• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة يوسف من آية 39 ـ 66 من ( ص 210 ـ 258 ) .

سورة يوسف من آية 39 ـ 66 من ( ص 210 ـ 258 )

[210]

الآيات

يَصَحِبَىَ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنَزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَن إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(40) يَصَحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الأَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاَْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاج مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَهُ الشَّيْطَنُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ(42)

التّفسير

السّجن أو مركز التّربية:

حين هيّأ يوسف في البحث السابق قلوب السجينين لقبول حقيقة التوحيد،

[211]

توجّه إليهما وقال: (ياصاحبي السجن أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهّار).

فكأنّ يوسف يريد أن يفهم السجينين أنّه لِمَ تريانِ الحرية في النوم ولا تريانها في اليقظة؟! أليس ذلك من تفرقتكم وشرككم ونفاقكم الذي مصدره عبادة الأوثان والأرباب المتفرّقين ممّا سبّب أن يتغلّب عليكم الطغاة والجبابرة؟! فلِمَ لا تجتمعون تحت راية التوحيد، وتعتصموا بحبل الواحد القهّار، لتطردوا من مجتمعكم هؤلاء الظالمين والجبابرة الذين يسوقونكم إلى السجن أبرياء دون ذنب؟!

ثمّ يضيف قائلا: (ما تعبدون إلاّ أسماء سميّتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) بل هي صنع عقولكم العاجزة وأفكاركم المنحرفة .. (إنّ الحكم إلاّ لله) فلا ينبغي أن تطأطئوا رؤوسكم لسواه من الطغاة والفراعنة، ثمّ أضاف زيادة في التأكيد قائلا: (أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ذلك الدين القيّم).

أي إنّ التوحيد في جميع أبعاده ـ في العبادة، في الحكومة، في المجتمع، في المسائل الثقافية، وفي كلّ شيء ـ هو الدين الإلهي المستقيم والثابت. (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ولذلك خضعوا لحكومة غير (الله) فذاقوا الشقاء والسجون في هذا السبيل.

وبعد أن أرشد يوسف صاحبي سجنه ودلّهما ودعاهما إلى حقيقة التوحيد، بدأ بتعبير الرؤيا لهما .. لأنّهما من البداية جاءا لهذا الأمر وقد وعدهما بتعبير الرؤيا، ولكنّه إغتنم الفرصة وحدّثهما عن التوحيد الحي والمواجهة مع الشرك، ثمّ التفت إليهما وقال: (ياصاحبي السجن أمّا أحدكما فيسقي ربّه خمراً وأمّا الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه).

وبالرغم من تناسب كلّ رؤيا مع ما عبّره يوسف، فكان معلوماً إجمالا مَن الذي يطلق من السجينين؟ ومن الذي يصلب منهما؟ إلاّ أنّ يوسف لم يرغب في

[212]

أن يُبيّن التعبير بصراحة أكثر من هذه .. خاصّة وأنّ فيه خبراً غير مريح، لذلك جعل التعبير تحت عنوان «أحدكما».

ثمّ أضاف مؤكداً (قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وهو إشارة إلى أنّ هذا التعبير ليس تعبيراً ساذجاً، بل هو من أنباء الغيب التي تعلّمها من الله، فلا مجال للترديد والكلام بعد هذا.

في كثير من التفاسير ورد في ذيل الجملة المتقدّمة أنّ السجين الثّاني الذي سمع بالخبر المزعج أخذ يكذّب رؤياه ويقول: كنت أمزح معك، ظانّاً أنّ مصيره سيتبدّل بهذا التكذيب، فعقّب عليه يوسف بالجملة المتقدّمة!

ويحتمل أيضاً أنّ يوسف كان قاطعاً في تعبير الرؤيا إلى درجة بحيث ذكر الجملة المتقدّمة تأكيداً لما سبق بيانه.

وحين أحسّ يوسف أنّ السجينين سينفصلان عنه عاجلا، ومن أجل أن يجد يوماً يُطلق فيه ويُبّرأُ من هذه التهمة، أوصى أحد السجينين الذي كان يعلم أنّه سيطلق أن يذكره عند الملك (وقال للذي ظنّ أنّه ناج منهما اُذكرني عند ربّك) لكن هذا الغلام «الناسي» مثله مثل الأفراد قليلي الإستيعاب، ما إن يبلغوا نعمةً ما حتّى ينسوا صاحبها، وهكذا نسي يوسف تماماً، ولكن القرآن عبّر عن ذلك بقوله: (فأنساه الشيطان ذكر ربّه) وهكذا أصبح يوسف منسيّاً (فلبث في السجن بضع سنين).

هناك أقوال بين المفسّرين في أنّ الضمير من (أنساه الشيطان) هل يعود على ساقي الملك، أم على يوسف؟ كثير من المفسّرين يعيدون الضمير على يوسف فيكون المعنى: إنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر الله فتوسّل بسواه.

ولكن مع ملاحظة الجملة السابقة التي تذكر أنّ يوسف كان يوصي صاحبه أن يذكره عند ربّه، يظهر أنّ الضمير يعود على الساقي نفسه.

وكلمتا «الربّ» في المكانين بمعنى واحد.

[213]

كما أنّ جملة (وادّكر بعد اُمّة) التي ستأتي في الآيات التالية، تدلّ على أنّ الذي نسي هو الساقي.

ولكن سواءً عاد الضمير على يوسف أم على صاحبه، فما من شكّ من أنّ يوسف توسّل بالغير في سبيل نجاة نفسه!

وبديهي أنّ مثل هذا التوسّل للنجاة من السجن ومن سائر المشاكل، ليس أمراً غريباً بالنسبة للأفراد العاديين، وهو من قبيل التوسّل بالأسباب الطبيعية، ولكن بالنسبة للأفراد الذين هم قدوة وفي مكانة عالية من الإيمان والتوحيد، لا يمكن أن يخلو من إيراد، ولعلّ هذا كان سبباً في بقاء يوسف في السجن بضع سنين، إذ لم يرض الله سبحانه ليوسف «ترك الأَولى»!.

في حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «عجيب من أخي يوسف كيف إستغاث بالمخلوق دون الخالق؟» وروي أنّه قال: «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» يعني قوله (اُذكرني عند ربّك).

وروي عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال: «جاء جبرئيل (عليه السلام) فقال: يايوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال: ربّي، قال: فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوانك؟ قال: ربّي، قال: فمن ساق إليك السيارة؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك الحجارة؟ قال: ربّي، قال: فمن أنقذك من الجُبّ؟ قال: ربّي، قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال: ربّي، قال: فإنّ ربّك يقول: ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث بالسجن بما قلت بضع سنين»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية، الجزء 3، ص235.

[214]

ملاحظات

1 ـ السّجن مركز للإرشاد أو بؤرة للفساد

للسجن تأريخ مؤلم ومثير للغمّ جدّاً في هذا العالم، فأسوأ المجرمين وأحسن الناس كلاهما دخل السجن، ولهذا السبب كان مركزاً دائماً لأفضل الدروس البنّاءة أو لأسوأ الإختبارات.

وفي الحقيقة إنّ السجون التي يجتمع فيها المفسدون تعدّ معهداً عالياً للفساد! ففي هذه السجون تتمّ مبادلة الخطط التخريبيّة والتجارب .. وكلّ منحرف يعلم درسه للآخرين، ولهذا السبب حين يطلقون من السجن يواصلون طريقهم باُسلوب أكثر مهارة من السابق وبتشكيل جديد ... إلاّ أن يلتفت مسؤولو السجن لهذا الموضوع، ويعملوا على تغيير هؤلاء الأفراد الذين فيهم الإستعداد والقابلية إلى عناصر صالحة ومفيدة وبنّاءة.

وأمّا السجون التي تتشكّل من الصالحين والأبرياء والنزيهين والمجاهدين في طريق الحقّ والحرية، فهي معاهد ومراكز لتعليم الدروس العقائديّة والطرق العملية للجهاد والمبارزة والبناء.

وهذه السجون تعطي فرصة طيّبة للمنافحين في طريق الحقّ ليؤدّوا دورهم، وينسّقوا جهودهم بعد التحرّر من هذه السجون.

وحين إنتصر يوسف على امرأة محتالة ماكرة متّبعة لهواها ـ كامرأة عزيز مصر ـ ودخل السجن، سعى أن يبدّل محيط السجن إلى محيط بنّاء ومركز للتعليم والتربية، حتّى أنّه وضع أساس حريته وحرية الآخرين ضمن تخطيطه هناك.

وهذا الماضي يعطينا درساً مهمّاً، وهو أنّ الإرشاد والتربية ليسا محدودين في مركز معيّن كالمسجد والمدرسة ـ مثلا ـ بل ينبغي أن يستفاد من كلّ فرصة سانحة للوصول إلى هذا الهدف، حتّى ولو كانت في السجن وتحت أثقال القيود.

أمّا عدد السنوات التي قضاها يوسف في السجن، فهناك أقوال بين

[215]

المفسّرين، والمشهور أنّها سبع سنوات، إلاّ أنّ بعضهم قال: إنّ يوسف بقي في السجن إثنتي عشرة سنة، خمس قبل رؤيا صاحبي سجنه، وسبع بعدها، وكانت سنوات ملأى بالتعب والنَصب إلاّ أنّها من جهة الإرشاد كانت سنوات مفعمة بالبركة والخير(1).

2 ـ حين يُصلبُ المصلحون!

من الطريف أنّنا نقرأ في هذه القصّة أنّ الذي رأى في منامه أنّه يعصر خمراً ويقدّمه للملك قد تحرّر وأطلق من السجن، وأنّ الذي رأى أنّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه قد صعد عود المشنقة.

أليس مفهوم هذا أنّ الذين هم على خُطى الشّهوات وفي محيط المفسدين وأنظمة الطغاة ينالون الحريّة، وأمّا الذين يقدّمون خدمة للمجتمع ويعطون الخبز للناس فليس من حقّهم الحياة! وينبغي أن يموتوا؟ فهذا نسيج المجتمع الذي يحكمه النظام الفاسد .. وهذه نهاية الصالحين في أمثال هذا المجتمع!.

صحيح أنّ يوسف ـ إعتماداً على الوحي الإلهي وعلم التعبير ـ توقّع ما كان، ولكنّ أيّ معبّر لا يمكن له أن يبعد عن نظره هذه المناسبات!

ففي الحقيقة إنّ الخدمة في مثل هذه المجتمعات ذنب عظيم، والخيانة والإساءة هي الثواب بعينه!.

3 ـ أكبر دروس الحريّة

رأينا أنّ أكبر درس علّمه يوسف للسجناء هو درس التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، ذلك الدرس الذي حصيلته الحريّة والتحرّر.

لقد كان يعرف أنّ الأرباب «المتفرّقين» والمعبودين المختلفين والأهداف

_____________________________

1 ـ لزيادة الإيضاح في سنوات سجن يوسف يراجع تفسير المنار، والقرطبي، والميزان، والفخر الرازي.

