• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الانفال من آية 48 ـ آخر السورة من ( ص 452 ـ 514 ) .

سورة الانفال من آية 48 ـ آخر السورة من ( ص 452 ـ 514 )

[452]

الآيات

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـنُ أَعْمَـلَهُمْ وَقَالَ لاَغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّى جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكُمْ إِنِّى أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَـفِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الِّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَـئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـرَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ(51)

التّفسير

المشركون والمنافقون ووساوس الشّيطان:

مرّة أُخرى نلاحظ في هذه الآيات تجسيد جانب آخر من معركة بدر بما يتناسب والآيات السابقة في هذا الشأن، أو بما يتناسب والآية الأخيرة التي

[453]

تكلمت عن أعمال المشركين الشيطانيّة في يوم بدر.

فكما أنّ دعاة الحق مؤيدون بالله وملائكة في نهجهم الذي سلكوه، فإنّ أتباع الباطل والضالين متأثرون بوساوس الشياطين وإغواءاتهم.

وقد مرّ في بعض الآيات السابقة كيف أن الملائكة دافعت عن المقاتلين المسلمين في بدر (ومرّ تفسير ذلك). فإنّ أوّل آية من الآيات محل البحث تتكلم عن دفاع الشياطين عن المشركين، فتبدأ بالقول: (وإذ زيّن لهم الشّيطان أعمالهم).

إنّ تزيين الشيطان للعمل يكون عن طريق تحريك الأهواء والشهوات والرّذائل، فيتزين للإنسان عمله حتى ينظر إليه باعجاب ويعده عملا عقلائياً من جميع الجهات، ويراه منطقياً نبيلا.

ثمّ تقول الآية: (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم).

ولن آلوَ جهداً في الدفاع عنكم، كما يدافع الجار عن جاره ويظهر له وفاءه وإخلاصه، وأُلازمكم ملازمة الظل للشاخص.

كما ويحتمل في تفسير الجار هنا أنّه ليس المراد من الجار جار الدّار، بل هو من يؤوي غيره ويؤمنه ويلجأ إليه، لأنّ من عادة العرب وخاصّة القبائل أو الطوائف القويّة منها أن تضمّن من يلجأ اليها من اصدقائها وأصحابها وتؤمنهم وتدافع عنهم بكل ما أُوتيت من قوّة.

فالشيطان يمنح أصحابه المشركين الأمان وورقة اللجوء إليه.

ثمّ تقول الآية: (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إِنّي بريء منكم).

واستدل على نكوصه وتراجعه القهقهري بدليلين هما:

أوّلا قوله: (إنّي أرى ما لا ترون).

فإنّه يرى آثار النصر جيداً في وجوه المسلمين الغاضبة ويشاهد عليها سمات اللطف الإِلهي والإِمداد الغيبي وتأييد الملائكة لهم، فمن الطبيعي أن يتراجع عندما يرى كل ذلك الدعم الرّباني والقوى الغيبية.

[454]

والثّاني قوله: (إنّي أخاف الله).

فإنّ الجزاء الإِلهي ليس أمراً يسيراً يمكنه أن يقف بوجهه، بل إنّه هو العذاب الأليم (والله شديد العقاب).

هل جاء الشيطان عن طريق الوسوسة أو ظهر متجسداً لهم؟

جرى الكلام بين المفسّرين حول مسألة نفوذ الشيطان إِلى قلوب المشركين، وقوله لهم في ساحة معركة بدر، وكيفية حصول ذلك، وتتلخص جميع الآراء القديمة والحديثة في عقيدتين:

1 ـ يعتقد بعضهم أنّ هذا الأمر حصل على صورة وساوس باطنية، فقد زين لهم بوساوس أعمالهم في عيونهم وصوّر لهم أنّهم يملكون قوّة لا تقهر، وأغراهم وصوّر لهم أنّه هو ملجؤهم، إلاّ أنّهم بعد قتالهم الشديد للمسلمين، والحوادث الإِعجازية التي حققت النصر للمسلمين ومحت الوساوس عن قلوبهم، أحسوا بالإِنكسار وأنّه لا ملجأ لهم أبداً سوى ما ينتظرهم من الجزاء الإِلهي والعذاب الشديد.

2 ـ ويرى بعضهم الآخر أنّ الشيطان تجسد لهم في صورة الإِنسان، ففي رواية أوردتها كتب الحديث كثيراً: إنّ قريشاً عندما قررت التحرك والمسير نحو بدر، كانت تخشى الهجوم من طائفة بني كنانة لتشاجر كان بينها وبينهم، وعند ذاك جاءهم إبليس في صورة «سراقة بن مالك» الذي كان من رؤوس بني كنانة وطمأنهم بأنّهم يوافقونهم على هذا الأمر، وأنّهم سينتصرون، لكنّه تراجع لما رأى نزول الملائكة، ولاذ بالفرار وانهزم الجيش عندما رأى ضربات المسلمين الشديدة وانهزام إبليس.

وقالت قريش بعد عودتها لمكّة: إنّ سراقة السبب في انهزام الجيش، فوصل الخبر إِلى سراقة فأقسم أنّه لا علم له بذلك، وعندما قصّ عليه بعضهم ما كان منه

[455]

في يوم بدر أنكر كل ذلك وأقسم أنّه لم يخرج من مكّة ولم يحصل من تلك الأُمور شيء أبداً، فُعلم أنّ ذلك لم يكن سراقة بن مالك(1).

ودليل الطائفة الأُولى أنّ إبليس لا يستطيع أن يتمثل في سورة إنسان.

بينما ترى الطائفة الثّانية عدم وجود دليل على استحالة هذا الأمر أبداً، وخاصّة أنّه نقل ما يشبه هذه القصّة في هجرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مجي، رجل كبير على هيئة شيخ نجدي إِلى دار الندوة، وإضافة إِلى أن سياق الآية وظاهر المحادثة يتلاءم مع تجسيد الشيطان.

وعلى أية حال، فإنّ الآية تدل على أنّ الناس إذا ساروا في نهج الحق أو الباطل في الأُمور والقضايا الجماعية، فإنّ سلسلة من الإِمدادات والقوى الغيبية أو القوى الشيطانية ستتحرك معهم، وهي تظهر في مختلف الصور، فعلى السائرين في سبيل الحق ومنهاج الله الحذر من هذا الأمر.

وتشير الآية بعدها إِلى روحيّة جماعة ممن يميلون إِلى الشرك في ساحة بدر، فتقول: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم). حين تصوروا أنّهم سينتصرون مع قلّة العدد والعدّة، أو أنّهم سينالون الشهادة والحياة الابدية في هذا المسار.

لكن هؤلاء لعدم إيمانهم وعدم معرفتهم بالإِمداد الإِلهي أنكروا تلك الحقائق البينة، لأنّه كما تقول الآية المباركة: (ومن يتوكل على الله فإنَّ الله عزيز حكيم).

وقد اختلف المفسّرون في المراد من (المنافقين) و(الذين في قلوبهم مرض)ولا يُستبعد أن تكون العبارتان تشيران إِلى المنافقين في المدينة، لأنّ القرآن الكريم عندما يتعرض لموضوع المنافقين في أوّل سورة البقرة يقول: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)(2).

_____________________________

1 ـ نقل باختصار عن مجمع البيان ونور الثقلين، وسائر التفاسير، ذيل الآية.

2 ـ البقرة، 10.

[456]

فهؤلاء الذين ذكرتهم الآية ـ محل البحث ـ إمّا أنّهم من المنافقين الذين التحقوا بصفوف المسلمين من المدينة، وكانوا يظهرون الإِسلام والإِيمان ولم يكونوا في حقيقتهم كذلك، أو أنّهم من الذين تظاهروا بالإِيمان في مكّة لكنّهم لم يهاجروا إِلى المدينة وانضموا في معركة بدر إِلى صفوف المشركين، فلمّا رأوا قلّة المسلمين في معركة بدر قبال جيوش الكافرين قالوا: إنّ هؤلاء أصابهم الغرور في دينهم الجديد وجاءوا إِلى هذه الساحة.

وعلى أية حال فإنّ الله سبحانه يخبر عن نيّات هؤلاء الباطنية، ويوضح الخطأ في تفكير هؤلاء وأمثالهم.

وتجّسد الآية بعدها كيفية موت الكفار ونهاية حياتهم، فتتوجه بالخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق).

ومع أنّ الفعل «ترى» فعل مضارع، لكنّه مع وجود «لو» يدل على الماضي، فتكون الآية إشارة إِلى حالة المشركين السابقة وموتهم الأليم، ولهذا السبب يعتقد بعض المفسّرين أن ذلك إشارة إِلى قتل هؤلاء على أيدي الملائكة في بدر، وأوردوا في هذا الصدد بعض الرّوايات غير المؤكّدة. إلاّ أنّ القرائن ـ كما أشرنا سابقاً ـ تدل على عدم تدخل الملائكة مباشرة في الحرب أو المعركة، فبناء على هذا فإنّ الآية محل البحث تتكلم عن ملائكة الموت وكيفية قبض الأرواح والجزاء الأليم الذي يُمنى به أعداء الحق في تلك اللحظة.

و(عذاب الحريق) إشارة إِلى جزاء يوم القيامة وعقابه، وقد جاء هذا التعبير في آيات أُخرى من القرآن كالآية (22) من سورة الحج، والآية (10) من سورة المعارج بالمعنى ذاته... .

ثمّ يقال لأُولئك: (ذلك بما قدمت أيديكم).

والتعبير بـ«أيديكم» إنّما جاء لأنّ أكثر أعمال الإِنسان يجريها بالإِستعانة

[457]

باليّد، وإلاّ فإنّ الآية تشمل جميع الأعمال البدنية والروحية.

وتضيف الآية الأخيرة معقبة بالقول: (وإِنّ الله ليس بظلام للعبيد).

ومصطلح «الظلاّم» صيغة مبالغة، ومعناها شديد الظلم، وقد أوضحنا السبب في اختيار هذه الكلمة وأمثالها في بحوث حول الظلم في المجلد الثّالث من التّفسير الأمثل فليراجع هناك.

* * *

[458]

الآيات

كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِأَيَـتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيُّروا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53) كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِأَيَـتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَـهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآءَ الَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَـلِمِينَ(54)

التّفسير

سنّةُ الله تقبل التغيير والتبديل:

في هذه الآيات إشارة إِلى «سنة إلهية دائمة» تتعلق بالشعوب والأُمم والمجتمعات، لئلا يتصور بعض أنّ ما أصاب المشركين يوم بدر من عاقبة سيئة كان أمراً استثنائياً، فإنّ من جاء بمثل تلك الأعمال في السابق، أو سيقوم بها مستقبلا سينال العاقبة ذاتها.

فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إنّ الله قوي شديد العقاب).

