• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الاسراء من آية 70 ـ 85 من ( ص 62 ـ 129 ) .

سورة الاسراء من آية 70 ـ 85 من ( ص 62 ـ 129 )

[62]

الآيات

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَآدَمَ وَحَمَلْنَهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنهُم مِّنَ الطَّيِّبَـتِ وَفَضَّلْنَـهُمْ عَلَى كَثِير مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا(70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاس بِإِمَـمِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَبَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَـبَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا(71) وَمَنْ كَانَ فِى هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاَْخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا(72)

التّفسير

الإِنسان سيِّد الموجودات:

إِنَّ واحدة مِن أبرز طرق الهداية والتربية، هي التنويه بشخصية الإِنسان وَمكانته وَمواهبه، لذا فإِنَّ القرآن الكريم وَبعد بحوثه عن المشركين والمنحرفين في الآيات السابقة، يقوم هُنا بتبيان الشخصية الممتازة للإِنسان والمواهب التي منحها إِيّاها ربّ العالمين، لكي لا يلوّث الإِنسان جوهره الثمين، وَلا يبيع نفسهُ بثمن بخس، حيث يقول تعالى (وَلقد كرَّمنا بني آدم).

ثمّ تشير الآيات القرآنية إِلى ثلاثة أقسام مِن المواهب الإِلهية التي حباها الله لبني البشر، هَذِهِ المواهب هي أوّلا: (وَحملناهم في البر والبحر).

[63]

ثمّ قوله تعالى:(ورزقناهم مِن الطيبات) و مع الالتفات إلى سعة مفهوم (الطيب) الذي يشمل كل موجود طيب وطاهر تتّضح عظمة وشمولية هذه النعمة الإِلهية الكبيرة.

أمّا القسم الثّالث مِن المواهب فينص عليه قوله تعالى: (وَفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).

* * *

بحوث

أوّلا: وسيلة النقل أوّل نعمة للإِنسان

الملاحظة التي تلفت النظر هُنا، هي: لماذا اختار الله قضية الحركة على اليابسة وَفي البحار، وأشار إِليها أوّلا مِن بين جميع المواهب الأُخرى التي وَهبها للإِنسان؟

قد يكون ذلك بسبب أنَّ الإِستفادة مِن الطيبات وأنواع الأرزاق لا يحدث بدون الحركة، حيثُ أنَّ حركة الإِنسان على سطح الكرة الأرضية تحتاج إِلى وسيلة نقل، إِذ أنَّ الحركة هي مقدمة لأي بركة.

أو أنَّ السبب قد يكون لإظهار سلطة الإِنسان على الكرة الأرضية الواسعة بما في ذلك البحار والصحاري. إذ أنَّ لكل نوع مِن أنواع الموجودات سلطة على جزء محدود مِن الأرض، أمّا الإِنسان فإِنَّهُ يحكم الكرة الأرضية ببحارها وَصحاريها وهوائها.

ثانياً: تكريم الإِنسان مِن قبل الخالق

بأي شيء كرَّم الله الإِنسان؟ الآية تقول بشكل مجمل (وَلقد كرَّمنا بني آدم).

بين المفسّرين كلام كثير عن مصداق هَذا التكريم، فالبعض يعزو السبب لقوّة

[64]

العقل والمنطق والإِستعدادات المختلفة وَحرية الإِرادة. أمّا البعض الآخر فيعزو ذلك إِلى الجسم المتزن والجسد العمودي، والبعض يربط ذلك بالأصابع التي يستطيع الإِنسان القيام بواسطتها بمختلف الأعمال الدقيقة، وأيضاً تمنحهُ القدرة على الكتابة.

والبعض يعتقد أنّ التكريم يعود إِلى أنّ الإِنسان هو الكائن الوحيد الذي يأكل طعامه بيده.

وهناك مَن يقول: إنّ السبب يعود إِلى سلطة الإِنسان على جميع الكائنات الأرضية.

وهناك مِن المفسّرين من يعزو التكريم إِلى قدرة الإِنسان على معرفة الله، والقدرة أيضاً على إطاعة أوامره.

لكن مِن الواضح أنَّ جميع هَذِهِ المواهب موجودة في الإِنسان وَلا يوجد تضاد بينها، لذا فإِنَّ تكريم الخالق لِهَذا المخلوق الكريم يتجلَّى من خلال جميع هَذِهِ المواهب وَغيرها.

خلاصة القول: إِنَّ الإِنسان لهُ إِمتيازات كثيرة على باقي المخلوقات، وَهَذِهِ الإِمتيازات الواحدة منها أعظم مِن الأُخرى; فمضافاً إِلى الإِمتيازات مية، ية، فإِنَّ روح الإِنسان لها مجموعة واسعة مِن الإِستعدادات والقدرات الكبيرة التي تؤهلُهُ لطي مسيرة التكامل بشكل غير محدود.

ثالثاً: الفرق بين (كرَّمنا) و (فضَّلنا)

هُناك آراء كثيرة حول التفاوت بين (كرَّمنا) وَ (فَضَّلنا) فالبعض يقول: إنّ (كرّمنا) هي إِشارة إِلى المواهب التي أعطاها الله ذاتاً للإِنسان، بينما (فضَّلنا) إِشارة إِلى الفضائل التي اكتسبها الإِنسان بسبب توفيق الله.

هُناك احتمال قوي بأنّ (كرّمنا) إشارة إِلى الجوانب المادية، أمّا (فضّلنا) فهي

[65]

إشارة إِلى المواهب المعنوية، لأنَّ كلمة (فضَّلنا) غالباً ما تأتي في القرآن بهذا المعنى.

رابعاً: ما معنى كلمة (كثير) في الآية؟

بعض المفسّرين يعتبرون الآية الآنفة دليلا على أفضلية الملائكة على بني الإنسان، فالقرآن يقول بأنَّ الإِنسان مفضَّل على أكثر المخلوقات، وَتبقى مجموعة لا يكون الإِنسان أفضل مِنها، وَهَذِهِ المجموعة ليست سوى الملائكة.

وَلكن بملاحظة آيات خلق آدم وسجود الملائكة وَتعليمهم (الأسماء) مِن قبل آدم، لا يبقى شك في أنَّ الإِنسان أفضل مِن الملائكة.

لذا فإِنَّ كلمة (كثير) تعني هُنا (جميع). وَكما يقول المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان، فإنَّ استخدام كلمة (كثير) بمعنى (جميع) يعتبر عادياً وَوارداً في القرآن الكريم وَفي لغة العرب.

وَهكذا يكون معنى الجملة حسب تفسير الطبرسي لها هو: «إِنّا فضلناهم على مَن خلقناهم، وهم كثير».

فالقرآن يقول عن الشياطين في الآية (223) مِن سورة الشعراء: (وأكثرهم كاذبون) بينما مِن البديهي أنَّ كل الشياطين كاذبين وَليس أكثرهم، وَإنّما استخدمت الآية (كثير) بمعنى (الجميع).

على أي حال، إِذا اعتبرنا المعنى خلافاً للظاهر، فإِنَّ آيات خلق الإِنسان ستكون قرينة واضحة لذلك.

خامساً: لماذا كان الإِنسان أفضل المخلوقات؟

لا يعد الجواب على هَذا السؤال معقداً، إِذ أنّنا نعلم أنَّ الإِنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكون مِن قوى مُختلفة، مادية وَمعنوية; جسمية وَروحية، وَينمو

[66]

وَسط المتضادات، وَلهُ استعدادات غير محدودة للتكامل والتقدُّم.

وَهُناك حديث معروف للإِمام علي(عليه السلام) وَهو شاهد على ما نقول، إِذ يقول فيه(عليه السلام): «إِنَّ الله عَزَّوجلّ ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما; فمن غلب عقله شهوته فهو خيرٌ مِن الملائكة، وَمن غلبت شهوته عقلُه فهو شرٌّ من البهائم»(1).

وَهُنا يبقى سؤال واحد: هل أنَّ جميع البشر أفضل مِن الملائكة، في حين يوجد بين البشر الكفار والمجرمون والظالمون، وَهَؤلاء يُعتبرون مِن أسوأ خلق الله... بعبارة أُخرى: هل أنَّ كلمة (بني آدم) في الآية تنطبق على جميع البشر أم على قسم مِنهم؟

يمكن تلخيص الإِجابة على هذا السؤال في جملة واحدة هي: نعم جميع البشر أفضل، وَلكن بالقوة والإستعداد، يعني أنّ الجميع يملك الأرضية ليكون أفضل، وَلكنَّهم إِذا لم يستفيدوا مِن هَذِهِ الأرضية والقابلية المودعة فيهم، وسقطوا في الهاوية، فإنَّ ذلك يكون بسببهم وَيعود عليهم فقط.

وَبالرغم مِن أنَّ أفضلية الإِنسان هي في المجالات المعنوية والإِنسانية، وَلكن بعض العلماء ذكر أنَّ الإِنسان قد يكون أقوى من سائر الإحياء حتى من جهة القوّة الجسمية بالرغم مِن أنَّهُ يعتبر ضعيفاً في مناحي أُخرى.

«الكسيس كاريل» مؤلف كتاب (الإِنسان ذلك المجهول) يقول في كتابه واصفاً قدرات الإِنسان: «اِنّ جسم الإِنسان مِن المتانة والإحكام والدّقة بحيث أنَّهُ يقاوم كل أشكال التعب والعقبات التي يتعرض لها الوجود الإِنساني مِن قلّة غذاء; وَسهر وَتعب، وهموم زائدة، وأشكال المرض والألم والمعاناة، وَهو في ثباته وَمقاومته للأشكال الآنفة يبدي استعداداً استثنائياً يبعث على الحيرة والعجب، حتى أنّنا نستطيع أن نقول: إِنَّ الوجود الإِنساني في تكوينه الروحي

____________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 188.

[67]

والجسدي هو أثبت الموجودات مِن ذوي الأرواح وأكثرها نشاطاً واستعداداً في مضمار الفاعلية الفكرية والجسدية التي يتضمّنها والتي أدَّت إِلى تشييد المدنية الراهنة بكل مظاهرها»(1).

الآية التي بعدها تشير إِلى موهبة أُخرى مِن المواهب الإِلهية التي حباها الله للإِنسان، ورتّبت عليه المسؤوليات الثقيلة بسبب هَذِهِ المواهب.

ففي البداية تشير الآية إِلى قضية القيادة وَدَورها في مستقبل البشر فتقول: (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) يعني أنَّ الذين اعتقدوا بقيادة الأنبياء وأوصيائهم وَمَن ينوب عنهم في كل زمان وَعصر، سوف يكونون مَع قادتهم وَيحشرون معهم، أمّا الذين انتخبوا الشيطان وأئمّة الضلال والظالمين والمستكبرين قادةً لهم، فإنّهم سيكونون معهم وَيحشرون معهم.

خلاصة القول: إِنَّ الإِرتباط بين القيادة والأتباع في هَذا العالم سوف ينعكس بشكل كامل في العالم الآخر، وَطبقاً لِهَذا الأمر سيتم تحديد الفرق الناجية، والأُخرى التي تستحق العذاب.

بالرغم من أنَّ بعض المفسّرين قد حصر كلمة (إمام) بـ (الأنبياء) والبعض الآخر حصرها بمعنى (الكتب السماوية) والبعض الثّالث بـ (العلماء)، إِلاَّ أنَّ من الواضع أنّ كلمة (إمام) في هَذا المكان لها معنى أوسع، وتشمل أية قيادة سواء تمثَّلت بالأنبياء أو أئمّة الهدى أو العلماء أو الكتاب والسنة. وَيدخل في معنى الكلمة أيضاً أئمّة الكفر والضلال، وَبهذا الترتيب فإنَّ كل إنسان سيسلك في الاخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا اماماً وقائداً.

هذا التعبير والإِشارة إِلى دَور الإِمامة وَكونها مِن أسباب تكامل الإِنسان، يعتبر في نفس الوقت تحذيراً لكل البشرية كي تدقق في انتخاب القيادة،  وَلا تعطي أزِمَّةَ وجودها الفكري والحياتي بيد أي شخص كان.

____________________________

1 ـ الإنسان ذلك المجهول، الكسيس كارل، ص73 ـ 74.

[68]

ثمّ تقسم الآية الناس يوم القيامة إلى قسمين: (فمن أوتي كتابه بيمينه فأُولئك يقرؤون كتابهم وَلا يظلمون فتيلا)(1). أمّا القسم الآخر فهو: من كان في الدنيا أعمى القلب: (وَمَن كانَ في هَذِهِ أعمى فهو في الآخرة أعمى). وَطبيعي أن يكون هؤلاء العميان القلب أضل من جميع المخلوقات (وأضلّ سبيلا) فهؤلاء لا يوفقون في هَذِهِ الدنيا لسلوك طريق الهداية، وَلا هُم في الآخرة مِن أصحاب الجنّة والسعادة، لأنّهم أغمضوا عيونهم عن جميع الحقائق وَحرّموا أنفسهم مِن رؤية الحق وآيات الله وَكل ما يؤدي إِلى هدايتهم، وَيقود إِلى خلاصهم مِن المواهب العظيمة التي أعطاهم الله إِيّاها، وَلأنّ الآخرة هي صورة مُنعكسة لوجود الإِنسان في هَذه الدنيا، إِذن ليسَ ثمّةَ مِن عجب في أن يُحشر هؤلاء العميان بنفس الصورة في يوم الحشر والقيامة.

* * *

بحوث

1 ـ دَور القيادة في حياة البشر

الحياة الإجتماعية للبشر في الدنيا لا يمكن أن تنفصل عن القيادة أو أن تستغني عنها، لأنَّ تحديد مسير مجموعة معينة يحتاج دائماً إِلى قيادة، وَعادةً  لا يمكن سلوك طريق التكامل بدون وجود قيادة، وَهذا هو سر إِرسال الأنبياء وانتخاب الأوصياء لهم.

وَفي علوم العقائد والكلام، يُستفاد أيضاً مِن (قاعدة اللطف) في إثبات لزوم بعث الأنبياء وَلزوم وجود الإِمام في كل زمان، وذلك لأهمية دور القائد في تنظيم المجتمع، وَمنع الإِنحرافات، وَبنفس المقدار الذي يقوم بهِ القائد الإِلهي والعالم

____________________________

1 ـ (فتيل) تعني الخيط الرقيق الموجود في شق نوى التمر، وَفي المقابل فإن (نقير) تعني مؤخرة نوى التمر، بينما تعني (قطمير) الطبقة الرقيقة التي تغطي نوى التمر. وكل هذه التعابير كناية عن الشيء الصغير جدّاً والحقير.

[69]

والصالح بإيصال الإِنسان إِلى هدفه النهائي بشكل سهل وَسريع، فإِنَّ التسليم لقيادة أئمّة الكفر والضلال والإِنقياد لهم يؤديان بالإِنسان إِلى الهاوية والشقاء.

وَفي تفسير هَذِهِ الآية تتضمّن المصادر الإِسلامية أحاديث مُتعدِّدة توضح مفهومها و تبيّن الغرض مِن الإِمامة.

ففي حديث تنقُلهُ الشيعة والسنة عن الإِمام علي بن موسى الرّضا(عليه السلام) بأسناد صحيحة أنَّهُ نقل عن آبائه عن جدِّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، حول تفسير هَذِهِ الآية قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «يُدعى كل أناس بإمام زمانهم وَكتاب ربّهم وسنة نبيّهم».(1)

وَنقرأ عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قوله: «ألا تحمدون الله! إِذا كان يوم القيامة فدعي كل قوم إِلى من يتولونه وَدعينا إِلى رسول الله وَفَزعتم إِلينا فإِلى أين ترون يذهب بكم؟ إِلى الجنّة وَربّ الكعبة ـ قالها ثلاثاً».(2)

2 ـ تكريم بني آدم

(بني آدم) وَردت في القرآن الكريم كعنوان للإِنسان مقرونة بالمدح والإِحترام، في حين أنّ كلمة (إنسان) ذكرت مَع صفات مِثل: ظلوم، جهول، هلوع، ضعيف، طاغي، وَما شابهها مِن الأوصاف. وَهَذا يدل على أن بني آدم صفة للإِنسان المتربي، أو على الأقل الذي لهُ استعدادات إِيجابية (إن افتخار آدم وَتفضيله على الملائكة يؤيد هذا المعنى لبني آدم). في حين أنّ كلمة (إنسان) وَردت بشكل مطلق، وأحياناً تشير إِلى الصفات السلبية.

لذا فإنَّ الآيات التي نبحثها استخدمت كلمة (بني آدم) لأنَّ الحديث فيها هو عن الكرامة وأفضلية الإِنسان. (هُناك بحث مفصل حول معنى الإِنسان في القرآن الكريم يُمكن مُراجعتهُ في تفسيرنا هذا ذيل الآية 11 من سورة يونس).

____________________________

1 ـ مجمع البيان عِندَ تفسير الآية.

2 ـ المصدر السّابق.

