• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة طه من آية 92 ـ آخر السورة من ( ص 63 ـ 114) .

سورة طه من آية 92 ـ آخر السورة من ( ص 63 ـ 114)

[ 63  ]

الآيات

قَالَ يَـهَـرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا(92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى(93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى(94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَـسَـمِرِىُّ(95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى(96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانُظْر إِلَى إِلَـهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمِّ نَسْفاً(97) إِنَّمَا إِلَـهُكُمُ اللهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً(98)

التّفسير

نهاية السّامري المريرة:

تعقيباً على البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول تقريع موسى وملامته لبني إسرائيل الشديدة على عبادتهم العجل، تعكس هذه الآيات التي نبحثها ـ في

[ 64  ]

البداية ـ محاورة موسى (عليه السلام) مع أخيه هارون (عليه السلام)، ثمّ مع السامري.

فخاطب أوّلا أخاه هارون (قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتبعن)أفلم أقل لك أن (أخلفني في قومي وأصلح ولا تتّبع سبيل المفسدين)(1)؟ فلماذا لم تهب لمحاربة عبادة العجل هذه؟

بناءً على هذا، فإنّ المراد من جملة (ألاّ تتّبعن) هو: لماذا لم تتّبع طريقة عملي في شدّة مواجهة عبادة الأصنام؟ أمّا ما قاله بعض المفسّرين من أنّ المراد هو: لماذا لم تثبت معي على التوحيد مع الذين ثبتوا، ولم تأت معي إلى جبل الطور، فيبدو بعيداً جدّاً، ولا يتناسب كثيراً والجواب الذي سيبديه هارون في الآيات التالية.

ثمّ أضاف: (أفعصيت أمري)؟ لقد كان موسى (عليه السلام) يتحدّث بهذا الكلام مع أخيه وهو في فورة وسَورة من الغضب، وكان يصرخ في وجهه، وقد أخذ برأسه ولحيته يجرّه إليه. فلمّا رأى هارون غضب أخيه الشديد قال له ـ من أجل تهدئته وليقلّل من فورته، وكذلك ليبيّن عذره وحجّته في هذه الحادثة ضمناً .. (قال يابن اُمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي).

كان هارون في الحقيقة يُشير إلى كلام موسى (عليه السلام) الذي وجّهه إليه عند توجّهه إلى الميقات، وكان محتواه الدعوة إلى الإصلاح ـ الآية (142) من سورة الأعراف ـ فهو يريد أن يقول: إنّي إذا كنت قد أقدمت على الإشتباك معهم كان ذلك خلاف أمرك، وكان من حقّك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته، وخاصّةً مع ملاحظة الجملة الاُخرى التي وردت الآية (150) من سورة الأعراف: (إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني).

___________________________

1 ـ سورة الأعراف، 142.

[ 65  ]

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو: لا شكّ أنّ كلاًّ من موسى وهارون نبي، فكيف يوجّه موسى (عليه السلام) هذا العتاب واللهجة الشديدة إلى أخيه، وكيف نفسّر دفاع هارون عن نفسه؟!

ويمكن القول في الجواب: إنّ موسى (عليه السلام) كان متيقّناً من براءة أخيه، إلاّ أنّه أراد أن يثبت أمرين بهذا العمل.

الأوّل: أراد أن يُفهم بني إسرائيل أنّهم قد ارتكبوا ذنباً عظيماً جدّاً، وأي ذنب؟! الذنب الذي ساق هارون الذي كان نبيّاً عظيماً إلى المحكمة، وبتلك الشدّة من المعاملة، أي إنّ المسألة لم تكن بتلك البساطة التي كان يتصوّرها بنو إسرائيل. فإنّ الإنحراف عن التوحيد والرجوع إلى الشرك، وذلك بعد كلّ هذه التعليمات، وبعد رؤية كلّ تلك المعجزات وآثار عظمة الحقّ، أمر لا يمكن تصديقه، ويجب الوقوف أمامه بكلّ حزم وشدّة.

قد يشقّ الإنسان جيبه، ويلطم على رأسه عندما تقع حادثة عظيمة أحياناً، فكيف إذا وصل الأمر إلى عتاب أخيه وملامته، ولا شكّ أنّ هذا الاُسلوب مؤثّر في حفظ الهدف وترك الأثر النفسي في الاُناس المنحرفين، وبيان عظمة الذنب الذي إرتكبوه. كما لا شكّ في أنّ هارون ـ أيضاً ـ كان راضياً كلّ الرضى عن هذا العمل.

الثّاني: هو أن تثبت للجميع براءة هارون من خلال التوضيحات التي يبديها، حتّى لا يتّهموه فيما بعد بالتهاون في أداء رسالته.

وبعد الإنتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته، بدأ بمحاكمة السامري: لماذا فعلت ما فعلت، وما هدفك من ذلك؟: (قال فما خطبك ياسامري)؟ فأجابه  و (قال بصرت بما لم يبصروا فقبضت قبضة من أثر الرّسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي).

تُرى ما كان مقصود السامري من كلامه هذا؟! للمفسّرين قولان مشهوران ...

الأوّل: إنّ مراده هو: إنّني رأيت جبرئيل على فرس، عند مجيء جيش

[ 66  ]

فرعون إلى ساحل البحر، يرغّب ذلك الجيش في المسير في تلك الطرق اليابسة في البحر، وكان يسير أمامهم، فقبضت شيئاً من تراب قدمه، أو «مركبه» وأدّخرته لهذا اليوم، فألقيته داخل العجل الذهبي، وما هذا الصوت إلاّ من أثر ذلك التراب الذي أخذته.

الثّاني: إنّني آمنت ـ بداية الأمر ـ بقسم من آثار الرّسول (موسى)، ثمّ شككت فيها فألقيتها بعيداً وملت إلى عبادة الأصنام، وكان هذا عندي أجمل وأحلى.

فعلى التّفسير الأوّل فإنّ كلمة «الرسول» تعني جبرئيل، وعلى التّفسير الثّاني تعني «موسى» (عليه السلام). «والأثر» في التّفسير الأوّل بمعنى تراب القدم، وفي الثّاني يعني بعض تعليمات موسى (عليه السلام). و «نبذتها» على التّفسير الأوّل بمعنى إلقاء التراب داخل العجل، وعلى الثّاني ترك تعليمات موسى (عليه السلام). وأخيراً فإن (بصرت بما لم يبصروا) تشير ـ طبق التّفسير الأوّل إلى جبرئيل الذي كان قد تجلّى في هيئة فارس ـ وربّما رآه بعض آخر لكنّهم لم يعرفوه ـ إلاّ أنّها تشير ـ وفقاً للتفسير الثّاني إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسى (عليه السلام).

وعلى كلّ حال، فإنّ لكلّ واحد من هذين التّفسيرين أنصاراً، وله نقاط واضحة أو مبهمة، لكن ـ كمحصّلة نهائية ـ يبدو أنّ التّفسير الثّاني هو الأفضل والأنسب من عدّة جهات، خاصّة وأنّا نقرأ في حديث ورد في كتاب (الإحتجاج) إنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) لمّا فتح البصرة أحاط الناس به ـ وكان من بينهم «الحسن البصري» وقد جلبوا معهم ألواحاً يكتبون فيها ما يقوله أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فقال له أمير المؤمنين بأعلى صوته: «ما تصنع؟» قال: أكتب آثاركم لنحدّث بها بعدكم، فقال أمير المؤمنين: «أما إنّ لكلّ قوم سامرياً، وهذا سامري

[ 67  ]

هذه الاُمّة! إلاّ أنّه لا يقول: لا مساس، ولكنّه يقول: لا قتال»(1).

ويستفاد من هذا الحديث أنّ السامري كان رجلا منافقاً، فإن توسّل لإغواء الناس وإضلالهم ببعض المطالب والمقولات الصحيحة التي تعلّمها سابقاً، وهذا المعنى ينسجم والتّفسير الثّاني أكثر.

من الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى (عليه السلام) لم يكن مقبولاً بأي وجه، ولذلك فإنّ موسى (عليه السلام) أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله، فأوّلا: (قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول  لا مساس) أي يجب عليك الإبتعاد عن الناس وعدم الإتّصال بهم إلى آخر العمر، فكلّما أراد شخص الإقتراب منك، فعليك أن تقول له: لا تتّصل بي ولا تقربني. وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامّة. منزوياً بعيداً عنهم!

قال بعض المفسّرين: إنّ جملة (لا مساس) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى (عليه السلام) التي كانت تصدر في حقّ من يرتكب جريمة كبيرة، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر، فلا يقربه أحد ولا يقرب أحداً(2). فاضطرّ السامري بعد هذه الحادثة أن يخرج من جماعة بني إسرائيل ويترك دياره وأهله، ويتوارى في الصحراء، وهذا هو جزاء الإنسان الذي يطلب الجاه ويريد إغواء جماعة عظيمة من المجتمع ببدعه وأفكاره الضالّة، ويجمعهم حوله، ويجب أن يُحرم مثل هذا ويعزل، ولا يتّصل به أيّ شخص، فإنّ هذا الطرد وهذه العزلة أشدّ من الموت والإعدام على مثل السامري وأضرابه. لأنّه يعامل معاملة النجس الملوّث فيطرد من كلّ مكان.

وقال بعض المفسّرين: إنّ موسى دعا على السامري ولعنه بعد ثبوت جرمه

___________________________

1 ـ نور الثقلين الجزء3 ص392.

2 ـ تفسير في ظلال القرآن. المجلّد الخامس ص494.

[ 68  ]

وخطئه، فإبتلاه الله بمرض غامض خفي جعله ما دام حيّاً لا يمكن لأحد أن يمسّه، وإذا مسّه فسيبتلى بالمرض. أو أنّ السامري قد اُبتلي بمرض نفسي ووسواس شديد، والخوف من كلّ إنسان، إذ كان بمجرّد أن يقترب منه أي إنسان يصرخ (لا تمسّني)(1).

والعقاب الثّاني: إنّ موسى (عليه السلام) قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال: (وإنّ لك موعداً لن تخلفه)(2).

والثالث: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفاً).

وهنا يأتي سؤالان:

الأوّل: إنّ جملة (لنحرقنّه) تدلّ على أنّ العجل كان جسماً قابلا للإشتعال، وهذا يؤيّد عقيدة من يقولون: إنّ العجل لم يكن ذهبيّاً، بل تبدّل إلى موجود حي بسبب تراب قدم جبرئيل.

ونقول في الجواب: إنّ ظاهر جملة (جسداً له خوار) هو أنّ العجل كان جسداً لا روح فيه، كان يخرج منه صوت يشبه خوار العجل بالطريقة التي قلناها سابقاً. أمّا مسألة الإحراق فمن الممكن أن تكون لأحد سببين:

أحدهما: إنّ هذا التمثال لم يكن ذهبيّاً خالصاً، بل يحتمل أن يكون من الخشب، ثمّ طلي بالذهب.