[459]

فبناءً على هذه فإن قريشاً والمشركين وعبدة الأصنام في مكّة، الذين أنكروا آيات الله وتعنتوا بوجه الحق وحاربوا قادة الإِنسانية، ليسوا وحدهم الذين نالوا جزاء ما إقترفوه، بل أنّ ذلك قانون دائم، وسنة إلهية تشمل من هم أقوى  منهم ـ كآل فرعون ـ كما تشمل الشعوب الضعيفة كذلك، ثمّ توضح الآية التالية أصل هذا الموضوع فتقول: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

وبعبارة أُخرى: إنّ الرحمة الرّبانيّة عامّة تسع جميع الخلق، لكنّها تبلغُ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم، فإنّ الله سبحانه يغدق مبتدئاً بنعمه الماديّة والمعنويّة على جميع الأُمم، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والإِستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه، بالإِفادة منها إفادةً صحيحة، فإنّ الله سبحانه سيثّبت نعماءه ويزيدها. أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والإِنحراف والعنصرية، وكفران النعمة والغرور والفساد، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يُبدلها إِلى بلاء ومصيبة، بناءً على ذلك فإنّ التغيير يكون من قِبلنا دائماً، وإلاّ فإنّ النعماء الإِلهية لا تزول! ...

وتعقيباً على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إِلى حال الطغاة ـ كفرعون وأقوام آخرين ـ فيقول: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربّهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلّ كانوا ظالمين) ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضاً.

الجواب على سؤال:

قد يرد هنا سؤالٌ وهو: لِمَ تكررت عبارة (كدأب آل فرعون)

في الآي بفاصلة قليلة مرّتين، ومع إختلاف يسير في التعبير؟!

وللإِجابة على هذا التساؤل ينبغي الإِلتفات إِلى لطيفة، وهي أنّه بالرغم من أنّ

[460]

التكرار أو التأكيد على المسائل الحساسة من أُصول البلاغة، ويلاحظ في أقوال البلغاء والفصحاء، لكنّ في الآيات ـ آنفة الذكر ـ فرقاً مهماً يخرج تلك العبارة عن صورة التكرار. وهو أنّ الآية الأُولى تشير إِلى الجزاء الإِلهي في مقابل إنكار آيات الحق والتكذيب بها، ثمّ تمثل حال هؤلاء بقوم فرعون والأقوام السابقين.

إلاّ أنّ الآية الثّانية تشير إِلى تبدل النعم في الدنيا وذهاب المواهب الرّبانية، مثل الإِنتصارات والأمن والقدرات وما يُفتخر به. ثمّ مثّلت الآية بحال فرعون والأقوام السابقين.

ففي الحقيقة أنّ جانباً من الكلام كان عن سلب النعم وما ينتج عن ذلك من الجزاء، ويقع الكلام في جانب آخر منه على تبدل النعم وتحوّلها.

* * *

ملاحظتان

1 ـ أسباب حياة الشعوب وموتها

يعرضُ التأريخ لنا شعوباً وأُممّا كثيرة، فطائفة اجتازت سلّم الرقي بسرعة، ووصلت طائفة ثانية إِلى أسفل مراحل الإِنحطاط، وطائفة ثالثة عاشت يوماً في تشتت وضياع وتناحر وتفرقة، ثمّ قويت في يوم آخر، وطائفة رابعة على العكس منها إذ سقطت من أعلى مراتب الفخر إِلى قعر وديان الذلة والضياع.

والكثير من الناس يمرّون مرور الكرام على حوادث التأريخ المختلفة دون أي تفكر فيها، والكثير منهم بدلا من البحث في العلل أو الأسباب الواقعية لحياة الشعوب وموتها يرجعون ذلك إِلى أسباب وهمية وخيالية.

ويرجعوها آخرون إِلى حركة الأفلاك ودورانها إيجاباً وسلباً.

وأخيراً فإنّ بعضهم لجأ إِلى مسألة القضاء والقدر بمفهومها المحّرف، أو إِلى مسائل حسنِ الطالع والحظ وعدمهما، وما شابه ذلك، فيرجعون كل الحوادث

[461]

الحسنة أو المرّة إِلى هذه الأُمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأُمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول: لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين، ولا وراء الأوهام والخيال، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم، وفي نظمكم والإِجتماعية، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّاً وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها، وكانت قوية العزم والإِرادة، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك، هذه الشعوب منتصرة حتماً.

أمّا إذا حَلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث، وحلّ التراجعُ مكان الجرأة والنفاقُ والتفرقة مكان الإِتحاد، وحبُّ النفس مكان الفداء، وحل التظاهر والرياء محل الإِخلاص والإِيمان، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) تبيّن أسمى قانون في حياة الإِنسانية، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإِنسانية، وأوضحها حتى لأُولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإِنسان، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإِقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء: إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيداً، فإنّ تأريخ الإِسلام، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد إنتصارات باهرة في بداياته، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة بعدها.

ففي القرون الأُولى كان الإِسلام يتقدم في العالم بسرعة، ويبث في كل مكان

[462]

منه أنوار العلم والحريّة، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معاً، وجاء بمدنية زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إِلى الآخرين طلباً لوسائل الحياة الإِبتدائية، ويبعثون بأبنائهم إِلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إِليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة. لكن الأُمور بلغت حداً بحيث أنّهم لم يصدورا علماً وصناعة، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوماً مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مئتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلاّ أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهراً وسنين لإِرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إِلى أية نتيجة سيصلون؟

ألم يَعِدُ الله عباده بالقول:(وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين)(1).

أو قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)(2)

أو قوله: (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون)(3).

فهل الله عاجز ـ ولعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟

_____________________________

1 ـ الروم، 47.

2 ـ المنافقون، 8.

3 ـ الأنبياء، 105.

[463]

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات، ويدعو إِلى العوده إِلى أعماق الوجدان، والنظر في ثنايا المجتمع، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم، وأنّ الألطاف والرحمة الإِلهية تعم الجميع، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدراً فصرتم إِلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال: إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة، وانتهى ولن يعود، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضاً، فإنّكم إذا عدتم إِلى الله وأحكمتم أُسس إيمانكم، ووعت عقولكم، وذكرتم عهودكم ومسؤولياتكم، وتصافحت الإيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدويّة للنهضة، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد، فسوف تعود المياه إِلى مجاريها، وستنقضي الأيّام السود وترون أُفقاً مشرقاً وضاءً، وستعود أمجادكم العظيمة، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم، وليكتب علماؤكم، ويجاهد مقاتلوكم، ويسعى التجار والعمال، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والإِستعطاف!!...

ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية سلسلة من الإِمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافاً، بل لابدّ من الإِستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

[464]

الأُولى: ما ورد عن الإِمام الصّادق في هذا الشأن إذ قال(عليه السلام) «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنباً يستحقق بذلك السلب»(1).

والثّانية: مَا نقرؤه في حديث آخر له(عليه السلام): «إنّ الله عزّ وجلّ بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك: إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء، فتحولوا عمّا أحبّ إِلى ما أكره إلاّ تحولت لهم عمّا يحبّون إِلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إِلى ما أحبّ إلاّ تحولت لهم عمّا يكرهون إِلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

2 ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ، ولا في سائر الأُمور ...

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح، هو أنّه ليس للإِنسان مصير خاص قد تعين من قبلُ، ولا يقعُ تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التاريخ» و«جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإِنسانية، ويجعل التحوّلات في الأُسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها، وهو إرادة الإِنسان نفسه!

فبناءً على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقَدر الجبري، ويقولون: إنّ الأُمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإِجبارية، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإِنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير وأُصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الإِقتصادية والمعامل والمصانع.

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 193.

[465]

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإِسلامية، ويرفضه القرآن، فالإِنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإِنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه، فيصنع لها الفخر والنصر، وهو الذي يسوق نفسه إِلى الإِبتلاء والمذلة، فداؤه منه ودواؤه بيده، فإذا لم يغير نفسَه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

[466]

الآيات

إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(55)الَّذِينَ عَـهَدتَّ مِنْهُمْ ثمّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِى كُلِّ مَرَّة وَهُمْ  لاَ يَتَّقُونَ(56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْم خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىْ سَوَآء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَآئِنِينَ(58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ(59)

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إِلى طائفة أُخرى من أعداء الإِسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالأحداث، إلاّ أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مُرّاً وكانت عاقبة أمرهم خُسراً. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بحقّهم، الأُسلوب الذي فيه عبرة للآخرين، كما فيه درءٌ لخطر هذه الطائفة.

[467]

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول: (إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون).

ولعل التعبير بـ(الذين كفروا) يشير إِلى أنّ كثيراً من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهر(صلى الله عليه وآله وسلم) وفقاً لما وجدوه مكتوباً عنه في كتبهم، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأُمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر، فكفروا به وأظهروا عناداً شديداً في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم، وكما يقول القرآن الكريم: (فهم لا يؤمنون).

وتقول الآية الأُخرى: (الذين عاهدت منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كل مرّة)(1). والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الاضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلاهم يخافون الله تعالى، ولا يحذرون من مخالفة أوامره، ولا يراعون القواعد والاصول الانسانية: (وهم لا يتقون).

والتعبير بـ «ينقضون» و«لا يتقون» وهما فعلان مضارعان، هذا التعبير بهما يدلّ على الإِستمرار، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضُوا عهودهم مراراً.(2)

والآية بعدها توضح كيفية أُسلوب مواجهة هؤلاء فتقول: (فإِمّا تثقفنّهم في الحرب فشرّد بهم مَن خلفهم) أي قاتلهم بشكل مدمّر بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ

_____________________________

1 ـ «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم...

كما يرد هذا الإِحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

2 ـ بالإِضافة إِلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضاً وهي «في كل مرّة» ... .

[468]

الشيء بدقة وسرعة، وهي إشارة إِلى وجوب التنبه والإِطلاع السريع والدقيق على قراراتهم، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالإِضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأُخرى من الأعداء وناقضي العهود، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضاً ويتجنبوا الحرب مع المسلمين، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا (لعلهم يذكّرون).

(وأمّا تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد (إنّ الله لا يحب الخائنين).

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم، إلاّ أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافاً ودون سبب بل عندما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإِنباذ» وهي بمعنى «الإِلقاء» أو «الإِعلام» و«الرّد» أي: ردّ عليهم عهودهم واعلن عن إلغائها جهراً.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها، فألغهِ أنت من جهتك أيضاً، فهذا حكم عادل، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

[469]

المسلمين من نقض العهد، وتحذرهم أن يكونوا هدفاً وغرضاً لهجوم العدّو، فهي تدعوهم إِلى رعاية مبادىء الإِنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يُوجه تعالى الخطاب إِلى ناقضي العهد، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا أنّهم لا يعجزون).

* * *

[470]

الآيات

وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ  لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْء فِى سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(60) وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(61) وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هَوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63) يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(64)

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها:

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إِلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر، وهو لزوم

[471]

الإِستعداد العسكري لمواجهة الأعداء، فتقول: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة).

