• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سُورَة الحِجر من أول السورة ـ آية 18 من ( اول الجزء الثامن ـ ص 48 ) .

سُورَة الحِجر من أول السورة ـ آية 18 من ( اول الجزء الثامن ـ ص 48 )

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الثامن

[5]

 

سُورَة الحِجر

مكيّة

وَعَدَدُ آياتِها تسع وتسعون آيَة

[7]

 

«سورة الحجر»

محتوى السّورة:

المشهور عند جل المفسّرين أنّ سورة الحجر مكّية، و هي السورة الثّانية و الخمسون من السور التي نزلت على النّبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكّة المكرمة على ما ذكره ابن النديم في فهرسته تحت موضوع تاريخ القرآن، و عدد آياتها تسع و تسعون آية باتفاق كل المفسّرين.

و لم تشذ السورة في سياقها و مضامينها عن السور المكّية السابقة لها، و كما ذكرنا سابقاً فإِنّ السور المكّية تشتمل على جمل من الكلام حول أُصول الدين كالتوحيد و المعاد، وإِنذار المشركين و العاصين و الظالمين، بالإِضافة إِلى ما يحمله تاريخ الأقوام السالفة من دروس العبرة للإِعتبار.

و يمكننا تلخيص ما حوته السورة في سبع نقاط:

1 ـ الآيات المتعلقة بمبدأ عالم الوجود، والإِيمان به بالتدبر في أسرار الإِيجاد.

2 ـ الآيات المتعلقة بالمعاد و عقاب الفجرة الفسقة.

3 ـ أهمية القرآن باعتباره كتاباً سماوياً.

4 ـ محاولة إيقاظ و تنبيه البشر من خلال طرح قصّة خلق آدم، و تمرد إبليس، و تبيان عاقبة التمرد.

[8]

5 ـ زيادة في محاولة الإِيقاظ و التنبيه من خلال عرض القصص القرآني لما جرى لأقوام لوط و صالح و شعيب(عليهم السلام).

6 ـ إنذار و بشارة، مواعظ لطيفة و تهديدات عنيفة، إِضافة إِلى المرغبات المشوقة.

7 ـ مخاطبة النّبي صلّى اللّه و عليه و آله و سلّم لتقوية صبره و ثباته قبال ما يحاك من دسائس، و بالذات ما كان يجري داخل إِطار مكّة.

و قد اختير اسم السورة من الآية الثمانين التي ذكرت قوم صالح بأصحاب الحجر، علماً بأنّ السورة تناولت ذلك في خمس آيات، و هي السورة الوحيدة في القرآن التي ذكرتهم بهذة التسمية، و سيأتي ذلك مفصلا في تفسير الآيات (80 ـ 84) إن شاء اللّه.

* * *

[9]

الآيات

الر تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ وَ قُرْءَان مُّبِين(1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذيِنَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ(2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَ يَتَمَتَّعُواْ وَ يُلْهِهِمُ الأَْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(3) وَ مَآ أَهْلَكنَا مِن قَرْيَة إِلاَّ وَ لَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ(4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِروُنَ(5)

التّفسير

الأماني الزّائفة!

سورة أُخرى تفتتح بالحروف المقطعة (ألف، لام، وراء) لتبيّن من جديد أنّ مفردات كتاب نور السماء إَلى ظلام أهل الأرض، ما هي إِلاّ عين تلك الأبجدية التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر، صغيرهم و كبيرهم، بين مختلف اللغات، و مع ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء و تركيب كلام القرآن، و هو ذروة التحدي الرباني المعجز، وعليه فقد جاءت (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين)مباشرة.

كما نعلم أنّ «تلك» اسم إِشارة للبعيد، والمفروض في هذا الموضع استعمال اسم الإِشارة (هذه) باعتباره يدل على القرب، لأنّ القرآن كتاب بين أيدينا، إِلاّ إنّ

[10]

لغة العرب ـ كما بيّنا سابقاً ـ تسمح بذلك لبيان عظمة المشار إِليه، فالمراد أنّ لشأن القرآن عظمةً، وكأنّه في موضع بعيد جدّاً بين طيات السماء لا يناله إِلاّ منْ مَلَكَ مستلزمات التحليق إِليه. ويقارب ذلك ما نتداوله فيما بيّننا عند تعظيم شخص معين فنقول له مثلا: (إنْ سمح لنا ذلك السّيد أنْ...) فنستعمل (ذلك) مع كون الشخص مخاطباً.

وأمّا بشأن مجيء صيغة «قرآن» نكرة فلبيان عظمته أيضاً، و ذكر «القرآن» بعد «الكتاب» تأكيدٌ، ووصفه بالـ «مبين» لأنّه يظهر الحقائق و يبيّن الحق من الباطل.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد بكلمة «الكتاب» إِشارة إِلى التوراة والإَنجيل، فهو كما يبدو بعيد جدّاً ويفتقد الى الدليل.

ثمّ يحذر الذين يصرون على الفساد ومخالفة آيات اللّه الجلية، ويخبر بأنّهم سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر وتعصب أعمى وعناد. ويقول: (ربّما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين).

فالمراد بكلمة «يود» التمني حسب ما ورد في تفسير الميزان، وذكر كلمة «لو» للدلالة على تمنيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا ينكرون، وهذه إشارة إلى أن تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج الاعمال.

ويؤيد هذا المعنى وما ورد عن الإِمام الصّادق (عليه السلام) قوله: «ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق إنّه لا يدخل الجنّة إلا مسلم، فثمّ يود سائر الخلائق أنّهم كانوا مسلمين».(1)

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج3،ص 328، كذلك ورد الحديث الأوّل في تفسير الثقلين عن تفسير العياشي، وأورد الفخر الرازي في تفسيره حديثاً يشابه الحديث الثّاني مع تفاوت يسير، وذكر في تفسير الطبري أيضاً عدّة أحاديث في مضمون الحديث الثّاني ضمن تفسير الآية المذكورة.

[11]

وروي أيضاً عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إذا اجتمع أهل النّار في النّار ومعهم مَنْ يشاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين، قالو: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النّار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب (كبائر) فأخذنا بها (وهذا الاعتراف بالذنب والتقصير ولوم الأعداء يكون سبباً لأن) يسمع اللّه عزَّ وجلّ ما قالوا فأمر مَنْ كان في النّار من أهل الإِسلام فأُخرجوا منها فحينئذ يقول الكفار: يا ليتنا كنّا مسلمين».(1)

وربّما كان ظاهر الآية يوحي إِلى أُولئك الكفرة الذين ما زالت جذوة الفطرة تسري في أعماق وجدانهم، وحينما لمسوا من نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)تلك الآيات الرّبانية التي تناغي أوتار القلوب، لانت قلوبهم وتمنوا أَن لو يكونوا مسلمين، إِلاّ أنّ تعصبهم الأعمى وعنادهم القاتم، أو قل منافعهم المادية حجبتهم عن قبول دعوة الحق، وبذلك بقوا بين قضبان كفرهم واستحوذت عليهم أحابيل الكفر و الضلال.