والآخر: إنّه على فرض أنّه كان من الذهب فقط، فإنّ إحراقه كان للتحقير والإهانة وتعرية شكله الظاهري وإسقاطه، كما تكرّر هذا الأمر في تماثيل الملوك

___________________________

1 ـ تفسير القرطبي، الجزء6، ص4281.

2 ـ (لن تخلفه) فعل مبني للمجهول نائب فاعله السامري، وضميره مفعول ثان، وفاعل الفعل في الأصل هو الله، ومعنى الجملة في الجملة: إنّ لك موعداً لا يخلفه الله لك.

[ 69  ]

المستكبرين الجبابرة في عصرنا!

بناءً على هذا فإنّهم بعد حرقه كسروه قطعاً صغيرة بآلات معيّنة، ثمّ ألقوا ذرّاته في البحر.

والسؤال الآخر هو: هل يجوز إلقاء كلّ هذا الذهب في البحر، ألا يُعدّ إسرافاً؟

والجواب: قد يكون مثل هذا التعامل مع الأصنام واجباً في بعض الأحيان، إذا اُريد منه تحقيق هدف أهمّ وأسمى، كتحطيم وسحق فكرة عبادة الأصنام، لئلاّ يبقى بين الناس مادّة الفساد، وتكون باعثاً للوسوسة في صدور بعض الناس.

وبعبارة أوضح: فإنّ موسى (عليه السلام) لو أبقى الذهب الذي استُعمل في صناعة العجل، أو قسّمه بين الناس بالسويّة، فربّما نظر إليه الجاهلون يوماً ما نظرة تقديس، وتحيا فيهم من جديد فكرة عبادة العجل، فيجب أن تتلف هذه المادّة الغالية الثمن فداءً لحفظ عقيدة الناس، وليس هناك اُسلوب آخر لذلك وبهذا فإنّ موسى بطريقته الحازمة وتعامله الجازم الذي إتّخذه مع السامري وعجله إستطاع أن يقطع مادّة عبادة العجل، وأن يمحو آثارها من العقول، وسنرى فيما بعد كيف أثّر هذا التعامل القاطع مع عبّاد العجل في عقول بني إسرائيل(1).

وشخّص موسى في آخر جملة، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد، حاكمية نهج الله، فقال: (إنّما إلهكم الله الذي لا إله إلاّ هو وسع كلّ شيء علماً)فليس هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاماً، ولا تجيب سائلا، ولا تحلّ مشكلة، ولا تدفع ضرّاً.

___________________________

1 ـ نقرأ نظير هذا التعامل القاطع من أجل قلع جذور الأفكار المنحرفة في شأن مسجد ضرار في القرآن كإشارة سريعة، وفي التاريخ والحديث بصورة مفصّلة، بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أوّلا بحرق مسجد ضرار، وأن يهدموا الباقي منه، ويجعلوا مكانه محلاًّ لأوساخ وقاذورات وفضلات الناس (ولمزيد التوضيح راجع التّفسير الأمثل في ذيل الآيات 107 ـ 110 من سورة التوبة).

[ 70  ]

في الواقع، إنّ جملة (وسع كلّ شيء علماً) جاءت في مقابل وصف العجل وجهله وعجزه الذي ذكر قبل عدّة آيات.

* * *

بحثان

1 ـ يجب الثبات أمام الحوادث الصعبة

إنّ طريقة موسى (عليه السلام) في مقابلة إنحراف بني إسرائيل في عبادتهم العجل، يمكن أن تكون مثلا يقتدى به في كلّ زمان ومكان في مجال مكافحة الإنحرافات الصعبة المعقّدة.

فلو أنّ موسى (عليه السلام) كان يريد أن يقف أمام مئات الآلاف من عبدة العجل ويواجههم بالموعظة والنصيحة وقدر من الإستدلال فقط لما حالفه الفوز والنجاح، فقد كان عليه أن يقف بحزم هنا أمام ثلاثة اُمور: أمام أخيه، والسامري، وعبدة العجل، فبدأ أوّلا بأخيه فأخذ بمحاسنه وجرّه إليه وصرخ في وجهه، فهو في الحقيقة قد شكّل محكمة له ـ وإن كانت قد ثبتت براءته في النهاية ـ حتّى يحسب الآخرون حسابهم.

ثمّ توجّه إلى المسبّب الأصلي لهذه المؤامرة ـ أي السامري ـ فحكمه بحكم كان أشدّ من القتل، وهو الطرد من المجتمع وعزله وتبديله إلى موجود نجس ملوّث يجب أن يبتعد عنه الجميع، ثمّ تهديده بعقاب الله الأليم.

ثمّ جاء إلى عبدة العجل من بني إسرائيل، ووضّح لهم بأنّ ذنبكم كبير لا توبة منه إلاّ أن تُشهر السيوف ويقتل بعضكم بعضاً ليتطهّر هذا المجتمع من الدماء الفاسدة، وبهذه الطريقة يُعدم جماعة من المذنبين بأيديهم، ليتوارى هذا الفكر الخطر المنحرف عن عقول هؤلاء، وقد بيّنا شرح هذه الحادثة في ذيل الآيات 51 ـ 54 من سورة البقرة تحت عنوان: «توبة لم يسبق لها مثيل».

[ 71  ]

وهكذا فإنّه توجّه أوّلا إلى قائد المجتمع ليرى هل كان في عمله قصور أو لا؟ وبعد ثبوت براءته توجّه إلى سبب الفساد، ثمّ إلى أنصار الفساد ومبتغيه!

2 ـ من هو السامري؟

إنّ أصل لفظ (سامري) في اللغة العبرية (شمري) ولمّا كان المعتاد أن يبدّل حرف الشين إلى السين عند تعريب الألفاظ العبرية كما في تبديل «موشى» إلى «موسى»، و «يشوع» إلى «يسوع»، نفهم من ذلك أنّ السامري كان منسوباً إلى «شمرون»، وشمرون هو ابن يشاكر النسل الرّابع ليعقوب.

ومن هنا يتّضح أنّ إعتراض بعض المسيحيين على القرآن المجيد ـ بأنّ القرآن قد عرّف شخصاً كان يعيش في زمان موسى وأصبح زعيماً ومروّجاً لعبادة العجل باسم السامري المنسوب إلى «السامرة»، في حين أنّ السامرة لم يكن لها وجود أصلا في ذلك الزمان ـ لا أساس له، لأنّه كما قلنا منسوب إلى شمرون  لا السامرة(1).

على كلّ حال، فإنّ السامري كان رجلا أنانياً منحرفاً وذكيّاً في الوقت نفسه، حيث إستطاع أن يستغلّ نقاط ضعف بني إسرائيل وأن يوجد ـ بجرأة ومهارة خاصّة ـ تلك الفتنة العظيمة التي سبّبت ميل الأغلبية الساحقة إلى عبادة الأصنام، وكذلك رأينا أيضاً أنّه لاقى جزاء هذه الأنانيّة والفتنة في هذه الدنيا.

* * *

___________________________

1 ـ أعلام القرآن، ص359.

[ 72  ]

الآيات

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ ءَاتَيْنَـكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً(99) مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ وِزْراً(100)خَـلِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ حِمْلا(101) يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذ زُرْقاً(102) يَتَخَـفَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً(103) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً(104)

التّفسير

أسوأ ما يحملون على عاتقهم!

مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة، فإنّ القرآن الكريم بعد الإنتهاء منها يستخلص نتيجة عامّة فيقول: (كذلك نقصّ عليك من أنباء ما قد سبق). ثمّ يضيف (وقد آتيناك من لدنا ذكراً) قرآناً مليئاً بالدروس والعبر، والأدلّة العقليّة، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.

[ 73  ]

إنّ قسماً مهمّاً من القرآن المجيد يبيّن تاريخ وقصص الماضين، وذكر كلّ هذه الوقائع التاريخيّة التي جرت على السابقين في القرآن الذي هو كتاب يهتمّ بتربية الإنسان ليس أمراً إعتباطيّاً عبثيّاً، بل الغاية منه الإستفادة من الأبعاد المختلفة في تأريخ هؤلاء، عوامل الإنتصار والهزيمة، والسعادة والشقاء، والإستفادة من التجارب الكثيرة المخفية في طيّات تاريخ اُولئك السابقين.

وبصورة عامّة، فإنّ من أكثر العلوم إطمئناناً وواقعيّة هي العلوم التجريبيّة التي تخضع للتجارب في المختبر، وتظهر نتائجها الدقيقة. والتأريخ مختبر كبير لحياة البشر، وفي هذا المختبر سرّ شموخ الاُمم وسقوطها، نجاحها وفشلها، سعادتها وتعاستها، فكلّها وضعت تحت التجربة وظهرت نتائجها أمام أعيننا، ونحن نستطيع بالإستفادة من تلك التجارب أن نتعلّم قسماً من معارفنا الأكثر إطمئناناً في مجال اُمور حياتنا.

وبتعبير آخر، فإنّ حاصل حياة الإنسان ـ من جهة ـ هو التجربة، ولا شيء غيرها، والتاريخ ـ إذا كان خالياً من كلّ أشكال التحريف ـ هو حاصل حياة آلاف السنين من عمر البشر جمعت في مكان واحد في متناول الباحثين والدارسين. ولهذا السبب يؤكّد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مواعظه الحكيمة لولده الإمام الحسن (عليه السلام) على هذه النقطة بالذات، فيقول:

«أي بني، إنّي وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتّى عدت كأحدهم، بل كأنّي بما أنتهي إليه من اُمورهم قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله»(1).

بناءً على هذا، فإنّ التاريخ مرآة يعكس الماضي، وحلقة تربط الحاضر

___________________________

1 ـ نهج البلاغة. الرسالة 31. قسم الرسائل.

[ 74  ]

بالماضي، ويوسّع ويطيل من عمر الإنسان بمقداره.

التأريخ معلّم يحكي لنا عن سرّ ورمز عزّة الاُمم وسقوطها، فيحذر الظالمين، ويجسّد المصير المشؤوم للظالمين السابقين الذين كانوا أشدّ منهم قوّة، ويبشّر رجال الحقّ ويدعوهم للإستقامة والثبات، ويحمسهم ويحفزّهم على المضي في مسيرهم.

التأريخ هو المشعل الذي يضيء مسير حياة البشر، ويفتح الطرق ويعبّدها لحركة الجيل الحاضر.

التأريخ مربّي الجيل الحاضر، وهم سيصنعون تأريخ الغدّ.

والخلاصة، فإنّ التأريخ أحد أسباب الهداية الإلهية.

ولكن ينبغي الإنتباه جيداً، فبمقدار ما يكون التأريخ الصحيح بنّاءً ملهماً مربّياً نجد أنّ التواريخ المزيّفة مدعاة للضلال والإنحراف، ومن هذا المنطلق فإنّ مرضى القلوب سعوا دائماً إلى تضليل البشر وصدّهم عن سبيل الله، بتحريف التأريخ، وينبغي أن لا ننسى أنّ التحريف في التأريخ كثير(1).

