• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة يوسف من أول السورة ـ آية 18 من ( 109 ـ 163 ) .

سورة يوسف من أول السورة ـ آية 18 من ( 109 ـ 163 )

[109]

سُورَة يُــوسُـفْ

مكيّة

وعَدَدُ آيَاتَها مَائة وَاحدى عشرة آية

[111]

 

«سُورة يوسف»

«بداية سورة يوسف»

قبل الدخول في تفسير آيات هذه السورة ينبغي ذكر عدّة أمور:

1 ـ لا إِشكال بين المفسّرين في أنّ هذه السورة نزلت في مكّة، سوى ما نُقل عن ابن عباس أنّ أربع آيات مدنية (الآيات الثلاث في أوّل السورة والآية السّابعة منها).

ولكن التدقيق في ارتباط هذه الآيات بعضها مع البعض الآخر في هذه السورة يجعلنا غير قادرين على التفكيك بينها، فاحتمال نزول هذه الآيات الأربع في المدينة ـ على هذا الأساس ـ بعيد جدّاً.

2 ـ جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة تبيّن قصّة نبيّ الله يوسف(عليه السلام). القصّة الطّريفة والجميلة والتي تحمل بين طيّاتها العِبَر. ولذلك سمّيت هذه السورة باسم «يوسف» وبهذه المناسبة ـ أيضاً ـ ورد ذكر يوسف ـ من مجموع (27) مرّة في القرآن ـ (25) مرّة في هذه السورة ومرّة واحدة في سورة غافر الآية (34) ـ ومرّة أُخرى في سورة الأنعام الآية (84).

ومحتوى هذه السورة ـ على خلاف سور القرآن الأُخرى ـ مرتبط بعضه ببعض، ويبيّن جوانب مختلفةم من قصّة واحدة وردت في أكثر من عشرة فصول، مع بيان أخاذ موجز، عميق، وطريف ومثير.

وبالرغم من أنّ القصّاصين غير الهادفين، أو من لهم اغراض رخيصة سعوا الى أن يحوّلوا هذه القصّة المهذّبة الى قصّة عشق يحرك أهل الهوى والشهوة!!

[112]

وأن يمسخوا الوجه الواقعي ليوسف(عليه السلام) بحيث بلغت الحال أن يصوروا «فيلماً سينمائياً» وينشروه بصورة مبتذلة ... إِلاّ أنّ القرآن ـ وكلّ ما فيه أسوة وعبرة ـ عكس في ثنايا هذه القصّة أسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والإِيمان، حتى لو أنّ إِنساناً قرأها عدة مرات فإنّه يتأثر ـ بدون اختيار ـ بأسلوبها الجذّاب في كل مرّة.

ولذا فقد عبّر القرآن عنها بـ(أحسن القصص) وجعل فيها العبر للمعتبرين (أولي الألباب).

3 ـ التدقيق في آيات هذه السورة يكشف هذه الحقيقة للإِنسان، وهي أنّ القرآن معجز في جميع أبعاده، لأنّ الأبطال الذين يقدمهم في قصصه أبطال حقيقيّون لا خياليّون، وكل واحد في نفسه منهم منعدم النظير:

فإِبراهيم(عليه السلام): البطل الذي حطّم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل المساومة مع الطغاة.

ونوح(عليه السلام): بطل الصبر والإِستقامه والشفقة والقلب المحترق في ذلك العمر الطويل المبارك.

وموسى(عليه السلام): البطل المربّي لقومه اللجوجين، والذي وقف بوجه فرعون المتكبر الطاغي.

ويوسف(عليه السلام): بطل الورع والتقوى والطهارة ... أمام امرأة محتالة جميلة عاشقة.

بعد هذا كلّه تتجلّى القدرة البيانية للوحي القرآني بصورة تحيّر الإِنسان، لأنّ هذه القصّة ـ كما نعرف ـ تنتهي في بعض مواردها الى مسائل العشق ودون أن يمسخها القرآن أو يتجاوزها يتعرض الى الأحداث في مسرحها بدقة بحيث لا يحس السامع شيء غير مطلوب فيها. ويذكر القضايا بأجمعها في المتن، ولكن تحفّها أشعة قوية من التقوى والطهارة.

[113]

4 ـ قصّة يوسف قبل الإِسلام وبعده

لا شكّ أنّ قصّة يوسف كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإِسلام، لأنّها مذكورة في (14) فصلا من [سفر التكوين] في التوراة بين [الفصل 37 ـ 50] ذكراً مفصلا.

وبطبيعة الحال فإنّ المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الأربعة عشر تكشف مدى الإِختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.

وبالمقارنة بين نصّ التوراة ونصّ القرآن نجد أنّ نصّ القصّة في القرآن في غاية الصدق وتخلو من أي خرافة.

وما يقوله القرآن للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (وإِن كنت من قبله لمن الغافلين) يشير الى قصّة يوسف التي عبّر عنها بأحسنِ القصص، حيث لم يكن النّبي مطّلعاً على حقيقتها الخالصة.

ويظهر من التوراة أنّ يعقوب(عليه السلام) لما رأى قميص يوسف ملطخاً بالدم قال: هذا قميص ولدي وقد أكله الحيوان المفترس، فيوسف مّمزق الأحشاء ثمّ خرّق يعقوب ثوبه وشدّ الحزام على ظهره وجلَسَ أيّاماً للبكاء والنواح على يوسف، وقد عزّاه جميع أبنائه ذكوراً وإِناثاً إِلاّ أنه امتنع أن يقبل تعزيتهم وقال: سأُدفن في القبر حزناً على ولدي.

بيد أنّ القرآن يبيّن: إِنّ يعقوب لم يصدّق ما قاله أولاده، ولم يفزع ولم يجزع لمصيبة ولده يوسف، بل أدّى ما عليه من سنّة الأنبياء من الصبر والتوكل على الله، وقال لأبنائه: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) وإِن كان قلبه يحترق على فراق ولده وعيناه تدمعان من أجله حتى ابيضتا وعميتا، ولكن ـ وكما يعبر القرآن ـ لم يقم بأي عمل من قبيل تخريق الثوب والنواح وشدّ الحزام على ظهره ـ والذي كان علامة للمصيبة و«العزاء» ـ وإِنّما قال: «صبر جميل» وكتم حزنه «فهو كظيم».

[114]

وعلى كل حال فإنّ هذه القصّة ـ بعد الإِسلام ـ تناقلتها أقلام مؤرخي الشرق والغرب ... وأحياناً مع أغصان وأوراق إِضافية.

5 ـ لِمَ ذكرت قصّة يوسف في مكان واحد على خلاف قصص سائر الأنبياء؟!

إِنّ من خصائص قصّة يوسف البارزة أنّ هذه القصّة ذكرت في مكان واحد من القرآن، على خلاف قصص الأنبياء التي ذكرت على شكل فصول مستقلة في سور متعددة من القرآن.

والحكمة في ذلك تعود الى أن تفكيك فصول هذه القصّة مع ملاحظة وضعها الخاص يفقدها ترابطها وانسجامها، فلهذا ينبغي أن تذكر كاملة في مكان واحد للحصول على النتيجة المتوخاة وعلى سبيل المثال فان الرؤيا وما ذكره أبوه من تعبير في أوّل هذه السورة يفقد معناه دون ذكر نهايتها.

لذلك نقرأ في أواخر هذه السورة، حين جاء يعقوب وإِخوة يوسف الى مصر وخرّوا له سجداً قال يوسف ملتفتاً الى أبيه: (يا أبت هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربّي حقّاً)(1).

هذا النموذج يوضح الإِرتباط الوثيق بين بداية السورة ونهايتها، في حين أنّ قصص الأنبياء الآخرين ليست على هذه الشاكلة، ويمكن درك كل واحدة من خلال فصولها.

والخصيصة الأُخرى خصائص هذه السورة هي أنّ قصص الأنبياء التي وردت في السور الأُخرى من القرآن تبيّن عادة مواجهة الأنبياء لقومهم المعاندين والطغاة، ثمّ تنتهي الحالة الى إِيمان جماعة بالأنبياء ومخالفة جماعة أُخرى لهم واستحقاقهم عذاب الله وعقابه.

_____________________________

1 ـ الآية 100.

[115]

أمّا في قصّة يوسف فلا كلام عن هذا الموضوع، بل أكثر ما فيها بيان حياة يوسف نفسه ونجاته من المزالق الخطيرة التي تنتهي أخيراً الى استلامه سدّة الحكم، وهي في حدّ ذاتها «أنموذج» خاص.

6 ـ فضيلة سورة يوسف

وردت في الرّوايات الإِسلامية فضائل مختلفة في تلاوة هذه السورة، ونقرأ من ضمنها حديثاً عن الإِمام الصادق(عليه السلام) حيث يقول: «من قرأ سورة يوسف في كل يوم أو في كل ليلة، بعثُه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع يوم القيامة، وكان من خيار عباد الله الصالحين»(1).

إِنّ الرّوايات التي وردت في فضائل سور القرآن ـ كما قلنا مراراً ـ ليس معناها القراءة السطحيّة دون تفكر وعمل، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر ... التفكر الذي يجر الى العمل، ومع ملاحظة محتوى هذه السورة يتّضح أن من يستلهم خطة حياته من هذه القصّة، ويعفّ نفسه أمام طوفان شديد من الشّهوات والمال والجاه والمقام، الى درجة يرى بها حفرة السجن المظلمة مقرونة بطهارة الثوب أفضل من الحياة في قصور الملوك الملوّثة، فإنّ مَثَل هذا الشخص في جمال روحه كجمال يوسف، وما من خفيّ إِلاّ ظهر يوم القيامة ... وسيجد له جمالا مذهلا ويكون في صف عباد الله الصالحين.

وممّا يلزم ذكره أنّه ورد في عدد من الأحاديث النهي عن تعليم هذه السورة «للنساء»، ولعلّ السرّ في ذلك هو ما في الآيات المرتبطة بامرأة عزيز  مصر ... فبالرغم من سرد القصّة في بيان عفيف، إِلاّ أنّها سبب لتحريك بعض النساء أيضاً ... وقد جاء التأكيد على تعليم سورة «النّور» المشتملة على آيات الحجاب للنساء بدلا من سورة يوسف.

_____________________________

1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية.

[116]

ولكن سند هذه الرّوايات بشكل عام لا يُعتمد عليه، إِضافة الى ذلك فقد ورد في بعض الرّوايات الأُخرى خلاف ذلك حيث ترغّب في تعليم هذه السورة للعائلة. وبعد هذا كلّه فإنّه التدقيق في آيات هذه السورة يكشف أنّ هذه السورة، ليس فيها أيّة نقطة سلبية بالنسبة للنساء، وليس هذا فحسب، بل إِن ماجرى لإمرأة عزيز مصر، درسٌ فيه عبرة لجميع النسوة اللائي يبتلين بالوساوس الشيطانيّة.

* * *

[117]

الآيات

الر تِلْك ءَايَـتُ الْكِتَـبِ الْمُبِينِ(1) إِنَّآ أَنزَلْنَـهُ قُرْءَناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَـفِلِينَ(3)

التّفسير

أحسن القصص بين يديك:

تبدأ هذه السورة بالحروف المقطعة «ألف. لام. راء» وهي دلالة على عظمة القرآن، وإِنّ تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكوّن من أبسط الأجزاء، وهي حروف الهجاء «ألف ـ باء .. الخ» وقد تحدثنا عن الحروف المقطعة في القرآن ـ حتى الآن ـ في ثلاثة مواضع «بداية سورة البقرة، وآل عِمران، والأعراف» بقدر كاف ... فلا ضرورة للتكرار، وأثبتنا دلالتها على عظمة القرآن.

وربّما كان لهذا السبب أن تأتي الإِشارة ـ بعد هذه الحروف المقطعة مباشرةً ـ الى بيان عظمة القرآن في هذه السورة، فتقول: (تلكَ آيات الكتاب المبين).

وممّا يستلفت النظر أنّه اُستُفيد من اسم الإِشارة «تلك» في هذه الآية للبعيد، نظير ما جاء في بداية سورة البقرة وبعض السور القرآنية الأُخرى. وقد قلنا: إِنّ

[118]

مثل هذه التعبيرات جميعاً يشار بها الى عظمة هذه الآيات، أي أنّها بدرجة من الرفعة والعلوّ كأنّها في نقطة بعيدة لا يمكن الوصول إِليها ببساطة، بل بالسعي والجدّ المتواصل ... فهي في أوج السّماوات وفي أعالي الفَضاء اللامتناهي، لا أنّها مطالب ومفاهيم رخيصة يحصل عليها الانسان في كل خطوة.

ثمّ يأتي البيان عن الهدف من نزول الآيات فيقول: (إِنّا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون).

فالهدف إِذن ليس القراءة أو التلاوة أو التيمّن أو التبرك بتلاوة هذه الآيات فحسب، بل الهدف الأساسي هو الإِدراك ... الإِدراك القوي الذي يدعو الإِنسان الى العمل بجميع وجوده.

