• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الانبياء من آية 74 ـ آخر السورة من ( ص 208 ـ 268 ) .

سورة الانبياء من آية 74 ـ آخر السورة من ( ص 208 ـ 268 )

[ 208  ]

الآيتان

وَلُوطاً ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَـهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَت تَعْمَلُ الْخَبَـئِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْء فَـسِقِينَ(74) وَأَدْخَلْنَـهُ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّـلِحِينَ(75)

التّفسير

نجاة لوط من أرض الفجّار

لمّا كان لوط من أقرباء إبراهيم وذوي أرحامه، ومن أوائل من آمن به، فقد أشارت الآيتان بعد قصّة إبراهيم (عليه السلام) إلى جانب من إجتهاده وسعيه في طريق إبلاغ الرسالة، والمواهب التي منحها الله سبحانه له، فتقول: (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)(1).

لفظة (الحكم) جاءت في بعض الموارد بمعنى أمر النبوّة والرسالة، وفي موارد أُخرى بمعنى القضاء، وأحياناً، بمعنى العقل، ويبدو أنّ الأنسب هنا من بين هذه المعاني هو المعنى الأوّل، مع إمكانية الجمع بين هذه المعاني هنا.

والمراد من العلم كلّ العلوم التي لها أثر في سعادة ومصير الإنسان.

___________________________

1 ـ لقد نصبت كلمة (لوط) لأنّها مفعول لفعل مقدّر، يمكن أن يكون تقديره: (آتينا) أو (اذكر).

[ 209  ]

لقد كان لوط من الأنبياء العظام وكان معاصراً لإبراهيم، وهاجر معه من أرض بابل إلى فلسطين، ثمّ فارق إبراهيم وجاء إلى مدينة (سدوم) لأنّ أهلها كانوا غارقين في الفساد والمعاصي، وخاصّةً الإنحرافات الجنسية. وقد سعى كثيراً من أجل هداية هؤلاء القوم، وتحمّل المشاق في هذا الطريق، إلاّ أنّه لم يؤثّر في اُولئك العُمي القلوب.

وأخيراً، نعلم أنّ الغضب والعذاب الإلهي قد حلّ بهؤلاء، وقلب عالي مدينتهم سافلها، واُهلكوا جميعاً، إلاّ عائلة لوط ـ بإستثناء امرأته ـ وقد بيّنا تفصيل هذه الحادثة في ذيل الآيات (77) وما بعدها من سورة هود.

ولذلك أشارت الآية إلى هذه الموهبة التي وهبت للوط، وهي (ونجّيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنّهم كانوا قوم سوء فاسقين).

إنّ نسبة الأعمال القبيحة إلى القرية والمدينة بدلا من أهل القرية إشارة إلى أنّ هؤلاء كانوا قد غرقوا في الفساد والمعاصي إلى درجة حتّى كأنّ أعمال الفساد والخبائث كانت تقطر من جدران مدينتهم وأبوابها.

والتعبير بـ«الخبائث» بصيغة الجمع، إشارة إلى أنّهم إضافة إلى فعل اللواط الشنيع، كانوا يعملون أعمالا قبيحة وخبيثة أُخرى، أشرنا إليها في ذيل الآية (8) من سورة هود.

والتعبير بـ «الفاسقين» بعد «قوم سوء» ربّما يكون إشارة إلى أنّ اُولئك كانوا فاسقين من وجهة نظر القوانين الإلهيّة، وحتّى مع قطع النظر عن الدين والإيمان، فإنّهم كانوا أفراداً حمقى ومنحرفين في نظر المعايير الإجتماعية بين الناس.

ثمّ أشارت الآية إلى آخر موهبة إلهيّة للنبي لوط، فقالت: (وأدخلناه في رحمتنا إنّه من الصالحين) فهذه الرحمة الإلهيّة الخاصّة لا تعطى لأحد إعتباطاً وبدون حساب، بل إنّ أهّلية وصلاحية لوط هي التي جعلته مستحقّاً لمثل هذه الرحمة.

[ 210  ]

حقّاً، أي عمل أصعب، وأي منهج إصلاحي أجهد من أن يبقى إنسان مدّة طويلة في مدينة فيها كلّ هذا الفساد والإنحطاط، ويظلّ دائماً يبلّغ الناس الضالّين المنحرفين أمر ربّهم ويرشدهم إلى طريق الهدى، ويصل الأمر بهم إلى أنّهم يريدون أن يعتدوا حتّى على ضيفه؟ والحقّ أنّ مثل هذه الإستقامة والثبات لا تصدر إلاّ من أنبياء الله وأتباعهم، فأي واحد منّا يستطيع أن يتحمّل مثل هذا العذاب الروحي المؤلم؟!

* * *

[ 211  ]

الآيتان

وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76) وَنَصَرْنَـهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَـتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْء فَأَغْرَقْنَـهُمْ أَجْمَعِينَ(77)

التّفسير

نجاة نوح من القوم الكافرين:

بعد ذكر جانب من قصّة إبراهيم وقصّة لوط(عليهما السلام)، تطرّقت السورة إلى ذكر جانب من قصّة نبي آخر من الأنبياء الكبار ـ أي نوح (عليه السلام) ـ فقالت: (ونوحاً إذ نادى من قبل) أي قبل إبراهيم ولوط.

إنّ هذا النداء ـ ظاهراً ـ إشارة إلى الدعاء واللعنة التي ذكرت في سورة نوح من القرآن الكريم حيث يقول: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً . إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً)(1). أو إنّه إشارة إلى الجملة التي وردت في الآية 10/سورة القمر: (فدعا ربّه إنّي مغلوب فانتصر).

التعبير بـ«نادى» يأتي عادةً بمعنى الدعاء بصوت عال، ولعلّه إشارة إلى أنّهم

___________________________

1 ـ نوح، 26، 27.

[ 212  ]

آذوا هذا النّبي الجليل إلى درجة جعلته يصرخ منادياً ربّه ليدركه وينجّيه من أذاهم وشرّهم، ولو أمعنا النظر في أحوال نوح الواردة في سورة نوح وسورة هود لوجدنا أنّه كان محقّاً أن يرفع صوته ويدعو ربّه سبحانه(1).

ثمّ تضيف الآية: (فاستجبنا له فنجّيناه وأهله من الكرب العظيم) وفي الحقيقة فإنّ جملة «فاستجبنا» إشارة مجملة إلى إستجابة دعوته، وجملة (فنجّيناه وأهله من الكرب العظيم) تعتبر شرحاً وتفصيلا لها.

وهناك إختلاف بين المفسّرين في المراد من كلمة (أهل) هنا، لأنّه إذا كان المراد منها عائلته وأهل بيته فستشمل بعض أبناء نوح، لأنّ واحداً من أولاده تخلّف عنه مع المسيئين وأضاع بُنوته لعائلته، وكذلك لم تكن زوجته مؤمنة به. وإن كان المراد من الأهل خواص أتباعه وأصحابه المؤمنين، فإنّها على خلاف المعنى المشهور للأهل.

لكن يمكن أن يقال: إنّ للأهل ـ هنا ـ معنى وسيعاً يشمل أهله المؤمنين وخواص أصحابه، لأنّا نقرأ في حقّ إبنه الذي لم يتبعه: (إنّه ليس من أهلك)(2)وعلى هذا فإنّ الذين اعتنقوا دين نوح يعدّون في الواقع من عائلته وأهله.

وينبغي ذكر هذه الملاحظة أيضاً، وهي: إنّ «الكرب» في اللغة تعني الغمّ الشديد، وهي في الأصل مأخوذة من تقليب الأرض وحفرها، لأنّ الغمّ الشديد يقلب قلب الإنسان، ووصفه بالعظيم يكشف عن منتهى كربه وأساه.

وأيُّ كرب أعظم من أن يدعو قومه إلى دين الحقّ (950) عاماً، كما صرّح القرآن بذلك، لكن لم يؤمن به خلال هذه المدّة الطويلة إلاّ ثمانون شخصاً على المشهور بين المفسّرين (3)، وأمّا عمل الآخرين فلم يكن غير السخرية

___________________________

1 ـ راجع ما ذكرنا عليه آنفاً ذيل الآية (25) سورة هود.

2 ـ هود، 46.

3 ـ مجمع البيان ذيل الآية (40) من سورة هود، ونور الثقلين، المجلّد2، ص350.

[ 213  ]

والإستهزاء والأذى.

وتضيف الآية التالية: (ونصرناه(1) من القوم الذين كذّبوا بآياتنا إنّهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) إنّ هذه الجملة تؤكّد مرّة أُخرى على حقيقة أنّ العقوبات الإلهيّة لا تتّصف بصفة الإنتقام مطلقاً، بل هي على أساس إنتخاب الأصلح، أي إنّ حقّ الحياة والتنعّم بمواهب الحياة لاُناس يكونون في طريق التكامل والسير إلى الله، أو انّهم إذا ساروا يوماً في طريق الإنحراف إنتبهوا إلى أنفسهم ورجعوا إلى جادة الصواب. أمّا اُولئك الفاسدون الذين لا أمل مطلقاً في صلاحهم في المستقبل، فلا مصير ولا جزاء لهم إلاّ الموت والفناء.

* * *

ملاحظة

الجدير بالذكر أنّ هذه السورة ذكرت آنفاً قصة «إبراهيم» و «لوط» وكذلك سوف تذكر قصتي «أيّوب» و «يونس»، وقد ذكرت آنفاً قصّة نوح (عليه السلام) وفي جميعها تذكر مسألة نجاتهم وخلاصهم من الشدائد والمحن والأعداء.

وكأنّ منهج هذه السورة بيان منتهى رعاية الله وحمايته لأنبيائه وإنقاذهم من الكروب، ليكون ذلك تسلية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأملا للمؤمنين، وبملاحظة أنّ هذه السورة مكّية، وأنّ المسلمين كانوا حينئذ في شدّة وكرب فستتجلّى أهميّة هذا الموضوع أكثر ...

* * *

___________________________

1 ـ إن فعل (نصر) يعدّى عادةً بـ (على) إلى مفعول ثان، فيقال مثلا: اللّهم انصرنا عليهم. أمّا هنا فقد إستعملت كلمة (من)، وربّما كان ذلك من أجل أنّ المراد النصرة المقترنة بالنجاة، لأنّ مادّة النجاة تتعدّى بـ(من).

[ 214  ]

الآيات

وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَـنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـهِدِينَ(78) فَفَهَّمْنَـهَا سُلَيْمَـنَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَـعِلِينَ(79) وَعَلَّمْنَـهُ صَنْعَةَ لَبُوس لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَـكِرُونَ(80)

التّفسير

قضاء داود وسليمان (عليهما السلام):

بعد الحوادث والوقائع المتعلّقة بموسى وهارون وإبراهيم ونوح ولوط(عليهم السلام)، تشير هذه الآيات إلى جانب من حياة داود وسليمان، وفي البداية أشارت إشارة خفيّة إلى حادث قضاء وحكم صدر من جانب داود وسليمان، فتقول: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت(1) فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين).

وبالرغم من أنّ القرآن قد ألمح إلى هذه المحكمة لمحة خفيّة، وإكتفى بإشارة

___________________________

1 ـ «نفشت» من مادّة نَفْش على وزن (حرب) أي التفرّق والتبعثر في الليل، ولمّا كان تفرّق الأغنام في الليل، وفي مزرعة سيقترن بالتهام نباتها حتماً لذا قال البعض: إنّها الرعي في الليل. و «نَفَش» (على وزن علم) تعني الأغنام التي تتفرّق في الليل.

[ 215  ]

إجمالية وإستخلاص النتيجة الأخلاقية والتربوية لها والتي سنشير إليها فيما بعد، إلاّ أنّه وردت بحوث كثيرة حولها في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين.