ويلزم بيان هذه الملاحظة أيضاً، وهي أنّ كلمة (ذكر) هنا، وفي آيات كثيرة أُخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر، والوعي والحذر.

ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدّث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التأريخ وعبره، فتقول: (من أعرض عنه فإنّه يحمل يوم القيامة وزراً).

نعم .. إنّ الإعراض عن الله سبحانه يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمله أعباءاً ثقيلة من أنواع الذنوب والإنحرافات الفكريّة والعقائدية وكلمة (وزر) عادةً تعني بحدّ ذاتها الحمل الثقيل، وذكرها نكرة يؤكّد تأكيداً أكبر على

___________________________

1 ـ لقد بحثنا في مجال التاريخ وأهميته في بداية سورة يوسف ونهايتها وكذلك في ذيل الآية (120) من سورة هود.

[ 75  ]

هذه المسألة.

ثمّ تضيف: (خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا) والملفت للنظر هنا أنّ ضمير (فيه) في هذه الآية يعود إلى (الوزر) أي أنّ هؤلاء سيبقون دائماً في وزرهم ومسؤوليتهم وحملهم الثقيل (ولا دليل لدينا كي نقدّر شيئاً هنا ونقول: إنّ هؤلاء سيخلدون في العذاب أو في الجحيم) وهذا بنفسه إشارة إلى مسألة تجسّم الأعمال، وإنّ الإنسان يرى الجزاء الحسن أو العقاب في القيامة طبقاً لتلك الأعمال التي قام بها في هذه الدنيا.

ثمّ تتطرّق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته، فتقول: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً) وكما أشرنا سابقاً، فإنّه يستفاد من آيات القرآن أنّ نهاية هذا العالم وبداية العالم الآخر ستتمّان بحركتين عنيفتين فجائيّتين، وعبّر عن كلّ منهما بـ(نفخة الصور)، وسنبيّن ذلك في سورة الزمر ذيل الآية 68 إن شاء الله تعالى.

لفظة «زُرق» جمع «أزرق» تأتي عادةً بمعنى زرقة العين، إلاّ أنّها تطلق أحياناً على القاتم جسده بسبب الشدّه والألم، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف، ويفقد طراوته، فيبدو قاتماً وكأنّه أزرق.

وفسّر بعضهم هذه الكلمة بمعنى «العمى»، لأنّ الأشخاص زرق العيون يعانون ويبتلون عادةً بضعف شديد في البصر، وذلك يقترن عادةً بكون كلّ شعر بدنهم أبيضاً. إلاّ أنّ ما ذكرناه آنفاً من تفسير ربّما كان هو الأنسب.

في هذه الحال يتحدّث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ، فبعضهم يقول: لم تلبثوا إلاّ عشر ليال، أو عشرة أيّام بلياليها: (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلاّ عشراً)(1).

___________________________

1 ـ العدد في لغة العرب من 3 إلى 10 يخالف المعدود في الجنس، فإذا كان العدد مذكّراً كان المعدود مؤنثاً، فإن (عشراً) لما جاءت هنا بصيغة المذكّر، فإنّ المضاف إليه هو (ليال) والذي يجب أن يكون مؤنثاً حتماً، أمّا لو كان المضاف إليه (أيّام) فكان يجب أن يقال: عشرة. إلاّ أنّ بعض أُدباء العرب نقل بأنّ العدد إذا ذكر مطلقاً وحذف تمييزه فلا تجري القاعدة السابقة، وبناءً على هذا فإنّ (عشراً) هنا إشارة إلى عشرة أيّام.

[ 76  ]

لا شكّ أنّ مدّة توقّف هؤلاء كانت طويلة، إلاّ أنّها تبدو قصيرة جدّاً في مقابل عمر القيامة. وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة، أو أنّه نتيجة شدّة ضعفهم وعجزهم.

وإحتمل بعض المفسّرين أن تكون هذه الجملة إشارة إلى مكثهم في الدنيا، والذي يعدّ أيّاماً قلائل بالنسبة للآخرة وحوادثها المخيفة.

ثمّ يضيف: (نحن أعلم بما يقولون) سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ، وبصوت خفي أم عال (إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلاّ يوماً).

ومن المسلّم به أنّه: لا العشر مدّةً طويلة، ولا اليوم كذلك، إلاّ أنّ هناك تفاوتاً بينهما، وهو أنّ اليوم الواحد إشارة إلى أقل أعداد الآحاد، والعشرة إشارة إلى أقلّ أعداد العشرات، ولذلك فإنّ الأوّل يشير إلى مدّة أقل، ولذلك عبّر القرآن عمّن قال به بـ(أمثلهم طريقة) لأنّ قصر عمر الدنيا أو البرزخ في مقابل عمر الآخرة، وكذلك كون كيفيتهما وحالهما لا شيء أمام كيفيّة وحال الآخرة، ويكون أنسب مع أقل الأعداد. (فلاحظوا بدقّة).

* * *

[ 77  ]

الآيات

وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً(105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً(106) لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً(107) يَوْمَئِذ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الاَْصْوَاتُ لِلرَّحْمَـنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً(108) يَوْمَئِذ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَـعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا(109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ  وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً(110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً(111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً (112)

التّفسير

مشهد القيامة المهول:

تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بإنتهاء الدنيا وبداية القيامة.

ويظهر من الآية الأُولى أنّ الناس كانوا قد سألوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مصير الجبال

[ 78  ]

عند إنتهاء الدنيا، وربّما كان ذلك لأنّهم لم يكونوا يصدّقون إمكانية تصدّع وزوال هذه الجبال العظيمة التي إمتدّت جذورها في أعماق الأرض وشمخت رؤوسها إلى السّماء، وإذا كان بالإمكان قلعها من مكانها فأي هواء أو طوفان له مثل هذه القدرة؟ ولذلك يقول: (ويسألونك عن الجبال) والجواب: (فقل ينسفها ربّي نسفاً)(1).

يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة:

فهي ترجف وتهتزّ أوّلا: (يوم ترجف الأرض والجبال)(2).

ثمّ تتحرّك: (وتسير الجبال سيراً)(3).

وفي المرحلة الثّالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل: (وكانت الجبال كثيباً مهيلا)(4)

وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)(5)

ثمّ تقول الآية: إنّ الله سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض (فيذرها قاعاً صفصفاً(6) لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً)(7) وفي ذلك الحين

___________________________

1 ـ «نسف» في اللغة تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها، ثمّ تناثرها في الهواء.

2 ـ سورة المزمل، 14.

3 ـ سورة الطور، 10.

4 ـ سورة المزمل، 14.

5 ـ سورة القارعة، 5.

6 ـ «القاع»: الأرض المستوية، وفسّره البعض بأنّه المكان الذي يجتمع فيه الماء. وأمّا «الصفصف» فقد فسّرت أحياناً بأنّها الأرض الخالية من كلّ أنواع النباتات، وأحياناً بمعنى الأرض المستوية. ويستفاد من مجموع هذين الوصفين أنّ كلّ الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.

7 ـ «العوج» بمعنى الإعوجاج، و «الأمت» أي الأرض المرتفعة والربية، وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أي إرتفاع وإنخفاض على وجه الأرض.

[ 79  ]

يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والإجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه (يوم يتّبعون الداعي لا عوج له).

هل إنّ هذا الداعي (إسرافيل) أم ملك آخر من ملائكة الله المقرّبين؟ القرآن لم يشخّص ويحدّد ذلك بدقة، وكائناً من كان فإنّ أمره نافذ لا يقدر أي أحد على التخلّف عنه.

وجملة «لا عوج» أيمكن أن تكون وصفاً لدعوة هذا الداعي، أو وصفاً لاتّباع المدعوين، أو لكليهما. وممّا يلفت النظر أنّه كما أنّ سطح الأرض يصبح صافياً ومستوياً بحيث لا يبقى فيه أي إعوجاج، فإنّ أمر الله والداعي أيضاً كلّ منهما صاف ومستقيم جلي، واتّباعه واضح لا سبيل لأي إنحراف وإعوجاج إليه.

عند ذلك: (وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاّ همساً)(1). إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة الإلهيّة على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع، أو خوفاً من الحساب ونتيجة الأعمال، أو لكليهما.

وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم، فإنّه يضيف مباشرةً: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست إعتباطية وعشوائية، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها، سواء ما يتعلّق بالشافعين أو المشفوع لهم، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والإستحقاق للشفاعة، فلا معنى حينئذ لها.

والحقيقة هي أنّ جماعة ينظرون إلى الشفاعة بمنظار خاطىء، فهم يتصورون أنّها لا تختلف عن أساليب الدنيا ومراوغاتها، في حين أنّ الشفاعة في منطق الإسلام مرحلة تربوية متقدّمة، وعامل مساعد لهؤلاء الذين يطوون طريق الحقّ

___________________________

1 ـ «الهمس» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ يعني الصوت الخفي والمنخفض. وفسّره بعضهم بأنّه الصوت الخفي للقدم الحافية، والبعض بحركة الشفاه من دون أن يسمع معها صوت، ولا يوجد تفاوت كبير بين هذه المعاني.

[ 80  ]

بجدّ وسعي إلاّ أنّهم يبتلون أحياناً بالنقائص والزلاّت، ولعلّ من الممكن أن يعلو غبار اليأس والقنوط قلوبهم نتيجة هذه الزلاّت والهفوات، هنا تأتي إليهم الشفاعة كقوّة محرّكة وتقول: لا تيأسوا، واستمروا في طريقكم، ولا تكفوا أيديكم عن السعي والإجتهاد في هذا المسير، وإذا ما بدر منكم زلل وهفوات فإنّ هناك شفعاء سيشفعون لكم عند الله الرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء فيأذن لهم بالشفاعة.

إنّ الشفاعة ليست دعوة للتقاعس، أو الفرار من تحمّل المسؤولية، أو أنّها ضوء أخضر لإرتكاب المعاصي، بل هي دعوة إلى الإستقامة في طريق الحقّ، وإجتناب الذنوب قدر الإمكان.

ومع أنّنا قد أوردنا بحث الشفاعة بصورة مفصّلة في ذيل الآية (47 ـ 48) من سورة البقرة، وفي ذيل الآية (255) من سورة البقرة، لكن لا بأس من أن نضيف هنا قصّة جميلة:

فقد روى العالم الربّاني المرحوم «ياسري» ـ أحد علماء طهران المحترمين ـ أنّ شاعراً يسمّى «حاجباً» كان قد اُبتلي بأفكار العوام في مسألة الشفاعة، فنظّم شعراً قال فيه:

ياحاجب إن كانت معاملتك مع علي في المحشر، فأنا ضامن لك النجاة واعمل ما شئت من الذنوب.

فرأى أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) في المنام، وكان مغضباً، وقال له: لم تحسن قول الشعر، فقال: فماذا أقول؟ فقال: أصلح شعرك وقل: ياحاجب: إن كانت معاملتك مع علي في المحشر فاستح منه وقلّل من ذنوبك ومعاصيك.

ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابدّ معه من علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم، فإنّ الآية التالية تضيف: (يعلم ما

[ 81  ]

بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً)(1) فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا، وهو مطّلع على كلّ أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزء في المستقبل، إلاّ أنّهم لا يحيطون بعلم الله. وبهذا فإنّ إحاطة علم الله سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التامّ العادل، وهو أن يكون القاضي عالماً ومطّلعاً تماماً على الحوادث التي وقعت، وكذلك يعلم بحكمها وجزائها.

في ذلك اليوم: (وعنت الوجوه للحي القيّوم).

«العنت» من مادة العنوة، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلّة، ولذلك يقال للأسير: «عاني»، لأنّه خاضع وذليل في يد الآسر. وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا، فلأنّ كلّ الإحساسات النفسية، ومن جملتها الخضوع، تظهر آثارها أوّلا على وجه الإنسان.

وإحتمل بعض المفسّرين أنّ الوجوه هنا تعني الرؤساء والزعماء وأولياء الاُمور الذين يقفون في ذلك اليوم أذلاّء خاضعين لله. إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أقرب وأنسب.

إنّ إنتخاب صفتي «الحي والقيّوم» هنا من بين صفات الله سبحانه، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعاً من قبورهم «يوم القيامة».

وتختتم الآية بالقول: (وقد خاب من حمل ظلماً) فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم الله الخالدة، وإنّ الظالمين ـ سواء منهم من ظلم نفسه أو ظلم الآخرين ـ لما يرون بأعينهم في ذلك اليوم خفيفي الأحمال يهرعون إلى الجنّة، وهم قد جثوا حول جهنّم ينظرون

___________________________

1 ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ ضمائر الجمع في الجملة الأُولى تعود إلى الشافعين. وإحتمل البعض أيضاً أنّ الضمير في (به) يعود إلى أعمال المجرمين ونتائجها، ولكن ما ذكرناه أعلاه هو الأصحّ كما يبدو. دقّقوا ذلك.

[ 82  ]

إلى أهل الجنّة يتملّكهم اليأس والخيبة والحسرة.

ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)(1).

التعبير بـ(من الصالحات) إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كلّ الصالحات فليقوموا ببعضها، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة، كما أنّ العمل الصالح بدون إيمان كالشجرة من دون جذر، إذ قد تبقى عدّة أيّام لكنّها تجفّ آخر الأمر، ولذلك ورد قيد (وهو مؤمن) بعد ذكر العمل الصالح في الآية.

قاعدة: لا يمكن أن يوجد العمل الصالح بدون إيمان، ولو قام بعض الأفراد غير المؤمنين ـ أحياناً ـ بأعمال صالحة، فلا شكّ أنّها ستكون ضئيلة ومحدودة وإستثنائية، وبتعبير آخر: فإنّ العمل الصالح من أجل أن يستمر ويتأصّل ويتعمّق يجب أن يروى من عقيدة سالمة وإعتقاد صحيح.

* * *

بحثان

1 ـ الفرق بين الظلم والهضم

قرأنا في الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث أنّ المؤمنين الصالحين لا يخافون ظلماً ولا هضماً، وقال بعض المفسّرين: إنّ «الظلم» إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يخافون مطلقاً من أن يظلموا في تلك المحكمة العادلة ويؤاخذوا على ذنوب لم

___________________________

1 ـ «الهضم» في اللغة بمعنى النقص، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن: هضم، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهراً وتبقى فضلاته.

[ 83  ]

يرتكبوها و «الهضم» إشارة إلى أنّهم لا يخافون ـ أيضاً ـ نقصان ثوابهم، لأنّهم يعلمون أنّ ما يستحقّونه من الثواب يصل إليهم دون زيادة أو نقصان.

وإحتمل بعضهم أنّ الأوّل يعني أنّهم لا يخافون من محو حسناتهم، والثّاني إشارة إلى أنّهم لا يخافون نقصان حتّى مقدار قليل منها، لأنّ الحساب الإلهي دقيق جدّاً.

ويحتمل أيضاً أنّ للمؤمنين الصالحين زلاّت وهفوات أيضاً، وأنّ الكاتبين  لا يكتبون أكثر ممّا صدر منهم، ولا ينقصون شيئاً من ثواب أعمالهم الصالحة.

إنّ التفاسير المتقدّمة لا تتقاطع فيما بينها، ويمكن أن تكون الجملة آنفة الذكر إشارة إلى كلّ هذه المعاني أيضاً.

2 ـ مراحل القيامة

وردت الإشارة في الآيات ـ محلّ البحث ـ إلى سلسلة من الحوادث التي تقع عند حلول القيامة وبعدها:

1 ـ رجوع الأموات إلى الحياة: (يوم ينفخ في الصور).

2 ـ جميع المجرمين وحشرهم: (نحشر المجرمين).

3 ـ تلاشي جبال الأرض، ثمّ تبعثرها في كلّ مكان، وإستواء سطح الأرض تماماً: (ينسفها ربّي نسفاً).

4 ـ إستماع الجميع لدعوة داعي الله، وإنقطاع جميع الأصوات: (يومئذ يتّبعون الداعي ...).

5 ـ عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن الله: (يومئذ لا تنفع  الشفاعة ...).

6 ـ إعداد الله تعالى جميع خلقه للحساب بعلمه المطلق غير المتناهي (يعلم

[ 84  ]

ما بين أيديهم ...).

7 ـ خضوع الجميع في مقابل حكمه: (وعنت الوجوه للحي القيّوم ...).

8 ـ يأس الظالمين: (وقد خاب من حمل ظلماً).

9 ـ رجاء المؤمنين لطف الله ورحمته: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن...).

* * *

[ 85  ]

الآيتان

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَـهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً(113) فَتَعَـلَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ  وَلاَ  تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً(114)

التّفسير

قل: (ربّ زدني علماً)

الآيات محلّ البحث ـ في الواقع ـ إشارة إلى مجموع ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل التربوية المرتبطة بالقيامة والوعد والوعيد، فتقول: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلّهم يتّقون أو يحدث لهم ذكراً).

التعبير بـ (كذلك) إشارة إلى المطالب التي بيّنت قبل هذه الآية، وهذا يشبه تماماً أن يذكر إنسان لآخر اُموراً من شأنها التوعية والعبرة، ثمّ يضيف: هكذا ينبغي التذكير والوعظ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التفاسير التي ذكرت والبعيدة هنا عن معنى الآية).

[ 86  ]

كلمة «عربي» وإن كانت بمعنى اللغة العربية، إلاّ أنّها هنا إشارة إلى فصاحة القرآن وبلاغته وسرعة إيصاله للمفهوم والمراد من جهتين:

الأُولى: إنّ اللغة العربية ـ بشهادة علماء اللغة في العالم ـ واحدة من أبلغ لغات العالم، وأدبها من أقوى الآداب.

والثّانية: إنّ جملة (صرفنا) أحياناً تشير إلى التعبيرات القرآنية المختلفة حول حادثة واحدة، فمثلا نراه يبيّن مسألة الوعيد وعقاب المجرمين من خلال ذكر قصص الاُمم السابقة وحوادثها تارةً، وتارةً أُخرى على هيئة خطاب موجّه للحاضرين، وثالثة بتجسيد حالهم في مشهد القيامة، وهكذا.

إنّ إختلاف جملة (لعلّهم يتّقون) مع جملة (يحدث لهم ذكراً) قد يكون من جهة أنّ الجملة الأُولى تقول: إنّ الهدف هو إيجاد وغرس التقوى بصورة كاملة. وفي الجملة الثّانية: إنّ الهدف هو أنّ التقوى وإن لم تحصل كاملة، فليحصل على الأقل الوعي والعلم فعلا، ثمّ تكون في المستقبل مصدراً وينبوعاً للحركة نحو الكمال.

ويحتمل أيضاً أن تكون الجملة الأُولى إشارة إلى إيجاد وتحقيق التقوى بالنسبة لغير المتّقين، والثّانية إلى التذكّر والتذكير بالنسبة للمتقين، كما نقرأ في الآية (2) من سورة الأنفال: (إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً).

في الآية آنفة الذكر إشارة إلى أصلين مهمّين من اُصول التعليم والتربية المؤثّرة:

أحدهما: مسألة الصراحة في البيان، وكون العبارات بليغة واضحة تستقرّ في القلب.

والآخر: بيان المطالب بأساليب متنوعة، لئلاّ تكون سبباً للتكرار والملل، ولتنفذ إلى القلوب.

أمّا الآية التّالية فتضيف قائلة: (فتعالى الله الملك الحقّ) ومن المحتمل أن

[ 87  ]

يكون ذكر كلمة «الحقّ» بعد كلمة «المَلِك»، هو أنّ الناس ينظرون إلى الملك بمنظار سيء وتتداعى في أذهانهم صور الظلم والطغيان والجور والإستعلاء والتجبّر التي تكون في الملوك غالباً، ولذا فإنّ الآية تصف الله الملك سبحانه مباشرةً بـ «الحقّ».

وبما أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعجّل في إبلاغ الوحي وما ينزل به من القرآن لإهتمامه به وتعشّقه أن يحفظه المسلمون ويستظهروه، ولم يتمهّل أن يتمّ جبرئيل ما يلقيه عليه من الوحي فيبلغه عنه، فإنّ الآية محلّ البحث تذكّره بأنّ يتمهّل فتقول: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه وقل ربّي زدني علماً).

ويستشفّ من بعض آيات القرآن الاُخرى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تنتابه حالة نفسيّة خاصّة من الشوق عند نزول الوحي، فكانت سبباً في تعجّله كما في قوله تعالى: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به إنّ علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه)(1).

بحثان

1 ـ لا تعجل حتّى في تلقّي الوحي!

لقد تضمّنت الآيات الأخيرة دروساً تعليميّة، ومن جملتها النهي عن العجلة عند تلقّي الوحي، وكثيراً ما لوحظ بعض المستمعين يقفون كلام المتحدّث أو يكملونه قبل أن يتمّه هو، وهذا الأمر ناشىء عن قلّة الصبر أحياناً، أو ناشىء عن الغرور وإثبات وجود أيضاً، وقد يكون العشق والتعلّق الشديد بشيء يدفع الإنسان ـ أحياناً ـ إلى هذا العمل، وفي هذه الحالة ينبعث عن حافر مقدّس، غير أنّ هذا الفعل نفسه ـ أي العجلة ـ قد يُحدث مشاكل أحياناً، ولذلك فقد نهت الآيات

___________________________

1 ـ سورة القيامة، الآية 15 ـ 16 ـ 17.