[70]

3 ـ دَور القيادة في الإِسلام

في الحديث المعروف عن الإِمام محمّد بن علي الباقر(عليهما السلام) يُنقل أنَّهُ عِندما كان يتحدث عن الأركان الأساسية في الإِسلام ذكر (الولاية) كخامس وأهم ركن، في حين الصلاة التي توضح العلاقه بين الخالق والخلق، والصيام الذي هو رمز محاربة الشهوات، والزكاة التي تحدَّد العلاقة بين الخلق والخالق، والحج الذي يكشف الجانب الإِجتماعي في الإِسلام، اعتبرت الأركان الأربعة الأساسية الأُخرى. ثمّ يضيف الإِمام الباقر(عليه السلام) «وَلَمْ ينادَ بشىء كما نودي بالولاية» لماذا؟ لأنَّ تنفيذ الأركان الأُخرى لن يتحقق إِلاَّ في ظل هَذا الأصل، أي في ظل الولاية(1).

وَلِهَذا السبب بالذات روي عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله «مَن مات بغير إمام مات ميتة الجاهلية»(2).

التأريخ يشهد أنّ بعض الأُمم تكون في الصف الأوّل بين دول العالم وأُممه بسبب قيادتها العظيمة والكفوءة، ولكن نفس الأُمّة تنهار وَتسقط في الهاوية، برغم امتلاكها لِنفس القوى البشرية والمصادر الأُخرى، إِذا كانت قيادتها ضعيفة وَغير كفوءة.

ثمّ ألم يكن عرب الجاهلية غارقين في جهلهم وَفسادهم وَذلتهم وانحطاطهم، وَكانوا نهشة الآكل، بسبب عدم امتلاكهم لقائد كفوء، وَلكن ما إن ظهرت القيادة الإِلهية الرّبانية المتمثلة بالهادي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سلك نفس القوم طريق العظمة والتكامل بسرعة كبيرة بحيث أدهش العالم، وهذا يكشف عن دَور القائد في ذلك الزمان وَهذا الزمان وَفي كل زمان.

____________________________

1 ـ قال الباقر(عليه السلام) «بني الإسلام على خمس، على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وَالولاية، وَلم يُنادَ بشيء كما نودي بالولاية» عن أصول الكافي، ج2، ص 15.

2 ـ عن نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 194، وَكذلك مصادر أُخرى.

[71]

طبعاً لقد جعل الله للبشرية قائداً لإِنقاذ وهداية البشر في كل عصر وزمان، حيث تقتضي حكمتهُ أن لا تطبّق السعادة إِلاّ مع وجود ضامن تنفيذي لها. والمهم أن تتعرف المجتمعات على قيادتها وأن لا يقعوا في شباك القادة الضالين والفاسدين، حيث تكون النجاة مِن مخالبهم أمراً صعباً للغاية.

وهذه هي فلسفة عقيدة الشيعة بضرورة وجود إِمام معصوم في كل زمان، كما يقول الإِمام علي(عليه السلام): «اللّهم بلى لا تخلوا الأرض مِن قائم لله بحجّة، إِمّا ظاهراً مشهوراً وإِمّا خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته»(1).

وهناك بحث في نهاية الآية (124) مِن سورة البقرة، حول معنى الإِمامة وأهميتها في دنيا الإِنسان.

4 ـ عميان القلوب

في القرآن الكريم تعابير لطيفة في وصف المشركين والظالمين، حيث يصفهم هنا بـ (الأعمى) وهذا الوصف كناية عن الحقيقة التي تقول بأنَّ الحق يكون واضحاً دوماً وفي متناول البصر إِذا كانت هناك عين بصيرة تنظر، العين التي تُشاهد آيات الله في هذا العالم الواسع، العين التي تعتبر الدروس المكتوبة على صفحات التأريخ; العين التي تُشاهد عاقبة الظالمين والمستكبرين، العين التي تنظر الحق دون غيره.

أمّا عندما تكون هناك ستائر وحجب الجهل والغرور والتعصُّب والعناد والشهوة أمام هذه العين، فإِنّها لا تستطيع مشاهدة جمال الحق بالرغم مِن أنَّه غير محجوب بستار.

وفي حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في تفسير الآية نقرأ: «مَن لم يدله خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ودوران الفلك والشمس والقمر

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار 147.

[72]

والآيات العجيبات، على أن وراء ذلك أمرٌ أعظم مِنهُ، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا»(1).

وجاءَ في روايات مُختلفة في تفسير هذه الآية أنّها تعني الشخص الذي يكون مستطيعاً للحج ولكنَّهُ لا يؤديه حتى نهاية عمره(2).

وبدون شك فإِنَّ هذا المعنى هو أحد مصاديق الآية وليس كُلّها. وقد يكون ذكر هذا المصداق والتأكيد عليه مِن زاوية دفع المسلمين للمشاركة فيه لمشاهدة هذا الإِجتماع الإِسلامي العظيم، بما يحويه مِن أسرار عبادية ومصالح سياسية تتجلى لعين الإنسان يحضر الموسم، ويتعلم الحقائق الكثيرة والمتعدِّدة مِنهُ.

وفي روايات أُخرى ورد أنَّ «شرّ العمى عمى القلب»(3).

على أي حال ـ كما قلنا سابقاً ـ فإِنَّ عالم القيامة، هو انعكاس لهذا العالم في كل ما يحويه وجودنا مِن أفكار ومواقف ومشاعر وأعمال. لذلك نقرأ في الآيات 124 ـ 126 مِن سورة طه، قوله تعالى: (وَمَن أعرضَ عن ذكري فإِنَّ لهُ معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قالَ ربّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى).

* * *

____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 196.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 196 ـ 197.

3 ـ المصدر السابق.

[73]

الآيات

وَ إِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلا(73) وَلَوْلآَ أَنْ ثَبَّتْنـكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلَيلا(74) إِذاً لأََذَقْنـكَ ضِعْفَ الْحَيـوةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً(75)

سبب النّزول

لقد ذكرت أسباب مُختلفة لِنزول هذه الآيات، إِلاَّ أَنَّ بعض هذه الأسباب لا يتلائم مع تأريخ النّزول، وبما أن أسباب النّزول هذه قد أفاد مِنها بعض المنحرفين لأغراض خاصّة، لذلك سوف نقوم هنا بذكرها جميعاً:

ذكر العلاّمة الطبرسي في (مجمع البيان) خمسة آراء في هذا المجال، وهي: الرأي الأوّل: قالت قريش للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): لا ندعك تلمس الحجر الأسود حتى تحترم آلهتنا، وقال الرّسول في قلبه: إِنَّ الله يعلم نفرتي مِن أصنامهم وإِنكاري لها، فما المانع مِن أن أنظر إِلى هذه الآلة باحترام ظاهراً حتى يسمحوا لي باستلام الحجر الأسود. وهنا أنزل الله تبارك وتعالى الآيات أعلاه التي نهت الرّسول عن هذا الأمر.

[74]

الرأي الثّاني: اقترحت قريش على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يترك الإِستهانة بآلهتهم والإِستخفاف بعقولهم، وأن يبعد عنهُ العبيد مِن أصحابه وذوي الأُصول المتواضعة، والرائحة الكريهة، لكي تحضر قريش مجلسهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) ويستمعون إِليه، فطمع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في إِسلامهم، فنزلت الآيات أعلاه تحذّر مِن هذا الأمر.

الرأي الثّالث: عندما حطَّم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الأصنام التي كانت موجودة في المسجد الحرام، اقترحت قريش عليه أن يبقي الصنم الموضوع على جبل المروة قرب بيت اللّه، فوافق الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في البداية على هذه الإِقتراح لكي يحقق مِن خلاله بعض مصالح الدعوة، إِلاَّ أنَّهُ بعد ذلك عدل عن هذا الأمر وأعطى أوامره(صلى الله عليه وآله وسلم) بتحطيم هذا الصنم، وعندما نزلت الآيات أعلاه.

الرأي الرّابع: إِنَّ مجموعة مِن قبيلة (ثقيف) وفدت على النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وعرضت عليه ثلاثة شروط لمبايعته، وكانَ شرطهم، الأوّل: أن لا يركعوا ولا يسجدوا عِند الصلاة، وثانياً: أن لا يحطموا أصنامهم بأيديهم بل يقوم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك. أمّا الشرط الثّالث: فقد طلبوا فيه مِن رسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسمح لهم ببقاء صنم (اللات) بينهم لمدّة سنة.

وقد أجابهم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا فائدة في دين لا ركوع ولا سجود فيه، وأمّا تحطيم الأصنام فإِذا كُنتم ترغبون في القيام بذلك فافعلوا، وإِلاَّ فنحن نقوم به، أمّا الإِستمرار في عبادة اللات لسنة أُخرى، فلا أسمح بذلك.

بعد ذلك قام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضأ، فالتفت عمر بن الخطاب وقالم: ما بالكم آذيتم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِنَّهُ لا يدع الأصنام في أرض العرب. إِلاَّ أنَّ ثقيف أصرّت على مطالبها، حتى نزلت الآيات الآنفة.

الرأي الخامس: إِنَّ وفد ثقيف طلب مِن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمهلهم سنة حتى يستلموا الهدايا المرسلة إِلى الأصنام، وبعد ذلك يكسرون الأصنام ويسلمون، فهمَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بإِمهالهم وإِجابتهم إِلى ما أرادوا لولا نزول الآيات أعلاه التي نهت عن إِجابة طلبهم بشدَّة.

[75]

وهناك أسباب أُخرى للنزول تشبه الآراءِ التي ذكرناها.

أقول: لا حاجة لبيان ضعف هذه الآراء إِذ أنَّ بطلان أكثر هذه الآراء كامن فيها، لأنّ مجيء وفود القبائل إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وطلباتهم وتحطيم الأصنام، كل هذه الأُمور إِنّما تمّت بعد فتح مكّة في العام الثّامن للهجرة، في حين أنَّ هذه السورة نزلت قبل هجرة الرّسول، وفي وقت لم يكن فيه(صلى الله عليه وآله وسلم) يمتلك القدرة الظاهرية التي تفرض على المشركين التواضع لمقامه، وسوف نقوم بتوضيح أكثر لا حقّاً.

* * *

التّفسير

بما أنَّ الآيات السابقة كانت تبحث حول الشرك والمشركين، لذا فإِنَّ الآيات التي نبحثها تحذَّر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن وساوس وإِغواءات هذه المجموعة، حيث لا يجوز أن يُبدي أدنى ضعف في محاربة الشرك وعبادة الأصنام، بل يجب الإِستمرار بصلابة أكبر.

في البداية تقول الآية أنّ وساوس المشركين كادت أن تؤثر فيك: (وإِن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إِليك لِتفتري علينا غيره وإِذاً لا تخذوك خليلا).

ثمّ بعد ذلك تضيف أنّه لولا نور العصمة وأنّ اللّه تعالى ثبّتك على الحق: (ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إِليهم شيئاً قليلا).

وأخيراً لو أنّك ركنت اليهم فسوف يكون جزاءك ضعف عذاب المشركين في الحياة الدنيا، وضعف عذابهم في الآخرة: (إِذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيراً).

* * *

[76]

بحوث

1 ـ هل أبدى الرّسول ليونة إِزاء المشركين؟

بالرغم مِن أنَّ بعض السطحيين أرادوا الإِستفادة مِن هذه الآيات لِنفي العصمة عن الأنبياء، وقالوا أنّه طبقاً للآيات أعلاه وأسباب النّزول المرتبطة بها إِنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أبدى ليونة إِزاء عبدة الأصنام، وأنَّ الله عاتبه على ذلك. إِلاَّ أنَّ هذه الآيات صريحة في افهام مقصودها بحيث لا تحتاج إِلى شواهد أُخرى على بطلان هذا النوع مِن التفكير، لأنَّ الآية الثّانية تقول وبصراحة: (ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إِليهم شيئاً قليلا). ومفهوم التثبيت الإِلهي (والذي نعتبرهُ بأَنَّهُ العصمة) أنَّهُ منع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن التوجه إِلى مزالق عبدة الأصنام، ولا يعني ظاهر الآية ـ في حال ـ أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) مال إِلى المشركين، ثمّ نُهي عن ذلك بوحي من اللّه تعالى.

وتوضيح ذلك، إن الآية الأُولى والثّانية هما في الحقيقة إِشارة إِلى حالتين مُختلفتين للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، الحالة الأُولى هي الحالة البشرية والإِنسانية والتي تجلّت بشكل واضح في الآية الأُولى، وبمُقتضى هذه الحالة يُمكن تأثير وساوس الأعداء في الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة إِذا كانت ثمّة مرجحات في إِظهار الليونة والتوجّه إِليهم، مِن قبيل رغبته(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يسلم زعماء الشرك بعد إِظهار الليونة، أو أن يمنع بذلك سفك الدماء. والآية تكشف عن احتمال وقوع الإِنسان العادي ومهما كان قوياً تحت تأثير الأعداء.

أمّا الآية الثّانية فهي ذات طبيعة معنوية، إِذ هي تبيّن العصمة الإِلهية ولطفه الخاص سبحانه وتعالى الذي يشمل بهِ الأنبياء خصوصاً نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يمر بمنعطفات ومزالق دقيقة.

والنتيجة أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالطبع البشري قد وصل إِلى حافة القبول ببعض وساوس الأعداء، إِلاَّ أن التأييد الإِلهي (العصمة) ثبتهُ وحفظه وأنقذه مِن الإِنزلاق.

[77]

وهذا التعبير نفسهُ نقرأهُ في سورة يوسف حيث جاءَ البرهان الإِلهي في أدق اللحظات وأخطرها، في مقابل الإِغواء الخطير وغير الإِعتيادي لامرأة العزيز، حيث قوله تعالى في الآية (24) مِن سورة يوسف: (ولقد هَمَّت بِهِ وَهمَّ لولا أن رأى برهان ربّه، كذلك لنصرف عنهُ السوء والفحشاء إِنَّهُ مِن عبادنا المخلصين).

وفي اعتقادنا أنَّ الآيات أعلاه ليست لا تصلح أن تكون دليلا على نفي العصمة وحسب، بل هي واحدة مِن الآيات التي تدل على العصمة، لأنَّ التثبيت الإِلهي هذا (والذي هو كناية عن العصمة أو التثبيت أو التثبيت الفكري والعاطفي والسلوكي) لا يخص فقط هذه الحالة، وهذا الموقف، بل هو يشمل الحالات المشابهة الأُخرى، وعلى هذا الأساس تُعتبر الآية شاهداً على عصمة الأنبياء والقادة الإِلهيين.

أمّا الآية الاثالثة التي نبحثها والتي تقول: (إِذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيراً) فهي دليل على صحة البحوث الخاصّة بعصمة الأنبياء، حيثُ أنَّ العصمة ليست حالة جبرية يلتزم فيها النّبي بلا ارادة مِنهُ أو وعي، وإِنّما هي توأم مع نوع مِن الوعي الذاتي والتي تنفذ مع الحرية، لذا فإِنَّ ارتكاب ذنب في مثل هذه الحالات ليس محالا عقلا، ولكن هذا الإِيمان والوعي الخاص سوف يمنعان صدور الذنب، فلا تتحقق المعصية عملا، ولو فرضنا تحققها في الخارج فإِنَّهُ سينال عقوبات الجزاء الإِلهي (دقق في ذلك)(1).

2 ـ لماذا العذاب المضاعف؟

مِن الواضح أنَّهُ كلما زاد مقام الإِنسان مِن حيث العلم والوعي والمعرفة والإِيمان، ازدادت قيمة وعمق الأعمال الخيرة التي يقوم بها، وبدرجة نسبة

____________________________

1 ـ يمكن ملاحظة المزيد مِن التفاصيل عن الموضوع في كتاب (القادة الكبار).

[78]

الوعي العلم والمعرفة، وطبعاً سيكون ثوابها أكثر، لذا فإِنّنا نقرأ في بعض الرّوايات: (إِنَّ الثواب على قدر العقل)(1).

أمّا الثواب والعقاب فسوف يزداد تبعاً لهذه النسبة، فإِذا ارتكب إِنسان أُمّي وضعيف الإِيمان ذنباً كبيراً، فهذا ليس بالأمر العجيب، ولهذا السبب سيكون جزاؤه أخف، أمّا إِذا قام عالمٌ مؤمن بارتكاب ذنب صغير فإِنَّ جزاءه في مقابل ذلك سيكون أشد مِن جزاء الأمي في قبال ذنبه الكبير.

لهذا السبب بالذات نقرأ في الآيتين (30 ـ 31) مِن سورة الأحزاب خطاباً بهذا المضمون إِلى نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول تعالى: (يا نساء النّبي مَن يأتِ منكن بفاحشة مِبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً ومَن يقنت منكن الله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقاً كريماً).

وفي الرّوايات نقرأ هذا المفهوم: «يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(2).

هذه الآيات تشير إِلى هذه الحقيقة، فهي تقول للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): إِذا أظهرت ميلا (وحاشاه) نحو الشرك والمشركين فإِنَّ عقابك سيتضاعف في هذه الدنيا وفي الآخرة.

3 ـ معنى (الضِعف)

يجب الإِنتباه إِلى هذه الملاحظة، وهي أن كلمة (ضعف) في اللغة العربية ليس المقصود بها مرّتين فقط، بل مرّتان وعدَّة مرّات أيضاً.