فقال جماعة: إنّ القصّة كانت كما يلي: إنّ قطيع أغنام لبعض الرعاة دخلت ليلا إلى بستان فأكلت أوراقه وعناقيد العنب منه فأتلفته، فرفع صاحب البستان شكواه إلى داود، فحكم داود بأن تعطى كلّ الأغنام لصاحب البستان تعويضاً لهذه الخسارة الفادحة، فقال سليمان ـ والذي كان طفلا آنذاك ـ لأبيه: يانبي الله العظيم، غيّر هذا الحكم وعدّله! فقال الأب: وكيف ذاك؟ قال: يجب أن تودع الأغنام عند صاحب البستان ليستفيد من منافعها ولبنها وصوفها، وتودع البستان في يد صاحب الأغنام ليسعى في إصلاحه، فإذا عاد البستان إلى حالته الأُولى يُردّ إلى صاحبه، وتردّ الأغنام أيضاً إلى صاحبها. وأيّد الله حكم سليمان في الآية التالية.

وقد ورد هذا المضمون في رواية عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)(1).

ويمكن أن يتصوّر عدم تناسب هذا التّفسير مع كلمة (حرث) التي تعني الزراعة، ولكن يبدو أنّ للحرث معنى واسعاً يشمل الزراعة والبستان، كما يستفاد ذلك من قصّة أصحاب الجنّة في سورة القلم، الآية 17 ـ 32.

لكن تبقى هنا عدّة إستفهامات مهمّة:

1 ـ ماذا كان أساس ومعيار هذين الحكمين؟

2 ـ كيف إختلف حكم داود عن حكم سليمان؟ فهل كانا يحكمان على أساس الإجتهاد؟

3 ـ هل المسألة هذه كانت على هيئة تشاور في الحكم، أم أنّهما حكما بحكمين مستقلّين يختلف كلّ منهما عن الآخر؟!

ويمكن الإجابة عن السؤال الأوّل: إنّ المعيار كان جبران الخسارة، فينظر

___________________________

1 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.

[ 216  ]

داود إلى أنّ الخسارة التي أصابت الكرم تعادل قيمة الأغنام، ولذلك حكم بوجوب إعطاء الأغنام لصاحب البستان جبراً للخسارة، لأنّ التقصير من جانب صاحب الأغنام.

وينبغي الإلتفات إلى أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ على صاحب الأغنام أن يمنع غنمه من التعدّي على زرع الآخرين في الليل، كما أنّ من واجب صاحب الزرع حفظ زرعه في النهار(1).

أمّا معيار حكم سليمان(عليه السلام) فقد كان يرى أنّ خسارة صاحب البستان تعادل ما سينتفع به من الأغنام لسنة كاملة!

بناءً على هذا فإنّ الإثنين قد قضيا بالحقّ والعدل، مع فارق أنّ حكم سليمان كان أدقّ، لأنّ الخسارة لا تدفع مرّة واحدة في مكان واحد، بل تؤدّي بصورة تدريجيّة بحيث لا تثقل على صاحب الغنم أيضاً. وإضافةً إلى ما مرّ، فقد كان هناك تناسب بين الخسارة والجبران، لأنّ جذور النباتات لم تتلف، بل ذهبت منافعها المؤقتة، ولذلك فإنّ من الأعدل ألاّ تنقل اُصول الأغنام إلى ملك صاحب البستان، بل تنقل منافعها فقط.

ونقول في جواب السؤال الثّاني: لا شكّ أنّ حكم الأنبياء مستند إلى الوحي الإلهي، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ وحياً خاصّاً ينزل في كلّ مورد من موارد الحكم، بل إنّ الأنبياء يحكمون حسب القواعد الكليّة التي تلقّوها من الوحي.

بناءً على هذا فإنّه لا توجد مسألة الإجتهاد النظري بمعناها الإصطلاحي، وهو الإجتهاد الظنّي، ولكن لا مانع من أن يكون هناك طريقان لإيجاد ضابطة كليّة، وأن يكون نبيّان كلّ منهما يرى أحد الطريقين، وكلاهما صحيح في الواقع، وكان الموضوع الذي عالجناه في بحثنا ـ على سبيل الإتّفاق ـ من هذا القبيل كما

___________________________

1 ـ نقرأ في مجمع البيان في ذيل الآية مورد البحث: روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا، وقضى بحفظ الحرث على أربابه نهاراً. وقد نقل هذا المضمون في تفسير الصافي نقلا عن كتاب الكافي.

[ 217  ]

بيّناه آنفاً بتفصيل. وكما أشار القرآن إليه، فإنّ الطريق الذي إختاره سليمان(عليه السلام) كان أقرب من الناحية التنفيذيّة، وجملة (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً) والتي ستأتي في الآية التالية، شاهدة على صحّة كلا القضاءين.

ونقول في جواب السؤال الثّالث: لا يبعد أن يكون الأمر على هيئة تشاور، وهو التشاور الذي يحتمل أن يكون لتعليم سليمان وتأهيله في أمر القضاء، والتعبير بـ (حكمهم) شاهد أيضاً على وحدة الحكم النهائي، بالرغم من وجود حكمين مختلفين في البداية. (فتأمّلوا بدقّة).

ونقرأ في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال: «لم يحكما، إنّما كانا يتناظران»(1).

ويستفاد من رواية أُخرى رويت في اُصول الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام)أنّ هذه القضيّة حدثت لتعيين وصيّ داود وخليفته وأن يتعلّم اُولئك النفر منهما أيضاً(2).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية التالية تؤيّد حكم سليمان في هذه القصّة على هذه الشاكلة: (ففّهمناها سليمان) ولكن هذا لا يعني أنّ حكم داود كان إشتباهاً وخطأً، لأنّها تضيف مباشرةً (وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً).

ثمّ تشير إلى إحدى المواهب والفضائل التي كان الله سبحانه قد وهبها لداود(عليه السلام)، فتقول: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطير) فإنّ ذلك ليس شيئاً مهمّاً أمام قدرتنا (وكنّا فاعلين).

* * *

___________________________

1 ـ من لا يحضره الفقيه، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، الجزء3، ص443.

2 ـ لمزيد الإطّلاع راجع تفسير الصافي ذيل الآية مورد البحث.

[ 218  ]

بحث

هناك بحث بين المفسّرين في أنّه كيف كان تجاوب الجبال والطير مع داود؟ وما المراد من قوله تعالى: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن)؟!

1 ـ فاحتُمل أحياناً أنّ هذا كان صوت داود الرخيم المؤثّر الجذّاب، والذي كان ينعكس في الجبال، وكان يجذب الطيور إليه.

2 ـ وقالوا حيناً آخر: إنّ هذا التسبيح كان تسبيحاً مقترناً بالإدراك والشعور الموجود في باطن ذرّات العالم، لأنّ كلّ موجودات العالم لها نوع من العقل والشعور حسب هذه النظرية، وعندما كانت تسمع صوت داود في وقت المناجاة والتسبيح كانت تردّد معه، وتمتزج بهمهمة تسبيح منها.

3 ـ وقال البعض: إنّ المراد هو التسبيح التكويني الذي يوجد في موجودات العالم بلسان حالها، لأنّ لكلّ موجود نظاماً دقيقاً جدّاً. وهذا النظام الدقيق يحكي عن طهارة ونزاهة الله، وعن أنّ له صفات كمال، وبناءً على هذا فإنّ نظام عالم الوجود العجيب في كلّ زاوية منه تسبيح وحمد، فـ «التسبيح» هو التنزيه عن النقائص، و«الحمد» هو الثناء على صفات الكمال(1).

فإن قيل: إنّ التسبيح التكويني لا يختّص بالجبال والطيور، ولا بداود، بل أنّ نغمة هذا التسبيح تنبعث من كلّ الأرجاء والموجودات على الدوام.

قالوا في الجواب: صحيح إنّ هذا التسبيح عام، ولكن لا يدركه الجميع، فقد كانت روح داود العظيمة في هذه الحالة منسجمة مع باطن وداخل عالم الوجود، وكان يحسن جيداً أنّ الجبال والطير يسبّحن معه.

وليس لدينا دليل قاطع على أي من هذه التفاسير، وما نفهمه من ظاهر الآية هو أنّ الجبال والطير كانت تردّد وتتجاوب مع داود، وكانت تسبّح الله، وفي الوقت

___________________________

1 ـ لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (44) من سورة الإسراء.

[ 219  ]

نفسه لا تضادّ بين هذه التفاسير الثلاثة، فالجمع بينها ممكن.

وأشارت الآية الأخيرة إلى موهبة أُخرى من المواهب التي وهبها الله لهذا النّبي الجليل، فقالت: (وعلّمناه صنعة لبوس لكم لتحصّنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون).

«اللبوس» كما يقول العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ـ كلّ نوع من أنواع الأسلحة الدفاعية والهجومية كالدرع والسيف والرمح(1). إلاّ أنّ القرائن التي في آيات القرآن توحي بأنّ اللبوس هنا تعني الدرع التي لها صفة الحفظ في الحروب.

أمّا كيف ألان الله الحديد لداود، وعلّمه صنع الدروع، فسنفصّل ذلك في ذيل الآيات (10 ـ 11) من سورة سبأ إن شاء الله تعالى.

* * *

___________________________

1 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.

[ 220  ]

الآيتان

وَلِسُلَيْمَـنَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الاَْرْضِ الَّتِى بَـرَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْء عَـلِمِينَ(81) وَمِنَ الشَّيَـطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَـفِظِينَ(82)

التّفسير

الرياح تحت إمرة سليمان:

تشير هاتان الآيتان إلى جانب من المواهب التي منحها الله لنبي آخر من الأنبياء ـ أي سليمان (عليه السلام) فتقول الآية الأُولى منهما: (ولسليمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) وهذا الأمر ليس عجيباً، لأنّنا عارفون به (وكنّا بكلّ شيء عالمين) فنحن مطّلعون على أسرار عالم الوجود، والقوانين والأنظمة الحاكمة عليه، ونعلم كيفية السيطرة عليها، ونعلم كذلك نتيجة وعاقبة هذا العمل، وعلى كلّ حال فإنّ كلّ شيء خاضع ومسلّم أمام علمنا وقدرتنا.

إنّ جملة (ولسليمان ...) معطوفة على جملة (وسخّرنا مع داود الجبال) أي إنّ قدرتنا عظيمة نقدر معها على أن نسخّر الجبال لعبد من عبادنا أحياناً لتسبّح معه، وأحياناً نجعل الريح تحت إمرة أحد عبادنا ليرسلها حيث شاء.

[ 221  ]

إنّ لفظة (العاصفة) تعني الرياح القويّة أو الهائجة، في حين يستفاد من بعض آيات القرآن الاُخرى أنّ الرياح الهادئة أيضاً كانت تحت إمرة سليمان، كما تصوّر ذلك الآية (36) من سورة ص: (فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب).

إنّ التصريح بالعاصفة هنا يمكن أن تكون من باب بيان الفرد الأهمّ، أي ليست الرياح الهادئة لوحدها تحت إمرته، بل حتّى العواصف الشديدة كانت رهن إشارته أيضاً، لأنّ الثّانية أعجب.

ثمّ إنّ هذه الرياح القويّة التي في مسير الأرض المباركة (الشام) حيث كان مقرّ سليمان(عليه السلام)، لم تكن الوحيدة، بل إنّها كانت تتحرّك حيث أراد، وإلى جميع الأمكنة حسب الآية (36) من سورة ص، وعلى هذا فإنّ التصريح باسم الأرض المباركة لأنّها كانت مركزاً لحكومة سليمان.

أمّا كيف كانت الريح تحت إمرته وتصرّفه؟

وبأيّة سرعة كانت تتحرّك؟

وعلى أي شيء كان يجلس سليمان وأصحابه ويتحرّكون؟

وأي عامل كان يحفظ هؤلاء عند حركتهم من السقوط أو ضغط الهواء أو المصاعب الاُخرى؟

والخلاصة: أيّة قوّة خفيّة كانت تعطيه القدرة على إمكانية التحرّك بمثل هذه الحركة السريعة في ذلك العصر والزمان(1)؟

إنّ هذه مسائل لم تتّضح لنا جزئياتها، والذي نعلمه هو أنّها كانت موهبة إلهيّة خارقة وضعت تحت تصرّف هذا النّبي العظيم، وما أكثر المسائل التي نعلم بوجودها الإجمالي، ونجهل تفصيلها؟! إنّ معلوماتنا في مقابل ما نجهله كالقطرة من البحر المحيط، أو كالذرّة مقابل الجبل العظيم.