ذكر لنا أحد الأصدقاء من المؤمنين المجاهدين وكان قد سافر إِلى أوروبا قائلا: ذات مرّة التقيت بأحد المسيحيين ـ وكان رجلا منصفاً ـ وبعد أن بيّنت له بعض خصال ديننا، استهوته ومال إليها قائلا: أهنئكم من أعماقي على عظمة معتقدكم، ولكن ـ ماذا نصنع مع الضروف الاجتماعية التي أجبرتنا على أن لا نحيد عنها!

ومن تاريخ الإِسلام نطالع ما حصل لقيصر الروم عندما وصله رسول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويذكر بأنّ القيصر قد أظهر الإِيمان سرّاً للرسول حتى أنّه رغب في دعوة قومه لدين التوحيد إِلاّ أنّه خاف قومه وفكر بامتحانهم فـ (أمر منادياًينادي: ألا إِنّ هرقل قد ترك النصرانية واتبع دين محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقبل جنده بأسلحتهم حتى

_____________________________

1 ـ المصدر السّابق.

[12]

طافوا بقصره، فأمر مناديه فنادى: ألا إِنّ قيصر إِنّما أراد أن يجرّبكم كيف صبركم على دينكم; فارجعوا فقد رضي عنكم. ثمّ قال للرسول: إِنّي أخاف على ملكي. و إِنّي لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل، والذي كنّا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكنّي أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته).(1)

وعلى أية حال، ينبغي التنويه بعدم وجود تعارض بين أيٍّ من التّفسيرين، فيمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إِلى الإِسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة ـ فتأمل.

ثمّ يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة، يا محمّد (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف، ولا تفهم سوى اللّذات المادية، وكل ما تريده لا يتعدى إِطار ما تعرف وتفهم.

إِنّهم لا يدركون فقه الحقائق، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.

و لكن، عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم، وحينما يجدون أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم، وكيف أنّهم قد ضيعوا أغلى ما كانوا يملكون!

الآية التالية توضح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّما خالدة فتقول: (وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم) ثمّ يقول تعالى: (ما تسبق من أُمّة أجلها وما يستأخرون).

فقد سرت سنّة الباري جل شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إِلى بارئهم، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارةً، وبفيوضات رحمة الرخاء

_____________________________

1 ـ مكاتيب الرّسول، ج1، ص112.

[13]

تارةً أُخرى، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإِنذار وهكذا، كل ذلك إِتماماً للحجة عليهم.

صحيح أنّ المصلحة الموجبة للتربية الربانية تقتضي (بعلم ربّ الأرباب) أن يمهل ولكنّه سبحانه لا يهمل، وعاجلا أم آجلاً سينال كلٌّ نصيبه بما كسبت يداه.

من الآيتين الآخيرتين، تتّضح لنا فلسفة تكرار آيات القرآن لذكر تأريخ الأُمم السابقة.

أفلا تكفينا قصص السابقين عبرة لإصلاح أنفسنا والرجوع إِلى اللّه تعالى؟ بل كيف نسترخي بالقعود حتى يقدّر علينا ما كتب على الذين ضلوا وظلموا من قبلنا؟ اذن وعلينا الإِعتبار، وإِلاّ فسنكون عبرة لمن سيأتي بعدنا.

* * *

ملاحظة:

الغفلة وطول الأمل

ممّا لا شك فيه أن الأمل بمثابة العامل المحرك لعجلة حياة الإنسان، فلو ارتفع الأمل يوماً من قلوب الناس لارتبكت مسيرة الحياة ولا تجد إّلا القليل ممن يجد في نفسه دافعاً لمواجهة صراع الحياة معه، والحديث النبوي الشريف: «الأمل رحمة لأُمتي، ولولا الأمل ما رضعت والدة ولدها، ولا غرس غارس شجراً»(1)يشير لهذه الحقيقة.

وإِذا ما تجاوز الأمل حده المعقول فإِنّه سيتحول إِلى (طول أمل) وهو ما ينذر بالإِنحراف والهلاك، ومثله كمثل ماء المطر الذي يمثل عامل الحياة الفياض للأرض والنبات والحيوان، فلو زاد عن حدّ الحاجة إِليه، أصبح عاملا للغرق

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج1، 30 (أمل).

[14]

والهلاك.

وهذا الأمل القاتل هو أساس الجهل باللّه وعدم معرفة الحق والإبتعاد عن الحقيقة، ويؤدي الى تقوقع الانسان في دائرته الفردية بما ينسجه الخيال الواسع ويبتعد عن هدف وجود الإنسان على الأرض والمصير الذي يصبو إليه.

ويحدثنا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن هذا المضمون بقوله «يا أيّها الناس، إِنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباعُ الهوى وطول الأمل; فأمّا اتّباع الهوى فيصدُّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فَيُنْسي الآخرة»(1).

حقاً، كم هم أولئك الذين امتازوا بالملكات الفائقة والكفاءات اللائقة، ولكنّهم سقطوا في شباك فخ طول الأمل فتحولوا إَلى موجودات ضعيفة، بل وممسوخة! وأصبحوا لا يستطيعون تقديم شي لمجتمعهم، بل ضيّعوا حتى ما ينفع أنفسهم وأُثقِلُوا عمّا يسمون به إِلى التكامل.

وهذه الصورة نتلمس ملامحها بجلاء في دعاء كميل: «وحبسني عن نفعي بُعد أملي».

بديهي أنّ الأمل الذي يتجاوز الحد المعقول، يجعل الإِنسان عرضة للإِنهماك والعجز والإِضطراب، ويُصَوِّر لصاحبه أنّ هذه الحال ستوصله إِلى السعادة والرفاه، وما يدري أنّه يخطو صوب جرف الشقاء والنكد.

وغالباً ما تطوى صفحات هؤلاء بالدمعة الجارية والحسرة لما آل إِليه المآل ليكونوا عبرة لكل ذي عين بصيرة وأُذن سميعة.

* * *

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، من الخطبة 42.

[15]

الآيات

وَقَالُواْ يَـأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لََمجْنُونٌ(6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَـئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّدِقِينَ(7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَـئِكَةَ إِلاَّ بِآلْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ(8)

التّفسير

طلب نزول الملائكة:

تبتدىء الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم والنّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الكفار، فتقول: (وقالوا يا أيّها الذي نزّل عليه الذكر إنّك لمجنون).

ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به حين مخاطبتهم للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتارة يقولون: (يا أيّها الذي)، وأُخرى: (نُزّل عليه الذكر) بصيغة الهزؤ والإِنكار لآيات اللّه سبحانه، وثالثة: يستعملون أدوات التوكيد «إِن» ولام القسم ليتّهموا أشرف خلق اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)بالجنون!

نعم، الخصم المريض الجاهل حينما يقابل حكيماً لا نظير له، فأوّل ما يرميه بالجنون، لأنّه ينطلق من جهله الذي لا يستوعب الحكمة والمعقول، فيرى كل ما فوق تصوره القاصر غير معقول، ويوصم خصمه بالمجنون!

[16]

هؤلاء الاشخاص لديهم تعصب خاص نحو كل ما ألفوه في محيطهم الاجتماعي حتى وإن كان ضلالا وانحرافاً، لذا تراهم يواجهون كل دعوة جديدة على أساس أنّها غير معقولة، فهم يخشون من كل جديد، و يتمسكون بشدّة بالعادات والتقاليد القديمة.