يقول الفيروز آبادي، (العالم اللغوي المعروف في القرن الثّامن الهجري) في

____________________________

1 ـ أصول الكافي، ج 1، كتاب العقل والجهل، ص 9، حديث 8.

2 ـ أصول الكافي، ج 1، ص 37.

[79]

القاموس: يقال في بعض الأحيان «ضعف شيء معين» وهي تعني المرّتين والثلاث مرّات وما شابهها، لأنَّ هذه الكلمة تعني الإِضافة غير المحدودة.

الدليل على هذا القول، أنَّ الآيات القرآنية ـ وفي خصوص الحسنات ـ تقول: (إِن تك حسنة يضاعفها)(1) وفي موقع آخر تقول: (مَن جاءَ بالحسنة فلهُ عشر أمثالها)(2).

وفي الرّوايات الإِسلامية ورد عن الإِمام جعفر الصّادق(عليه السلام) قوله في تفسير الآية (261) مِن سورة البقرة: «إذا أحسن المؤمن عملهُ ضاعف الله عملهُ بكل حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله (والله يُضاعف لمن يشاء)(3).

ولكن هذا الكلام لا يمنع من أن تطلق هذه الكلمة على «التثنية» بمعنى الضعفين. أو عندما تذكر على شكل مضاف فإِنّها تعني ثلاثة أضعاف مثلا نقول: ضعف الواحد.

4 ـ تفسير جملة (إِذاً لا تخذوك خليلا)

المشهور بين المفسّرين أنَّ القرآن يعني بالآية هذه أنّك إِذا أظهرت توجهاً للمشركين فسوف يعتبرونك صديقاً لهم. إِلاَّ أنَّ بعض المفسّرين يعتبر أنَّ معنى الجملة، أن المشركين سيعتبرونك ـ يا رسول الله ـ فقيراً لهم ومحتاجاً إِليهم. إِذ في المعنى الأوّل (خليل) مأخوذة مِن (خِلّة) على وزن (قِلّة) وتعني الصداقة. أمّا في المعنى الثّاني فإِنَّ (خَلّة) على وزن (غَلّة) وتعني العوز والفقر والحاجة. لكن مِن الواضح أنَّ الصحيح هو المعنى الأوّل.

____________________________

1 ـ النساء، 40.

2 ـ الأنعام، 160.

3 ـ تفسير العياشي وفقاً لما نقله صاحب الميزان، ج 2، ص424.

[80]

5 ـ إِلهي لا تكلني إِلى نفسي

في المصادر الإِسلامية نقرأ أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما نزلت هذه الآيات قرأ هذا الدعاء «اللّهم لا تكلني إِلى نفسي طرفة عين أبداً».

وهذا الدعاء المهم لرسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) يعطينا درساً مهمّاً، وهو أنَّهُ يجب أن نذكر الله دائماً ونلتجيء إليه، ونعتمد على لطفه، حيثُ أنَّ الأنبياء المعصومين لم يسلموا مِن المزالق بدون نصرة الله وتثبيته لهم، إِذن فكيف بنا نحن مع كل ما يحيطنا مِن أشكال الوسوسة والإِغواء الشيطاني!!

* * *

[81]

الآيتان

وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً  لاَّ يَلْبَثُونَ خِلـفَكَ إِلاَّ قَلِيلا(76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا(77)

أسباب النّزول

المشهور أنَّ هذه الآيات نزلت في أهل مكّة بعد أن قرروا إِخراج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)مِنها. ثمّ بدَّلوا رأيهم بعد ذلك وقرروا قتلهُ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فحاصروا بيتهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنَّ الله أنجاه مِن هذه المكيدة بشكل إِعجازي واستطاع أن يهاجر إِلى المدينة المنوَّرة.

البعض يرى أنَّ هذه الآيات نزلت بشأن اقتراح يهود المدينة على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يخرج مِنها إِلى بلاد الشام باعتبار أنَّ المدينة ليست أرض الأنبياء، بل إِنَّ أرض الأنبياء هي الشام، لذلك قال اليهود لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِذا كنت ترغب بانتشار دعوتك فهاجر إِلى هُناك، إِلى بلاد الشام.

ولكن لمّا كانت هذه السورة مكّية فيتّضح عدم صحّة هذا السبب للنزول، فضلا عن أنّنا سوف نرى أثناء الحديث عن الآيات أنّها ـ أيضاً ـ لا تتوافق مع السبب المذكور.

[82]

التّفسير

مُؤامرة خبيثة أُخرى:

في الآيات السابقة رأينا كيف أنَّ المشركين أرادوا مِن خلال مكائدهم المختلفة أن يحرفوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن الطريق المستقيم، لكن الله أنجاه بلطفه له ورعايته إِيّاه، وبذلك فشلت خطط المشركين.

بعد تلك الأحداث، وطبقاً للآيات التي بين أيدينا، وضع المشركون خطّة أُخرى للقضاء على دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه الخطّة تقضي بإِبعاد الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)عن مسقط رأسه (مكّة) إِلى مكان آخر قد يكون مجهولا وبعيداً عن الأنظار. إِلاَّ أنَّ هذه الخطّة فشلت أيضاً بلطف الله أيضاً.

الآية الأُولى تقول: (وإِن كادوا ليستفزونك مِن الأرض ليخرجوك مِنها)بخطة دقيقة.

وبما أنَّ كلمة «يستفزونك» مُشتقة مِن «استفزاز» التي تأتي في بعض الأحيان بمعنى قطع الجذور، وفي أحيان أُخرى بمعنى الإِثارة مع السرعة والمهارة، فإِنّنا نفهم مِن ذلك أنَّ المشركين وضعوا خطّة محكمة تجعل الوسط المحيط بالرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) غير مناسب له، وتُثير عامّة الناس ضدَّه كي يخرجوه بسهولة مِن مكّة. لكن هؤلاء لا يعرفون أنَّ هناك قوّة أعظم مِن قوّتهم، وهي قوّة الخالق الكبير حيث تتلاشى إِرادتهم دون إِرادته عزَّوجلّ.

ثمّ يحذّرهم القرآن بعد ذلك بقوله: (وإِذاً لا يلبثون خلافك إِلاَّ قليلا)فهؤلاء سيُبادون بسرعة بسبب ذنبهم العظيم في إِخراج القائد الكفوء ـ الذي تذهب نفسه حسرات على العباد ـ مِن البلد، إِذ يعتبر ذلك أوضح مداليل كفران النعمة، ومثل هؤلاء القوم لا يستحقون الحياة ويستحقون العذاب الإِلهي.

إِنَّ هذا الأمر لا يخص مشركي العرب وحسب، بل هو (سنة مَن قد أرسلنا قبلك مِن رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا). وهذه السنة تنبع مِن مَنطق واضح،

[83]

حيث أنَّ هؤلاء القوم لا يشكرون النعم، ويحطمون مصباح هدايتهم ومنبع النور إِليهم بأيديهم، إنَّ مِثل هؤلاء الأقوام لا يستحقون رحمة الخالق، وإِنَّ العقاب سيشملهم. ونعلم هُنا أنَّ الله تبارك وتعالى لا يفرق بين عباده، وبذلك فإِنَّ الأعمال المتشابهة في الظروف المتشابهة لها عقاب مُتشابه، وهذا هو معنى عدم اختلاف سنن الخالق جلَّوعلا.

إِنَّ السنن الإِلهية هي عكس السنن والقوانين التي يضعها البشر حيث تقتضي مصالحهم في يوم أن تكون هناك سنة أو قانون معين، وفي يوم آخر يمكن أن تنقلب هذه السُنَّة أو القانون إِلى عكسه تماماً.

ونعرف هنا أنَّ اختلاف السنن والقوانين البشرية إِمّا أن يعود إِلى عدم وضوح الأُمور، والتي عادة ما تتوضح بمرور الزمن، وتنكشف للإِنسان اشتباهاته وأخطاؤه، أو أنَّ السبب في ذلك يعود إِلى مُقتضيات المصالح الخاصّة وشروط الحياة التي تتحوَّل وتتغيَّر في كل وقت. ولمّا كانت هذه الأُمور لا تؤثِّر على الإِرادة الإِلهية، فإِنَّ ما يصدر عن الحكمة الإِلهية مِن سنن تكون ثابتة في جميع الحالات والشرائط.

* * *

[84]

الآيات

أَقِمِ الصَّلَوةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً(78) وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً(79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقً وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْق وَاجْعَلَ لِّـى مِن لَّدُنكَ سُلْطـناً نَّصِيراً(80) وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبـطِلُ إِنَّ الْبـطِلَ كَانَ زَهُوقاً(81)

التّفسير

الفناء نهاية الباطل:

بعد سلسلة الآيات التي تحدثت عن التوحيد والشرك وعن مكائد المشركين ومؤامراتهم، تبحث هذه الآيات عن الصلاة والدعاء والإِرتباط بالله والتي تعتبر عوامل مؤثِّرة في مجاهدة الشرك، ووسيلة لطرد إِغواءات الشيطان مِن قلب وروح الإِنسان، إِذ تقول الآيات في البداية (أقم الصلاة لدلوك الشمس إِلى غسق الليل وقرآن الفجر إِنَّ قرآن الفجر كانَ مشهوداً).

«دلوك الشمس» يعني زوال الشمس مِن دائرة نصف النهار والتي يتحدَّد معها

[85]

وقت الظهر. وفي الأصل فإِنَّ (دلوك) مأخوذة مِن (دَلكَ) حيثُ أنَّ الإِنسان يقوم بُِدَلك عينيه في ذلك الوقت لشدّة ضوء لشمس. أو أنَّ كلمة (دلك) تعني (المَيْل) حيثُ أنَّ الشمس تميل مِن دائرة نصف النهار مِن طرف المغرب. أو أنّها تعني أنَّ الإنسان يضع يده في قبال الشمس حيث يقال بأنَّ الشخص يمنع النور عن عينيه ويميله عنه.

على أي حال، في الرّواية التي وصلتنا عن أهلِ البيت(عليهم السلام) توضح لنا أنّ معنى (دلوك) هُوَ زوال الشمس. فقد روى العاملي في (وسائل الشيعة) أنَّ عُبيد بن زُرارة سَأل الإِمام الصادق(عليه السلام) عن تفسير الآية فقال(عليه السلام): «إِنَّ الله افترض أربع صلوات أوَّل وقتها زوال الشمس إِلى انتصاف الليل، مِنها صلاتان أوّل وقتهما مِن عند زوال الشمس إِلى غروب الشمس، إِلاَّ أنَّ هذه قبل هذه، ومِنها صلاتان أوّل وقتهما مِن غروب الشمس إِلى انتصاف الليل إِلاَّ أنَّ هذه قبل هذه»(1).

وفي رواية أُخرى رواها المحدّث الكبير (زرارة بن أعين) عن الإِمام الباقر(عليه السلام)، في تفسير الآية قال(عليه السلام): «دلوكها زوالها، وغسق الليل إِلى نصف الليل، ذلك أربع صلوات وَضعهنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وَوَقَتَهُنَّ للناس، وقرآن الفجر صلاة الغداة»(2).

لكن وضع بعض المفسّرين احتمالات أُخرى لمعنى (دلوك) إِلاَّ أنّا آثرنا تركها لأنّها لا تستحق الذكر.

وأمّا (غسق الليل) فإِنّها تعني مُنتصف الليل، حيثُ أنَّ (غسق) تعني الظلمة الشديدة، وأكثر ما يكون الليل ظلمةً في مُنتصفه.

أمّا (قرآن) فهي تعني كلاماً يُقرأ. و(قرآن الفجر) هُنا تعني صلاة الفجر.

وبهذا الدليل تعتبر هذه الآية مِن الآيات التي تُشير بشكل إِجمالي إِلى أوقات

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 3، ص 115.

2 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 205.

[86]

الصلوات الخمس. ومع أخذ الآيات القرآنية الأُخرى بنظر الإِعتبار في مجال وقت الصلوات والرّوايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن، يُمكن تحديد أوقات الصلوات الخمس بشكل دقيق.

ويجب الإنتباه هُنا إِلى أنَّ بعض الآيات تشير إِلى صلاة واحدة فقط، كقوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)(1). حيثُ (الصلاة الوسطى) وفقاً لأصح التفاسير هي صلاة الظهر.

وفي بعض الأحيان تشير الآية إِلى ثلاث صلوات من الصلوات الخمس كما في الآية (114) مِن سورة هود، في قوله تعالى: (وأقم الصلاة طَرفي النهار وزلفاً مِن الليل). حيث يشير تعبير (طرفي النهار) إِلى صلاتي الصبح والمغرب، وأمّا (زُلفاً الليل) فهي إِشارة إِلى صلاة العشاء.

وفي بعض الأحيان تشير الآية إِلى الصلوات الخمس بشكل إِجمالي، كما في الآية التي نبحثها (راجع للمزيد من التوضيح نهاية تفسير الآية (114) مِن سورة هود).

على أي حال، لا يوجد ثمّة شك في أنَّ هذه الآيات لم توّضح جزئيات أوقات الصلاة، بل تشير إِلى الكليات والخطوط العامّة، مثلها مثل الكثير مِن الأحكام الإِسلامية الأُخرى، أمّا التفاصيل فإِنّها وردت في سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّة الصادقين مِن أهل بيته(عليهم السلام).

الآية بعد ذلك تقول: (إِن قرآن الفجر كانَ مشهوداً) وهُنا يطرح سؤال حول هوية الذي يقوم بالمشاهدة، مَن هو يا ترى؟ الرّوايات الواردة في تفسير هذه الآية تقول إِنَّ ملائكة الليل والنهار هي التي تُشاهد، لأنَّهُ في بداية الصباح تأتي ملائكة النهار لتحل محل ملائكة الليل التي كانت تُراقب العباد، وحيثُ أنَّ صلاة الصبح هي في أوّل وقت الطلوع، لذلك فإِنَّ المجموعتين من الملائكة تشاهدها

____________________________

1 ـ روح المعاني، ج 15، ص 126.

[87]

وتشهد عليها.

والرّوايات في هذه المجال نقلها علماء الشيعة والسنّة.

فمثلا ينقل أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفقاً لما نقله عنهم صاحب تفسير (روح المعاني) أثناء تفسير الآية قولهم عَنهُ(صلى الله عليه وآله وسلم): «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار»(1).

أمّا البخاري ومسلم فقد نقلا نفس هذا المعنى في صحيحيهما وفقاً لما نقلهُ عنهم صاحب تفسير (روح المعاني) في المجلد الخامس عشر، صفحة (126) مِن تفسيره.

ولمزيد الإِطلاع على الأحاديث المروية عن أهل البيت(عليهم السلام) في هذا المورد يمكن مُراجعة المجلد الثّالث مِن تفسير (نور الثقلين) في نهاية حديثه عن الآية الكريمة.

ومن هُنا يتّضح أنَّ أفضل وقت لأداء صلاة الصبح هي اللحظات الأُولى لطلوع الفجر.

وبعد أن تذكر الآية أوقات الصلوات الخمس تنتقل الآية التي بعدها إِلى قوله تعالى: (ومِن الليل فتهجَّد به)(2) المفسّرون الإِسلاميون المعروفون يعتبرون هذا التعبير إِشارة إِلى نافلة الليل التي وردت روايات عديدة في فضيلتها، وبالرغم مِن أنَّ الآية لا تصرّح بهذا الأمر، إِلاّ أن هُناك قرائن مُختلفة ترجح هذا التّفسير.

ثمّ تقول الآية (نافلة لك) أي برنامج إِضافي علاوة على الفرائض اليومية.

وهذا التعبير اعتبرهُ الكثير بأنَّهُ دليل على وجوب صلاة الليل على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنَّ هذه (النافلة) والتي هي بمعنى (زيادة في الفريضة)

____________________________

1 ـ روح المعاني، ج 15، ص 126.

2 ـ «تهجَّد» مأخوذة مِن (هجود) وهي تعني في الأصل: النوم، حسبما يقول الراغب في المفردات. ولكن عندما تكون على وزن (تفعل» فإِنّها تعني إِزالة النوم والإِنتقال إِلى حالة اليقظة. أمّا الضمير في كلمة «تهجَّد به» فإِنَّهُ يدل على القرآن. ولكن هذه الكلمة استخدمت عند أهل الشرع بمعنى صلاة الليل. ويقال للذي يُصلّي الليل (المتهجِّد).

[88]

تخصك أنت دون غيرك يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

أمّا البعض الآخر فيعتقد بأنَّ صلاة الليل كانت بالأصل واجبة على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بقرينة آيات سورة المزمِّل، إِلاَّ أنَّ هذه الآية نسخت الوجوب وأبدلته بالإِستحباب.

ولكن هذا التّفسير ضعيف، لأنَّ النافلة لم تكن تعني (الصلاة المستحبّة) كما نُسميها اليوم، بل تعني الزيادة والإِضافة، ونعلم أنَّ صلاة الليل كانت واجبة على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، لذلك فهي إِضافية على الفرائض اليومية.

على أيةِ حال في ختام الآية تتوضح نتيجة هذا البرنامج الإِلهي الروحاني الرفيع حيث تقول: (عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً).

