة الإِجتماعية، واختلاط الحق بالباطل، وتورط البريء وتبرئة المذنب، وزوال الثقة من بين الناس.

* * *

____________________________

1 ـ سفينة البحار، الجزء الأوّل، في مادة بهت.

2 ـ أصول الكافي، الجزء الثّاني، ص 269، باب التهمة وسوء الظن.

3 ـ سفينة البحار، الجزء الأوّل، ص 111.

[443]

الآية

وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَالَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً(113)

التّفسير

في هذه الآية الكريمة إِشارة أُخرى إِلى حادثة «بني الأبيرق» التي تحدثنا عنها لدى تطرقنا إِلى سبب النّزول في آيات سابقة، وهذه تؤكد أن الله قد صان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بفضله ورحمته ـ سبحانه وتعالى ـ من كيد بعض المنافقين الذين كانوا يأتمرون به(صلى الله عليه وآله وسلم) ليحرفوه عن طريق الحق والعدل، فكانت رحمة الله أقرب إِلى نبيّه فصانته من كيد المنافقين، حيث تقول الآية: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك).

لقد سعى اُولئك المنافقون ـ من خلال اتهامهم لشخص بريء وجرّ النّبي وتوريطه في هذه الحادثة ـ إِلى إِلحاق ضربة بشخصية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الإِجتماعية والمعنوية أوّلا، وتحقيق مآربهم الدنيئة بحق إِنسان مسلم بريء ثانياً، ولكنّ الله العزيز العليم كان لهم بالمرصاد، فصان نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) من تلك المؤامرة وأحبط عمل المنافقين.

[444]

ويذكر بعض المفسّرين سبباً آخر لنزول هذه الآية وهو أنّ جماعة من قبيلة «بني ثقيف» وردوا على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا له أنّهم مستعدون لمبايعته بشرطين: الأوّل هو أن يرغم أفراد هذه القبيلة على كسر أصنامهم بأيديهم، والثّاني أن يسمح النّبي لهم بأن يواصلوا عبادة صنمهم (العزى) لسنة واحدة أُخرى! فنزل أمر الله على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يبدي أية مرونة أمام هؤلاء، حيث نزلت الآية المذكورة واعلنت بأن فضل الله ورحمته قد شملت النّبي وصانته من تلك الوساوس.

بعد ذلك تذكر الآية أن هؤلاء القوم إِنّما يرمون بأنفسهم في الضلالة ولا يضرّون بعملهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شيئاً، إِذ تقول ... (وما يضلّون إِلاّ أنفسهم وما يضرونك من شيء ...).

وأخيراً توضح الآية سبب عصمة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخطأ والزلل والذنب، فتذكر أنّ الله أنزل على نبيّه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم من قبل: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ...) ثمّ تردف الآية ذلك بجملة: (وكان فضل الله عليك عظيماً).

مصدر عصمة الأنبياء!:

إِنّ هذه الآية الأخيرة من الآيات التي تشير إِلى عصمة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ارتكاب الخطأ والسهو والذنب، فتقول بأنّ العون الإِلهي الذي شمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)هو الذي صانه من الخطأ والضلالة التي كان يريد المنافقون أن يوقعوه فيهما، ولكنّهم وبفضل هذه المعونة الإِلهية عجزوا عن تحقيق مآربهم، ولم يلحق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أي ضرر نتيجة كيد المنافقين.

وهكذا فقد عصم الله نبيّه وصانه من كل خطأ أو سهو أو ذنب، كي يستطيع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصبح قدوة وأسوة للاُمّة الإِسلامية ونبراساً لها في فعل الخيرات

[445]

والحسنات، وقد صانه الله العزيز القدير من عواقب كل خطأ يحتمل أن يقع فيه أي زعيم، لكي يبعد الأُمّة الإِسلامية عن الحيرة في قضية إِطاعة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وليجنبها التناقض بين فعلي الطاعة وعدمها، نعم لقد عصم الله نبيّه محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)من كل خطأ، لكي يضمن له ثقة المسلمين الكاملة به، حيث تعتبر هذه الثقة من أولويات شروط الزعامة الإِلهية.

وقد ورد في آخر الآية دليل من الأدلة الأساسية لقضية العصمة بشكل مجمل، وهذا الدليل هو قوله تعالى أنّه علم نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) من العلوم والمعارف التي يكون النّبي في ظلها مصوناً من الوقوع في أي خطأ أو زلل، ولأنّ العلم والمعرفة تكون نتيجتهما في المرحلة النهائية حفظ الإِنسان من ارتكاب الخطأ.