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والإِستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلةً: (ومن رباط الخيل).

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء، ويرد هذا الإِستعمال كثيراً بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و«المرابطة» تعني حفظ الحدود، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطاً أيضاً.

* * *

ملاحظات

1 ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر، والتعبير في الآية واسع إِلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماماً.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظاً، إلاّ أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثراً ما في الإنتصار على الأعداء، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للإنتصار على الأعداء هو كمية السلاح، هم على خطأ كبير، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوباً قليلة العدد وأسلحتها غير متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة، كما حصل

[472]

للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناءً على ذلك، ومضافاً إِلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الإِقتصادية والثقافية والسياسية، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإِسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبلُ»(1).

ونقرأ في رواية أُخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح.(2)

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(3).

ونجد روايةً أُخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول: «منه الخضاب بالسواد»(4).

فترى أنّ الإِسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماماً ليستعملوا الخضاب، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناءً على ذلك، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب جدّاً.

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 164 ـ 165.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ المصدر السّابق.

[473]

ولكن مع الاسف، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح، لا نجد فيهم أثراً لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم، كأنّهم قد نسوا كل شيء،. ولا هم يستغلّون قواهم الإِقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا مازلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وإنحطاطنا على رقبة الإِسلام، ونقول: إذا كان الإِسلام داعية ترقٍّ وتقدم، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!

ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة) اذا أضحى شعاراً شاملا في كل مكان، ينادي، به الصغير والكبير، والعالم وغير العالم، والمؤلف والخطيب، والجندي والضابط، والفلاح والتاجر، وإلتزموا به في حياتهم وطبقوه، كان كافياً لجبران التخلفّ والتأخر.

إنّ سيرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) العملية وأئمّة الإِسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعاً، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح، وشد الأزر ورفع المعنويات، وبناء معسكرات التدريب، وإختيار الزمان المناسب للهجوم، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحاً جديداً مؤثراً صنع في اليمن أيّام معركة حنين، فأرسل النّبي جماعة إِلى اليمن لشرائه فوراً.

ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ردّ على شعار المشركين «اُعلُ هبل، اعلُ هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم: «إنّ لنا العزى ولا عزى لكم»، بقوله: «الله مولانا ولا مولى لكم»، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.

[474]

ومن التعاليم الإِسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة، فهو مثل آخر على تفكير الإِسلام العميق إِلى جانب الإِستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.

2 ـ واللطيفة المهمّة الأُخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تَخْلَقُ على مرور الزمان ولا تغدو باليةً أو منسوخة برغم القدم، فجملة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام، كما هي الحال اليوم، وسيبقى مفهومها حياً إِلى عشرات الآلاف من السنين الأُخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة، إذ أن جملة «ما استعطتم» عامّة، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.

3 ـ ويرد هنا سؤال وهو: لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.

وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانوناً شاملا لكل عصر وزمان، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليماً مهماً خاصاً بعصر النّبي، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية:

ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إِلى الهدف المنطقي والإِنساني من وراء هذا الموضوع، فيقول: إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الاخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم، وليس الهدف هو توسعة

[475]

الإِستعباد والإِستعمار في العالم، بل الهدف من ذلك هو (ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم)!

لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإِنسانية، ولا يفهمون غير منطق القوّة!

فإذا كان المسلمون ضعافاً، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية، فإنّ أعداء الحق والعدل والإستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.

واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسماً من الأراضي الإِسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل، وقتلوا المئات من الأبرياء، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية، وأحالوها إِلى أنقاض، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أُخرى إِلى سجلهم الأسود.... في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل، وأصدرت الأمم المتحدة بياناً دعت فيه إِلى إخلاء هذه الأرض، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الإِستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.

فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا، لتقول لنا: جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إِلى مكانه الأوّل.

وممّا يثير النظر وبسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و«عدوّكم» وذلك إشارة إِلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد

[476]

والدفاع عن الإسلام، بل الهدف هو حفظ رسالة الإِسلام الإِنسانية، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداءُ الله وأعداء الحق والعدل والإِيمان والتوحيد والأخلاق الإِنسانية، فينبغي الردّ عليهم انطلاقاً من هذا المجال.

وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإِسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله، وفي مسير إحياء الحق والعدل.

ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لاتعرفونهم فتقول: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم).

* * *

ملاحظتان

1 ـ من هم المقصودون في الآية «الذين لا تعلمونهم»

بالرّغم من أنّ المفسّرين إحتملوا في هذه الطائفة (الذين لا تعلمونهم)إحتمالات كثيرة، فقال بعضهم: إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم، وقال آخرون: إنّها إشارة إِلى الأعداء مستقبلا، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.

إلاّ أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم، فإذا قوي جيش الإِسلام فإنّ أُولئك سيقعون في حيرة واضطراب ويرحلون، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (101) من سورة التّوبة إذ تقول: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم).

[477]

ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الاسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.

2 ـ الاستعداد في كل مكان وزمان

وتتضمن الآية تعليماً لمسلمي اليوم أيضاً، وهو أنّه لا ينبغي الإِكتفاء بالاستعداد لأعداء الإِسلام الذين تعرفونهم، بل عليكم أن تنتبهو للأعداء الإِحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما مُنوا بهجمات الأعداء المفاجئة.

وفي نهاية الآية إشارة إِلى موضوع مهم آخر، وهو أنّ الإستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله، ولن ينقص منه شيء أبداً (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم) فيرجع إليكم جميعه، بل أكثر ممّا أنفقتم (وأنتم لا تظلمون)، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإِسلام وقوته وعظمته، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضاً، فبناءً على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.

كما أنّ ثواباً أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله، فمع هذه الحال لا تظلمون، بل ستنالون خيراً كثيراً.

وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء، مالا كان أو نفساً أو فكراً أو منطقاً أو قوةً أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية

[478]

والعسكرية، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم، وبناءً على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبداً.

أهداف الجهاد في الإِسلام وأركانه:

واللطيفة الأُخرى التي تستفاد من هذه الآية، وتكون جواباً على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه، فالآية تقول بوضوح: إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الإِعتداء على حقوق الآخرين، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّاً في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.

فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم، وما صَرّحَ به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإِسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإِسلام هو دين السيف، وتارةً يقولون بأنّ الإِسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد، ويقيسون النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) بسائر محتلي البلدان في التاريخ.

وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعودوا إِلى القرآن، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع، لتتّضح لهم كل تلك الأُمور.

الإستعداد للصّلح:

مع أنّ الآية السابقة أوضحت هدف الجهاد في الإِسلام بقدر كاف، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى

[479]

فتقول (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها).

ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضاً، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضاً، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إِلى جهة، لذلك يمكن الإِستناد في تفسير هذه الآية إِلى جذر اللغة تارةً، وإِلى مفهومها الثّانوي تارةً أُخرى.

ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عندما يراد التوقيع على معاهدة الصلح، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل، فتقول: (وتوكل على الله إنّه هو السميع العليم).

ومع ذلك فهي تحذر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين من احتمال الإِحتيال والخداع في دعوة الأعداء، إِلى الصلح، فقد تكون دعوةً للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر، إِلاّ أنّ الآية تطمئن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يخشى هذا الأمر أيضاً، لأنّ الله عزّ وجلّ سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال، إذ تقول: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله).

وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة، لأنّ الله (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين).

فكم أرادوا بك كيداً، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنةً، لكنّه عزّ وجلّ حفظك ورعاك في مواجهة كل ذلك.

أضف إِلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعاً في الدفاع عنك، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين، ولكنَّ الله

[480]

شرح صدورهم بأنوار الهداية (وألف بين قلوبهم).

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظاً وحقداً بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما، وسيكونون صفاً واحداً متراصاً، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن، ولم يكن هذا الإمر مقتصراً على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضاً الذين جاءوا من مكّة، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإِسلام ـ حب ومودّة، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضاً، لكن الله عزّ وجلّ غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثماثة وثلاثة عشر من أبطال بدر، منهم حوالي ثمانين نفراً من المهاجرين والباقي من الأنصار، فكانوا جيشاً صغيراً، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.

ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب، أو إيجاد تلك الألفة، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم).

إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين، كأُولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإِمكان إزالتها، لا بالمال ولا بالجاه والمقام، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلاّ بالإِنتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر وحشية وإجراماً، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد، ثورة تصنع تحوّلاً في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم، وترفعهم عن

[481]

الحضيض الذي كانوا فيه، للتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح، فيطهروا بذلك أنفسهم، ويدرأوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء.

وهذه أُمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال، بل في ظلال الإِيمان والتوحيد الخالص فحسب.

وتضيف الآية معقبة في الختام (إنّه عزيز حكيم).

فعزته تقتضي عجز الاخرين من الوقوف في مواجهته، وحكمته تقتضي أن تكون كل أُموره جاريةً وفق حساب دقيق ونظام صحيح، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.

* * *

ملاحظتان

1 ـ قال بعض المفسّرين: إنّ الآية محل البحث تشير إِلى الخلافات بين الأوس والخزرج، الذين هم من الأنصار فحسب، ولكن نظراً إِلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعاً لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية.

ولعل أُولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم، مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والإِجتماعية بين الفقراء والأغنياء، والكبار والصغار، بين هذه القبيلة وتلك، تلك الخلافات و«الإِنشقاقات» أذهبها الإِسلام ومحا آثارها، كما يقول القرآن الكريم في مكان آخر: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته

[482]

إخواناً) (1).

2 ـ إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب، فاليوم حيث يبسط الإِسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم، وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة. إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإِيمان والتوحيد، فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئاً مهماً في هذا المجال، بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإِيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل، لأنّ النصر لا يتحقق إلاّ عن هذا الطريق، وهو طريق الأخوة الإِسلامية بين جميع الناس.

وتخاطب الآية الأخيرة من الآيات محل البحث النّبي بالقول: (يا أيّها النّبي حسبك الله وما اتبعك من المؤمنين).

ونقل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية الكريمة نزلت عندما قال جماعة من يهود بني قريظة وبني النضير لما قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : نحن نسلم ونتبعك، يعني إنّنا مستعدون لا تباعك ونصرتك، فنزلت هذه الآية محذرةً النّبي لئلا يعتمد على هؤلاء، بل المعول عليه هو الله والمؤمنون(2).

وقد أورد الحافظ أبو نعيم ـ وهو من أكابر علماء السنة ـ في كتابه فضائل الصحابة، بسنده، أنّ هذه الآية نزلت في حق علي أميرالمؤمنين، فالمقصود بالمؤمنين هو علي(عليه السلام)(3).

وقد قلنا مراراً: إنّ مثل هذه التفاسير وأسباب النّزول لا تجعل الآيات

_____________________________

1 ـ آل عمران، 103.