___________________________

1 ـ يظهر من الآية 12/سورة سبأ: (ولسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر) بصورة مجملة أنّهم كانوا يسيرون صباحاً مسافةً أمدها شهر ويسيرون عصراً مسافة أمدها شهر «بمقياس الحركة في ذلك الزمان».

[ 222  ]

والخلاصة: فإنّ من وجهة نظر وإعتقاد إنسان موحّد يعبد الله، لا يوجد شيء صعب ومستحيل أمام قدرة الله سبحانه، فهو قادر على كلّ شيء، وعالم بكلّ شيء.

لقد كتبت حول هذه الفترة من حياة سليمان ـ كالفترات الاُخرى من حياته العجيبة ـ أساطير كاذبة أو مشكوكة كثيرة لا نقبلها مطلقاً، فنحن نكتفي بهذا المقدار الذي بيّنه القرآن هنا.

ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضاً، وهي أنّ بعض الكتّاب المتأخرين يعتقدون بأنّ القرآن ليس فيه شيء صريح عن حركة سليمان والبساط، بل أورد الكلام عن تسخير الرياح لسليمان فقط، فربّما كان ذلك إشارة إلى إستغلال سليمان لقوّة الهواء في المسائل المرتبطة بالزراعة، وتلقيح النباتات، وتنقية الحنطة والشعير، وحركة السفن، خاصّةً وأنّ أرض سليمان (الشام) كانت أرضاً زراعية من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّ جانباً مهمّاً منها كان على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وكان يُنتفع منها في حركة الملاحة(1).

إلاّ أنّ هذا التّفسير لا يتناسب كثيراً وآيات سورة سبأ وسورة ص وبعض الرّوايات الواردة في هذا الباب.

ثمّ تذكر الآية التالية أحد المواهب الخاصّة بسليمان (عليه السلام) فتقول: (ومن الشياطين من يغوصون له) لإستخراج الجواهر والأشياء الثمينة الاُخرى (ويعملون عملا دون ذلك وكنّا لهم حافظين) من التمرّد والطغيان على أوامر سليمان(عليه السلام).

إنّ ما ورد في الآية آنفة الذكر باسم «الشياطين»، جاء في آيات سورة «سبأ» باسم الجن ـ الآية (12 و13) من سورة سبأ ـ ومن الواضح أنّ هذين اللفظين

___________________________

1 ـ قصص القرآن، 185; أعلام القرآن، 386.

[ 223  ]

 لا منافاة بينهما، لأنّا نعلم أنّ الشياطين من طائفة الجنّ.

وعلى كلّ حال، فقد ذكرنا أنّ الجنّ نوع من المخلوقات التي لها عقل وشعور وإستعداد، وعليها تكليف، وهي محجوبة عن أنظارنا نحن البشر، ولذلك سمّيت بالجنّ، وهم ـ كما يستفاد من آيات سورة الجنّ ـ كالبشر منهم المؤمنون الصالحون، ومنهم الكافرون العصاة، ولا نمتلك أي دليل على نفي مثل هذه الموجودات، ولأنّ المخبر الصادق (القرآن) قد أخبر عنها فنحن نؤمن بها.

ويستفاد من أيات سورة سبأ وسورة ص ـ وكذلك من الآية محلّ البحث ـ جيداً أنّ هذه الجماعة من الجنّ التي سخّرت لسليمان، كانوا أفراداً أذكياء نشيطين فنّانين صنّاعاً ماهرين في مجالات مختلفة، وجملة (ويعملون عملا دون ذلك)تبيّن إجمالا ما جاء تفصيله في سورة سبأ من أنّهم كانوا (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).

ويستفاد من جزء من الآيات المتعلّقة بسليمان أنّ جماعة من الشياطين العصاة كانوا موجودين أيضاً، وكان سليمان(عليه السلام) قد أوثقهم: (وآخرين مقرّنين في الأصفاد)(1)، وربّما كانت جملة (وكنّا لهم حافظين) إشارة إلى هذا المعنى بأنّا كنّا نحفظ تلك المجموعة التي كانت تخدم سليمان من التمرّد والعصيان. وستطالعون تفصيلا أكثر في هذا الباب في تفسير سورة سبأ وسورة ص إن شاء الله تعالى.

ونذكر مرّة أُخرى أنّ هناك أساطير كاذبة أو مشكوكاً فيها كثيرة حول حياة سليمان وجنوده، يجب أن لا تُمزج مع ما في متن القرآن، لئلاّ تكون حربة في يد المتصيدين في الماء العكر.

* * *

___________________________

1 ـ سورة ص، 38.

[ 224  ]

الآيتان

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِى الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ(83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَـهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مُّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَـبِدِينَ(84)

التّفسير

أيّوب ونجاته من المصاعب:

تتحدّث الآيتان عن نبي آخر من أنبياء الله العظماء وقصّته المُلهمة، وهو «أيّوب» وهو عاشر نبي اُشير إلى جانب من حياته في سورة الأنبياء.

إنّ لأيّوب قصّة حزينة، وهي في نفس الوقت عظيمة سامية، فقد كان صبره وتحمّله عجيبين، خاصّةً أمام الحوادث المرّة، بحيث أنّ صبر أيّوب أصبح مضرباً للمثل منذ القدم.

غير أنّ هاتين الآيتين تشيران ـ بصورة خاصّة ـ إلى مرحلة نجاته وإنتصاره على المصاعب، وإستعادة ما فقده من المواهب، ليكون درساً لكلّ المؤمنين على مرّ الدهور ليغوصوا في المشاكل ويخترقوها، ولا سيّما لمؤمني مكّة الذين كانوا يُعانون ضغوطاً من أعدائهم عند نزول هذه الآيات، فتقول: (وأيّوب إذ نادى ربّه

[ 225  ]

أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين).

وكلمة «الضرّ». تطلق على كلّ سوء وأذى يصيب روح الإنسان أو جسمه، وكذلك لنقص عضو، وذهاب مال، وموت الأعزّة وإنهيار الشخصيّة وأمثال ذلك، وكما سنقول فيما بعد، فإنّ أيّوب قد إبتلي بكثير من هذه المصائب.

إنّ أيّوب ـ كسائر الأنبياء ـ يُظهر أقصى حالات الأدب والخضوع أمام الله عند الدعاء لرفع هذه المشاكل المضنية المجهدة، ولا يعبّر بتعبير تُشمّ منه رائحة الشكوى، بل يقول فقط: إنّي ابتليت بهذه المصائب وأنت أرحم الراحمين، فهو حتّى لا يقول: حلّ مشكلتي، لأنّه يعلم أنّه جليل عظيم، وهو يعرف حقّ العظمة.

وتقول الآية التالية: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) ليعلم المسلمون أنّ المشاكل كلّما زادت، وكلّما زادت الإبتلاءات، وكلّما زاد الأعداء من ضغوطهم وضاعفوا قواهم، فإنّها جميعاً ترفع وتحلّ بنظرة ومنحة من لطف الله، فلا تجبر الخسارة وحسب، بل إنّ الله سبحانه يعطي الصابرين أكثر ممّا فقدوا جزاءً لصبرهم وثباتهم، وهذا درس وعبرة لكلّ المسلمين، وخاصةً المسلمين الذين كانوا تحت محاصرة العدو الشديدة، وتحت ضغط المشاكل عند نزول هذه الآيات.

* * *

بحوث

1 ـ لمحة من قصّة أيّوب

في حديث عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّ رجلا سأله عن بليّة أيّوب لأي علّة كانت؟ فأجابه بما ملخّصه. إنّ هذا الإبتلاء لم يكن لكفران نعمة، بل على العكس من ذلك، فإنّه كان لشكر نعمة حسده عليها إبليس، فقال لربّه: ياربّ إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلاّ بما أعطيته من الدنيا، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليك

[ 226  ]

شكرك، فسلّطني على دنياه حتّى يتبيّن الأمر، فسلّطه الله عليه ليكون هذا الحادث سنداً لكلّ سالكي طريق الحقّ.

فانحدر إبليس وأهلك أموال أيّوب وأولاده الواحد تلو الآخر، ولكن لم تزد هذه الحوادث أيّوب إلاّ ثباتاً على الإيمان وخضوعاً لقضاء الله وقدره.

فسأل الشيطان الله سبحانه أن يسلطه على زرعه وغنمه فسلطه، فأحرق كلّ زرعه، وأهلك كلّ غنمه، فلم يزدد أيّوب إلاّ حمداً وشكراً.

وأخيراً طلب الشيطان من الله أن يسلطه على بدن أيّوب ليكون سبب مرضه، وهكذا كان بحيث لم يكن قادراً على الحركة من شدّة المرض والجراحات، لكن من دون أن يترك أدنى خلل في عقله وإدراكه.

والخلاصة، فقد كانت النعم تسلب من أيّوب الوحدة تلو الاُخرى، ولكن شكره كان يزداد في موازاتها، حتّى جاء جمع من الرهبان لرؤيته وعيادته، فقالوا: قل لنا أي ذنب عظيم قد إقترفت حتّى إبتليت بمثل هذا الإبتلاء؟ وهنا بدأت شماتة هذا وذاك، وكان هذا الأمر شديداً على أيّوب، فقال مجيباً: وعزّة ربّي انّي ما أكلت لقمة من طعام إلاّ ومعي يتيم أو مسكين يأكل على مائدتي، وما عرض لي أمران كلاهما فيه طاعة لله إلاّ أخذت بأشدّهما عليّ.

عند ذاك كان أيّوب قد إجتاز جميع الإمتحانات صابراً شاكراً متجمّلا: وهو يناجي ربّه بلسان مهذّب ودعا أن يكشف عنه ضرّه بتعبير صادق ليس فيه أدنى شكوى ـ وهو ما ذكرته الآية المتقدّمة: (ربّه أنّي مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين)ـ وفي هذه الأثناء فتحت أبواب الرحمة الإلهيّة، ورفع البلاء بسرعة، وإنهمرت عليه النعم الإلهيّة أكثر من ذي قبل(1).

أجل .. إنّ رجال الحقّ لا تتغيّر أفكارهم وأعمالهم بتغيّر النعم، فهم يتوجّهون إلى الله في حريتهم وسجنهم وسلامتهم ومرضهم وقوّتهم وضعفهم، وبكلمة واحدة

___________________________

1 ـ تفسير القمّي، طبقاً لنقل تفسير الميزان.

[ 227  ]

في كلّ الأحوال، ولا تغيّرهم حوادث الحياة، فإنّ أرواحهم كالمحيط العظيم  لا يؤثّر في هدوئه تلاطم الرياح العاتية.

كما أنّهم لا ييأسون لهول الحوادث المرّة وكثرتها، بل يواجهونها ويصمدون لها حتّى تفتح أبواب الرحمة الإلهيّة، لعلمهم أنّ الحوادث والظروف الصعبة إمتحانات إلهيّة يُعدّها الله لخاصّة عباده ليكونوا أكثر مراناً ومراساً ..

2 ـ المعروف بين المفسّرين في تفسير جملة (آتيناه أهله ومثله معهم) أنّ الله سبحانه أرجع أولاده الهلكى إلى حياتهم الأُولى ورزقه أولاداً آخرين.

ونقرأ في بعض الرّوايات: إنّ الله قد ردّ عليه الأولاد الذين هلكوا في هذه الحادثة، وأولاده الذين ماتوا قبلها(1).

وإحتمل بعضهم أنّ الله قد وهب أيّوب أولاداً وأحفاداً جدداً ليسدّوا مسدّ الأولاد المفقودين ويملأوا الفراغ الذي تركوه.

