• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الاسراء من آية 22 ـ 35 من ( ص 440 ـ آخر الجزء الثامن ) .

سورة الاسراء من آية 22 ـ 35 من ( ص 440 ـ آخر الجزء الثامن )

[440]

الآيات

لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلـهاً ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولا(22)وقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلآَّ إِيَّاهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسـناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَّهُمَا قَولا كَرِيماً(23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَما رَبَّيانِى صَغِيراً(24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صـلِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَْوّبِينَ غَفُوراً(25)

التّفسير

أحكام إِسلامية مهمّة:

الآيات التي نحنُ بصدد بحثها هي بداية لسلسلة مِن الأحكام الإِسلامية الأساسية، والتي تبدأ بالدعوة إِلى التوحيد والإِيمان; التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإِيمانية، والأعمال الحسنة والبنّاءة. والآيات عندما تنحو هذا المنحى فهي بذلك تتصل مع مضمون البحث في الآيات السابقة، التي كانت تتحدث عن الناس السُعداء الذين أقاموا حياتهم على دعائم ثلاث هي:

[441]

الإِيمان، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.

وتعتبر هذه الآيات ـ أيضاً ـ تأكيداً ثانياً لدعوة القرآن إِلى أفضل السبل وأكثرها إِستقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول: (لا تجعل مع اللّه إِلهاً آخر) إنّها لم تقل: لا تعبد مع اللّه إِلهاً آخر، بل تقول: (لا تجعل) هذا اللفظ أشمل وأوسع، إِذ هو يعني: لا تجعل معبوداً آخر مع اللّه لا في العقيدة، ولا في العمل، ولا في الدعاء، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة للشرك: (فتقعد مذموماً مخذولا).

إِنَّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز، فمثلا يقال: قَعَدَ به الضعف عن القتال. وَمِن هذا التعبير يُمكن أن نستفيد أنَّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّاً في وجود الإِنسان، هي:

1 ـ الشرك يؤدي إِلى الضعف والعجز والذّلة، في حين أنَّ التوحيد هو أساس الحركة والنهوض والرفعة.

2 ـ الشرك موجب للذم واللوم، لأنَّهُ خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل، ويعتبر كفراً واضحاً بالنعم الإِلهية، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا الإِنحراف يستحق الذم.

3 ـ الشرك يكون سبباً في أن يترك اللّه سبحانه وتعالى الإِنسان إِلى الأشياء التي يعبدها، ويمنع عنهُ حمايته، وبما أنَّ هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا تملك حماية أي إِنسان أو دفع الضرر عنه، ولأنَّ اللّه لا يحمي مثل هؤلاء، لذا فإِنهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

إِنَّ هذا المعنى يتّضح بشكل آخر في آيات قرآنية أُخرى، إِذ نقرأ مثلا في الآية (41) من سورة العنكبوت: (مثل الذين اتّخذوا مِن دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً، وإِنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي، تشير الآيات إِلى واحدة مِن أهم توجيهات

[442]

الأنبياء(عليهم السلام) للإِنسان، فالآية ـ بعد أن تؤكد مرّة أُخرى على التوحيد ـ تقول: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

كلمة «قضاء» لهم مفهوم توكيدي أكثر مِن كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثّاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإِسلامي، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إِسلامي، مع الإِحسان إِلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثّالث والرّابع فهما يتمثلان في معنى الإِطلاق الذي تفيده كلمة «إِحسان» والتي تشمل كل أنواع الإِحسان. وكذلك معنى الإِطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إِذ هي تشمل الأم والأب، سواء كانا مُسلِمَينْ أو كافِرَيْن.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إِحساناً» نكرة لتأكيد أهميتها وعظمتها(1).

ومِن الضروري الإِنتباه إِلى هذه الملاحظة; وهي أنَّ الأمر عادةً ما ينصبّ على الأُمور الإِيجابية، بينما جاءَ هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى ... ألا تعبدوا...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟

من الممكن أن نقول: إِنَّ جملة (وقضى ...) تتضمن تقديراً جملة إِيجابية، يمكن أن نقدرها بالقول: وقضى ربّك أن تعبده، ولا تعبد أي شيء سواه. أو من الممكن أن تكون جملة (ألا تعبد إِلاّ إِياه) التي تتضمن «النفي والإِثبات» جملة إِيجابية واحدة، إِذ هي تحصر العبادة باللّه دون غيره ثمّ تنتقل إِلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإِحسان إِلى الوالدين فتقول: (إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) بحيث يحتاجان الى الرعاية والإِهتمام الدائم. فلا تبخل عليها بأي

_____________________________

1 ـ يعتقد البعض أنَّ كلمة «إِحسان» تتعدى غالباً بـ «إِلى» مثل قولنا «أحسن إِليه». وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد يكون هذا التعبير لإِظهار المباشرة، أي إِظهار المحبّة والإِحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه القضية.

[443]

شكل من إِشكال المحبّة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إِهانة حتى بكلمة «اُف»: (فلا تقل لهما أف ولا تنهر هما)(1) بل: (وقل لهما قولا كريماً) وكن أمامهما في غاية التواضع (وأخفض لهما جناح الذل مِن الرحمة، وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).

الأهمية الإِستثنائية لاحترام الوالدين:

إِنَّ الآيتين السابقتين توضحان جانباً من التعامل الأخلاقي الدقيق، والإِحترام الذي ينبغي أن يؤدّيه الأبناء للوالدين:

1 ـ من جانب أشارت الآية إِلى فترة الشيخوخة، وحاجة الوالدين في هذه الفترة إِلى المحبّة والإِحترام أكثر مِن أي فترة سابقة، إِذ الآية تقول: (إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف). مِن الممكن أن يصل الوالدان إِلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين، وقد لا يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم، وهنا يبدأ الإِختبار العظيم للأبناء، فهل يعتبرون وجود مِثل هذين الوالدين دليل الرحمة، أو أنّهم يحسبون ذلك بلاءاً ومصيبةً وعذاباً .. هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء والأمهات; أم أنّهم يوجهون الإِهانات ويسيئون الأدب لهم; ويتمنون موتهم؟!

2 ـ مِن جانب آخر .. تقول الآية: (فلا تقل لهما أف) بمعنى لا تظهر عدم ارتياحك أو تنفرك مِنهم (ولا تنهرهما) ثمّ تؤكّد مرّة أُخرى على ضرورة التحدّث معهم بالقول الكريم، إِذ اللسان مفتاح إِلى القلب (وقل لهما قولا كريماً).

3 ـ مِن جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم، هذا التواضع الذي يكون علامة

_____________________________

1 ـ هناك قولان حول «إِما» في جملة «إِما يبلغنّ» فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إِلى أنّها مركّبة من «إِن» الشرطية و«ما» الشرطية، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب «الميزان» مثلا، فيرى أنّها مركبة من «إِن» الشرطية و«ما» الزائدة، التي جاءت هنا لتسمع لـ «إن» الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التوكيد.

[444]

المحبة، ودليل الود لهم: (واخفض لهما جناح الذل مِن الرحمة).

4 ـ أخيراً تنتهي الآيات، إِلى توجيه الإِنسان نحو الدعاء لوالدَيْه وذكرهم بالخير سواء كانا أمواتاً أم أحياء، وطلب الرحمة الرّبانية لهما جزاء لما قاما به مِن تربية (وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً).