2 ـ تفسير التبيان، ج 5، ص 152.

3 ـ موسوعة الغدير، ج 2، ص 51.

[483]

محدودة ومنحصرةً، بل المقصود فيها هو أنّ شخصاً كعلي بن أبي طالب(عليه السلام) الذي كان في أوّل صفوف المؤمنين هو السند الأوّل للنبي بعد الله من بين المسلمين، مع أنّ بقية المؤمنين هم أنصار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأعوانه.

* * *

[484]

الآيتان

يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إنَ يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـبِرُونَ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّيَفْقَهُونَ(65) الْئَـنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ واللَّهُ مَعَ الصَّـبِرِينَ(66)

التّفسير

لا ترتقبوا تساوي القوى:

في هاتين الآيتين تتوالى التعاليم العسكرية وأحكام الجهاد أيضاً.

فالآية الأُولى منهما تخاطب الرّسول فتقول: (يا أيّها النّبي حرض المؤمنين على القتال).

إنّ الجنود والمقاتلين مهما كانوا عليه من استعداد ينبغي قبل بدء الحرب أن ترفع معنوياتهم وتشحذ هممهم، وهذا الأمر معروف في جميع النظم العسكرية في العالم، إذ يقوم قادة الجيوش وأمراؤهم قبل التحرك نحو سوح القتال أو عند ساحة

[485]

القتال، فيلقون خطباً تثيرهم وتقوّي من معنوياتهم وتحذرهم من الهزيمة والجبن.

غايه ما في الأمر أنّ مثل مسألة الترغيب والتشويق إِلى القتال محدودة في المدارس الماديّة، ولكنّها واسعة في الأديان السماوية، نظراً للتعاليم الربانية، وتأثير الإِيمان بالله، والتذكير بمنزلة الشهداء عند ربّهم ومقامهم عنده، وما ينتظرهم من الثواب الجزيل البعيد المدى، وما سينالونه من العزة والفخر عند انتصارهم، فكل ذلك يحرك روح البطولة والثبات في نفوس الجنود، فتلاوة بعض آيات القرآن في الحروب الإِسلاميّة تشحذ الجندي عزماً وقوّة وإقداماً لا حدود له، ويتقد فيه الشوق والعشق للتضحية والفداء.

وعلى كل حال، فإنّ الآية توضح أهمية الإِعلام والتبليغ وشحذ همم المقاتلين والجنود ومعنوياتهم باعتبار ذلك تعليماً إسلامياً مهماً.

وتعقب الآية بالتعليم الثّاني فتقول: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا).

وبالرغم من أنّ الآية في صورة إخبار عن غلبة الرجل على عشرة، لكن بقرينة الآية بعدها (الآن خفّف الله عنكم) يتّضح أنّ المراد من ذلك هو تعيين الحكم أو الوظيفة والخطة والمنهج، لا أنّه مجرّد خبر وهكذا فينبغي للمسلمين أن لا ينتظروا حتى يبلغ عددهم مقداراً يُكافىء قوة العدو وأفراده، ليتحركوا إِلى ساحة القتال والجهاد، بل يجب عليهم القيام بواجباتهم حتى إذا كان عدوّهم عشرة أضعافهم.

ثمّ تشير الآية إِلى علّة هذا الحكم فتقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون) وهذا التعليل يبدو عجيباً لأوّل وهلة، إذ ما هي العلاقة بين المعرفة والفقاهة وبين النصر أو بين عدم المعرفة والهزيمة؟! لكن الواقع هو أنّ العلاقة بينهما قريبة ومتينة، لأنّ المؤمنين يعرفون نهجهم الذي سلكوه ويدركون الهدف من خلقهم وإيجادهم، ويؤمنون بنتائجه الإِيجابية في هذا العالم، والثواب الجزيل الذي ينتظرهم في

[486]

العالم الآخر، فهم يعلمون، لِمَ يقاتلون؟ ومن أجل من يجاهدون؟ وفي سبيل أي هدف مقدس يضحون؟ وعلى من سيكون حسابهم إذا ما ضحوا واستشهدوا في هذا المضمار؟

فهذا السير الواضح المشفوع بالمعرفة يمنحهم الثبات والصبر والإِستقامة.

أمّا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كعبدة الأصنام، فلا يعرفون لأي أمر يقاتلون؟ ولأجل من يجاهدون؟ وإذا قُتلوا فمن يؤدّي دية دمهم؟ فهم لتقليدهم الأعمى ولعاداتهم الجاهلية ساروا رواء هذه الأفكار، وهكذا تبعث ظلمات الطريق وعدم معرفتهم الهدف ونتائج أعمالهم على إنهيار أعصابهم وتفت في عضدهم وثباتهم،وتجعل منهم كائنات ضعيفة.

وبعد ذلك الحكم الثقيل بجهاد الأعداء وان كانوا عشرة اضعاف يخفف الله عن المؤمنين ويتنزل في الحكم الذي يرهقهم فيقول: (الآن خفّف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً).

ثمّ يقول: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله).

ولكن على كل حال ينبغي أن لا تنسوا تسديد الله (والله مع الصابرين).

* * *

بحوث

وهنا لابدّ من الإلتفات الى عدّة اُمور:

1 ـ هل نُسخت الآية الأُولى

كما لاحظنا فإنّ الآية الأُولى تأمر المسلمين أن لا يتقاعسوا عن مواجهة الأعداء حتى إذا كانوا عشرة أضعافهم، غير أنّ الآية الثّانية تخفض هذا العدد إِلى ضعفين فحسب.

[487]

وهذا الإِختلاف الظاهر بين الآيتين جعل بعضهم يقول: إن الآية الاُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ نسختها الآية الثّانية، أو أنّه حمل الآية الأُولى على الإِستحباب والثّانية على الوجوب، أي إذا كان عدد الأعداء ضعف عدد المسلمين فيجب عليهم عدم التراجع عن ساحة الجهاد والقتال، أمّا إذا زاد عددهم عن الضعف حتى بلغ عشرة أضعافهم فلهم عندئذ أن لا يقاتلوهم، وإن كان الأفضل لهم أن لا ينسحبوا عن جهادهم العدوّ.

إلاّ أنّ بعض المفسّرين يرون أن الإختلاف الظاهري الموجود بين الآيتين لا يدل على النسخ، ولا يدل على الإِستحباب، بل إن لكل واحدة من الآيتين حكماً معيناً، فعندما يُبتلى المسلمون بالضعف والخور ويكثر فيهم المقاتلون غير المحنّكين أو غير المدرّبين ولا المتهيئين للقتال، فعندئذ يكون معيار العدد هو نسبة الضعف. أمّا إذا كان المقاتلون على إستعداد تام، أشداء في إيمانهم وعزائمهم كالكثير من أبطال بدر، فالنسبة عندئذ ترتقي إلى عشرة أضعاف.

فبناءً على ذلك فإنّ الحكمين في الآيتين محل البحث يرتبطان بالطائفتين المختلفتين وفي ظرفين متفاوتين.

وبهذا لا يوجد نسخ في الآي هنا، وإذا وجد في الرّوايات التعبير بالنسخ فينبغي الإِلتفات إِلى أن النسخ ذو معنى واسع ويشمل التخصيص في بعض الموارد.

2 ـ أسطورة توازن القوى

إنّ الآيتين ـ محل البحث ـ تتضمنان هذا الحكم المسلّم به، وهو أنّ على المسلمين ألاّ ينتظروا موازنة القوى الظاهرية بينهم وبين العدو، بل عليهم أن ينهضوا لمواجهته وإن كان ضعف عددهم، بل حتى لو كان عشرة أضعاف عددهم أحياناً، وأن لا يفروا من العدوّ بسبب قلّة العدد أبداً.

[488]

وممّا يستجلب النظر أنّ أغلب المعارك التي كانت تجري بين المسلمين وأعدائهم كان فيها ميزان القوى لصالح العدو، وكان المسلمون قلّةً غالباً، ولم يكن هذا الأمر قد وقع في حروب الإِسلام في عصر النّبي فحسب ـ كبدر وأحد والأحزاب أو كمعركة مؤتة التي رووا أن جيش المسلمين كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل، أمّا جيش العدو فأقل ما ذكروا عنه أنّه كان حوالي مئة وخمسين ألفاً، بل حتى الحروب بعد عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد ذكروا أن فرقاً مذهلا كان بين جيش الإِسلام الذي حرر فارس وجيش الساسانيين، فقد قيل مثلا: إنّ الجيش الإِسلامي كان لا يتجاوز خمسين ألف مقاتل، بينما كان جيش خسرو پرويز خمسمائة ألف مقاتل!

وأمّا في معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم، فقد ذكر المؤرخون أن الجيش الذي جمعه هرقل كان حوالي مئتي ألف مقاتل، بينما كان جيش الإِسلام لا يتجاوز أربعة وعشرين ألفاً!

والأعجب من ذلك أن المؤرخين يذكرون أنّ قتلى جيش الروم في معركة اليرموك كانوا يزيدون على سبعين ألفاً!!

وما من شك أن الموازنة بين القوى أو التفوق العسكري أحد أسباب النصر بحسب الظاهر، ولكن ما هو السبب الذي كان وراء انتصار المسلمين القلة في مثل هذه المعارك؟

والإِجابة على هذا السؤال المهم ذكرها القرآن في الآيتين محل البحث في ثلاثة تعابير:

التّعبير الأوّل: يقول فيه: (عشرون صابرون) ثمّ قوله في الآية بعدها: (مائة صابرة) أي ذوو استقامة وثبات.

والمراد هنا أنّ روح الإِستقامة والثبات، التي هي ثمرة شجرة الإِيمان، كانت سبباً في أن يغلب الرجلُ المسلم عشرة أمثاله من الكفار.

[489]

التّعبير الثّاني: وفي مكان آخر يقول: (ذلك بأنّهم قوم لا يفقهون) أي أنّ عدم معرفة العدو هدفه، ومعرفتكم هدفكم المقدس، يستعاض عن موضوع قلتكم إزاء كثرة العدو.

التّعبير الثّالث: هو قوله سبحانه في الآي محل البحث: (بإذن الله) أي أن الإِمدادات الغيبية ولطف الله ورحمته تشمل مثل هؤلاء المجاهدين الصابرين فتنصرهم على عدوّهم.

وفي عصرنا يواجه المسلمون أعداءً ألدّاء أقوياء أيضاً، لكن العجيب أن جيش المسلمين في كثير من المعارك أكثر من جيش العدوّ، ولكن مع ذلك لا أثر لإِنتصار المسلمين، وكأنّهم يسيرون باتجاه مخالف عمّا كان يسير عليه المسلمون الأوائل.

والسّبب هو أنّ المسلمين اليوم لا يتمتعون بمعرفة كافية ويا للأسف، وقد فقدوا روح الصبر والإِستقامة بسبب ركونهم إِلى عوامل الفساد وزخرف الحياة المادية وزبرجها، كما أنّ الإِمداد الغيبي ورعاية الله قد سُلبا منهم بسبب تلوّثهم بالذنوب، فأبتلوا بمثل هذه العاقبة!