ولا ريب فإِنَّ المقام المحمود هو مقام مرتفع جدّاً يستثير الحمد، حيث أن (محمود) مأخوذة مِن (الحمد). وبما أنَّ هذه الكلمة وردت بشكل مطلق، لذا فقد تكون إِشارة إِلى أنَّ حمد الأوّلين والآخرين يشملك.

الرّوايات الإِسلامية الواردة عن طريق أهل البيت(عليهم السلام) أو عن طريق أهل السنة، تشير إِلى أنَّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة الكبرى. فالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أكبر الشفعاء في ذلك العالم، وشفاعته تشمل الذين يستحقونها.

أمّا الآية التي بعدها فإِنّها تُشير إِلى أحد التعاليم الإِسلامية الأساسية والذي ينبع مِن روح التوحيد والإِيمان: (وقل ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق)(1). فأي عمل فردي أو اجتماعي لا أبدؤهُ إِلاَّ بالصدق ولا أُنهيه إِلاَّ بالصدق، فالصدق والإِخلاص والأمانة هي الخط الأساس لبداية ونهاية مسيرتي.

بعض المفسّرين أراد تحديد المعنى الواسع لهذه الآية في مصداق أو مصاديق معنية، فمثلا قال بعضهم: إِنَّ الآية تعني الدخول إِلى المدينة والخروج

____________________________

1 ـ (مدخل) و (مخرج) هي تعني الإِدخال والإِخراج، تؤدي هنا المعنى المصدري.

[89]

مِنها إِلى مكّة المكرَّمة، أو الدخول إِلى القبر والخروج مِنهُ يوم البعث، وأمثال هذه الأُمور، ولكن مِن الواضح جداً أنَّ التعبير القرآني الجامع في الآية الكريمة  لا يمكن تحديده، فهو طلب في الدخول والخروج الصادق مِن جميع الأُمور وفي كل الأعمال والمواقف والبرامج.

وفي الحقيقة فإِنَّ سر الإِنتصار يكمن هُنا، وهذا هو طريق الأنبياء والأولياء الرّبانيين حيث كانوا يتجنّبون كل غش وخداع وحيلة في أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم وكل ما يتعارض معَ الصدق.

وعادة فإِنَّ المصائب التي نشاهدها اليوم والتي تصيب الأفراد والمجتمعات والأقوام والشعوب، إِنّما هي بسبب الإِنحرافات عن هذا الأساس، ففي بعض الأحيان يكون أساس علمهم قائماً على الكذب والغش والحيلة، وفي بعض الأحيان يدخلون إِلى عمل معين بصدق ولكنهم لا يستمرون على صدقهم حتى النهاية. وهذا هو سبب الفشل والهزيمة.

أمّا الأصل الثّاني الذي يعتبر مِن ناحية ثمرة لشجرة التوحيد، وَمِن ناحية أُخرى نتيجة للدخول والخروج الصادق في الأعمال، فهو ما ذكرتهُ الآية في نهايتها: (واجعل لي مِن لدنك سلطاناً نصيراً) لماذا؟ لأنّني وحيد، والإِنسان الوحيد لا يستطيع أن يُنجز عملا، ولا يستطيع أن ينتصر في مقابل جميع هذه المشاكل فيما إِذا اعتمد على قوته وحدها، لذلك فسؤاله مِن الله تبارك وتعالى، هو انصرني واجعل لي نصيراً.

أعطني يا إِلهي، لساناً ناطقاً، وأدلة قوية في مقابل الأعداء، وأتباعاً يضحّون بأنفسهم، وإِرادة قوية، وفكراً وَضّاءاً، وعقلا واسعاً بحيث تقوم كل هذه الأُمور بنصرتي، فغيرك لا يستطيع إِعطائي هذه الأشياء كلها.

وبعد أن ذكرت الآيات (الصدق) و (التوكل) جاءَ بعدها الأمل بالنصر النهائى، والذي يعتبر بحدِّ ذاته عاملا للتوفيق في الأعمال، إِذ خاطبت الآية

[90]

الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بوعد الله تعالى: (وقل جاءَ الحق وزهق الباطل)(1)، لأنَّ طبيعة الباطل الفناء والدمار: (إِنَّ الباطل كان زهوقاً). فللباطل جولة، إِلاَّ أنَّهُ لا يدوم والعاقبة تكون لإِنتصار الحق وأصاحبه وأنصاره.

* * *

بحوث

1 ـ صلاة اللّيل عبادة روحية عظيمة

إِنَّ التأثيرات المختلفة لضوضاء الحياة اليومية تؤثر على الإِنسان وعلى أفكاره وتجرّه إِلى وديان مُختلفة بحيث يصعب معها تهدئة الخاطر، وصفاء الذهن، والحضور الكامل للقلب في مثل هذا الوضع. أمّا في منتصف الليل وعند السحر عندما تهدأ هذه ضوضاء حياتيه المادية، ويرتاح جسم الإِنسان، وتهدأ روحه بعد فترة مِن النوم، فإِنَّ حالةً مِن التوَّجه والنشاط الخاص تُخالج الإِنسان، في مثل هذا المحيط الهاديء والبعيد عن كل أنواع الرياء، مع حضور القلب، يعيش الإِنسان حالة خاصّة قادرة على تربيته وتكامل روحه.

لهذا السبب نرى أن عباد الله ومحبيه يتوقون إِلى التعبُّد مِنتصف الليل، لأنَّهُ يزكّي أرواحهم، ويحيي قُلوبهم، ويقوي إِرادتهم، ويكمل إِخلاصهم.

وفي بداية عصر الإِسلام كان الرّسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يستفيد مِن هذا البرنامج الروحي في تربية المسلمين، وكانت يبني شخصياتهم بحيث كانوا يتغيّرون تماماً عمّا كانوا عليه في السابق، يعني أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجعل مِنهم شخصيات جديدة ذات إِرادة قوية وشجاعة، ومؤمنين ذوي إِخلاص ونقاء.

وقد يكون (المقام المحمود) الذي ورد ذكره في الآيات أعلاه نتيجة لصلاة

____________________________

1 ـ (زهق) مِن مادة «زهوق» بمعنى الإِضمحلال والهلاك والإِبادة، و(زهوق) على وزن «قبول» صيغة مُبالغة وهي تعني الشيء الذي تمت إِبادتهُ بالكامل.

[91]

الليل، إِشارة لهذه الحقيقة.

وعندما نبحث الرّوايات الواردة في المصادر الإِسلامية عن فضيلة صلاة الليل، نرى أنّها توضح هذه الحقيقة. وعلى سبيل المثال يمكن أن نقف مع هذه النماذج:

1 ـ عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «خيركم مَن أطابَ الكلام وأطعم الطعام وصلّى بالليل والناس نيام»(1).

2 ـ وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أنَّهُ(عليه السلام) قال: «قيام الليل مصحة للبدن، ومرضاة للرّب عزَّوجلّ، وتعرّض للرحمة، وتمسك بأخلاق النّبيين»(2).

3 ـ وعن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنَّهُ أوصى أحد أصحابه بقوله: «لا تدع قيام الليل فإِنَّ المغبون مَن حُرِمَ قيام الليل»(3).

4 ـ وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «مَن صلّى بالليل حَسُنَ وجههُ بانهار»(4).

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ هذه العبادة (صلاة الليل) على قدر مِن الأهمية بحيث أنَّ غير الطاهرين والمحسنين لا يوفقون إِليها.

5 ـ جاء رجل إِلى أمير المؤمنين علي(عليه السلام) وقال لهُ: إِنّي محروم مِن صلاة الليل، فأجابه(عليه السلام): «أنت رجل قد قيدتك ذنوبك»(5).

6 ـ في حديث آخر عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قال: «إِنَّ الرجل ليكذب الكذبة ويحرم بها صلاة الليل، فإِذا حرم بها صلاة الليل حُرِمَ بها الرّزق»(6).

7 ـ وبالرغم مِن أننا نعلم أن شخصاً مِثل علي بن أبي طالب لا يترك صلاة

____________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج 87، ص 142 ـ 148.

2 ـ المصدر السّابق.

3 ـ المصدر السّابق.

4 ـ المصدر السّابق.

5 ـ بحار الأنوار، ج 87، ص 142 ـ 148.

6 ـ المصدر السّابق.

[92]

الليل أبداً، ونظراً لأهمية هذه الصلاة نرى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أوصاهُ بها في جملة مِن وصاياه لهُ، إِذ قال له(صلى الله عليه وآله وسلم): «أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثمّ قال: اللهم أعنهُ ... وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الليل!»(1).

8 ـ وعن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّهُ قال لجبرئيل(عليه السلام): عظني، فقال جبرائيل لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد، عش ما شئت فإِنّك ميت، وأحبب ما شئت فإِنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإِنّك ملاقيه، واعلم أنَّ شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزَّه كفُّه عن أعراض النّاس»(2).

إِنَّ هذه الوصايا الملكوتية لجبرائيل تدل على أنَّ صلاة الليل تضفي على الإِنسان من الإِيمان والروحانية وقوة الشخصية ما يكون سبباً في شرفه كما أن كفّه الاذى عن الآخرين يكون سبباً في عزته.

9 ـ عن الإمام الصّادق(عليه السلام) قال: «ثلاثة هنّ فخر المؤمن وزينة في الدنيا والآخرة، الصّلاة في آخر الليل ويأسه ممّا في ايدي الناس ووالاية الإمام من  آل محمّد».

10 ـ عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: «ما مِن عمل حسن يعملهُ العبد إِلاَّ ولهُ ثواب في القرآن إِلاَّ صلاة الليل، فإِنَّ الله لم يبيّن ثوابها لعظيم خطرها عنده فقال: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربِّهم خوفاً وطمعاً (وممّا رزقناهم يُنفقون * فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم مِن قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون)(3).

ولصلاة اللّيل - بالطبع - آداب كثيرة، وَلكن لا بأس أن نذكر هُنا أبسط شكل لها، حتى يستطيع عشاق وَمحبّو هَذِهِ العبادة الروحية بها والإِستفادة مِنها:

وإنّ صلاة الليل تتكون بأبسط صورها مِن (85) ركعة، وهي مقسمة إِلى ثلاثة أقسام هي:

أ ـ أربع صلوات، ذات رُكعتين، يكون مجموعها ثماني رُكعات وتسمّى

____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 5، ص 268.

2 ـ وسائل الشيعة، ج 5، ص 269.

3 ـ بحار الأنوار، ج 87، ص 140.

[93]

(نافلة الليل).

ب ـ صلاة واحدة ذات ركعتين، وتسمّى بـ (الشفع).

ج ـ صلاة واحدة ذات ركعة واحدة، وتسمّى بـ (الوتر).

أمّا طريقة أداء هذه الصلاة فهي لا تختلف عن صلاة الصبح، إِلاَّ أنّها  لا تحتوي على الأذان والإِقامة، والأفضل إِطالة قنوت ركعة الوتر(1).

2 ـ ما هو المقام المحمود؟

المقام المحمود ـ كما هو واضح مِن اسمه ـ لهُ معنى واسع بحيث يشمل كل مقام يستحق الحمد، ولكن من المسلّم بأن المقصود بهِ هنا، هو الإِشارة إِلى المقام الممتاز والخاص الذي اختص بهِ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبسبب عباداته الليلية ودعائه في وقت السحر.

والمعروف بين المفسّرين ـ كما قلنا سابقاً ـ أنَّ هذا المقام هو مقام الشفاعة الكبرى للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا التّفسير ورد في روايات مُتعدِّدة، ففي تفسير العياشي عن الإِمام الصادق أو الباقر(عليهما السلام)، نقرأ في تفسير قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً) أنَّه قال: «هي الشّفاعة».

وقد حاول بعض المفسّرين الوصول إِلى هذه الحقيقة مِن مفهوم الآية نفسها، فهم يعتقدون أنّ جملة (عسى أن يبعثك) دليل على أنَّ الله سوف يعطيك هذا المقام في المستقبل. المقام الذي سوف يحمده الجميع، لأنَّ فائدته سوف تنال الجميع (لأنَّ محمود في الجملة أعلاه جاءت مطلقة غير مقيدة بشرط). إِضافة إِلى ذلك فإِنَّ الحمد في مقابل عمل معين هو أمر اختياري، والشيء الذي يحتوي على جميع هذه الصفات لا يمكن أن يكون سوى الشفاعة الكبرى والعامّة

____________________________

1 ـ بعض الفقهاء يحتاطون بعدم قراءة القنوت في رُكعتي الشفع أو قراءتها بأمل الرجاء.

[94]

لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وهناك احتمال أن يكون المقام المحمود هو أقصى القرب مِن  الخالق عزَّوجلّ، والذي تكون إِحدى آثاره هي الشفاعة الكبرى. (فتأمل ذلك).

وبالرغم مِن أنَّ المخاطب في هذه الآية ـ ظاهراً ـ هو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاَّ أنَّهُ يمكن تعميم الحكم والقول بأنَّ جميع الأشخاص المؤمنين الذين يقومون ببرنامج التلاوة وصلاة الليل لهم نصيب في هذا المقام المحمود، وسوف يقتربون مِن الساحة الإِلهية بمقدار إِيمانهم وعملهم، وبنفس المقدار سوف يقومون بالشفاعة للآخرين.

إِنّنا نعلم أنَّ أي مؤمن وبمقدار إِيمانه لهُ نصيب مِن مقام الشفاعة، إِلاَّ أنَّ المصداق الأتم والأكمل لهذه الآية هو شخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

3 ـ العوامل الثّلاثة للإِنتصار

في ميادين الصراع بين الحق والباطل يكون جيش الباطل ـ عادةً ـ ذا عدّة وعدد أكثر، إِلاَّ أن جيش الحق ـ بالرغم مِن قلّة أفراده ووسائله الظاهرية ـ يحصل على انتصارات عظيمة. ويمكن مشاهدة نماذج مِن ذلك في غزوات بدر والأحزاب وحنين، وفي عصرنا الحاضر يمكن مُشاهدة ذلك في الثورات المُنتصرة للأُمم المستضعفة في مقابل الدول المستكبرة.

وهذا الأمر يكون سبب تحلّي أنصار الحق بقوّة معنوية خاصّة بحيث تصنع مِن (الإِنسان) أُمَّة. وفي الآيات أعلاه تمت الإِشارة إلى ثلاثة عوامل للإِنتصار، العوامل التي ابتعد عنها مسلمو اليوم، ولهذا السبب نرى هزائمهم المتكرِّرة في مقابل الأعداء والمستكبرين.

والعوامل الثلاثة هي: الدخول الصادق والخالص في الأعمال، والإِستمرار

1 ـ الميزان، ج 1، ص 178.

[95]

على هذه الحالة الصادقة حتى النهاية (ربِّ ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق). ثمّ الإِعتماد على قدرة الخالق جلَّ وعلا، والإِعتماد على النفس، وترك أي اعتماد أو تبعية للاجانب (واجعل لي مِن لدنك سلطاناً نصيراً).

وبهذا الشكل فليست هُناك أية سياسية تؤثر في الإِنتصار كما في الصدق والإِخلاص، ليس هُناك أي اعتماد أفضل مِن الإِعتماد على الخالق والإِستقلال وعدم التبعية.

كيف يريد المسلمون أن ينتصروا على الأعداء الذين قاموا بغصب أراضيهم وصادروا مصادرهم الحياتية في حين أنّهم مرتبطون بأعدائهم في المجالات السياسية والعسكرية والإِقتصادية؟ هل نستطيع أن ننتصر على العدو بواسطة السلاح الذي نشتريه مِنُه؟

4 ـ حتمية انتصار الحق وهزيمة الباطل

نواجه في الآيات أعلاه أصلا تاماً، وأساساً آخر، وسنة إِلهية خالدة تزرع الأمل في قلوب أنصار الحق، هذا الأصل هو أنَّ عاقبة الحق الإِنتصار، وعاقبة الباطل الإِندحار، وأنَّ للباطل صولة وبرق ورعد، وله كر وفر، إِلاَّ أن عمره قصير، وفي النهاية يكون مآلهُ السقوط والزوال .. الباطل كما يقول القرآن: (فأمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)(1).

والدليل على هذا الموضوع كامن في باطن كلمة الباطل، حيث أنَّهُ لا يتفق مع القوانين العامّة للوجود، وليس لهُ مِن رصيد مِن الواقعية والحقيقة.

إِنَّ الباطل شيء مصنوع ومزوَّر، ليست لهُ جذور، أجوف، والأشياء التي لها صفات كهذه ـ عادةً ـ لا يمكنها البقاء طويلا.

أمّا الحق فلُه أبعاد وجذور مُتناسقة مع قوانين الخلق والوجود، ومثلهُ ينبغي

____________________________

1 ـ الرعد، 17.

[96]

أن يبقى.

أنصار الحق يعتمدون سلاح الإِيمان، مَنطقهم الوفاء بالعهد، وصدق الكلام، والتضحية، وهم مستعدون أن يضحوا بأنفسهم و الإِستشهاد في سبيل الله، قلوبهم مُنوَّرة بنور المعرفة، لا يخافون أحداً سوى الله، ولا يعتمدون إِلاَّ عليه، وهذا هو سر انتصارهم.