فالطبيب ـ مثلا ـ لا يقدم أبداً على شرب ماء ملوث بأنواع الجراثيم الفتاكة، بعد أن أجرى عليه الفحوصات المختبرية واكتشف تلوثه بتلك الجراثيم الخطيرة.

نستنتج من هذا المثل أنّ علم الطب الذي تعلمه هذا الطبيب، هو السبب في حفظه ومنعه من شرب الماء الملوث بالجراثيم القاتلة، فقد وفّر هذا العلم العصمة والمصونة للطبيب حيال ارتكاب مثل هذا الخطأ، لكن الإِنسان الذي يجهل خطورة ذلك الماء يحتمل كثيراً أن يقدم على شربه.

وهكذا يتبيّن أنّ مصدر الكثير من الأخطاء هو الجهل بمقدمات العمل أو مستلزماته أو عواقبه، لذلك فإِنّ من يحاط عن طريق الوحي الإِلهي إحاطة كاملة بالقضايا المختلفة ومقدماتها ومستلزماتها وعواقبها لن يقع في خطأ، ولن يرتكب أي زلل أبداً، ولن يضل الطريق، ولن يمارس ذنباً مطلقاً.

ويجب أن لا نقع في الوهم هنا، فإِنّ هذا العلم الذي بحوزة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من جانب الله سبحانه وتعالى ليس عملا مفروضاً ولا يحمل طابع القسر والإِجبار، أي أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مجبوراً أبداً على أن يعمل بعلمه، بل أنّه يمارس عمله بكامل اختياره، فكما أنّ الطبيب الذي ذكرناه في مثلنا السابق مع علمه بحالة

[446]

الماء الملوث فإِنّه ليس مرغماً على عدم شرب هذا الماء، بل هو بإرادته المطلقه يمتنع عن شربه.

وإِذا تساءل أحد: لماذا شمل الله نبيّه وحده بهذا الفضل الإِلهي، ولم يشمل الآخرين؟

كان الجواب: إنّ ذلك قد حدث للمسؤولية العظيمة والخطيرة التي تتضمنها القيادة التي أُنيطت بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحمل اعباءها الثقيلة على عاتقه، ولأن الآخرين لا يحملون مثل هذه الأعباء الثقيلة، لذلك فإِن الله اللطيف الخبير يهب لعبده من القدرة والطاقة بمقدار ما يضع على عاتق هذا العبد من مسؤوليات، ولن يكلف الله نفساً إِلاّ وسعها فيجب التعمق في هذا الأمر.

* * *

[447]

الآية

لاَّ خَيْرَ فِى كَثِير مِّن نَّجْوَهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة أَوْ مَعْرُوف أَوْ إِصْلَـح بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(114)

التّفسير

النجوى أو الهمس:

لقد أشارت الآيات السابقة إِلى اجتماعات سرية شيطانية كان يعقدها بعض المنافقين أو أشباههم، وقد تطرقت الآية الأخيرة إِلى هذا الأمر بشيء من التفصيل، وكلمة «النجوى» لا تعني الهمس فقط، بل تطلق على كل اجتماع سري أيضاً، لأنّها مشتقة من المادة «نجوه» على وزن «دفعه» أي بمعنى الأرض المرتفعة، وبما أنّ الأرض المرتفعة تكون شبه معزولة عن الأراضي التي حولها، وأن الجلسات السرية والهمس يتمّان بمعزل عن الأفراد الذين يكونون في الأراضي المحيطة بها سمّيت هذه الأخيرة بالنجوى.

ويرى بعضهم أنّ كلمة «النجوى» مشتقة من مادة «النجاة» أي التحرر، وبمعنى أن البقعة المرتفعة تكون بمنأى ومنجى عن خطر السيل، وإن الإِجتماع السري أو الهمس يكونان بمنجى من معرفة الآخرين.

[448]

والآية هنا تذكر أنّ أغلب الإِجتماعات السرّية التي يعقدها اُولئك تهدف إِلى غايات شيطانية شريرة لا خير فيها ولا فائدة، إِذ تقول: (لا خير في كثير من نجواهم).

ولكي لا يحصل وهم من أن كل نجوى أو همس أو اجتماع سري يعتبر عملا مذموماً أو حراماً جاءت الآية بأمثال كمقدمة لبيان قانون كلي، وأوضحت الموارد التي تجوز فيها النجوى، مثل أن يوصي الإِنسان بصدقة أو بمعونة للآخرين أو بالقيام بعمل صالح أو أن يصلح بين الناس، فتقول الآية في هذا المجال: (إِلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إِصلاح بين الناس).