أضف إِلى ذلك، أنْ مَنْ استهوته الدنيا وعاش لها لا يفقه المعاني الروحية والقيم الإِنسانية ويوزن كل شيء بالمعايير المادية، فإذا شاهد شخصاً يضحي بكل شيء وحتى بنفسه لأجل أنْ يصل إِلى هدف معنوي، فسوف لا يصدّق بأنّه عاقل، لأن العقل في عرفهم هو ما يصيب: المال الوافر، الزوجة الجميلة، الحياة المرفهة، والوجاهة الكاذبة!

وعليه، فحينما يرون رجلا قد عرضت عليه الدنيا بكل ما يحلمون به فأبى أن يقبلها بقوله: «واللّه لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته» فسيقولون عنه: إنّه لمجنون!

الملفت في التهم الموجهة إِلى أنبياء اللّه تعالى أنّها تحمل بين طياتها تضاداً واضحاً يُلمس بأدنى تدبر، ففي الوقت الذي يرمون النّبي بالمجنون يعودون ويقولون عنه: إِنّه لساحر، فمع أن الساحر لابدّ له من الذكاء والنباهة، فهل يعقل أن يكون الساحر، مجنوناً؟!

إنّهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل تحججوا قائلين: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين).

فيجيبهم الباري جل شأنه: (ما ننزل الملائكة إِلاّ بالحق وما كانوا إِذاً منظرين). فلو ثمّ انزال الملائكة وشاهدوا الحقيقة بأعينهم ثمّ لم يؤمنوا بما فسوف يحيق بهم، العذاب الالهي دون إمهال.

وللمفسّرين وجوهاً متباينة في تفسير (ما ننزل الملائكة إِلاّ بالحق):

1 ـ يرى البعض، أن أمر تنزيل الملائكة لا يتعلق بما يتقوله القائلون تحججاً،

[17]

بل هو إِعجاز رباني لإِظهار الحق وإِحقاقه.

وبعبارة أُخرى، فالإِعجاز ليس أمراً ترفيهياً يناغي تصورات الأخرين بقدر ما هو حجة إِلهية لإِثبات الحق وإِماطة الباطل.

وقد أشبعت هذه الحقيقة بما فيه الكفاية لمن يرى النّور نوراً والظلام ظلاماً من خلال ما أوصله نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طريق القرآن والمعاجز الأُخرى.

2 ـ المقصود من كلمة «الحق» هو العقاب الدنيوي بالبلاء المهلك، وبعبارة أُخرى (عذاب الإِستئصال).

أيْ... في حال عدم إِيمان الكفار المعاندين بعد نزول الملائكة على ضوء اقتراحهم فهم هالكون قطعاً.

وبهذا تكون جملة (وما كانوا إِذاً منظرين) مؤكّدة لهذا المعنى، وأمّا على التّفسير الأوّل فإِنّها تتناول موضوعاً جديداً.

3 ـ وقيل المراد بالحق في الآية الموت، إي أنّ الملائكة لا تنزل إِلاّ لقبض الأرواح.

لكنّ هذا المعنى بعيد جدّاً أمام ما يحفل به القرآن من ذكر نزول الملائكة في قصتي إِبراهيم ولوط عليهما السلام ومعركة بدر...الخ.

4 ـ وقيل المراد بالحق الشهادة (المشاهدة).

أيْ... مادام الإِنسان يعيش في عالم الدنيا فهو عاجز عن رؤية ماوراء هذا العالم حيث هناك تسبح الملائكة بحمد ربّها، لأنّ الحجب المادية قد أفسدت رؤيته ولا يتسنى له ذلك إِلاّ بعد الرحيل إِلى العالم الآخر، وحين ذلك ينتهي مفعول الماديات فتزال الحجب ويرى الملائكة.

يواجه هذا التّفسير نفس ما واجهه التّفسير الثّالث من إشكال، فقوم لوط مثلا،

[18]

على ما كانوا عليه من كفر وانحراف فقد رأوا ملائكة العذاب في دنياهم(1).

من خلال ما تقدم يتبيّن لنا أن التّفسيرين الأوّل والثّاني ينسجمان مع ظاهر الآية دون الآخرين.

أمّا ما ورد في ذيل الآية من عدم الامهال بعد استجابة مطاليبهم في رؤية المعاجز الحسيّة وعدم ايمانهم بها، فلأنه قد تمّت الحجة عليهم وانتفت جميع اعذارهم وتبريراتهم، وبما أن استدامة الحياة إنّما هو لأجل اتمام الحجة واحتمال توبة ورجوع الافراد المنحرفين الى الصراط المستقيم، وهذا الامر لا موضوع له في مثل هؤلاء الاشخاص، فلذلك يحين أجلهم وينالون جزاءهم الذي يستحقونه. (فتدبّر)

* * *

_____________________________

1 ـ راجع سورة هود، 81.

[19]

الآية

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ(9)

التّفسير

حفظ القرآن من التحريف:

بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والقرآن، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة أُخرى، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة، ألا وهي.. حفظ القرآن من أيادي التلاعب والتحريف (إِنا نحن نزلنا الذكر وإِنا له لحافظون).. فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال، ومصباح هديه أبدي الإِنارة، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكامه الظلمة، محفوفين بعلماء السوء، ومزودين بأقوى الجيوش عدّة وعتاداً، على أن يخمدوا نور القرآن، فلن يستطيعوا، لأنّ الحكيم الجبار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته..

وقد اختلف المفسّرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة:

1 ـ قال بعضهم: الحفظ من التحريف والتغيير، والزيادة والنقصان.

2 ـ وقال البعض الآخر: حفظ القرآن من الضياع والفناء إِلى يوم قيام الساعة.

[20]

3 ـ وقال غيرهم: حفظه أمام المعتقدات المضلة المخالفة له.

بما أنّه لا يوجد أي تضاد بين هذه التفاسير وتدخل ضمن المفهوم العام لعبارة (إِنّا له لحافظون) فلا داعي لحصر مصاديقها في بُعد واحد، خصوصاً وإِن «لحافظون» ذُكرت بصيغة مطلقة وليس هناك ما يخصصها.

والصحيح، وفقاً لظاهر الآية المذكورة، أنّ اللّه تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي: من التحريف، من التلف والضياع، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية.

أمّا ما احتمله بعض قدماء المفسّرين بأنّه الحفظ على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)باعتبار أن ضمير «له» في الآية يعود إِلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة إِطلاق لفظة «الذكر» على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الآيات(1)، فهو احتمال يتعارض مع سياق الآيات السابقة التي عنت بـ «الذكر» «القرآن»، بالإِضافة إِلى إِشارة الآية المقبلة لهذا المعنى.

* * *

بحث في عدم تحريف القرآن:

المشهور بين أوساط جلّ علماء المسلمين شيعة وسنة، أنّ القرآن لم يتعرض لأي نوع من التحريف، وأن الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر الحبيب محّمد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلا زيادة أو نقصان، حتى ولو بكلمة واحدة، أو قل بحرف واحد.

ومن جملة مَنْ صرح بهذا من العلماء الأعلام الشيعة (من المتقدمين والمتأخرين) تغمّدهم اللّه برحمته.