إلاّ أنّ طريق العدوة ما يزال مفتوحاً، وتأمل أن يأتي اليوم الذي يعي المسلمون مرّة أُخرى مفهوم هاتين الآيتين وأمثالهما ليخلعوا عن أنفسهم حالة الذل والتقهقر.

3 ـ ما هو المراد من الآيتين؟

ممّا يستجلب النظر أنّ الكلام في الآية الأُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ كان على نسبة الواحد إِلى العشرة، فمثلت الآية بـ(إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين).

إلاّ أن الكلام في الآية الثّانية كان عن نسبة الضعف مثل المئة في قبال

[490]

المئتين، والألف في قبال الألفين: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين الخ ...).

وكأن هذا المثال البليغ يريد أن يبيّن هذا الحقيقة، وهي أنّ الرجال الأشداء من ذوي العزيمة والإِيمان يمكنهم أن يشكلّوا جيشاً مقتدراً حتى لو كانوا عشرين رجلا، إلاّ أنّهم لو كانوا ضعفاء، فليس بإمكانهم أن يصنعوا جيشاً من عشرين، بل لابدّ أن يكونوا أضعاف هذا العدد لتشكيل جيش، «فلاحظوا بدقة».

* * *

[491]

الآيات

مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الاَْرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الاَْخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67)لَّوْلاَ كِتَـبٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(68) فَكُلُوا ممّا غَنِمْتُمْ حَلَـلا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(69) يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُمْ مِّنَ الاَْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(70) وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(71)

التّفسير

أسْرَى الحرب:

بيّنت الآيات السابقة بعض أحكام الجهاد المهمّة ومواجهة الأعداء، وفي هذه الآيات استكمال لما سبق في عرض قسم من أحكام أسرى الحرب، لأنّ أغلب الحروب تقترن بتأسير جماعة من المتقاتلين من قبل الطرف الآخر، وقد أولى

[492]

الإِسلام أهمية قصوى لمسألة أسرى الحرب، من حيث أُسلوب التعامل معهم، ومن حيث بعض النواحي الإِنسانية وأهداف الجهاد أيضاً.

وأوّل موضوع مهم يثار في هذا الشأن، هو ما قالته الآية الكريمة من أن كل نبي ليس له الحق في أسرار افراد العدو الاّ بعد أن يثبت اقدامه في الارض ويكيل الضربات القاضية للأعداء: (ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض).

والفعل «يثخن» مأخوذ من «الثِخَن» على زنة «المِحَن» ومعناه في الأصل الضخامة والغلظة والثقل، ثمّ استعمل هذا اللفظ بمعنى الفوز والقوّة والنصر والقُدرة، للسبب المذكور آنفاً.

وقال بعض المفسّرين: إنّ معنى (حتى يثخن في الأرض) يدل على المبالغة والشدّة في قتل الأعداء، وقالوا: إنّ معنى ذلك أن أخذ الأسرى ينبغي أن يكون بعد مقتلة عظيمة في الأعداء ولكن مع ملاحظة كلمة «في الأرض» والإِلتفات إِلى جذر هذه الكلمة الذي يعني الشدّة والغلظة، يتّضح أن معنى الآية ليس هو ما ذكروه، بل القصد هو التفوق على العدو تماماً وإضهار القوّة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة.

إلاّ أنّه لمّا كان في قتل الأعداء وإبادتهم دليل على السيطرة وإحكام مواقع المسلمين أحياناً، فإنّ من مصاديق هذه الجملة في بعض الشروط قتل الأعداء، وليس هو مفهوم الجملة الأصيل.

على أية حال، فإنّ الآية تنبه المسلمين إِلى نقطة مهمّة في الحرب، وهي أنّ عليهم عدم التفكير والإِنشغال بأخذ الأسرى قبل إندحار العدوّ بالكامل، لأنّ بعض المسلمين المقاتلين ـ كما يستفاد من بعض الرّوايات ـ كان جلّ سعيهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر مهما أمكنهم، لأنّ العادة كانت أن يُدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية ليتم الإِفراج عنه بعد نهاية

[493]

الحرب.

ويعدّ هذا الأمر عملا حسناً في بعض المواقع، إلاّ أنّه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملا، لأنّ الإِنشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إِلى مكان آمن، كل ذلك يبعد المقاتلين غالباً عن أصل الهدف الذي من أجله كانت الحرب، وربّما يمنح العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه، كما حدث في غزوة أحد، حيث شغل بعض المسلمين أنفسهم بجمع الغنائم، فاستغل العدوّ هذه الفرصة فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين.

وبناءً على ذلك فإنّ تأسير الأعداء يجوز في صورة ما لو حصل اليقين بالنصر الساحق عليه، أمّا في غير هذه الصورة فيجب توجيه الضربات الشديدة والمتتالية لهدم قوات العدو وشلّها فإذا حصل الإِطمئنان بذلك فإنّ الأهداف الإِنسانية توجب إيقاف القتل والإِكتفاء بأسرهم.

وقد أوضحت الآية هاتين النقطتين المهمتين: العسكرية، والإِنسانية، في عبارة موجزة:

ثمّ ألقت باللوم على أُولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة).

«والعرض» يعني الأُمور غير الثابتة، ولما كانت الذخائر المادية غير ثابتة في هذه الدنيا فقد عُبّر عنها بالعرض.

وكما قلنا آنفاً فإن الإِهتمام بالجانب المادي فيما يتعلق بالأسرى والغفلة عن الهدف النهائي، أي الإِنتصار على العدو، لا أنّه يحبط الثواب الأُخروي فحسب، بل يسيء إِلى الانسان في حياته الدنيا وإِلى عزّته ورفعته واستقراره، ففي الحقيقة، هذه الأهداف المذكورة للفرد في الحياة الدنيا تعدّ من أُمور الدنيا الثابتة، فلا ينبغي أن نترك المنافع الطويلة الأمد والمستقبلية رهن الخطر من أجل أن نحصل على منافع مادية عابرة!

[494]

وتُختتم الآية بالقول أن التعليم آنف الذكر ـ في الواقع ـ مزيج من العزة والنصر والحكمة والتدبير، لأنّه صادر من قبل الله تعالى (والله عزيز حكيم).

الآية التالية توجّه اللوم والتعنيف ثانية لأولئك الذين يعرضون المنفعة العامّة والمصلحة الإِجتماعية للخطر من أجل الحصول على المنافع المادية العابرة، فتقول الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).

وقد أورد المفسّرون في شأن قوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق)احتمالات مختلفة كثيرة، إلاّ أنّ أقربها وأكثرها ملاءمة ومناسبةً هو «إذا لم يكن الله قد قرر من قبل أن لا يعذب عباده ما لم يبيّن نبيّه حكمه لهم، لأخذكم أخذاً شديداً بسبب تأسيركم عدوكم رغبة في المنافع المادية وإيقاعكم جيش الإسلام وانتصاره النهائي في الخطر، إلاّ أنّه ـ كما صرحت الآيات الكريمة في القرآن ـ فإنّ سُنة الله اقتضت أن تُبين أحكامه ثمّ يجازي الذي يخالفون عن أمره»، إذ قال سبحانه: (وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولا)(1).

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ ظاهر الآيات ـ كما قلنا آنفاً ـ يعالج موضوع أخذ الأسرى في الحرب لا أخذ «الفدية» بعدها، وبذلك ينحل كثير من الإِشكالات التي أثارها جماعة من المفسّرون بشأن مفهوم الآية.

كما أنّ اللوم والتعنيف يختص بجماعة إنشغلت ـ قبل أن يتمّ النصر النهائي ـ بأسر العدو لأهداف دنيوية، ولا علاقة لها بشخص النّبي وأصحابه المؤمنين الذين كان هدفهم الجهاد في سبيل الله.

_____________________________

1 ـ الإسراء، 15.

[495]

وبذلك تنتفي جميع البحوث التي أوردوها، كالقول بأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد إرتكب ذنباً! وكيف ينسجم هذا العمل وعصمته(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فهذا الأمر غير صحيح.

كما يثبت بطلان الأحاديث المختلفة التي نقلتها بعض مصادر أهل السنة وكذبها في تفسير هذه الآية، والتي تزعم أن الآية(1) نزلت في شأن أخذ النّبي وبعض المسلمين الفدية مقابل أسرى الحرب بعد معركة بدر، وقبل أن يأذن الله بذلك. وأنّ الذي خالف هذا الأمر وطالب بقتل الأسرى هو عمر فحسب ـ أو سعد بن معاذ ـ وأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حق عمر: لو نزل العذاب علينا لما نجا منه إلاّ عمر ـ أو سعد بن معاذ ـ.

فإنّ جميع ذلك عار من الصحة ولا أساس له، وإنّ تلك الرّوايات بعيدة كل البعد عن تفسير الآية، وخاصّة أن أمارات الوضع ظاهرة على هذه الأحاديث تماماً.

2 ـ إنّ الآيات محل البحث لا تخالف أخذ الفداء وإطلاق سراح الأسرى إذا اقتضت مصلحة المجتمع الإِسلامي ذلك، بل تقول هذه الآيات: إنّه لا ينبغي على المجاهدين أن يكون همهم الأسر من أجل الفداء، فبناءً على ذلك فهي تنسجم وتتفق والآية (4) من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) من جميع الوجوه، إذ تقول تلك الآية (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرّقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّاً بعد وإمّا فداءً).

إلاّ أنّه يجب الإِلتفات إِلى مسألة مهمّة هنا، وهي: إذا كان بين الأسرى من يثير إطلاق سراحهم فتنة نشوب نار الحرب، ويُعرض انتصار المسلمين للخطر، فيحق للمسلمين أن يقتلوا مثل هؤلاء الأشخاص، ودليل هذا الموضوع كامن في الآية محل البحث ذاتها، بقرينة «يثخن» والتعبير في الآية (4) من سورة

_____________________________

1 ـ تفسير المنار، ج 10، ص 90 ـ تفسير روح المعاني، ج 10، ص 32 ـ وتفسير الفخر الرازي، ج 15، ص 198.

[496]

محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)بـ «أثخنتموهم».

ولهذا فقد جاء في بعض الرّوايات الإِسلاميّة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل اثنين من أسرى معركة بدر، وهما «عقبة بن أبي معيط» و«النضر بن الحارث» ولم يرض بأن يفتديا أنفسهما أبداً(1).

3 ـ وفي الآيات محل البحث تأكيد على موضوع حرية إرادة الإِنسان مرّة أُخرى، ونفي مذهب الجبر، لأنّها تقول: إنّ الله يريد لكم الآخرة، ولكن بعضكم أغرته المنافع الماديّة العابرة وركن إليها.

وفي الآية التالية إشارة إِلى حكم آخر من أحكام أسرى الحرب، وهو حكم أخذ الفداء.