[216]

المتفرّقة، كلّها أساس التفرقة في المجتمعات، وطالما هناك تفرقة فالجبابرة مسلّطون على رقاب الناس، لذلك أعطى يوسف «دستوراً» وأمراً بقطع جذورهم بسيف التوحيد الباتر، لئلاّ يضطرّوا إلى رؤية الحريّة في الأحلام والمنام، بل ينبغي أن يشاهدوا الحريّة في اليقظة.

تُرى، أليس الجبابرة المسلّطون على رقاب الناس هم ثلّة من الأفراد يستطيع الناس مكافحتهم، إلاّ أنّهم بإيجاد التفرقة والنفاق، وعن طريق «الأرباب المتفرقين» إستطاعوا أن يتحكّموا على رقاب الناس ويهدّوا قوى المجتمع!.

ومن الطبيعي أن يكون اليوم الذي تجتمع فيه الاُمم على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة تحت راية «الله الواحد القهّار» ويجمعوا قواهم، هو يوم زوال أُولئك الجبابرة الظالمين، وهذا درس مُهم جدّاً ليومنا وغدنا ولجميع الناس في كلّ المجتمعات البشرية وعلى إمتداد التاريخ.

ومن الضروري أن نلتفت إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أنّ يوسف يقول: (إنّ الحكم إلاّ لله) ثمّ يؤكّد أنّ العبادة والخضوع لا تكونان إلاّ له (أمر ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه) ويؤكّد بعد ذلك بالقول: (ذلك الدين القيّم) ويعقّب أخيراً (ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

فعلى هذا لو تعلّم الناس المعارف الصحيحة وعرفوا الحقيقة، ونهضت فيهم حقيقة التوحيد، فإنّ المشاكل ستنحلّ لا محالة.

4 ـ إستغلال شعار بنّاء بشكل سيىء

شعار (إنّ الحكم إلاّ لله) الذي هو شعار قرآني إيجابي مثبت، ينفي أيّة حكومة كانت سوى حكومة الله أو ما تنتهي إليه حكومة الله، إلاّ أنّه ـ وللأسف ـ استُغلّ على إمتداد التاريخ بشكل عجيب، ومن ذلك إستغلال الخوارج لهذا الشعار في واقعة «النهروان» حيث كانوا أُناساً جامدين حمقى قشريين منحرفين

[217]

جدّاً .. فتمسكوا بهذا الشعار لنفي التحكيم في حرب صفين وقالوا: لا يصحّ الحكم لنهاية الحرب أو الخليفة لأنّ الله يقول: (إنّ الحكم إلاّ لله).

لقد كانوا غافلين أو متغافلين عن هذه المسألة البديهيّة، وهي أنّ التحكيم إذا كان قد تعيّن من أئمّة أمر الله باتّباعهم فحكمهم أيضاً حكم الله لأنّه ينتهي إليه.

صحيح أنّ الحكمين في حرب صفين لم يتمّ تعيينهما من قبل الإمام علي (عليه السلام)، ولو كان الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عيّنهما فإنّ حكمهما حكمه، وحكم علي حكم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحكم النّبي حكم الله.

وهل ياترى يحكمُ الله أو يقضي مباشرةً بين المجتمعات! أو يتولّى اُمور الناس أشخاص من جنسهم، غاية ما في الأمر ينتهي أمرهم إلى الله؟! ولكن الخوارج ودون أن يتوجّهوا إلى هذه الحقيقة الواضحة أشكلوا على أصل قصّة التحكيم على الإمام علي (عليه السلام) وحتّى عدّوه ـ والعياذ بالله ـ زيغاً منه، يا لهذا الجهل والجمود والبلادة.

وهكذا فإنّ مثل هذه الأُمور البنّاءة حين تقع بأيدي أفراد جهّال تتحوّل إلى أسوأ الوسائل التخريبيّة.

وفي هذا اليوم نرى مجموعة من الناس من ضعاف النفوس الذين لا يقلّون عن أُولئك جهلا ولجاجةً، تمسّكوا بالآية المتقدّمة لنفي التقليد عن المجتهدين، أو نفي صلاحيّة حكومتهم، لكن جوابهم جميعاً هو ما ذكرناه آنفاً.

5 ـ التوجّه لغير الله

التوحيد لا يتلخّص في أنّ الله تعالى أحد فرد، بل ينبغي أن يتجسّد في جميع شؤون الحياة، وأحد أبرز علائمه أنّ الإنسان الموحّد لا يعتمد على غير الله ولا يلتجىء إلاّ إليه.

نحن لا نقول يجب على الإنسان أن لا يلحظ عالم الأسباب وقانون العلّية لا

[218]

يرى الأسباب شيئاً، ولا يعتمد على الوسائل والأسباب، بل نقول: أنّ لا يرى تأثيراً واقعيّاً في السبب، بل يرى رأس الخيط في جميع الأُمور بيد مسبّب الأسباب. وبتعبير آخر: لا يرى للأسباب إستقلالا، بل يراها تحت هيمنة الذات المقدّسة لله سبحانه.

ويمكن أن يكون عدم توجّه الأفراد العاديين لهذه الحقيقة الكبرى مدعاة للعفو، ولكن عدم الإلتفات ولو بمقدار رأس الإبرة بالنسبة لأولياء الله يكون سبباً لمجازاتهم، وإن لم يكن أكثر من «ترك الأَولى» ورأينا كيف أنّ يوسف بسبب عدم توجّهه لهذه المسألة المهمّة امتدّ حبسه سنوات لينضج آخراً في «موقد» الحوادث، وليحصل على إستعداد أكبر لمواجهة الطغاة، وليعلم أنّه لا ينبغي الإعتماد إلاّ على الله. وعلى المظلومين الذين يسيرون في طريق (الله).

وهذا درس كبير لمن يطوي هذه الطريق وللمجاهدين الصادقين بأن لا يخطر ببالهم الإتّفاق مع الشيطان لضرب شيطان آخر!.. ولئلاّ يميلوا إلى الشرق أو الغرب، ولا يغذّون الخطى إلاّ على الجادّة الوسطى وهي «الصراط المستقيم».

* * *

[219]

الآيات

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَت سِمَان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَت يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِي رُءْيَىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَثُ أَحْلَم وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاَْحْلَمِ بِعَلِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة أَنَاْ أُنْبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَت سِمَان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَت خُضْر وَأُخَرَ يَابِسَت لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ(46)قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِهىِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

[220]

التّفسير

رؤيا ملك مصر وما جرى له:

بقي يوسف سنين في السجن المظلم كأي إنسان منسيّ، ولم يكن لديه من عمل إلاّ بناء شخصيته، وإرشاد السجناء وعيادة مرضاهم وتسلية الموجَعين منهم.

حتّى غيّرت (حظّه وطالعه) حادثة صغيرة بحسب الظاهر .. ولم تغيّر هذه «الظاهرة» حظّه فحسب، بل حظّ اُمّة مصر وما حولها.

لقد رأى ملك مصر الذي يقال أنّ إسمه هو «الوليد بن الرّيان» وكان «عزيز مصر وزيره» رأى هذا الملك رؤيا مهولة، فأحضر عند الصباح المعبّرين للرؤيا ومن حوله فقصّ عليهم رؤياه (وقال الملك إنّي أرى سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات) ثمّ إلتفت إليهم طالباً منهم تعبير رؤياه فقال: (ياأيّها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبّرون).

ولكن حاشية السلطان وجموا إزاء هذه الرؤيا و (قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين).

«الأضغاث» جمع «ضِغْث» على وزن (حرص) ومعناه المجموعة من الحطب أو العشب اليابس أو الأخضر أو شيء آخر، و «الأحلام» جمع «حُلُم» على وزن «رُخم» معناه الطيف والرؤيا، فيكون معنى (أضغاث أحلام) هو الأطياف المختلطة، فكأنّها متشكّلة من مجموعة مختلفة ومتفاوتة من الأشياء، وجاءت كلمة الأحلام في جملة (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) مسبوقة بالألف واللام العهدية وهي إشارة إلى أنّ المعبّرين غير قادرين على تأويل مثل هذه الأحلام.

ومن اللازم ذكر هذه المسألة الدقيقة وهي: إنّ إظهار عجز أُولئك في الحقيقة كان من أجل أنّ المفهوم الواقعي لهذه الرؤيا عندهم غير واضح، ولذلك عدّوها

[221]

ضمن الأحلام المختلطة و «الأضغاث» حيث قسّموا الأحلام إلى قسمين:

أحلام ذات معنى وهي قابلة للتعبير.

وأحلام مختلطة لا معنى لها حيث لم يجدوا لها تعبيراً وتأويلا .. وكانوا يعدّون هذا النوع نتيجة قوّة الخيال، على العكس من النوع الأوّل الذي يعدّونه نتيجة إتّصال الروح بعالم الغيب.

كما أنّ هناك إحتمال آخر، وهو أنّهم توقّعوا أن تقع حوادث مزعجة في المستقبل، وما إعتاد عليه حاشية الملوك والطغاة هو ذكر المسائل المريحة لهم فحسب، وكما يُصطلح عليه ما فيه طيب الخاطر، ويمتنعون عن ذكر ما يزعجهم، وهذا أحد أسباب سقوط مثل هذه الحكومات المتجبّرة!

هنا يرد سؤال، وهو: كيف تجرّأ هؤلاء أمام السلطان، بقولهم جواباً لسؤاله عن رؤياه إنّها (أضغاث أحلام) في حين أنّ المعروف عند حاشية السلطان أنّ تفلسف كلّ حركة منه ولو كانت بغير معنى ويفسّرونها تفسيراً مقبولا.

من الممكن أنّهم رأوا الملك مهموماً من هذه الرؤيا، وكان من حقّه ذلك لأنّه رأى (سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات).

ألا يدلّ ذلك على أنّ من الممكن أنّ أفراداً ضعافاً يتسلّمون السلطة من يده على حين غرّة!؟!

لذلك قالوا له: (أضغاث أحلام) ليرفعوا الكدورة عن خاطره، أي: لا تتأثّر فما هنالك أمر مهم، وهذه الأحلام لا يمكن أن تكون دليلا على أي شيء.

وهناك إحتمال آخر ذكره المفسّرون وهو أنّ مرادهم من (أضغاث أحلام)لم يكن أنّ هذه الأحلام لا تأويل لها، بل المراد أنّ مثل هذه الأحلام ملتوية ومجموعة من اُمور مختلفة، وهم غير قادرين على تأويل مثل هذه الأحلام، فهم لم ينكروا إمكان وجود اُستاذ ماهر وقادر على تأويل هذه الرؤيا، وإنّما أظهروا

[222]

عجزهم عن التعبير والتأويل فحسب.

وهنا تذكّر ساقي الملك ما حدث له ولصاحبه في السجن مع يوسف، ونجا من السجن كما بشّره يوسف (وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد اُمّة أنا اُنبّئكم بتأويله فارسلون).

أجل في زاوية السجن يعيش رجل حيّ الضمير طاهر القلب مؤمن وقلبه مرآة للحوادث المستقبلية، إنّه الذي يستطيع أن يكشف الحجاب عن هذه الرؤيا المغلقة ويعبّرها.