3 ـ نقرأ في بعض الرّوايات غير المعتبرة أنّ بدن أيّوب قد تعفّن، نتيجة المرض الشديد، إلى درجة أنّه لم يكن بمقدور الناس أن يقتربوا منه، إلاّ أنّ الرّوايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تنفي هذا المعنى بصراحة، والدليل العقلي يؤكّد هذا المعنى أيضاً، لأنّ النّبي إذا كان في حال منفّرة، فإنّ ذلك لا يناسب منهج رسالته، فكلّ نبي ينبغي أن يكون على حالة تُمكّن الناس من الإتّصال به وملاقاته ليسمعوا كلام الحقّ، أي إنّ للنّبي جاذبية خاصّة.

وستطالعون إن شاء الله تعالى تفصيلا أكثر حول قصّة أيّوب في الآية  (41 ـ 44) سورة ص.

* * *

___________________________

1 ـ نور الثقلين، ج3، ص448.

[ 228  ]

الآيتان

وَإِسْمَـعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّـبِرِينَ(85)وَأَدْخَلْنَـهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّـلِحِينَ(86)

التّفسير

إسماعيل وإدريس وذو الكفل(عليه السلام):

تعقيباً على قصّة أيّوب(عليه السلام) التربوية، وصبره وثباته بوجه سيل الحوادث، تشير الآيتان ـ محلّ البحث ـ إلى صبر ثلاثة من أنبياء الله الآخرين فتقول الأُولى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلّ من الصابرين) فكلّ واحد من هؤلاء صبر طوال عمره أمام الأعداء، أو أمام مشاكل الحياة المجهدة المضنية، ولم يركع أبداً في مقابل هذه الحوادث، وكان كلّ منهم مثلا أعلى في الصبر والإستقامة.

ثمّ تبيّن الآية الاُخرى موهبة إلهيّة لهؤلاء مقابل الصبر والثبات، فتقول: (وأدخلناهم في رحمتنا إنّهم من الصالحين).

ممّا يلفت النظر هنا أنّه لم يقل: وهبناهم رحمتنا، بل قال: وأدخلناهم في رحمتنا، فكأنّ كلّ أجسامهم وأرواحهم أصبحت غارقة في الرحمة الإلهيّة، بعد أن كانت غارقة في بحر المشاكل.

[ 229  ]

إدريس وذو الكفل(عليهما السلام):

«إدريس» ـ نبي الله العظيم ـ وكما تقدّم ـ هو جدّ والد نوح(عليه السلام) وفقاً لما رواه أغلب المفسّرين، وإسمه في التوّراة (أخنوخ) وفي العربية (إدريس) ويرى بعضهم أنّ إدريس مشتق من مادّة الدرس، لأنّه كان أوّل من كتب بالقلم، وكان ذا إحاطة بعلم الفلك والنجوم والحساب والهيأة بالإضافة إلى كونه نبيّاً .. ويقال أنّه أوّل من علّم الناس خياطة الثياب.

وأمّا «ذو الكفل»، فالمشهور أنّه كان من الأنبياء(1)، وإن كان بعضهم يعتقد أنّه كان من الصالحين. وظاهر آيات القرآن التي ذكرته في عداد الأنبياء يؤيّد أنّه من الأنبياء، وأغلب الظنّ أنّه كان من أنبياء بني إسرائيل(2).

وهناك إحتمالات عديدة في سبب تسميته بهذا الإسم، مع ملاحظة أنّ كلمة «كفل» جاءت بمعنى النصيب، وكذلك بمعنى الكفالة والضمان والتعهّد.

فقال بعضهم: إنّ الله سبحانه لمّا غمره بنصيب وافر من ثوابه ورحمته في مقابل الأعمال والعبادات الكثيرة التي كان يؤدّيها سمّي ذا الكفل، أي صاحب الحظّ الأوفى.

وقال آخرون: إنّه لمّا تعهّد بأن يحيي الليل في العبادة ويصوم النهار، وأن  لا يغضب عند الحكم، وأن يفي بوعده أبداً، لذلك سمّي بذي الكفل.

ويعتقد بعضهم ـ أيضاً ـ أنّ «ذا الكفل» لقب «إلياس»، كما أنّ إسرائيل لقب يعقوب، والمسيح لقب عيسى، وذا النون لقب يونس(3). على نبيّنا وآله وعليهم الصلاة والسلام ..

* * *

___________________________

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث.

2 ـ تفسير في ظلال القرآن، الجلد5، ص556.

3 ـ تفسير الفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث، ونقرأ في التأريخ الكامل: إنّ الكفل كان أحد أولاد أيّوب، وكان إسمه الأصلي (بشر) وكان يعيش في أرض الشام. الكامل لابن الأثير، ج1، ص136.

[ 230  ]

الآيتان

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَتِ أَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـلِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُجِى الْمُؤْمِنِينَ(88)

التّفسير

نجاة يونس من السجن المرعب:

تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصّة النّبي الكبير يونس(عليه السلام)، حيث تقول الأُولى واذكر يونس إذ ترك قومه المشركين غاضباً عليهم: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً).

كلمة «النون» في اللغة تعني السمكة العظيمة، أو بتعبير آخر تعني الحوت، وبناءً على هذا فإنّ «ذا النون» معناه صاحب الحوت، وإختيار هذا الإسم ليونس بسبب الحادثة التي سنشير إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعلى كلّ حال، فإنّه ذهب مغاضباً (فظنّ أن لن نقدر(1) عليه) فقد كان يظنّ

___________________________

1 ـ «نقدر» من مادّة قدر بمعنى التعسير والتضييق، لأنّ الإنسان عند التضييق يأخذ من كلّ شيء قدراً محدوداً، لا على نطاق واسع وبدون حساب.

[ 231  ]

أنّه قد أدّى كلّ رسالته بين قومه العاصين، ولم يترك حتّى «الأُولى» في هذا الشأن، فلو تركهم وشأنهم فلا شيء عليه، مع أنّ الأولى هو بقاؤه بينهم والصبر والتحمّل والتجلّد، فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم ويتجّهون إلى الله سبحانه.

وأخيراً، ونتيجة تركه الأولى هذا، ضيّقنا عليه فابتلعه الحوت (فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين) فقد ظلمت نفسي، وظلمت قومي، فقد كان ينبغي أن أتقبّل وأتحمّل أكثر من هذه الشدائد والمصائب، وأُواجه جميع أنواع التعذيب والآلام منهم فلعلّهم يهتدون.

وتقول الآية التالية: (فاستجبنا له ونجّيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين)أجل لم يكن هذا الأمر خاصّاً بيونس، بل هو لطف الله الشامل فكلّ مؤمن يعتذر من ربّه عن تقصيره ويسأله العون والمدد والرحمة فإنّ الله سيستجيب له ويكشف عنه غمّه.

* * *

بحوث

1 ـ قصّة يونس(عليه السلام)

ستأتي تفاصيل قصّة يونس في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى، أمّا ملخّصها فهو:

إنّ «يونس» كان لسنين طوال مشتغلا بالدعوة والتبليغ بين قومه في أرض نينوى بالعراق، ولكن رغم كلّ ما بذله من جهود ومساع فإنّ إرشاداته وتوجيهاته لم تؤثر في قلوبهم، فغضب وهجر تلك الأرض، وذهب باتجاه البحر وركب السفينة، وأثناء الطريق هاج البحر، فكاد كلّ ركّاب السفينة أن يغرقوا.

وهنا قال ربّان السفينة: إنّي أظنّ أنّ بينكم عبداً هارباً يجب أن يلقى في  البحر ـ أو إنّه قال: إنّ السفينة ثقيلة جدّاً ويجب أن نلقي فرداً منّا تخرجه

[ 232  ]

 القرعة ـ فاقترعوا عدّة مرّات، وكان اسم يونس(عليه السلام) يخرج في كلّ مرّة! فعلم أنّ في هذا الأمر سرّاً خفيّاً، فسلّم للحوادث، وعندما ألقوه في البحر إبتلعه حوت عظيم وأبقاه الله في بطنه حيّاً.

وأخيراً إنتبه إلى أنّه قد ترك الأولى، فتوجّه إلى الله وإعترف بتقصيره، فإستجاب الله دعوته وأنجاه من ذلك المكان الضيّق(1).

من الممكن أن يتصوّر إستحالة هذا الحادث من الناحية العلمية، ولكن لا شكّ أنّ هذا الأمر خارق للعادة، إلاّ أنّه ليس بمحال عقلي، كإحياء الموتى فإنّه يعدّ أمراً خارقاً للعادة وليس محالا، وبتعبير آخر: فإنّ وقوعه غير ممكن بالطرق العادية، ولكنّه ليس صعباً مع الإستعانة بقدرة الله غير المحدودة.

وستقرؤون تفصيلا أكثر حول هذه الحادثة في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى.

2 ـ ما معنى الظلمات هنا؟

من الممكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى ظلمة البحر في أعماق الماء، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وتؤيّد ذلك الرّواية التي رويت عن الإمام الباقر(عليه السلام)(2).

3 ـ أي أولى تركه يونس؟

لا شكّ أنّ تعبير «مغاضباً» إشارة إلى غضب يونس على قومه الكافرين، وكان مثل هذا الغضب في هذه الظروف طبيعيّاً تماماً، إذ تحمّل هذا النّبي المشفق المشقّة والتعب سنين طويلة من أجل هداية القوم الضالّين، إلاّ أنّهم لم يلبّوا دعوته

___________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ومجمع البيان، ونور الثقلين، ذيل الآية محلّ البحث.

2 ـ نور الثقلين، ج4، ص336.

[ 233  ]

الخيّرة ..

ومن جهة أُخرى، فإنّ يونس لمّا كان يعلم أنّ العذاب الإلهي سينزل بهم سريعاً، فإنّ ترك تلك المدينة لم يكن معصية، ولكن كان الأولى لنبي عظيم كيونس ألاّ يتركها حتّى آخر لحظة ـ اللحظة التي سيعقبها العذاب الإلهي ـ ولذلك آخذه الله على هذه العجلة، وإعتبر عمله تركاً للأولى.

وهذا هو عين ما أشرنا إليه في قصّة آدم(عليه السلام) من أنّ المعصية ليست مطلقة، بل نسبيّة، أو بتعبير آخر هي مصداق «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين». ولمزيد الإطّلاع راجع ما ذكرناه ذيل الآية (19) وما بعدها من سورة الأعراف.

4 ـ درس مصيري

جملة (كذلك ننجي المؤمنين) العميقة المعنى توحي بأنّ ما أصاب يونس من البلاء والنجاة لم يكن حكماً خاصّاً، بل حكم عام مع حفظ تسلسل الدرجات والمراتب.

إنّ كثيراً من الحوادث المؤلمة والإبتلاءات الشديدة والمصائب نتيجة لذنوبنا ومعاصينا، وهي سياط لتنبيه الأرواح الغافلة، أو هي مواقد لتصفية معادن أرواح الآدميين فمتى ما تنبّه الإنسان إلى ثلاثة اُمور [التي إنتبه إليها يونس في مثل هذا الظرف] فإنّه سينجو حتماً:

1 ـ التوجّه إلى حقيقة التوحيد، وأنّه لا معبود ولا سند إلاّ الله.

2 ـ تنزيه الله عن كلّ عيب ونقص وظلم وجور، وتجنّب كلّ سوء ظنّ بذاته المقدّسة.

3 ـ الإعتراف بذنبه وتقصيره.

والشاهد على هذا الكلام الحديث المروي في الدرّ المنثور عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة

[ 234  ]

يونس بن متّى» فقال رجل: يارسول الله هي ليونس خاصّة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس خاصّة وللمؤمنين إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله (وكذلك ننجي المؤمنين)؟ فهو شرط من الله لمن دعاه»(1).

ولا يحتاج أن نذكر بأنّ المراد ليس قراءة الألفاظ والكلمات فقط، بل جريان حقيقتها في أعماق روح الإنسان، أي أن ينسجم كلّ وجوده مع معنى تلك الألفاظ حين قراءتها.