وقد جاء في بعض الرّوايات(2) الواردة في شأن نزول هذه الآيات أنّه بعد إنتهاء معركة بدر وأخذ الأسرى، وبعدما أمر النّبي أن تضرب عنقا الأسيرين الخطرين «عقبة بن أبي معيط» و«النضر بن الحارث» خافت الأنصار أن ينفذ هذا الحكم في بقية الأسرى فُيحرموا من أخذ الفداء، فقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا سبعين رجلا وأسرنا سبعين، وكلّهم من قبيلتك فهب لنا هؤلاء الأسرى لنأخذ الفداء منهم. وكان النّبي يترقب نزول الوحي، فنزلت هذه الآيات فأجازت أخذ الفداء في قبال إطلاق سراح الأسرى.

وروي أنّ أكثر ما عُين فداءً على الأسرى من المال هو أربعة آلاف درهم، وأقلّه ألف درهم، فلمّا سمعت قريش أرسلت فداء الواحد تلو الآخر حتى حررت أسراها.

والعجيب أن صهر النّبي على إبنته زينب «أبا العاص» كان من بين أسرى معركة بدر، فأرسلت زوجته زينب قلادتها التي أهدتها أُمّها خديجة(عليها السلام) إليها في

_____________________________

1 ـ راجع تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 135.

2 ـ راجع تفسير علي بن إبراهيم وفقاً لما جاء في نور الثقلين، ج 2، ص 136.

[497]

زفافها، لتفتدي بها زوجها، فلمّا وقعت عينا النّبي على تلك القلادة وتذكر تضحية خديجة وجهادها، وتجسّدت مواقفها أمام عينيه، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «رحم الله خديجة، فهذه قلادة جعلتها خديجة في جهاز بنتي زينب.

ووفقاً لبعض الرّوايات فإنّه امتنع عن قبول القلادة احتراماً لخديجة وإكراماً، واستجاز المسلمين في إرجاع القلادة، فأذنوا له أن يرجع القلادة إِلى زينب، ثمّ أطلق(1) النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سراح أبي العاص، شريطة أن يرسل ابنته زينب ـ التي كانت قد تزوجت من أبي العاص قبل الإِسلام ـ إِلى المدينة، فوافق أبو العاص على هذا الشرط ووفى به بعدئذ(2).

وعلى أية حال، فإنّ الآية محل البحث أجازت للمسلمين التصرف في غنائم المعركة، والمبلغ الذي يأخذونه فداءً من الأسير، فقالت: (فكلوا ممّا غنمتم حلالا طيباً).

ويمكن أن تكون هذه الجملة ذات معنى واسع يشمل حتى الغنائم الأُخرى غير الفداء.

ثمّ تأمرهم الآية بالتقوى فتقول: (واتقوا الله). وهذا إشارة إِلى أنّ جواز أخذ مثل هذه الغنائم لا ينبغي أن يجعل هدف المجاهدين في المعركة هو جمع الغنائم وأن يأسروا العدوّ حتى يأخذوا فداءه. وإذا كان في القلوب مثل هذه النيّات السيئة فعليهم أن يطهروا قلوبهم منها، ويعدهم الله بالعفو عمّا مضى فتقول الآية: (إنّ الله غفور رحيم).

_____________________________

1 ـ ورد في الكامل لابن الأثير، ج 2، ص 134 أنّه «فلمّا رآها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رقّ لها رقة شديدة وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها؟ وتردوا عليها الذي لها فافعلوا»، فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة.

2 ـ تفسير الميزان، ج 9، ص 141.

[498]

هل أن أخذ «الفداء» أمر منطقيٌّ عادل؟!

قد ينقدح هنا سؤال مهم وهو: كيف ينسجم الفداء قبال إطلاق سراح الأسير وأصول العدالة؟ أو ليس هذا نوعاً من بيع الإِنسان؟

والجواب على هذا السؤال يتجلى واضحاً حين نعرف أنّ الفداء هو نوع من الضرائب العسكرية، أو الغرامة الحربية، إذ أن كل حرب سبب في إهدار كثير من الطاقات الإِقتصادية والقوى الإِنسانية، فالجماعة التي تقاتل من أجل الحق يحق لها أنّ تعوض عن خسائرها بعد الحرب، وأحد طرق التعويض هو «الفداء». ومع ملاحظة أن الفداء كان يومئذ يتراوح بين أربعة آلاف درهم عن الأسير الغني، وألف درهم عن الأسير الفقير، يتّضح أنّ الأموال التي أُخذت من قريش في هذا الصدد لم تكن كثيرة، بل لم تكن كافية لسد خسائر المسلمين المالية والإِنسانية في تلك المعركة!

ثمّ بعد هذا كلّه، فقد ترك المسلمون أموالا كثيرة ـ في مكّة ـ عند هجرتهم اضطراراً إِلى المدينة، فكانت هذه الأموال عند أعدائهم من قريش، وكان للمسلمين الحق أن يعوضوا عن خسائرهم وأموالهم في يوم بدر بالفداء.

كما ينبغي الإِلتفات إِلى هذه اللطيفة التي أشارت إليها الآية 4 من سورة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي أنّ مسألة الفداء ليست إلزامية، فللحكومة الإِسلامية أن تبادل الأسرى متى ما رأت في ذلك مصلحة، أو أن تمن عليهم فتطلق سراحهم دون تعويض.

والمسألة المهمّة الأُخرى في شأن أسرى الحرب هي موضوع إصلاحهم وتربيتهم وهدايتهم، ولعل هذا الأمر غير موجود في المذاهب الماديّة، لكنّه مثار عناية وإهتمام أكيد في الجهاد من أجل تحرير الإِنسان وإصلاحه وتعميم الحق والعدل.

[499]

ولهذا فإنّ الآية الرّابعة من الآيات محل البحث تخاطب النّبي أن يدعو الأسرى إِلى الإِيمان بالله وإصلاح أنفسهم، ويرغبهم في كل ذلك، فتقول: (يا أيّها النّبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممّا أخذ منكم).

والمراد من كلمة «خيراً» في الجملة آنفة الذكر (إن يعلم الله في قلوبكم خيراً)هو الإِيمان وقبول الإِسلام أمّا المراد من كلمة «خير» في الجملة الأُخرى «يؤتكم خيراً» فهو الثواب أو الأجر المادي والمعنوي الذي ينالونه ببركة الإِسلام، وهو أعظم عند الله من الفداء بمراتب كثيرة!

ثمّ إضافة إِلى ذلك فسيشملكم لطف الله ويعفو عن سيئاتكم (ويغفر لكم والله غفور رحيم).

وحيث إنّ من الممكن أن يستغل بعض الأسرى إظهار الإِسلام ليسيء إِلى الإِسلام ويخون النّبي وينتقم من المسلمين، فإنّ الآية التالية تنذر النّبي والمسلمين وتنذر أُولئك من الخيانة فتقول: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل).

وأي خيانة أعظم من عدم الإِستجابة لنداء الفطرة والعزوف عن نداء الحق والعقل، والشرك بالله وعبادة الأصنام بدلا من الإِيمان بالله وتوحيده؟ ثمّ إنّ عليهم أن لا ينسوا نصرة الله لك (فأمكن منهم).

وإذا أرادوا الخيانة في المستقبل فلن يُفلحوا وسوف ينالون الخزي والخسران والهزيمة مرّة أُخرى. لأنّ الله مطلع على نيّاتهم، وجميع تعاليم الإِسلام في شأن الأسرى وفق حكمته (والله عليم حكيم).

وقد جاء في كتب الفريقين ـ الشيعة وأهل السنة ـ في ذيل الآيتين محل البحث أن العباس عم النّبي كان بين أسرى بدر، فطلبت جماعة من الأنصار أن لا يؤخذ عنه فداء إكراماً لرسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «والله لا تذرون منه درهماً»، (أي

[500]

إذا كان الفداء قانوناً إسلامياً عامّاً، فلا ينبغي أن يفرق بين عمي وبين أي أسير آخر).

وقال لعمّه العباس: «إدفع عنك وعن ابن أخيك ـ عقيل ـ الفداء».

فقال له العباس «وكان شغوفاً بالمال». يا محمّد أتريد أن تجعلني فقيراً حتى أمد يدي إِلى قريش؟!

فقال له النّبي: إعط فداءك من المال الذي أودعته عند أم الفضل ـ زوجتك ـ وقلت لها: إذا قتلت في ساحة المعركة فأنفقيه على نفسك وعلى أبنائك.

فتعجب العباس من هذا الإمر وقال: من أخبرك بهذا؟ «ولم يطلع عليه أحد أبداً» فقال رسول الله: أخبرني بذلك جبرائيل.

فقال العباس: أحلف بمن يحلف به محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعلم بذلك إلاّ أنا وزوجتي، ثمّ قال: أشهد أنك رسول الله، وأعلن إسلامه.

وعاد جميع أسرى بدر إِلى مكّة إلاّ العباس وعقيلا ونوفلاً، إذ أسلموا وبقوا في المدينة، والآيات محل البحث تشير إِلى حال أُولئك(1).

وجاء في شأن إسلام العباس في بعض التواريخ أنّه عاد إِلى مكّة بعد إسلامه، وكان يكتب إِلى النّبي عن مؤامرات المشركين ثمّ هاجر إِلى المدينة قبل السنة الثّامنة من الهجرة «عام فتح مكّة».

وفي كتاب قرب الإِسناد عن الإِمام الباقر عن أبيه الإِمام زين العابدين، أنّه جيء إِلى رسول الله ذات يوم بأموال كثيرة، فالتفت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى العباس وقال له: ابسط عباءتك أو «رداءك» وخذ من هذا المال، ففعل العباس وأخذ من ذلك المال، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): هذا ما قاله الله سبحانه وتلا قوله: (يا أيّها النّبي قل لمن في

_____________________________

1 ـ يراجع تفسير نورالثقلين، وروضة الكافي، وتفسير القرطبي، وتفسير المنار، ذيل الآية محل البحث.

[501]

أيديكم من الأسرى)(1).

وهو إشارة إِلى أن وعد الله قد تحقق عملياً في إيتان العباس خيراً ممّا أُخذ منه.

ويعرف من هذا الحديث أنّ النّبي كان في صدد أن يعوض الأسرى الذين أسلموا عمّا أُخذ منهم، ترغيباً وتشويقاً، وأن يعيد إليهم أموالهم المأخوذة منهم بصورة أحسن.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 168.

[502]

الآيات

اِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـهِدُوا بِأَمْوَلِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْض وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَـيَتِهِم مِّن شَىْء حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الِّدينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثـقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْض إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِى الاَْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ(73) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(74) وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَـهِدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُولُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِى كِتَـبِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمُ(75)

[503]

التّفسير

أربع طوائف مختلفة:

تبحث هذه الآيات التي تُختتم بها سورة الأنفال ـ وتُعدّ آخر فصل من فصولها ـ عن طوائف المهاجرين والأنصار والطوائف الأُخرى من المسلمين وبيان قيمة هؤلاء جميعاً، فتعطي كل طائفة قيمة، وتستكمل ما تناولته الآيات السابقة في شأن الجهاد والمجاهدين.