جملة (فارسلون) تشير إلى أنّ من الممكن أن يكون يوسف ممنوع المواجهة، وكان الساقي يريد أن يأذن الملك ومن حوله بمواجهته لهذا الشأن.

وهكذا حرّك كلام الساقي المجلس وشخصت الأبصار نحوه، وطلبوا منه الإسراع بالذهاب إليه والإتيان بالخبر.

مضى الساقي إلى السجن ليرى صديقه القديم .. ذلك الصديق الذي لم يفِ بوعده له، لكنّه ربّما كان يعرف أنّ شخصية يوسف الكريمة تمنعه من فتح «باب العتاب» فالتفت إليه وقال: (يوسفُ أيّها الصدّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واُخر يابسات لعلّي أرجع إلى الناس لعلّهم يعلمون).

كلمة «الناس» تشير إلى إحتمال أنّ رؤيا الملك صيّرها أطرافه المتملّقون وحاشيته حادثة مهمّة لذلك اليوم، فنشروها بين الناس وعمّموا حالة «القلق» من القصر إلى الوسط الإجتماعي العام.

وعلى كلّ حال فإنّ يوسف دون أن يطلب شرطاً أو قيداً أو أجراً لتعبيره، عبّر الرؤيا فوراً تعبيراً دقيقاً لا غموض فيه ولا حجاب مقروناً بما ينبغي عمله في المستقبل و (قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلاّ

[223]

قليلا ممّا تأكلون)(1).

ثمّ أنّه يحلّ بكم القحط لسبع سنين متوالية فلا أمطار ولا زراعة كافية، فعليكم بالإستفادة ممّا جمعتم في سنيّ الرخاء (ثمّ يأتي بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ).

ولكن عليكم أن تحذروا من إستهلاك الطعام (إلاّ قليلا ممّا تحصنون) وإذا واظبتم على هذه الخطّة فحينئذ لا خطر يهدّدكم لأنّه (ثمّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس) ..

و (يغاث الناس) أي يدركهم الغيث فتكثر خيراتهم، وليس هذا فحسب، بل (فيه يعصرون) المحاصيل لإستخراج الدهن والفاكهة لشراب عصيرها .. الخ.

* * *

ملاحظات

1 ـ كم كان تعبير يوسف لهذه الرؤيا دقيقاً ومحسوباً، حيث كانت البقرة في الأساطير القديمة مظهر «السنة» .. وكون البقرات سماناً دليل على كثرة النعمة، وكونها عجافاً دليل على الجفاف والقحط، وهجوم السبع العجاف على السبع السّمان كان دليلا على أن يُستفاد من ذخائر السنوات السابقة.

وسبع سنبلات خضر وقد أحاطت بها سبع سنبلات يابسات تأكيد آخر على هاتين الفترتين فترة النعمة وفترة الشدّة.

إضافةً إلى انّه أكّد له على هذه المسألة الدقيقة، وهي خزن المحاصيل في

_____________________________

1 ـ كلمة «دأب» على وزن «أدب» تعني في الأصل إدامة الحركة، كما أنّها بمعنى العادة المستمرة، فيكون معنى الكلام: عليكم أن تزرعوا تبعاً لعادتكم المستمرة في مصر ولكن ينبغي أن تقتصدوا في مصرفه .. ويحتمل أن يكون المراد منه أن تزرعوا بجد وجهد أكثر فأكثر لأنّ دأباً ودؤوباً بمعنى الجدّ والتعب أيضاً، أي اعملوا حتّى تتعبوا.

[224]

سنابلها لئلاّ تفسد بسرعة وليكون حفظها إلى سبع سنوات ممكناً.

وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكلّ منهما دليل آخر على إنتهاء الجفاف والشدّة مع إنتهاء تلك السنوات السبع .. وبالطبع فإنّ سنةً سيأتي بعد هذه السنوات سنة مليئة بالخيرات والأمطار، فلابدّ من التفكير للبذر في تلك السنة وأن يحتفظوا بشيء ممّا يخزن لها.

في الحقيقة لم يكن يوسف مفسّراً بسيطاً للأحلام، بل كان قائداً يخطّط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدّم مقترحاً من عدّة مواد لخمسة عشر عاماً على الأقل، وكما سنرى فإنّ هذا التعبير المقرون بالمقترح للمستقبل حرّك الملك وحاشيته وكان سبباً لإنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أُخرى.

2 ـ مرّة أُخرى تعلِّمنا هذه القصّة هذا الدرس الكبير وهو أنّ قدرة الله أكبر ممّا نتصوّر، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم أن ينقذ اُمّة كبيرة من فاجعة عظيمة، ويخلّص عبده الخالص بعد سنين من الشدائد والمصائب أيضاً.

فلابدّ أن يرى الملك هذه الرؤيا، ولابدّ أن يحضر الساقي عنده يتذكّر رؤياه في السجن، وترتبط أخيراً حوادث مهمّة بعضها ببعض، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأُمور.

أجل، ينبغي لنا توكيد إرتباطنا القلبي مع هذا الربّ القادر ..

3 ـ الأحلام المتعدّدة في هذه السورة، من رؤيا يوسف نفسه إلى رؤيا السجينين إلى رؤيا فرعون مصر، والإهتمام الكبير الذي كان يوليه أهل ذلك العصر بالنسبة لتعبير الرؤيا أساساً، يدلّ على أنّ تعبير الرؤيا في ذلك العصر كان من العلوم المتقدّمة، وربّما وجب ـ لهذا السبب ـ أن يكون نبي ذلك العصر ـ أي

[225]

(يوسف) ـ مطّلعاً على مثل هذا العلم إلى درجة عالية بحيث يعدّ إعجازاً منه.

أليست معاجز الأنبياء يجب أن تكون من أبرز العلوم في زمانهم، ليحصل اليقين ـ عند العجز من قبل علماء العصر ـ بأنّ مصدر العلم الذي يحمله نبيّهم هو الله!.

* * *

[226]

الآيات

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَوَدتُّنَ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْئَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّدِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَآئِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لاََمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)

التّفسير

تبرئة يوسف من كلّ إتّهام!

لقد كان تعبير يوسف لرؤيا الملك ـ كما قُلنا ـ دقيقاً ومدروساً ومنطقياً إلى درجة أنّه جذب الملك وحاشيته إليه، إذ كان يرى أنّ سجيناً مجهولا عبّر رؤياه بأحسن تعبير وتحليل، دون أن ينتظر أيّ أجر أو يتوقّع أمراً ما .. كما أنّه أعطى

[227]

للمستقبل خطّة مدروسة أيضاً.

لقد فهم الملك إجمالا أنّ يوسف لم يكن رجلا يستحقّ السجن، بل هو شخص أسمى مقاماً من الإنسان العادي، دخل السجن نتيجة حادث خفيّ، لذلك تشوّق لرؤيته، ولكن لا ينبغي للملك أن ينسى غروره ويسرع إلى زيارته، بل أمر أن يُؤتى به إليه كما يقول القرآن: (وقال الملك ائتوني به فلمّا جاءه الرّسول) لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون أن يثبت براءته، فالتفت إلى رسول الملك و (قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعن أيديهنّ) إذن .. فيوسف لم يرغب أن يكون كأي مجرم، أو على الأقل كأي متّهم يعيش مشمولا بـ«عفو الملك» .. لقد كان يرغب أوّلا أن يُحقّق في سبب حبسه، وأن تثبت براءته وطهارة ذيله، ويخرج من السجن مرفوع الرأس، كما يُثبت ضمناً تلوّث النظام الحكومي وما يجري في قصر وزيره!.

أجل لقد اهتمّ بكرامة شخصيته وشرفه قبل خروجه من السجن، وهذا هو نهج الأحرار.

الطريف هنا أنّ يوسف في عبارته هذه أبدى سمواً في شخصيته إلى درجة أنّه لم يكن مستعدّاً لأنّ يصرّح باسم امرأة العزيز التي كانت السبب المباشر في إتّهامه وحبسه، بل إكتفى بالإشارة إلى جماعة النسوة اللاتي لهنّ علاقة بهذا الموضوع فحسب.

ثمّ يضيف يوسف: إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر ولا جهازه الحكومي وبأي سبب وصلت السجن، فالله مطّلع على ذلك (إنّ ربّي بكيدهن عليم).

عاد المبعوث من قبل الملك إلى يوسف مرّة ثانية إلى الملك، وأخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته، لذا عظم يوسف في نفس الملك وبادر مسرعاً إلى إحضار النسوة اللائي شاركن في الحادثة، والتفت إليهنّ (وقال ما خطبكنّ إذ راودتن يوسف عن نفسه) يجب أن تقلنَ الحقّ .. هل إرتكب

[228]

يوسف خطيئة أو ذنباً؟

فتيقّظ فجأةً الوجدان النائم في نفوسهنّ، وأجبنه جميعاً بكلام واحد ـ متّفق على طهارته و (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء).

أمّا امرأة العزيز التي كانت حاضرة أيضاً، وكانت تصغي بدقّة إلى حديث الملك ونسوة مصر، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت، ودون أن تُسأل أحسّت بأنّ الوقت قد حان لأنّ تنزّه يوسف وأن تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقّه، وخاصّة أنّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته إلى الملك، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّاً ومغلقاً تحت عنوان «نسوة مصر».

فكأنّما حدث إنفجار في داخلها فجأةً وصرخت و (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصادقين).

ثمّ واصلت امرأة العزيز كلامها (ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب) لأنّي عرفت بعد هذه المدّة الطويلة وما عندي من التجارب (أنّ الله لا يهدي كيد الخائنين).

في الحقيقة (بناءً على أنّ الجملة المتقدّمة لإمرأة العزيز كما يقتضيه ظاهر العبارة) فانّها ومن أجل إعترافها الصريح بنزاهة يوسف وما أخطأته في حقّه، تقيم دليلين:

الأوّل: إنّ وجدانها، ويحتمل بقايا علاقتها بيوسف، لا تسمح لها أن تستر الحقّ أكثر من هذا، وأن تخون هذا الشاب الطاهر في غيابه.

الثّاني: إنّ من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلّت لها هذه الحقيقة، وهي أنّ الله يرعى الصالحين ولا يوفّق الخائنين في مرادهم أبداً.

وبهذا بدأت الحجب تنقشع عن عينيها قليلا قليلا .. وتلمس حقيقة الحياة ولا سيّما في هزيمة عشقها الذي صنع غرورها وشخصيتها الخياليّة، وإنفتحت

[229]

عيناها على الواقع أكثر، فلا عجب أن تعترف هذا الإعتراف الصريح.

وتواصل امرأة العزيز القول: (وما اُبرىء نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي) وبحفظه وإعانته نبقى مصونين، وأنا أرجو أن يغفر لي ربّي هذا الذنب (إنّ ربّي غفور رحيم).