وأمّا سرّ كون القرآن عربياً فهو بالإِضافة الى أنّ اللغة العربية واسعة كما يشهد بذلك أهل المعرفة باللغات المختلفة من العالم، بحيث تستطيع أن تكون ترجماناً للسان الوحي، وأن تبيّن المفاهيم الدقيقة لكلام الله سبحانه، فمن المسلم به ـ بعد هذا ـ أنّ نور الإِسلام بزغ في جزيرة العرب التي كانت منطلقاً للجاهلية والظلمة والتوحّش والبربرية، ومن أجل أن يجمع أهل تلك المنطقة حول نفسه فينبغي أن يكون القرآن واضحاً مشرقاً، ليُعلّم أهل الجزيرة الذين لاحظ لهم من الثقافة والعلم والمعرفة، ويخلق بذلك مركزاً محورياً لانتشار هذا الدين الى سائر نقاط العالم.

وبطبيعة الحال فإنّ القرآن بهذه اللغة «العربيّة» لا يتيسّر فهمه لجميع الناس في العالم (وهذا شأن أية لغة أُخرى) لأنّنا لا نملك لغة عالمية ليفهمها جميع الناس، ولكن ذلك لا يمنع من أن يستفيد من في العالم من تراجم القرآن، أو أن يطلعوا تدريجاً على هذه اللغة ليتلمسوا الآيات نفسها ويدركوا مفاهيم الوحي في طيّات هذه الألفاظ.

وعلى كل حال فالتعبير بكون القرآن عربياً ـ الذي تكرر في عشرة موارد

[119]

من القرآن ـ جواب لأولئك الذين يتهمون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه تعلم القرآن من أعجمي، وأنّ محتوى القرآن مستورد وليس وحياً إِلهياً.

وهذه التعبيرات المتتابعة تحتم ضمناً وظيفةً مفروضة على جميع المسلمين، وهي أن يسعوا جميعاً الى معرفة اللغة العربية وأن تكون اللغة الثانية الى جانب لغتهم، لأنّها لغة الوحي ومفتاح فهم حقائق الإِسلام.

ثمّ يقول سبحانه: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إِليك هذا القرآن وإِن كنت من قبله لمن الغافلين).

يعتقد بعض المفسّرين أنّ (أحسن القصص) إِشارة الى مجموع القرآن، وأنّ جملة (بما أوحينا إِليك هذا القرآن) قرينة على ذلك. والقصّة هنا ليست بمعنى سرد الحكاية، بل المراد معناها «الجذري» في اللغة وهو البحث عن آثار الشيء. وبما أنّ أي موضوع ـ حين يشرح ويفصّل ـ يبيّن بكلمات متتابعة، فلذلك يطلق عليه قصّة أيضاً.

وعلى كل حال فإنّ الله سبحانه عبّر بـ(أحسن القصص) عن مجموع هذا القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح، وأفصح الألفاظ وأبلغها، مقرونةً بأسمى المعاني وأدقّها، بحيث يبدو ظاهرهُ عذباً جميلا، ومن حيث الباطن فمحتواها عظيم.

ونشاهد في روايات متعددة أنّ هذا التعبير استعمل في مجموع القرآن، رغم أنّ هذه الرّوايات لم ترد في تفسير هذه الآية ـ محل بحثنا ـ .

فمثلا نقرأ حديثاً نقله علي بن إِبراهيم عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إِنّ أحسن القصص هذا القرآن»(1).

كما نقل في روضة الكافي عن خُطبة لأمير المؤمنين قوله: «إِن أحسن

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 49.

[120]

القصص وأبلغ الموعظة وأنفع الذكر كتاب الله»(1).

ولكنّ ارتباط الآيات المقبلة التي تبيّن قصّة يوسف(عليه السلام) مع هذه الآية ـ محل البحث ـ بشكل يشدّ ذهن الإِنسان الى هذا المعنى، وهو أنّ الله عبر عن قصّة يوسف بـ(أحسن القصص) وربّما لا ينقدح في أذهان الكثيرين ممن يطالعون بداية آيات هذه السورة غير هذا المعنى.

وقلنا مراراً أنّه لا مانع من أن تكون مثل هذه الآيات للمعنيين جميعاً ... فالقرآن هو أحسن القصص بصورة عامّة، وقصّة يوسف هي أحسن القصص بصورة خاصّة.

ولم لا تكون هذه القصّة أحسن القصص، مع أنّها ترسم في فصولها المثيرة أسمى دروس الحياة؟!

فنحن نشاهد حاكمية إِرادة الله على كل شيء هذه القصّة، وننظر بأعيننا المصير الأسود الذي انتهى إِليه الحُسّاد وما رقموه على الماء من خِطط.

كما تتجسم من خلال سطورها الذلةُ في الإِبتذال وعدم العفة، والعظمة في التقوى ومنظر الصبيّ وهو وحيد في قعر الجبّ، وفي مشهد آخر نراه يقضي الليالي والأيّام دون ذنب في حفرة السجن المظلم، ثمّ انبثاق نور الأمل من خلف حجب اليأس والظّلمات، ثمّ نشاهد بعد ذلك حكومته العظيمة الواسعة نتيجة دراسته وأمانته. كل هذه المشاهد تتجلّى للقارىء لهذه القصّة بشكل رتيب.

لحظات وبسبب رؤيا يتحول مصير أُمّة ... إنقاذ اُمّة ومجتمع بشري من الهلكة على يد قائد إِلهي متيقظ ... وعشرات الدروس الأُخرى ـ الكبيرة ـ التي تلوح في هذه القصّة، فلم لا تكون هذه القصّة أحسن القصص؟!

غاية ما في الأمر أنّه لا تكفي أن تكون قصّة يوسف وحدها هي أحسن القصص، بل المهم أن تكون فينا الجدارة لأنّ نفهم هذا الدرس العظيم وأن نعرف

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 49.

[121]

مكانه من نفوسنا.

فكثيرٌ مِنَ الناس لا يزال ينظر الى قصّة يوسف(عليه السلام) على أنها حادثة عشق طريف، ومثله كمثل الدابّة التي يلوح لها البستان النضر المليء بالأزهار، إِلاّ أنّها تراه حفنة من «العلف» تسدُّ جوعها:

وما يزال الكثير من الناس يضفي على القصّة افرازات خيالية كاذبة ليحرّف القصّة عن واقعها ... وهذا من عدم اللياقة وفقدان الجدارة وعدم قابلية المحل، وإِلاّ فإنّ أصل القصّة جمع كل أنواع القيم الإِنسانية العليا في نفسه.

وسنرى في المستقبل ـ بإِذن الله ـ أنّه لا يمكن تجاوز فصول هذه القصّة الجامعة والجميلة وكما يقول الشاعر في هذه القصّة:

يَسكرُ من عطر الزهور الفتى حتى يُرى مفتقداً ثوبه!

* * *

أثر القصّة في حياة الناس

مع ملاحظة أنّ القسم المهمّ من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للأُمم السابقة وقصص الماضين، فقد يتساءل البعض: لِمَ يحملُ هذا الكتاب التربوي كل هذا «التأريخ» والقصص؟!

وتتضح العلة الحقيقية للموضوع بملاحظة عدّة نقاط:

1 ـ إِنّ التاريخ مختبر لنشاطات البشرية المختلفة، وما رسمه الإِنسان في ذهنه من الأفكار والتصورات يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ. وبملاحظة أنّ أكثر المعلومات البشرية توافقاً مع الواقع والحقيقة هي التي تحمل جانباً حسيّاً، فإنّ دور التاريخ في إِظهار الواقعيّات الحياتية يمكن دركه جيداً.

فالإِنسان يرى بأُم عينيه الهزيمة المُردية ـ لأمّة ما ـ نتيجة اختلافها وتفرقها، كما يرى النجاح المشرق في قوم آخرين في ظل اتّحادهم وتوافقهم. فالتاريخ

[122]

يتحدّث بلغة ـ من دون لسان ـ عن النتائج القطعية وغير القابلة للإِنكار للتطبيقات العملية للمذاهب والخطط والبرامج عند كل قوم.

وقصص الماضين مجموعة من أكثر التجارب قيمة. ونعرف أنّ خلاصة الحياة ومحصولها ليس شيئاً سوى التجربة.

والتاريخ مرآة تنعكس عليها جميع ما للمجتمعات الإِنسانية من محاسن ومساوىء ورقي وانحطاط والعوامل لكلّ منها.

وعلى هذا فإِنّ مطالعة تاريخ الماضين تجعل عمر الإِنسان طويلا بقدر أعمارهم حقّاً، لأنّها تضع مجموعة تجاربهم خلال أعمارهم تحت تصرفه واختياره.

ولهذا يقول الإِمام علي(عليه السلام) في حديثه التاريخي خلال وصاياه لولده الحسن المجتبى في هذا الصدد: «أي بني إِني وإِن لم أكن عمّرت عُمْرَ من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عُدت كأحدهم، بل كأنّي بما إنتهى إلي من أُمورهم قد عمرت من أوّلهم الى آخرهم»(1).

والتاريخ الذي نتحدث عنه طبعاً هو التاريخ الخالي من الخرافات والأكاذيب والتملّقات والتحريفات والمسوخات.

ولكن ـ وللأسف ـ مثل هذا النوع من التاريخ قليل جداً.

ولا ينبغي أن نبعد عن النظر ما للقرآن من أثر في بيان «نماذج» من التاريخ الأصيل وإِراءتها.

التاريخ الذي ينبغي أن يكون كالمرآة الصافية لا المقعّرة.

التاريخ الذي لا يتحدث عن الوقائع فحسب، بل يصل الى الجذور ويسترشف النتائج.

فمع هذه الحال لِمَ لا يستند القرآن ـ الذي هو كتاب تربوي عال في فصوله ـ

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، من كتاب له(عليه السلام) لولده الحسن المجتبى(عليه السلام).

[123]

على التاريخ ويأتي بالشواهد والأمثال من قصص الماضين؟!

2 ـ ثمّ بعد هذا فإنّ للتاريخ والقصّة جاذبية خاصّة، والإِنسان واقع تحت هذا التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سنّ الطفولة حتى الشيخوخة.

ولذلك فإنّ التاريخ والقصّة يشكلان القسم الأكبر من آداب العالم وآثار الكتّاب. وأحسن الآثار التي خلّفها الشعراء والكتاب الكبار سواء كانوا من بلاد العرب أو من فارس أو من بلاد أُخرى هي قصصهم.

فأنت تلاحظ «الكلستان» ـ لسعدي و«الشاهنامة» لفردوسي و«الخمسة» للنظامي وكذلك آثار «فيجتور هيجو» الفرنسي و«شكسبير» الإِنجليزي و«غوتِه» الألماني جميعها كتبت على هيئة قصص جذابة».

والقصّة سواء كُتبت نثراً أو شعراً، أو عُرضت على شاشة المسرح أو بواسطة الفيلم السينمائي، فإنّها تترك أثراً في المشاهد والمستمع دونها أثر الاستدلالات العقلية في مثل هذا التأثير.

والعلّة في ذلك قد تكون أنّ الإِنسان حسي بالطبع قبل أن يكون عقلياً ويتخبط في المسائل المادية قبل أن يتعمق في المسائل الفكرية.

وكلما ابتعد الانسان عن ميدان الحسّ في نفسها جانباً عقلياً، كانت هذه المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضماً.

ومن هنا نلاحظ أنّه لأجل بيان الإِستدلال العقلي يستمد المفكرين في المسائل الاجتماعية والحياتية المختلفة وتوغل في البعد العقلي من الأمثلة الحسيّة، وأحياناً يكون للمثال المناسب والمؤثر في الإِستدلال قيمة مضاعفة، ولذلك فإنّ العلماء الناجحين هم أُولئك الذين لهم هيمنة على انتخاب أحسن الأمثلة.

ولم لا يكون الأمر كذلك، والإِستدلالات العقلية هي حصيلة المسائل الحسّية والعينيّة والتجريبيّة؟!

[124]

3 ـ القصّة والتاريخ مفهومان عند كل أحد، على خلاف الإِستدلالات العقلية، فإنّ الناس في فهمها ليسوا سواسية ... وعلى هذا فإنّ الكتاب الشامل الذي يريد أن يستفيد منه البدوي الأُمّي والمتوحش ... إلى الفيلسوف والمفكر الكبير، يجب أن يكون معتمداً على التاريخ والقصص والأمثلة.

ومجموعة هذه الجهات تبيّن أنّ القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية، ولا سيّما إِذ التفتنا الى هذه النقطة، وهي أنّ القرآن لا يذكر الوقائع التاريخية في أيّ مجال بشكل عار من الفائدة، بل يذكر معطياتها بشكل يُنتفع بها تربوياً، كما سنلاحظ «النماذج» والأمثلة في هذه السورة.