إِضافة إِلى ما ذكرناه، فثمّة ملاحظة لطيفة أُخرى يطويها التعبير القرآني، هذه الملاحظة خطاب للإِنسان يقول: إِذ أصبح والداك مُسِنَيّن وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما، فلا تنس أنّك عندما كُنت صغيراً كُنت على هذه الشاكلة أيضاً، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك، لذا فلا تقصَّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان، وعن قصد وعلم في أحيان أُخرى، لذا فإِنَّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إِلى هذا المعنى بالقول: (ربّكم أعلم بما في نفوسكم). وهذه إِشارة إِلى أنَّ علم اللّه ثابت وَأزلي وأبدي وبعيد عن الإِشتباهات، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإِذا طغى الإِنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإِحسان إِليهم، ولكن بدون قصد وعن جهل، ثمّ تابَ بعد ذلك وأناب، وندم على ما فعل وأصلح، فإِنَّهُ سيكون مشمولا لعفو اللّه تعالى: (إِن تكونوا صالحين فإِنَّهُ كانَ للأوابين غفوراً) .

«أوّاب» مُشتقة مِن «أوب» على وزن «قوم» وهي تعني الرجوع مع الإِرادة، في حين أن كلمة «رجع» تقال للرجوع مع الإِرادة أو بدونها، لهذا السبب يقال للتوبة «أوبة» لأنَّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر)، إِلى اللّه، مع الإِرادة.

وبما أنَّ كلمة «أوّاب» هي صيغة مِبالغة، لذا فإِنّها تقال للأشخاص الذين كلما

[445]

أذنبوا رجعوا إِلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في «أوّاب» هي إِشارة إِلى تعدُّد عوامل العودة والرجوع إِلى اللّه. فالإِيمان بالله أوّلاً; والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانياً; والضمير الحي ثالثاً; والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعاً، كل هذه العوامل تعمل سويةً لأجل عودة الإِنسان مِن طريق الإِنحراف، نحو اللّه.

* * *

بحوث

أوّلاً: إِحترام الوالدين في المنطق الإِسلامي

بالرغم مِن أنَّ العاطفة الإِنسانية ومعرفة الحقائق، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين، إِلاّ أنَّ الإِسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل، أو أن تدلُّ عليها العاطفة الإِنسانية المحضة، لذلك تراه يُعطي التعليمات اللازمة إِزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإِسلام إِلاّ في قضايا نادرة أُخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إِلى هذا المعنى:

ألف: في أربع سور قرآنية ذكر الإِحسان إِلى الوالدين بعد التوحيد مُباشرة، وهذا الإِقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإِسلام للوالدين.

ففي سورة البقرة آية (83) نقرأ: (لا تعبدون إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

وفي سورة النساء آية (36) نقرأ قوله تعالى: (واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إِحسانا). أما الآية (151) مِن سورة الأنعام فإِنّها تقول: (ألا تشركوا بهِ شيئاً وبالوالدين إِحساناً). وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى: (وقضى ربّك أن لا تعبدوا إِلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً).

ب ـ إِنَّ مسألة إِحترام الوالدين ورعاية حقّهما مِن المنزلة بمكان، حتى أنَّ

[446]

القرآن والأحاديث والرّوايات الإِسلامية، تؤكدان معاً على الإِحسان للوالدين حتى ولو كانا مُشركين، إِذ نقرأ في الآية (15) مِن سورة لقمان: (وإِن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم، فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً).

ج ـ رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إِلى منزلة شكر اللّه تعالى، إِذ تقول الآية (14) مِن سورة لقمان: (أن أشكر لي ولوالديك).

وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإِسلام وشريعته، بالرغم من أن نعم اللّه التي يشكرها الإِنسان لا تعدّ ولا تحصى.

د ـ القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إِهانة للوالدين، ولا يجيز ذلك، ففي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: «لو علم اللّه شيئاً هو أدنى من أف لنهى عنه، وهو مِن أدنى العقوق، ومِن العقوق أن ينظر الرجل إِلى والديه فيحدّ النظر إِليهما»(1).

هـ ـ بالرغم مِن أنَّ الجهاد يُعتبر مِن أهم التعاليم الإِسلامية، إِلاّ أنَّ رعاية الوالدين تعتبر أهم مِنهُ، بل لا يجوز إِذا أدّى الأمر إِلى أذية الوالدين، بالطبع هذا إِذا لم يكن الجهاد واجباً عينياً، وإِذ توفرَّ العدد الكافي مِن المتطوعين له.

في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، أنَّ رجلا جاءَ إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال لَهُ، إِنّي أُحبّ الجهاد، وصحتي جيدة، ولكن لي أمّ لا ترتاحُ لذلك، فماذا أفعل; فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِرجع فكن مَع والدتك فوالذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خيرٌ مِن جهاد في سبيل اللّه سنة»(2).

ولكن عندما يجب الجهاد وجوباً عينياً، وتصبح بلاد الإِسلام في خطر يُلزم الجميع بالحضور ولا تُقبل جميع الاعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين.

وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى; وكذلك المستحبات.

_____________________________

1 ـ يلاحظ: جامع السعادات، النراقي، ج 2، ص 258.

2 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 260.

[447]

و ـ عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إِيّاك وعقوق الوالدين فإِنَّ ريح الجنّة توجد مِن ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ»(1).

هذا التعبير ينطوي على إِشارة لطيفة، إِذ أن مِثل هؤلاء الأشخاص (العاقين) ليسوا لا يدخلون الجنّة وحسب، بل إنّهم يبقون على مسافة بعيدة جداً منها ولا يستطيعون الإِقتراب مِنها.

وينقل «سيد قطب» حديثاً عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جاء فيه: «عن بريده عن أبيه، أنَّ رجلا كانَ في الطواف حاملا أُمّه يطوف بها، فرأى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله: هل أديت حقّها؟ فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا، ولا بزفرة واحدة».

ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة، أو الطلقة الواحدة، التي تغشى الأم حين الولادة والوضع(2).

إِذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن التّفسير، لكنَ ـ بصراحة ـ يجب أن نعترف بأنَّ كل ما يُقال في هذا المجال فَهو قليل، لأنَّ للوالدين حق العيش والحياة على الولد.

في نهاية هذه الفقرة، أشير إِلى أنَّ الوالدين ـ في بعض الأحيان ـ يقترحان على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى غير شرعية، طبعاً في مثل هذه الحالات لا تجب الطاعة، ولكن مِن الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق، وأن تتم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه.

أخيراً نختم الكلام بحديث عن الإِمام الكاظم(عليه السلام) قال فيه: إِنَّ رجلا جاءَ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله عن حق الأدب على ابنه، فأجابهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله، ولا يستسب له»(3) (اي لا يفعل شيئاً يؤدي

_____________________________

1 ـ جامع السعادات، ج 2، ص 257.

2 ـ في ظلال القرآن، ج 4، ص 2222، الطبعة العاشرة.

3 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 149.

[448]

الى أن يسبّ الناس والديه).