قال بعض المفسّرين: إنّ الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف، وقالوا: إنّهما في الحقيقة تعقيب لما قاله يوسف لرسول الملك ومعنى الكلام يكون هكذا.

«إذا قلت حقّقوا عن شأن النسوة اللائي قطّعن أيديهن، فمن أجل أن يعلم الملك أو عزيز مصر الذي هو وزيره، أنّي لم أخنه في غيابه والله لا يهدي كيد الخائنين كما لا اُبريءُ نفسي لأنّ النفس أمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم».

الظاهر أنّ الهدف من هذا التّفسير المخالف لظاهر الآية أنّهم صعب عليهم قبول هذا المقدار من العلم والمعرفة لإمرأة العزيز التي تقول بلحن مخلص وحاك عن التنبّه والتيقّظ.

والحال أنّه لا يبعد أنّ الإنسان حين يرتطم في حياته بصخرة صمّاء، تظهر في نفسه حالة من التيقّظ المقرون بالإحساس بالذنب والخجل، خاصّة أنّه لوحظ أنّ الهزيمة في العشق المجازي يجرّ الإنسان إلى طريق العشق الحقيقي «عشق الله».

وبالتعبير علم النفس المعاصر: إنّ تلك الميول النفسية المكبوتة يحصل فيها حالة الـ«تصعيد» وبدلا من تلاشيها وزوالها فانّها تتجلّى بشكل عال.

ثمّ إنّ قسماً من الرّوايات التي تشرح حال امرأة العزيز ـ في السنين الأخيرة من حياتها ـ دليل على هذا التيقّظ والإنتباه أيضاً.

وبعد هذا كلّه فربط هاتين الآيتين بيوسف ـ إلى درجة ما ـ بعيدٌ، وهو خلاف الظاهر بحيث لا ينسجم مع أي من المعايير الأدبية للأسباب الآتية:

[230]

أوّلا: كلمة «ذلك» التي ذكرت في بداية الآية هي بعنوان ذكر العلّة، أي علّة الكلام المتقدّم الذي لم يكن سوى كلام امرأة العزيز فحسب، وربط هذا التذييل بكلام يوسف الوارد في الآيات السابقة أمر عجيب.

ثانياً: إذا كانت هاتان الآيتان بياناً لكلام يوسف فسيبدو بينهما نوع من التناقض والتضادّ، فمن جهة يقول: إنّي لم أخنه بالغيب، ومرّة يقول: وما اُبرىء نفسي إنّ النفس لأمّارة بالسوء. وهذا الكلام لا يقوله إلاّ من يعثر أو يزل ولو يسيراً، في حين أنّ يوسف لم يصدر منه أي زلل.

وثالثاً: إذا كان مقصوده أن يعرف عزيز مصر أنّه بريء فهو من البداية «بعد شهادة الشاهد» عرف الواقع، ولذلك قال لامرأته: (استغفري لذنبك) وإذا كان مقصوده أنّه لم يخن الملك، فلا علاقة للملك بهذا الأمر، والتوسّل إلى تفسيرهم هذا بحجّة أنّ الخيانة لامرأة العزيز خيانة للملك الجبّار، فهو حجّة واهية ـ كما يبدو ـ خاصّة أنّ حاشية القصر لا يكترثون بمثل هذه المسائل.

وخلاصة القول: إنّ هذا الإرتباط في الآيات يدلّ على أنّ جميع ما ورد في السياق من كلام امرأة العزيز التي إنتبهت وتيقّظت وإعترفت بهذه الحقائق.

* * *

ملاحظات

1 ـ هذه عاقبة التقوى

رأينا في هذا القسم من قصّة يوسف أنّ عدوّته المعاندة «زليخا» إعترفت أخيراً بطهارته، كما إعترفت بذنبها وخطئها .. وببراءته .. وهذه عاقبة التقوى وطهارة الثوب، وهذا معنى قوله تعالى: (ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب).

فكن طاهراً واستقم في طريق «الطهارة» فالله حاميك ولا يسمح للملوّثين

[231]

أن يسيؤوا إليك.

2 ـ الهزائم التي تكون سبباً للتيقّظ

لا تكون الهزائم هزائم دائماً، بل ـ في كثير من الأحيان ـ تعدّ الهزيمة هزيمةً في الظاهر إلاّ أنّها في الباطن نوع من الإنتصار المعنوي، وهذه هي الهزائم التي تكون سبباً لتيقّظ الإنسان، وتشقّ حجب الغفلة والغرور عنه، وتعدّ نقطة إنعطاف جديدة في حياته.

فامرأة العزيز التي تدعى «زليخا» أو «راعيل» وإن ابتُليت في عملها بأشدّ الهزائم، لكن هذه الهزيمة في مسير الذنب كانت سبباً لأنّ تنتبه ويتيقّظ وجدانها النائم، وأن تندم على ما فات من عملها .. والتفتت إلى ساحة الله. وما ينقل من قصتها بعد لقائها ليوسف وهو عزيز مصر ـ آنئذ ـ شاهد على هذا المدّعى، إذ قالت: «الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته وجعل الملوك عبيداً بمعصيته».

ونقرأ في نهاية الحديث أنّ يوسف تزوّج منها أخيراً(1).

السعداء هم أُولئك الذين يصنعون من الهزائم إنتصاراً، ومن سوء الحظّ حظّاً حسناً، ومن أخطائهم طريقاً صحيحاً للحياة.

وبالطبع فليس ردّ الفعل من قِبل جميع الأفراد إزاء الهزائم هكذا ... فالأشخاص الضعاف حين تصيبهم الهزيمة ييأسون ويكتنف القنوط جميع وجودهم، وقد يؤدّي بهم إلى الإنتحار وهذه هي الهزيمة الحقيقيّة.

لكن الذين يشعرون بكرامتهم وشخصيّتهم، يسعون لأنّ يجعلوا الهزائم سلّماً لصعودهم وترقّيهم وجسراً لإنتصارهم.

_____________________________

1 ـ سفينة البحار ج1 ص554.

[232]

3 ـ الحفاظ على الشرف خير من الحرية الظاهرية

رأينا أنّ يوسف لم يدخل السجن لطهارة ثوبه فحسب، بل لم يكن مستعدّاً للخروج من السجن حتّى يعود مبعوث الملك ويجري التحقيقات حول النسوة اللائي قطّعن أيديهن لتثبت براءته ويخرج من السجن مرفوع الرأس ... لا أن يخرج كأي مجرم ملوّث يشمله عفو الملك!! وذلك ذلّ وأي ذلّ! وهذا درس لكلّ الناس في الماضي والحاضر والمستقبل.

4 ـ النفس الأمّارة «المتمردّة»

يقسّم علماء النفس والأخلاق النفس «وهي الإحساسات والغرائز والعواطف الإنسانية» إلى ثلاثة مراحل، وقد أشار إليها القرآن المجيد:

المرحلة الأُولى: «النفس الأمّارة» وهي النفس التي تأمر الإنسان بالذنب وتجرّه إلى كلّ جانب، ولذا سمّوها «أمّارة» وفي هذه المرحلة لا يكون العقل والإيمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها، بل في كثير من المواقع يستسلمان للنفس الأمّارة، وإذا تصارعت النفس الأمّارة مع العقل في هذه المرحلة فإنّها ستهزمه وتطرحه أرضاً.

وهذه المرحلة هي التي أُشير إليها في الآية المتقدّمة، وجرت على لسان امرأة العزيز بمصر، وجميع شقاء الإنسان أساسه النفس الأمّارة بالسوء.

المرحلة الثّانية: «النفس اللّوّامة» وهي التي ترتقي بالإنسان بعد التعلّم والتربية والمجاهدة، وفي هذه المرحلة ربّما يخطىء الإنسان نتيجة طغيان الغرائز، لكن سرعان ما يندم وتلومه هذه النفس، ويصمّم على تجاوز هذا الخطأ والتعويض عنه، ويغسل قلبه وروحه بماء التوبة.

وبعبارة أُخرى: في المواجهة بين النفس والعقل، قد ينتصر العقل أحياناً وقد

[233]

تنتصر النفس، إلاّ أنّ النتيجة والكفّة الراجحة هي للعقل والإيمان.

ومن أجل الوصول إلى هذه المرحلة لابدّ من الجهاد الأكبر، والتمرين الكافي، والتربية في مدرسة الاُستاذ، والإستلهام من كلام الله وسنن الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام).

وهذه المرحلة هي التي أقسم الله بها في سورة القيامة قسماً يدلّ على عظمتها (لا اُقسم بيوم القيامة ولا اُقسم بالنفس اللّوامة).

المرحلة الثّالثة: «النفس المطمئنة» وهي المرحلة التي توصل الإنسان بعد التصفية والتهذيب الكامل إلى أن يسيطر على غرائزه ويروّضها فلا تجد القدرة للمواجهة مع العقل والإيمان، لأنّ العقل والإيمان بلغا درجة من القوّة بحيث لا تقف أمامهما الغرائز الحيوانية.

وهذه هي مرحلة الإطمئنان والسكينة ... الإطمئنان الذي يحكم المحيطات والبحار حيث لا يظهر عليها الإنهزام أمام أشدّ الأعاصير.

وهذا هو مقام الأنبياء والأولياء وأتباعهم الصادقين، أُولئك الذين تدارسوا الإيمان والتقوى في مدرسة رجال الله، وهذّبوا أنفسهم سنين طوالا، وواصلوا الجهاد الأكبر إلى آخر مرحلة.

وإليهم وإلى أمثالهم يشير القرآن الكريم في سورة الفجر (ياأيّتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربّك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي).

اللهمّ أعنّا لنستضيء بنور آياتك، ونصعّد أنفسنا الأمّارة إلى اللّوامة ومنها إلى النفس المطمئنة .. ولنجد روحاً مطمئناً لا يضطرب ولا يتزلزل أمام طوفان الحوادث، وأن نكون أقوياء أمام الأعداء، ولا تبهرنا زخارف الدنيا وزبارجها، وأن نصبر على البأساء والضرّاء.

اللهمّ ارزقنا العقل لننتصر على أهوائنا .. ونوّرنا إذا كنّا على خطأ بالتوفيق

[234]

والهداية.

اللهمّ إنّنا لم نبلغ هذه المرحلة بخُطانا، بل كنت أنت في كلّ مرحلة دليلنا وقائدنا، فلا تحبس ألطافك عنّا ... وإذا كان عدم شكرنا على جميع هذه النعم مستوجباً لعقابك، فأيقظنا من نومة الغافلين قبل أن نذوق العذاب آمين ربّ العالمين.

* * *

[235]

الآيات

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَومَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاَْرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الاَْرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الُْمحْسِنِينَ (56) وَلاََجْرُ الاَْخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(57)

التّفسير

يوسف أميناً على خزائن مصر:

رأينا أنّ يوسف ـ هذا النّبي العظيم ـ ثبتت براءته أخيراً للجميع، وحتّى الأعداء شهدوا بطهارته ونزاهته، وظهر لهم أنّ الذنب الوحيد الذي أودع من أجله السجن لم يكن غير التقوى والأمانة التي كان يتحلّى بهما.