_____________________________

1 ـ راجع سورة الطلاق، الآية العاشرة.

[21]

1 ـ الشّيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (460 هـ ق)، وله بحث صريح وقاطع بهذا الشأن في أوّل تفسيره المعروف بـ (التبيان).

2 ـ الشريف المرتضى، ويعتبر من كبار علماء الإِمامية في القرن الرّابع الهجري.

3 ـ الشّيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين، حيث يقول في بيان عقائد الإِمامية: (إَن اعتقادنا بالقرآن أنّه سالم من أي تحريف).

4 ـ المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا الشأن.

5 ـ المرحوم الشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء، من كبار العلماء المتأخرين.

6 ـ المرحوم المحقق اليزدي، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة.

7 ـ بالإِضافة إِلى جمع من العلماء الآخرين، أمثال: الشّيخ المفيد، الشّيخ البهائي، القاضي نور اللّه مع سائر محققي الشيعة.

وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة.

وقد نُقل عن بعض مُحدِّثي الشيعة وبعض أهل السنة، اعتقادهم بوقوع التحريف في القرآن. إِلاّ أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان.

وأفاد العلاّمة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) «إن صحة نقل القرآن واضحة وبيّنة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمّة في التأريخ والكتب الشهيرة»

فهل هناك مَنْ يشك في وجود مدن كمكّة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم يزرها؟! أو هل هناك مَن ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق، الثورة

[22]

الفرنسية، الحرب العالمية الأُولى أو الثّانية؟!

فإِنّ لم يكن هناك من يشك أو ينكر، بسبب تواتر ذكر وجودها، فكذلك آيات القرآن الكريم، وهذا ما سيأتي بيانه إِن شاء اللّه.

وإِذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن، فغايتهم إِشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.

ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث: (إنّ الآية: (إِنّا نحن نزلنا الذكر وإِنّا له لحافظون) دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير والزيادة والنقصان في القرآن)، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة.

وهنا.. لابدّ من كلمة: إِن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم، فليس هناك مَنْ يعتقد بذلك.

وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة، فإِنَّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضاً، وهو ما لم يُعتَن به من قبل الطرفين.

وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشّيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) بقوله: لا ريب أنّه (أيْ القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ المَلك الديان، كما دل عليه صريح القرآن، وإِجماع العلماء في كل زمان، ولا عبرة بنادر(1).

إِنّ التأريخ الإِسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإِسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإِيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أُمّةً

_____________________________

1 ـ تفسير آلاء الرحمن، 35.

[23]

مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.

ترى كاتباً معروفاً (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول: (والشيعة هم أبداً أعداء المساجد)(1).

والحال لو أجرينا إحصاءاً لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن الشيعية لأخذ منّا الوقت الطويل لكثرتها، لدرجة أنّ بعضاً من الشيعة بات يُشكِل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام والمستشفيات الخيرية وما شاكلها، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع هذا ترى كاتباً معروفاً يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك.

وعليه فلا ينبغي الإِستغراب لما افتراه الفخر الرازي.

أدلة عدم تحريف القرآن:

1 ـ أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة ـ فبالإضافة الى الآية محل البحث وآيات اخُر ـ كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبّر التأريخ.

وقبل البداء ينبغي التنويه بأنّ من احتمل التحريف في القرآن، إِنّما أراد بذلك حصول النقص فيه، ولم نر مَنْ احتمل الزيادة في القرآن.

ونظرة فاحصة إِلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنّهم كانوا يعايشون القرآن في كافة مرافق حياتهم، فهو القانون والدستور الحاكم، ونظام الدولة، وهو الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة.. وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه الزيادة أو النقصان؟!

يحدثنا التأريخ بأنّ القرآن ما كان ليفارق الإِنسان المسلم في: صلاته، المسجد، البيت، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء، بل إِنّ المسلمين كانوا

_____________________________

1 ـ الصراع، لعبد اللّه علي القصيمي، ج2، ص23، على ما نقل عنه العلاّمة الأميني في الغدير، ج3، ص300.

[24]

يجعلون تعليم القرآن مهوراً للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المسلمين، حتى أن الطفل ينمو على هديه.

ومرّة أُخرى نقول: أوَ يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مرّ التأريخ؟!

لقد تمّ جمع القرآن ـ كما ذكرنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ـ في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، واهتمّ به المسلمون الأوائل أقصى درجات الإِهتمام، في مجال تعلم أحكامه وحفظه، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الإِجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث أنّه في إِحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم(1).

وكذلك الحال في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما استشهد سبعون رجلا من الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة ـ وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة ـ(2).

من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتّضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم.

وهذا طبيعي جداً إذا ما نظرنا إِلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن، باعتباره القانون الحاكم النافذ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه.

لم يكن القرآن الكريم كتاباً مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص، بل إنّ مسألة حفظه كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنّة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي.

وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع

_____________________________

1 ـ منتخب كنز العمال، كما نقل عنه (البيان في تفسير القرآن)، ص260.

2 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 57.

[25]

والإنتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم، ولا تخلو مدينة إسلامية من حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين: أنّه يوجد في بعض بلاد الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن.

وبناءً على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف): إِن من شروط امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة النجاح في ذلك (20) من (40) كحد أدنى.

خلاصة القول: إنّ حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإِسلام أصبح سنّة حية في حياة المسلمين، من خلال ما أمر وأكّد عليه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (وهو ما تعضده الرّوايات الكثيرة)، وإِلى هنا نعاود طرح السؤال: هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف في القرآن؟!

2 ـ بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتّاب الوحي) وهم الأشخاص الذين أوكل إِليهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهمّة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها، ويذكر أن عددهم كان بين 14 ـ 43 رجلا.

يقول أبو عبد اللّه الزنجاني في كتابه القّيم (تأريخ القرآن): (كان للنبي كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون، أشهرهم الخلفاء الأربعة، وكان ألزمهم للنّبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتّاب أن تمتد إليه يد التحريف؟!

3 ـ دعوة الأئمّة المعصومين عليهم السلام للعمل بالقرآن الموجود بين أيدينا. ولو تفحصنا كلامهم عليهم السلام لوجدنا أنّهم قد دعوا الناس لتلاوة ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم المبارك بين الناس، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من هذا الكتاب السماوي.

[26]

وخطب الإِمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الإِدعاء: فنقرأ في الخطبة (133) : «وكتاب اللّه بين أظهركم، ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه».

ويقول في الخطبة (176) : «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل...».

ونطالع قوله (عليه السلام) في نفس الخطبة المذكورة: «وما جالس هذا القرآن أحدٌ إَلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى».

ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقوله (عليه السلام): «وإِنّ اللّه سبحانه لم يعظْ أحداً بمثل هذا القرآن، فإِنه حبل اللّه المتين، وسببه الأمين».

ونقرأ في الخطبة (198): «ثمّ أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده،...، ومنهاجاً لا يضل نهجه،...، وفرقاناً لايخمد برهانه» وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمّة(عليهم السلام).