ثانياً: بحثٌ حول كلمة «قضى»:

«قضى» أصلها مِن كلمة «قضاء» بمعنى الفصل في شيء ما، إِمّا بالعمل وإِمّا بالكلام. وقال بعض: إِنَّ معناها هو وضع نهاية لشيء ما، وفي الواقع فإِنَّ المعنيين مُتقاربان. وبما أنَّ الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة، لذا فإِنَّ هذه الكلمة لها استخدامات في مفاهيم مُختلفة، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي:

* «قضى» بمعنى «أمر» كما في قوله تعالى: (وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إِلاّ إِياه).

* «قضى» بمعنى «خلق» كما في قوله آية (12) مِن سورة فصلت (فقضاهنّ سبع سماوات في يومين) .

* «قضى» بمعنى «حكم» كما في الآية (72) مِن سورة طه (فاقضِ ما أنت قاض).

* «قضى» بمعنى الإِنتهاء مِن شيء، ومثلهُ الآية (41) مِن سورة يوسف (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).

* «قضى» بمعنى «أراد» كما في سورة آل عمران آية (47): (إِذا قضى أمراً فإِنّما يقول لهُ كُن فيكون).

* «قضى» بمعنى «عهد» كما في الآية (44) مِن القصص: (إِذ قضينا إِلى موسى الأمر)(1).

وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إِلى هذه المعاني قوله:

*«قضى» بمعنى «الإِخبار والإِعلام» مِثل قوله تعالى: (وقضينا إِلى بني

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج 6، ص 3853.

[449]

إِسرائيل في الكتاب)(1).

ونستطيع أن نضيف إِلى هذا المعنى، معنى آخر تكون فيه «قضى» بمعنى «الموت» كما في آية (15) مِن سورة القصص (فوكزه موسى فقضى عليه).

المهم هُنا، أنَّ بعض المفسّرين وضع أكثر مِن (13) معنى لكلمة في القرآن الكريم(2).

ولكن لا يُمكن اعتبار كل هذه معاني مُتعدَّدة لكلمة «قضى» لأنها تنتهي إِلى مفهوم واحد. لذلك فإِنَّ أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي مِن باب اختلاط المصداق بالمفهوم. لأنّ كل واحدة مِنها، ما هي في واقعها إِلاّ مصداقاً للمفهوم الكلّي والجامع المتمثل في «الفصل ووضع النهاية» فالقاضي بحكمه يضع نهاية للدعوى; والخالق يضع نهاية لما خلق; والمُخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن يوضحه. ولكن لا يمكن الإِنكار أنَّ بعض هذه المصاديق، ومِن كثرة الإِستخدام قد وضعت معان جديدة لكلمة «قضاء» مِثل الحكم أو إِعطاء الأوامر.

ثالثاً: بحثٌ حول معنى كلمة «أف»:

أصل «أف» كلّ مستقذر مِن وَسخ وقُلامةِ ظفر وما يجري مجراهما، ويقالُ ذلك لكلِّ مُستَخف به إِستقذاراً له. ويمكن أن نشتق مِنهُ فعلا، كمثل قولنا: قد أففت لكذا، إِذا قلت ذلك إِستقذاراً له. (مفردات الراغب صفحة 19).

بعض المفسّرين مثل «القرطبي» في الجامع، و«الطبرسي» في «مجمع البيان» قالوا: «أف» و«تف» في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنّه ملوّث وتافة أيضاً، وينقل الرازي عن الأصمعي أنَّ «الأف» وسخ الأذن، و«التف» وسخ الظفر، حتى توسع المعنى ليشمل كل ما يُتأذى منه، وتذكر اللفظة أيضاً عند كل مكروه يصل

_____________________________

1 ـ تفسيره أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 188.

2 ـ وجوه القرآن للتفليسي، ص 235.

[450]

إِليهم(1).

و هُناك معان أُخرى لكلمة «أف» مِنها أنّها تعني الشيء القليل، أو الأذى مِن الرائحة الكريهة.

البعض الآخر قال: إِنَّ أصل هذه الكلمة مأخوذ مِن «الصوت» الذي يخرج مِن الفم عندما ينفخ الإِنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه مِن الغبار الموجود عليها; وهذا الصوت يشبه كلمة «أوف» أو «أف» وقد أستفيد مِنها فيما بعد للتعبير عن التنفُّر وعدم الراحة مِن الأشياء الصغيرة بالخصوص.

وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه، وبالإِضافة إِلى قرائن أُخرى يمكن القول بأنَّ هذه الكلمة هي في الأصل «اسم صوت» والمقصود بالصوت هنا ما يصدره الإِنسان مِن فمه عندما يتذمَّر أو ينفخ لإِزالة شيء ما. ثمّ بعد ذلك تحول «اسم الصوت» إِلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال مِنها، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل.

ومُنتهى الكلام هنا، أنَّ الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة. إِنَّ احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إِيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» مِن معنى.

* * *

_____________________________

1 ـ التّفسير الكبير، الفخر الرازي، ج 2، ص 188.

[451]

الآيات

وَءَاتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْونَ الشَّيـطِينِ وَكَانَ الشَّيْطـنُ لِرَبِّهِ كَفُوراً(27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَة مِّن رَبِّكَ ترْجُوها فَقُل لَّهُمْ قَولا مَّيْسُوراً(28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً(29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرَا بَصيِراً(30)

التّفسير

رعاية الإِعتدال في الإِنفاق والهبات:

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر مِن سلسلة الأحكام الإِسلامية الأساسية، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين، والإِنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيداً عن كل نوع مِن أنواع الإِسراف والتبذير، حيث تقول الآية (وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً).

[452]

«تبذير» مِن «بذر» وهي تعني بذر البذور، إِلاّ أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإِنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر: إِنَّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كانَ قليلا، بينما إِذا صُرِفَ في محلِّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً. ففي تفسير العياشي، عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، نقرأ قوله: «مَن أنفق شيئاً في غير طاعة اللّه فهو مُبذر ومَن أنفق في سبيل اللّه فهو مُقتصد»(1).

وينقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أيضاً أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى، فقال: «لا تفعل إِن هذا من التبذير، وإن اللّه لا يحب الفساد»(2).

وفي مكان آخر نقرأ، أنَّ رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بسعد وهو يتوضاً، فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أفي الوضوء سرف؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «نعم وإن كُنت على نهر جار»(3).

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين، هل هُم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قُربى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنَّ ذوي القربى هم قربى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعض الرّوايات تشير إِلى أنَّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بنتهُ فاطمة الزهراء(عليها السلام). ولكن مخاطبة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمة «وآت» لا تعتبر دليلا على إِختصاص هذا الحكم به، لأنَّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإِسراف ومداراة السائل والمسكين، والنهي عن البخل، هي أحكام عامّة بالرغم مِن أنّها تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

وهُناك نقطة ينبغي الإِلتفات إِليها; وهي مجيء النهي عن التبذير والإِسراف،

_____________________________

1 ـ يراجع تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

[453]

بعد إِعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإِنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصداقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّايستحق أو يتحمل، فيعتبر ذلك إِسرافاً وتبذيراً، وهما مذمومان دائماً.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير (إِنَّ المبذرين كانوا اخوان الشياطين، وكان الشيطان لربّه كفوراً).