إضافةً إلى هذا فقد ثبت لهم أنّ هذا السجين منهل العلم والمعرفة والنباهة وطاقة فذّة وعالية في الإدارة، حيث أنّه حينما فسّر رؤيا الملك (وهو سلطان

[236]

مصر) بيّن له الطرق الكفيلة للخلاص من المشكلة الإقتصادية المتفاقمة القادمة.

ثمّ يستمر القرآن بذكر القصّة فيقول: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي)وهكذا أمر الملك بإحضاره لكي يجعله مستشاره الخاص ونائبه في المهمّات فيستفيد من علمه ومعرفته وخبرته لحلّ المشاكل المستعصية.

ثمّ أرسل الملك مندوباً لزيارته في السجن، فدخل عليه وأبلغه تحيات الملك وعواطفه القلبية تجاهه ثمّ قال له: إنّه قد لبّى طلبك في البحث والتحقيق عن نساء مصر وإتّهامهنّ إيّاك، حيث شهدنّ جميعهنّ صراحةً ببراءتك ونزاهتك فالآن لا مجال للتأخير، قم لنذهب إلى الملك.

فدخل يوسف على الملك وتكلّم معه فعندما سمع من يوسف الأجوبة التي تحكي عن علمه وفراسته وذكائه الحادّ، إزداد حبّاً له وقال: إنّ لك اليوم عندنا منزلة رفيعة وسلطات واسعة وإنّك في موضع ثقتنا وإعتمادنا (فلمّا كلّمه قال إنّك اليوم لدينا مكين أمين) فلابدّ أن تتصدّى للمناصب الهامّة في هذا البلد، وتهتمّ بإصلاح الأُمور الفاسدة، وإنّك تعلم (حينما فسّرت الرؤيا) بأنّ أزمة إقتصادية شديدة سوف تعصف بهذا البلد، وفي تصوّري إنّك الشخص الوحيد القادر على أن يتغلّب على هذه الأزمة.

فاختار يوسف منصب الأمانة على خزائن مصر، وقال إجعلني مشرفاً على خزائن هذا البلد فإنّي حفيظ عليم وعلى معرفة تامّة بأسرار المهنة وخصائصها (قال إجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم).

كان يوسف يعلم أنّ جانباً كبيراً من الإضطراب الحاصل في ذلك المجتمع الكبير المليء بالظلم والجور يكمن في القضايا الإقتصادية، والآن وبعد أن عجزت أجهزة الحكم من حلّ تلك المشاكل وإضطرّوا لطلب المساعدة منه، فمن الأفضل له أن يسيطر على إقتصاد مصر حتّى يتمكّن من مساعدة المستضعفين وأن يخفّف عنهم ـ قدر ما يستطيع ـ الآلام والمصاعب ويستردّ حقوقهم من

[237]

الظالمين. ويقوم بترتيب الأوضاع المترديّة في ذاك البلد الكبير، ويجعل الزراعة وتنظيمها هدفه الأوّل وخاصّةً بعد وقوفه على أنّ السنين القادمة هي سنوات الوفرة حيث تليها سنوات المجاعة والقحط، فيدعو الناس إلى الزراعة وزيادة الإنتاج وعدم الإسراف في إستعمال المنتوجات الزراعية وتقنين الحبوب وخزنها والإستفادة منها في أيّام القحط والشدّة.

وهكذا لم ير يوسف بُدّاً من توليّة منصب الإشراف على خزائن مصر.

وقال البعض: إنّ الملك حينما رأى في تلك السنة أنّ الأُمور قد ضاقت عليه وعجز عن حلّها، كان يبحث عمّن يعتمد عليه وينجّيه من المصاعب، فمن هنا حينما قابل يوسف ورآه أهلا لذلك أعطاه مقاليد الحكم بأجمعها وإستقال هو من منصبه.

وقال آخرون: إنّ الملك جعله في منصب الوزير الأوّل بديلا عن (عزيز مصر).

والإحتمال الآخر هو أنّه بقي مشرفاً على خزائن مصر ـ وهذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة، إلاّ أنّ الآيتين (100) و(101) واللتين يأتي تفسيرهما بإذن الله تدلاّن على أنّه أخيراً إستقلّ باُمور مصر ـ بدل الملك وصار هو ملكاً على مصر.

وبرغم أنّ الآية رقم (88) تقول: إنّ إخوة يوسف حينما دخلوا عليه نادوه باسم (ياأيّها العزيز) وهذا دليل على أنّه استقلّ بمنصب عزيز مصر، لكن نقول: إنّه لا مانع من أن يكون يوسف قد إرتقى سلّم المناصب تدريجاً حيث كان في أوّل الأمر مشرفاً على الخزائن، ثمّ جُعل الوزير الأوّل، وأخيراً صار ملكاً على مصر.

ثمّ يقول الله سبحانه وتعالى مُنهياً بذلك قصّة يوسف (عليه السلام): (وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء).

[238]

نعم إنّ الله سبحانه وتعالى ينزل رحمته وبركاته ونعمه المادية والمعنوية على من يشاء من عباده الذين يراهم أهلا لذلك (نصيب برحمتنا من نشاء).

وأنّه سبحانه وتعالى لا ينسى أن يجازي المحسنين، وإنّه مهما طالت المدّة فإنّه يجازيهم بجزائه الأوفى (ولا نضيع أجر المحسنين).

ولكن لا يقتصر سبحانه وتعالى على مجازاة المحسنين في الدنيا، بل يجازي المتّقين والمحسنين بأحسن من ذلك في الآخرة وهو الجزاء الأوفى (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتّقون).

* * *

بحوث

1 ـ كيف إستجاب يوسف لطلب طاغوت زمانه؟

بالنسبة للآيات المتقدّمة فإنّ أوّل ما يجلب إليها النظر هو أنّه كيف لبّى يوسف ـ هذا النّبي العظيم ـ طلب طاغوت زمانه وتعاون معه وتحمّل منصب الوزارة أو الإشراف على خزينة الدولة؟

جواب هذا السؤال ـ في الحقيقة ـ يكمن في نفس الآيات السابقة، فإنّه قد تحمّل هذه المسؤولية بعنوان أنّه (حفيظ عليم) كي يحفظ بيت المال المتضمّن لأموال الشعب ويستثمره في سبيل منافعهم، وبخاصّة حقوق الطبقة المحرومة والتي غالباً ما يستولي عليها المستكبرون.

إضافةً إلى هذا فإنّه عن طريق معرفته بتعبير الرؤيا ـ كما ذكرنا ـ كان على علم بالأزمة الإقتصادية الشديدة التي سوف تعصف بالشعب المصري، بحيث لولا التخطيط الدقيق والإشراف المباشر عليها لماتت جماعات كثيرة من الشعب .. فبناءً على هذا فإنّ إنقاذ حياة الأُمّة والإحتفاظ بأرواح شعب بريء يقتضي أن يستفيد يوسف من هذه الفرصة التي اُتيحت له ويستغلّها لأجل خدمة جميع أفراد

[239]

الشعب، وبخاصّة المحرومين منهم حيث إنّهم عادةً ما يكونون أوّل ضحايا الأزمة الإقتصادية وأكثر المتضرّرين من الغلاء.

وقد ورد كلام مفصّل حول هذا الموضوع في بحث إستجابة طلب الظالم وقبول الولاية في علم الفقه، وإنّ إستجابة طلب الظالم والتصدّي لمناصب الحكم لا يكون حراماً دائماً، بل تارةً يكون مستحبّاً، وقد يكون في بعض الأحيان واجباً شرعاً، وذلك إذا كانت منفعة التصدّي ومرجّحاته الدينيّة أكثر من الأضرار الناتجة عن التصدّي من دعم حكم الظالم وغيره.

ونلاحظ في روايات عديدة أنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يجوّزون لبعض خلّص شيعتهم وأصحابهم أمثال علي بن يقطين ـ الذي كان من أصحاب الكاظم(عليه السلام) ـ حيث تصدّى لمنصب الوزارة لفرعون زمانه ـ هارون الرشيد ـ وذلك بأمر من الإمام (عليه السلام)، غاية ما في الأمر أنّ الإستجابة والتصدّي لمناصب الحكم أو ردّها تابعان لقانون «الأهم والمهم».

فلابدّ من ملاحظة المنافع الدينيّة والإجتماعية ومقارنتها مع الأضرار الناتجة، إذ لعلّ الذي يتصدّى للمنصب قد يستطيع في نهاية المطاف أن يزيح الظالم عن الحكم (كما حدث ليوسف بناءً على مضمون بعض الرّوايات الواردة) أو يكون المعين الذي تنبثق منه الحركات والثورات، لأنّه يقوم بتهيئة مقدّمات الثورة من داخل أجهزة الحكم القائم (ويمكن أن يكون مؤمن آل فرعون من هذا القبيل) أو يكون على الأقل ملجأً وملاذاً للمظلومين والمحرومين ومخفّفاً عن آلامهم والضغوط الواردة عليهم من قبل أجهزة النظام.

وكلّ واحد من هذه الأُمور يمكن أن يكون مبرّراً للتصدّي للمناصب وقبولها من الحاكم الظالم، وللإمام الصادق (عليه السلام) رواية معروفة في حقّ هؤلاء الأشخاص يقول (عليه السلام) (كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان)(1).

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج12، 139.

[240]

لكن هذا الموضوع ـ التعاون مع الظالم ـ من الاُمور التي يقترب فيها حدود الحلال من الحرام، وكثيراً ما يؤدّي تهاون صغير من الشخص المتصدّي إلى وقوعه في أشراك النظام وإرتكاب جريمة تعدّ من أكبر الجرائم وأفظعها ـ وهي التعاون مع الظالم ـ في حين يتصوّر أنّه يقوم بعبادة وخدمة إنسانية مشكورة.

وقد يستفيد بعض الإنتهازيين من حياة (يوسف) أو (علي بن يقطين) ويتّخذه ذريعة للتعاون مع الظالم وتغطية لأعمالهم الشريرة، في حين أنّه يوجد بون شاسع بين تصرّفاتهم وتصرّفات يوسف أو علي بن يقطين(1).

هنا سؤال آخر يطرح نفسه وهو أنّه كيف رضخ سلطان مصر الظالم لهذا الأمر ـ وإستجاب لطلب يوسف ـ مع علمه بأنّ يوسف لا يسير بسيرة الظالمين والمستثمرين والمستعمرين، بل يكون على العكس من ذلك معادياً لهم؟

الإجابة على هذا السؤال لا تكون صعبة مع ملاحظة أمر واحد وهو أنّه تارةً تحيط الأزمات الإقتصادية والإجتماعية بالظالم بحيث تزلزل أركان حكومته الظالمة، فيرى الخطر محدقاً بحكومته وبكلّ شيء يتعلّق بها ... في هذه الحالة وتجنّباً من السقوط التامّ لا يمانع، بل يدعم قيام حكومة شعبية عادلة لكي يحافظ على حياته وبجزء من سلطته.