ولو فرضنا أنّ يد التحريف قد طالت كتاب السماء، فهل من الممكن أن يدعو إِليه الأئمّة عليهم السلام بهذه القوة؟ و يصفونه بأنّه: صراط هداية، وسيلة التفريق بين الحق والباطل، النّور الذي لا يطفأ أبداً، مصباح هداية لا يخبو، حبل اللّه المتين والعروة الوثقى.

4 ـ وإِذا ما سلمنا بـ (خاتمية) النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الدين الإِسلامي هو خاتم الأديان الإِلهية، وإِنّ رسالة القرآن باقية إِلى يوم القيامة.

فهل يصدق أنّ اللّه سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجّة نبيّه الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإِسلام عبر آلاف السنين ودوامه حتى نهاية العالم؟!

5 ـ وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في روايات الثقلين المروية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق متعددة معتبرة.

[27]

فقد روي عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إِنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه وعترتي، ما إِن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً»(1).

فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!

6 ـ بالإِضافة إِلى كل ذلك فالقرآن طُرح على المسلمين باعتباره الحد الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة، وتشير كثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إِلى أن صدق أو كذب أي حديث يتبيّن من خلال عرضه على القرآن، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو باطل.

فلو افترضنا أنّ تحريفاً قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن اعتباره فاصلا بين الحق والباطل، أو معياراً دقيقاً لتمييز الحديث الصحيح من السقيم؟!

روايات التّحريف:

يستند القائلون بتحريف القرآن مرّة على روايات قد أُسيء فهمها نتيجة عدم الوصول لما كانت ترمز إِليه من معنى، وأُخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن تقسيم روايات التحريف إِلى ثلاثة أقسام:

1 ـ الرّوايات القائلة: إِنّ عليّاً(عليه السلام) شرع بجمع القرآن بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما تمّ جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم يقبلوه منه، فقال علي (عليه السلام): إِنّكم لن تروه بعد الآن أبداً.

وبنظرة فاحصة إِلى تلك الرّوايات نصل إِلى أن القرآن الذي كان عند علي

_____________________________

1 ـ حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة، رواه عن النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم جمع من الصحابة مثل: أبو سعيد الخدري، زيد بن أرقم، زيد بن ثابت، أبو هريرة، حذيفة بن أسيد، جابر بن عبد اللّه الإنصاري، عبد اللّه حنطب، عبد بن حميد، جبير بن مطعم، ضمرّة الأسلمي، أبوذر الغفاري، أبو رافع، أم سلمة وغيرهم.

[28]

(عليه السلام) لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون، سوى اختلافه من حيث العرض والترتيب في ثلاثة أُمور:

الأوّل: أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النّزول.

الثّاني: تثبيت سبب النّزول لكل آية وسورة.

الثّالث: تضمن تفسير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للآيات بالإِضافة إِلى ذكر الناسخ والمنسوخ.

فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس إِلاّ عين القرآن الموجود سوى أنّه أضاف إِليه: (التّفسير) و(التأويل) و(سبب النّزول) و(تبيان الناسخ والمنسوخ) وما شابه ذلك. وبعبارة أُخرى، كان قرآناً مع تفسيره الأصيل.

كما أنّه ورد في كتاب سُليم بن قيس: (إِنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته، وأقبل على القرآن، فلما جمعه كله، وكتابه بيده، وتأويله الناسخ والمنسوخ، بعث إِليه أن أخرج فبايع، فبعث إِليه إِني مشغول فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إِلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(1).

2 ـ الرّوايات المشيرة إِلى «التحريف المعنوي» للقرآن.

إنّ التحريف ـ كما نعلم ـ على ثلاثة ضروب: لفظي، معنوي، وعملي.

فالتحريف اللفظي: هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة ـ وجميع محققي الإِسلام ـ وننكره إِنكاراً قاطعاً).

والتحريف المعنوي: هو تفسير الآية خلافاً لمفهومها ومعناها الحقيقي.

أمّا التحريف العملي: فهو العمل على خلاف المقتضى.

ففي تفسير علي بن إِبراهيم عن أبي ذر(رضي الله عنه) أنّه قال: لما نزلت هذه الآية (يوم

_____________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج92، ص41.

[29]

تبيض وجوه وتسود وجوه) قال رسول اللّه صلّى عليه وآله وسلّم: «ترد عليّ أُمتي يوم القيامة على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الأمة، فأسألهم: ماذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أمّا الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا...»(1).

وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء الظهور.

3 ـ الرّوايات المختلقة:

فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم، وتبعهم الجهلة، في اختلاق بعض الرّوايات للحطّ من شرف القرآن وقدسيته، ومنها الرّوايات التي رواها أحمد بن محمّد بن السياري والبالغة (188) رواية(2)، وقد استدل العلاّمة الشّيخ النّوري بكثير من هذه الرّوايات في كتابه (فصل الخطاب).

والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان: فاسد المذهب، لا يعتمد عليه، وضعيف الحديث.

وعلى قول بعضهم: إنّه من أهل الغلو، منحرف، معروف بالتقول بالتناسخ، وكذاب، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف): إِنّ الإِمام الجواد(عليه السلام) وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنّها باطلة.

مع أنّ روايات التحريف غير مقتصرة على السياري، إِلاّ أنّ أكثرها وأهمها تعود إِليه.

وبين هذه الرّوايات المزيفة ما تضحك الثكلى، وينكرها كل ذي لب لبيب، وعلى سبيل المثال ما جاء في إِحداها بخصوص الآية الثّالثة من سورة النساء (وإِن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) أنّه: قد سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ذيل الآية (106) من سورة آل عمران.

2 ـ أورد هذا الإِحصاء مؤلف كتاب (البرهان المبين).

[30]

وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان ارتباطاً تاماً، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة.

أضف إِلى ذلك، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريباً، فكيف يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتّاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إِليه أحد؟!

وكأنّ هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه، ألم يثبت التأريخ بأنّ الشيء الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أوَلَمْ يكن القرآن يتلى في آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إِذن.. فكيف يحتمل إِسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إِليه أحد، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!

لا يسعنا إِلاّ أن نقول: إِنّ كذبة بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة واضعي مثل هذه الأحاديث.

وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إِثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل الخطاب) المشار إِليه آنفاً.

ولابدّ من الإِشارة إِلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ المؤلف العلاّمة الشيخ آغا بزرك الطهراني في الجزء الأوّل من كتاب (مستدرك الوسائل)، حيث يذكر أنّه سمع من استاذه مراراً: إِنّ ما في كتاب فصل الخطاب لا يمثل عقيدتي الشخصية، إِنّما ألفته للبحث والمناقشة، وأشرت فيه إِلى عقيدتي في عدم تحريف القرآن دون أنْ أُصرح، وكان من الأفضل أن أسمّيه (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب).

ثمّ يقول المحدث الطهراني: هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه، وأمّا عمله فقد رأيناه يقيم وزناً لما ورد في مضامين الأخبار، ويراها أخبار آحاد لابدّ أن تُضرب عرض الحائط، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إِلى أستاذنا إِلاّ مَنْ هو غير عارف بعقيدته ومرامه.

[31]

وأخيراً.. فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إِلاّ أن تبذل كل جهودها للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث الخرافات والأباطيل.