* * *

[125]

الآيات

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَـأَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـجِدِينَ(4) قَالَ يَـبُنَىَّ  لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَـنَ لِلاِْنسَـنِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَهِيمَ وَإِسْحَـقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(6)

التّفسير

بارقة الأمل وبداية المشاكل:

بدأ القرآن بذكر قصّة يوسف من رؤياه العجيبة ذات المعنى الكبير، لأنّ هذه الرؤيا في الواقع تعدّ أوّل فصل من فصول حياة يوسف المتلاطمة.

جاء يوسف في أحد الأيّام صباحاً الى أبيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه، وليكشف ستاراً عن حادثة جديدة لم تكن ذات أهمية في الظاهر، ولكنّها كانت إِرهاصاً لبداية فصل جديد من حياته (إِذ قال يوسف لأبيه يا أبت إِنّي

[126]

رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين).

يقول ابن عباس: (إِنّ يوسف رأى رؤياه ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر) (ليلة تعيين الأقدار والآجال).

ولكن كم كان ليوسف من العمر حين رأى رؤياه؟!

هناك من يقول: كان ابن تسع سنوات، ومن يقول: ابن سبع، ومنهم من يقول: ابن اثنتي عشرة سنة، والقدر المسلم به أنّه كان صبيّاً.

وممّا يستلفت الإِنتباه الى جملة «رأيت» جاءت مكررة في الآية للتأكيد والقاطِعية، وهي إِشارة الى أن يوسف(عليه السلام) يريد أن يقول: إِذا كان كثير من الناس ينسون رؤياهم ويتحدثون عنها بالشك والتردّد، فلست كذلك. بل أقطع بأنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين لي دون شك.

واللطيفة الأُخرى هي أنّ ضمير «هم» الذي يأتي لجمع المذكر السالم العاقل، قد استعمل للكواكب والشّمس والقمر، ومثل هذا الإستعمال «ساجدين» أيضاً إشارة إلى أنّ سجود الكواكب لم يكن من قبيل الصدفة بل كان أمراً مدروساً ومحسوباً كما يسجد الرجال العقلاء!

وواضح ـ طبعاً ـ أنّ السجود المقصود منه هنا هو الخضوع والتواضع، وإِلاَّ فإنّ السجود المعروف عند الناس لا مفهوم له بالنسبة للكواكب والشمس والقمر.

إِن هذه الرؤيا المثيرة ذات المغزى تركت يعقوب النّبي غارقاً في التفكير ... فالقمر والشمس والكواكب، وأي الكواكب! إِنّها أحد عشر يسجدون جميعاً لولدي يوسف، كم هي رؤيا ذات مغزى! لا شك أنّ الشمس والقمر «أنا وأُمه أو خالته» والكواكب الأحد عشر إِخوته، هكذا يرتفع قدر ولدي حتى تسجد له الشمس والقمر وكواكب السّماء.

إِن ولدي «يوسف» عزيز عند الله إِذا رأى هذه الرؤيا المثيرة!

لذلك توجه الى يوسف بلهجة يشوبها الإِضطراب والخوف المقرون

[127]

«بالفَرحة» و(قال يا بني لا تقصص رؤياك على إِخواتك فيكيدوا لك كيداً) وأنا أعرف (إِنّ الشيطان للإِنسان عدو مبين) وهو منتظر الفرصة ليوسوس لهم ويثير نار الفتنة والحسد وليجعل الإِخوة يقتتلون فيما بينهم.

الطريف هنا أنّ يعقوب لم يقل «أخاف من إِخوتك أن يقصدوا إِليك بسوء» بل أكّد ذلك على أنّه أمر قطعي، وخصوصاً بتكرار «الكيد» لأنّه كان يعرف نوازع أبنائه وحساسيّاتهم بالنسبة لأخيهم يوسف، وربّما كان إِخوته يعرفون تأويل الرؤيا، ثمّ إِنّ هذه الرؤيا لم تكن بشكل يعسر تعبيرها.

ومن جهة أُخرى لا يُتصور أن تكون هذه الرؤيا شبيهة برؤيا الأطفال، إِذ يمكن احتمال رؤية الأطفال للشمس والقمر والكواكب في منامهم، ولكن أن تكون الشمس والقمر والكواكب موجودات عاقلة وتنحني بالسجود لهم، فهذه ليست رؤيا أطفال ... ومن هذا المنطلق خشي يعقوب على ولده يوسف نائرة الحسد من إِخوته عليه.

ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلا على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب، بل تدل على مقام النبوّة التي سيصل إِليها يوسف في المستقبل.

ولذلك فقد أضاف يعقوب ـ لولده يوسف ـ قائلا: (وكذلك يجتبيك ربّك ويعلمك من تأويل(1) الأحاديث ويتمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمّها على أبويك من قبل إِبراهيم وإِسحاق).

أجل فإنّ الله على كل شيء قدير و(إِنّ ربّك عليم حكيم).

* * *

_____________________________

1 ـ «التأويل» في الأصل إِرجاع الشيء، وكل عمل أو كل حديث يصل الى الهدف النهائي يطلق عليه «تأويل» وتحقق الرؤيا في الخارج مصداق للتأويل ... و«الأحاديث» جمع الحديث، وهو نقل ما يجري، والحديث هنا كناية عن الرؤيا لأن الإِنسان ينقلها للمعبرين.

[128]

ملاحظات

1 ـ الرّؤيا والحُلم

إِنّ مسألة الرؤيا في المنام من المسائل التي تستقطب أفكار الأفراد العاديين من الناس والعلماء في الوقت نفسه.

فما هذه الأحلام التي يراها الإِنسان في منامه من أحداث سيئة أو حسنة، وميادين موحشة أو مؤنسة، وما يثير السرور أو الغم في نفسه؟!

أهي مرتبطة بالماضي الذي عشعش في أعماق روح الإِنسان وبرز الى الساحة بعد بعض التبديلات والتغييرات؟ أم هي مرتبطة بالمستقبل الذي تلتقط صوره عدسة الروح برموز خاصّة من الحوادث المستقبلية؟! أو هي أنواع مختلفة، منها ما يتعلق بالماضي، ومنها ما يتعلق بالمستقبل، ومنها ناتج عن الميول النفسية والرغبات وما الى ذلك...؟!

إِنّ القرآن يصرّح في آيات متعددة أنّ بعض هذه الأحلام ـ على الأقل ـ انعكاسات عن المستقبل القريب أو البعيد.

وقد قرأنا عن رؤيا يوسف في الآيات المتقدمة، كما سنرى قصّة الرؤيا التي حدثت لبعض السجناء مع يوسف في الآية (36) وقصّة رؤيا عزيز مصر في الآية (43) وجميعها تكشف الحجب عن المستقبل.

وبعض هذه الحوادث ـ كما في رؤيا يوسف ـ تحقق في وقت متأخر نسبياً «يقال أنّ رؤيا يوسف تحققت بعد أربعين سنة» وبعضها تحقق في المستقبل القريب كما في رؤيا عزيز مصر ولمن في السجن مع يوسف.

وفي غير سورة يوسف إِشارات الى الرؤيا التي كان لها تعبير أيضاً، كما ورد في سورة الفتح عن رؤيا النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما ورد في سورة الصافات عن رؤيا إِبراهيم الخليل «وهذه الرؤيا كانت وحياً إِلهياً بالإِضافة لما حملت من تعبير».

ونقرأ في الحديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الرؤيا قوله: «الرؤيا ثلاث:

[129]

بُشرى من الله، وتحزين من الشيطان، والذي يحدث به الإِنسان نفسه فيراه في منامه»(1).

وواضح أنّ أحلام الشيطان ليست شيئاً حتى يكون لها تعبير، ولكن ما يكون من الله في الرؤيا فهي تحمل بشارة حتماً ... ويجب أن تكون رؤيا تكشف الستار عن المستقبل المشرق.

وعلى كل حال يلزمنا هنا أن نبيّن النظرات المختلفة في حقيقة الرؤيا، ونشير إِليها بأسلوب مكثف مضغوط.

والتفاسير في حقيقة الرؤيا كثيرة ويمكن تصنيفها الى قسمين هما:

1 ـ التّفسير المادي

2ـ التّفسير المعنوي

1ـ التّفسير المادي:

يقول الماديون: يمكن أن تكون للرؤيا عدّة علل:

ألف: قد تكون الرؤيا نتيجة مباشرة للأعمال اليومية، أي أنّ ما يحدث للإِنسان في يومه قد يراه في منامه.

ب ـ وقد تكون الرؤيا عبارة عن سلسلة من الأماني، فيراها الإِنسان في النوم كما يرى الظمآن في منامه الماء، أو أن إِنساناً ينتظر مسافراً فيراه في منامه قادماً من سفره.

ج ـ وقد يكون الباعث للرؤيا الخوف من شيء ما، وقد كشفت التجارب أن الذين يخافون من لص يرونه في النوم.

أمّا فرويد وأتباعه فلديهم مذهب خاص في تفسير الأحلام، إِذ أنّهم بعد

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج 14، ص 44 ويضيف بعض العلماء قسماً رابعاً على هذه الأقسام، هو الرؤيا التي تكون نتيجةً مباشرة عن الوضع المزاجي والجسماني للإِنسان، وسيشار إِليها في البحوث المقبلة ... إِن شاء الله.

[130]

شرح بعض المقدمات يقولون: إِنّ الرؤيا عبارة عن إِرضاء الميول المكبوتة التي تحاول الظهور على مسرح الوعي بعد تحويرها وتبدّلها في عملية خداع الأنا.

ولزيادة الإِيضاح يقولون: ـ بعد قبول أن النفس البشرية مشتملة على قسمين «الوعي» وهو ما له ارتباط بالأفكار اليومية والمعلومات الإِرادية والإِختيارية للإِنسان، و«اللاّوعي» وهو ما خفي في باطن الإِنسان بصورة رغبة لم تتحقق ـ فكثيراً ما يحدث أن تكون لنا ميول لكننا لم نستطع إِرضاءها ـ لظروف ما ـ فتأخذ مكانها في ضمير الباطن: وعند النوم حين يتعطل جهاز الوعي تمضي في نوع من إِشباع التخيل الى الوعي نفسه، فتنعكس أحياناً دون تغيير [كمثل العاشق الذي يرى في النوم معشوقته] وأحياناً تتغير أشكالها وتنعكس بصور مناسبة، وفي هذه الحالة تحتاج الرؤيا الى تعبير.

فعلى هذا تكون الأحلام مرتبطة بالماضي دائماً ولا تخبر عن المستقبل أبداً، نعم يمكن أن تكون وسيلة جيدة لقراءة «ضمير اللاوعي!».

ومن هنا فهم يستعينون لمعالجة الأمراض النفسيّة المرتبطة بضمير «اللاوعي» باستدراج أحلام المريض نفسه.

ويعتقد بعض علماء التغذية أنّ هناك علاقة بين الرؤيا وحاجة البدن للغذاء، فمثلا لو رأى الإِنسان في نومه دماً يقطر من أسنانه، فتعبير ذلك أنّ بدنه يحتاج الى فيتامين (ث) وإِذا رأى في نومه أن شعر رأسه صار أبيضاً، فمعناه أنّه مبتلى بنقص فيتامين (ب).

2 ـ التّفسير المعنوي

وأمّا الفلاسفة الميتافيزقيون فلهم تفسير آخر للرؤيا، حيث يقولون: إِنّ الرؤيا والأحلام على أقسام:

1 ـ الرّؤيا المرتبطة بماضي الحياة حيث تشكل الرغبات والأمنيات قسماً

[131]

مهماً من هذه الأحلام.

2 ـ الرؤيا غير المفهومة والمضطربة وأضغاث الأحلام التي تنشأ من التوهم والخيال (وإن كان من المحتمل أن يكون لها دافع نفسي.

3 ـ الرّؤيا المرتبطة بالمستقبل والتي تخبر عنه.

وممّا لا شك فيه أنّ الأحلام المتعلقة بالحياة الماضية وتجسّد الأُمور التي رأها الإِنسان في طول حياته ليس لها تعبير خاص ... ومثلها الأطياف المضطربة أو ما تسمى بأضغاث أحلام التي هي افرازات الأفكار المضطربة، كالأطياف التي تمرّ بالإِنسان وهو في حال الهذيان أو الحمّى، فهي ـ أيضاً ـ لا يمكن أن تكون تعبيراً عن مستقبل الحياة ... ولهذا فإنّ علماء النفس يستفيدون من هذه الأحلام ويتخذونها نوافذ للدخول الى ضمير اللاّوعي في البشر، ويعدّونها مفاتيح لعلاج الأمراض النفسيّة، ويكون تعبير الرؤيا عند هؤلاء لكشف الأسرار النفسية وأساس الأمراض، لا لكشف حوادث المستقبل في الحياة!

أمّا الاحلام المتعلقة بالمستقبل فهي على نحوين:

قسم منها أحلام واضحة وصريحة لا تحتاج الى تعبير ... وأحياناً تتحقق بشكل عجيب في المستقبل القريب أو البعيد دون أي تفاوت.