[ 88  ]

آنفة الذكر عن العجلة حتّى ولو كان المراد أو الهدف من هذا الفعل صحيحاً، وأساساً لا تخلو الأعمال التي تنجز بإستعجال من العيب والنقص غالباً. ومن المسلّم به أنّ فعل النّبي لمّا كان عليه من مقام العصمة ـ كان مصوناً من الخطأ، إلاّ أنّه ينبغي عليه أن يكون في كلّ شيء مثلا وقدوة للناس، ليفهم الناس أنّه إذا كان الإستعجال في تلقّي الوحي غير محبّذ، فلا ينبغي الإستعجال في الاُمور الاُخرى من باب أولى أيضاً.

ولا ينبغي أن نخلط بين السرعة والعجلة طبعاً ـ فالسرعة تعني أنّ الخطّة قد نُظمت بدقّة كاملة، وحسبت جميع مسائلها، ثمّ تجري بنودها بدون فوات وقت. أمّا العجلة فتعني أنّ الخطّة لم تنضج تماماً بعد، وتحتاج إلى تحقيق وتدقيق، وعلى هذا فإنّ السرعة مطلوبة، والعجلة أمر غير مطلوب.

وقد ذكرت إحتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة، ومنها أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)كان لا يطيق تأخّر الوحي، فعلّمته الآية أن يتمهّل فإنّ الله ينزل عليه وحيه عند الإقتضاء والحاجة إليه.

وقال بعض المفسّرين: إنّ آيات القرآن نزلت على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة القدر دفعةً واحدة، ونزلت مرّة أُخرى بصورة تدريجيّة على مدى (23) سنة، ولذلك فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسبق جبرئيل عند النّزول التدريجي للآيات، فأمره القرآن أن لا تعجل في هذا الأمر، ودع الآيات تنزل نزولا تدريجيّاً كلّ في موقعها وزمانها.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب للصواب.

2 ـ اُطلب المزيد من العلم

لمّا كان النهي عن العجلة عند تلقّي الوحي موهماً النهي عن الإستزادة في طلب العلم، فقد عقّبت الآية بعد ذلك بالقول مباشرةً: (وقل ربّ زدني علماً) لتقف

[ 89  ]

أمام هذا التصوّر الخاطىء، أي أنّ العجلة ليست صحيحة، لكن من الضروري الجدّ والسعي من أجل الإرتواء من منهل العلم!

وقال بعض المفسّرين: إنّ الجملة الأُولى أمرت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألاّ يعجل في فهم كلّ جوانب الآيات قبل تبيينها في الآيات الاُخرى، وفي الجملة الثّانية صدر الأمر بأن يطلب من الله سبحانه علماً أكثر فيما يتعلّق بأبعاد آيات القرآن المختلفة.

وعلى كلّ حال، فإذا كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأموراً أن يطلب زيادة العلم من ربّه إلى آخر عمره مع غزارة علمه، وروحه المليئة وعياً وعلماً، فإنّ واجب الآخرين واضح جدّاً، وفي الحقيقة، فإنّ العلم من وجهة نظر الإسلام لا يعرف حدّاً، وزيادة الطلب في كثير من الاُمور مذمومة إلاّ في طلب العلم فانّها ممدوحة، والإفراط قبيح في كلّ شيء إلاّ في طلب العلم.

فالعلم ليس له حدّ مكاني، فيجب الإجتهاد لتحصيله ولو كان في الصين أو الثريا، وليس له حدّ زماني فهو يستمرّ من المهد إلى اللحد.

ولا يعرف حدّاً من جهة المعلّم، فإنّ الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها أخذها، وإذا ما سقطت جوهرة من فم ملوّث فاسق فإنّه يلتقطها.

ولا حدّ في الإسلام لمقدار السعي والإجتهاد، فهو يغوص في أعماق البحر ليكتسب العلم، وقد يضحّي بروحه في طريق تحصيل العلم. وعلى هذا فإنّ كلمة (خرّيج) أو (أنهى دراسته) لا معنى لها في منطق الإسلام، فإنّ المسلم الحقيقي  لا يعرف نهاية في تحصيله للعلوم، فهو دائماً طالب جامعي، وطالب علم، حتّى لو أصبح أكثر الأساتذة تفوّقاً وأفضلهم.

الطريف أنّنا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لأحد أصحابه: «إنّ لنا في كلّ جمعة سروراً» قال: قلت: وما ذاك؟ قال: «إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العرش، ووافى الأئمّة (عليهم السلام) ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا بأبداننا

[ 90  ]

إلاّ بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأنفذنا»(1).

وقد ورد هذا المضمون في روايات عديدة بعبارات مختلفة، وهو يوضّح أنّ النّبي والأئمّة يضاف ويزاد على علمهم إلى نهاية العالم: ونقرأ في رواية أُخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه»(2).

وكذلك نقرأ في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علماً، وأقلّ الناس قيمة أقلّهم علماً»(3). وهذا هو قدر العلم وقيمته في منظار التعليمات الإسلامية.

* * *

___________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص397.

2 ـ تفسير مجمع البيان، ونور الثقلين، والصافي في ذيل الآيات مورد البحث.

3 ـ سفينة البحار، الجزء2، ص219 (مادّة علم).

[ 91  ]

الآيات

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـئِكَةِ اسْجُدُوا لاِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى (116)فَقُلْنَا يَـآدَمُ إِنَّ هَـذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ  لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى(119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـنُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْك لاَ يَبْلَى (120) فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَـهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

التّفسير

آدم ومكر الشّيطان:

كان القسم الأهمّ من هذه السورة في بيان قصّة موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل، والمواجهة بينهم وبين فرعون وأنصاره، إلاّ أنّ هذه الآيات وما بعدها تتحدّث عن

[ 92  ]

قصّة آدم وحواء، وعداء ومحاربة إبليس لهما. وربّما كانت إشارة إلى أنّ الصراع بين الحقّ والباطل لا ينحصر بأمس واليوم، وموسى (عليه السلام) وفرعون، بل كان منذ بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.

وبالرغم من أنّ قصّة آدم وإبليس قد وردت مراراً في القرآن، إلاّ أنّها تمتزج في كلّ مورد بملاحظات ومسائل جديدة، وهنا تتحدّث أوّلا عن عهد الله إلى آدم فتقول: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً).

هناك عدّة آراء في ماهيّة العهد المذكور، فقال البعض: إنّه أمر الله بعدم الإقتراب من الشجرة الممنوعة، وهناك روايات متعدّدة تؤيّد هذا المعنى. في حين أنّ بعض المفسّرين إحتملوا إحتمالات أُخرى يمكن إعتبارها بمثابة الأغصان والأوراق لهذا المعنى، كإخطار الله لآدم بأنّ الشيطان عدوّ مبين له، ويجب أن  لا يتبعه.

وأمّا «النسيان» هنا فمن المسلم أنّه ليس بالمعنى المطلق، لأنّه لا معنى للعتاب والملامة في النسيان المطلق، بل إنّه إمّا بمعنى الترك كما نستعمل ذلك في مكالماتنا اليوميّة، فقد نقول لمن لم يف بعهده: أنسيت عهدك؟ أي إنّك كالناسي. أو أنّه بمعنى النسيان الذي يطرأ نتيجة قلّة الإنتباه وشرود الذهن.

والمراد من «العزم» هنا هو التصميم والإرادة القويّة الصلبة التي تحفظ الإنسان من الوقوع تحت تأثير وساوس الشيطان القويّة.

وعلى كلّ حال، فلا شكّ أنّ آدم لم يرتكب معصية، بل بدر منه ترك الأُولى، أو بتعبير آخر، فإنّ مرحلة وجود آدم في الجنّة لم تكن مرحلة تكليف، بل كانت مرحلة تجريبيّة للإستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبل المسؤولية، خاصةً وإن نهي الله هنا كان نهياً إرشادياً، لأنّه قد أخبره بأنّه إن أكل من الشجرة الممنوعة فسيبتلى بالشقاء. وقد أوردنا تفصيل كلّ ذلك، وكذلك المراد من الشجرة الممنوعة وأمثال ذلك في ذيل الآيات 19 ـ 22 من سورة الأعراف.

[ 93  ]

ثمّ أشارت إلى جانب آخر من هذه القصّة، فقالت: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى) ومن هنا يتّضح مقام آدم العظيم، آدم الذي سجدت له الملائكة، وأبدت هذه المخلوقات العظيمة إحترامها إيّاه. كما أنّ عداوة إبليس تجلّت له ضمناً من أوّل الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظمه.

لا شكّ أنّ السجدة لا تعني السجدة الخاصّة بعبادة الله، ولا أحد أو موجود يستحقّ أن يكون معبوداً من دون الله سبحانه، وبناءً على هذا فإنّ هذه السجدة كانت لله، غاية ما هناك أنّها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. أو أنّ السجدة هنا تعني الخضوع والتواضع.

على كلّ حال، فإنّ الله سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله (فقلنا ياآدم إنّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنّة فتشقى).

من الواضح أنّ الجنّة هنا لا يراد منها جنّة الخلود في العالم الآخر، والتي هي نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها، بل كانت بستاناً فيه كلّ شيء ممّا في بساتين هذه الدنيا، ولم يكن فيها نصب ولا غصّة بلطف الله، ولذلك فإنّ الله سبحانه قد أنذر آدم بأنّك إن خرجت من هذا النعيم فإنّك ستشقى. وكلمة «تشقى» من مادّة الشقاء، وأحد معانيها الألم والمشقّة.

سؤال: لماذا خاطب الله الإثنين معاً ـ أي آدم وحواء ـ في بداية الأمر فقال: (فلا يخرجنكما) إلاّ أنّه ذكر نتيجة الخروج بصيغة المفرد في شأن آدم فقط فقال: (فتشقى)؟

والجواب هو: إنّ هذا الإختلاف في التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ الآلام والأتعاب كانت تصيب آدم في الدرجة الأُولى، فإنّه كان مأموراً بتحمّل مسؤوليات زوجته أيضاً، وهكذا كانت مسؤولية الرجال من بداية الأمر. أو أنّ العهد لما كان من البداية على عاتق آدم، فإنّ النهاية أيضاً ترتبط به.

ثمّ يبيّن الله لآدم راحة الجنّة وهدوءها، وألم ومشقّة الخروج منها، فيقول:

[ 94  ]

(إنّ لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنّك لا تظمأ فيها ولا تضحى).

وهنا سؤال يوجّه للمفسّرين، وهو: لماذا إقترن ذكر الظمأ بضحى الشمس، والجوع بالعري، في حين أنّ المعتاد ذكر العطش مع الجوع؟

قيل في الجواب: إنّ بين العطش وأشعّة الشمس علاقة لا يمكن إنكارها. («تضحى» من مادّة «ضحى» أي إشراق الشمس من دون أن يحجبها حاجب من سحاب وأمثاله).

وأمّا الجمع بين الجوع والعري فقد يكون بسبب أنّ الجوع نوع من عراء الجوف وخلوّه من الغذاء! والأفضل أن يقال: إنّ هذين الوصفين ـ الجوع والعري ـ علامتان واضحتان للفقر تأتيان معاً عادةً.