وطالعتنا الصحف من مدّة ليست بالبعيدة بأنّ أياد إِسرائيلية صهيونية قامت بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيراً من الآيات القرآنية، وكما هو معهود فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ، فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان.

وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة، أن نقطة واحدة لو غُيِّرَتْ في القرآن فسيعيدها إِلى نصابها المفسّرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم (يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إِلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون)(1).

* * *

_____________________________

1 ـ التوبة، 32.

[32]

الآيات

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الأَْوَّلِينَ(10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ رَّسُول إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ(11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الُْمجْرِمِينَ(12) لاَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَْوَّلِينَ(13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ(14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَـرُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ(15)

التّفسير

العناد والتعصب:

تواسي الآياتُ قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة.

فتقول أوّلاً: (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين).

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة (وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزؤن).

ذلك الإستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة:

[33]

ـ مرةً، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النّبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة الواعية.

ـ وأُخرى، يحاولون بالإِستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللّه عزِّوجلّ.

ـ وتارةً، يأخذهم الإِستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم الموبوءة وتقاليدهم البالية، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها، فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد، لأنّ يستهزؤا.

ـ وأُخرى، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسؤوليته.

ـ وقد يكون الإستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة، وقيمة الإنسان عندهم من خلال: لباسه الأنيق، مركبه الفاره، بيته الفخم، وحياته المحفوفة بالزخارف وإِذا نهض بدعوة الحق إِنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا شيئاً، فسيكون موضع سخريتهم!

ـ وأخيراً، فقبولهم لدعوة الأنبياء عليهم السلام ـ حسب تصورهم ـ يستلزم تقويضاً لكل شهواتهم الدنيوية، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها، فليجؤون للإِستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثمّ يقول جلّ وعلا: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) أي نوصل الآيات القرآنية الى اعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإِظهار المعجزات، ترى المتعصبين المستهزئين (لا يؤمنون به) و هو ليس بجديد (وقد خلت سنّة الأولين).

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرين في عنادهم على الباطل إِلى أنّهم

[34]

لا يؤمنون حتى (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون) ومع ذلك (لقالوا إِنّما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون).

عجباً، أن يصل الإِنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب!

إِن الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع، وتمنعهما من إِدراك الحقائق، وإذا لم يتمكن الإِنسان من رفع تلك الحجب وإِزالة الموانع، فإِنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معاً، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الأُولى، ولكن اذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذرت وأمست «ملكة» وصفة اخلاقية، فلا يمكن ازالتها بسهولة، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أي تأثير في قلبه.

* * *

ملاحظات

1 ـ (شيع) جمع (شيعة)، ويطلق على المجموعة والفرقة التي تمتلك نهجاً مشتركاً.

يقول الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات) ـ باب شيع: الشياع الإنتشار والتقوية، يقال شاع الخبر أي كثر وقوى، وشاع القوم انتشروا وكثروا، وشيعت النّار بالحطب قويتها، والشيعة: من يتقوى بهم الإِنسان.

أمّا العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) فيعتبر أنّ أصلها من المشايعة، وهي المتابعة، يقال شايع فلان فلاناً على أمره أي تابعه عليه، ومنه شيعة علي (عليه السلام) وهم الذين تابعوه على أمره ودانوا بإِمامته، وفي حديث أم سلمة عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة» إِشارة لهذا المعنى.

وعلي أية حال.. فالشياع بمعنى الإِنتشار والتقوية، أو المشايعة بمعنى

[35]

المتابعة، كلاهما دليل على وجود نوع من الإِتحاد والإِرتباط الفكري والديني في مفهوم (الشيعة) و(التشيع).

وإِطلاق لفظ (شيع) على الأقوام السابقة يدل على أنّهم في قبال دعوة الأنبياء عليهم السلام كانوا متحدين في توجههم ومتآزرين متعاضدين في عملهم.

فإِن كان لأهل الضلال هذا الإتحاد والتنسيق أفلا ينبغي لأتباع الحق أن يسيروا على نور هديه متكاتفين ومتآزرين؟

2 ـ مرجع الضمير في «نسلكه»:

من لطف الباري جلَّ شأنه أنْ يوصل ويفهم آياته للمجرمين والمخالفين بطرق شتى، عسى أن تستقر في قلوبهم، ولكّن عدم صلاحية ولياقة المحل يكون سبباً لخروجها من تلك الأجواف النتنة، فتبقى قلوباً غير متأثرة، شبيهاً بمرور الغذاء النافع في معدة مريضة فلا تتقبله وتقذفه إِلى الخارج. (ويستفاد هذا المعنى من (السلوك) المادة الأصلية لعبارة «نسلكه»).

وعلى هذا الأساس فضمير «نسلكه» يعود إِلى «الذكر» أيْ القرآن كما ورد في الآيات المتقدمة، وكذلك حال الضمير في (لا يؤمنون به) يعود إِليه أيضاً، أيْ: إنّهم مع كل ذلك لا يؤمنون بالذكر.

فنلحظ التوافق التام بين الضميرين بالضبط كما جاء في سورة الشعراء في الآيتين 200 و 201.

وذهب بعض المفسّرين إِلى أن ضمير «نسلكه» يعود إِلى الإِستهزاء المذكور في الآية المتقدمة لها، فيكون المعنى: إنّا ندخل الإستهزاء والسخرية في قلوبهم نتيجةً لذنوبهم وعنادهم.

ويكفينا لتضعيف هذا التّفسير أن نقول: إنّه يُذهب بالتناسق بين الضميرين.

ونستفيد كذلك من عبارة «نسلكه» أنّ على المبلغ والمرشد أن لا يكتفي في اداء وظيفته بايصال صوته الى أسماع الناس، بل عليه أن يطرق كل الآفاق حتى

[36]

يوصل صوت الحق إِلى القلوب ليقرّ فيها.

وبعبارة أُخرى، ينبغي الإِستفادة من جميع الوسائل.. السمعية والبصرية، البرامج العملية، الأدبُ ـ شعراً وقصة ـ والفن الأصيل الهادف. لتكون كلمة الحق واضحة لذوي القلوب الواعية، والحجة تامة على مَنْ ظلم وعاند.

3 ـ سُنّة الأولين:

تفيدنا الآية الآنفة الذكر بأنّ أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس ومحاولة تفريقهم وإِبعادهم عن أولياء اللّه لا تختص بزمان ومكان معينين، بل هي ممارسة موجودة منذ القدم وباقية ما بقي صراع الحق ضد الباطل على الأرض ولهذا لا ينبغي أن نستوحش من ذلك ونتراجع امام المشاكل والعراقيل التي يدبرها الاعداء.

ولا نسمح لليأس من أنْ يدخل قلوبنا، ولا لأساليب الأعداء من أن تفقدنا الثّقة بالنفس فذكر سنن الأولين في القرآن ما هي إلاّ مواساة وتسلية مؤثرة لقلوب دعاة الإِيمان.

وإذا ما تصورنا يوماً أن نشر دعوة الحق ورفع راية العدل والهداية لا يواجهان برد فعل الأعداء، فإنّنا في خطأ كبير، وأقل ما فيه أننا سنصاب بحالة اليأس المهلكة، وما علينا إِلاّ أن نستوعب مسير خط الأنبياء(عليهم السلام) في مواجهاتهم لأعداء اللّه، وأن نجسد ذلك الإستيعاب في سلوكنا، بل وعلينا أن نزداد في كل يوم عمقاً في دعوتنا.