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربِّه، فهذا واضح، لأنَّ اللّه أعطاه قدرةً وقوةً واستعداداً وذكاءاً خارقاً للعادة، ولكن الشيطان استفاد مِن هذه الأُمور في غير محلِّها، أي في طريق إِغواء الناس وإِبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إِخوان الشياطين، فذلك لأنّهم كفروا بنعم اللّه، إذ وضعوها في غير مواضعها. ثمّ إِنَّ استخدام «إِخوان» تعني أنَّ أعمالهم مُتطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما مُتشابهة، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم، كما توضح ذلك الآية (39) مِن سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب: (ولن ينفعكم اليوم إِذ ظلمتم أنّكم في العذاب مُشتركون).

أمّا لماذا جاءت كلمة شيطان هنا بصيغة الجمع «شياطين»؟ قد يعود ذلك إِلى أنّ لكل إِنسان غافل عن خالقه وربّه، شيطانٌ قرينٌ له، كما نرى هذا المعنى واضحاً في الآية (36) و (38) مِن الزخرف: (ومَن يعش عن ذكر الرحمن نقيض لُه شيطاناً فهو له قرين .. حتى إِذا جاءنا قالَ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين).

ثمّ أنّ الإِنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحياناً، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرُّف بالنحو الآتي: (إِمّا تعرضن عنهم ابتغاء رحمة مِن ربّك ترجوها فقل لهم قولا ميسوراً).

«ميسور» مُشتقّة مِن «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة، أمّا هنا فلها مفهوم واسع، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالإِحترام والمحبّة، وإِذا فسَّرها

[454]

البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإِنَّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات، أنَّه بعد نزول هذه الآية، كانَ إِذا جاء شخص محتاج إِلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، والرّسول لا يملك شيئاً لإِعطائه، قال له(صلى الله عليه وآله وسلم): «يرزقنا اللّه وإِيّاكم مِن فضله»(1).

وقديماً عندما كانَ السائل يطرق الباب، ويطلب مِنّا شيئاً لا نستطيع إعطاءه إِيّاه، نقول له «العفو» وذلك تأكيداً على أنَّ لهذا السائل حق علينا يُطالِبنا به، وإِذا كُنّا لا نملك قضاء حاجته وإِعطاءه حقّه، فإِننا نطلب منه العفو.

الإِعتدال هو شرط في كل الأُمور بما فيها الإِنفاق ومساعدة الآخرين، لذلك تنتقل الآية للقول: (ولا تجعل يدك مغلولة إِلى عنقك). وهذا تعبير جميل يفيد أنَّ الإِنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إِلى أعناقهم بُخلا وخشية من الإِنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرِّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء، حتى لا ينتهي المصير إِلى الملامة والإِبتعاد عن الناس: (ولا تبسطها كلَّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً).

و«تقعد» مُشتقّة مِن «قعود» وهي كناية عن التوقف عن العمل. أمّا تعبير «ملوم» فهو يشير إِلى أنَّ عاقبة الإِسراف لا تؤدي إلى توقف الإِنسان عن عمله ونشاطه وحسب، وإِنّما تؤدي إِلى إِيقاع لوم الناس عليه.

«محسور» مُشتقّة مِن كلمة «حسر» وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإِظهار بعض البدن من تحته، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع، بأنه «حاسر». وأيضاً يقال للحيوان الذي يتعب مِن كثرة المشي بأنَّه «حسير» أو «حاسر» بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.

_____________________________

1 ـ يراجع تفسير مجمع البيان، عند تفسير الآيه.

[455]

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يُطلق على كل إِنسان عاجز عن الوصول إِلى هدفه بأنَّهُ «حسير» أو «محسور» أو «حاسر».

أمّا كلمة «الحسرة» والتي تعني الغم والحزن، فهي مُشتقة مِن هذه الكلمة، وتطلق على الإِنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإِنفاق، فهو إِذا تجاوز الحد المقرَّر بحيث يستنفذ طاقة الإِنسان، فإِنَّهُ يؤدي إِلى أن يُصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسؤولياته، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى، إِذ أنّها تتحدث أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ يوماً في بيته فجاءه سائل يسأله إِعطاءه ملابس، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يُعطي السائل، فقد خلع لباسه وأعطاهُ إِيّاه، الأمر الذي أدّى إِلى بقاء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كانَ هذا الحادث سبباً لِتقولات الكفار المنافقين، الذين قالوا: إِنَّ الرّسول نائم، أو إِنَّهُ في لهو أنساهُ صلاته. وبذلك أدّى هذا العمل إِلى إِيقاع اللوم شماتة الأعداء والإِنقطاع عن الأصحاب، وأصبح بذلك مصداقاً للملوم والمحسور، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة «الإِيثار» فسنبحثهُ في الملاحظات القادمة إِن شاء اللّه.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية، هو أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطي ما يوجد في بيت المال إِلى المحتاج بحيث إِذا جاءه محتاج آخر، فلن يجد شيئاً يعطيه له، فيلوم ذلك المحتاج الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ويؤذيه، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفقّ كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال: لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الافضل أن يعطيهم اللّه ما يريدون حتى لا يحتاجون إِلى إِنفاقنا؟

[456]

الجواب: تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال: (إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إِنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً). إِنَّهُ اختبارٌ لنا، فالله قادر على كل شيء، ولكنَّهُ يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء. إِضافة إِلى ذلك، إِذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإِنَّ ذلك يقود إِلى الطغيان والتمرد (إِنَّ الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى)، لذلك مِن المفيد أن يبقوا في حد معين مِن الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان. مِن ناحية أُخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإِنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين)، وهكذا تقتضي المشيئة الإِلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاءَ، وهذا دليل الحكمة، إِذ تقضي الحكمة بزيادة رزق مَن يسعى ويبذل الجهد، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهداً وسعياً.

العلاّمة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان: «إِنَّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء، فلا يبسطه كل البسط، ولا يمسك عنهُ كل الإِمساك رعاية لمصلحة العباد، إِنَّه كان بعباده خبيراً بصيراً أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق اللّه وتتخذ طريق الإِعتدال وتتجنب الإِفراط والتفريط»(1).

* * *

بحوث

أوّلاً: مَن هم المقصودون بذي القربى؟

كلمة (ذي القربى) تعني الأرحام والمقربين، وهناك كلام بين المفسّرين،

_____________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج 13، ص 84.

[457]

حول المقصود بها، إِذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا بعض هذه الآراء:

* البعض يعتقد أنّ المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين، والغرض هو الحث على أداء حقوق الأقرباء.

* البعض الآخر يرى أنَّ المخاطب في الآية هو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، والغرض هو إِيصال حقوق أقرباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كخمس الغنائم، أو غيرها ممّا يتعلق بها الخمس. أو بصورة عامّة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.

لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنة إِنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إِلى فاطمة(عليها السلام) بعد نزول هذه الآية، ووهبها فدكاً(1).

ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخُدري ا لصحابي المعروف: «لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) أعطى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة فدكاً»(2).

ويستفاد مِن بعض الرّوايات، أنَّ الإِمام زين العابدين(عليه السلام) أثناء سيره إِلى الشام بعد واقعة كربلاء، استدلَّ بهذه الآية (وآت ذا القربى حقه) في التعريف بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسين(عليه السلام)، بأنّهم المعنيين بقوله تعالى، فيما كانَ أهل الشام يغمطونهم هذا الحق!(3).