2 ـ أهميّة المسائل الإقتصادية والإدارية

رغم أنّنا لا نتّفق مع الرؤية التي تنظر إلى الأُمور بمنظار واحد وتحصر جميع

_____________________________

1 ـ نطالع في روايات عديدة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إنّ بعض الجاهلين بالمعايير الإسلامية كانوا يعترضون على الإمام أحياناً، بأنّه لماذا قبلت ولاية عهد المأمون مع كلّ زهدك في الدنيا وإعراضك عنها؟ فكان الإمام (عليه السلام) يجيبهم: «ياهذا أيّما أفضل النّبي أم الوصي»؟ فقالوا: لا بل النّبي، فقال: أيّهما أفضل مسلم أم مشرك»؟ فقالوا: لا بل مسلم فقال: «فإنّ العزيز عزيز مصر كان مشركاً، وكان يوسف (عليه السلام) نبيّاً، وإنّ المأمون مسلم» وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال: (اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم)، وأنا اُجبرت على ذلك» وسائل الشيعة، ج12، ص146.

[241]

الأُمور في القضايا الإقتصادية دون إعطاء أي دور للإنسان، ولكن برغم ذلك فإنّه لا يمكن غضّ النظر عن أهمية القضايا الإقتصادية ودورها في المجتمعات، والآيات السابقة تشير إلى هذه الحقيقة، والملاحظ أنّ يوسف ركّز من بين جميع مناصب الدولة على منصب الإشراف على الخزانة، وذلك لعلمه أنّه إذا نجح في ترتيب إقتصاد مصر، فإنّه يتمكّن من إصلاح كثير من المفاسد الإجتماعية، كما أنّ تنفيذه للعدالة الإقتصادية يؤدّي إلى سيطرته على سائر دوائر الدولة وجعلها تحت إمرته.

وقد إهتّمت الرّوايات الإسلامية بهذا الموضوع إهتماماً كبيراً، فمثلا نرى في الرّواية المعروفة المروية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه جعل (قوام الدين والدنيا) في ركنين: أحدهما القضايا الإقتصادية وما يقوم عليه معاش الناس، والركن الآخر هو العلم والمعرفة.

وبرغم أنّ المسلمين قد أهملوا هذا الجانب من الحياة الفردية والإجتماعية الذي إهتمّ به الإسلام كثيراً وتأخّروا عن أعداء الإسلام في هذا الجانب، إلاّ أنّ يقظة المجتمعات الإسلامية المتزايدة وتوجّههم نحو الإسلام يزيد الأمل في النفوس بأن تزيد من نشاطها الإقتصادي وتعتبره عبادة إسلامية كبرى، وتقوم ببناء نظام إقتصادي مدروس وفق خطط محكمة لكي تعود إليهم قوّتهم ونشاطهم.

وهنا نقطة أُخرى يجب التنبيه عليها، وهي إنّنا نلاحظ أنّ يوسف (عليه السلام)يخاطب الملك ويقول له: (إنّي حفيظ عليم) وهذه إشارة إلى أهميّة عنصر الإدارة إلى جانب عنصر الأمانة وأنّ توفّر عنصر الأمانة والتقوى فقط في شخص لا يؤهّله لأنّ يتصدّى لأحد المناصب الإجتماعية الحسّاسة، بل لابدّ من إجتماع ذلك العامل مع العلم والتخصّص والقدرة على الإدارة، لكونه قرن الـ(عليم) مع الـ(حفيظ) وكثيراً ما نشاهد الأضرار الناتجة عن سوء الإدارة لا تقلّ بل تزيد على

[242]

الخسائر الناتجة عن الخيانة!

فهذه التعليمات الإسلامية صريحة في أهميّة جانب الإدارة والقدرة عليها، ومع ذلك نرى تهاون بعض المسلمين بهذا الجانب، فالمهمّ لديهم هو نصب الأشخاص الذين يطمئنون إلى تقواهم وأمانتهم لإدارة الأُمور، مع أنّ السيرة النبوية الشريفة (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك سيرة علي (عليه السلام) ترشدان إلى أنّهما كانا يهتمّان إهتماماً كبيراً بالجانب الإداري والقدرة على الإدارة مع إهتمامهم بأمانة الشخص وسلوكه الحسن.

3 ـ الرقابة على الإستهلاك

الملاحظ في القضايا الإقتصادية أنّه قد لا تكون (زيادة الإنتاج) بمكان من الأهميّة بقدر أهميّة (الرقابة على الإستهلاك) ومن هنا نشاهد أنّ يوسف في أيّام حكومته، حاول ـ بشدّة ـ أن يسيطر على الإستهلاك الداخلي في سنوات الوفرة لكي يتمكّن من الإحتفاظ بجزء كبير من المنتوجات الزراعية لسنوات القحط والمجاعة القادمة، وفي الحقيقة أنّ زيادة الإنتاج والرقابة متلازمان لا يفترقان، فالزيادة في الإنتاج لا تثمر إلاّ إذا أعقبتها رقابة صحيحة، كما أنّ الرقابة تكون أكثر فائدة إذا أعقبتها زيادة في الإنتاج.

إنّ السياسة الإقتصادية التي انتهجها يوسف (عليه السلام) في مصر أظهرت أنّ الخطّة الإقتصادية الصحيحة والمتطورة مع الزمن لا يمكن أن تقتصر على متطلّبات الجيل الحاضر، بل لابدّ وأن تراعي مصالح الأجيال القادمة، لأنّ التفكير بالمصالح المستعجلة للجيل الحاضر والتغاضي عن مصالح الأجيال القادمة ـ كما لو استهلكنا جميع ثروات الأرض ـ تعتبر غاية الأنانية وحبّ الذات، إذ أنّ الأجيال القادمة هم في الواقع اُخوتنا وأبناؤنا فلابدّ من التفكير في مصالحهم وعدم التفريط بها.

[243]

والملفت للنظر أنّه يستفاد من بعض الرّوايات الواردة كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرّضا(عليهما السلام) «وأقبل يوسف على جمع الطعام فجمع في السبع سنين المخصبة فكبسه في الخزائن، فلمّا مضت تلك السنون وأقبلت المجدية أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاُولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دنيار ولا درهم إلاّ صار في مملكة يوسف، وباعهم في السنة الثّانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جواهر إلاّ صار في ملكة يوسف، وباعهم في السنة الثّالثة بالدّواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة الرّابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر ومن حولها عبد ولا أمة إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة الخامسة بالدّور والعقار حتى لم يبق بمصر وما حولها دار ولا عقار إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة السّادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلاّ صار في ملكية يوسف، وباعهم في السنة السّابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حرّ إلاّ صار عبد يوسف، فملك أحرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال النّاس: ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه اللّه من الملك ما أعطى هذا الملك حكماً وعلماً وتدبيراً، ثمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك ما ترى فيما خولني ربّي من ملك مصر وأهلها أشر علينا برأيك، فإنّي لم أصلحهم لأفسدهم، ولم أنجهم من البلاء ليكون وبالاً عليهم ولكن اللّه نجاهم على يدي، قال له الملك: الرأي رأيك، قال يوسف: إنّي أشهد اللّه وأشهدك أيّها الملك أنّي اعتقت أهل مصر كلّهم، ورددت اليهم أموالهم وعبيدهم، ورددت إليك أيّها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على أن لا تسير إلاّ بسيرتي ولا تحكم إلاّ بحكمي قال له الملك: إنّ ذلك لشرفي وفخري لا أسير إلاّ بسيرتك ولا أحكم إلاّ بحكمك، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له، ولقد جعلت سلطاني عزيزاً ما

[244]

يرام، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأنت رسوله فاقم على ما وليتك فإنّك لدينا مكين أمين»(1).

4 ـ مدح النفس

لا شكّ في أنّ مدح الإنسان نفسه يعدّ من الأُمور القبيحة، ولكن ليست هذه قاعدة عامّة، بل قد تقتضي الأُمور بأن يقوم الإنسان بعرض نفسه على المجتمع والإعلان عن خبراته وتجاربه، لكي يتعرّف عليه الناس ويستفيدوا من خبراته ولا يبقى كنزاً مستوراً.

وقد مرّ علينا في الآيات السابقة أنّ يوسف حينما تولّى مسؤولية الإشراف على خزائن مصر وصف نفسه بأنّه: (حفيظ عليم)، وكان هذا الوصف من يوسف لنفسه ضرورياً وذلك حتّى يعرف شعب مصر ومليكها أنّه يمتلك الصفات اللازمة التي تؤهلّه للتصدّي لهذا المنصب.

ومن هنا نقرأ في تفسير العياشي نقلا عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه حينما سئل عن الحكم الشرعي لمدح الإنسان نفسه؟ أجاب (عليه السلام) «نعم إذا اضطرّ إليه، أمّا سمعت قول يوسف إجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، وقول العبد الصالح: وأنا لكم ناصح أمين»(2).

ومن هنا يتّضح لنا جليّاً فلسفة مدح الإمام علي (عليه السلام) نفسه في بعض الخطب، فمثلا يقول في خطبة الشقشقية واصفاً نفسه: «... إنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ...» فمثل هذه الأوصاف هي في الواقع لأجل إيقاظ الغافلين وإرشادهم إلى الإستفادة من هذا المنهل العذب في سبيل الوصول إلى سعادة الفرد والمجتمع.

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلّد الثّالث، صفحة 244، تفسير نور الثقلين، ج2، ص435.

2 ـ تفسير نور الثّقلين، ج2، ص433.

[245]

5 ـ أفضليّة الجزاء المعنوي على سواه

برغم أنّ كثيراً من المؤمنين الخيرين يلقون في هذه الدنيا جزاء أعمالهم الخيرة، كما هو الحال بالنسبة ليوسف حيث جوزي جزاءً حسناً، لعفافه وتقواه وصبره على البلاء، إذ لو كان آثماً لما اعتلى هذا المنصب، ولكن هذا لا يعني أنّ على الإنسان أن ينتظر الجزاء في هذه الدنيا ويتوهّم أنّ الجزاء يجب أن يكون ماديّاً وملموساً وفي هذه الدنيا ويرى تأخير الجزاء ظلماً في حقّه، لكن هذا التصوّر بعيد عن الواقع، لأنّ الجزاء الأوفى هو ما يوافي الإنسان في حياته القادمة.

ولعلّ لدفع هذا التوهّم الخاطىء وإنّ ما جوزي به يوسف هو الجزاء الأوفى، يقول القرآن الكريم (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتّقون).

6 ـ الدفاع عن المسجونين

برغم أنّ السجن لم يكن دائماً محلا للأخيار، بل يستضيف تارةً الأبرياء وتارةً المجرمين، لكنّ القواعد الإنسانية تستوجب التعامل الحسن مع السجناء، حتّى ولو كانوا مجرمين.