ويلزم التذكير بهذه المسألة، وهي أنّ العقوبات الإلهيّة على نحوين:

أحدهما: عذاب الإستئصال، أي العقوبة النهائية التي تحلّ لمحو الأفراد الذين لا يمكن إصلاحهم، إذ لا ينفعهم أي دعاء حينئذ، لأنّ أعمالهم ذاتها ستكرّر بعد هدوء عاصفة البلاء.

والآخر: عذاب التنبيه، والذي له صفة تربوية، ويرتفع مباشرةً بمجرّد أن يؤثّر أثره ويتنبّه المخطىء ويثوب إلى رشده. ومن هنا يتّضح أنّ إحدى غايات الآفات والإبتلاءات والحوادث المرّة هي التوعية والتربية.

إنّ حادثة يونس(عليه السلام) تحذّر بصورة ضمنيّة جميع قادة الحقّ والمرشدين إليه بأن لا يتصوّروا إنتهاء مهمتهم مطلقاً، ولا يستصغروا أي جهد وسعي في هذا الطريق، لأنّ مسؤولياتهم ثقيلة جدّاً.

* * *

___________________________

1 ـ الدرّ المنثور، طبقاً لنقل الميزان، ذيل الآيات مورد البحث.

[ 235  ]

الآيتان

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَرِثِينَ(89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَـرِعُونَ فِى الْخَيْرَتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَـشِعِينَ(90)

التّفسير

نجاة زكريا من الوحدة:

تبيّن هاتان الآيتان جانباً من قصّة شخصيتين اُخريين من أنبياء الله العظماء، وهما زكريا ويحيى(عليهما السلام). فتقول الأُولى: (وزكريا إذ نادى ربّه ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين).

لقد مرّت سنين من عمر زكريا، واشتعل رأسه شيباً، ولم يرزق الولد حتّى ذلك الحين، ثمّ أنّ زوجته كانت عقيماً، وقد كان يأمل أن يُرزق ولداً يستطيع أن يُكمل مناهجه الإلهيّة وأعماله التبليغيّة، ولئلاّ يتسلّط المنتفعون على معبد بني إسرائيل، فينهبوا منه أمواله وهداياه التي ينبغي إنفاقها في سبيل الله.

وعندئذ توجّه إلى الله بكلّ وجوده وسأله ولداً صالحاً .. ودعا الله دعاءً يفيض تأدّباً، فبدأ دعاءَه بكلمة «ربّ»، الربّ الذي يشمل الإنسان بلطفه من أوّل لحظة.

ثمّ أكّد زكريا(عليه السلام) على هذه الحقيقة، وهي أنّي إن بقيت وحيداً فسأُنسى ـ

[ 236  ]

 ولا أُنسى وحدي، بل ستُنسى مناهجي وسيرتي أيضاً; أكّد كلّ ذلك بتعبير (لا تذرني)من مادّة (وذر) على وزن مرز بمعنى ترك الشيء لقلّة قيمته وعدم أهميّته. وأخيراً فإنّ جملة (وأنت خير الوارثين) تعبّر عن حقيقة أنّه يعلم أنّ هذه الدنيا ليست دار بقاء، ونعلم أنّ الله خير الوارثين، ولكنّه يبحث ـ من جهة عالم الأسباب ـ عن سبب يوصله إلى هذا الهدف ..

فاستجاب الله هذا الدعاء الخالص المليء بعشق الحقيقة، وحقّق اُمنيته وما كان يصبوا إليه، كما تقول الآية: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) ومن أجل الوصول إلى هذا المراد أصلحنا زوجته وجعلناها قادرة على الإنجاب (وأصلحنا له زوجه).

ثمّ أشار الله سبحانه إلى ثلاث صفات من الصفات البارزة لهذه الاُسرة فقال: (إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً(1) وكانوا لنا خاشعين)والخشوع هو الخضوع المقرون بالإحترام والأدب، وكذلك الخوف المشفوع بالإحساس بالمسؤولية.

إنّ ذكر هذه الصفات الثلاث ربّما تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء عندما يصلون إلى النعمة فلا يبتلون بالغفلة والغرور كما في الأشخاص الماديين من ضعفاء الإيمان، فهؤلاء لا ينسون الضعفاء المحتاجين على كلّ حال، ويسارعون في الخيرات، ويتوجّهون إلى الله سبحانه في حال الفقر والغنى، والمرض والصحّة، وأخيراً فإنّهم لا يبتلون بالكبر والغرور عند إقبال النعمة، بل كانوا خاشعين خاضعين أبداً.

* * *

___________________________

1 ـ «رغباً» بمعنى الرغبة والميل والعلاقة، و «رهباً» بمعنى الخوف والرعب، وهناك إحتمالات متعدّدة في محلّها من الإعراب، فيمكن أن تكون حالا أو تمييزاً أو مفعولا مطلقاً، أو ظرفاً أي في حال الرغبة وفي حال الرهبة. وبالرغم من أنّ نتائج هذه الإحتمالات الخمسة تختلف مع بعضها، إلاّ أنّ هذا التفاوت في جزئيات مفهوم الآية، لا في أساسها ونتيجتها.

[ 237  ]

الآية

وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَـهَا وَابْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَـلَمِينَ(91)

التّفسير

مريم السيّدة الطاهرة:

اُشير في هذه الآية إلى مقام مريم وعظمتها وعظمة إبنها المسيح (عليهما السلام).

إنّ ذكر مريم في ثنايا البحوث التي تتكلّم على الأنبياء الكرام; إمّا من أجل ولدها عيسى (عليه السلام)، أو لأنّ ولادته كانت تشبه ولادة يحيى بن زكريا(عليهما السلام) من جهات متعدّدة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في ذيل آيات سورة مريم(1). أو ليوضّح أنّ العظمة غير مختّصة بالرجال، بل هناك نساء عظيمات يدلّ تاريخهنّ على عظمتهنّ، وكنّ قدوة ومثلا أسمى لنساء العالم.

تقول الآية: واذكر مريم: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين).

* * *

___________________________

1 ـ تراجع الآيات الأُولى من سورة مريم.

[ 238  ]

ملاحظات

1 ـ «الفرج» معناه في اللغة الفاصلة والشقّ، وإستعمل كناية عن العضو التناسلي، لا أنّه صريح في هذا المعنى ويرى البعض انّ كلّ ما ورد في القرآن في شأن الاُمور الجنسية له طابع كنائي وغير صريح، من قبيل «اللمس» «الدخول» «الغشيان»(1) «الإتيان»(2) وغير ذلك.

ويلزم ذكر هذه اللطيفة أيضاً، وهي: إنّ ظاهر الآية المتقدّمة يقول: إنّ مريم قد حفظت طهارتها وعفّتها من كلّ أشكال التلوّث بما ينافي العفّة. إلاّ أنّ بعض المفسّرين إحتمل في معنى هذه الآية أنّها إمتنعت من الإتّصال بالرجال، سواء كان ذلك من الحلال أو الحرام(3)، كما تقول الآية (20) من سورة مريم: (ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً).

إنّ هذه الصفة في الحقيقة مقدّمة لإثبات إعجاز ولادة عيسى وكونه آية.

2 ـ إنّ المراد من «روحنا» ـ كما قلنا سابقاً ـ الإشارة إلى روح عظيمة متعالية، ويقال لمثل هذه الإضافة: «الإضافة التشريفيّة»، حيث نضيف شيئاً إلى الله لبيان عظمته، مثل بيت الله، وشهر الله.

3 ـ تقول الآية آنفة الذكر: إنّا جعلنا مريم وإبنها آية للعالمين، ولم تقل: آيتين وعلامتين، لأنّ وجود مريم ووجود إبنها إمتزجا في هذه الآية الإلهيّة العظيمة إمتزاجاً لا يمكن معه تجزئة بعضهما عن بعض، فإنّ ولادة ولد بدون أب إعجاز بنفس المقدار الذي تحمل فيه امرأة بدون زوج. وكذلك معجزات عيسى (عليه السلام) في طفولته وكبره فإنّها تذكر باُمّه.

إنّ هذه الاُمور الخارقة للعادة، والمخالفة للأسباب الطبيعيّة العادية، يبيّن في

___________________________

1 ـ الأعراف، 189 (فلمّا تغشّاها).

2 ـ البقرة، 222 (فاتوهنّ من حيث أمركم الله).

3 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير في ظلال القرآن، ذيل الآية محل البحث.

[ 239  ]

الجملة حقيقة أنّ وراء سلسلة الأسباب قدرة قادرة على تغييرها في أي وقت شاءت.

وعلى كلّ حال، فإنّ حال السيّد المسيح واُمّه مريم(عليهما السلام) لم يكن له نظير على طول تأريخ البشر، فلم يُر قبله ولا بعده شبيه له وربّما كان تنكير كلمة (آية) [في قوله تعالى: (وجعلناها وابنها آيةً للعالمين)] الدالّ على التعظيم هو إشارة إلى هذا المعنى ..

* * *

[ 240  ]

الآيات

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَجِعُونَ(93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـلِحَـتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَـتِبُونَ(94)

التّفسير

اُمّة واحدة:

لمّا ورد في الآيات السابقة أسماء جمع من أنبياء الله، وكذلك مريم، تلك المرأة التي كانت مثلا أسمى، وجانب من قصصهم، فإنّ هذه الآيات تستخلص نتيجة ممّا مرّ، فتقول: (إنّ هذه اُمّتكم اُمّة واحدة) فقد كان منهجهم واحداً، وهدفهم واحداً بالرغم من إختلافهم في الزمان والمحيط والخصائص والأساليب والطرائق، فهم كانوا يسيرون في منهج واحد ويمضون جميعاً في طريق التوحيد ومحاربة الشرك ودعوة الناس إلى الإيمان بالله والحقّ والعدالة.

إنّ توحيد ووحدة الخطط والأهداف هذه تعود إلى أنّها جميعاً تصدر عن مصدر واحد، عن إرادة الله الواحد، ولهذا تقول الآية مباشرةً: (وأنا ربّكم فاعبدون).

[ 241  ]

إنّ توحيد الأنبياء الإعتقادي في الواقع يقوم على أساس وحدة منبع الوحي، وهذا الكلام يشبه كلام الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام المجتبى (عليه السلام) حيث يقول: «واعلم يابني أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولعرفت أفعاله وصفاته»(1).

«الاُمّة» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني كلّ جماعة تربطهم جهة مشتركة، الإشتراك في الدين، أو الزمن والعصر الواحد، أو المكان المعيّن، سواء كانت هذه الوحدة إختيارية أو بدون إختيار.

وإعتبر بعض المفسّرين الاُمّة الواحدة هنا بمعنى الدين الواحد، ولكن كما قلنا أنّ هذا التّفسير لا يتناسب والأصل اللغوي للاُمّة.

وقال البعض الآخر: إنّ المراد من الاُمّة هنا كلّ البشر وفي جميع الأعصار، أي إنّكم أيّها البشر اُمّة واحدة، ربّكم واحد، وهدفكم الأخير واحد.

إنّ هذا التّفسير وإن كان أكثر إنسجاماً من التّفسير السابق، ولكنّه لا يبدو مناسباً بملاحظة إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة، بل الأنسب منها جميعاً أن تكون هذه الجملة إشارة إلى الأنبياء الذين مرّ ذكرهم في الآيات السابقة.

وأشارت الآية التالية إلى إنحراف جماعة عظيمة من الناس عن أصل التوحيد، فقالت: (وتقطّعوا أمرهم بينهم) فقد وصل بهم الأمر إلى أن يقف بعضهم ضدّ بعض، ويلعن بعضهم بعضاً ويتبرّأ منه، ولم يكتفوا بذلك، بل شهروا السلاح فيما بينهم، وسفكوا الدماء الكثيرة، وكانت هذه الأحداث نتيجة الإنحراف عن أصل التوحيد ودين الله الحقّ.

جملة «تقطّعوا» ـ من مادّة قطع ـ بمعنى تفريق القطع المتّصلة بموضوع واحد، وإذا لاحظنا أنّها جاءت من باب (تفعّل) الذي يأتي بمعنى القبول، فإنّ معنى

___________________________

1 ـ نهج البلاغة. الرسالة 31.