5 ـ آية جاءَ الحق ... وقيام المهدي (عليه السلام)

في بعض الرّوايات تمّ تفسير قوله (جاء الحق وزهق الباطل) بقيام دولة المهدي(عليه السلام)، فالإِمام الباقر يبيّن أنَّ مفهوم الكلام الإِلهي هو: «إِذا قام القائم ذهبت دولة الباطل»(1).

وفي رواية أُخرى نقرأ أنَّه حينما ولد المهدي(عليه السلام) كان مكتوباً على عضده قوله تعالى (جاء الحق وزهق الباطل إِنَّ الباطل كان زهوقاً)(2).

إِنَّ مفهوم هذه الأحاديث لا يحصر المعنى الواسع للآية بهذا المصداق، بل إِنَّ ثورة المهدي(عليه السلام) ونهضته هي مِن أوضح المصاديق حيث تكون نتيجتها الإِنتصار النهائي للحق على الباطل في كل العالم.

وبالنسبة للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) دخل في يوم فتح مكّة، المسجد الحرام وحطم (360) صنماً كانت لقبائل العرب، وكانت موضوعة حول فناء الكعبة، وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يحطمها الواحد تلو الآخر بعصاه، وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إِنَّ الباطل كان زهوقاً).

وخلاصة القول: إِنَّ حقيقة انتصار الحق وانهزام الباطل هي تعبير عن قانون عام يجري في مختلف العصور، وانتصار الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) على الشرك والأصنام،

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 212 و 213.

2 ـ المصدر السّابق.

[97]

ونهضة المهدي(عليه السلام) الموعودة وانتصاره على الظالمين في العالم، هُما مِن أوضح المصاديق لهذا القانون العام.

وهذا القانون يبعث الأمل في نفوس أهل الحق، ويعطيهم القوة على مُواجهة مشاكل الطريق في عملهم ومسيرهم الإِسلامي.

* * *

[98]

الآية

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّـِلْمُؤْمِنينَ وَلاََ يزِيدُ الظَّـلِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً(82)

التّفسير

القرآن وصفة للشفاء

الآية التي نبحثها الآن تُشير إِلى التأثير الكبير للقرآن الكريم ودوره البنّاء في هذا المجال حيث تقول: (وننزل مِن القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) أمّا الظالمون فإِنّهم بدلا مِن أن يستفيدوا مِن هذا الكتاب العظيم، فإِنَّهمُ يتمسكون بما لا ينتج لهم سوى الذل والهوان (ولا يزيد الظالمين إِلاَّ خساراً).

* * *

بحوث

1 ـ مفهوم كلمة (مِن) في ( من القرآن)

نعرف أنَّ كلمة (مِن) في مثل هذه الموارد تأتي للتبعيض، إِلاَّ أنَّ الشفاء والرحمة لا تخص قسماً من القرآن، بل هي صفة لكل آياته، لذا فإِنَّ كبار المفسّرين يميلون إِلى اعتبار (مِن) هُنا بيانية. ولكن البعض احتمل أن تكون

[99]

تبعيضية كذلك، وهي بذلك تشير إلى النزول التدريجي للقرآن ـ خاصّة وأنّ (ننزل) فعل مضارع ـ لذا فإنّ معنى الجملة يكون: (إِنّنا ننزل القرآن وكل قسم ينزل منهُ، هو بحدِّ ذاته ولوحده يُعتبر شفاءً ورحمة) (فتدبرّ جيداً).

2 ـ الفرق بين الشّفاء والرّحمة

إِنَّ (الشفاء) هو في مقابل الأمراض والعيوب والنواقص، لذا فإِنّ أوّل عمل يقوم بهِ القرآن في وجود الإِنسان هو تطهيره مِن أنواع الأمراض الفكرية والأخلاقية الفردية مِنها والجماعية.

ثمّ تأتي بعدها مرحلة (الرحمة) وهي مرحلة التخلُّق بأخلاق الله، وتفتّح براعم الفضائل الإِنسانية في أعماق الأفراد الذين يخضعون للتربية القرآنية.

بعبارة أُخرى: إِنّ الشفاء إِشارة إِلى (التطهير) و(الرحمة) إِشارة إِلى (البناء الجديد). أو بتعبير الفلاسفة والعارفين، فإِنَّ الأُولى تشير إِلى مقام (التخلية) بينما الثّانية تشير إِلى مقام (التحلية).

3 ـ الظّالمون ونصيبهم من القرآن

ليس في هذه الآية القرآنية وحسب، بل في الكثير مِن الآيات الأُخرى، نقرأ أنَّ الظالمين يزداد جهلهم وبؤس حالهم، بدل الإِستفادة مِن نور الآيات الإِلهية!!

إِنّ ذلك يعود إِلى أنَّ وجودهم قائم بالأساس على قواعد الكفر والظلم والنفاق، لذلك فإِنّهم أين ما يجدون الحق يحاربونه، وهذه الحرب للحق وأهله تزيد فى بؤسهم وتقوي روح الطغيان والتمرُّد عِندهم.

فإِذا أعطينا ـ مثلا ـ وجبة طعام مُتكاملة لعالم مجاهد، فإِنَّهُ سيستفيد مِن تلك الطاقة لأجل التربية والتعليم والجهاد في طريق الحق، أمّا إِذا أعطينا نفس وجبة الطعام هذه إلى شخص ظالم، فأنَّهُ سيستفيد مِن هذه الطاقة في تموين قدرة الظلم

[100]

لديه أكثر، وهذا المثال يكشف عن أنَّهُ لا يوجد اختلاف في المادة الإِلهية نفسها (المعنى هنا القرآن الكريم) بل الإِختلاف في أمزجة وأفكار واستعداد الإِنسان المتلقي.

فالآيات القرآنية طبقاً للمثال، هي كقطرات الماء التي تكون سبباً في إِنبات الورود في البساتين، بينما تنبت الاشواك في الأرض السبخة.

ولهذا السبب ينبغي أن تتهيأ مسبقاً الأرضية حتى تتم الإِستفادة مِن القرآن، إِضافة إِلى أنَّ فاعلية الفاعل يُشترط فيها قابلية المحل كما يصطلح.

وهنا تتّضح الإِجابة على السؤال الذي يقول: كيف لا يهدي القرآن أمثال هؤلاء الأشخاص في حين أنَّهُ كتاب هداية؟ إِذ لا ريب أنّ القرآن قادر على هداية الضالين، ولكن بشرط أن يبحث هؤلاء عن الحق، ويكونوا في مستوى قبوله والإِذعان له. أمّا واقع المعاندين وأعداء الحق فإِنَّهُ يكشف عن تعامل هؤلاء سلبياً مع القرآن، ولذلك لا يستفيدون مِن القرآن، بل يزداد عنادهم وكفرهم، لأنّ تكرار الذنب يكرس في روح الإِنسان حالة الكفر والعناد.

4 ـ القرآن دواء ناجع لكل الأمراض الإِجتماعية والأخلاقية

إِنَّ الأمراض الروحية والأخلاقية لها شبه كبير بالأمراض الجسمية للإِنسان، فالإِثنان يقتلان، والإِثنان يحتاجان إِلى طبيب وعلاج ووقاية، والإِثنان قد يسريان للآخرين، ويجب في كل منهما معرفة الأسباب الرئيسة ثمّ معالجتها.

وفي كل منهما قد يصل الحال بالمصاب الى عدم امكانية العلاج، ولكن في أكثر الأحيان يتم علاجها والشفاء منها، إِلاَّ أنَّ العلاج قد لا ينفع في أحيان أُخرى.

إِنَّهُ شبهُ جميل وذو معاني مُتعدِّدة; فالقرآن يُعتبر وصفة شفاء للذين يريدون محاربة الجهل والكبر والغرور والحسد والنفاق ... القرآن وصفة شفاء لمعالجة الضعف والذّلة والخوف والإِختلاف والفرقة. وكتاب الله الأعظم وصفة شفاء

[101]

للذين يئنّون مِن مرض حبّ الدنيا والإِرتباط بالمادة والشهوة. والقرآن وصفة شفاء لهذه الدنيا التي تشتعل فيها النيران في كل زاوية، وتئن مِن وطأة السباق في تطوير الأسحلة المدمرة وخزنها، حيثُ وضعت رأسمالها الإِقتصادي والإِنساني في خدمة الحرب وتجارة السلاح.

وأخيراً فإنَّ كتاب الله وصفة شفاء لإِزالة حُجب الشهوات المظلمة التي تمنع مِن التقرب نحو الخالق عزَّوجلّ.

نقرأ في الآية (57) مِن سوره يونس قوله تعالى: (قد جاءتكم موعظة مِن ربّكم وشفاء لما في الصدور).

وفي الآية (44) مِن سورة فصِّلت نقرأ قوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء).

ولإِمام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قول جامع في هذا المجال، حيث يقول(عليه السلام) في نهج البلاغة: «فاستشفوه مِن أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم، فإِنَّ فيه شفاء مِن أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال»(1).

وفي مكان آخر نقرأ لإمام المتقين علي(عليه السلام) قوله واصفاً كتاب الله: «ألا إِنَّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي وَدواء دائكم وَنظم ما بينكم».(2)

وَفي مقطع آخر يَضُمُّهُ نهج علي(عليه السلام)، نقرأ وصفاً لكتاب الله يقول فيه(عليه السلام): «وعليكم بكتاب الله فإِنَّهُ الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع، والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع، مَن قالَ بِهِ صدق، وَمَن عمل به سبق»(3).

هذه التعابير العظيمة والبليغة، والتي نجد لها أشباهاً كثيرة في أقوال النّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) وفي كلمات الإِمام علي(عليه السلام) الأُخرى والأئمّة الصادقين(عليهم السلام)، هي دليل يُثبت بدقة ووضوح أنَّ القرآن وصفة لمعالجة كل المشاكل والصعوبات

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 176.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 158.

3 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 158.

[102]

والأمراض، ولشفاء الفرد والمجتمع مِن أشكال الأمراض الأخلاقية والإِجتماعية.

إِنَّ أفضل دليل لإِثبات هذه الحقيقة هي مقايسة وضع العرب في الجاهلية مع وضع الذين تربوا في مدرسة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في مطلع الإِسلام. إِنَّ المقايسة بين الوضعين ترينا كيف أنَّ أُولئك القوم المتعطشون للدماء، والمصابون بأنواع الأمراض الإِجتماعية والأخلاقية، قد تمّ شفاؤهم ممّا هم فيه بالهداية القرآنية، وأصبحوا برحمة كتاب الله مِن القوّة والعظمة بحيث أنَّ القوى السياسية المستكبرة أنذاك خضعت لهم أعنّتها، وذلت لهم رقابها.

وهذه هي نفس الحقيقة التي تناساها مسلمو اليوم، وأصبحوا على ما هم عليه مِن واقع بائس مرير غارق بالأمراض والمشاكل ... إِنَّ الفرقة قد اشتدت بينهم، والناهبين سيطروا على مقدراتهم وثرواتهم، مستقبلهم أصبح رهينة بيد الآخرين بعد أن أصيبوا بالضعف والهوان بسبب الإِرتباط بالقوى الدولية والتبعية الذليلة لها.

وهذه هي عاقبة من يستجدي دواء علّته من الآخرين الذين هم اسوأ حالا منه، في حين أن الآخرين، ليأخذ مِنهم علاج الدواء حاضر بين يديه وموجود في مَنزله!

القرآن لا يشفي من الأمراض وحسب، بل إِنّهُ يساعد المرضى على تجاوز دور النقاهة إِلى مرحلة القوّة والنشاط والإِنطلاق، حيثُ تكون (الرحمة) مرحلة لاحقة لمرحلة (الشفاء).

الظريف في الأمر أنَّ الأدوية التي تستخدم لشفاء الإِنسان لها نتائج وتأثيرات عرضية حتمية لا يمكن توقيها أو الفرار مِنها، حتى أنَّ الحديث المأثور يقول: «ما مِن دَواء إِلاَّ ويهيج داء»(1).

____________________________

1 ـ سفينة البحار.

[103]

أمّا هذا الدواء الشافي، كتاب الله الأعظم، فليست لهُ أي آثار عرضية على الروح والأفكار الإِنسانية، بل على عكس ذلك كله خير وبركة ورحمة.

وفي واحدة مِن عبارات نهج البلاغة نقرأ في وصف هذا المعنى قول علي(عليه السلام): «شفاء لا تخشى أسقامه» واصفاً بذلك القرآن الكريم(1).

يكفي أن نتعهد باتباع هذه الوصفة لمدّة شهر، نطيع الأوامر في مجالات العلم والوعي والعدل والتقوى والصدق وبذل النفس والجهاد ... عندها سنرى كيف ستُحل مشاكلنا بسرعة.

وأخيراً ينبغي القول: إِنَّ الوصفة القرآنية حالها حال الوصفات الأُخرى،  لا يمكن أن تعطي ثمارها وأكلها مِن دون أن نعمل بها ونلتزمها بدقة، وإِلاَّ فإِنَّ قراءة وصفة الدواء مائة مرَّة لا تغني عن العمل بها شيئاً!!

* * *

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 198.

[104]

الآيتان

وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسـنِ أَعْرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِه وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً(83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلا(84)

التّفسير

كلٌ يتصرف وفق فطرته:

بعد أن تحدَّثت الآية السابقة عن شفاء القرآن، تشير الآية التي بين أيدينا إِلى أحدِ أكثر الأمراض تجذراً فتقول: (وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعرض ونأى بجانبه). ولكن عندما نسلب منه النعمة ويتضرر من ذلك ولو قليلا: (وإِذا مسهُ الشرّ كان يؤساً).

(أعرض) مُشتقة مِن (إِعراض) وهي تعني عدم الإِلتفات، والمقصود مِنها هُنا هو عدم الإِلتفات للخالق عزَّوجلّ، وإِعراض الوجه عنهُ وعن الحق.

(نأى) مُشتقّة مِن (نأي) وهي على وزن (رأي) وهي بمعنى الإِبتعاد، وعند إِضافة كلمة (بجانبه) إِليها يكون المعنى التكبر والغرور والتزام المواقف المعادية. ويمكن الإِستفادة مِن مجموع هذه الجملة الأشخاص الدنيويين يصابون بالغرور

[105]

عند مجيء النعم، بحيثُ أنّهم ينسون واهب ومعطي هذه النعم، ولا يقتصر الأمر على النسيان وحسب، بل ينتقل إِلى الإِعتراض التكبر وعدم الإِلتفات للخالق.

جملة (مسه الشر) تشير إِلى أدنى سوء يصيب الإِنسان. والمعنى أنَّ هؤلاء مِن الضعف وعدم التحمّل بحيث أنّهم ينسون أنفسهم ويغرقون في دوّامة اليأس بمجرّد أن تصيبهم أبسط مُشكلة.

الآية الثّانية تخاطب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول: (قل كلّ يعمل على شاكلته). فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء مِن آيات القرآن الكريم، والظالمون  لا يستفيدون مِن القرآن سوى مزيد مِن الخسران، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حالِ النعمة. ويصابون باليأس في حالِ ظهور المشاكل ... هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم، هذه الأمزجة التي تتغيّر وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإِنسان نفسه.

وفي هذه الأحوال جميعاً فإِنَّ هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع وخاصّة بالأشخاص المهتدين: (فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا).

* * *

بحوث

1 ـ الغرور واليأس

يتداول على ألسنتنا أنَّ فلاناً أصبح بعيداً عن الله، أو أنَّهُ نسي الله بعد أن تحسنت أُموره. ورأينا أنَّ أمثال هؤلاء الأشخاص الذين نسوا الله كيف يصابون باليأس الذلة والهلع عندما تنزل بهم أبسط الشدائد، بحيث لا نكاد نصدِّق بأنّهم سبق وأن كانوا على غير هذه الحال!

أجل، هكذا حال هؤلاء الجماعة مِن ضيقي التفكير وضعيفي الإِيمان، وعلى العكس من ذلك حال أولياء الله، حيث تكون نفوسهم واسعة وأرواحهم وضاءة

[106]

نيِّرة إِزاء المؤثرات التي تحيط بهم ولو بلغت في عتوها وضغطها مبلغاً شديداً، إِنّهم كالجبال في مقابل الصعوبات والشدائد، إِذا وهبتهم الدنيا فلا يُؤثر ذلك فيهم، وإِذا أخذت مِنهم العالم أجمع لا يتأثرون.

والعجيب في الأمر أنَّ هؤلاء القوم الذي يخسرون أنفسهم والذين تذكرهم السور القرآنية في آيات مُتعدِّدة (مِثل يونس ـ آية 12، لقمان ـ آية 32، الفجر ـ آية 14، 15، فصلت ـ الآية 48، 49) هم أنفسهم يعودون إِلى الله، ويستجيبون لنداء الفطرة عندما تنزل بهم النوازل وتقع بساحتهم الشدائد، ولكنّهم عندما تهدأ أمواج الحوادث والظواغط يتغيرون، أو في الواقع يعودون إِلى ما كانوا عليه سابقاً ويكون مِثلهم كمن لم يسمع بالله الذي خلقه وأنقذه!