4 ـ تفسير (فظلوا فيه يعرجون):

يظهر هذا المقطع القرآني ـ بوضوح ـ تصويراً لحال المعاندين، فلو أنّ باباً من السماء فتحت لهم وظلوا يصعدون وينزلون من خلاله، لقالوا: سحرت عيوننا وحجبت عن رؤية الواقع! (يبدو أنّ المراد من السماء هنا: الفضاء الخارجي الذي لا يمكن النفوذ منه بسهولة).

علماً بأنّ كلمة «ظلوا» تستعمل لاستمرار العمل في النهار وتقابلها كلمة

[37]

(باتوا) من البيتوتة اللّيل.

ويميل إِلى هذا المعنى غالب المفسّرين ولكن العجيب أن بعض المفسّرين احتملوا عودة ضمير «ظلّوا» إِلى الملائكة، فيكون المعنى: أنّهم لو رأوا الملائكة تصعد وتنزل من السماء بأُمّ أعينهم لما آمنوا أيضاً.

ولكن إِضافة لعدم انسجام هذا الإِحتمال مع تسلسل الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن المشركين، أن ذكر الملائكة إِنّما ورد قبل ست آيات (فعودة الضمير إِلى الملائكة بعيد جدّاً) فإنّ هذا المعنى يقلل من بلاغة العبارة القرآنية، لأنّ القرآن يريد أن يقول أنّ المشركين لايستسلمون للحق حتى لو صعدوا وهبطوا من السماء مراراً في ساعات النهار.

5 ـ معنى عبارة (سكرت أبصارنا).

جملة «سُكّرت» من مادة (سكر) أي: التغطية.

ويراد بها: أنّ الكافرين المعاندين يقولون: قد غطيت عيوننا عن رؤية الواقعيات، وإِذا رأينا أنفسنا نصعد إلى السماء وننزل إِلى الأرض سنحكم على ذلك بأنّه وهم وخيال، كما في ما يسمّى بالشعوذة التي يستفيد صاحبها من خفة حركة يده فيخدع أنظار الحاضرين بها.

ويضيفون القول: (بل نحن قوم مسحورون)، فبالرغم من أنّ الشعوذة هي لون من ألوان السحر، لكنّهم ربما يشيرون إِلى ما هو أشد من الشعوذة التي تختص بخداع البصر فقط، ألا وهو السحر الكامل الذي يغطي على كل وجود الانسان ويفقد معه الإِحساس بكل ما هو واقع!

فلو أغلقنا عين انسان ما فإنّه لا يفقد الشعور فيما لو أنّه يُصَعَّد به إِلى الأعلى أو يُنَزَّل إلى الأسفل.

فمعنى الآية: لو أخذنا المشركين إِلى أقطار السماوات لقالوا أوّلاً: إنّنا أصبنا بالشعوذة، وبعد أن يجدوا أنّ هذه العملية لا تتوقف على العين فقط فسيقولون حينها: إِنّنا مسحورون!

* * *

[38]

الآيات

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمآءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّـها لِلنَّـظِرِينَ(16)وَحَفِظْنَـهَا مِن كُلِّ شَيْطَـن رَّجِيم(17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ(18)

التّفسير

تشير الآيات إِلى جانب من عالم المخلوقات للدلالة على معرفة وتوحيد اللّه، وبسياقها جاءت تكملةً لبحثي القرآن والنّبوة المذكورين في الآيات السابقة.

قوله تعالى: (ولقد جعلنا في السماء بروجاً).

«البروج»: جمع «برج» ويعني «الظهور»، ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية: هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إِلى الذهن: لو نظرنا إِلى الشمس والقمر بإِمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية: مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول: إنّ الشمس في برج الحمل(1) ـ مثلا ـ أو الثور أو الميزان أو

_____________________________

1 ـ الحمل: مجموع شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريباً. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

[39]

العقرب أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسِّم لعالم وجودنا)، يعتبر من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جل وعلا.

إِنّ هذا النظام العجيب بما يحمل من دقة في حساب تشكيله يكشف لنا وجود هدف لخلق هذا العالم، وكلما أمعنا النظر في خلق اللّه ازددنا مقربة من معرفة الخالق الجليل.

ثمّ يضيف: (زيّناها للناظرين)(1).

انظروا لاحدى الليالي المظلمة ذات النجوم الكثيرة فسترون مجموعات نجمية ائتلفت فيما بينها في كل زاوية من زوايا السماء، وكأنّها حلقات تنظيمية تتجاذب أطراف الحديث، وترى تلك كأنّها ترمقنا شابحة، وأُخرى تغمزنا باستمرار وكأنّها تدعونا إِليها، ويُخال من بعضها وكأنّها تقترب منّا لشدة تلألئها، وتلك التي تنادينا بخافت ضوئها وينطق لسان حالها من أعماق السماء وجوفها المتباعد.. إنّني هنا!

هذه اللوحة الشاعرية الرائعة ربّما ألِفَها البعض على أنّها عادية نتيجةً لتكرار المشاهدة، ومع ذلك فلها جذبٌ خاص وهي جديرة بالتأمل.

وحينما يبزغ القمر (وبأشكاله المختلفة) وسط تلك المجاميع، يضيف إِلى سحرها وجمالها رونقاً جديداً.

وتراها خجلةً، لا تقوى على أن ترفع رأسها إِلاّ بعد غروب الشمس، فتتلألأ الواحدة تلو الأخرى، وكأنّهن يخرجن على استحياء من خلف ستار.. وما إِن يحل الطلوع حتى نراها تفر فراراً لَتختفي.

_____________________________

1 ـ ضمير «زيناها» يعود إِلى «السماء» لأنّها مؤنث مجازي.

[40]

ومضافاً الى ذلك فإنّ لها من الجمالية العلمية والأسرار المخفية ما لا يصدق، ويكفيك لجماليتها أنّها جعلت أنظار العلماء تشخص إِليها منذ آلاف السنين حتى زماننا الذي ما توصل العلماء إِلى صناعة المرقبات (التلسكوبات)، إِلاّ للوصول لاكتشاف أسرار جديدة عن هذا العالم الدائب الملتهب رغم صمته.

ويضيف في الآية التالية: (وحفظناها من كل شيطان رجيم إِلاّ من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين).

الآية المذكورة، من الآيات التي أُشبعت شرحاً وتفسيراً من قبل المفسّرين، وكلٌ منهم قد نحى منحىً خاصاً في فهم معناها.

وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان 6 و 7) وكذلك في سورة الجن الآية (9).

وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلةً لم يُسْعَفوا بالإِجابة عنها، فكان لزاماً علينا في باديء الأمر أن نلقي نظرة إِلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده، ومن ثمّ نعرج إِلى ما نراه راجحاً من هذه الآراء:

1 ـ بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا بالتّفسير الإِجمالي ولم يغوصوا إِلى كثير من التفاصيل، ولم يعيروا أهميةً لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إِدراكها، وما علينا إِلاّ أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه الى الحق.

فكتب يقول: وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟..