وعلى كلّ حال، فقد اُشير في هاتين الآيتين إلى أربع إحتياجات أصلية وإبتدائية للإنسان، أي: الحاجة إلى الغذاء، والماء، واللباس ـ للحماية من حرارة الشمس ـ والمسكن، وكان تأمين هذه الحاجات نتيجة توفّر النعمة، وذكر هذه الاُمور في الواقع توضيح لما جاء في جملة «فتشقى».

لكن، ومع كلّ ذلك، فإنّ الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم، ولهذا لم يهدأ له بال: (فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك  لا يبلى).

«الوسوسة» في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّاً، ثمّ قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيّئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان، أو من خارجة.

إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أي شيء، فوجد أنّ رغبته في الحياة الخالدة والوصول إلى القدرة الأزليّة، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين وإستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر الله. وبتعبير آخر: فكما أنّ الله قد وعد آدم بأنّك إن تجنّبت الشيطان وخالفته فستحظى بالتنّعم في الجنّة دائماً، فإنّ

[ 95  ]

الشيطان قد وسوس إليه عن هذا الطريق «أي أنّه سيخلد في الجنّة أيضاً».

أجل .. إنّ الشياطين يبدؤون دائماً في بادية خططهم من نفس النقاط والطرق التي يبدأ منها المرشدون إلى طريق الحقّ، لكن لا تمرّ الأيّام حتّى يجروهم إلى هاوية الإنحراف، ويجعلون جاذبية طريق الحقّ وسيلة للوصول إلى المتاهات.

وأخيراً وقع المحذور، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة، فتساقط عنهما لباس الجنّة، فبدت أعضاؤهما: (فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما)(1) فلمّا رأى آدم وحواء ذلك إستحييا (وطفّقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة)(2). نعم، لقد كانت العاقبة المؤسفة (وعصى آدم ربّه فغوى).

«غوى» أُخذت من مادّة الغي، أي العمل الصبياني الناشىء من إعتقاد خاطىء، ولمّا كان آدم هنا قد أكل ـ جهلا وإشتباهاً ـ من الشجرة المحرّمة، نتيجة للظنّ الذي حصل له من قول الشيطان، فقد عُبّر عن عمله بـ(غوى).

وفسّره بعض المفسّرين بأنّه الجهل الناشىء عن الغفلة، والبعض فسّرها بالمحرومية، والبعض الآخر بالفساد في الحياة.

وعلى كلّ حال فإنّ «الغي» يقابل «الرشد»، والرشد هو أن يسلك الإنسان طريقاً يوصله إلى هدفه ومقصده، أمّا الغي فهو عدم الوصول إلى المقصود.

ولكن لمّا كان آدم نقيّاً ومؤمناً في ذاته، وكان يسير في طريق رضى الله سبحانه، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة إستثنائية، فإنّ الله سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد، بل (ثمّ إجتباه ربّه فتاب عليه وهدى).

___________________________

1 ـ «سوءات» جمع سوءة، وهي في الأصل كلّ شيء غير سار ويسيء الإنسان، ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميّت، وأحياناً على العورة، والمراد هنا هو المعنى الأخير.

2 ـ «يخصفان» من مادّة خصف، وهي هنا تعني خياطة اللباس.

[ 96  ]

هل إرتكب آدم معصية؟

مع أنّ العصيان يأتي في عرف اليوم ـ عادةً ـ بمعنى الذنب والمعصية، إلاّ أنّه في اللغة يعني الخروج عن الطاعة وعدم تنفيذ الأمر سواء كان الأمر واجباً أو مستحبّاً، وبناءً على هذا فإنّ إستعمال كلمة العصيان لا يعني بالضرورة ترك واجب أو إرتكاب محرّم، بل يمكن أن يكون ترك أمر مستحبّ أو إرتكاب مكروه.

إضافةً لما مرّ، فإنّ الأمر والنهي يكون إرشادياً، كأمر ونهي الطبيب حيث يأمر المريض أن يتناول الدواء الفلاني، وأن يجتنب الغذاء الفلاني غير المناسب،  ولا  شكّ أنّ المريض إذا خالف أمر الطبيب فإنّه لا يضرّ إلاّ نفسه، لأنّه لم يعبأ بإرشاد الطبيب ونصيحته. وكذلك كان الله قد أمر آدم أن لا تأكل من ثمرة الشجرة الممنوعة، فإنّك إن أكلت ستخرج من الجنّة، وستبتلى بالألم والمشقّة الكبيرة في الأرض، فخالف هذا الأمر الإرشادي، ورأى نتيجة مخالفته أيضاً. وإذا لاحظنا أنّ هذا الكلام كان في مرحلة وجود آدم في الجنّة، وهي مرحلة إختبار لا تكليف، فسيتّضح معناه بصورة أجلى.

وإضافة لما مرّ، فإنّ العصيان أو الذنب يكون أحياناً متّصفاً بالإطلاق، أي إنّه يُعدّ ذنباً من قبل مرتكبيه جميعاً وبدون إستثناء كالكذب والظلم وأكل المال الحرام، ويكون أحياناً نسبيّاً، أي العمل الذي إن بدر من شخص ما فقد لا يكون ذنباً، بل قد يعتبر أحياناً عملا مطلوباً ولائقاً لصدوره من مثله، أمّا إذا صدر من آخر فإنّه لا يناسبه نظراً إلى مكانته ومنزلته.

فمثلا: تطلب المساعدة من قبل بعض الناس لبناء مستشفى، فيعطى العامل أُجرة يوم من عمله والتي لا تتجاوز أحياناً أكثر من عدّة دراهم. إنّ هذا الفعل الصادر من مثل هذا الشخص يُعدّ إيثاراً وحسنةً وهو مطلوب تماماً، أمّا إذا أعطى رجل ثري هذا المقدار من المال مثلا فإنّه لا يناسبه ولا يليق به فحسب، بل سيكون موضع ملامة ومذمّة وتعنيف مع أنّه أساساً لم يرتكب حراماً، بل ساهم ولو

[ 97  ]

بمقدار يسير في عمل الخير والبرّ.

إنّ هذا هو ما نعبّر عنه بـ(حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين) وهو المعروف بترك الأُولى، ونحن نعبر عنه بالذنب النسبي الذي لا يعدّ ذنباً، ولا يخالف مقام العصمة.

وفي الأحاديث الإسلامية أيضاً أُطلقت المعصية على مخالفة المستحبّات، فنرى في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال في النوافل اليوميّة: «وإنّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض ... ولكنّها معصية، لأنّه يستحبّ إذا عمل الرجل عملا من الخير أن يدوم عليه»(1).

وقد بحثنا هذا الموضوع وسائر المسائل المرتبطة بآدم وخروجه من الجنّة في سورة الأعراف ذيل الآية 19 وما بعدها، وفي سورة البقرة ذيل الآية 30 ـ 38، ولا حاجة إلى التكرار.

* * *

___________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء3، ص404.

[ 98  ]

الآيات

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَاً بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَـتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)وَكَذَلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)

التّفسير

المعيشة الضنكا:

مع أنّ توبة آدم قد قبلت، إلاّ أنّ عمله أدّى إلى عدم إستطاعته الرجوع إلى الحالة الأُولى، ولذا فإنّ الله سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك الشيطان أن يهبطوا جميعاً من الجنّة: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو). إلاّ أنّي اُعلمكم بأنّ طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم (فإمّا يأتينكم منّي هدى

[ 99  ]

فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى).

ومن أجل أن يتّضح أيضاً مصير الذين ينسون أمر الحقّ، فقد أضاف تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى).

هنا (قال ربّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً)؟ فيسمع الجواب مباشرةً: (قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) وتعمى عينك عن رؤية نعم الله ومقام قربه.

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث فهي بمثابة الإستنتاج والخلاصة إذ تقول: (وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربّه ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى).

* * *

بحوث

1 ـ الغفلة عن ذكر الحقّ وآثارها

قد توصد أحياناً كلّ أبواب الحياة بوجه الإنسان، فكلّما أقدم على عمل يجد الأبواب المغلقة، وقد تنعكس الصورة فأينما اتّجه يرى الأبواب مفتّحة في وجهه، وقد تهيأت له مقدّمات العمل، ولا يواجه عقبات في طريقه، فيعبّر عن هذه الحالة بسعة العيش ورغده، وعن الأُولى بضيق المعيشة وشظفها، والمراد من قوله تعالى: (معيشةً ضنكاً)(1) الوارد في الآيات محلّ البحث هو هذا المعنى أيضاً.

وقد يكون ضيق العيش ناتجاً أحياناً من قلّة المورد، وقد يكون المرء كثير المال موفور الثراء. إلاّ أنّ البخل والحرص والطمع يضيق عليه معاشه، فلا يميل إلى فتح باب داره للآخرين لمشاركته نعيمه، بل ولا يميل إلى الإنفاق على نفسه أيضاً، وعلى قول الإمام علي (عليه السلام): «يعيش عيش الفقراء ويحاسب حساب

___________________________

1 ـ الضنك: المشقّة والضيق، وهذه الكلمة تأتي دائماً بصيغة المفرد، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

[ 100  ]

الأغنياء».

حقّاً، لماذا يبتلى الإنسان بهذه الضائقات؟

القرآن يقول: إنّ العامل الأساس هو الإعراض عن ذكر الله، فإنّ ذكر الله يبعث على إطمئنان الروح والتقوى والشهامة، ونسيانه مبعث الإضطراب والخوف والقلق.

عندما ينسى الإنسان مسؤولياته بعد أن ينسى ذكر الله، فإنّه سيغرق في خضمّ الشهوات والحرص والطمع، ومن الوضوح بمكان أنّ نصيبه سيكون المعيشة الضنك، فلا قناعة تملأ عينه، ولا إهتمام بالمعنويات تغني روحه، ولا أخلاق تمنعه أمام طغيان الشهوات.

وأساساً فانّ ضيق الحياة ينشأ في الغالب من النقائص المعنوية وإنعدام الغنى الروحي .. ينشأ من عدم الإطمئنان إلى المستقبل، والخوف من نفاد الإمكانيات الموجودة، والعلاقة المفرطة بعالم المادّة، بينما نجد أنّ الإنسان الذي يؤمن بالله، وتعلّق قلبه بذاته المقدّسة، يعيش بعيداً عن كلّ هذه الإضطرابات، وفي مأمن منها.

إلى هنا كان الكلام عن الفرد، وعندما نأتي إلى المجتمعات التي أعرضت عن ذكر الله، فإنّ المسألة ستكون أشدّ رعباً وخطراً، فإنّ المجتمعات البشرية على رغم تقدّمها الصناعي المذهل، وبالرغم من توفّر كلّ وسائل الحياة، فهي تعيش في حالة إضطراب وقلق شديد، ومبتلاة بضائقات عجيبة وترى نفسها سجينة.

فكلّ فرد يخاف من الآخرين، ولا يعتمد أحد على الآخر، والروابط والعلاقات تتمحور حول محور المصالح الشخصيّة، وسبّاق التسلح ـ نتيجة الخوف من الحرب ـ يلتهم ويستهلك أغلب إمكانياتهم الإقتصادية.