إِنَّ العلاج الوحيد لهذا المرض هو رفع مستوى الفكر في ظل العلم والإِيمان، وترك العبودية لما هو دون الله وسواه، وفك الإِرتباط مع الشهوة والمادة، والعيش في إِطار مِن القناعة والزهد البنّاء.

وممّا ذكرنا تظهر الإِجابة على سؤال، وهو: إِنَّ الآيات التي نبحثها تصف حال مثل هؤلاء الأشخاص عند الصعوبات والشدائد بـ «يَؤوس» في حين أنَّ آيات أُخرى مِثل الآية (65) مِن سورة العنكبوت تصفهم بأنّهم (مخلصين لهُ الدين) وهي دلالة على غاية التوَّجه نحو الخالق عزَّوجلّ؟

في الواقع ليس ثمّة مِن تضاد بين هاتين الحالتين، بل إِنَّ إِحداهما هي بمثابة مقدمة للأُخرى، فهؤلاء الأشخاص عندما تصادفهم المشكلات ييأسون مِن الحياة، وهذا اليأس يكون سبباً لأنّ تزول الحجب عن فطرتهم ويلتفتون لخالقهم العظيم.

إِنَّ هذا التوّجه الإِضطراري إِلى الخالق عزَّوجلّ ـ طبعاً ـ ليس فخراً لأمثال هؤلاء وليس دليلا على يقظتهم، لأنّهم بمجرّد انصراف المشاكل عنهم يعودون إِلى حالتهم السابقة.

[107]

أمّا أولياء الحق وعباد الله المخلصون الحقيقيون فلا ييأسون عندما يقعون في المشاكل والمحن، بل تزيدهم الصعوبات استقامة وصلابة على طريق الهدى، وبسبب اعتمادهم على الله وعلى أنفسهم فإِنّهم يتمتعون بقوّة لمواجهة المشاكل ولا معنى لليأس في وجودهم.

إِنَّ هؤلاء ليسوا على صلة بالخالق في أوقات المشكلات وحسب، وإِنّما في اتصال دائم معهُ في كل الحالات إِذ يستمدون العون منهُ تعالى، وتكون قلوبهم منيرة برحمته وهدايته.

2 ـ ما معني (شاكلة)؟

«شاكلة» في الأصل مُشتقة مِن (شكل) وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان. و(شكال) تُقال لنفس الزمام; وبما أنَّ طبائع وعادات كل إِنسان تقيِّدهُ بصفات معينة لذا يقال لذلك «شاكلة». أمّا كلمة «إِشكال» فتقال للإِستفسار والسؤال وسائر الأُمور التي تحدِّد الإِنسان نوعاً ما(1).

لهذا فإِنَّ مفهوم الشاكلة لا يختص بالطبيعة الإِنسانية، لذلك ذكر العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان لهذه الكلمة مَعَنيين، هما: الطبيعة والخلقة، ثمّ الطريقة والمذهب والسُنَّة، على اعتبار أنَّ كل واحدة مِن هذه الأُمور تحدِّد الإِنسان مِن حيث العمل.

ومِن هنا يتّضح خطأ أُولئك الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على إِلزامية الصفات الذاتية للإِنسان بشكل يخرج عن إِرادته، وهو دليلهم على عقيدة الجبر، وإِذ أنكروا قيمة التربية والتزكية.

هذا النوع مِن التفكير الذي يخضع في أسبابه إِلى عوامل سياسية واجتماعية ونفسية ـ والتي ذكرناها في بحوثنا عن الجبر والإِختيار ـ لهُ هيمنة على ثقافة

____________________________

1 ـ مفردات الراغب مادة «شَكَلَ».

[108]

وأدب الكثير مِن المجتمعات والنظُم، حيث تستخدم هذه الثقافة لتبرير النواقص. إِنَّ هذه الثقافة تعتبر مِن أخطر الإِعتقادات التي يمكن أن تجر المجتمع سنين بل قرون إِلى الذلة والتأخَّر.

بناءً على ما ذكرنا نعتقد أن عقيدة الجبر هي دوماً ذريعة للتسط الإِستعماري، لكي تبقى القوّة المسيطرة في ظل ثقافة الجبر بمنأى عن ردود الفعل المقاومة للسيطرة والتي يمكن أن تنطلق مِن صفوف المسحوقين المستضعفين.

والتعبير المشهور هُنا، يوضح هذه الحقيقة بشكل دقيق، إِذ يقول: «الجبر والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان».

وخلاصة القول هنا: إنَّ الشاكلة لا تعني أبداً الطبيعة الذاتية، بل هي تُطلق على كلّ عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإِنسان اتجاهاً معيناً.

لذا فإِنَّ العادات والصفات التي يكتسبها الإِنسان بتكرار الأعمال اختيارياً وإِرادياً، وكذلك الإِعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الإِستدلال أو التعصب لرأي معين يُطلق عليها كُلّها كلمة «شاكلة».

وعادةً ما تكون الملكات الإِنسانية لها صفة اختيارية، لأنَّ الإِنسان عندما يُكرِّر عملا ما ففي البداية يُقالُ لهُ (حالة) ثمّ تتحوَّل الحالة إِلى (عادة) والعادة إِلى (مَلَكَة) وهذه الملكات نفسها تعطي شكلا معيناً لأعمال الإِنسان وتحدِّد خطَّهُ في الحياة، وهي عادةً ما تظهر بفعل العوامل الإِختيارية والإِرادية.

وفي بعض الرّوايات تمَّ تفسير «الشاكلة» بأنّها النيّة، فقد ورد في أصول الكافي عن الإِمام الصّادق(عليه السلام)، قوله: «النّية أفضل مِن العمل، ألا وإِنَّ النّية هي العمل، ثمّ تلا قوله عزَّ وجلّ: (قل كلّ يعمل على شاكلته)، يعني على نيّته»(1).

هذا التّفسير ينطوي على ملاحظة لطيفة، وهي أنَّ الإِنسان والتي تنبع مِن

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 214.

[109]

اعتقاداته تغطي شكلا لعمله، وعادة فإِنَّ النيّة هي نوع مِن الشاكلة، بمعنى الأمر المقيِّد. لذا تفسَّر النيّة أحياناً بأنّها نفس العمل. وفي أحيان أُخرى بأنّها أفضل من العمل، لأنَّهُ ـ في كل الأحوال ـ يكون خط العمل واتجاههُ ناتجاً عن خط النيّة واتجاهها.

وفي رواية «مَن لا يحضره الفقيه» عن صالح بن الحكم، قال: سُئِلَ الصّادق(عليه السلام) عن الصلاة في البيع والكنائس، فقال(عليه السلام): «صلِّ فيها» قُلت: أصلي فيها وإِن كانوا يُصلون فيها؟ قال: «نعم. أمّا تقرأ القرآن»: (قل كلٌّ يعمل على شاكلته فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) صلَّ على القبلة ودعهم»(1).

* * *

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 214.

[110]

الآية

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّـِى وَمَا أُوتِيتُم مّـِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا(85)

التّفسير

ما هي الرّوح؟

تبدأ هذه الآية في الإِجابة على بعض الأسئلة المهمّة للمشركين ولأهل الكتاب، إِذ تقول: (ويسألونك عن الروحِ قل الروحُ مِن أمرِ ربّي وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا).

مفسّرو الإِسلام الكبار ـ السابقون مِنهم واللاحقون ـ لهم كلامُ كثير عن الروح ومعناها، ونحن في البداية سنشير إِلى معنى كلمة (روح) في اللغة، ثمّ موارد استعمالها في القرآن، وأخيراً تفسير الآية والرّوايات الواردة في هذا المجال.

وفي هذا الصدد يمكن ملاحظة النقاط الآتية:

1 ـ (الرّوح) في الأصل اللغوي تعني (النفس) والبعض يرى بأنَّ (الروح) و(الرّيح) مُشتقّتان مِن معنىً واحد، وإِذ تمَّ تسمية روح الإِنسان ـ التي هي جوهرة مستقلة ـ بهذا الإِسم فذلك لأنّها تشبه النَفَسَ والريح مِن حيث الحركة والحياة،

[111]

وكونها غير مرئية مثل النَفَسَ والريح.

2 ـ استخدمت كلمة (الرّوح) في القرآن الكريم في موارد ومعاني مُتعدِّدة، فهي في بعض الأحيان تعني الروح المقدَّسة التي تساعد الأنبياء على أداء رسالتهم كما في الآية (253) مِن سورة البقرة والتي تقول: (وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس).

وفي بعض الأحيان تطلق على القوّة الإِلهية المعنوية التي تقوي المؤمنين وتدفعهم، كما في قوله تعالى في الآية (22) مِن سورة المجادلة: (أُولئك كتب في قلوبهم الإِيمان وأيدهم بروح منه).

وفي موارد أُخرى تأتي للدلالة على (الملك الخاص بالوحي) ويوصف  بـ (الأمين)، كما في الآية (193) مِن سورة الشعراء: (نزَلَ بهِ الرّوح الأمين على قلبك لتكون مِن المُنذرين).

وفي مكان آخر وردت بمعنى (الملك الكبير) مِن ملائكة الله الخاصين، أو مخلوق أفضل مِن الملائكة كما في الآية (4) مِن سورة القدر: (تنزل الملائكة والرّوح فيها بإِذن ربّهم مِن كل أمر). وفي الآية (38) مِن سورة النباء: (يوم يقوم الرّوح والملائكة صفاً).

ووردت ـ أيضاً ـ بمعنى القرآن أو الوحي السماوي، كما في الآية (52) مِن سورة الشورى في قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إِليك روحاً مِن أمرنا).

وأخيراً وردت الروح في القرآن الكريم بمعنى الروح الإِنسانية، كما في آيات خلق آدم: (ثمّ سوّاه ونفخ فيه مِن روحه)(1). وكذلك قوله تعالى في الآية (29) مِن سورة الحجر: (فإِذا سويته ونفخت فيه مِن روحي فقعوا لهُ ساجدين)(2).

____________________________

1 ـ السجدة، 9.

2 ـ قُلنا سابقاً: إِنَّ إِضافة (روح) إِلى الله هي إِضافة تشريفية، والهدف هو الروح الكبيرة التي وهبها الله تبارك وتعالى للآدميين.

[112]

3 ـ والآن لنر مِن خلال هذه النقطة ما هو المقصود بالروح في الآية التي نبحثها؟

ما هي الرّوح التي سأل عنها جماعةُ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابهم بقوله تعالى: (ويسئلونك عن الروحِ قل الروحُ مِن أمرِ ربّي وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا

يُمكن أن نستفيد مِن مجموع القرائن الموجودة في الآية أنَّ المستفسرين سألوا عن حقيقة الروح الإِنسانية، هذه الروح العظيمة التي تُميِّز الإِنسان عن الحيوان، وقد شرفتنا بأفضل الشرف، حيث تنبع كل نشاطاتنا وفعالياتنا مِنها، وبمساعدتها نجول في الأرض ونتأمّل السماء، نكتشف أسرار العلوم، ونتوغل في أعماق الموجودات ... إِنّهم أرادوا معرفة حقيقة أعجوبة عالم الخلق!!

وَلأنَّ الروح لها بناء يختلف عن بناء المادة، ولها أُصول تحكمها تختلف عن الأُصول التي تحكم المادة في خواصها الفيزيائية والكيميائية، لذا فقد صدر الأمر إِلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء في جملة قصيرة قاطعة: (قل الروح مِن أمرِ ربّي). ولكي لا يتعجب هؤلاء أو يندهشوا مِن هذا الجواب فقد أضافت الآية: (وما أوتيتم مِن العلم إِلاَّ قليلا) حيثُ لا مجال للعجب بسبب عدم معرفتكم بأسرار الروح بالرغم مِن أنّها أقرب شيء إِليكم.

وفي تفسير العياشي نقل الإِمام الباقر والصّادق(عليهما السلام) أنّهما قالا في تفسير آية (يسألونك عن الروح) ما نصَّه: «إِنّما الروح خلق مِن خلقه، لهُ بصرٌ وقوّة وتأييد، يجعلهُ في قلوب الرسل والمؤمنين»(1).

وفي حديث آخر عن الإِمامين الباقر والصادق أنّهما(عليهما السلام) قالا: «هي مِن الملكوت، مِن القدرة»(2).

____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 216.

2 ـ المصدر السّابق.

[113]

وفي الرّوايات المتعدِّدة التي بين أيدينا من طرق الشيعة وأهل السنّة نقرأ أنّ هذا السؤال عن الروح أخذهُ المشركون مِن علماء أهل الكتاب الذين يعيشون مع قريش، كي يختبروا به رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِذ قالوا لهم: إِذا أعطاكم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)معلومات كثيرة عن الروح فهذا دليل على عدم صدقه، لذلك نراهم قد تعجبوا مِن إِجابة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) المليئة بالمعاني رغم قصرها وقلّة كلماتها.

ولكن نقرأ في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام)، في تفسير هذه الآية، أنَّ الروح مخلوق أفضل مِن جبرائيل وميكائيل، وكان هذا المخلوق برفقة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبرفقة الأئمّة الصادقين(عليهم السلام) من أهل بيته مِن بعده، حيثُ كان يعصمهم مِن أي انحراف أو زلل خلال مسيرتهم(1).

إِنَّ هذه الرّوايات لا تعارض التّفسير الذي قلناه، بل هي مُتناسقة معهُ وداعمة له، لأنَّ الروح الإِنسانية لها مراتب ودرجات، فتلك المرتبة مِن الروح الموجودة عند الأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، هي في مرتبة ودرجة عالية جدّاً، ومن آثارها العصمة من الخطأ والذنب وكذلك يترتب عليها العلم الخارق. وبالطبع فإِنَّ روحاً مِثل هذه هي أفضل مِن الملائكة بما في ذلك جبرئيل وميكائيل. (فتدبّر)

أصالة واستقلال الرّوح:

يُظهر تأريخ العلم والمعرفة الإِنسانية أنَّ قضية الروح وأسرارها الخاصّة كانت محط توجَّه العلماء، حيث حاول كل عالم الوصول إِلى محيط الروح السري. ولهذا السبب ذكر العلماء آراء مُختلفة وكثيرة حول الروح.

ومِن الممكن أن تكون علومنا ومعارفنا اليوم ـ وكذلك في المستقبل ـ قاصرة عن التعرف على جميع أسرار الروح والإِحاطة بتفصيلاتها، بالرغم مِن أنَّ روحنا هي أقرب شيء لدينا مِن جميع ما حولنا. وبسبب الفوارق التي تفصل بين

____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 215.

[114]

جوهرة الروح وبين ما نأنس بهِ مِن عوالم المادة، فإِنّنا لن نحيط بأسرار وكنه الروح، أعجوبة الخلق، والمخلوق الذي يتسامى على المادة.

ولكن كل هذا لا يمنعنا مِن رؤية أبعاد الروح بعين العقل، وأن نتعرف على النظم والأُصول العامّة الحاكمة عليها.

إِنَّ أهم أصل يجب أن نعرفُه هو قضية أصالة واستقلال الروح، في مقابل آراء المذاهب الوضعية التي تذهب إِلى مادية الروح، وأنّها مِن افرازات الذهن والخلايا العصبية ولا شيء غير ذلك!

وسنبحث هذا الموضوع هنا ونتوسع فيه، لأنَّ مسألة (بقاء الروح) وقضية (التجرد المطلق أو عالم البرزخ) يعتمدان على هذا الأمر.

ولكن قبل الورود في البحث لا بدَّ من ذكر ملاحظة هامّة، وهي أن تعلق الروح بجسم الإِنسان ليست ـ وكما يظن البعض ـ مِن نوع الحلول، وإِنّما هي نوع مِن الإِرتباط والعلاقة القائمة على أساس حاكمية الروح على الجسم وتصرفها وتحكمها به، حيثُ يشبهها البعض بعلاقة تعلق المعنى وارتباطه باللفظ.

هذه المسألة ـ طبعاً ـ ستتوضح أكثر ضمن حديثنا عن استقلال الروح.

والآن لنرجع إِلى أصل الموضوع.

لا يشك أحدٌ في أنَّ الإِنسان يختلف عن الحجارة والخشب، لأنّنا نشعر ـ بشكل جيِّد ـ بأنّنا نختلف عن الجمادات، بل وحتى عن النباتات، فنحن نفهم ونتصوّر ونصمِّم، ونريد، ونحب، ونكره، و ... ألخ.

إِلاَّ أنَّ الجمادات والنباتات ليس لها أيّ مِن هذه الإِحساسات، لذلك فثمّة فرق أساسي بيننا وبينها ويتمثل في امتلاكنا للروح الإِنسانية.

ثمّ إِنَّهُ لا الماديون ولا أي مجموعة فكرية مذهبية أُخرى تنكر أصل وجود الروح، ولذلك يعتبرون علوماً مِثل علم النفس (سيكولوجيا)، وعلم العلاج النفسي (بسيكاناليزم) مِن العلوم المفيدة والواقعية، وهذين العلمين بالرغم مِن

[115]

أنّهما يعيشان مراحل طفولتهما بلحاظ بعض العوامل والقضايا، ولكنّهما مع ذلك يدخلان اليوم ضمن المناهج الدراسية في الجامعات، حيث يقوم أساتذة كبار بالبحث والتحقيق فيهما، وكما سنلاحظ، فإِنَّ النفس والروح ليستا حقيقتين مُنفصلتين، بل هما مراحل مُختلفة لحقيقة واحدة.