وبتعبير آخر: إنّ هذه الآيات عالجت نظام المجتمع الإِسلامي من حيث العلائق المختلفة، لأنّ خطة الحرب وخطة الصلح كسائر الخطط والمناهج العامّة، لا يمكن أن يتمّ أيّ منها دون تكوين علاقة إجتماعية صحيحة، وأخذها بنظر الإِعتبار.

وقد تناولت هذه الآيات خمس طوائف، أربع منها من المسلمين، وواحدة من غير المسلمين، والطوائف الأربع هي:

1 ـ المهاجرون السابقون.

2 ـ الأنصار في المدينة.

3 ـ المؤمنون الذين لم يهاجروا.

4 ـ الذين آمنوا من بعدُ وهاجروا.

فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث (إنّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أُولئك بعضهم أولياء بعض).

فقد أُشير في هذا القسم من الآية إِلى الطائفتين، الأُولى والثّانية [المهاجرون، والأنصار[ أي الذين آمنوا في مكّة ثمّ هاجروا منها إِلى المدينة، والذين آمنوا في المدينة ثمّ آزروا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونصروه ودافعوا عنه وعن المهاجرين، وقد وصفتهم الآية بأنّهم بعضهم أولياء بعض، وبعضهم حماة بعض.

[504]

والذي يسترعي النظر أنّ الآية وصفت الطائفة الأُولى بأربع صفات هي: الإِيمان، والهجرة والجهاد المالي والإِقتصادي «وذلك عن طريق الإِعراض عن أموالهم في مكّة، وما بذلوه من أموال في غزوة بدر»، والصفة الرّابعة جهادهم بأنفسهم ودمائهم وأرواحهم.

أمّا الأنصار فقد وصفتهم الآية بصفتين هما: الإِيواء، والنصرة.

وقد جعلت هذه الآية الجميع مسؤولين بعضهم عن بعض، ويتعهد كلّ بصاحبه بقولها (بعضهم أولياء بعض).

فهاتان الطائفتان ـ في الحقيقة ـ كانتا تمثلان مجموعتين متلازمتين لا يمكن لأحدهما الإِستغناء عن الأخرى، إذ منهما يتكون نسيج المجتمع الإِسلامي، فهما بمثابة «المغزل والخيط».

ثمّ تشير الآية إِلى الطائفة الثّالثة فتقول: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا).

ثمّ استثنت في الجملة التي بعدها مسؤولية واحدة فحسب، وأثبتتها في شأن هذه الطائفة، فقالت: (وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر ... إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق).

وبتعبير آخر: يلزم الدفاع عن أُولئك في صورة ما لو أصبحوا قبال عدوّ مشترك، أمّا إذا واجهوا كفاراً بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإنّه يجب الوفاء بالعهد والميثاق، وهي مقدمة على الدفاع في هذه الصورة.

وحضّت الآية على رعاية العهود والمواثيق والدقة في أداء هذه المسؤولية، ومنبهة إِلى علم الله بكل الأمور، فقالت: (والله بما تعملون بصير).

فهو يرى جميع أعمالكم ويطلع على ما تفعلون من جهاد، أو أداء للوظيفة الملقاة على عاتقكم، أو إحساس بالمسؤولية، كما يعلم بمن لم يعتنِ بالأمر، وكذلك بالوهن والضعف وعدم الإِحساس بالمسؤولية إزاء هذه الوظائف الكبيرة.

[505]

أمّا الآية الثّانية فتشير إلى النقطة المقابلة للمجتمع الإِسلامي، أي مجتمع الكفر وأعداء الإسلام، فتقول: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض).

أي أنّ علاقاتهم منحصرة فيما بينهم، ولا يحق لكم أن تتعاهدوا معهم، أو تحاموا عنهم، أو تطلبوا منهم النصرة لأنفسكم، أو تلجؤوهم وتؤووهم إليكم، أو تأووا وتلتجئوا إليهم.

وبعبارة موجِزَة: لا يحق للكفار أن يدخلوا في نسيج المجتمع الإِسلامي، ولا يحق للمسلمين أن يدخلوا في نسيج الكفار.

ثمّ تنبه الآية المسلمين وتحذرهم من مخالفة هذا التعليم، فتقول: (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).

وأي فتنة وفساد أكبر من تهميش انتصاركم، وسريان دسائس الأعداء في مجتمعكم، وتخطيطهم لهدم دينكم دين الحق والعدل.

أمّا في الآية التالية فنجد تأكيداً على مقام المهاجرين والأنصار مرّة أُخرى، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإِسلامي، فتثني عليهم الآية بقولها: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أُولئك هم المؤمنون حقّاً).

لأنّهم هبوا لنصرة الإِسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة لله ولرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) (لهم مغفرة ورزق كريم).

فهم فائزون بثواب الله والنعمة الأخروية، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزة ورفعة الرأس والكرامة.

أمّا الآية الأخيرة فتشير إِلى الطائفة الرّابعة من المسلمين، أي أُولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد، فتقول: (والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأُولئك منكم).

أي أنّ المجتمع الإِسلامي ليس مجتمعاً منغلقاً ومحصوراً على نفسه ،بل أبوابه

[506]

مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين، وإن كان للمهاجرين الأوائل مقام خاص ومنزلة كريمة، إلاّ أن ذلك لا يعني أن المؤمنين الجدد والمهاجرين في المستقبل لا يعدّون جزءاً من المجتمع الإِسلامي ولا يكونون من نسيجه.

وتشير الآية في ختامها إِلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض، وأوليتها فيما جعله الله في عبادة من أحكام، فتقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).

وفي الحقيقة فإنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة «بعضهم إِلى بعض» أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب، فهم إضافة إِلى ولاية الإِيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضاً، ومن هنا فهم يرثون ويورثون بعضهم بعضاً، إلاّ أنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم.

فبناءً على ذلك فإنّ الآية الأخيرة لا تتكلم عن الإِرث، بل تتكلم عن موضوع واسع من ضمنه موضوع الإِرث.

وإذا وجدنا في الرّوايات الإِسلامية، وفي الكتب الفقهية، استدلالا بهذه الآية والآية المشابهة لها في سورة الأحزاب على الإِرث، فلا يعني ذلك أن الآي الذي استُدل به على الإِرث منحصر بهذا الشأن فحسب، بل توضح قانوناً كليّاً، والإِرث جزء منه. ولهذا نجد أنّه استُدل بهذه الآية محل البحث على موضوع خلافة النّبي مع أنّها غير داخلة في موضوع الإِرث المالي.

واستُدل بها على أولوية غسل الميت، كما صّرحت به الرّوايات الإِسلامية.

وبملاحظة ما ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا دليل على ما أصر عليه جماعة من المفسّرين على انحصار هذه الآية بمسألة الإرث، وإذا أردنا أن نختار مثل هذا التّفسير فإنّ السبيل الوحيد له أن نعده مستثنياً الإِرث من الولاية المطلقة، التي بيّنتها الآيات السابقة لعامّة المهاجرين والأنصار، فنقول: إنّ الآية الأخيرة تقول

[507]

بأنّ ولاية المسلمين العامّة بعضهم لبعض لا تشمل الإِرث.

وأمّا الإِحتمال بأنّ الآيات السابقة تشمل الإِرث أيضاً ثمّ نسخت الآية الأخيرة هذا الحكم منها، فيبدو بعيداً جدّاً، لأنّ الترابط في المفهوم بين هذه الآيات جميعاً من الناحية المعنوية، بل حتى التشابه اللفظي، كل ذلك يدل على أنّ الآيات نزلت معاً في وقت واحد. وبهذا لا يمكن القول بالتناسخ بين هذه الآيات.

وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأكثر تناسباً لهذه الآيات هو ما بيناه آنفاً.

وفي آخر جملة من هذه الآية ـ التي هي آخر جملة من سورة الأنفال أيضاً ـ يقول الله سبحانه: (إنّ الله بكل شيء عليم).

فما نزل في هذه السّورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب، وتعاليم الجهاد والصلح، وأحكام الأسرى والحرب، وما يتعلق بالهجرة وغيرها، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإِنساني، والعواطف والبشرية، والمصالح العامّة في جميع جوانبها المختلفة.

* * *

ملاحظات

1 ـ الهجرة والجهاد

إنّ دراسة التاريخ الإِسلامي تدلّ على أن هذين الموضوعين كانا من عوامل انتصار المسلمين الرئيسية قبال عدوّهم، فلولا الهجرة لتمّ دفن الإسلام في مكّة، ولو لا الجهاد لما اتسعت رقعة الإِسلام، فالهجرة أخرجت الإِسلام من منطقة خاصّة إِلى مداه الرحب وصيرته عالميّاً، والجهاد علّم المسلمين أنّهم إذا لم يعتمدوا على قدراتهم فإنّ عدوّهم الذي لا يلتزم بأية مقررات سوف لا يعترف لهم بأدنى حقّ. سوف لا يعطيهم حقوقهم المشروعة، ولا يصيخ لهم سمعاً أبداً.

واليوم إذا أردنا انقاذ الإِسلام من الطرق المسدودة، وإزاحة الموانع التي

[508]

جعلها الأعداء في طريقه من كل جهة، فلا سبيل إِلى ذلك إلاّ باحياء هذين الاصلين: الهجرة والجهاد.

فالهجرة توصل صوت المسلمين إِلى أسماع العالم كله، وتروي ظمأ القلوب المتعطشة للحق والعدل ومن هو في شوق إِلى معرفة الحقيقة.

والجهاد يهب المسلمين التحرك والحياة، ويبعد اعداءهم الذين لا ينفعهم إلاّ منطق القوة عن قارعة الطريق ويبيدهم.

وقد حدثت الهجرة في الإِسلام مراراً. فكانت هجرة المسلمين من مكّة إِلى الحبشة حيث غرسوا بها الإِسلام خارج الجزيزة العربية وبنوا فيها حصناً للمسلمين الأوائل قبال ضغوط أعدائهم.

ثمّ هجرة النّبي والمسلمين الأولى إِلى المدينة، ولهؤلاء المهاجرين الذين يطلق عليهم (مهاجروا بدر) أهمية قصوى في تأريخ الإِسلام، لأنّهم اتّجهوا ظاهراً نحو مستقبل مجهول مظلم، وغضوا ابصارهم عن جميع ما ملكوه في سبيل الله، وأعرضوا عن حطام الدنيا.

هؤلاء المهاجرين أي: «المهاجرون الأوّلون» مثلوا في الحقيقة الحجر الأساس لصرح الإِسلام العظيم، والقرآن يثني عليهم بالتكريم والتعظيم، ولوليهم عناية خاصّة، لأنّهم كانوا من أشد المسلمين تضحيةً.