وهناك قسم آخر من هذه الأحلام التي تتحدث عن المستقبل، ولكنّها في الوقت ذاته غير واضحة، وقد تغيّرت نتيجة العوامل الذهنية والروحيّة الخاصّة فتحتاج الى تعبير.

ولكل من هذه الأحلام نماذج ومصاديق كثيرة، ولا يمكن إِنكارها جميعاً، لأنّها لا في المصادر المذهبية أو الكتب التأريخية ـ فحسب ـ بل تتكرر في حياتنا أو حياة من نعرفهم بشكل لا يمكن عدّه من باب المصادفات والإِتفاقات!.

* * *

[132]

ونذكر هنا عدّة نماذج من الأحلام الصادقة التي كشفت بشكل عجيب عن حوادث مستقبلية سمعناها من افراد موثوقين:

1 ـ المرحوم الآخوند ملا علي من علماء همدان الموثوقين والمعروفين ينقل عن المرحوم الميرزا عبد النّبي النوري وهو من علماء طهران الكبار هذه القضية:

عند ما كنت في سامراء كان يصلني سنوياً من مدينة مازندران مبلغ بمقدار مائة تومان تقريباً، وعلى اساس هذا الامر كنت استقرض دائماً مقدار حاجتي من المؤونة وعندما يصلني هذا المبلغ كنت اقوم بتسديد هذه القروض.

وفي أحد الاعوام جاءني خبر مؤسف، وهو أنّ المحصول الزراعي في مازندران سيء للغاية بسبب القحط، ولهذا فإنّهم يعتذرون عن عدم إرسال المبلغ المقرر في هذه السنة، ولما سمعت بذلك تألمت بشدّة ونمت وأنا في هذه الحال من الهم والغم، فرأيت في عالم الرؤيا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يدعونىِ ويقول: يا فلان، قم وافتح تلك الخزانة (وأشار الى خزانة في الحائط) وخذ منها مائة تومان موجودة هناك. فإنتبهت من النوم، ولم تمض فترة حتى طرقت الباب بعد الظهر، فرأيت رسول الميرزا الشيرازي(قدس سره) المرجع الكبير للشيعة وقال لي: إنّ الميرزا يدعوك: فتعجبت من هذه الدعوة في هذا الوقت بالذات. فذهبت إليه فرأيته جالساً في حجرته (وقد نسيت الرؤيا تماماً) وفجأة قال لي المرحوم الميرزا الشيرازي: يا ميرزا عبد النّبي افتح باب تلك الخزانة وخذ منها مائة تومان موجودة هناك. فتذكرت الرؤيا فوراً وتعجبت كثيراً وأردت ان أقول شيئاً، ولكني شعرت بأنّه لا يرغب في ذلك، فقمت الى الخزانة فأخذت المبلغ المذكور وخرجت.

2 ـ وينقل صديق ـ وهو محل اعتماد ـ أن المرحوم التبريزي صاحب كتاب «ريحانة الأديب» كان له ولد يشكو من يده اليمنى (ربّما كان مبتلى بالروماتيزم)

[133]

بشكل يصعب عليه أن يمسك القلم بيده، فتقرر أن يسافر الى ألمانيا للمعالجة ويقول: حين كنت في السفينة رأيت في المنام أن أُمي توفيت ففتحت التقويم السنوي وسجلت الحادثة ـ مقيدةً بالساعة واليوم ـ ولم تمض فترة حتى رجعت الى بلدي فاستقبلني جماعة من الأقارب والأصدقاء فوجدتهم لبسوا ثياب الحداد فتعجبت، وكنت قد نسيت الرؤيا، وأخيراً أُخبرت ـ بالتدريج ـ أن أمي توفيت، فتذكرت مباشرةً رؤياي في السفينة فأخرجت التقويم وسألت عن اليوم الذي توفيت فيه فكان مطابقاً لذلك اليوم تماماً.

3 ـ يقول سيد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» في هامشه على الآيات المتعلقة بسورة يوسف: «إِذا كنت أنكر جميع ما قلتم في الرؤيا فلن أستطيع أن أنكر ما حدث لي يوم كنت في أمريكا أبداً ... رأيت هناك في المنام أنّ ابن أختي قد نزفت عيناه دماً ولا يستطيع أن يرى (كان ابن أُختي وسائر أعضاء أُسرتي بمصر) فاستوحشت ممّا رأيت وكتبت رسالة الى أُسرتي بمصر فوراً، وسألتهم عن حال ابن أُختي بوجه خاص، فلم تمض فترة حتى جاءتي الجواب الذي يخبرني بأنّ ابن أُختي مبتلى بنزيف داخلي في عينيه ولا يستطيع أن يرى، وهو مشغول بالمعالجة.

وممّا يستلفت النظر أنّ النزف الداخلي كان بشكل لا يمكن رؤيته إِلاّ بالأجهزة الطبيّة، وقد حُرم ابن اُختي من النظر والرؤية على كل حال. غير أنني رأيت في منامي حتى هذه المسألة الدقيقة.

إِن الأحلام التي تكشف الحجب عن الأسرار والحقائق المرتبطة بالمستقبل، أو الحقائق الخفيّة المتعلقة بالحاضر، هي أكثر من أن تُحصر، وليس بمقدور بعض الأفراد الذي لا يعتقدون بهذه الحقائق انكارها، أو حملها على المصادفة والإِتفاق!

ومن خلال التحقيق مع الأصدقاء القريبين يمكن الحصول على شواهد

[134]

كثيرة من هذه الأحلام، وهذه الأحلام لا يمكن تعبيرها عن طريق التّفسير المادي أبداً، وإنما الطريق الوحيد هو تعبير فلاسفة الروح والإِعتقاد باستقلال الروح، ومن مجموع هذه الأحلام يمكن أن نستفيد منها كشاهد على استقلال الروح.

2 ـ في الآيات ـ محل البحث ـ نلاحظ أن يعقوب ـ بالإِضافة الى تحذيره لولده يوسف من أن يقصّ رؤياه على إِخوته ـ فإِنّه عبر عن رؤياه بصورة إِجماليّة وقال له (وكذلك يجتبيك ربُّك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتمُّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب) .

ودلالة رؤيا يوسف على أنّه سيبلغ في المستقبل مقامات كبيرة معنوية ومادية يمكن دركها تماماً ... ولكن يبرز هذا السؤال، وهو: كيف عرف يعقوب أنّ إبنه يوسف سيعلم تأويل الأحاديث في المستقبل؟ أهو خبر أخبره يعقوب ليوسف مصادفةً ولا علاقة له بالرؤيا، أم أنّه اكتشف ذلك من رؤيا يوسف؟

الظاهر أن يعقوب فهم ذلك من رؤيا يوسف، ويمكن أن يكون ذلك عن أحد طريقين:

الأوّل: إِنّ يوسف في حداثة سنّه وقد نقل لأبيه ـ خاصّة ـ بعيداً عن أعين إِخوته (لأنّ أباه أوصاه أن لا يقصّها على إِخوته) وهذا الأمر يدلّ على أن يوسف نفسه كان له إِحساس خاص برؤياه بحيث لم يقصصها بمحضر الجميع ... .

ولأنّ مثل هذا الإِحساس في صبيّ ـ كيوسف(عليه السلام) ـ يدلّ على أنّ له استعداداً روحيّاً لتعبير الرؤيا، وإِنّ أباه قد أحسّ بهذا الإِستعداد ... وبالتربية الصحيحة سيكون له في المستقبل حظُّ زاهر في هذا المجال.

الثّاني: إِنّ إرتباط الأنبياء، بعالم الغيب له عدّة طرق، فمرّة عن طريق «الإِلهامات القلبية» وتارة عن طريق «ملك الوحي» وأُخرى عن طريق «الرؤيا».

وبالرغم من أنّ يوسف لم يكن نبيّاً في ذلك الوقت، لكن رؤيته لهذه الرؤيا ذات المعنى الكبير يدلّ على أن سيكون له ارتباط بعالم الغيب في المستقبل،

[135]

ولابدّ أن يعرف تعبير الرؤيا ـ طبعاً ـ حتى يكون له مثل هذا الإِرتباط.

3 ـ من الدروس التي نستلهمها من هذا القسم من الآيات أن نحفظ الأسرار، وينبغي أن يُطبق هذا الدرس أحياناً حتى أمام الإِخوة، فدائماً تقع في حياة الإِنسان أسرار لو أذيعت وفشت بات مستقبله أو مستقبل مجتمعه معرضاً للخطر، والمواظبة على حفظ هذه الأسرار دليل على سعة الروح وتملك الإِرادة، فكثير من ضعاف الشخصيّة أوقعوا أنفسهم أو مجتمعهم في الخطر بسبب إِفشاء الأسرار، وكم يرى الإِنسان ـ من مساءة وضرر لأنّه ترك حفظ الأسرار ... .

وفي هذا المجال ورد حديث عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إِذ قال: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتى تكون فيه ثلاث خصال: سُنّة من ربّه، وسُنّة من نبيّه، وسُنّة من وليّه. فأمّا السُّنة من ربّه فكتمان السرّ، وأمّا السُّنة من نبيّه فمداراة الناس، وأمّا السُّنة من وليّه فالصبر على البأساء والضراء»(1).

وورد حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) يقول: «سرّك من دمك فلا يجرينّ من غير أوداجك»(2).

* * *

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار، ط جديدة، ج 78، ص 334.

2 ـ سفينة البحار، مادة: كتم.

[136]

الآيات

لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَـتٌ لِّلسَّآئِلِينَ(7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـل مُّبِين(8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَـلِحِينَ(9) قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَـبَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَـعِلِينَ(10)

التّفسير

المؤامرة:

من هنا تبدأ قصّة مواجهة إِخوة يوسف واشتباكهم معه:

ففي الآية الأُولى ـ من الآيات محل البحث ـ إِشارة الى الدروس التربوية الكثيرة التي توحيها القصّة، إِذ تقول الآية: (لقد كان في يوسف وإِخوته آيات للسائلين).

وفي أنّ المراد بالسائلين، من هم؟ يقول بعض المفسّرين كالقرطبي في التّفسير الجامع وغيره: إِنّ هؤلاء السائلين هم جماعة من يهود المدينة، جاؤوا

[137]

يسألون النّبي أسئلة في هذا المجال، ولكن ظاهر الآية مطلق، فلا مرجّح لأنّ يكون المراد بالسائلين هم اليهود دون غيرهم.

وأيّ درس أعظم من أن يجتمع عدّة أفراد لإِهلاك فرد ضعيف ووحيد ـ في الظاهر ـ وبخطط أعدّها الحسدُ، ويبذلون أقصى جهودهم لهذا الأمر، ولكن نفس هذا العمل ـ ودون شعور وارادة منهم ـ بات سبباً في تربّعه على سرير الملك وصيرورته آمراً على البلد الكبير «مصر» ثمّ يأتي إِخوته في النهاية ليطأطئوا برؤوسهم إِعظاماً له، وهذا يدلّ على أن الله إِذا أراد أمراً فهو قادر على أن يجريه حتى على أيدي من يخالفون ذلك الأمر، ليتجلّى أن الإِنسان المؤمن الطاهر ليس وحيداً في هذا العالم، فلو سعى جميع أفراد هذا العالَم الى إزهاق روحه والله لا يريد ذلك، فانهم لا يستطيعون أن يسلبوا منه شعرة واحدة.

كان ليعقوب اثنا عشر ولداً، واثنان منهم: يوسف وبنيامين وهما من أُم واحدة اسمها راحيل، وكان يعقوب يولي هذين الولدين محبّة خاصّة، لا سيما يوسف.

لأنّهما أوّلا: أصغر أولاده، وبالطبع فهما يحتاجان الى العناية والرعاية والمحبة.

وثانياً: لأنّ أُمّهما ارتحلت من الدنيا ـ طبقاً لبعض الرّوايات ـ وبعد هذا كلّه كانت بوادر النبوغ والذكاء والحادّ ترتسم على يوسف، وهذه الأُمور أدّت الى أن أن يولي يعقوب ابنه هذا عناية أكثر.

إِلاّ أن الإِخوة الحساد ـ دون أن يلتفتوا الى هذه الجهات ـ تألّموا من حبّ أبيهم ليوسف وأخيه، وخاصّة بعد اختلافهم في الاُم والمنافسة الطبيعية المترتبة على هذا الأمر. لهذا اجتمعوا فيما بينهم وتدارسوا الأمر وصمموا على المؤامرة (إِذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة)(1).

_____________________________

1 ـ «العصبة» معناها الجماعة المتفقون على الأمر، وهذه الكلمة معناها الجمع إِلاَّ لا مفرد لها من جنسها.

[138]

وحكموا على أبيهم من جانب واحد بقولهم: (إِن أبانا لفي ضلال مبين).