وقد يتصوّر البعض أنّ الدفاع عن المسجونين من مبتكرات العصر الحديث، لكن المتّتبع للتاريخ الإسلامي يرى أنّه منذ الأيّام الأُولى لقيام دولة الإسلام كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد ويوصي على التعامل الحسن مع الأسرى والمسجونين ـ كما قرأنا جميعاً وصيّة علي (عليه السلام) في حقّ المجرم الذي قام بإغتياله (وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي) حيث أمر أن يرفق به وحتّى إنّه (عليه السلام) بعث إليه من اللبن الذي كان يشربه وعندما أرادوا قتله قال: ضربة بضربة.

كما أنّ يوسف حينما كان في السجن كان يعدّ أخاً حميماً وصديقاً وفيّاً ومستشاراً أميناً لجميع نزلاء السجن، وحينما خرج من السجن ـ أمر أن يكتب ـ

[246]

لجلب إنتباه العالمين ـ على بابه «هذا قبور الأحياء، وبيت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء»(1).

وأظهر لهم بهذا الدعاء عطفه ومحبّته حيث قال: «اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار»(2).

والطريف أنّنا نقرأ في سياق الحديث السابق أنّه: «فذلك يكون أصحاب السجن أعرف الناس بالأخبار في كلّ بلدة».

وقد مرّت علينا هذه التجربة في أيّام السجن، حيث كانت تصلنا الأخبار وبصورة منتظمة ـ إلاّ في بعض الحالات النادرة ـ وعن طرق خفيّة لا يكشفها السجّانون، وكثيراً ما كان الذي يدخل إلى السجن يطّلع على بعض الأخبار التي لم يكن قد سمعها عندما كان في الخارج، والحديث عن هذا الموضوع طويل وقد يخرجنا عن هدف هذا الكتاب.

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج2، ص432.

2 ـ نور الثقلين، ج2، ص432.

[247]

الآيات

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَنِهِ اجْعَلُواْ بِضَعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(62)

التّفسير

إقتراح جديد من يوسف لاُخوته:

وكما كان متوقّعاً، فقد تحسّنت الزراعة في مصر خلال سبع سنوات متتالية وذلك على أثر توالي الأمطار ووفرة ماء النيل وكثرته، ويوسف الذي كان مسؤولا عن الشؤون الإقتصادية في مصر ومشرفاً على خزائنها، أمر ببناء المخازن الكبيرة والصغيرة التي تستوعب الكميّات الكبيرة من المواد الغذائية

[248]

وتحفظها عن الفساد، وقد أجبر أبناء الشعب على أن يبيعوا للدولة الفائض عن حاجتهم من الإنتاج الزراعي، وهكذا امتلأت المخازن بالمنتوجات الزراعية والإستهلاكية ومرّت سبع سنوات من الرخاء والوفرة، وبدأ القحط والجفاف يُظهر وجهه الكريه، ومنعت السّماء قطرها، فلم تينع ثمرة، ولم تحمل نخلة.

وهكذا أصاب عامّة الشعب الضيق وقلّت منتوجاتهم الزراعية، لكنّهم كانوا على علم بخزائن الدولة وإمتلائها بالمواد الغذائية، وساعدهم يوسف حيث إستطاع ـ بخطّة محكمة ومنظّمة مع الأخذ بعين الإعتبار الحاجات المتزايدة، في السنين القادمة ـ أن يرفع الضيق عن الشعب بأن باع لهم المنتوجات الزراعية مراعياً في ذلك العدالة بينهم.

وهذا القحط والجفاف لم يكن مقتصراً على مصر وحدها، بل شمل البلدان المحطية بها أيضاً، ومنهم شعب فلسطين وأرض كنعان المتاخمة لمصر والواقعة على حدودها في الشمال الشرقي، وكانت عائلة يوسف تسكن هناك وقد تأثّرت بالجفاف. واشتدّ بهم الضيق، بحيث اضطرّ يعقوب أن يرسل جميع أولاده ـ ما عدا بنيامين الذي أبقاه عنده بعد غياب يوسف ـ إلى مصر، حيث سافروا مع قافلة كانت تسير إلى مصر ووصلوا إليها ـ كما قيل ـ بعد 18 يوماً.

وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ الأجانب عند دخولهم إلى الأراضي المصرية كانوا ملزمين بتسجيل أسمائهم في قوائم معيّنة لكي تعرض على يوسف، ومن هنا فحينما عرض الموظفون تقريراً على يوسف عن القافلة الفلسطينية وطلبهم للحصول على المؤن والحبوب رأى يوسف أسماء اُخوته بينهم وعرفهم وأمر بإحضارهم إليه، دون أن يتعرّف أحد على حقيقتهم وأنّهم اُخوته ..

يقول القرآن الكريم: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون) وكان طبيعيّاً أن لا يتعرّف إخوة يوسف عليه لأنّه في جانب كان قد مضى على فراقهم إيّاه منذ أن أودعوه الجبّ وخرج منه ودخل إلى مصر ما يقرب

[249]

من أربعين سنة، ومن جهة أُخرى كان لا يخطر ببالهم أنّ أخوهم صار عزيزاً لمصر، وحتّى لو رأوا الشبه بين العزيز وبين أخيهم لحملوه على الصدفة.

إضافةً إلى هذا فإنّ ملابس يوسف تختلف عن السابق، ومن الصعب عليهم معرفة يوسف وهو في ملابس أهل مصر، كما أنّ إحتمال بقاء يوسف على قيد الحياة بعد هذه المدّة كان ضعيفاً عندهم، وعلى أيّة حال فإنّ إخوة يوسف قد اشتروا ما طلبوه من الحبوب ودفعوا ثمنه بالأموال أو الكُندر أو الأحذية أو بسائر ما جلبوه معهم من كنعان إلى مصر.

أمّا يوسف فإنّه قد رحّب بإخوته ولاطفهم وفتح باب الحديث معهم، قالوا: نحن عشرة إخوة من أولاد يعقوب، ويعقوب هو ابن إبراهيم الخليل نبي الله العظيم، وأبونا أيضاً من أنبياء الله العظام، وقد كبر سنّه وألمّ به حزن عميق ملك عليه وجوده.

فسألهم يوسف: لماذا هذا الغمّ والحزن؟

قالوا: كان له ولد أصغر من جميع إخوته وكان يحبّه كثيراً، فخرج معنا يوماً للنزهة والتفرّج والصيد وغفلنا عنه فأكله الذئب، ومنذ ذلك اليوم وأبونا يبكي لفراقه.

نقل بعض المفسّرين أنّه كان من عادة يوسف أن لا يعطي ولا يبيع لكلّ شخص إلاّ حمل بعير واحد، وبما أنّ إخوته كانوا عشرة فقد باع لهم 10 أحمال من الحبوب، فقالوا: إنّ لنا أباً شيخاً كبيراً عاجزاً عن السفر وأخاً صغيراً يرعى شؤون الأب الكبير، فطلبوا من العزيز أن يدفع إليهم حصّتهما، فأمر يوسف أن يضاف إلى حصصهم حملان آخران، ثمّ توجّه إليهم مخاطباً إيّاهم وقال: إنّي أرى في وجوهكم النبل والرفعة كما إنّكم تتحلّون بأخلاق طيبة، وقد ذكرتم انّ أباكم يحبّ أخاكم الصغير كثيراً، فيتّضح أنّه يمتلك صفات ومواهب عالية وفذّة ولهذا أحبّ أن أراه إضافة إلى هذا، فإنّ الناس هنا قد أساؤوا الظنّ بكم واتّهموكم،

[250]

لأنّكم من بلد أجنبي، فأتوا بأخيكم الصغير في سفركم القادم لتثبتوا صدقكم، وتدفعوا التّهمة عن أنفسكم.

وهنا يقول القرآن الكريم: إنّه حينما جهّزهم يوسف بجهازهم وأرادوا الرحيل عن مصر (ولمّا جهزّهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنّي اُوفي الكيل وأنا خير المنزلين) لكنّه ختم كلامه بتهديد مبطّن لهم، وهو إنّني سوف أمنع عنكم المؤن والحبوب إذا لم تأتوني بأخيكم (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)، وكان يوسف يحاول بشتّى الطرق، تارةً بالتهديد، وأُخرى بالتحبّب، أن يلتقي بأخيه بنيامين ويبقيه عنده. وظهر من سياق الآيات.

أمران: أنّ الحبوب كانت تباع وتشترى في مصر بالكيل لا بالوزن، واتّضح أيضاً أنّ يوسف كان يستقبل الضيوف ـ ومنهم اخوته ـ الذين كانوا يفدون إلى مصر بحفاوة بالغة ويستظيفهم بأحسن وجه.

وأجاب اخوة يوسف على طلب أخيهم: (قالوا سنراود عنه أباه وإنّا لفاعلون) ويستفاد من قوله (إنّا لفاعلون) وإجابتهم الصريحة لعزيز مصر، أنّهم كانوا مطمئنين إلى قدرتهم على التأثير على أبيهم وأخذ الموافقة منه، وكيف لا يكونون مطمئنين بقدرتهم على ذلك وهم الذين استطاعوا بإصرارهم وإلحاحهم أن يفرّقوا بين يوسف وأبيه؟!

وأخيراً أمر يوسف رجاله بأن يضعوا الأموال التي اشتروا بها الحبوب في رحالهم ـ جلباً لعواطفهم ـ (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون).

* * *

[251]

بحوث

1 ـ لماذا لم يظهر يوسف حقيقته لإخوته

بالنسبة للآيات السابقة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن هو إنّه لماذا لم يعرّف يوسف نفسه لإخوته، حتّى يقفوا على حقيقة حاله ويرجعوا إلى أبيهم ويخبرونه عن مصير يوسف، وبذلك تنتهي آلامه لأجل فراق يوسف؟

ويمكن طرح هذا السؤال على شكل أوسع وبصورة أُخرى، وهو أنّه حينما التقى يوسف باخوته في مصر كان قد مرّ ثمان سنوات على تحريره من السجن، حيث كان في السنة الأُولى من سنوات القحط والجدب، التي أعقبت سبع سنوات من الوفرة والرخاء، وقام بخزن المنتوجات الزراعية ـ وفي السنة الثامنة أو بعدها ـ جاء اُخوة يوسف إلى مصر لشراء الحبوب، فلماذا لم يحاول يوسف خلال هذه السنوات الثمان أن يبعث إلى كنعان من يخبر أباه بواقع حاله ويخرجه عن آلامه وينهي مرارته الطويلة؟

حاول جمع من المفسّرين ـ كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان والعلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن ـ الإجابة على هذا السؤال، وذكروا له عدّة أجوبة، ولعلّ أحسنها وأقربها هو أنّ يوسف لم يكن مجازاً من قبل الله سبحانه وتعالى في إخبار أبيه، لأنّ قصّة يوسف مع غضّ النظر عن خصائصه الذاتية كانت ساحة لإختبار يعقوب وحقلا لإمتحانه، فلابدّ من أن يؤدّي يعقوب إمتحانه ويجتاز فترة الإختبار قبل أن يسمح ليوسف بإخباره، وإضافةً إلى هذا فإنّ إسراع يوسف في إخبار إخوته قد يؤدّي إلى عواقب غير محمودة، مثلا قد يستولي عليهم الخوف والهلع من إنتقام يوسف منهم لما إرتكبوه سابقاً في حقّه فلا يرجعوا إليه.