ولكن ـ كما أشرنا سابقاً ـ ليس هناك تعارض بين هذين التّفسيرين، فالكل مكلفون بإِيتاء حقوق ذوي القربى، والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي اعتبر قائداً للأُمّة

_____________________________

1 ـ فدك أرض معمورة وخصبة، كانت بالقرب مِن خبير وعلى بعد (140) كم عن المدينة المنورة، وفدك بعد خبير كانت مركزاً لاستقرار يهود الحجاز [يراجع كتاب: مراصد الإِطّلاع. موضوع فدك]. وبعد أن استسلم اليهود للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بدون حرب، أعطى الرّسول هذه الأرض إِلى فاطمة الزّهراء(عليها السلام) وذلك وفقاً للوقائع التأريخية الثابتة لدى الجميع، لكنّها صودرت بعد وفاة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ولأسباب سياسية وبقيت في أيدي الخلفاء إِلى أن أعادها عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته إِلى العلويين.

2 ـ نقل هذا الحديث «البذار» و«أبو يعلى» و«ابن أبي حاتم» و«ابن مردوية» عن«أبي سعيد» [لاحظ كتاب ميزان الإِعتدال المجلد الثّاني صفحة (288) وكنز العمال المجلد الثّاني صفحة (158)] وقد ورد هذا الحديث أيضاً في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي عند حديثه عن هذه الآية، وفي الدر المنثور أيضاً وقد أخرجه عن طريق السنة والشيعة معاً.

3 ـ راجع تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 255.

[458]

الإِسلامية مكلّف أيضاً بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة، فأهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هم في الواقع مِن أوضح مصاديق القربى له(صلى الله عليه وآله وسلم). والرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة. لهذا السبب وهب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) حقوق ذوي القربى لهم، فأعطى فاطمة فدكاً، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك، حيث كانت الزكاة أموالا عامّة محرمة على أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقرباه.

ثانياً: مصائب الإِسراف والتبذير:

لا ريب في أنَّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها، بشرط واحد، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إِفراط أو تفريط، والاّ فإِنَّ هذه النعم ليست غير متناهيه حتى لو أُسيء استثمارها والتصرف بها. وقد يؤدي الإِسراف والتبذير في منطقة معينة الى الفقر في منطقة أُخرى، أو إِنَّ إِسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبِّب فقر الأجيال القادمة.

وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإِحصاءات في متناول الإِنسان، حذّر الإِسلام مِن مغبة الإِسراف والتبذير في نعم اللّه على الأرض. لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدّة المسرفين والمبذرين.

ففي الآيتين (141) مِن الأنعام و (31) مَن الأعراف نقرأ قوله تعالى: (ولا تسرفوا إِنَّهُ لا يحب المسرفين).

أمّا في غافر (43) فنقرأ: (وإِنّ المسرفين هم أصحاب النّار).

والآية (51) مِن الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين: (ولا تطيعوا أمر المسرفين).

أمّا الآية (83) مِن يونس فتجعل الإِسراف صفة فرعونية: (وإِنَّ فرعون لعال في الأرض وإِنَّه لمن المسرفين).

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (28) مِن سورة غافر: (إِنَّ

[459]

اللّه لا يهدي مَن هو مسرف كذّاب).

وأخيراً تتحدث الآية (9) مِن سورة الأنبياء عن مصيرهم: (وأهلكنا المسرفين).

وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن اللّه تعالى جعل المسرفين إِخوان الشياطين. والإِسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإِنسان، ولكنّها عادةً تستخدم في المصروفات.

ومِن آيات القرآن نفسها نستفيد أنَّ الإِسراف هو في مقابل التقتير، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين، كما في الآية (67) مِن سورة الفرقان: (والذين إِذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتروا وكانَ بين ذلك قواماً).

ثالثاً: الفرق بين الإِسراف والتبذير:

في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسّرين في التفاوت الموجود بين الإِسراف والتبذير، ولكن عند التأمُّل بأصل هذه الكلمات في اللغة، يتبيَّن أنَّ الإِسراف هو الخروج عن حدّ الإِعتدال، ولكن دون أن نخسر شيئاً، فمثلا نلبس ثياباً ثميناً بحيث أنَّ ثمنهُ يُعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه، أو أنّنا نأكل طعاماً غالياً بحيث يمكننا إِطعام عدد كبير مِن الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإِسراف، وهي تُمثَّل خروجنا عن حدَّ الإِعتدال، ولكن مِن دون أن نخسر شيئاً.

أمّاكلمة «تبذير» فهي تعني الصرف الكثير، بحيث يؤدي إِلى إِتلاف الشيء وتضييعه، فمثلا نهيء طعام عشرة أشخاص لشخصين، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخراً، حيث يرمون الزائد في المزابل.

ولكن بالرغم مِن هذا التمييز، لا بدَّ مِن القول بأنَّ كثيراً ما تستخدم هاتين الكلمتين للتدليل على معنى واحد، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.

فالإِمام علي في نهج البلاغة يقول: «ألا إِنَّ إِعطاء المال في غير حقّه تبذير

[460]

وإِسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعهُ في الآخرة، ويكرمه في الناس ويهينهُ عند اللّه».

وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإِسلام يحث كثيراً على عدم الإِسراف والتبذير إِلى درجة أنّه نهى عن الإِسراف في ماء الوضوء حتى إِذا كان ذلك قرب نهر جار; وحتى في نوى التمر. وعالم اليوم الذي بدأ يتحسّس الضائقة في بعض الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة، حتى بات يستفيد مِن كلَّ شيء، فهو مثلا يستفيد مِن فضولات المنازل في صنع السماد، ومِن ماء المجاري لسقي المزروعات، لأنَّهُ أحسَّ أنَّ المصادر الطبيعية محدودة، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة، وإِنّما ينبغي الإِستفادة مِنها ضمن ما يعرف بـ «دورة المصادر الطبيعية».

رابعاً: هل ثمّة تعارض بين الإِعتدال في الإِنفاق والإِيثار؟

مع الأخذ ـ بنظر الإِعتبار ـ الآيات أعلاه والتي تؤكّد ضرورة الإِعتدال في الإِنفاق، يثار سؤال مؤدّاه، إِنَّ في سورة الدهر مثلا، وآيات أُخرى، وفي مجموعة مِن الأحاديث والرّوايات، ثمّة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات وأشدّ الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين، فكيف يا تُرى نوفّق بين هذين المفهومين؟

إِنَّ الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أُخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال، إِذ يكون الأمر بمراعاة الإِعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة سبباً لاضطراب الإِنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها (ملوماً محسوراً) وكذلك إِذا كانَ الإِيثار سبباً في التضييق على أبنائه أو أنَّهُ يهدِّد تركيبة عائلته. وإِذا لم يقع أي مِن هذين المحذورَيْن، فإِنَّ الإِيثار يُعتبر أفضل السُبل، نضيف إِلى ذلك أنَّ الإِعتدال في الإِنفاق يُعتبر حكماً عاماً، بينما الإِيثار يعتبر حكماً خاصاً يرتبط بمصاديق خاصّة، وليس ثمّة تضاد بين الأثنين.