إِن نار الحسد والحقد لم تدعهم ليفكروا في جميع جوانب الأمر ليكتشفوا دلائل علاقة الحبّ التي تربط يعقوب بولديه يوسف وبنيامين، لأنّ المنافع الخاصّة لكل فرد تجعل بينه وبين عقله حجاباً فيقضي من جانب واحد لتكون النتيجة «الضلال عن جادة الحق والعدل» وبالطبع فإنّ اتهامهم لأبيهم بالضلالة، لم يكن المقصود منها الضلالة الدينية، لأنّ الآيات الآتية تكشف عن اعتقادهم بنبوّة أبيهم، وإِنما استنكروا طريقة معاشرته فحسب.

ثمّ أدّى بهم الحسد الى أن يخططوا لهذا الأمر، فاجتمعوا وقدموا مقترحين وقالوا: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً ـ أرسلوه الى منطقة بعيدة ـ يخل لكم وجه أبيكم).

ومن الحق أن تشعروا بالذنب والخجل في وجدانكم لأنّكم تقدمون على هذه الجناية في حق أخيكم الصغير، ولكن يمكن أن تتوبوا وتغسلوا الذنب (تكونوا من بعده قوماً صالحين).

وهناك احتمال آخر لتفسير هذه الآية هو أنّكم إِذا أبعدتم أخاكم عن عيني أبيكم يصلح ما بينكم وبين أبيكم وتذهب أتعابكم ويزول أذاكم من هذا الموضوع، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر!

وعلى كل حال فإنّ هذه الجملة تدلّ على إِحساسهم بالذنب من هذا العمل، وكانوا يخافون الله في أعماق قلوبهم، ولذلك قالوا: نتوب ونكون من بعده قوماً صالحين.

ولكن المسألة المهمة هنا هي أنّ الحديث عن التوبة قبل الجريمة ـ في الواقع ـ هو لأجل خداع «الوجدان» وإِغرائه وفتح الباب للدخول الى الذنب، فلا يعدّ دليلا على الندم أبداً.

وبتعبير آخر: إِنّ التوبة الواقعية هي التي توجِد بعد الذنب حالة من الندم

[139]

والخجل للإِنسان، وأمّا الكلام في التوبة قبل الذنب فليس توبة.

وتوضيح ذلك أنّه كثيراً ما يقع أن الإِنسان حين يواجه الضمير و«الوجدان» عند الإِقدام على الذنب، أو حين يكون الإِعتقاد الديني سدّاً وحاجزاً أمامه يمنعه عن الذنب وهو مصمم عليه، فمن أجل أن يجتاز حاجز الوجدان أو الشرع بيسر، يقوم الشخص بخداع نفسه وضميره يأتي سوف أقف مكتوف اليدين بعد الذنب، بل سأتوب وأمضي الى بيت الله وأؤدي الأعمال الصالحة، وسأغسل جميع آثار الذنوب.

أي إِنّه في الوقت الذي يرسم الخطة الشيطانية للإِقدام على الذنب، يرسم خطة شيطانية أُخرى لمخادعة الضمير والوجدان ... وللإِعتداء على عقيدته! فإلى أيّ درجة تبلغ هذه الخطة من السوء بحيث تمكّن الإِنسان من تحقيق الجناية والذنب وكسر الحاجز الديني الذي يقف أمامه!!

إِنّ إِخوة يوسف دخلوا من هذا الطريق أيضاً.

المسألة الدقيقة الأُخرى في هذه الآية: أنّهم قالوا: (يخلُ لكم وجه أبيكم)ولم يقولون: يخلُ لكم قلب أبيكم، وذلك لأنّهم لم يطمئنّوا الى أنّ أباهم ينسى يوسف بهذه السرعة ... فيكفي أن يتوجه إِليهم أبوهم، ولو ظاهراً!

وهناك احتمال آخر لهذا التعبير، وهو أنّ الوجه والعينين نافذتان الى القلب، فمتى ما خلا الوجه لهم فإنّ القلب سيخلو ويتوجه إِليهم بالتدريج.

ولكن كان من بين الأُخوة من هو أكثر ذكاءً وأرق عاطفة ووجداناً، لأنّه لم يرض بقتل يوسف أو إِرساله الى البقاع البعيدة التي يُخشي عليه من الهلاك فيها ... فاقترح عليهم اقتراحاً ثالثاً، وهو أن يلقى في البئر (بشكل لا يصيبه مكروه) لتمرّ قافلة فتأخذه معها، ويغيب عن وجه أبيه ووجوههم، حيث تقول الآية في هذا الصدد (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيّارة إِن كنتم فاعلين ...).

* * *

[140]

ملاحظات

1 ـ «الجبّ» معناه «البئر» التي لم تنضّد بالطابوق والصخور، ولعلّ أغلب آبار الصحراء على هذه الشاكلة.

و«الغيابة» المخبأ من البئر الغائب عن النظر ولعلّ هذا التعبير يشير الى أن الآبار الصحراوية يصنع في قعرها مكان قريب من الماء، بحيث لو أراد أحد النزول الى البئر ليستفيد من الماء، فإنّه يستطيع أن يجلس هناك ويملأ دلوه من ذلك الماء دون أن ينزل هو في الماء، وبالطبع فإنّ من ينظر البئر من فوقها لا يرى ذلك المكان ولذلك سمي «غيابة»(1).

2 ـ لا شك أنّ اقتراح هذا القائل (ألقوه في غيابة الجُبِّ) لم يكن الهدف منه موت يوسف في البئر، بل بقاءه سالماً لتنقذه القافلة عند مرورها على البئر للإِستسقاء.

3 ـ يستفاد من جملة (إِن كنتم فاعلين) أنّ القائل لم يكن يرغب ـ أساساً ـ حتى بهذا الاقتراح ولعله كان لا يوافقهم على إِيذاء يوسف أصلا.

4 ـ هناك اختلاف بين المفسّرين في اسم هذا الأخ القائل (لا تقتلوا يوسف)فقال بعضهم: اسمه «روبين» وكان أذكاهم، وقال بعضهم: اسمه «يهودا» وقال آخرون: اسمه «لاوى».

5 ـ أثر الحسد المدمّر في حياة الناس

الدرس الآخر الذي نتعلّمه من هذه القصّة، وهو أنّ الحسد يمكن أن يدفع الإِنسان حتى الى قتل أخيه، أو ايجاد المشاكل له، فنار الحسد إِذا لم يمكن إِخمادها فإنّها ستحرق صاحبها بالإِضافة الى إِحراق الآخرين بها.

وأساساً إِذا حرم الإِنسان من نعمة أنعمها الله على عبد سواه، فإنّه سيكون

_____________________________

1 ـ مقتبس من تفسير المنار في تفسير الآية.

[141]

امام أربع حالات مُختلفة.

الأُولى: أن يتمنّى أن ينعم الله عليه مثل ما أنعم على غيره، وهذه الحالة تدعى «الغبطة» وهي جديرة بالثناء والمدح، وليس لها أثر سيء، لأنّها تدعو صاحبها للسعي والجدّ والمثابرة حتى ينال مثل ما نال المغبوط.

الثّانية: أن يتمنّى أن تُسلب هذه النعمة عن الآخرين، ويسعى من أجل تحقيق هذا التمني، وهذه هي الحالة المذمومة الموسومة «بالحسد» التي تدعو صاحبها الى التخريب وسلب النعمة عن الآخرين، دون أن تدعوه لأنّ يطلب من الله مثل ما أعطي غيره من النعم.

الثّالثة: أن يتمنّى أن تكون هذه النعمة له فقط ويُحرم الآخرون منها وهذه الحالة تُسمّى «البُخل» والأنانية التي تدعو الإِنسان أن يطلب شيئاً لنفسه، ويلتذّ من حرمان الآخرين.

الرّابعة: أن يتمنّى ويحب تنعّم الآخرين بهذه النعمة وإن كان محروماً منها، وهو مستعدّ أن يقدّم ما عنده من أجلهم ... وبغض النظر عن منافعه الشخصية، وهذه الحالة الرفيعة هي ما يسمّى بـ«الإِيثار» التي هي من أهم الصفات الإِنسانية الحميدة.

وعلى كل حال فإنّ الحسد لا يقتصر على قتل إِخوة يوسف لأخيهم فحسب، بل قد يوصل الإِنسان إلى قتل نفسه.

ولهذا نجد في الأحاديث الإِسلامية تعابير مؤثرة تدعو الى مكافحة هذه الرّذيلة، وعلى سبيل المثال نورد منها ما يلي:

1 ـ في حديث عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِنّ الله نهى موسى عن الحسد وقال له: إِنّ الحاسد ساخط لنعمي صادّ لقسمي الذي قسمتُ بين عبادي، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي»(1).

_____________________________

1 ـ أصول الكافي، ج 2، ص 307.

[142]

2 ـ ونقرأ حديثاً للإِمام الصادق(عليه السلام) يقول: «آفة الدين الحسد والعجب والمفاخرة» كما نقرأ له حديثاً يقول: «إِنّ المؤمن يغبط ولا يحسد، والمنافق يحسد ولا يغبط»(1).

6 ـ كما نستنتج درساً آخر من هذا المقطع في القصّة، وهو أنّ الوالدين ينبغي أن يلاحظا أبناءها الآخرين عند إِبراز عنايتهما ومحبّتهما لواحد منهم، فبالرغم من أن يعقوب لم يرتكب خطأ ـ دون أيّ شك ـ بالنسبة لإِبراز علاقته لولديه يوسف وبنيامين، وإِنّما كان كل ذلك وفق حسابات خاصّة. ولكن هذه الحادثة تكشف لنا أنّه ينبغي أن يكون الإِنسان أكثر إحساساً، في هذه المسألة ـ من القدر اللازم. لأنّ إِبراز العلاقة لبعض الأبناء دون بعض توجد عقدةً في نفوس الآخرين، الى درجة أنّها تجرّهم الى كل عمل مخرّب، حيث يجدون شخصياتهم منهزمة ولابدّ من تحطيم شخصية أخيهم للتعويض عن هذه الهزيمة، فيكون الإِقدام على هذا العمل دون لحاظ الرحمية ووشائج القربى.

وإِذا لم يستطع الإِنسان أن يقوم بعمل معاكس، فإنّه يظل يلوم نفسه ويحرضها حتى يبتلى بالمرض النفسي.

وما زلت أذكر أنّه كان لي صديق قد مرض ولده الصغير، فأوصى ولده الكبير برعايته، وأخذ الأبُ يولي ولده الصغير محبةً وشفقة فائضة «لأنّه مريض».

فلم تمض فترة حتى مرض هذا الابن الكبير بمرض نفسي مجهول، قلت لذلك الصديق العزيز: ألا تفكّر أنّ أساس المرض هو عدم العدالة بين ولديك ... لكنّه لم يصدّق، وأخيراً راجع الطبيب النّفساني المختصّ فقال: إِن ابنك ليس مريضاً بمرض خاصّ، وإِنّما أساس مرضه هو اهتمامك بأخيه وعدم اهتمامك به، وهو يحس بأنّ شخصيته متعطشة للحنان والحبّ، في حين أنّ أخاه لم يحرم منهما.

_____________________________

1 ـ المصدر نفسه.

[143]

وفي هذا الصدد نقرأ في الرّوايات الإِسلامية أن الإِمام الباقر(عليه السلام) قال يوماً: «والله إِنّي لأصانع بعض ولدي، وأجلسه على فخذي، وأنكز له المخّ، وأكسر له الكسر، وإِن الحقّ لغيره من ولدي، ولكن مخافة عليه منه ومن غيره، لا يصنعوا به ما فعل بيوسف اخوتُه، وما أنزل الله سورة إِلاّ أمثالا لكي لا يجد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفَ إِخوتُه، وبغوا عليه، فجعلها رحمةً على من تولاّنا، ودان بحبّنا وحجّة على أعدائنا ومن نصب لنا الحرب والعداوة»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج 74، ص 78.

[144]

الآيات

قَالُوا يَـأَبَانَا مَا لَكَ لاَتَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ، لَنَـصِحُونَ(11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ(12) قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَـفِلُونَ(13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذاً لَّخَـسِرُونَ(14)

التّفسير

المؤامرة المشؤومة!

بعد أن صوّب إِخوة يوسف إِقتراحَ أخيهم في عدم قتل يوسف، وإِلقائه في الجبّ، أخذوا يفكرون في كيفية فصل يوسف عن أبيه لذلك أقدموا على تخطيط آخر، فجاؤوا الى أبيهم بلسان ليّن يدعو إلى الترحم، وفي شكل يتظاهرون به أنهم مخلصون له وحدثوا أباهم و(قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنّا على يوسف وإِنا له لناصحون).

تعال يا أبانا وارفع اليد عن اتهامنا، فإِنّه أخونا وما يزال صبياً وبحاجة الى اللهو واللعب، وليس من الصحيح حبسه عندك في البيت، فخلّ سبيله (أرسله

[145]

معنا غداً يرتع ويلعب)(1).

وإِذا كنت تخشى عليه من سوء فنحن نواظب على حمايته (وإِنا له لحافظون).