وإِنّنا هُنا سنطلق كلمة (النفس) عندما يتعلق الحديث بالإِرتباط بين الروح والجسم والتأثير المتبادل لكل مِنهما على الآخر. أمّا عندما يكون الحديث عن الظواهر الروحية مع غض النظر عن البدن فإِنّنا سنطلق عليها كلمة (الروح).

وخلاصة القول: أنّه أحد يستطيع أن ينكر حقيقة وجود الروح والنفس عندنا.

والآن ينبغي أن نتفحَّص مجالات السجال والحرب بين المذاهب المادية مِن جهة، وبين مجموع هذه المذاهب وتيارات ومذاهب الفلاسفة الروحيين والميتافيزيقيين مِن جهة أُخرى.

إِنَّ العلماء الإِلهيين والفلاسفة الروحيين يعتقدون بأنَّ الإِنسان وبالإِضافة إِلى المواد التي تدخل في تشكيل جسمه، ينطوي وجوده على حقيقة جوهرية أُخرى لا تتجلى فيها صفات المادة، وإِن جسم الإِنسان يخضع لتأثيرها بشكل مُباشر وفاعل.

وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الروح هي حقيقة من حقائق ما وراء الطبيعة (أي ميتافيزيقية) حيث أنَّ تركيبها وفعاليتها تختلف عن تركيب وفاعلية عالم المادة; صحيح أنّها مرتبطة مع عالم المادة، إِلاَّ أنّها ليست مادة ولا تملك خواص المادة.

في المقابل هُناك الفلاسفة الماديون الذين يقولون: إِنّنا لا نعرف موجوداً مستقلا عن المادة يسمى بالروح، أو أي اسم آخر، وإِنَّ كل ما موجود هو هذه المادة الجسمية و آثارها الفيزيائية أو الكيميائية.

إِنّنا نملك جهازاً يسمّى (الذهن والأعصاب) وهو يقوم بقسم مهم مِن أعمالنا

[116]

الحياتية، وهو مثل باقي الأجهزة المادية حيث يخضع في نشاطه لقوانين المادة.

إِنّنا نملك غدداً تحت اللسان تُسمّى الغدد اللعابية والتي تقوم بفاعلية فيزيائية وكيميائية، فعندما يدخل الطعام إِلى الفم تقوم هذه الغدد بالعمل بشكل أوتوماتيكي حيثُ تقوم بإِفراز السائل بالمقدار الذي يحتاجه الطعام حتى يلين ويُمضغ بشكل جيِّد، فهناك ـ أطعمة تحتوي على سوائل وهناك أطعمة قليلة السوائل أو جافّة، وكل نوع مِن هذه الأطعمة يحتاج إِلى مقدار معين مِن هذه السوائل (اللعاب).

المواد الحامضية تزيد مِن عمل هذه الغدد، خاصّة عندما تكون كثافة الطعام كبيرة، حتى يحصل الطعام على كميّة أكبر مِن السوائل ليلين، ومن ثمّ لا تصاب جدران المعدة بضرر.

عندما نبلع الطعام ينتهي عمل هذه الغدد والقنوات. وخلاصة القول: إِنَّ هُناك نظاماً عجيباً يتحكم بهذه الغدد والقنوات بحيث أنّها إِذا فقدت تعادلها لمدّة ساعة، فإِمّا أن يسيل اللعاب بشكل دائم عبر الشفتين، أو أن يكون الفم جافاً بحيث لا يمكن ابتلاع الطعام. هذا هو العمل الفيزيائي للعاب، إِلاَّ أنّنا نعلم أنَّ العمل الأهم للعاب هو عمله الكيمياوي، فهناك مواد مُتنوعة مُتداخلة معهُ حيث تتفاعل مع الطعام وتقلل مِن تعب المعدة.

الماديون يقولون: إِن عقلنا وأعصابنا يشبهان عمل الغدد اللعابية وما شابهها مِن أجهزة الجسم مِن حيث العمل الفيزيائي والكيميائي (حيث يسمّى المجموع فيزيوكيميائي) وهذا العمل الفيزيوكيميائي نحنُ نسمّيه بـ «الظواهر الرّوحية أو «الرّوح».

الماديون يقولون: عندما نُفكّر تصدر سلسلة مِن الأمواج الكهربائية مِن عقلنا، هذه الأمواج يمكن التقاطها اليوم بواسطة أجهزة خاصّة وتدوينها على الأوراق ودراستها، خاصّة في مستشفيات الأعصاب، حيث يتمّ تشخيص

[117]

الأمراض العصبية ومعالجتها، وهذه هي الفعالية الفيزيائية لعقلنا.

إِضافة إِلى هذا، فإِنَّ خلايا العقل عند التفكير، وكذلك عندِ النشاطات العصبية المختلفة، تقوم بمجموعة مِن الأفعال والانفعالات الكيمياوية.

لذلك فإِنَّ الروح والصفات الروحية ليست سوى الخواص الفيزيائية والأفعال الكيميائية للخلايا العقلية والعصبية.

إِنَّ الماديين يستفيدون مِن كل هذا العرض لبلورة النتائج التالية:

1 ـ بما أنَّ نشاط الغدد اللعابية وآثارها المختلفة لم تكن موجودة قبل وجود جسم الإِنسان، بل إِنّها وُجدت بعد وجوده، لذا فإِنَّ النشاطات الروحية تظهر بعد ظهور الدماغ والجهاز العصبي، وتموت هذه الفعاليات بموت الإِنسان.

2 ـ الروح من خواص الجسم، إِذن فهي مادية وليس لها أي صفات ميتافيزيقية.

3 ـ الروح خاضعة لجميع القوانين التي تحكم جسم الإِنسان.

4 ـ ليس هُناك وجود مستقل للروح بدون جسم، ولا يمكن أن يكون ذلك.

دلائل الماديين على عدم استقلال الروح

لقد أورد الماديون شواهد لإِثبات دعواهم بأنَّ الروح والفكر وسائر الظواهر الروحية هي قضايا مادية، أي تكون انعكاساً للخواص الفيزيائية والكيميائية للخلايا العصبية والدماغية، ونستطيع أن نشير هُنا إِلى هذه الشواهد مِن خلال هذه النقاط:

1 ـ «يمكن الإِشارة وبسهولة إِلى تعطُّل قسم مِن الأغراض الروحية عند عطل أو إِصابة قسم مِن المراكز العصبية أو سلسلة مِن الأعصاب»(1).

فمثلا تمّ إِختبار حالة رُفعَ فيها قسم مِن دماغ الطير، ولم يؤد ذلك إِلى موته،

____________________________

1 ـ پيسيكولوجي دكتور آراني، ص 23.

[118]

بل إِنَّهُ فقد قسماً كبيراً مِن معلوماته، مثلا يفقد شهيته للطعام فإِذا أعطيناه طعاماً فإِنَّهُ يأكلهُ ويهضمه، ولكنّا إِذا لم نعطه ووضعنا الحَب أمامه فإِنَّهُ لا يأكل وسيموت مِن الجوع.

كما شوهد أنَّ إِصابة دماغ الإِنسان نتيجة للحوادث أو الأمراض ببعض الضربات أو الصدمات، يؤدي إِلى فقدان الدماغ لجزء كبير مِن نَشاطه، حيث ينسى الإِنسان جانباً مِن معلوماته.

وقد قرأنا قبل فترة في الصحف أنَّ شاباً مُثقفاً من مدينة (الأهواز) الايرانية تعرض لضربة على دماغه في حادثة، فنسي جميع أحداث حياته الماضية حتى أنَّهُ نسي أُمّه وأُخته ونسي نفسهُ وعندما جاؤوا بهِ إِلى بيته والمكان الذي وُلِدَ وترعرع فيه، فإِنَّهُ لم يعرف هذا المكان وبدا فيه غريباً.

إِنَّ هذه الأُمور وما شابهها تثبت وجود علاقة قريبة بين نشاطات الخلايا الدماغية والظواهر الروحية.

2 ـ «عندما نفكر تكثر التغييرات المادية على سطح الدماغ .. الدماغ يحتاج إِلى طعام أكثر، ويطرح مواد فسفورية أكثر. ولكن عند النوم فإِنَّ الدماغ لا يقوم بالتفكير، لذا فإِنَّهُ يحتاج إِلى طعام قليل، وهذا يعتبر دليلا على أنَّ الآثار الفكرية للإِنسان تترشح من فعاليات مادية»(1).

3 ـ تُظهر التجارب أن وزن أدمغة المفكرين هي أكثر مِن الحد المتوسط (الحد المتوسط لدماغ الرجل في حدود (1400) غرام، والحد المتوسط لدماغ المرأة أقل مِن هذا بقليل)، وهذا دليل آخر ـ بزعم الماديين ـ على مادية الروح.

4 ـ إِذا كانت قوة التفكير والظواهر الروحية دليلا على الوجود المستقل للروح، فيجب أن نقبل ذلك أيضاً في الحيوانات، لأنّها تملك قدرة الإِدراك.

والخلاصة: إِنّ الماديين في أدلتهم بأننا ندرك ونحس بأنَّ روحنا ليست

____________________________

1 ـ البشر في النظرة المادية، دكتور آراني، ص 2.

[119]

موجوداً مستقلا، والتطورات المتعلقة بمعرفة الإِنسان ودراسته تُؤيد هذهِ الحقيقة.

وَمِن مجموع هذه الإِستدلالات، يستنتج هؤلاء أنَّ التقدم الفيزيولوجي الإِنساني والحيواني يوضحان يوماً بعد آخر حقيقة وجود العلاقة القربية بين الظواهر الروحية والخلايا الدماغية.

نقد هذه النظرية:

الخطأ الكبير الذي وقع فيه الماديون في أدلتهم واستنتاجاتهم، أنّهم خلطوا بين (وسائل العمل) و (القائم بالعمل).

ولأجل معرفة هذا الخلط نذكر هنا مثالا للتوضيح نرجو أن يدقق فيه القاريء الكريم جيداً:

مُنذ زمان غاليلو وحتى يومنا الحاضر، حصل تحوُّل كبير في دراسة حركة الأفلاك والأجرام السماوية، فغاليلو الإِيطالي استطاع وبمعونة أحد صانعي العوينات الزجاجية مِن صناعة مجهر صغير، فطار غاليلو بهِ فرحاً، بحيث أنَّهُ شرَعَ عند المساء بدراسة نجوم السماء بواسطة مجهره الذي أظهر لهُ أوضاعاً عجيبة إِذ أنَّهُ شاهد عالم لم يستطيع أي إِنسان مشاهدته حتى ذلك اليوم. لقد فهم غاليلو أنَّهُ توصِّل إِلى اكتشاف مهم، ومُنذ ذلك اليوم أصبحت دراسة أسرار العالم الأعلى في متناول الإِنسان.

لقد كان الإِنسان حتى ذلك اليوم مثل الفراشة التي لم تكن ترى مِن حولها سوى بعض سيقان الشجر، أمّا عندما صنع الإِنسان التسكوب فإِنَّهُ استطاع أن يشاهد مِن حوله مقداراً مِن أشجار الغابة الكبيرة.

لقد تطّور العمل في التسكوب حتى وصل إِلى وضعه الراهن حيث بنيت مختبرات كبيرة ومراصد جبارة يبلغ قطر عدساتها عدّة امتار لقد نصبت هذه

[120]

المراصد في أعالي الجبال المرتفعة حيثُ يتميز الأفق بصفاء خاص ممّا يسهل على الفلكيين دراسة النجوم، وبواسطة هذه المراصد الجبارة استطاع الإِنسان أن يُشاهد عوالم أُخرى كان عاجزاً عن مشاهدتها بالعين المجرّدة قبل ذلك.

والآن لِنتصوّر أن الإِنسان يكون بمقدوره مستقبلا أن يتوصل إِلى صناعة مرصد بقطر (100) متر بحيث يكون حجم الأجهزة المستخدمة فيه بحجم مدينة بكاملها، فما هي يا ترى العوالم التي سوف تنكشف لهُ بواسطة ذلك؟

والآن نطرح هذا السؤال: لو أخذت مِنّا هذه المجاهر والعدسات، أفلا يتعطَّل قسم مِن معلوماتنا ومعارفنا حول السماوات ... وهل الناظر الأصلي نحنُ أم التلسكوب والمجهر؟

هل المجهر والتلسكوب وسيلة نستطيع بواسطتها الرؤيا والمشاهدة، أم أنّها هي التي تقوم بالعمل والنظر الحقيقي؟

وفيما يخصُ الدماغ لا يستطيع أي شخص أن يُنكر أنَّهُ بدون الخلايا الدماغية لا يمكن أن تتمّ عملية التفكير، ولكن هل الدماغ هو وسيلة عمل للروح، أم أنَّهُ هو الروح؟

وخلاصة القول: إِنّ جميع الأدلة التي ذكرها الماديون تُثبت وجود الإِرتباط بين خلايا العقل والدّماغ وبين إِدراكاتنا، إِلاَّ أنَّ أياً مِنها لا يُثبت أنَّ الدماغ يقوم بالإِدراك، بل أنَّهُ مجرّد وسيلة لذلك.

وهنا يتّضح لماذا لا يفهم الموتى شيئاً، إِذ أنّهم وبسبب عدم وجود الإِرتباط بين الروح والبدن يعجزون عن ذلك، وبالتالي فإِنَّ الموت لا يعني فناء الروح وانعدامها، ومثل الميت مَثَلُ السفينة أو الطائرة التي عُطّل فيها جهاز اتصالها (اللاسلكي) فالسفينة والطائرة بمن فيهما موجودون إِلاَّ أنَّ اتصالهم مع الساحل أو المطار مقطوع بسبب فقدانهم لوسيلة الإِرتباط والإِتصال.

[121]

أدلة استقلال الروح

كان الكلام حتى الآن عن الماديين الذين يصرّون على أنَّ الظواهر الروحية هي افرازات لخلايا الدماغ، ويعتبرون الفكر والإِبداع والحب والتنفر والغضب وجميع العلوم، مِثل القضايا المادية التي تخضع لأسلوب العمل المختبري وتشملها قوانين المادة، إِلاَّ أنَّ الفلاسفة الذي يعتقدون باستقلالية الروح ذكروا أدلة قاطعة على نفي هذه العقيدة، منها:

أوّلا: ادراك الواقع الخارجي

إِنَّ أوّل سؤال يمكن أن نطرحهُ على الماديين، هو أنَّهُ إِذا كانت الأفكار والظواهر الروحية هي نفسها الخواص (الفيزيكيميائية) للدماغ، ففي مثل هذه الحالة ينبغي أن تنعدم الخلافات والفروق بين عمل الدماغ وبين عمل المعدة أو الكلية أو الكبد، حيثُ أنّ عمل المعدة هو التركيب الأساس ومجموعةُ مِن الفعاليات الفيزيائية والكيميائية، إِذ بواسطة نشاط معين وإِفرازات حامضية تتم عملية هضم الطعام ويصبح جاهزاً للإِمتصاص مِن قبل الجسم. وإِذا كان ا ِفراز اللعاب عملا فيزيائياً وكيميائياً في آن واحد، فإِنّنا نرى أنَّ العمل الروحي يختلف عن هذه الأعمال.

إِن كل أعمال أجهزة الجسم لها تشابه بدرجة معينة مع بعضها البعض، ما عدا (الدماغ) الذي لهُ وضع استثنائي، إِنَّ أجهزة الجسم مرتبطة جميعاً بجوانب داخلية، في حين أنَّ الظواهر الروحية لها جهة خارجية وتخبرنا عن الواقع الخارجي المحيط بنا.

ولأجل توضيح هذا الكلام يجب ذكر بعض الملاحظات:

الملاحظة الأُولى: هل هُناك عالم خارج وجودنا؟

من البديهي وجود مثل هذا العالم، أمّا المثاليين الذين يُنكرون وجود العالم

[122]

الخارجي ويقولون بأنَّ كل ما وجود هو (نحن) و (تصوراتنا) ويعتبرون العالم الخارجي مجموعة مِن التصورات والأحلام التي تُشاهد في النوم، فهؤلاء على خطأ، وقد أثبتنا خطأهم هذا في أحد الأبحاث، وأثبتنا أنّه كيف يتحول هؤلاء المثاليون إِلى واقعيين في العمل، إِذ أن ما يفكرون بهِ في محيط مكتباتهم يَنسونَهُ عِندما يتجولون في الشارع ويتنقلون مِن مكان إِلى آخر.

الملاحظة الثّانية: هل ندرك ونعلم بوجود العالم الخارجي، أم لا؟

بالطبع الجواب على هذا السؤال بالإِيجاب، لأنّنا نملك معرفة كبيرة عن العالم الخارجي، وعندنا معلومات كثيرة عن الموجودات المحيطة بنا.