«الهجرة الثّانية» أُطلقت على هجرة طائفة أُخرى من المسلمين إلى المدينة، وذلك بعد صلح الحديبية والحصول على محيط آمن نسبياً بعد هذا الصلح، وقد تطلق الهجرة على كل مهاجر من مكّة إلى المدينة حتى بعد واقعة بدر، وإلى زمان فتح مكّة.

أمّا بعد فتح مكّة فقد انتفت الهجرة من مكّة إِلى المدينة، لأنّ مكّة أصبحت مدينة إسلامية أيضاً، والحديث النبوي المشهور «لا هجرة بعد الفتح» يشير إِلى هذا المعنى.

[509]

لكن هذا الكلام لا يعني أن مفهوم الهجرة زاك من قاموس مباديء الإِسلام كليّاً كما يتصور بعضهم، بل الهجرة من مكّة إِلى المدينة انتفى موضوعها، وإلاّ فمتى ما حدثت ظروف كظروف المسلمين الأوائل فقانون الهجرة باق على قوته، وسوف يبقى مادام الإِسلام يتسع حتى يستوعب العالم أجمع.

ومع الأسف الشديد فإنّ أغلب المسلمين لنسيانهم هذا الأصل الإِسلامي المهم انغلقوا على أنفسهم، بينما نرى المبشرين المسيحيين والفرق الضالة والإِستعمار يهاجرون إِلى أنحاء المعمورة كلها، ويذهبون حتى إِلى القبائل أو الطوائف المتوحشة ممن يأكلون لحوم البشر في مجاهيل أفريقيا، ويجوبون القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي في سبيل تحقيق أهدافهم، مع أن هذه مهمّة المسلمين في الواقع، إلاّ أن العمل أضحى من الآخرين!

والأعجب من ذلك وجود الكثير من القرى في جوار المدن الإِسلامية الكبرى، وبمسافة لا تبعد كثيراً عنها، إلاّ أن أهلها لا يعرفون عن الإِسلام شئياً، ولا يعرفون أحكامه، وربّما لم يروا وجه مبلغ إسلامي هناك أبداً. لهذا فإنّ محيطهم مستعد لنشوء جراثيم الفساد والمذاهب المختلقة والبدع التي يفتعلها «الإِستعمار» ولا ندري بماذا يجيب المسلمون ربّهم يوم القيامة ـ وهم ورثة المهاجرين الأوائل ـ إزاء هذه الحال المزرية؟!

وبالرغم من مشاهدة تحرك في هذا الصدد أخيراً، إلاّ أنّه محدود وغير كاف ابداً.

وعلى أية حال، فإن موضوع الهجرة وأثرها في تاريخ الإِسلام ومصير المسلمين أكبر من أن نأتي على جميع جوانبه بهذا الإِختصار (ولنا كلام بهذا الشأن لدى تفسير الآيات التي تتناول هذا الموضوع إن شاء الله ...).

2 ـ المبالغة والإِغراق في تنزيه الصحابة

[510]

حاول بعض إخواننا أهل السنة أن يستنتج من ما أولاه القرآن للمهاجرين السابقين «الأوائل» من إهتمام واحترام، أنّهم لن يرتكبوا ذنباً إِلى آخر عمرهم وحياتهم. وذهبوا إِلى اكرامهم واحترامهم جميعاً دون استثناء، ودون الاعتراض على هذا وذاك، وكيف ذلك؟! ثمّ عمموا هذا القول على جميع الصحابة ـ فضلا عن المهاجرين ـ وذلك لثناء القرآن عليهم في بيعة الرضوان وغيرها، وذهبوا عملا إِلى أنّ الصحابة ـ دون النظر إِلى اعمالهم ـ أفراد متميزون. فلا يحق لأيّ شخص توجيه النقد لهم والتحقيق في سلوكهم. يجوز بأيّ وجه أن يوجه النقد إليهم.

ومن جملة هؤلاء المفسّر المعروف صاحب المنار، إذ حمل في ذيل الآيات محل البحث حملة شعواء على الشيعة، لأنّهم ينتقدون المهاجرين الأولين، ولم يلتفت إِلى أن مثل هذا الإِعتقاد لا يتضاد وروح الإِسلام وتاريخه!!

فلا ريب أنّ للصحابة ـ وعلى الخصوص المهاجرين منهم ـ حرمةً خاصّة، إلاّ أنّ هذه الحرمة كانت قائمة ما داموا في طريق الحق ويضحّون من أجل الحق، لكن من المقطوع به أن نظرة القرآن إِلى بعضهم أو حكمه قد تغير منذ انحرف عن النهج القويم والصراط المستقيم.

فمثلا، كيف يمكننا أن نبرىء طلحة والزبير من نقضهما بيعة إمامهما الذي انتخبه المسلمون «بغض النظر عن تصريح النّبي بمقامه وشأنه» وكانا من ضمن المسلمين الذين بايعوه؟ وكيف يمكن تبرأتهما من دماء سبعة عشر ألف مسلم قتلوا في حرب الجمل، مع أنّه لا عذر لمن يفسك دم إنسان واحد أمام الله مهما كان، فكيف بهذا العدد الهائل الذين سفكت دماؤهم؟

ترى هل يمكن أن نعدّ عليّاً(عليه السلام) وأصحابه في حرب الجمل على الحق كما نعدّ أعداءه فيها على الحق أيضاً؟! ونعد طلحة والزبير ومن معهما من الصحابة على الحق كذلك؟! وهل يقبل العقل والمنطق هذا التضاد الفاضح؟

وهل يمكننا أن نغض النظر من أجل عنوان «تنزيه الصحابة» ولا نلتفت إلى

[511]

التأريخ وننسى كل ما حدث بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونضرب عرض الجدار قاعدة (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)؟

مالكم كيف تحكمون؟!

وما يمنع أن يكون الإنسان من أهل الجنّة ومؤيداً للحق يوماً، ويكون من أهل النّار ومؤيداً للباطل ومن أعداء الحق يوماً آخر؟ ... فهل الجميع معصومون؟ ألسنا نرى التغييرات في أحوال الأشخاص بأم أعيننا؟!

قصة «اصحاب الردّة» وارتداد جمع من المسلمين بعد رحلة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)مذكورة في كتب أهل السُنّة والشّيعة، وأن الخليفة الأوّل تصدى لهم وقاتلهم، فهل يعقل أنّ أحداً من «اصحاب الردّة» لم ير النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكونوا في عدّة الصحابة؟

والأعجب من ذلك أنّ بعضاً تشبت بالإِجتهاد للتخلص من الطريق المسدود والتناقض في ذلك، وقالوا: إن أمثال طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفهم قد اجتهدوا فأخطأوا وليسوا مذنبين، بل هم مثابون مأجورون بأعمالهم من قبل الله! فما أفضح هذا المنطق؟!

فهل الثورة على خليفة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونقض البيعة وهدر دماء الآلاف من الأبرياء من أجل رئاسات دنيوية وحب المال، موضوع معقد ومبهم ولا يعرف أحد ما فيه من سوء؟!

ترى هل في سفك كل تلك الدماء البرئية أجر وثواب عند الله؟!

فإذا أردنا تبرئة جماعة من الصحابة ممّا ارتكبوه من جرائم، فسوف لا نرى مجرماً أو مذنباً في الدنيا، وسنبرىء بهذا المنطق جميع القتلة والمجرمين والجبابرة.

إنّ مثل هذا الدّفاع غير المنطقي ـ عن الصحابة ـ سيسبب النظرة السيئة إِلى أصل الإِسلام.

والخلاصة، أنّنا لا سبيل لنا إلاّ احترام الجميع خاصّة أصحاب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)

[512]

ماداموا لم ينحرفوا عن مسير الحق والعدل ومناهج الإِسلام، وإلاّ فلا.

3 ـ الإِرث في قوانين الإِسلام

كما أشرنا سابقاً في تفسير سورة النساء، فإنّ الناس في زمان الجاهلية كانوا يتوارثون عن ثلاث طرق:

1 ـ عن طريق النسب «وكان منحصراً بالأولاد الذكور، أمّا الأطفال والنساء فهؤلاء محرومون من الإِرث».

2 ـ وعن طريق «التبني» بأن يجعل ولد غيره ولَده.

3 ـ وعن طريق العهد الذي يعبر عنه بالولاء(1).

وفي بداية الإسلام كان العمل جارياً بهذه الطرق قبل نزول قانون الإِرث، إلاّ أنّه سرعان ما حلّت الأخوة الإِسلامية مكان ذلك، وورث المهاجرون الأنصار فحسب، وهم الذين تآخوا وعقدوا عهد الأخوة الإِسلامية، وبعد أن اتسع الإِسلام أكثر فأكثر شُرّع حكم الإرث النسبي والسببي، ونسخ حكم الأخوة الإِسلامية في الإِرث.

وقد أشارت إليه الآيات ـ محل البحث ـ والآية (6) من سورة الأحزاب، إذ تقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).

كل هذا مقطوع به من حيث التاريخ، إلاّ أنّه ـ كما قلنا من قبل ـ فإن جملة (وأولو الأرحام) الواردة في الآيات محل البحث لا تختص بمسألة الإِرث، بل هي ذات معنى واسع، والإِرث جزء منه.

4 ـ ما المراد من الفتنة والفساد الكبير

احتمل المفسّرون في تفسير هاتين الكلمتين الواردتين في الآيات محل

_____________________________

1 ـ بحثنا موضوع الإِرث بالولاء في الجزء الثّالث بصورة مفصلة.

[513]

البحث احتمالات كثيرة، إلاّ أنّ ما ينسجم أكثر مع مفهوم هذه الآية هو أنّ المراد من «الفتنة» هو الإِختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإِسلامية على أثر وسوسة الأعداء، و«الفساد» يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الإِجتماعية المختلفة وخاصّة سفك الدماء البريئة والارهاب وأمثال ذلك.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن المجيد ينذر المسلمين إذا لم يحكموا علائق الأخوة والتعاون فيها بينهم، ولم يقطعوا ارتباطهم بالعدوّ، فإنّ جماعتهم تزداد تشتتاً يوماً بعد يوم، وبنفوذ الأعداء داخل المجتمع الإِسلامي ووساوس إغواءاتهم تزلزل أُسس الإِيمان وقواعده، ويبتلى المسلمون عن هذا الطريق بفتنة عظيمة.

وكذلك إذا لم تكن علائق إجتماعية قوية، فإنّ العدو سرعان ما ينفذ إِلى المجتمع وتحدث أنواع المفاسد من ارهاب وسفك الدماء، وتضيع الأموال واغواء الأولاد، ويبدو الضعف والنقص واضحاً في المجتمع، ويعم الفساد الكبير كل مكان.

ربّنا، أيقظ مجتمعنا الإِسلامي بلطفك. ونَبهّنا إِلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم. ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=749
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28