وبهذا الأسلوب خططوا لفصل أخيهم عن أبيه بمهارة، ولعلّهم قالوا هذا الكلام أمام يوسف ليطلب من أبيه إِرساله معهم.

وهذه الخطة تركت الأب ـ من جانب ـ أمام طريق مسدود، فإِذا لم يرسل يوسف مع إِخوته فهو تأكيد على اتهامه إِيّاهم، وحرضت ـ من جانب آخر ـ يوسف على أن يطلب من أبيه الذهاب معهم ليتنزّه كما يتنزه إِخوته، ويستفيد من هذه الفرصة لاستنشاق الهواء الطلق خارج المدينة.

أجل، هكذا تكون مؤامرات الذين ينتهزون الفرصة، وغفلة الطرف الآخر، فيستفيدوا من جميع الوسائل العاطفية والنفسيّة، ولكن المؤمنين ينبغي ألاّ ينخدعوا بحكم الحديث المأثور «المؤمن كيّس» أي فطن ذكي فلا يركنُوا للمظهر المنمّق حتى لو كان ذلك من أخيهم.

ولكن يعقوب ـ دون أن يتهم إِخوة يوسف بسوء القصد ـ أظهر تردّده في إِرسال يوسف لأمرين: الأوّل: أنه سيبتعد عنه فيحزن عليه، والثاني: ربّما يوجد خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله، فاعتذر إِليهم و(قال إِني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون).

وهذه المسألة طبيعية، حيث قد يبتعد إِخوة يوسف عنه فيغفلون عن أمره، فيأتي إِليه الذئب فيأكله.

وبديهي أنّ الإِخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الأوّل الذي أشار إِليه أبوهم يعقوب، لأنّ الحزن والإِغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئاً عاديّاً حتى

_____________________________

1 ـ «يرتع» من مادة «رتع» على وزن «قطع» ومعناه في الأصل رعي الأغنام والأنعام بصورة عامّة للنباتات وشبعها منها، ولكن قد يطلق هذا اللفظ (رتع، يرتع) ويراد به تنزّه الإِنسان وكثرة الأكل والشرب أيضاً.

[146]

يعوّض عنه، وربّما كان هذا التعبير مثيراً لنار الحسَد في إِخوة يوسف أكثر.

ومن جهة أُخرى فإن هذا الموضوع الذي أشار إِليه يعقوب، وهو حزنه على ابتعاد يوسف عنه يمكن ردّه، وهو لا يحتاج الى بيان، لأنّ الولد لابدّ له من الإِبتعاد عن أبيه من أجل أن ينمو ويرشد، وإِذا أريد له أن يكون كنبات «النّورس» بحيث يبقى تحت ظل شجرة «وجود الأب» فإنّه سوف يبقى عالة عليه فلابدّ من هذا الإِبتعاد والإِنفصال حتى يتكامل ولده، فاليوم تنزّه وغداً اجتهاد ومثابرة لتحصيل العلم، وبعد غد عمل وسعي للحياة، وأخيراً فإِنّ الإِنفصال لابدّ منه.

لذلك فإِنّهم لم يجيبوه عن الشقّ الأوّل من كلامه، بل أجابوه عن الشقّ الثّاني لأنّه كان مهماً وأساسياً بالنسبة لهم إِذ (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إِنا إِذاً لخاسرون).

أي: أترانا موتى فلا ندافع عن أخينا، بل نتفرج على الذئب كيف يأكله! ثمّ إِضافةً الى علاقة الأخوة التي تدفعنا للحفاظ على أخينا، ما عسى أن نقول للناس عنّا؟ هل ننتظر ليقال عنّا: إنّ جماعة أقوياء وفتية أشداء جلسوا وتفرجوا على الذئب وهو يفترس أخاهم! فهل نستطيع العيش بعد هذا مع الناس؟!

لقدْ أجابوا أباهم بما تضمن قوله: (أخاف أن يأكه الذئب وأنتم عنه غافلون)ومشغولون بلعبكم، كيف يكون ذلك؟ والمسألة ليست بهذه البساطة ... إِنّها الخسارة وذهاب ماء الوجه والخزي ... إِذ كيف يمكن لواحد منّا أن يشغله اللعب فيغفل عن أخيه يوسف، لأنّه في مثل هذه الحال لا تبقى لنا قيمة ولا نصلح لأي عمل.

ويبرز هنا سؤال مهم ... وهو: لماذا أشار يعقوب الى خطر الذئب من دون الأخطار الأُخرى؟!

قال البعض: إِن صحراء كنعان ـ كانت ـ «صحراء مذئبة» ومن هنا كان

[147]

الخوف من الذئب أكثر من غيره.

وقال البعض الآخر: كان ذلك للرؤيا التي رآها يعقوب من قبل وهي أن ذئاباً هجمت على ولده يوسف.

وهناك احتمال آخر هو أن يعقوب أجابهم بلسان الكناية، والمقصود من الذئاب في كلامه هم الأناس المتصفون بصفة الذئب إِخوة يوسف.

وعلى كل حال فقد استطاع إِخوة يوسف بما أوتوا من الحيل، وبتحريك أحاسيس يوسف النقيّة وترغيبه الى التنزه خارج المدينة، وربّما كان الأوّل مرّة يتاح ليوسف أن يحصل على مثل هذه الفرصة ... استطاعوا أن يأخذوا يوسف معهم وأن يستسلم الأب لهذا الأمر فيوافق على طلبهم.

* * *

بحوث

وينبغي هنا الإِلتفات الى عدة دروس حيّة تستلهم من هذه القصّة:

1 ـ مؤامرات الأعداء في ثياب الأصدقاء

من الطبيعي أنّ الأعداء لا يدخلون الميادين ـ عند الهجوم ـ بصراحة ودون استتار أبداً.

بل إِنّهم من أجل تفويت الفرصة على الطرف الآخر واستغفاله وسلبه كل وسائل الدفاع يسعون الى إِخفاء عملهم تحت قناع جذاب إِنّ إِخوة يوسف أخفوا خطة هلاكه أو إِبعاده تحت غطاء أسمى الأحاسيس والعواطف الأخوية، هذه الأحاسيس التي كانت تحرك يوسف من جهة لأنّ يمضي معهم، وكانت عند أبيهم موضع قبول من جهة أُخرى أيضاً.

وهذه هي الطريقة التي نواجهها في حياتنا اليوميّة على المدى الواسع، وما

[148]

تلقيناه من ضربات قاسية من أعدائنا المخاتلين بثياب الأبرار في هذا المضمار غير قليل، ولها مظاهر متعددة، فمرةً بمظهر المساعدات الإِقتصادية، وأُخرى تحت ستار التبادل الثقافي، وثالثة في ثوب الدفاع عن حقوق البشر، ورابعة بأسلوب المعاهدات الدفاعية ... كل تلك الأُمور كانت نتيجة أسوأ القرارات الإِستعمارية المذلّة للأُممِ المستضعفة والتي من ضمنها أُمتنا الإِسلاميّة.

ولكن ومع هذه التجارب التاريخيّة ينبغي أن نكون حذرين للغاية وأن نعرف أعداءنا جيداً، فلا نحسن الظن بهذه الذئاب البشرية التي تريد أن تمتص دماءنا بما تظهره من عواطف وأحاسيس متلبسة بثياب المخلصين المتفانين فما زلنا نتذكر ما فعلتة الدول المتسلطة على العالم حيث أرسلت تحت ستار المساعدات الطبيّة الى بعض الدول الإِفريقية المتضررة بالحرب أسلحة وعتاد أرسلت الى عملائها، كما بعثت أخطر جواسيسها تحت ثياب الدبلوماسية والسفارات والممثلين لها الى مختلف مناطق العالم.

وتحت ستار الخبراء العسكريين وتدريب الدّول المستضعفة على الاسلحة الحديثة والمتطورة كانوا يأخذون مع عودتهم جميع الاسرار العسكرية لتلك الدولة.

وبإرسال خبراء فنيين!! الى هذه الدول يربطوا عجلة اقتصادها بالمناهج تكرس التبعية تُرى، أليست كل هذه التجارب التأريخيّة كافية لئلاّ ننخدع بهذه الزخارف البّراقة الكاذبة وأن نعرف وجوه هؤلاء الذئاب المتظاهرين بالإِنسانيّة.

2 ـ حاجة الإِنسان الفطرية والطبيعية الى التنزّه والإِرتياح

من الطريف أن يعقوب(عليه السلام) لم يردّ على كلام إِخوة يوسف واستدلالهم على أنّه بحاجة الى التنزه والإِرتياح، بل وافق على ذلك عمليّاً، وهذا دليل كاف على أن أيّ عقل سليم لا يستطيع أن يُنكر هذه الحاجة الفطرية والطبيعيّة ... فالإِنسان

[149]

ليس آلة تستعمل في أي وقت كان وكيف كان، بل له روح ونفس ينالهما التعَبُ والنَصُب كما ينالان الجسم. فكما أن الجسم يحتاج الى الراحة والنوم، كذلك الرّوح والنَّفس بحاجة الى التنزّه والإِرتياح السليم.

التجربة ـ أيضاً ـ تدل على أن الإِنسان كلّما واصل عمله بشكل رتيب، فانّ مردود هذا العمل سيقلّ تدريجياً نتيجة ضعف النشاط، وعلى العكس من ذلك فإنّ الإِستراحة لعدة ساعات تبعث في الجسم نشاطاً جديداً بحيث تزداد كمية العمل وكيفيته معاً، ولذلك فإنّ الساعات التي تصرف في الراحة والتنزه تكون عوناً على العمل أيضاً.

وفي الرّوايات الإِسلامية نجد هذه الواقعية بأسلوب طريف جاء بمثابة «القانون» حيث يقول الإِمام علي(عليه السلام): «للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرمّ معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل»(1).

وممّا يستجلب النظر أنّ في بعض الرّوايات الإِسلامية أضيفت هذه الجملة الى النص المتقدم «وذلك عون على سائر الساعات».

وعلى حدّ تعبير البعض فإنّ التنزّه والإِرتياح بمثابة تدهين وتنظيف أجهزة السيّارة، فلو توقفت هذه السيارة ساعة عن العمل لمراقبة أجهزتها وتنظيفها، فإنها ستغدو أكثر قوةً نشاطاً يعوّض عن زمن توقفها أضعاف المرات، كما أنه سيزيد من عمر السيارة أيضاً.

لكن المهم أن يكون هذا التنزّه صحيحاً، وإِلاّ فإنه لا يحل المشكلة، بل سيزيدها، فإِنّ كثيراً من حالات التنزّه هذه تدمر الإِنسان وتسلب منه نشاطه وقدرته على العمل لفترة ما، أو على الأقل تخفف من نشاط عمله.

وهناك نقطة تدعو للإِلتفات أيضاً، وهي أن الإِسلام اهتم بمسألة الترويض والإِستراحة النفسيّة بحيث أجاز المسابقات في هذا المضمار .. ويحدثنا التاريخ

_____________________________

1 ـ نهج البلاغه، الكلمات القصار: رقم الكلمة 390.

[150]

أنّ قسماً من هذه المسابقات جرت بمرأى من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأحياناً كانت تناط إِليه مهمة التحكيم والقضاء في هذه المسابقة، وربّما أعطى ناقته الخاصّة ـ لبعض الصحابة للتسابق عليها.

ففي رواية الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إِن النّبي أجرى الإِبل مقبلة من تبوك فسبقت العصباء وعليها أسامة، فجعل الناس يقولون: سبق رسول الله ورسول الله يقول: سبق أسامة(1)» (إِشارة الى أن المهم في السبق هو الراكب لا المركب، حتى وإِن كان المركب السابق عند من لا يجيدون السبق).

النقطة الأُخرى هي أنّه كما أن إِخوة يوسف استغلّوا علاقة الإِنسان ـ ولا سيما الشاب ـ بالتنزّه واللعب من أجل الوصول الى هدفهم الغادر ... ففي حياتنا المعاصرة ـ أيضاً ـ نجد أعداء الحق والعدالة يستغلّون مسألة الرياضة واللعب في سبيل تلويث أفكار الشباب، فينبغي أن نحذر المستكبرين «الذئاب» الذين يخططون لاضلال الشباب وحرفهم عن رسالتهم تحت اسم الرياضة والمسابقات المحلّية والعالمية.

ولا ننسى ما كان يجري في عصر الطاغوت (الشاه)، فإنّهم وبهدف تنفيذ بعض المؤاموات ونهب ثروات البلاد وتحويلها الى الأجانب لقاء ثمن بخس، كانوا يرتّبون سلسلة من المسابقات الرياضية الطويلة العريضة لإِلهاء الناس لئلاّ يطلعوا على المسائل السياسيّة.

3 ـ الولد في ظلّ الوالد

إِذا كانت محبّة الأب الشديدة أو الأُم بالنسبة للولد تستوجب أن يحفظ الى جانبهما، إِلاّ أن من الواضح أن فلسفة هذه المحبة من وجهة نظر قانون الخلقة هي المحافظة التامة على الولد عند الحاجة إِليها، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تقل

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 596.