* * *

[461]

الآيات

وَلاَ تَقْتُلُوآ أَوْلـدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـق نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً(31) وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فـحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلا(32) وَلاَ تَقْتُلُوا الْنَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيَّهِ سُلْطَـناً فَلاَ يُسْرِف فِى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً(33) وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا(34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا(35)

التّفسير

ستةُ أحكام مهمّة:

في متابعة للأحكام الإِسلامية التي أثارتها الآيات السابقة، تتحدَّث هذه الآيات عن ستةِ أحكام إِسلامية أُخرى وردت في ست آيات، بعبارات قصيرة ومعان كبيرة، تأخذُ بلباب القلوب.

[462]

أوّلاً: تشير الآية إِلى عمل قبيح وجاهلي هو مِن أعظم الذنوب، فتنهى عنهُ: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إِملاق) فرزق هؤلاء ليس عليكم (نحنُ نرزقكم وإِيّاهم) أمّا علّة الحكم فهي: (إِنَّ قتلهم كان خطأ كبيراً).

هذه الآية تفيد أنَّ الوضع الإِقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيئاً.

بحيث أنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر. وهناك كلام بين المفسّرين فيما إِذا كانَ العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً مِن الفقر!

البعض يعتقد أنَّ الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حيَّة، هذا العمل الذي كان شائعاً في الجاهلية لسببين:

الأوّل: يتمثل في الخوف مِن وقوعهن في الأسر أثناء الحروب، الأمر الذي يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو.

أمّا الثّاني: فيعود إِلى خوفهم مِن الفقر وعدم تمكنهم مِن توفير المؤونة للبنات اللاتي لا يقمن بعمل إِنتاجي، ويقتصر دورهن على الإِستهلاك فقط. صحيح أنَّ الولد في مطلع حياته لا ينتج، لكنّه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثميناً، لا يمكن التفريط به.

البعض الآخر من المفسّرين يعتقد أن هناك نوعين مِن القتل، النوع الأوّل يشمل البنات، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطيء. أمّا النوع الثّاني فسببهُ الفقر. وهو يشمل البنات والبنين معاً.

ظاهر الآية يدل على هذا المعنى، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في «قتلهم» وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معاً، وبالتالي فإِنَّه يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن.

أمّا ما يقال مِن أنَّ الولد قادر على الإِنتاج، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل، فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية، أمّا في حالة عدم القدرة على تأمين

[463]

حياة هؤلاء الأولاد فالراي الثّاني هو الاصح لهذا الدليل.

المهم أنَّ هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول: إِنَّ الأب والأُم هما الرازقان، بينما اللّه سبحانهُ وتعالى يقول: اطردوا هذا التفكير الشيطاني مِن أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم واللّه يؤمن رزقكم ورزقهم.

وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري، فإِنَّ عصرنا الحاضر ـ وفي أكثر مُجتمعاته رُقياً وتقدماً ـ يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر، إِذ أنَّ العمليات الواسعة في إِسقاط الجنين وقتله خوفاً مِن الضائقة المالية وازدياد عدد السكان، هي نموذج آخر للقتل، (للمزيد راجع تفسير الآية (151) مِن سورة الإِنعام).

إِنَّ تعبير «خشية إِملاق» إِشارة لطيفة إِلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه، حيثُ يُفيد التعبير أنَّ الوهم ومجرّد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرَّم. لا الدوافع الحقيقية.

كما يجب الإِنتباه إِلى أنَّ «كان» في (كان خطأً كبيراً) هي فعل ماض، يُفيد هنا التأكيد على أنَّ قتل الأبناء يعتبر مِن الذنوب العظيمة التي كانت معروفة، منذ القدم بين البشر، وأنَّ الفطرة الإِنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض وإِلادانة لِمثل هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره.

ثانياً: الآية التي بعدها تشير إِلى ذنب عظيم آخر هو الزنا (ولا تقربوا الزنا إِنَّهُ كان فاحشة و ساءَ سبيلا) وفي هذا التعبير القرآني تمت الإِشارة إِلى ثلاث نقاط:

ألف ـ لم تقل الآية: لا تزنوا، بل قالت: لا تقربوا هذا العمل الشائن، وهذا الأُسلوب في النهي فضلا عمّا يحملهُ مِن تأكيد، فإِنَّهُ يوضح أنَّ هناك مقدمات تجر إِلى الزنا ينبغي تجنبها وعدم مقاربتها، فخيانة العين تعتبر واحدة مِن المقدمات، والسفور والتعري مقدمة أُخرى، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة مِنها تعتبر مقدمة لِهذا العمل.

[464]

كذلك فإِنَّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملا في إِثارة الشهوة.

وأخيراً فإِنَّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين، هي مِن العوامل التي قد تؤدي إِلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مُختصر، ولكنّا نرى في الأحاديث والرّوايات نهياً مُفصلا عن كل واحدة مِن هذه المقدمات.

ب ـ إِنَّ جملة (إِنَّه كان فاحشة) بتأكيداتها الثلاثة المستفادة مِن «إِن» والفعل الماضي «كان» وكلمة «فاحشة» تكشف عن فظاعة هذا الذنب.

ج ـ إِنَّ جملة (ساء سبيلا) توضح حقيقة أنَّ هذا العمل «الزنا» يؤدي إِلى مفاسد أُخرى في المجتمع.

فلسفة تحريم الزنا:

يمكن الإِشارة إِلى خمسة عوامل في فلسفة تحريم الزنا، وهي:

1 ـ شياع حالة الفوضى في النظام العائلي، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء، هذه الرابطة التي تختص بكونها سبباً للتعارف الإِجتماعي، بل إنّها تكون سبباً لصيانة الأبناء، ووضع أُسس المحبّة الدائمة في مراحل العمر المختلفة، والتي هي ضمانة الحفاظ على الأبناء.

إِنَّ العلاقات الإِجتماعية القائمة فى أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إِذا شاع وجود الابناء غير الشرعيين «أبناء الزنا»، وللمرء أن يتصّور مصير الأبناء فيما إِذا كانوا ثمرّة للزنا، ومقدار العناء الذي يتحملونه في حياتهم مِن لحظة الولادة وحتى الكبر.

وعلاوة على ذلك، فإِنّهم سيحرمون من الحبّ الأُسري الذي يعتبر عاملا في الحدّ الجريمة من في المجتمع الإِسلامي، وحينئذ يتحول المجمتع الإِنساني بالزنا

[465]

إِلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

2 ـ إِنَّ إِشاعة الزنا في جماعة ما، ستقود إلى سلسلة واسعة مِن الإِنحرافات أساسها التصرفات الفردية والإِجتماعية المنحرفة لذوي الشهوات الجامحة. وما ذكر في هذا الصدد من القصص عن الجرائم والإِنحرافات المنبعثة عن مراكز الفحشاء والزنا في المجتمعات يوضح هذه الحقيقة، وهي أنّ الانحرافات الجنسية تقترن عادة بأبشع الوان الجرائم والجنايات.

3 ـ لقد أثبت العلم ودلَّت التجارب على أنَّ إِشاعة الزنا سبب لكثير مِن الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إِلى فشل مُكافحة هذه الأمراض مِن دون مُكافحة الزنا أصلا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإِيدز في المجتمعات المعاصرة، ونتائجها الصحية والنفسية المدمِّرة).

4 ـ إِنَّ شياع الزنا غالباً ما يؤدي إِلى محاولة إِسقاط الجنين وقطع النسل، لأنَّ مِثل هؤلاء النساء «الزانيات» لا يرضين بتربية الأطفال، وعادة ما يكون الطفل عائقاً كبيراً أمام الإِنطلاق في ممارسة هذه الأعمال المنحرفة، لذلك فهن يُحاولن إِسقاط الجنين وقطع النسل.