فإِذا كان هذا النوع من النجوى أو الهمس أو الإِجتماعات السرّية لا يشوبه الرياء والتظاهر، بل كان مخصصاً لنيل مرضاة الله، فإِنّ الله سيخصص لمثل هذه الأعمال ثواباً وأجراً عظيماً، حيث تقول الآية: (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً).

وقد عرف القرآن النجوى والهمس والإِجتماعات السرّية ـ من حيث المبدأ ـ بأنّها من الأعمال الشّيطانية، في قوله تعالى: (إِنّما النجوى من الشيطان ...)(1)والسبب هو أنّ هذه الأعمال غالباً ما تحدث لأغراض سيئة، وحيث أنّ عمل الخير والشيء النافع والإِيجابي لا يحتاج في العادة إِلى أن يكون ـ أو يبقى ـ سرّياً أو مكتوماً عن الناس، ولذلك فلا حاجة بالتحدث عن مثل هذه الأعمال بالهمس والنجوى، أو في اجتماعات سرّية.

ولمّا كان من المحتمل أن تطرأ ظروف استثنائية تجبر الإِنسان على الإِستفادة من أسلوب النجوى في أعمال الخير، لذلك ورد الإِستثناء بصورة مكررة في القرآن، كما في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إِذا تناجينم فلا

____________________________

1 ـ المجادلة، 10.

[449]

تتناجوا بالإِثم والعدوان ومعصية الرّسول وتناجوا بالبرّ والتقوى...)(1).

والنجوى إِذا حصلت إبتدأ في جمع من الناس، أثارت لديهم سوء الظّن حيالها، حتى أنّ سوء الظن قد يبدر من الأصدقاء حيال النجوى التي تحصل بينهم، وعلى هذا الأساس فإِنّ الأفضل أن لا يبادر الإِنسان إِلى النجوى إِلاّ إِذا اقتضت الضرورة ذلك، وهذه هي فلسفة هذا الحكم الوارد في القرآن.

وبديهي أنّ سمعة الإِنسان تستلزم ـ أحياناً ـ اتباع أُسلوب النجوى، ومن جملة هذه الموارد تأتي مسألة الصدقات أو المعونات المالية، التي أجاز القرآن استخدام النجوى بشأنها لحفظ ماء الوجه وسمعة الأشخاص الذين يتلقون هذه المعونات.

والمجال الآخر للنجوى هو عند الأمر بالمعروف، حيث أنّ هذا الأمر لو تمّ أحياناً بصورة علنية لأصبح سبباً في فضيحة أو خجل الشخص المخاطب بالمعروف بين الناس الحاضرين، وقد يصبح سبباً في أن يمتنع عن قبول ذلك ويقاوم هذا الأمر الذي عبّرت عنه الآية بالمعروف.

والحالة الأُخرى التي يجوز فيها النجوى هي في مجال الإِصلاح بين الناس، الذي يقتضي أن يكون سرياً أحياناً لضمان تحقيقه، إِذ من الممكن لو أنّ الأمر تمّ بصورة علنية لحال دون حدوث الإِصلاح، لذلك يجب أن يتمّ الإِصلاح بالتحدث إِلى كل طرف من أطراف النزاع بصورة خفية، أي بطريق النجوى.

إِذن فالنجوى جائزة وقد تكون ضرورية في الحالات الثلاث التي مر الحديث عنها، وكذلك في حالات مشابهة.

والملفت للنظر في الحالات الثلاث المذكورة أعلاه هو أنّها تأتي كلها ضمن معنى «الصدقة» وذلك لأنّ من يأمر بالمعروف إِنّما يدفع زكاة علمه، ومن يسعى في إِصلاح ذات البين يدفع بذلك زكاة قدرته ومنزلته المؤثرة في الناس.

____________________________

1 ـ المجادلة، 9.

[450]

وقد نقل عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(عليه السلام) قوله: «إِنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم»(1).

ونقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله لأبي أيوب: «ألا أدلك على صدقة يحبّها الله ورسوله تصلح بين الناس إِذا تفاسدوا وتقرب بينهم إِذا تباعدوا»(2).

* * *

____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، الجزء الأوّل، ص 550، وفي كتب أُخرى للتفسير.

2 ـ تفسير القرطبي، الجزء الثّالث ص 1955 في شرح الآية.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=721
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28