[ 242  ]

الجملة هو: إنّ اُولئك قد إستسلموا أمام عوامل التفرقة والنفاق، ورضوا بأن يبتعد أحدهم عن الآخر، وأنهوا إتّحادهم الفطري والتوحيدي، فمَنُوا ـ نتيجة ذلك ـ بكلّ تلك الهزائم والشقاوة!

وتضيف في النهاية: (كلّ إلينا راجعون) فإنّ هذا الإختلاف عرضي يمكن إقتلاعه، وسيسيرون في طريق الوحدة جميعاً في يوم القيامة، وقد أكّد على هذه المسألة في كثير من الآيات القرآنية، وهي أنّ واحدة من خصائص يوم القيامة زوال الإختلافات وذوبانها والرجوع إلى الوحدة، فنقرأ في الآية 48/سورة المائدة: (إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون).

ويلاحظ هذا المضمون في آيات متعدّدة من القرآن الكريم(1)، وعلى هذا فإنّ خلق البشر بدأ من الوحدة، ويرجع إلى الوحدة.

وتبيّن الآية الأخيرة نتيجة الإنسجام مع الاُمّة الواحدة في طريق عبادة الله، أو الإنحراف عنها وإتّخاذ طريق التفرقة، فتقول: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) ومن أجل زيادة التأكيد قالت: (وإنّا له لكاتبون).

وممّا يستحقّ الإنتباه، أنّ الإيمان والعمل الصالح قد ذكرا في هذه الآية ـ ككثير من آيات القرآن الاُخرى ـ كركنين أساسيّين لنجاة البشر، غير أنّ كلمة (من) التبعيضيّة تضيف إلى ذلك أنّ القيام بكلّ الأعمال الصالحة ليس شرطاً، فإنّ المؤمنين إذا قاموا ببعض الأعمال الصالحة فإنّهم من أهل النجاة والسعادة.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية ككثير من آيات القرآن الاُخرى قد عدّت الإيمان شرطاً لقبول الأعمال الصالحة.

ذكر جملة (فلا كفران لسعيه) في مقام بيان ثواب مثل هؤلاء الأفراد، هو

___________________________

1 ـ آل عمران ـ 55، والأنعام ـ 164، والنحل ـ 92، والحجّ ـ 69، و...

[ 243  ]

تعبير مقترن بتمام اللطف والمحبّة والسماحة، لأنّ الله سبحانه هنا في مقام الشكر والثناء على عباده، ويشكر لهؤلاء سعيهم.

وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية 19/سورة الإسراء: (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاُولئك كان سعيهم مشكوراً).

* * *

[ 244  ]

الآيات

وَحَرَمٌ عَلَى قَرْيَة أَهْلَكْنَـهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ(95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَب يَنسِلُونَ(96)وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَـخِصَةٌ أَبْصَـرُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَـوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَة مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَـلِمِينَ(97)

التّفسير

الكافرون على أعتاب القيامة:

كان الكلام في آخر الآيات السابقة على المؤمنين العاملين للصالحات، وتشير الآية الأُولى من هذه الآيات إلى الأفراد في الطرف المقابل لاُولئك، وهم الذين استمرّوا في الضلال والفساد إلى آخر نفس، فتقول: (وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون)(1).

إنّ هؤلاء في الحقيقة اُناس ترفع الحجب عن أعينهم وأنظارهم بعد مشاهدة العذاب الإلهي، أو بعد فنائهم وإنتقالهم إلى عالم البرزخ، وعندها يأملون أن

___________________________

1 ـ بناءً على هذا التّفسير فإنّ (حرام) خبر لمبتدأ محذوف، وجملة (إنّهم لا يرجعون) دليل على ذلك، والتقدير: (حرام على أهل قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا أنّهم لا يرجعون).

[ 245  ]

يرجعوا إلى الدنيا ليصلحوا أخطاءهم ويعملون الصالحات، إلاّ أنّ القرآن يقول بصراحة: إنّ رجوع هؤلاء حرام تماماً، ولم يبق طريق لجبران ما صدر منهم.

وهذا يشبه ما جاء في الآية (99) من سورة المؤمنون: (حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ ..).

وقد ذكرت في تفسير هذه الآية توضيحات أُخرى نشير إلى بعضها في الهامش(1).

وعلى كلّ حال فإنّ هؤلاء المغفّلين في غرور وغفلة على الدوام، وتستمرّ هذه التعاسة حتّى نهاية العالم، كما يقول القرآن: (حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون).

لقد بحثنا بصورة مفصّلة حول «يأجوج ومأجوج»، وإنّهما من أيّة طائفة كانا؟ وأين كانا يعيشان؟ وأخيراً ماذا يعملان، وماذا سيكونان؟ في ذيل الآية (94) وما بعدها من سورة الكهف، كما تكلّمنا على «السدّ» الذي بناه «ذو القرنين» في مضيق جبلي ليمنع نفوذهما أيضاً ..

هل المراد من فتح هاتين الطائفتين تحطيم السدّ، ونفوذهما عن هذا الطريق إلى مناطق العالم الاُخرى؟ أم المراد نفوذهما في الكرة الأرضية من كلّ حدب وصوب؟ لم تتحدّث الآية عن ذلك بصراحة، بل ذكرت إنتشارهم وتفرّقهم في الكرة الأرضية كعلامة لنهاية العالم ومقدّمة للبعث والقيامة، فتقول مباشرةً: (واقترب الوعد الحقّ فإذا هي شاخصةً أبصار الذين كفروا). لأنّ الرعب يسيطر

___________________________

1 ـ اعتبر البعض «الحرام» هنا بمعنى الواجب، وقالوا: إنّ هذه الكلمة قد تأتي أحياناً بهذا المعنى، فتكون (لا) زائدة، ويصبح معنى الآية: إنّ رجوع هؤلاء في الآخرة واجب.

وقال البعض الآخر: إنّ الحرام هنا يعني الحرام نفسه، إلاّ أنّ (لا) زائدة، فيكون المعنى: إنّ رجوع هؤلاء إلى الدنيا حرام.
وإعتقد البعض الآخر أنّ المعنى عدم التوبة والرجوع إلى الله (تفسير مجمع البيان، والفخر الرازي، ذيل الآية مورد البحث).
وقال بعض آخر: إنّ هذه الآية من قبيل نفي النفي، فتقول: إنّ من المحال أن لا يرجع هؤلاء في القيامة، أي إنّهم يرجعون (تفسير منهج الصادقين، ذيل الآية مورد البحث) إلاّ أنّ ما أوردناه في المتن هو الأنسب من الجميع.

[ 246  ]

على وجودهم إلى حدّ أنّ عيونهم تتوقّف عن الحركة وتصبح جاحظة لدى نظرهم إلى تلك الحوادث.

في هذه الأثناء ترفع عن أبصارهم حجب الغفلة والغرور، فيرتفع صوتهم: (ياويلنا قد كنّا في غفلة من هذا). ولمّا كانوا لا يقدرون على تغطية ذنبهم بهذا العذر ليبرّئوا أنفسهم، فإنّهم يقولون بصراحة: (بل كنّا ظالمين).

كيف يمكن عادةً مع وجود كلّ هؤلاء الأنبياء، والكتب السماوية، وكلّ هذه الحوادث المثيرة والعبر والدروس أن يكونوا في غفلة؟ إنّ ما صدر من هؤلاء تقصير وظلم لأنفسهم وللآخرين.

معنى بعض الكلمات:

«حدب» على زنة «أدب» معناه ما إرتفع من الأرض بين منخفضاتها، وقد يطلق على ما إرتفع وبرز من ظهر الإنسان أيضاً.

«ينسلون» من مادّة «نسول» (على وزن فضول)، أي الخروج بسرعة. وما قيل في شأن يأجوج ومأجوج إنّهما يمرّان بسرعة على المرتفعات إشارة إلى نفوذهم الخارق في الكرة الأرضية.

«شاخصة» من الشخوص، وهو في الأصل الخروج من المنزل، أو الخروج من مدينة إلى أُخرى، ولمّا كانت العين عند التعجّب والدهشة كأنّها تريد الخروج من الحدقة، فقد قيل لذلك «شخوص» إنّ هذه هي حالة المذنبين العاصين في القيامة يصبحون حائرين كأنّ أعينهم تريد أن تخرج من أحداقهم.

* * *

[ 247  ]

الآيات

إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَرِدُونَ(98) لَوْ كَانَ هَـؤُلاَءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَـلِدُونَ(99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ(100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101) لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَـلِدُونَ(102) لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاَْكْبَرُ وَتَتَلَقَّـهُمُ الْمَلَـئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ(103)

التّفسير

حصب جهنّم!

متابعة للبحث السابق عن مصير المشركين الظالمين، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب إليهم، وجسّدت مستقبلهم ومستقبل آلهتهم بهذه الصورة: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم)!

«الحصب» في الأصل يعني الرمي والإلقاء، وتقال بالذات لإلقاء قطع الحطب

[ 248  ]

في التنور.

وقال بعضهم: إنّ للحطب ـ على وزن سبب ـ في لغات العرب ألفاظاً مختلفة، فبعض القبائل يسمّيه حصباً، والبعض الآخر خضباً، ولمّا كان القرآن يسعى للتأليف بين القبائل والطوائف والقلوب، فإنّه كان يستعمل لغات مختلفة أحياناً، ومن جملة ذلك كلمة «حصب» هذه، وهي لغة أهل اليمن لكلمة حطب(1).

وعلى كلّ حال، فإنّ الآية محلّ البحث تقول للمشركين: إنّكم وآلهتكم ستكوّنون حطب جهنّم، وستُلقون الواحد تلو الآخر في نار جهنّم كقطع الحطب التي لا قيمة لها، ثمّ تضيف (أنتم لها واردون).

وهذه الجملة إمّا أن تكون تأكيداً لهذا المطلب، أو إنّها إشارة إلى نكتة جديدة، وهي أنّهم يلقون آلهتكم في النّار أوّلا، ثمّ تردون عليها، فكأنّ آلهتكم تستقبلكم وتستضيفكم بالنّار المنبعثة من وجودها(2).

فإذا سأل سائل ما الهدف من إلقاء الأصنام في جهنّم؟

يقال في الجواب: إنّ هذا بنفسه نوع من العذاب بالنسبة لعبدة الأصنام حيث يرون أنّهم يحترقون في النّار التي تتوقّد من آلهتهم. إضافةً إلى أنّه تحقير لأفكارهم حيث كانوا يلتجؤون إلى مثل هذه الموجودات العديمة القيمة والأهميّة.

طبعاً، هذا في حالة كون (ما يعبدون) تعني الآلهة الميتة التي لا روح لها كالأصنام الحجرية والخشبية، كما يستفاد ذلك من (ما) لأنّها تستعمل غالباً لغير العاقل.

___________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي، ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ اللام في (لها) بمعنى «إلى»، وضمير (ها) يعود إلى جهنّم في الصورة الأُولى، أمّا في التّفسير الثّاني فإنّ اللام تعني «إلى»، ولكن الضمير يعود إلى الأصنام.

[ 249  ]

أمّا إذا أخذناها بالمعنى العامّ، بحيث تشمل الشياطين الذين أصبحوا محلّ عبادة، فإنّ مسألة ورود هذه الآلهة إلى جهنّم واضحة تماماً، لأنّهم شركاء في الجريمة والمعصية.

ثمّ تقول كإستخلاص للنتيجة: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) ولكن اعلموا أنّهم لا يدخلون جهنّم وحسب، بل (وكلّ فيها خالدون). وممّا يلفت النظر هنا أنّ عبّاد الأصنام سيبتلون بآلهتهم خالدين معها، تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها دائماً، وكانوا يعدّونها درعاً واقياً عن البلاء، وكانوا يطلبون منها حلّ مشاكلهم ومعضلاتهم!