أمّا النظرية التي تقول، بأنَّ الدولة يمكنها ـ من خلال مؤسسات خاصّة ـ جمع الأولاد غير الشرعيين وتربيتهم والعناية بهم، فإِنَّ التجارب أثبتت فشل هذه المؤسسات في تأدية أهدافها، إِذ هناك صعوبات التربية، وهناك النظرة الإِجتماعية لهؤلاء، ثمّ هناك ضغوطات العزلة والوحدة وفقدان محبّة الوالدين وعطفهما، كل هذه العوامل تؤدي إِلى تحويل هذه الطبقة مِن الأولاد الى قساة وجناة وفاقدي الشخصية.

5 ـ يجب أن لا ننسى أنَّ هدف الزواج ليس إِشباع الغريزة الجنسية وحسب، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الإِستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة، فهي آثار طبيعية

[466]

للزواج، وكل هذه الأُمور لا يمكن لها أن تثمر مِن دون أن تختص المرأة بالرجل وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعية الجنسية.

في حديث عن الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: «في الزنا ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأمّا اللاتي في الدنيا، فيذهب بنور الوجه، ويقطع الرزق، ويسرع الفناء. وأمّا اللّواتي في الآخرة، فغضب الرب، وسوء الحساب، والدخول في النّار، أو الخلود في النّار»(1).

ثالثاً: الحكم الآخر الذي تشير إِليه الآية التي بعدها، هو احترام دماء البشر، وتحريم قتل النفس حيث تقول: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللّه إِلاّ بالحق).

إِنَّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع مِن الذنوب الكبيرة، إِلاَّ أنَّ الإِسلام أعطى أهمية إِستثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر مَن يقتل إِنساناً فكأنّما قتل الناس جميعاً، كما في الآية (32) مِن سورة المائدة (مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً). بل نستفيد مِن بعض الآيات القرآنية أنَّ جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النّار، وأنَّ هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإِيمان، ولا يمكن أن يخرجوا مِن هذه الدنيا مؤمنين: (وَمَن قتل مؤمناً مُتعمداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها)(2). وحتى في الإِسلام فإِنَّ الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم عنوان «محارب» وهذا الصنف لهُ عقوبات شديدة مُفصّلة في المصنفات الفقهية، وقد أشرنا إِلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (33) من سورة المائدة.

إِنَّ الإِسلام يُحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقهُ الإِنسان بالآخرين، فكيف بقضية القتل وإِراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول ـ باطمئنان ـ : إِننا لا نرى

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان، ج 6، ص 414.

2 ـ النساء، 93.

[467]

أيَّ شريعة غير الإِسلام أعطت هذه الحرمة الإِستثنائية لدم الإِنسان، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإِنسان، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إِنزال العقوبة به، لذلك فإِنَّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل، تشير للإِستثناء بالقول: (إِلا بالحق).

وفي حديث معروف عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: «لا يحل دم امريء مسلم يشهد أن لا إِله إِلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه إِلاّ بإِحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المُحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(1).

أمّا القاتل فتكون نهايتهُ معلومة بالقصاص، الذي يُؤمّن استمرار الحياة واستقرارها، وإِذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص مِن القاتل، فإِنَّ القتلة سيتجرؤون على المزيد من القتل والإِخلال بالأمن الإِجتماعي.

أمّا الزاني المحصن، فإنّ قتله في قبال واحد من أعظم الذنون قباحة، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة.

أمَّا قتل المرتد فيمنع الفوضى والإِخلال في المجتمع الإِسلامي، وهذا الحكم ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو حكم سياسي، لأجل حفظ النظام الإِجتماعي في قبال الأخطار التي تهدِّد كيان النظام الإِسلامي ووحدة أمنه الإِجتماعي، والإِسلام ـ عادةً ـ لا يفرض على أحد قبول الإِنتماء إِليه، ولكن إِذا اقتنع أحد بالإِسلام واعتنقهُ، وأصبح جزاءاً من المجتمع الإِسلامي، واطلع على أسرار المسلمين، ثمّ أراد بعد ذلك الإِرتداد عن الإِسلام ممّا يؤدي عملا الى تضعيف وضرب قواعد المجتمع الإِسلامي، فإِن حكمه سيكون القتل(2) بالشرائط المذكورة في الكتب الفقهية.

_____________________________

1 ـ صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 323.

2 ـ هناك بحث مفصل في نهاية الآية (106) من سورة النحل، من التّفسير الأمثل حول الإرتداد، وفلسفة العقوبات الشديدة للمرتد.

[468]

إِنَّ حرمة دم الإِنسان في الإِسلام لا تختص بالمسلمين وحسب، بل تشمل غير المسلمين أيضاً مِن غير المحاربين، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة، فإِنَّ دماءهم ـ أيضاً ـ وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول: (ومَن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً). ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حد الإِعتدال ولا يسرف (فلا يسرف في القتل إِنَّهُ كانَ منصوراً)إِذ ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة اللّه تعالى.

والنهي عن الإِسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية، واليوم أيضاً يُمكن مُشاهدة نماذج لها، فحين يُقتل فرد مِن قبيلة معينة، فإِنّها تقوم بهدر الكثير مِن الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصاً معروفاً وذا منزلة إِجتماعية، فإِنَّ أهله وفق الأعراف الجاهلية، سوف لن يكتفوا بحدّ القصاص الشرعي، بل يقتلون فرداً معروفاً ومكافئاً في منزلته الإِجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل حتى وإِن لم يكن له أي دور في عملية القتل.(1)

وعصرنا الحاضر، شهد مِن التجاوز في الإِسراف وهدر دِماء الأبرياء ما غسل معه عار أهل الجاهلية، فهذه إِسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها بإِلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطنيين الأبرياء، وتعمد إِلى هدم ديارهم.

_____________________________

1 ـ يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية.

[469]

كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنّها النظام البعثي على الجمهورية الإِسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإِسراف في القتل.

إِنَّ رعاية العدالة ـ حتى في عقاب القاتل ـ تعتبر مهمّة إِسلامياً، لذلك نقرأ في وصية الإِمام علي(عليه السلام)، بعد أن اغتاله عبدالرحمن بن ملجم المرادي قوله: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إِلاّ قاتلي، انظروا إِذا أنا مت مِن ضربته هذه، فاضربوه، ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل»(1).

رابعاً: الآية التي بعدها تشير الى حفظ مال اليتيم، والملاحظ أنَّ الآية استخدمت نفس أُسلوب الآية التي سبقتها، فلم تقل: لا تأكلوا مال اليتيم وحسب، وإِنّما قالت: (ولا تقربوا مال اليتيم).

وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامي يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله: (إِلاّ بالتي هي أحسن). وبناء على هذا الإِستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر الى أن يبلغ اليتيم سنّ الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيماً على نفسه وأمواله (حتى يبلغ أشدّه).

«أشدّ» مأخوذة مِن «شدّ» على وزن «جدّ» وهي بمعنى «العقدة المحكمة» ثمّ توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع مِن القوة الروحية والجسمية. والمقصود من كلمة «أشد» في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ. ولكن ليس البلوغ الجسمي وحسب، وإِنّما الرشد الفكري والقدرة الإِقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ أمواله. اختيار كلمة «أشد» في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة، والتي

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، مجموعة الرسائل، الرقم (47).