السجون مليئة بالمجرمين، وتقع في كلّ ساعة ودقيقة ـ وطبقاً للإحصاءات الرسميّة ـ حوادث قتل وجرائم مرعبة .. التلوّث بالفحشاء، والإدمان على المواد المخدّرة قد إستعبد هؤلاء، ولا يوجد في عوائلهم نَسمة حبّ، ولا إرتباط عاطفي

[ 101  ]

يبعث على النشاط .. أجل هذه هي حياتهم القاسية، ومعيشتهم الضنك.

لقد إعترف ريتشارد نيكسون الريئس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية ـ بلد الشيطان الأكبر ـ بهذا الواقع في خطابه الرئاسي الأوّل إذ قال: (إنّنا نرى حولنا دائماً حياة جوفاء، ونحن نأمل أن نرضى، ولكنّنا لا نرضى)!

رجل آخر من رجال المعروفين كانت مهمّته إيجاد السرور والفرح في المجتمع، يقول: إنّي أرى الإنسانية تعدو في زقاق مظلم لا شيء في نهايته إلاّ القلق المطلق.

ومن الطريف أن نقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّه سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن المراد من الآية: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً)؟ قال: «يعني [الإعراض عن] ولاية أمير المؤمنين»(1).

أجل .. فإنّ الذي يستلهم العبرة من حياة علي (عليه السلام)، ذلك الرجل العظيم الذي كانت الدنيا في نظره لا تساوي عفطة عنز، والذي إنقطع إلى الله حتّى صغرت الدنيا في عينه إلى هذا الحدّ، فمن يكن كذلك فستكون حياته في سعة ورفاه، أمّا اُولئك الذين ينسون المُثُل والقدوة فإنّهم في ضنك العيش في كلّ الأحوال.

وقد فُسّر الإعراض عن ذكر الله ـ في الآية ـ بترك الحجّ من قِبَل القادرين عليه، وذلك لأنّ مراسم الحج تهزّ الإنسان، وتوجد إرتباطاً وعلاقة جديدة بين الإنسان وربّه بحيث يكون هذا الإرتباط هو مفتاح حياته، في حين أنّ عكس هذا الأمر يؤدّي إلى الإرتباط الشديد بالماديات التي هي أساس المعيشة الضنكا.

2 ـ عمى البَصَر وعَمى البصيرة!

لقد حُدّدت عقوبتان لاُولئك الذين يعرضون عن ذكر الله: إحداهما: المعيشة

___________________________

1 ـ نور الثقلين، الجزء3، ص405.

[ 102  ]

الضنك في هذه الدنيا، والتي اُشير إليها في الملاحظة السابقة، والاُخرى: العمى في الآخرة.

وقلنا مراراً: إنّ عالم الآخرة هو تجسّم أوسع لعالم الدنيا، وكلّ حقائق هذا العالم تتجسّد هناك بما يناسبها هنا، فاُولئك الذين عميت بصيرتهم عن مشاهدة الحقائق في هذه الدنيا، ستعمى هناك عيون أجسامهم، ولذلك فإنّهم حين يتساءلون بأنّا كنّا قبل هذا صحيحي البصر، فلماذا حشرنا عمياً؟ يقال لهم: لأنّكم قد نسيتم أيات الله، وهذه الحالة إنعكاس لتلك الحالة.

وهنا ينقدح سؤال، وهو: إنّ ظاهر بعض الآيات القرآنية هو أنّ كلّ الناس يبصرون في يوم القيامة، ويقال لهم: اقرؤوا صحيفة أعمالكم (اقرأ كتابك ...)(1)، أو أنّ المجرمين يرون نار جهنّم بأعينهم: (ورأى المجرمون النّار ...)(2)، فكيف تناسب هذه التعبيرات كون جماعة عمياً؟

قال بعض المفسّرين إنّ حال ذلك العالم تختلف عن حال هذا العالم، فربّما كان بعض الأفراد مبصرين في مشاهدة بعض الاُمور، وعمياناً عن مشاهدة البعض الآخر، وعلى ما ينقل العلاّمة الطبرسي عن بعض المفسّرين: إنّه أعمى عن جهات الخير لا يهتدى لشيء منها، لأنّ نظام ذلك العالم يختلف عن نظام هذا العالم.

ويحتمل أيضاً أن يكون هؤلاء في بعض المنازل والمواقف عمياً، وفي بعضها مبصرين.

ثمّ إنّ المراد من نسيان المجرمين في العالم الآخر ليس هو نسيان الله سبحانه لهم، بل من الواضح أنّ المراد معاملة هؤلاء معاملة الناسي، كما نستعمل ذلك في محاوراتنا اليوميّة، فإذا لم يهتمّ شخص بآخر، فإنّ الثّاني يقول له: لماذا نسيتني؟

___________________________

1 ـ الإسراء، 14.

2 ـ الكهف، 53.

[ 103  ]

3 ـ الإسراف في المعصية

ممّا يلفت النظر أنّه قد ذكرت في الآيات ـ محلّ البحث ـ هذه العقوبات المؤلمة للأفراد الذين يسرفون ولا يؤمنون بآيات الله.

إنّ التعبير بـ«الإسراف» هنا قد يكون إشارة إلى أنّهم قد إستعملوا تلك النعم والعطايا الإلهيّة، كالعين والاُذن والعقل، في طرق الشرّ، وليس الإسراف إلاّ أن يتلف الإنسان هذه النعم من غير هدف.

أو أن يكون إشارة إلى أنّ المذنبين قسمان: قسم لهم ذنوب محدودة، وفي قلوبهم خوف الله، أي أنّهم لم يقطعوا إرتباطهم وصلتهم بالله تماماً، فإذا  ما ظلموا ـ على سبيل الفرض ـ يتيماً أو ضريراً فإنّهم لا يستبيحون ذلك العمل، بل يعدّون أنفسهم مقصّرين أمام الله. ولا شكّ أنّ مثل هذا الفرد عاص يستحقّ العقاب، إلاّ أنّ بينه وبين من يقترف الذنوب بلا حساب ـ ولا يعتبر ذلك ذنباً، ولا يعترف بمعيار للذنب وعدمه، بل ويفتخر أحياناً بإرتكابه المعاصي، أو يحتقر الذنب ويستصغره ـ فرقاً شاسعاً، لأنّ القسم الأوّل يمكن أن يتوبوا في النهاية ويجبروا ما صدر عنهم من ذنوب، أمّا اُولئك الذين يسرفون في الذنوب فلا توبة لهم.

4 ـ ما هو الهبوط؟

«الهبوط» في اللغة بمعنى النّزول الإجباري، كسقوط الصخرة من مرتفع ما، وعندما تستعمل في حقّ الإنسان فإنّها تعني الإبعاد والإنزال عقاباً له.

وبملاحظة أنّ أدم قد خُلق للحياة على وجه الأرض، وكانت الجنّة أيضاً بقعة خضراء وفيرة النعمة من هذا العالم، فإنّ هبوط ونزول آدم هنا يعني النّزول المقامي لا المكاني، أي إنّ الله سبحانه قد نزّل مقامه لتركه الأُولى، وحرمه من كلّ نعم الجنّة تلك، وإبتلاه بمصائب هذه الدنيا ومتاعبها.

وممّا يستحقّ الإلتفات أنّ المخاطب هنا قد ذكر بصيغة المثنّى (اهبطا) أي

[ 104  ]

اهبطا كلاكما، ومن الممكن أن يكون المراد آدم وحواء، وإذا كان المخاطب قد ورد بصيغة الجمع (اهبطوا) في بعض آيات القرآن الاُخرى، فلأنّ الشيطان قد اُشرك معهما في الخطاب، لأنّه هو الآخر قد طُرد من الجنّة.

ويحتمل أيضاً أن يكون المخاطب آدم والشيطان، لأنّ الجملة التي تلي هذه الجملة تقول: (بعضكم لبعض عدو).

وقال بعض المفسّرين: إنّ المراد من جملة (بعضكم لبعض عدو) والتي ورد الخطاب فيها بصيغة الجمع، هو تولّد العداوة بين أدم وحواء من جهة، وبين الشيطان من جهة أُخرى، وتولّد العداوة بين آدم وأولاده من جهة والشيطان وذريته من جانب آخر.

وعلى كلّ حال، فإنّ المخاطب في جملة: (إمّا يأتينكم منّي هدى) هم أولاد آدم وحواء حتماً، لأنّ هداية الله مختصة بهم، أمّا الشيطان وذريته الذين أعرضوا عن منهج الهداية الإلهيّة، فإنّ الخطاب لا يشملهم.

* * *

[ 105  ]

الآيات

أَفَلَمْ يَهْدِ لَـهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَـكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَت لاُِّوْلِى النُّهَى (128) وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمّىً (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَاى الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)

التّفسير

اعتبروا بتاريخ الماضين:

لمّا كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين، فقد أشارت الآيات الأُولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيراً، وهو مطالعة تأريخ الماضين، فتقول: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)(1) اُولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم (يمشون في مساكنهم).

___________________________

1 ـ كما قلنا سابقاً، فإنّ «قرون» جمع قرن، تعني الناس الذين يعيشون في عصر ما، ويقال أحياناً لنفس ذلك الزمان: قرن. وهي من مادّة المقارنة.

[ 106  ]

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد ـ في أسفارهم إلى اليمن ـ وعلى مساكن ثمود المتهدّمة الخربة ـ في سفرهم إلى الشام ـ وعلى منازل قوم لوط التي جُعل عاليها سافلها ـ في سفرهم إلى فلسطين ـ ويرون آثارهم، إلاّ أنّهم لا يعتبرون، فإنّ الخرائب والأطلال تتكلّم بلسان الحال وتخبر عن قصص السابقين وتحذّر أبناء اليوم وأبناء الغد وتُعوِلُ صارخة أنّ هذه عاقبة الظلم والكفر والفساد.

نعم .. (إنّ في ذلك لآيات لاُولي النهى)(1).

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الاُمور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيراً، وهو حقّاً مَعْلَمٌ مُذكّر منبّه، فما أكثر اُولئك الأشخاص الذين لا يتأثّرون بأيّة موعظة، ولا يعتبرون بها، إلاّ أنّ رؤية مشاهد من آثار الماضين المعبّرة تهزّهم، وكثيراً ما تغيّر مسير حياتهم.

ونقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال»(2) ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية في الحقيقة جواب عن سؤال يُثار هنا، وهو: لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين، فيقول القرآن: (ولولا كلمة سبقت من ربّك لكان لزاماً وأجل مسمّى).

إنّ هذه السنّة الإلهيّة التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حريّة البشر، لأنّ كلّ مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريباً، وسيكون على الأغلب خوفاً من العقاب الآني، وبناءً على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

___________________________

1 ـ «النهى» من مادّة نهي، وهي هنا بمعنى العقل، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

2 ـ سفينة البحار ـ مادّة عبر ـ الجزء2 ص146.