ولمزيد الإيضاح عن حال هؤلاء «العابدين الضالّين» المؤلمة المخزية قبال «آلهتهم الحقيرة»، تقول الآية محلّ البحث: (لهم فيها زفير وشهيق).

«الزفير» في الأصل يعني الصراخ المقترن بإخراج النفس. وقال بعضهم: إنّ صوت الحمار وصراخه المنكسر يسمّى في البداية زفيراً، وفي آخره شهيقاً. وعلى كلّ حال فإنّه استُعمل هنا إشارة إلى الصراخ أو الضجيج المنبعث من الحزن وشدّة الكرب(1).

كما يحتمل أنّ هذا الزفير أو الأنين المؤلم لا يكون مقتصراً على العباد فحسب، بل إنّ معبوداتهم من الشياطين أيضاً يصطرخون معهم.

ثمّ تذكّر الجملة التالية أحد العقوبات الاُخرى المؤلمة لهؤلاء، وهي (وهم فيها لا يسمعون). وهذه الجملة قد تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء لا يسمعون الكلام الذي يسرّهم ويبهجهم، بل يسمعون أنين أهل جهنّم المؤلم المنغّص وصراخ ملائكة العذاب فقط.

وقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ هؤلاء يوضعون في توابيت من نار بحيث

___________________________

1 ـ لمزيد الإيضاح راجع تفسير الآية (106) من سورة هود.

[ 250  ]

 لا يسمعون صوت أي أحد أبداً، فكأنّهم لوحدهم في العذاب، وهذا بنفسه يعتبر عقوبة أشدّ، لأنّ الإنسان إذا رأى معه بعض المسجونين فستهون عليه المصيبة، و «البليّة إذا عمّت طابت»، كما في المثل.

ثمّ تبيّن الآية التالية حالات المؤمنين الحقيقيين من الرجال والنساء ليتبيّن وضع الفريقين من خلال المقارنة بينهما، فتقول أوّلا: (إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى اُولئك عنها مبعدون) وهو إشارة إلى أنّنا سنفي بكلّ الوعود التي وعدنا بها المؤمنين في هذه الدنيا، وأحدها إبعادهم عن نار جهنّم.

وبالرغم من أنّ ظاهر الجملة يشمل كلّ المؤمنين الحقيقيين، إلاّ أنّ البعض إحتمل أن تكون إشارة إلى من عُبد من دون الله كالمسيح ومريم(عليهما السلام)، الذين عبدوا دون إرادتهم، ولمّا كانت الآيات السابقة تقول: ستكونون أنتم وآلهتكم في جهنّم، وكان من الممكن أن يشمل هذا التعبير أمثال المسيح (عليه السلام)، فإنّ القرآن يبيّن هذه الجملة كإستثناء بأنّ هذه الفئة سوف لا ترد الجحيم أبداً.

وذكر بعض المفسّرين سبباً لنزول هذه الآية، وهو يوحي بأنّ البعض قد سأل الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) نفس هذا السؤال، فنزلت الآية تجيبهم. ولكن مع ذلك فلا مانع من أن تكون الآية جواباً لهذا السؤال، وأن تكون حكماً عامّاً لكلّ المؤمنين الواقعيين.

وتذكر الآيتان الأخيرتان أربع نعم إلهيّة كبرى تغمر هذه الطائفة السعيدة.

فالأُولى: إنّهم (لا يسمعون حسيسها) و «الحسيس» ـ كما قال أرباب  اللغة ـ الصوت المحسوس، وجاءت أيضاً بمعنى الحركة، أو الصوت الناشىء من الحركة، ونار الجحيم المشتعلة دائماً لها صوت خاصّ، وهذا الصوت مرعب من جهتين: من جهة أنّه صوت النّار، ومن جهة أنّه صوت حركة النّار والتهامها. ولمّا كان المؤمنون المخلصون بعيدين عن جهنّم، فسوف لا يطرق سمعهم هذا الصوت المرعب مطلقاً.

[ 251  ]

والثّانية: إنّهم (وهم فيما إشتهت أنفسهم خالدون) فليس حالهم كما في هذه الدنيا المحدودة، حيث أنّ الإنسان يأمل كثيراً من النعم دون أن ينالها، فإنّهم ينالون كلّ نعمة يريدونها، مادية كانت أو معنوية، وليس ذلك على مدى يوم أو يومين، بل على إمتداد الخلود.

والثّالثة: إنّهم (لا يحزنهم الفزع الأكبر). وقد إعتبر بعضهم أنّ هذا الفزع الأكبر إشارة إلى أهوال يوم القيامة التي هي أكبر من كلّ هول وفزع، وعدّه بعضهم إشارة إلى نفخة الصور وإختلافات الأحوال وتبدّلها عند إنتهاء هذه الدنيا، والزلزال العجيب الذي سيدكّ أركان هذا العالم كما جاء في الآية (87) من سورة النحل. ولكن لمّا كان هول يوم القيامة وفزعها أهمّ وأكبر من جميع تلك الاُمور، فإنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأصحّ.

والرّابعة: من ألطاف الله تعالى لهؤلاء هو ما ذكرته الآية محلّ البحث: (وتتلقّاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون).

وفي نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) قال: «فبادروا بأعمالكم تكونوا مع جيران الله في داره، رافق بهم رسله، وأزارهم ملائكته، وأكرم أسماعهم أن تسمع حسيس جهنّم أبداً»(1).

* * *

___________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 183.

[ 252  ]

الآية

يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَـعِلِينَ(104)

التّفسير

يوم تطوى السّماء!

قرأنا في آخر آية من الآيات السابقة أنّ المؤمنين آمنون من الفزع الأكبر وهمّه، وتجسّم هذه الآية رعب ذلك اليوم العظيم، وفي الحقيقة تبيّن وتجسّد علّة عظمة وضخامة هذا الرعب، فتقول: (يوم نطوي السّماء كطي السجل للكتب)(1).

لقد كان الناس في الأزمنة الغابرة يستعملون أوراقاً كالطومار لكتابة الرسائل والكتب، وكانوا يطوون هذا الطومار قبل الكتابة، ثمّ أنّ الكاتب يفتح منه تدريجيّاً ويكتب عليه ما يريد كتابته، ثمّ يُطوى بعد الإنتهاء من الكتابة ويضعونه جانباً، ولذلك فقد كانت رسائلهم ومثلها كتبهم أيضاً على هيئة الطومار، وكان هذا الطومار يسمّى سجلا، إذ كان يستفاد منه للكتابة.

وفي هذه الآية تشبيه لطيف لطيّ سجل عالم الوجود عند إنتهاء الدنيا، ففي

___________________________

1 ـ السَجْل: الدلو العظيمة، والسِّجِلّ حجر كان يكتب فيه، ثمّ سمّي كلّ ما يكتب فيه سجلا ـ مفردات الراغب والقاموس ـ وينبغي الإلتفات إلى أنّه احتملت إحتمالات عديدة في تفسير جملة (كطي السجل للكتب) إلاّ أنّ أقربها أنّ «طي» مصدر للسجل الذي اُضيف مفعوله، واللام في (للكتب) إمّا للإضافة أو لبيان العلّة. دقّقوا ذلك.

[ 253  ]

الوقت الحاضر فإنّ هذا السجل مفتوح، وتقرأ كلّ رسومه وخطوطه، وكلّ منها في مكان معيّن، أمّا إذا صدر الأمر الإلهي بقيام القيامة فإنّ هذا السجل العظيم سيطوى بكلّ رسومه وخطوطه.

طبعاً، لا يعني طي العالم الفناء كما يتصوّر البعض، بل يعني تحطّمه وجمعه، وبتعبير آخر: فإنّ شكل العالم وهيئته ستضطرب ويقع بعضه على بعض، لكن  لا تفنى مواده، وهذه الحقيقة تستفاد من العبيرات المختلفة في آيات المعاد، وخاصةً من آيات رجوع الإنسان من العظام النخرة، ومن القبور.

ثمّ تضيف (كما بدأنا أوّل خلق نعيده) وهذا التعبير يشبه التعبير الذي ورد في الآية (29) من سورة الأعراف: (كما بدأكم تعودون) أو أنّه مثل تعبير (وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه)(1)(2).

أمّا ما إحتمله بعض المفسّرين من أنّ المراد من هذا الرجوع هو الرجوع إلى الفناء والعدم، أو التلاحم والإرتباط كما في بداية الخلق، فيبدو بعيداً جدّاً.

وفي النهاية تقول الآية: (وعداً(3) علينا إنّا كنّا فاعلين)(4).

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ المراد من رجوع الناس إلى الحالة الأُولى، هو أنّهم يرجعون حفاة عراة مرّة أُخرى كما كانوا في بداية الخلق. ولكن لا شكّ أنّ هذا لا يعني إنحصار معنى الآية في ذلك وإقتصاره عليه، بل إنّه أحد صور رجوع الخلق إلى الصورة الأُولى(5).

* * *

___________________________

1 ـ سورة الروم، 27.

2 ـ كما قلنا سابقاً، فإنّه لا يوجد صعب وسهل بالنسبة إلى قدرة الله اللامتناهية، بل كلّ شيء متساو مقابل قدرته، وعلى هذا فإنّ التعبير المستعمل في الآية أعلاه إنّما هو بالنسبة لمحدودية فهم البشر، دقّقوا ذلك.

3 ـ «وعداً» مفعول لفعل مقدّر تقديره: وعدنا.

4 ـ هذه الجملة تتضمّن عدّة تأكيدات، فلفظة الوعد، ثمّ التعبير بـ(علينا) وبعدها التأكيد بـ(إنّا) ثمّ إستعمال الفعل الماضي (كنّا) وكذلك كلمة (فاعلين).

5 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات مورد البحث.

[ 254  ]

الآيتان

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـلِحُونَ(105) إِنَّ فِى هَذَا لَبَلَـغاً لِّقَوْم عَـبِدِينَ(106)

التّفسير

سيحكم الصالحون الأرض:

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى جانب من ثواب المؤمنين الصالحين، فقد أشارت السورة في هاتين الآيتين إلى أحد أوضح المكافآت الدنيويّة لهؤلاء، فتقول: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر انّ الأرض يرثها عبادي الصالحون).

وكلمة «الأرض» تطلق على مجموع الكرة الأرضية، وتشمل كافّة أنحاء العالم إلاّ أن تكون هناك قرينة خاصّة في الأمر، ومع أنّ البعض إحتمل أن يكون المراد وراثة كلّ الأرض في القيامة، إلاّ أنّ ظاهر كلمة الأرض عندما تذكر بشكل مطلق تعني أرض هذا العالم.

ولفظ «الإرث» ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ يعني إنتقال الشيء إلى شخص بدون معاملة وأخذ وعطاء، وقد إستعملت هذه الكلمة في القرآن أحياناً بمعنى تسلّط وإنتصار قوم صالحين على قوم طالحين، والسيطرة على مواهبهم

[ 255  ]

وإمكانياتهم، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها).

وبالرغم من أنّ «الزبور» في الأصل يعني كلّ كتاب ومقال، ومع أنّ موضعين من المواضع الثلاثة التي إستعملت فيها هذه الكلمة في القرآن يشيران إلى زبور داود، فلا يُستبعد أن يكون المورد الثّالث، أي ما ورد في الآية محلّ البحث إشارة إلى هذا المعنى أيضاً.

إنّ زبور داود ـ أو بتعبير كتب العهد القديم (مزامير داود) ـ عبارة عن مجموعة أدعية النّبي داود ومناجاته ونصائحه ومواعظه.

وإحتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الزبور هنا كلّ كتب الأنبياء السابقين(1).

ولكن يبدو على الأغلب ـ مع ملاحظة الدليل الذي ذكرناه ـ أنّ الزبور هو كتاب مزامير داود فقط، خاصةً وأنّ في المزامير الموجودة عبارات تطابق هذه الآية تماماً، وسنشير إلى ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

«والذكر» في الأصل يعني التذكير أو ما يسبّب التذكير والتذكّر، وإستعملت هذه الكلمة في القرآن بهذا المعنى، واُطلقت أحياناً على كتاب موسى السماوي، كالآية (48) من سورة النساء: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءً وذكراً للمتّقين).