[151]

هذه المحافظة كلّما تقدّمت به السن، ويُمنح الولد الإِجازة ليخطوُ في حياته نحو الإِستقلال، والاّ فسيكون كمثل غرسة النّورس تحت ظل الشجرة القوية دائماً لا تنمو كما يلزم.

وربّما وافق يعقوب(عليه السلام) ـ لهذا السبب ـ على اقتراح أبنائه رغم علاقته الشديدة بيوسف، وأرسله معهم الى خارج المدينة، ومع أنّ هذا الإمر كان صعباً على يعقوب، ولكن مصلحة يوسف وحاجته الى الرُشد والنُموّ كانت تستوجب أن يُجيزه أبوه ليبتعد عنه ساعات وأيّاماً!

وهذه مسألة تربوية مهمّة غَفل عَنها كثير من الآباء والأُمهات، حيث يربّون أولادهم تربية بحيث لا يستطيعون أن يعيشوا خارج «خيمة الأبوين» ومحافظتهما عليهم، وبالتالي يسقطون أمام تيارات الحوادث وضغوطها، كما أن هناك رجالا عظماء فقدوا والديهم في دور الطفولة، ولكنّهم صنعوا أنفسهم بأيديهم وواجهوا المشاكل وتجاوزوها.

فالمهم أن يلتفت الوالدان الى هذه المسألة التربوية، وإِلاّ فستكون محبتهما «الكاذبة» مانعاً من استقلال أولادهم.

من الطريف أن هذه المسألة موجودة في بعض الحيوانات بشكل غريزي، فنحن نرى أفراخ الدجاج «الفروج» ـ مثلا ـ يبدأ حياته تحت جناحي أمه، وتحافظ الدجاجة الأُم عليها كما تحافظ على روحها «العزيزة».

ولكن بعد فترة حيت تكبر هذه الأفراخ فإنّ الأُم لا تترك المحافظة على هذه الأفراخ فحسب، بل تنقرُ أيّاً منها يصل إِليها. ومعنى هذا أنّها تريد أن تعوِّدهم على أن يتعلموا طريق الحياة المستقلة! فإلى متى تعيشون غير مستقلين؟!

ولكن هذا الموضوع لا ينافي تقوية الروابط العائلية والمحافظة على المودة والمحبّة، بل هي محبّة عميقة وعلاقة محسوبة ونافعة للطرفين.

[152]

4 ـ لا قصاص ولا اتهام قبل الجناية

نشاهد في هذا الفصل من القصّة أنّ يعقوب بالرغم من علمه بما سيقدم عليه إِخوة يوسف ... وتحذيره ولَدَهُ يوسف ألاّ يقصص رؤياه على إِخوته، وأن يكتم الأمر، إِلاّ أنّه لم يكن مستعداً لأنّ يتّهمهم بقصد الإِساءة الى يوسف، بل كان عذره إِليهم أنّه يحزنه فراقه، ويخاف أن يأكله الذئب في الصحراء.

والأخلاق والمعايير الإِنسانية والأسس القضائية العادلة توجب ذلك أيضاً، فحيث لم تتوفر لدينا علامة ظاهرة على مخالفة شخص ما فلا ينبغي اتّهامه، فالأصل البراءة والصحّة والطهارة إِلاّ أن يثبت خلافه.

5 ـ تلقين العدوّ

المسألة الأُخرى أننا نقرأ ـ في ذيل الآيات المتقدمة ـ رواية عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «لا تلقّنوا الكذّاب فيكذب فإنّ بني يعقوب(عليه السلام) لم يعلموا أن الذئب يأكل الإِنسان حتى لقّنهم أبوهم»(1). إِشارة الى أنه قد يحدث أحياناً أن لا يلتفت الطرف الآخر الى الحيلة والى طريق الإِعتذار وانتخاب طريق الإِنحراف، فعليكم أن تحذروا من ذكر الإِحتمالات المختلفة التي تبيّن له طرق الإِنحراف.

ومثل هذا يشبه تماماً ما لو قال الإِنسان لطفله: لا ترمِ الكرة باتّجاه المصباح، ولم يكن الطفل يعلم أن الكرة يمكن أن تُرمى نحو المصباح، فيلتفت الى أن مثل هذا العمل ممكن، وتتحرك فيه نوازع الفحص ... ماذا سيكون لو رميت الكرة باتجاه المصباح؟ ثمّ يبدأ «لعبته» لتنتهي بتكّسر المصباح!

وليس هذا موضوعاً هيناً ولا خاصاً بالأطفال، فقد يتفق أحياناً أن الأوامر والنواهي الخاطئة، تسبب أن يتعلم الناس أشياء لم يعرفوها من قبل، فتوسوس لهم أنفسهم أن يقدموا عليها، فينبغي في مثل هذه الموارد ـ قدر المستطاع ـ أن

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 415.

[153]

تثار المسائل بشكل لا يبعث على أي تعلّم سيىء!

وبالطبع فإنّ يعقوب النّبي(عليه السلام) قال كلامه عن صفاء وطهارة قلب، إِلاّ أنّ أبناءه الضالين استغلوا كلامه لقصدهم السيىء.

وشبيه هذا الموضوع الأُسلوب الذي نجده في كثير من المقالات، فمثلا قد يكتب أحدهم مقالة ـ أو يقوم باخراج فيلماً أو غيرها ـ عن ضرر الموادّ المخدرة أو الإِستمناء، فيتناول هذه المسائل بصورة يتعلمها غيرُ المطلعين وينسون المسائل التي تذكر في هذه المواضيع لذم هذه الأعمال وبيان طرق النجاة منها، ولذلك فغالباً ما يكون ضرر هذه المقالات والأفلام وخسارتها أكثر من فائدتها بمراتب.

6 ـ وآخر نقطة نشير إِليها هنا أنّ إِخوة يوسف (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إِنا إِذاً لخاسرون) وهي إِشارة الى أنّ الإِنسان إِذا تحمّل مسؤوليةً ما ـ ووافق عليها ـ فإنّ من الواجب عليه أن يوقف نفسه من أجلها ... وإِلاّ فإنّه سيفقد كل قِيمهِ ـ قيمة شخصيته، وماء وجهه، والموقع الإِجتماعي، ووجدانه.

فكيف يعقل أن يكون الشخص ضمير حيّ ووجدان يقظ وشخصية كريمة يعتز بحيثيته وماء وجهه، ومع كل ذلك يتنصل عن مسؤولياته ويقف موقفاً سلبياً إِزاءها؟!

* * *

[154]

الآيات

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَـبَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(15)وَجَآءُو أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ(16) قَالُوا يَـأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بُمُؤْمِن لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَـدِقِينَ(17) وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَم كَذِب قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(18)

التّفسير

الكذب المفضوح:

وأخيراً إنتصر إِخوة يوسف وأقنعوا أباهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، فباتوا ليلتهم مطمئني البال بانتظار الصبح لتنفيذ خطتهم وإِزاحة أخاهم الذي يقف عائقاً في طريقهم ... وكان قلقهم الوحيد أن يندم أبوهم ويسحب كلامه ووعده بإِرسال يوسف معهم.

فجاؤوا صباحاً الى أبيهم فأمرهم بالمحافظة على يوسف، وكرر توصياته

[155]

في شأنه، فأظهر الأبناء طاعتهم لأبيهم وأبدوا احترامهم الفائق ومحبتهم العميقة، وتحركوا الى خارج المدينة.

يقال: إِنّ أباهم ودعهم الى بوابة المدينة ثمّ أخذ منهم يوسف وضمّه الى صدره ودمعت عيناه، ثمّ أودع يوسف عندهم وفارقهم، ولكن يعقوب كان يودعهم بنظراته، وكان إِخوة يوسف لا يقصرون عن مدارة أخيهم يوسف وإِظهار عنايتهم به ومحبتهم له طالما كانت تلاحظهم عينا أبيهم، ولكن ما أن غاب عنهم أبوهم واطمأنوا الى أنّه لا يراهم، حتى انفجرت عقدتهم وصبوا «جام غضبهم» وحقدهم وحسدهم المتراكم لعدّة سنوات على رأس يوسف، فالتفّوا حوله يضربونه بأيديهم ويلتجىء من واحد لآخر ويستجير بهم فلا يجيرهُ أحد منهم.

نقرأ في رواية أنّ يوسف كان يبكي تحت وابل اللكمات والضربات القاسيّة، ولكن حين أرادوا أن يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة ... فتعجب إِخوته كثيراً وحسبوا أن أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً ... ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درساً كبيراً إِذ قال: ـ لا أنسى أنني نظرت ـ أيها الإِخوة ـ الى عضلات أيديكم القويّة وقواكم الجسدية الخارقة، فسررت وقلت في نفسي: ما عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات من كان عنده مثل هؤلاء الإِخوة، فاعتمدت عليكم وربطت قلبى بقواكم، والآن وقد أصبحت أسيراً بين أيديكم وأستجير بكم من واحد للآخر فلا أُجار، وقد سلطكم الله عليّ لأتعلم هذا الدرس، وهو ألاّ أعتمد وأتوكّل على أحد سواه ... حتى ولو كانوا إِخوتي.

وعلى كل حال فالقرآن الكريم يقول في هذا الصدد: (فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب)(1).

_____________________________

1 ـ في العبارة المتقدمة حُذف جوابُ «لما» والتقدير كما يلي: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ عظمت فتنتهم (تفسير القرطبي) ولعل هذا الحذف اقتضى لعظم هذه الحادثة المؤلمة أن يسكت عنه المتكلم، وهو بنفسه من فنون البلاغة العربية (تفسير الميزان).

[156]

جملة «أجمعوا» تدلّ على أنّ جميع الإِخوة كانوا متفقين على هذه الخطّة، وإِن لم يتفقوا جميعاً على قتله.

وأساساً فإنّ كلمة «أجمعوا» مأخوذة من مادة «جمع» وهي في هذه الموارد إِشارة الى جمع الأراء والأفكار.

ثمّ تبيّن الآية أنّ الله أوحى الى يوسف وهدأ روعه وألهمه ألاّ يحزن فالعاقبة له، إِذ تقول: (وأوحينا إِليه لتنبئتهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون).

ذلك اليوم الذي تجلس فيه على العرش وأنت القوي الأمين، فيأتي إِخوتك ليمدّوا أيدي الحاجة إِليك، ويكونوا كالظامئين الى النبع العذب في الصحراء اللاهبة ويسرعون إِليك في منتهى التواضع، ولكنّك في حال من العظمة بحيث لا يصدّقون أنك أخوهم، وستقول لهم في ذلك اليوم: ألستم الذين فعلتم مع أخيكم الصغير يوسف كذا وكذا ... وكم سيكونون خجلين من فعلهم هذه في ذلك اليوم!

وهذا الوحي الإِلهي لم يكن وحي النبوة، بقرينة الآية (22) من السورة ذاتها، بل كان إِلهاماً لقلب يوسف ليعلم أنه ليس وحيداً، بل له حافظ ورقيب، وهذا الوحي بثّ في قلب يوسف نور الأمل وأزال عن روحه ظلمات اليأس والحيرة.

لقد نفّذ إِخوة يوسف خطتهم كما أردوا، ولكن ينبغي أن يفكروا عند العودة ماذا كيف كي يصدّق أبوهم أن يوسف إنتهى بصورة طبيعية لا عن مكيدة ليضمنوا عواطف أبيهم نحوهم.

وكانت الفكرة التي أوصلتهم الى هذا الهدف هي ما تخوّف أبوهم منه، فأقنعوه ـ ظاهراً ـ عن هذا الطريق مدّعين بأنّ الذئب قد أكل يوسف وجاؤوا إِليه بدلائل مزيّفة!!

يقول القرآن الكريم: (وجاءُوا أباهم عشاءً يبكون) بكاءً كاذباً، وهذا يدلّ على أنّ البكاء الكاذب ممكن .. ولا يمكن أن يُخدع ببكاء العين وحدها.

أمّا الأب الذي كان ينتظر مجيىء ولده (يوسف) بفارغ الصبر، فقد اهتز

[157]

وارتجف حين رأى الجمع وليس بينهم يوسف، وسأل عنه مستفسراً ... فأجابوه و(قالوا إِنّا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا) لصغر سنه ولأنّه لا يعرف التسابق، وانشغلنا عنه (فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين).

لأنك أخبرتنا من قبلُ بهذا الإِحتمال، وستظن أن ادّعاءنا مجرّد احتيال.

لقد كان كلام إِخوة يوسف مدروساً بشكل دقيق، وذلك ـ أوّلا ـ لأنّهم خاطبوا يعقوب بقولهم بكلمة «يا أبانا» وفيها ما فيها من الإِستعطاف.