[ 107  ]

إضافةً إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فوراً، فسوف لا يبقى أحد حيّاً على وجه الأرض: (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة)(1). وبناءً على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكلّ المرتبطين بطريق الحقّ حتّى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير بـ (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن، إشارةً إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان(2).

وعلى كلّ حال، فإنّ الظالمين الذين لا إيمان لهم والمجرمين يجب أن  لا يغترّوا بتأخير العذاب الإلهي، وأن لا يغفلوا عن هذه الحقيقة، وهي أنّ لطف الله وسنّته في الحياة، وقانون التكامل هذا، هو الذي يفسح المجال لهؤلاء.

ثمّ يوجّه الخطاب إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول: (فاصبر على ما يقولون) ومن أجل رفع معنويات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية قلبه، وتسلية خاطره، فإنّه يُؤمر بمناجاة الله والصلاة والتسبيح فيقول: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار لعلّك ترضى) ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شكّ أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيّئة، وكلامهم الخشن. إلاّ أنّ هناك بحثاً بين المفسّرين في أنّ المقصود من الحمد والتسبيح هل الحمد والتسبيح المطلق، أم أنّه إشارة إلى خصوص الصلوات الخمس اليوميّة؟ فجماعة يعتقدون بأنّه يجب أن يبقى ظاهر العبارات على معناه الواسع، ومن ذلك يستفاد أنّ المراد هو التسبيح

___________________________

1 ـ النحل، 61.

2 ـ لمزيد الإيضاح راجع البحث المفصّل الذي ذكرناه في ذيل الآية (1 و2) من سورة الأنعام. ونذكر في الضمن أنّ جملة (أجل مسمّى) من ناحية التركيب النحوي عطف على (كلمة).

[ 108  ]

والحمد المطلق.

في حين أنّ جماعة أُخرى ترى أنّه إشارة إلى الصلوات الخمس، وهي على النحو التالي.

(قبل طلوع الشمس) وهي إشارة إلى صلاة الصبح.

(وقبل غروبها) وهي إشارة إلى صلاة العصر، أو أنّها إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر، واللتان يمتدّ وقتهما إلى الغروب.

(ومن آناء الليل) وهي إشارة إلى صلاتي المغرب والعشاء، وكذلك صلاة الليل.

أمّا التعبير بـ(أطراف النهار) فهو إمّا إشارة إلى صلاة الظهر، لأنّ أطراف جمع طرف، وهو يعني الجانب، وإذا قسّمنا اليوم نصفين، فإنّ صلاة الظهر ستكون في أحد طرفي النصف الثّاني.

ويستفاد من بعض الرّوايات ـ أيضاً ـ أنّ (أطراف النهار) إشارة إلى الصلوات المستحبّة التي يستطيع الإنسان أو يؤدّيها في الأوقات المختلفة، لأنّ أطراف النهار هنا قد وقعت في مقابل آناء الليل، وهي تتضمّن كلّ ساعات اليوم. وخاصةً أنّنا إذا لاحظنا أنّ كلمة أطراف قد وردت بصيغة الجمع، في حين أنّ لليوم طرفين لا أكثر، فسيتّضح أنّ للأطراف معنى واسعاً يشمل ساعات اليوم المختلفة.

وهناك إحتمال ثالث أيضاً، وهو أنّه إشارة إلى الأذكار الخاصّة التي وردت في الرّوايات الإسلامية في هذه الساعات المخصوصة، فمثلا نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية محل البحث أنّه قال: «فريضة على كلّ مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرّات وقبل غروبها عشر مرّات: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير».

[ 109  ]

إلاّ أنّ هذه التفاسير لا منافاة بينها على كلّ حال، ويمكن أن تكون الآية إشارة إلى التسبيحات، وإلى الصلوات الواجبة والمستحبّة في الليل والنهار، وبهذا فسوف لا يكون هناك تضادّ بين الرّوايات الواصلة في هذا الباب، لأنّ الجملة فسّرت في بعض الرّوايات بالأذكار الخاصّة، وفي بعضها بالصلاة.

والجدير بالذكر أنّ جملة «لعلّك ترضى» في الحقيقة نتيجة حمد الله وتسبيحه، والصبر والتحمّل في مقابل قول اُولئك، لأنّ هذا الحمد والتسبيح وصلوات الليل والنهار تحكم الرابطة بين الإنسان وربّه إلى درجة لا يفكّر فيها بأي شيء سواه، فلا يخاف من الحوادث الصعبة، ولا يخشى عدوّاً باعتماده على هذا السند والعماد القوي، وبهذا سيملأ الهدوء والإطمئنان وجوده.

ولعلّ التعبير بـ(لعلّ) إشارة إلى ذلك المطلب الذي قلناه فيما مضى في تفسير هذه الكلمة، وهو أنّ (لعلّ) عادةً إشارة إلى الشروط التي تكون لازمة لتحصيل النتيجة، فمثلا لكي تكون الصلاة وذكر الله سبباً لحصول الإطمئنان، يجب أن تقام مع حضور القلب وآدابها الكاملة.

ثمّ إنّ المخاطب في هذه الآية وإن كان النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا الحكم يتّصف بالعموم.

* * *

[ 110  ]

الآيات

وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى ما مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَـقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132) وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِيَنا بِآيَة مِّن رَّبِّهِ أَوَ لَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاُْولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَـهُم بِعَذَاب مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَـبُ الصِّرَطِ السَّوِىِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

التّفسير

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين، وهي تتمّة للبحث الذي قرأناه آنفاً حول الصبر والتحمّل.

[ 111  ]

فتقول أوّلا: (ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم) فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلاّ (زهرة الحياة الدنيا)، تلك الأزهار التي تُقطع بسرعة وتذبل وتتناثر على الأرض، ولا تبقى إلاّ أيّاماً معدودات.

في الوقت الذي أمددناهم بها (لنفتنهم فيه ورزق ربّك خير وأبقى) فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة، فأعطاك الإيمان والإسلام، والقرآن والآيات الإلهيّة والرزق الحلال الطاهر، وأخيراً نعم الآخرة الخالدة، هذه الهبات والعطايا المستمرّة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقوية لروحه: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسمو الروح ودوام ذكر الله.

لا شكّ أنّ ظاهر (أهلك) هنا هو اُسرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة عامّة، إلاّ أنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياً(عليهما السلام)) وربّما شملت بعضاً من أقارب النّبي الآخرين، إلاّ أنّ مصطلح أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثمّ تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كلّ ذلك عليكم، فإنّا (لا نسألك رزقاً نحن نرزقك) فإنّ هذه الصلاة  لا تزيد شيئاً من عظمة الله، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وإرتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال، إنّ الله سبحانه ليس كباقي الملوك والاُمراء الذين يأخذون الضرائب من شعوبهم ليديروا بها حياتهم وحياة مقرّبيهم، فإنّ الله غني عن الجميع ويحتاجه الجميع ويفتقرون إليه.

إنّ هذا التعبير في الحقيقة يشبه ما ورد في سورة الذاريات ـ الآية (56 ـ 58): (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون . وما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن

[ 112  ]

يطعمون . إنّ الله هو الرزّاق ذو القوّة المتين) وعلى هذا، فإنّ نتيجة العبادات ترجع مباشرةً إلى نفس العابدين.

وتضيف الآية في النهاية: (والعاقبة للتقوى) فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى، والمتّقون هم الفائزون في النهاية، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والإنكسار.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أنّ هدفها هو التأكيد في مجال الروح والتقوى والإخلاص في العبادات، لأنّ هذا أساس العبادة، وفي الآية (37) منسورة الحجّ نقرأ: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)فليس ظاهر الأعمال وقشورها هو الذي يوصلكم إلى مقام القرب من الله، بل إنّ الواقع والإخلاص والباطن الذي فيها هو الذي يفتح الطريق إلى مقام القرب منه.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفّار الواهية فقالت: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربّه) واجابتهم مباشرة: (أو لم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأُولى)حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز إستمرّوا في كفرهم وإنكارهم، فحاق بهم العذاب الإلهي، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه؟

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أنّ المراد من «البيّنة» نفس القرآن الذي يبيّن حقائق الكتب السماوية السابقة على مستوى أعلى، فالآية تقول: لماذا يطلب هؤلاء معجزة، ويتذرّعون بالأعذار الواهية؟ أليس هذا القرآن مع هذه الإمتيازات الكبيرة التي تحتوي على حقائق الكتب السماوية السابقة كافياً لهؤلاء؟

وقد ذكر تفسير آخر لهذه الآية، وهو: إنّ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ مع أنّه لم

[ 113  ]

يكن قد درس وتعلّم ـ فقد جاء بكتاب واضح جلي ينسجم مع ما كان في متون الكتب السماوية، وهذا بنفسه دليل على الإعجاز. إضافةً إلى أنّ صفات النّبي وصفات كتابه تنطبق تماماً على العلامات التي جاءت في الكتب السماوية السابقة، وهذا دليل أحقّيته(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء المتذّرعين ليسوا اُناساً طلاّب حقّ، بل إنّهم دائماً في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة، فحتّى (ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى) إلاّ أنّهم الآن وقد جاءهم هذا النّبي الكريم بهذا الكتاب العظيم، يقولون كلّ يوم كلاماً، ويختلفون الأعذار للفرار من الحقّ.

وقالت الآية التالية: أنذر هؤلاء و (قل كلّ متربّص) فنحن بإنتظار الوعود الإلهيّة في حقّكم، وأنتم بإنتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب (فتربّصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن إهتدى) وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذّرعين.

وخلاصة القول: فإنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكّة، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمون تحت ضغط شديد من قبل الأعداء، فإنّ الله قد واساهم وسرّى عن نفوسهم في نهاية هذه السورة، فتارةً ينهاهم عن أن تأخذهم وتبهرهم أموال المنكرين الزائلة وثرواتهم، إذ هي للإمتحان والإبتلاء، وتارةً يأمرهم بالصلاة والإستقامة لتقوى قواهم المعنوية أمام كثرة الأعداء. وأخيراً يبشّر المسلمين بأنّ هؤلاء إن لم يؤمنوا فإنّ لهم مصيراً أسود مشؤوماً يجب أن يكونوا في إنتظاره.

اللهمّ اجعلنا من المهتدين وأصحاب الصراط المستقيم.

___________________________

1 ـ التّفسير الأوّل في مجمع البيان، والثّاني في الظلال، والثّالث ذكره الفخر الرازي في التّفسير الكبير، وهذه التفاسير وإن إختلفت إلاّ أنّها لا تتضارب فيما بينها، وخاصّة التّفسير الثّاني والثّالث.

[ 114  ]

اللهم ألهمنا تلك الشهامة التي لا نرهب معها كثرة الأعداء، ولا نضعف عند الحوادث الصعبة.

واخلع عنّا أطمار العناد واللجاجة، ووفّقنا لقبول الحقّ.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة طه


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=798
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28