[470]

يمكن اختيارها بالتجربة.

الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع، ووجودهم يكون تبعاً لحوادث مختلفة يمر بها المجتمع، والدوافع الإِنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيّرين والمحسنين في المجتمع، والإِسلام يحث على رعاية الأيتام، وقد تحدثنا عن هذا الأمر مُفصلا في الآية (2) مِن سورة النساء.

والشيء الذي نريد أن نضيفهُ هنا هو أن بعض الرّوايات والأحاديث الإِسلامية وسّعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إِمامهم وقائدهم، ولا يصل صوت الحق إِليهم. وهذا المعنى نوع مِن التوسع في المفهوم واستفادة معنوية مِن حكم مادي.

خامساً: تشير الآية بعد ذلك إِلى الوفاء بالعهد فتقول: (وأوفوا بالعهد إِنَّ العهد كان مسؤولا). إِنَّ الكثير مِن العلاقات الإِجتماعية وخطوط النظام الإِقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود، بحيث إِذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس، فسينهار النظام الإِجتماعي وستحل الفوضى، ولهذا السبب تؤكّد الآيات القرآنية ـ بقوّة ـ على قضية الوفاء بالعهود.

العهد» لهُ معان واسعة، فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصة بين الأفراد في القضايا الإِقتصادية والمعاشية، وفي العمل والزواج، وهو يشمل أيضاً المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب، وفوق ذلك فإِنَّ العهد يشير الى ميثاق الأُمم مع اللّه ورسوله وكتبه، وكذلك العكس، أي التزام هؤلاء بالعهد أمام الناس(1).

سادساً: آخر حكم من الأحكام الستة، يتصل بالعدل في الوزن والكيل ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيثُ تقول الآية

_____________________________

1 ـ بالنسبة لأهمية الوفاء بالعهد والقسم لدينا بحث مفصل حول الموضوع يمكن مراجعته في بحث الآيات 91 ـ 94 مِن سورة النحل.

[471]

الكريمة: (وأوفوا الكيل إِذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير وأحسن تأويلا).

* * *

ملاحظات

1 ـ أضرار التطفيف في الكيل:

أوّل ملاحظة ينبغي الإِنتباه إِليها هنا، هي أنَّ القرآن الكريم أكدّ مِراراً على ضرورة الوزن للناس بالقسطاس، وحذَّر مِن البخس والتطفيف في الميزان حتى أنَّهُ اعتبر ذلك في موضع، مُرادفاً لنظام الخلق في عالم الوجود، حيثُ نقرأ في الآيتين (7، 8) مِن سورة الرحمن، قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان، أن لا تطغوا في الميزان). والآية تشير إِلى أنَّ مسألة بخس الناس والتطفيف في الميزان ليست مسألة صغيرة، بل هي كبيرة وتدخل في صميم أصول العدالة والنظام المهيمن على عالم الوجود برمته.

في مكان آخر، وبأُسلوب أكثر قوّة، يهدِّد القرآن المطففين، بقوله، كما في سورة المطففين (1 ـ 4): (ويلَ للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإِذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون، ألا يظن أُولئك أنّهم مبعوثون ليوم عظيم).

بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن كانوا يُحاربون التطفيف بعد الشرك مُباشرة، كما حصل لشعيب مع قومه; ولمّا لم يلتفتوا إلى تعليمات نبيّهم نالهم العذاب الأليم. (تراجع القصة في نهاية آية 85 مِن سوره آل عمران).

وعادةً، فإِنَّ الحق والعدل والنظام والحساب، كل هذه الأُمور تعتبر أصولا أساسية للحياة، بل وتدخل في نظام الوجود والخلق، لذلك فابتعاد الناس عن هذا الأصل ـ خصوصاً بالنسبة لبخس الكيل والتطفيف في الميزان ـ يؤدي إِلى إِنزال ضربة شديدة بالثقة التي تعتبر جوهر استقرار التعامل الإِقتصادي بين الناس.

[472]

ومع الأسف فإِنّنا نرى ـ في بعض الأحيان ـ أنَّ غير المسلمين، ولأغراض كسب الثقة بأنفسهم وتجارتهم، يلتزمون بشكل دقيق بالمواصفات والأرقام المُتفق عليها، بينما يتجاوز بعض المسلمين هذه الحدود! وهذه إِشارة على أنَّ طريق الدنيا أيضاً يمر من خلال عدم الخيانة والغش.

وينبغي أن يلاحظ هنا أنَّ هؤلاء الذين يَخلّون بالميزان ويطففون الكيل مسؤولون أمام المُشتري مسؤولية حقوقية، لذلك فإِنَّ توبتهم لا تتم إِلاّ برد الحقوق المغصوبة إلى أهلها، وإِذا تعذَّر عليهم ذلك، فينبغي لهم إِعطاء ما يساويها إِلى الفقراء والمحتاجين بعنوان رد مظالم عن الأصحاب الحقيقيين.

2 ـ ما هو حكم التطفيف وبخس الكيل؟

الجدير بالملاحظة أن حكم التطفيف وبخس الكيل، قد يعمَّم بحيث يشمل كل أشكال التقصير المتعمد في الأعمال والوظائف المختلفة، فمن التطفيف مَن لا ينجِز عمله كاملا، والمعلم الذي لا يدرِّس بشكل جيد، والموظف الذي لا يلتزم بأوقات عمله وهو غير حريص عليه. ولكن الألفاظ المستخدمة في هذه الآيه لا تفيد معنى هذا التعميم، فهي من التوسعة العقلية إِلاّ أنَّ قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان) يشير إِلى هذا التعميم.

3 ـ ما هو معنى «قسطاس»؟

«قِسطاس» بكسر القاف أو ضمها على وزن «مِقياس» وأحياناً تقاس على وزن «قُرآن» بمعنى «الميزان» والبعض يعتبرها كلمة رومية، بينما البعض يرى بأنّها كلمة عربية. وهناك مَن يقول بأنّها مركبة مِن كلمتين هما «قسط» بمعنى العدل و«طاس» بمعنى كفة الميزان. أمّا البعض الآخر فيقول بأنَّ كلمة «قسطاس» تطلق

[473]

على الميزان الكبير، بينما كلمة «ميزان» تطلق على الموازين الصغيرة(1).

وفي كل الأحوال، فإِنَّ (القسطاس المستقيم) تعني الميزان الصحيح والسالم والعادل بدون نقيصة أو زيادة.

والطريف هو أنَّ هناك رواية عن الإِمام الباقر(عليه السلام)، تفسر هذه الكلمة بقوله: «هو الميزان الذي له لسان»(2).

وذلك لأنّه مع عدم وجود اللسان لا يستطيع الميزان أن يوضح حركة الكفتين بشكل دقيق، أمّا مع وجوده فإِنَّ أقل حركة للكفتين تنعكس على اللسان، وبهذا الشكل يُمكن رعاية العدل كاملا.

* * *

_____________________________

1 ـ تلاحظ تفاسير الميزان، والفخر الرازي، ومجمع البيان في تفسير الآية مورد البحث.

2 ـ يراجع تفسير الصافي، أثناء تفسير هذه الآية.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=785
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19