والآن نصل إِلى هذا السؤال: هل هُناك وجود للعالم الخارجي في داخل وجودنا؟ طبعاً لا، ولكن ارتساماته وصورته منعكسة في أذهاننا حيث نستفيد مِن خاصية (انعكاس الواقع الخارجي) لإِدراك العالم الخارجي.

هذا الإِدراك الذهني للعالم الخارجي ـ في الحقيقة ـ ليس من الخواص الفيزيكيميائية للدماغ لوحدها، إِذ أنَّ هذه الخواص وليدة إِحساسنا وتأثرنا بالعالم الخارجي، وفي الاصطلاح: فإِنّها معلولة لها. ونفس الشيء يقال بالنسبة لتأثير الطعام على معدتنا، فهل تأثير الطعام على معدتنا والنشاطات الفيزيائية والكيميائية تكون سبباً لمعرفة المعدة بالأطعمة؟

إِذن كيف يستطيع الدماغ أن يتعرف على عالمه الخارجي؟

بعبارة أُخرى نقول: في التعرف على الموجودات الخارجية هُناك حاجة إِلى نوع مِن الإِحاطة بها، وهذه الإِحاطة ليست مِن عمل الخلايا الدماغية، إِذ الخلايا الدماغية تتأثر بالخارج فقط، وهذا التأثُر مَثَلَهُ كمثل سائر أجهزة الجسم، وهذا الموضوع ندركهُ نحنِ بشكل جيد.

وإِذا كان مجرّد التأثُّر بالخارج دليلا على إِدراكنا ومعرفتنا بالواقع الموضوعي الخارجي، فيجب أن تتساوى في ذلك معدتنا ولساننا وأن يكون لها

[123]

نفس قابلية الفهم، في حين أنّنا نعرف أنَّ واقع الحال ليس كذلك. وخلاصة القول: إِنَّ الوضع الإِستثنائي لإِدراكنا دليل على أنَّ هُناك حقيقة أُخرى كامنة فيها، بحيث أنَّ نظامها والقوانين المتحكمة فيه تختلف عن القوانين والنظم الفيزيائية والكيميائية. (فتدبّر ذلك).

ثانياً: وحدة الشخصية

الدليل الآخر على استقلال الروح وتمايزها هو مسألة وحدة الشخصية في طول عمر الإِنسان.

إِذا أردنا نشك في كل شيء، فإِنّنا لا نستطيع أن نشك في موضوع وجودنا (أي مقولة: أنا موجود) وليس ثمّة شك في وجودي وفي علمي بوجودي أو ما يصطلح عليه بـ «العلم الحضوري» وليس «العلم الحصولي» أي أنّني موجود عند نفسي وغير مُنفصل عنها.

على أي حال إِنَّ معرفتنا بأنفسنا من أوضح معلوماتنا، ولا تحتاج إِلى استدلال وإثبات.

أمّا بالنسبة للإِستدلال المشهور الذي استدَّل به الفيلسوف الفرنسي ديكارت حول وجوده، والذي يقول فيه (بما أنّني أفكر فإِذن أنا موجود) فهو استدلال زائد وغير صحيح، لأنّهُ قبل أن يثبت وجوده اعترف مرِّتين بوجوده (المرَّة الأُولى عِندما يقول: إِنّني، والثّانية عندما يقول: أنا) هذا مِن جانب.

ومِن جانب ثان فإِنّ (إِنّني) هذه منذ بداية العمر حتى نهايته واحدة فـ (إِنّني اليوم) هي نفسها (إِنّني بالأمس) وهي نفسها (إِنّني مُنذ عشرين عاماً) فـ (أنا) مُنذ الطفولة وحتى الآن تعبير عن شخص واحد لا أكثر، إِنّني نفس ذلك الشخص الذي كُنت وسأبقى إِلى آخر عمري نفس ذلك الشخص، وليس شخصاً آخر، طبعاً خلال هذه الفترة يكون الإِنسان قد درس وتعلم ووصل إِلى مراحل عالية

[124]

في العلم، ولكن في جميع الأحوال يبقى هو هو، ولا يصبح إِنساناً آخر، وهكذا في تعامل الآخرين معه حيث يعتبره الآخرون شخصية واحدة منذ أوّل حياته وإِلى آخر لحظة فيها باسم واحد وجنسية معينة.

والآن لِنرى ما هو هذا الكائن المتوغّل في اعماقنا؟ فهل هو ذرات وخلايا جسدنا ومجموعة الخلايا الدماغية وتأثيراتها؟ إِنَّ كل هذه الأُمور قد تغيَّرت على مدى عمرنا عِدَّة مرّات، تقريباً في كل سبع سنوات مرَّة واحدة، حيثُ نعرف أنَّهُ في كل يوم تموت ملايين الخلايا في جسدنا لتحل محلها ملايين أُخرى جديدة، ومثلها في ذلك مثل البناء الذي يتمّ إِخراج الطابوق القديم مِنهُ ووضع طابوق جديد في مكانه فلو استمر التعمير في هذا البناء فإِنّ البُنية الأساسية لن تتغير، ولكن يبقى البيت هو نفس ذاك البيت برغم أنَّ الناس السطحيين لا يلتفتون لذلك. ومثل خلايا الجسم التي تموت وتحيا كمثل المسبح الكبير الذي يدخلهُ الماء ببطء ويخرج مِن طرف آخر. طبيعي أنَّ ماء هذا المسبح سيتغير بعد مدّة بشكل كامل بالرغم مِن عدم التفات الناس إِلى ذلك، إِذ يظنون أنَّ ماء المسبح ما زال على حاله لم يتغيَّر.

وبشكل عام، إِنَّ كل موجود يحصل على الطعام ومِن جانب ثان يستهلك هذا الطعام، فإِنَّهُ في الواقع يتجدَّد ويتغَّير بالتدريج.

لذا فإِنَّ إِنساناً في السبعين مِن عمره لا يبعد أن يكون جسمه قد تغَّير عشر مرات، وإِذا كانَ الأمر كما يقول الماديون، مِن أنَّ الإِنسان هو نفس جسمه وأجهزته الدماغية والعصبية وخواصه الفيزيائية والكيميائية، ففي هذه الحالة يجب أن يكون الـ (أنا) قد تغيّر عشر مرات خلال هذه السنوات السبعين! ولهذا يكون هذا الإِنسان ليس الإِنسان السابق، إِلاَّ أنَّ هذا الكلام لا يقبلهُ أي وجدان.

ومِن هُنا يتّضح أن ثمّة حقيقة واحدة ثابتة على طول العمر، هي غير الأجزاء المادية، هذه الحقيقة لا تتغَّير كالأجزاء المادية، وهي أساس وجودنا وتتحكم في حياتنا وهي سبب وحدة شخصيتنا.

[125]

الحذر مِن هذا الإِشتباه!

البعض يتصوّر أن الخلايا الدماغية لا تتغَّير، ويقولون: لقد قرأنا في الكتب الفسيولوجية أنَّ عدد الخلايا الدماغية واحد وثابت مُنذ البداية وحتى نهاية العمر، وهي لا تزيد ولا تنقص وإِنّما تكبر. لذلك إِذا أصيبت بخلل فلن تكون قابلة للعلاج. وعلى هذا الأساس فإِنّنا نملك وحدة ثابتة في مجموع بدننا، هذه الوحدة هي الخلايا الدماغية التي تحفظ لنا وحدة شخصيتنا.

إِنَّ هذا الكلام ـ في الواقع ـ يمثل اشتباهاً كبيراً، فهو خلط بين مسألتين، إِذ أن ما أثبتهُ العلم مِن ثبات عدد الخلايا الدماغية منذ البداية حتى النهاية وأنّها غير قابلة للزيادة والنقصان، لا يعني أنَّ الذرات المكوَّنة لهذه الخلايا لا تتغيَّر، فكما قُلنا: إِنَّ خلايا الجسم التي تأخذ الطعام وتطرد الذرات القديمة بالتدريج تكون خاضعة للتغيير، مَثلها في ذلك مَثل ذلك الشخص الذي يأخذ المال مِن طرف وينفقه مِن طرف آخر، فهذا الشخص سيتغير رأس ماله بالتدريج، بالرغم مِن أن مقدار رأس المال لم يتغيَّر. وكذلك يُمكن أن نذكّر بمثال ماء المسبح.

لذلك، يتبيّن أنَّ الخلايا الدماغية ليست ثابتة، بل متغيّرة مثل سائر خلايا الجسم.

ثالثاً: عدم تطابق الكبير مَع الصغير

افترضوا أنّنا جلسنا على ساحل البحر، وشاهدنا أمامنا عدداً مِن الزَوارق معَ باخرة كبيرة، ثمّ نظرنا إِلى جانب الشمس فرأيناها تميل للغروب، بينما القمر بدأ يبزغ مِن الجانب الآخر. وعلى الشاطىء هُناك صفوف مِن طيور الماء الجميلة وقد اقترب بعضها نحو الماء. ونشاهد على الطرف الآخر جبلا عظيماً تناطح قمتهُ السماء علواً. والآن، إِزاء هذا المنظر، لِنغمض عيوننا بُرهة مِن الزمَن ونتخيل ما شاهدناه: جبل عظيم، بحرٌ واسع، سفينة كبيرة، كل هذه الأُمور ترتسم في مخيلتنا

[126]

كاللوحة الكبيرة للغاية في مقابل روحنا، أو في داخل روحنا.

والسؤال هُنا: أين مكان هذا المخطط في وجودنا ... هل تستطيع الخلايا الدماغية الصغيرة والمحدودة للغاية أن تستوعب حجم اللوحة الكبيرة والمخطط الكبير؟ الإِجابة ـ طبعاً ـ هي النفي، ولذلك لا بدّ أنّنا نمتلك قسماً آخر في وجودنا يكون فوق المادة الجسمية، وهو مِن السعة بمقدار بحيث يستوعب كل هذه المناظر والمخططات واللوحات.

وإلاَّ فهل نستطيع تنفيذ مخطط لبناية ذات مساحة (500) متر على قطعة أرض ذات مساحة بضعة مليمترات؟

الجواب ـ طبعاً ـ سيكون بالنفي، لأنَّ موجوداً أكبر لا يمكنهُ الإِنطباق على موجود أصغر مع احتفاظه بكبره وسعته، إِذ مِن ضرورات الإِنطباق أن يكونا مُتساويين، أو أن يكون أحدهما أصغر مِن الثّاني، فيمكن حينذاك تنفيذ الصغير على الكبير.

مع هذا الوضع كيف يُمكن لخلايا دماغنا الصغيرة استيعاب الصور الذهنية الكبيرة؟

إِنّنا نستطيع تصوّر الكرة الأرضية بحزامها الذي يبلغ أربعين مليون متر في أذهاننا، ونستطيع أن نتصوَّر ذهنياً كرة الشمس التي تَكبُر الأرض بمقدار مليون ومئتي ألف مَرَّة، وكذلك يُمكننا تصوّر المجرات والتي هي أكبر مِن الشمس بملايين المرّات. ولكن كل هذه الصور لا يمكن ارتسامها عملياً في خلايا الدماغ الصغيرة، وذلك وفقاً لقاعدة عدم انطباق الكبير على الصغير.

إِذن يجب أن نعترف ونقرّ بوجود كامن فينا هو أكبر مِن جسمنا في قدرة استيعابه وإِحاطته بالأشياء والمخططات والموجودات الكبيرة:

[127]

سؤال مهم:

يُمكن أن يقول البعض: إِن تصوراتنا الذهنية هي مثل المايكروفيلم أو الخرائط الجغرافية التي تحتوي على مقياس للرسم مِثل 1000000(1) أو100000000(1) حيث يرمز هذا المقياس

إِلى مقدار التصغير وكذلك كثيراً ما يحدث لادراك عظمة باخرة كبيرة جداً وتصوير حجمها أن أحد الأشخاص يقف على عرشتها ويؤخذ لهما صورة لكي يعرف الناظر لها عظمة حجمها من خلال رؤية الشخص الواقف عليها.

وتصوراتنا الذهنية على مِنوال الصور المصغَّرة وذات مقايس رسم معينة، وعندما نكبّرها بنفس المقدار فإِنّنا نحصل على المخطط أو الحجم الصحيح والواقعي. وبالطبع فإِنّ المخططات والأحجام الصغيرة يُمكن أن تستوعبها الخلايا الدماغية.

في الجواب نقول: إِنَّ المايكروفيلم يتمّ تكبيرة بواسطة (البرجكتر والشاشة الكبيرة التي تنعكس عليها الصور) كما أنَّ الخرائط الجغرافية نستطيع التعرُّف على ما تطويه مِن أحجام حقيقية بواسطة الأرقام الموجودة تحت الخرائط، فعندما نضرب المساحات بهذا الرقم نحصل على الخريطة الكبيرة الواقعية مجسمة في أذهاننا.

والآن نطرح هذا السؤال: أين هي هذه الشاشة أو الصفحة العظيمة التي ينعكس عليها مايكروفيلم الذهن؟ هل تُمثل الخلايا الدماغية الصفحة أو الشاشة المعنية؟

بالطبع لا، لأنَّ الخريطة الجغرافية الصغيرة التي نضربها بمقياس الرسم لتتحوَّل إِلى حجمها الحقيقي، لا يمكن أن يكون مكانها الخلايا الدماغية الصغيرة في حجمها.

وبعبارة أوضح نقول: بالنسبة إِلى المايكروفيلم والخارطة الجغرافية، فإنّنا

[128]

نرى أنَّ الشيء الموجود في الخارج هو الفيلم والخارطة الصغيرة، إِلاَّ أنَّهُ في صورنا وإِدراكاتنا الذهنية تكون الصور بمقدار وجودها الخارجي، ولابدّ بالتالي مِن مكان يستوعبها، فهل يمكن للخلايا الدماغية وهي بمساحتها وحجمها المعروف أن تستوعب كل هذه الأحجام العظيمة؟

وخلاصة القول: إِنّنا نتصوّر الصور الذهنية للأشياء بنفس أحجامها وسعتها في موضوعاتها الخارجية، وهذا التصوّر العظيم لا يمكن أن ينعكس في الخلايا الدماغية، لذلك فهي تحتاج إِلى مكان ومحل خاص، وهكذا ندرك أن فينا وجوداً حقيقياً أكبر مِن هذه الخلايا وفوقها جميعاً.

رابعاً: عدم تشابه الظواهر الروحية مع الأوضاع المادية

هُناك دليل آخر على استقلال الروح وعدم ماديتها، ففي الظواهر الروحية نشاهد خواصاً وأوضاعاً معينة تختلف عن الخواص والأوضاع المادية، وليس ثمّة تشابه بينهما. ومثال ذلك ما يلي:

1 ـ الموجودات المادية تحتاج إِلى الزمان ولها بعد تدريجي.

2 ـ بمرور الزمن تبلى هذه الموجودات المادية.

3 ـ مِن صفاتها أنّها قابلة للتقسيم إِلى أجزاء مُتعدِّدة.

ولكن الظواهر الذهنية ليست لها هذه الآثار والخواص، حيثُ أنّنا نستطيع أن نتصوّر عالماً كعالمنا الحالي في ذهننا دون الحاجة إِلى مرور الزمن والتدرّج.

وإِضافة إِلى ذلك، فإِنَّ اللقطات الموجودة في الذهن مُنذ عهد الطفولة لا تصبح قديمة ولا تستهلك أو تُبلى بمرور الزمن، بل تحتفظ بنفس شكلها، ويُمكن أن يُستهلك دماغ الإِنسان، إِلاَّ أنَّ صورة البيت المتجسّدة في الدماغ مُنذ عشرين عامّا ثابتة فيه لا تتغيَّر ولا تستهلك ولها نوع مِن الثبات الذي هو صفة عالم ما وراء الطبيعة.

[129]

إِنَّ روحنا تُظهر خلاقية عجيبة اتجاه الصور، وفي لحظة واحدة وبدون أي مقدمة يمكن رسم صور معينة في أذهاننا كالكرات السماوية والمجرات والكائنات الأرضية والجبال وما شابهها. إِنَّ هذه الخاصية ليست لكائن مادي، بل هي دليل لكائن ما فوق المادة.

إضافة إلى ذلك فإنّنا لا نشك في أن (2 + 2 = 4) حيثُ يُمكن تجزئة طرفي المعادلة، مثلا تجزئة الرقم (2) أو الرقم (4) إِلاَّ أنَّ هذا مفهوم التساوي هذا  لا يمكن تجزئته، فنقول مثلا: إِنَّ التساوي لهُ نصفان وكل نصف هو غير النصف الآخر، فالتساوي مفهوم لا يقبل التجزئة، فإِمّا أن يكون موجود أو غير موجود، إِذ لا يمكن تنصيفه أبداً.

لذا فإِنَّ هذا النوع مِن المفاهيم الذهنية غير قابل للتقسيم، ولهذا السبب فهي ليست مادية، إِذ لو كانت مادية لكان يمكن تجزئتها، ولهذا السبب فإنَّ روحنا التي هي مركز للمفاهيم غير المادية لا يمكن أن تكون مادية، لذا فإِنّها فوق المادة. (فدقق في ذلك)(1)

* * *

____________________________

1 ـ عرض وتلخيص عن كتاب: المعاد وعالم ما بعد الموت، الفصل المتعلق باستقلال الروح.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=787
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28