وثانياً: لأنّ من الطبيعي أن ينشغل هؤلاء الإِخوة الأقوياء بالتسابق، ويتركوا أخاهم الصغير رقيباً على متاعهم، وبعد ذلك كله فقد جاؤوا أباهم يبكون لتمرير خطتهم، وقالوا له: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين).

ومن أجل أن يبرهنوا على صحة كلامهم فقد (جاءُوا على قميصه بدم كذب)إِذ لطخوا الثوب بدم الغزال أو الخروف أو التيس ...

ولكن حيث أنّ الكاذب لا يمتلك حافظة قويّة، وحيث أن أية حقيقة فيها علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل أن تجتمع منظّمة في الكذب، فقد غفل إِخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة ... وهي ـ على الأقل ـ أن يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب ... فقد قدّموا القميص سالماً غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم، فما إِن وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شيء و(قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً).

جاء في بعض الرّوايات أنّ يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلّبه ويقول: «ما آرى أثر ناب ولا ظفر إنّ هذا السبع رحيم»، وفي رواية أنّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل إبني ولم يمزق على قميصه، وجاء أنّه بكى وصاح وحرّ مغشيّاً عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من

[158]

ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلاّ ببرد السحر(1).

وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل قال: (فصبر جميل)(2) ثمّ قال: (والله المستعان على ما تصفون) وأسأله أن يبدل مرارة الصبر في فمي الى «حلاوة» ويرزقني القوة والقدرة على التحمّل أكثر أمام هذا الطوفان العظيم، لئلا أفقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.

ولم يقل: أسأله أن يعطيني الصبر على موت يوسف، لأنّه كان يعلم أن يوسف لم يُقتل ... بل قال: أطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف ... وعلى ما تصفون.

* * *

ملاحظات

1 ـ حول الترك «الأَولى»

ينقل أبو حمزة الثمالي عن الإِمام السجاد فيقول: كنت يوم الجمعة في المدينة وصليت الغداة مع الإِمام السجاد(عليه السلام) فلمّا فرغ من صلاته وتسبيحه نهض الى منزله وأنا معه، فدعا مولاة له تُسمى سكينة فقال لها: «لا يعبر على بابي سائل إِلاّ أطعمتموه فإنّ اليوم يوم الجمعة».

يقول أبو حمزة: فقلت له: ليس كل من يطلب العَونَ مستحقاً له، فقال: يا أبا ثابت، أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقّاً فلا نُطعمه ونردّه فينزل بنا ـ أهل البيت ـ ما نزل بيعقوب وآله. أطعِمُوهم إِن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشاً فيتصدق منه ويأكل هو وعياله منه، وإِن سائلا مؤمناً صوّاماً محقّاً له عندالله منزلة، وكان مجتازاً غريباً اعترَّ على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إِفطاره

_____________________________

1 ـ تفسير الآلوسي: ذيل الآية.

2 ـ صبر جميل (صفة وموصوف) خبر لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: صبري صبر جميل.

[159]

يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم، يهتف بذلك على بابه مراراً وهم يسمعونه، قد جهلوا حقّه ولم يصدقوا قوله: فلما أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكا جوعه الى الله باب وطاوياً، وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله، وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.

قال: فأوحى الله عزّو جلّ الى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت ـ يا يعقوب ـ عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبي، ونزول عقوبتي وبلواي عليك وعلى ولدك يا يعقوب، إِن أحبّ أنبيائي إِليَّ وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي وقرَّبهم اليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ يا يعقوب، ما رحمت «ذميال» عبدي المجتهد في عبادته، القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لمّا عبر ببابك عند أوان افطاره ويهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً. فاسترجع واستعبر وشكا ما به إِليّ وبات جائعاً وطاوياً حامداً، أصبح لي صائماً، وأنت ـ يا يعقوب ـ ووُلدك شباع، وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.

أو علمت ـ يا يعقوب ـ أنّ العقوبة والبلوى أوليائي أسرع منها الى أعدائي ... الخ...(1).

ومن الطريف أنّ أبا حمزة يقول: سألت الإِمام زين العابدين(عليه السلام) متى رأى يوسف رؤياه؟ فقال الإِمام: في تلك الليلة»(2).

يستفاد من هذا الحديث أن زلّة بسيطة أو بعبارة أدق: «ترك الأَولى» وهو لا يعدّ خطيئة أو إِثماً، لأنّ يعقوب له يتّضح له حال السائل ... هذا الترك من قبل الأنبياء والأولياء يكون سبباً لأنّ يبتليهم الله بلاءً شديداً ... وما ذلك إِلاّ لمقامهم

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج 2، ص 243 ونور الثقلين، ج 2، ص 411.

2 ـ المصدر السّابق.

[160]

الكبير الذي يوجب عليهم أن يراقبوا كل حركاتهم وسكناتهم، لأنّ «حَسنات الأبرار سيئات المقربين».

فاذا كان يعقوب(عليه السلام) قد ابتلي بهذا البلاء والهمّ لأنّه لم يطلع على حال قلب السائل وآلامه، فكيف الحال في المجتمعات التي تغرق فيها طائفة بالنعيم والرفاه وطائفة من الناس جياع، كيف لا يشملهم غضب الله! وكيف يسلَمون من عذاب الله!

2 ـ دعاء يوسف البليغ الجذّاب

ترد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) وروايات أهل السنة، أن يوسف حين استقرّ في قعر الجبّ انقطع أمله من كل شيء، وصرف كلِّ توجهه الى ذات الله المقدسة يناجي ربّه، وكانت لديه حوائج ذكرها بتلقين جبرئيل إِياه ...

ففي رواية أنّه دعا ربّه بهذه المناجاة «اللّهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، يا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملأ، يا حيّ يا قيّوم، أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي همّ ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً، إِنّك على كل شيء قدير».

ومن الطريف أنّنا نقرأ في ذيل هذه الرواية، أنّ الملائكة سمعت صوت يوسف فنادت: «إِلـهنا نسمع صوتاً ودعاءً، الصوت صوت صبي والدعاء دعاء نبيّ»(1).

وهناك نقطة تدعو للإِلتفات وهي: حين رمى يوسفَ إِخوتُهُ في الجبّ خلعوا عنه قيمصه وتركوه عارياً، فنادى: اتركوا لي قميصي ـ على الأقل ـ لأغطي به بدني إِذا بقيت حياً، ويكون كفني إِذا متّ. فقال له إِخوته: اطلبه من الشمس

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج 5، ص 337.

[161]

والقمر والكواكب الأحد عشر الذين رأيتهم في منامك، ليكونوا مؤنسيك في هذه البئر، ويكسوك ويُلبسوك ثوباً على بدنك ... فدعا يوسف على أثر اليأس المطلق بالدعاء الآنف الذكر.(1)

وفي رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «حين أُلقي يوسف في الجبّ هبط عليه جبرئيل وقال: ما تصنع هنا أيّها الغلام؟ فقال له: إِن إِخوتي ألقوني في البئر. فقال له جبرئيل: أتُّحبُّ أن تخرج من البئر؟ قال: ذلك بمشيئة الله، إن شاء أخرجني. فقال له: إِن الله يأمرك أن تدعو بهذا الدعاء لتخرج من البئر: «اللّهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإِكرام، أن تصلي على محمّد وآل محمّد وأن تجعل لي ممّا أنا فيه فرجاً ومخرجاً»(2).

3 ـ جملة (وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ) تدلّ على أنّهم لم يرموه في البئر، أنزلوه على مكان يشبه الرصيف لمن يريد النّزول الى سطح الماء، وقد شدوه يحبل حتى إذا نزل ووصل الى غيابة الجبّ تركوه وحده.

وهناك قسم من الرّوايات التي تفسّر الآيات المتقدمة تؤيد هذا الموضوع.

4 ـ تسويل النفس

جملة «سوّلت» مشتقّة من «التسويل» ومعناه «التزيين» وقد يأتي بمعنى «الترغيب» وقد يأتي بمعنى «الوسوسة» كما في بعض التفاسير ... جميع هذه المعاني ترجع الى شيء واحد ... أي إِنّ هوى النفس زيّن لكم هذا العمل.

وهي إِشارة الى أنّه حين يطغى هوى النفس على الإِنسان ويستبدّ به عناده، فإنه يتصور أن أسوأ الجنايات لديه أمر حسن، كما لو كان ذلك قتل الأخ أو إِبعاده، وقد يتصور أن ذلك أمر مقدّس ... وهذه نافذة على أصل كلي في المسائل

_____________________________

1 ـ المصدر السابق، ص 416.

2 ـ نور الثقلين، ج 2، ص 216.

[162]

النفسية، بحيث يجعل الميل المفرط والرغبة الجامحة لأمر ما ـ وخاصّة مع اقترانهما بالرذائل الأخلاقية ـ غشاوة على إِحساس الإِنسان، فتنقلب عنده الحقائق وتتغير صورها.

لذا فإِنّ القضاء الصحيح وإِدراك الواقعيّات العينيّة، لا يمكن لها أن تتحقق دون تهذيب النفس، وإِذا كانت العدالة شرط في القاضي فإنّ هذا الأمر واحد من أسبابها ... وإِذا كان القرآن الكريم يقول في الآية (282) من سورة البقرة (واتقوا الله ويعلمكم الله) فذلك إِشارة الى هذه الحقيقة أيضاً.

5 ـ الكذاب عديم الحافظة

قصّة يوسف ـ وما جرى له مع إِخوته ـ تثبت مرّة أُخرى هذا الأصل المعروف الذي يقول: إِنّ الكذاب لا يستطيع أن يكتم سرّه دائماً، لأنّ الواقعيات العينية حين تظهر الى الوجود الخارجي تظهر ومعها روابط ـ أكثر من أن تعدّ ـ مع موضوعات أُخرى تدور حولها، وإِذا أراد الكاذب أن يهيىء مناخاً لمسألة غير واقعية فإنّه لا يستطيع أن يحفظ هذه الروابط مهما كان دقيقاً.

ولنفرض أنّه يستطيع أن يؤلف بين عدد من الروابط الكاذبة في حادثة ما، ولكن المحافظة على هذه الروابط المصطنعة في ذهنه ليست عملا هيّناً، فإنّ أقل غفلة منه تسبب وقوعه في التناقض، فتتسبب هذه الغفلة في فضيحة صاحبها وتكشف الأمر الواقعي ... وهذا درس كبير لمن يريد المحافظة على ماء وجهه ومكانته في المجتمع أن لا يلجأ الى الكذب فيتعرض موقعه الإِجتماعي للخطر وينزل عليه غضب الله.

6 ـ ما هو الصبر الجميل؟

الصبر أمام الحوادث الصعبة والأزمات الشديدة يدلّ على قوة شخصية الإِنسان، وعلى سعة روحه بسعة ما تتركه هذه الحوادث فلا يتأثر ولا يهتز لها.

[163]

ربّما يحرك النسيم العليل ماء الحوض الصغير، ولكن المحيطات العظيمة كالمحيط الهادي ـ مثلا ـ يستوعب حتى الاعصار الذي يتلاشى أمام هدوئه وسعته.

وقد يتصبر الإِنسان أحياناً، ولكنّه سرعان ما يتلف هذا الصبر بكلماته النابية التي تدل عى عدم الشكر وعدم تحمل الحادثة ونفاد الصبر.

ولكن المؤمنين الذين يتمتعون بإِرادة قويّة واستيعاب للحوادث، هم أُولئك الذين لا يتأثرون بها ولا يجري على لسانهم ما يدلّ على عدم الشكر وكفران النعمة أو الجزع أو الهلع.

صبر هؤلاء هو الصبر الجميل ...

قد يبرز الآن هذا السؤال، وهو أننا نقرأ في الآيات الأُخرى ـ من هذه السورة ـ أنّ يعقوب بكى على يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، أفلا ينافي ما صدر من يعقوب صبرَه الجميل؟!

والجواب على هذا السؤال في جملة واحدة، وهي: إِن قلوب عباد الله مركز للعواطف، فلا عجب أن ينهلّ دمع عينهم مدراراً، المهم أن يسيطروا على أنفسهم، ولا يفقدوا توازنهم، ولا يقولوا شيئاً يسخط الله.

ومن الطريف أن مثل هذا السؤال وجه الى النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حين بكى على موت ولده إِبراهيم حيث قالوا له: يا رسول الله، أتنهانا عن البكاء وتبكي؟!

فأجابهم النّبي الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الربّ». وفي رواية أُخرى أنه قال: «ليس هذا بكاء إِنّه رحمة»(1).

وهذا إِشارة الى أنّ ما في صدر الإِنسان هو القلب، وليس حجر! وطبيعيّ أن يتأثر الإِنسان أمام المسائل العاطفية، وأبسط هذا التأثر هو انهلال الدمع ... إِنَّ هذا لايعدّ عيباً، بل هو أمر حسن، العيب هو أن يقول الإِنسان ما يسخط الربّ.

* * *

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج 22، ص 157 و158.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=766
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28