2 ـ لماذا أرجع يوسف الأموال إلى إخوته

السؤال الذي يطرح نفسه هو أنّه لماذا أمر يوسف أن تردّ أموال إخوته التي

[252]

دفعوها ثمناً للحبوب، وتوضع في رحالهم؟

وقد أجاب المفسّرون عن هذا السؤال بإجابات عديدة، ومنهم الرازي في تفسيره حيث ذكر عشرة أجوبة، لكن بعضها بعيد عن الواقع، ولعلّ ملاحظة الآيات السابقة تكفي في الإجابة عن السؤال، لأنّ الآية الشريفة تقول: (لعلّهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلّهم يرجعون) فإنّ يوسف كان يقصد من وراء هذا العمل، أنّ إخوته بعد رجوعهم إلى الوطن حينما يجدون أموالهم قد خبّئت في متاعهم، سوف يقفون على كرم عزيز مصر (يوسف) وجلالة قدره، أكثر ممّا شاهدوه، وسوف يطمئن يعقوب بنوايا عزيز مصر ويعطي الإذن بسفر بنيامين، ويكون السبب والدافع في سفرهم إلى مصر مرّة أُخرى وباطمئنان أكثر مستصحبين معهم أخاهم الصغير.

3 ـ كيف وهب يوسف إلى إخوته أموال بيت المال؟

السؤال الآخر الذي يطرح نفسه هنا هو أنّه كيف وهب يوسف الأموال من بيت المال لإخوته دون أي تعويض؟

يمكن الإجابة على هذا السؤال بطريقتين:

الأوّل: أنّ بيت المال في مصر كان يحتوي على حصّة معيّنة من الأموال تصرف في شؤون المستضعفين (ومثل هذه الحصّة موجودة دائماً) وبما أنّ إخوة يوسف كانوا في تلك الفترة من المستضعفين، استغلّ يوسف هذه الفرصة وإستفاد من هذه الحصّة لمساعدة إخوته: (كما كان يستفيد منها في مساعدة سائر المستضعفين) ومن المعلوم أنّ الحدود المصطنعة بين الدولة لم تكن حائلا دون مساعدة مستضعفي سائر البلدان من هذه الحصّة.

الثّاني: أنّ المناصب العالية في الدولة ـ كمنصب يوسف ـ تتضمّن عادةً على

[253]

إمتيازات وحقوق معيّنة، ومن أقلّ هذه الحقوق هو أن يهيىء لنفسه ولعائلته المحتاجة ولمن يقرب إليه كأبيه وإخوته مستلزمات العيش الكريم، وقد إستفاد يوسف من هذا الحقّ في إعطاء الأموال لإخوته.

* * *

[254]

الآيات

فَلَمَّا رَجَعُواْ إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَأبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ (63) قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَفِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَأَبَانَا مَا نَبْغِى هَذِهِ بِضَعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِير ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

التّفسير

موافقة يعقوب:

رجع اُخوة يوسف إلى كنعان فرحين حاملين معهم المتاع الثمين، لكنّهم كانوا يفكّرون بمصيرهم في المستقبل وأنّه لو رفض الأب ولم يوافق على سفر أخيهم الصغير (بنيامين) فإنّ عزيز مصر سوف لن يستقبلهم، كما إنّه لا يعطيهم

[255]

حصّتهم من الحبوب والمؤن.

ومن هنا يقول القرآن: (فلمّا رجعوا إلى أبيهم قالوا ياأبانا منع منّا الكيل)ولا سبيل لنا للحصول عليه إلاّ أن ترسل معنا أخانا (فأرسل معنا أخانا نكتل)وكن على يقين من أنّنا سوف نحافظ عليه ونمنعه من الآخرين (وإنّا له لحافظون).

أمّا الأب الشيخ الكبير الذي لم يمح صورة (يوسف) عن ذاكرته مرّ السنين فإنّه حينما سمع هذا الكلام استولى عليه الخوف وقال لهم معاتباً: (هل آمنكم عليه إلاّ كما آمنتكم على أخيه من قبل) فكيف تتوقّعون منّي أن أطمئن بكم واُلبّي طلبكم واُوافق على سفر ولدي وفلذّة كبدي معكم إلى بلاد بعيدة، ولا زلت أذكر تخلفّكم في المرّة السابقة عن عهدكم، ثمّ أضاف (فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين)هذه العبارة لعلّها إشارة إلى ما تحدّثت به نفس يعقوب من أنّه يصعب عليّ أن اُوافق على سفر بنيامين معكم وقد عرفت سوؤكم في المرّة السابقة، لكن حتّى لو وافقت على ذلك فإنّني أتّكل على الله سبحانه وتعالى الذي هو أرحم الراحمين وأطلب رعايته وحفظه منه لا منكم.

الآية السابقة لا تدلّ على الموافقة القطعيّة وقبوله لطلبهم، وإنّما هي مجرّد إحتمال منه حيث أنّ الآيات القادمة تظهر أنّ يعقوب لم يكن قد وافق على طلبهم إلاّ بعد أن أخذ منهم العهود والمواثيق، والإحتمال الآخر هو أنّ هذه الآية لعلّها إشارة إلى يوسف، حيث كان يعلم إنّه على قيد الحياة (وسوف نقرأ في الآيات القادمة إنّه كان على يقين بحياة يوسف) فدعا له بالحفظ.

ثمّ إنّ الاُخوة حينما عادوا من مصر (ولمّا فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم) فشاهدوا أنّ هذا الأمر هو برهان قاطع على صحّة طلبهم، فجاؤوا إلى أبيهم و (قالوا ياأبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردّت إلينا) وهل هناك فضل وكرم أكثر من هذا أن يقوم حاكم أجنبي وفي ظروف القحط والجفاف،

[256]

بمساعدتنا ويبيع لنا الحبوب والمؤن ثمّ يردّ إلينا ما دفعناه ثمناً له؟!

ثمّ أنّه ردّ بضاعتنا علينا بشكل خفي بحيث لا يستثير فينا الخجل ـ أليس هذا غاية الجود والكرم؟! فياأبانا ليس هناك مجال للتأخير ـ ابعث معنا أخانا لكي نسافر ونشتري الطعام (ونمير أهلنا) وسوف نكون جادّين في حفظ أخينا (ونحفظ أخانا)، وهكذا نتمكّن من أن نشتري كيل بعير من الحبوب (ونزداد كيل بعير) وإنّنا على يقين في أنّ سماحة العزيز وكرمه ـ سوف يسهّلان حصوله و (ذلك كيل يسير).

وفي كلّ الأحوال ـ رفض يعقوب إرسال إبنه بنيامين معهم، ولكنّه كان يواجه إصرار أولاده بمنطقهم القوي بحيث اضطرّ إلى التنازل على مطلبهم ولم يَر بدّاً من القبول، ولكنّه وافق بشرط: (قال لن أرسله معكم حتّى تؤتون موثقاً من الله لتأتنّني به إلاّ أن يحاط بكم)، والمقصود من قوله (موثقاً من الله) هو العهد واليمين المتضمّن لإسم الله سبحانه وتعالى، وأمّا جملة (إلاّ أن يحاط بكم) فهي في الواقع بمعنى ـ إلاّ إذا أحاطت بكم وغلبتكم الحوادث، ولعلّها إشارة إلى حوادث الموت أو غيرها من الحوادث والمصائب التي تسلب قدرة الإنسان وتقصم ظهره وتجعله عاجزاً.

وذكر هذا الإستثناء دليل بازر على ذكاء نبي الله يعقوب وفطنته، فإنّه برغم حبّه الشديد لولده بنيامين لكنّه لم يحمل أولاده بما لا يطيقوا وقال لهم: إنّكم مسؤولون عن سلامة ولدي العزيز وأنّي سوف أطلبه منكم إلاّ أن تغلبكم الحوادث القاهرة، فحينئذ لا حرج عليكم.

وعلى كلّ حال فقد وافق اُخوة يوسف بدورهم على شرط أبيهم، وحينما أعطوه العهد والمواثيق المغلّظة قال يعقوب: (فلمّا أتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل).

* * *

[257]

بحوث

1 ـ بالنسبة للآيات السابقة فإنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن، هو أنّه كيف وافق يعقوب على سفر بنيامين مع اُخوته برغم ما أظهروه في المرّة السابقة من سوء المعاملة مع يوسف، إضافة إلى هذا فإنّنا نعلم أنّهم كانوا يبطنون الحقد والحسد لبنيامين ـ وإن كان أخفّ من حقدهم وحسدهم على يوسف ـ حيث وردت في الآيات الإفتتاحية لهذه السورة قوله تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا ونحن عصبة) أي أنّ يوسف وأخاه أحبّ إلى أبينا برغم ما نملكه نحن من قوّة وكثرة.

لكن تظهر الإجابة على هذا السؤال إذا لاحظنا أنّه قد مضى ثلاثون إلى أربعين سنة على حادثة يوسف، وقد صار اُخوة يوسف الشبّان كهولا، ومن الطبيعي أنّهم نضجوا أكثر من السابق، كما وقفوا على الآثار السلبية والسيّئة لما فعلوه مع يوسف، سواء في داخل أُسرتهم أم في وجدانهم، حيث أثبتت لهم تجارب السنين السالفة أنّ فقد يوسف كان لا يزيد حبّ أبيهم لهم، بل إزداد نفوره منهم وخلق لهم مشاكل جديدة.

إضافةً إلى هذه الأُمور فإنّ يعقوب لم يواجه طلباً للخروج إلى التنزّه والصيد، بل كان يواجه مشكلة مستعصية مستفحلة، وهي إعداد الطعام لعائلة كبيرة وفي سنوات القحط والمجاعة.

فمجموع هذه الأُمور أجبرت يعقوب على الرضوخ لطلب أولاده والموافقة على سفر بنيامين ولكنّه أخذ منهم العهود والمواثيق على أن يرجعوه سالماً.

2 ـ السؤال الآخر الذي نواجهه هنا هو أنّه هل الحلف وأخذ العهد والمواثيق منهم كان كافياً لكي يوافق يعقوب على سفر بنيامين معهم؟

الجواب: أنّه من الطبيعي أنّ مجرّد الحلف واليمين لم يكن كافياً لذلك، ولكن في هذه المرّة كانت الشواهد والقرائن تدلّ على أنّ هناك حقيقة واضحة قد برزت

[258]

إلى الوجود، وهي خالية عن محاولات الخداع والتضليل (كما هو الحال في المرّة السابقة) ففي مثل هذه الصورة لا سبيل لتأكيد هذه الحقيقة وجعلها أقرب إلى التنفيذ سوى العهد واليمين، مثل ما نشاهده في هذه الأيّام من تحليف الزعماء السياسيين كرئيس الجمهورية أو نوّاب البرلمان، حيث يحلفون بالوفاء للدستور والعمل على طبقه وذلك بعد أن انتخبهم الشعب من خلال إنتخابات حرّة ونزيهة.

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=768
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29