كل هذا غيب من غيب اللّه لا سبيل لنا إِليه إِلاّ من خلال النصوص، ولا جدوى في الخوض فيه، لأنّه لا يزيد شيئاً في العقيدة ولا يثمر إِلاّ انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة، ثمّ

[41]

لا يضيف إِليه إِدراكاً جديداً لحقيقة جديدة(1).

وينبغي التنويه هنا إِلى أنّ القرآن كتابٌ سماوي جاء لتوجيه الإِنسان إِلى الحق، وهو كتابُ حياة وتربية، فإِن كان فيه ما لا يخص الحياة الإِنسانية فمن الأُولى أن لا يطرح أصلا، وهذا خلاف التخطيط والمنهج الرّباني، وكلُّ ما فيه دروس لنا ومنهجٌ قويم للحياة.

والتسليم بوجود حقائق غامضة في القرآن أمرٌ مرفوض.. أوَ ليس القرآن كتاب نور، وكتاباً مبيناً؟! أوَ لم ينزل كي يفهمه الناس ويسيروا بهديه؟! فكيف إِذن.. لا يهمنا فهم بعض آياته؟!

وبكلمة: فإنّ هذا التّفسير مرفوض.

2 ـ يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصاً القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.

فالسماء هي هذه السماء، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهاباً (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجةً لا حتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها).

والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إِلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع، ولكنّه يُمنع من الوصول إِلى هدفه برميه بالشهب(2).

_____________________________

1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج5، ص 396.

2 ـ ذكر هذا التّفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في الموضوع اعتماداً على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإِجابة على تلك التساؤلات، ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.

[42]

3 ـ وذهب جمع من المفسّرين مثل العلاّمة الطّباطبائي في (تفسير الميزان) والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إِلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال، أو ما يسمّى بـ (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة:

ألف: نقرأ في تفسير الميزان: (أورد المفسّرون أنواعاً من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب، وهي مبينة على ما سبق إِلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار، إِنّ هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إِلاّ منها، وإِنّ في السماء الأُولى جمعاً من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.

وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.

ويحتمل ـ واللّه العالم ـ أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس، وهو القائل عزَّ وجلّ في سورة العنكبوت (43): (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إِلاّ العالمون)، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب.

وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالماً ملكوتياً ذا أفق أعلى، نسبته إِلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إِلى الأرض، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للإِطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت(1).

ب ـ والطنطاوي في تفسيره المعروف، هكذا يرى: (إِنّ العلماء المحتالين

_____________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج17، ص 124 (في تفسير الآيات من سورة الصافات).

[43]

المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق، فإِنّ اللّه تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار مَنْ له عقل ونباهة وإِخلاص وإِيمان، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإِلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق، ومتى ما اقترب منها طرد عنها، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبداً، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق، أليس العلم لا يناله إِلاّ عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إِليه إِلاّ عرفاؤه(1)؟!

ويقول في مكان آخر: ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية، فيكون المنع الحسي رمزاً للمنع العقلي، والكناية من أجمل أنواع البلاغة، ألاّ ترى أن كثيراً من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض، غائبةٌ أبصارهم، لا يسمعون إِلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية(2)، وإِن أصيب أحَدٌ بهذه الأهواء يوماً بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإِنّه سيطرد أيضاً.

ج ـ وله كلام في مكان آخر، خلاصته: تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إِلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أُمور واقعة ودقيقة جدّاً، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض

_____________________________

1 ـ تفسير الجواهر، ج8، ص11.

2 ـ تفسير الجواهر، ج18، ص10.

[44]

الأمور، لأنها لا تنقل بدقة إِلا ما هو ضمن عالمها المحدود، ولا يمكنها أن تصل إِلى عالم أعلى منها، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي، كذلك هذه الأرواح فإِنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.

د ـ وقال بعض آخر: أظهرت الإِكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة، وإِنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا، إِلاّ أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنياً فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا، ولكنّ الجن تسعى للإِستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إِلى أهل الأرض(1).

كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.

نتيجة البحث:

طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر، وقبل الخروج بمحصلة البحث لابدّ من ذكر بعض الملاحظات:

1 ـ أشار القرآن الكريم بكلمة «السماء» إِلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إِليها تارة، وإِلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أُخرى.

فمثلا نقرأ في الآية (40) من سورة الأعراف (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء).

فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من اللّه عزَّ

_____________________________

1 ـ القرآن على مر العصور، ع . نوفل.

[45]

وجلّ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر (إِليه يصعد الحكم الطيب والعمل الصالح يرفعه).

وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك، بل المراد هو الإِرتفاع إِلى مقام القرب الإِلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية.

والمقصود من تعبير «أنزل» و«نزل» في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإِلهية المقدسة على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقرأنا في تفسير الآية (24) من سورة إِبراهيم (ألم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والفرع علي (عليه السلام) (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّة عليهم السلام هم الفروع الأصغر(1).

وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث: «كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إِلى السماء».

لا ريب أنّ «السماء» المستعملة هنا ليست السماء المُشَاهَدَة.

نستنتج ممّا سبق أنّ «السماء» قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي.

2 ـ و«النجوم» كذلك، بمفهومها المادي.. هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي.. أُولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية.

فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة، فكذلك المجتمعات البشرية، فإِنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها

_____________________________

1 ـ راجع تفسير البرهان، ج2، ص310.

[46]

ونيل سعادتها بنور أُولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.

وفي الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم»(1) وهو إِشارة جلية لهذا المعنى.

كما نقرأ في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)(2).. إنّ الإِمام (عليه السلام) قال: «النجوم آل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم»(3).

3 ـ يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة، أن منع الشياطين من الصعود إِلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريم(عليه السلام)كذلك ولكن لفترة معينة، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تمّ المنع بشكل كامل(4).

ومن كل ما تقدم يمكننا القول: إِن «السماء» كناية عن سماء الحق والإِيمان، والشياطين تسعى أبداً لا ختراق هذه السماء والتسلل إِلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حماة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.

ولكن علم وتقوى أولياء اللّه وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.

وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أو ولادة المسيح (عليه السلام)، وبين طرد الشياطين عن السماء.

ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إِلى السماء والإِطلاع

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج2، ص9.

2 ـ الأنعام، 97.

3 ـ نور الثقلين، ج1، ص750.

4 ـ نور الثقلين، ج3، ص5 ـ تفسير القرطبي، ج5، ص3626.

[47]

على الأسرار، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأُخرى حية، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا.

ولا بدّ من الإِلتفات إِلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف الجوي للأرض فقط، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب. نعم، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إِلاّ أنّها لا تسمى شهباً إِلاّ بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة.

وكما هو معلوم، فإِنّ إِنسان العصر الحديث قد نفذ مراراً من هذه المنطقة، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علماً بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إِلى مائتي كيلومتر طولا.. وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر).

فإِنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا، فيمكن القول: إِنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.

والخلاصة: يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو.. سماء الحق والحقيقة، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع، ليتمكنوا من إِغواء الناس بذلك، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.

[48]

ولكنْ.. بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستنداً على حقائق لم نصل لها في زماننا.

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=776
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29