وإستعملت أحياناً في شأن القرآن، كالآية (27) من سورة التكوير: (إن هو إلاّ ذكر للعالمين) ولذلك قال البعض: إنّ المراد من الذكر ـ في الآية مورد البحث ـ هو القرآن، والزبور كلّ كتب الأنبياء السابقين، أي إنّنا كتبنا في كلّ كتب الأنبياء السابقين إضافةً إلى القرآن بأنّ الصالحين سيرثون الأرض جميعاً.

___________________________

1 ـ نقل هذا الإحتمال في تفسير مجمع البيان، وتفسير الفخر الرازي عن عدّة من المفسّرين.

[ 256  ]

لكن ملاحظة التعبيرات التي إستعملت في الآية توضّح أنّ المراد من الزبور كتاب داود، والذكر بمعنى التوراة، ومع ملاحظة أنّ الزبور كان بعد التوراة، فإنّ تعبير (من بعد) حقيقي، وعلى هذا فإنّ معنى الآية: إنّنا كتبنا في الزبور بعد التوراة أنّنا سنورث العباد الصالحين الأرض.

وهنا ينقدح سؤال، وهو: لماذا ذكر هذان الكتابان من بين الكتب السماوية؟

ربّما كان هذا التعبير بسبب أنّ داود كان أحد أكبر الأنبياء، وإستطاع أن يشكّل حكومة الحقّ والعدل، وكان بنو إسرائيل مصداقاً واضحاً للقوم المستضعفين الذين ثاروا بوجه المستكبرين ودمّروا دولتهم واستولوا على حكومتهم وورثوا أرضهم.

والسؤال الآخر الذي يُثار هنا هو: من هم عباد الله الصالحون؟

إذا لاحظنا إضافة العباد إلى الله ستتّضح مسألة إيمان هؤلاء وتوحيدهم، وبملاحظة كلمة الصالحين التي لها معنى واسع، فستخطر على الذهن كلّ المؤهّلات، الأهليّة من ناحية التقوى، والعلم والوعي، ومن جهة القدرة والقوّة، ومن جانب التدبير والتنظيم والإدراك الإجتماعي.

عندما يهيء العباد المؤمنون هذه المؤهّلات والأرضيات لأنفسهم، فإنّ الله سبحانه يساعدهم ويعينهم ليمرغوا اُنوف المستكبرين في التراب، ويقطعوا أيديهم الملوّثة، فلا يحكمون أرضهم بعدُ، بل تكون للمستضعفين، فيرثونها، فبناءً على ذلك فإنّ مجرّد كونهم مستضعفين لا يدلّ على الإنتصار على الأعداء وحكم الأرض، بل إنّ الإيمان لازم من جهة، وإكتساب المؤهّلات من جهة أُخرى، وما دام مستضعفو الأرض لم يُحيوا هذين الأصلين فسوف لا يصلون إلى وراثة الأرض وحكمها. ولذلك فإنّ الآية التالية تقول من باب التأكيد المشدّد: (إنّ في هذا لبلاغاً لقوم عابدين).

لقد إعتبر بعض المفسّرين (هذا) إشارة إلى كلّ الوعود والتهديدات التي

[ 257  ]

جاءت في هذه السورة، أو في كلّ القرآن، ويدخل موضوع بحثنا في هذا المفهوم الكلّي أيضاً. إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ (هذا) إشارة إلى الوعد الذي اُعطي للعباد الصالحين في الآية السابقة في شأن الحكومة في الأرض.

* * *

بحوث

1 ـ روايات حول ثورة المهدي (عليه السلام)

لقد فسّرت هذه الآية في بعض الرّوايات بأصحاب المهدي (عليه السلام)، كما نرى رواية في تفسير مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) في ذيل هذه الآية: «هم أصحاب المهدي في آخر الزمان».

وجاء في تفسير القمّي في ذيل هذه الآية: (إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) قال: «القائم وأصحابه».

لا يخفى أنّ معنى هذه الرّوايات ليس الحصر، بل هو بيان مصداق عال وواضح، وقلنا مراراً: إنّ هذه التفاسير لا تحدّ من عمومية مفهوم الآية مطلقاً، وبناءً على هذا ففي كلّ زمان، وفي أي مكان ينهض فيه عباد الله الصالحون بوجه الظلم والفساد فإنّهم سينتصرون عاقبة الأمر، وسيكونون ورثة الأرض وحاكميها.

وإضافة إلى الرّوايات الواردة آنفاً في تفسير هذه الآية، فقد رويت روايات كثيرة جدّاً (بلغت حدّ التواتر) عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وعن طريق السنّة والشيعة، في شأن المهدي (عليه السلام)، وكلّها تدلّ على أنّ حكم الأرض سيقع في أيدي الصالحين، وإنّ رجلا من أهل بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً.

ومن جملة الرّوايات الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي نقلته أكثر المصادر الإسلامية: «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث

[ 258  ]

رجلا (صالحاً) من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلماً وجوراً».

وقد ورد هذا الحديث بهذا التعبير مع إختلاف يسير في كثير من كتب الشيعة وأهل السنّة(1).

وقد نوّهنا في ذيل الآية (33) من سورة التوبة: إنّ جماعة من كبار علماء الإسلام، من أهل السنّة والشيعة قديماً وحديثاً قد صرّحوا في كتبهم بأنّ الأحاديث الواردة في قيام المهدي (عليه السلام) بلغت حدّ التواتر، وليس لأيٍّ إنكارها بأي وجه، حتّى أنّ كتباً قد أُلّفت في هذا الصدد بصورة خاصة تستطيع أن تطّلع على تفصيلها في ذيل الآية (33) من سورة التوبة.

2 ـ بشارة حكومة الصالحين في مزامير داود

ممّا يلفت النظر أنّه يلاحظ في كتاب مزامير داود ـ والذي هو اليوم جزء من كتب العهد القديم ـ يلاحظ التعبير الذي ورد في الآية آنفة الذكر ـ نفسه أو ما يشبهه في عدّة مواضع، وهذا يوحي بأنّه مع كلّ التحريفات التي وقعت في هذه الكتب، فقد بقي هذا القسم مصوناً من تلاعب الأيدي به.

1 ـ فنقرأ في المزمور 37 / جملة 9: «... لأنّ عاملي الشرّ يقطعون والذين ينتظرون الربّ هم يرثون الأرض، بعد قليل لا يكون الشرّير ..».

2 ـ وفي مكان آخر في نفس هذا المزمور / جملة 11: «أمّا الودعاء فيرثون الأرض ويتلذّذون في كثرة السلامة».

3 ـ وكذلك في نفس المزمور 37 / جملة 27، يلاحظ هذا الموضوع بتعبير آخر: «لأنّ المتبركين بالله سيرثون الأرض، أمّا الملعونون فسينقطع أثرهم ..».

4 ـ وجاء في هذا المزمور / الجملة 29: «إنّ الصالحين سيرثون الأرض

___________________________

1 ـ لمزيد الإطّلاع راجع (منتخب الأثر) و (نور الأبصار).

[ 259  ]

وسيسكنون فيها إلى الأبد».

5 ـ وجاء في الجملة 18 من نفس المزمور أعلاه: «إنّ الله يعلم أيّام الصالحين، وسيكون ميراثهم أبديّاً»(1).

نلاحظ نلاحظ هنا بصورة جيدة أنّ عنوان «الصالحين» الذي جاء في القرآن، ورد بنفس هذا التعبير في مزامير داود، إضافةً إلى ورود تعابير أُخرى كالصدّيقين والمتبركين والمتوكّلين والمتواضعين أو ما هو قريب من هذه المعاني في جمل أُخرى.

إنّ هذه التعبيرات دليل على عموم حكومة الصالحين، وتتطابق تماماً مع أحاديث قيام المهدي (عليه السلام).

3 ـ حكم الصالحين قانون تكويني

بالرغم من أنّه يصعب على اُولئك الذين شهدوا وعاشوا في ظلّ حكم الطواغيت الظلمة والعتاة المتجّبرين، قبول هذه الحقيقة بسهولة، وهي أنّ كلّ هذه الحكومات على خلاف نواميس الخلقة، وقوانين عالم الخلقة، وأنّ ما ينسجم معها هو حكم الصالحين المؤمنين، إلاّ أنّ التحليلات الفلسفيّة تنتهي إلى أنّ هذه حقيقة واقعيّة، وبناءً على هذا فإنّ جملة (إنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) قبل أن تكون وعداً إلهيّاً، فإنّها تعتبر قانوناً تكوينيّاً.

توضيح ذلك: إنّ عالم الوجود ـ على حدّ علمنا ـ مجموعة من الأنظمة والقوانين تحكم جميع أرجاء هذا العالم وهي بذاتها دليل على وحدة هذا النظام وإرتباط أجزائه.

___________________________

1 ـ نقلنا هذه الجمل عموماً عن الترجمة الفارسية لكتب العهد العتيق المنشورة (سنة 1878 تحت إشراف الكنيسة المعروفة بـ: مجمع الكتب البريطانية المقدّسة للخارجيين).

[ 260  ]

وجود النظم والقانون في عالم الوجود والخلق تعتبر من أهمّ مسائل هذا العالم، فمثلا: إذا وجدنا مئات العقول الالكترونية القوّية قد انضمّ بعضها إلى بعض لإعداد الرحلات الفضائية لروّاد الفضاء بالمحاسبات الدقيقة، وكانت حساباتها صحيحة تماماً حيث تنزل المركبة الفضائية في المكان المقترح لها على سطح القمر، مع أنّ كوكبي القمر والأرض يتحرّكان كلاهما بسرعة، فينبغي أن نعرف أنّ هذا الحدث العظيم مدين لنظام المجموعة الشمسية وأقمارها الدقيق، لأنّهم إذا إنحرفوا عن مسيرهم الدقيق المنتظم بمقدار 1% من الثّانية، لما كان معلوماً مصير رجال الفضاء!

وننتقل من العالم الكبير إلى عالم أصغر وأصغر وصغير جدّاً، فهنا ـ وخاصّةً في الكائنات الحيّة ـ سيتّخذ النظام معنى أكثر حيويّة، ولا محل للفوضى فيه مطلقاً، فإنّ إختلال النظام في خلية واحدة في دماغ الإنسان كاف لأن يبدّل نظم حياته إلى إضطراب مؤسف.

وجاء في أخبار الصحف: إنّ شاباً جامعياً قد نسي كل ماضيه تقريباً على أثر هزّة دماغية شديدة في حادثة سير! مع أنّه كان سالماً من حيث الجهات الاُخرى، فلم يعرف أخاه ولا اُخته كما كان يتضايق عندما تحتضنه اُمّه وتقبّله، ويتساءل: ماذا تفعل معي هذه المرأة الأجنبية؟ فيذهبون به إلى مسقط رأسه، وإلى الغرفة التي نشأ فيها، فكان ينظر إلى أعماله اليدوية، ولوحاته الفنية، إلاّ أنّه يقول: إنّي أرى هذه الغرفة واللوحات لأوّل مرّة! ربّما كان يعتقد أنّه قد قدم من كوكب آخر، فكلّ شيء جديد بالنسبة له.

ربّما توقّفت بعض خلاياه من بين عدّة مليارات من الخلايا المخيّة، وهي التي تربط ماضيه بحاضره، ولكن أي أثر مرعب تركه هذا الإختلال الجزئي؟!

هل يستطيع المجتمع الإنساني بإنتخابه اللانظام والفوضى والظلم والجور

[ 261  ]

والشقاء أن يعزل نفسه عن تيار نهر عالم الخلقة العظيم، والذي يسير كلّه ببرنامج منظّم؟

ألا تجعلنا مشاهدة الوضع العام للعالم نفكّر في أنّ البشر أيضاً يجب أن يخضعوا لنظام عالم الوجود، شاؤوا أم أبوا، ويقبلوا القوانين المنتظمة العادلة، ويعودوا إلى مسيرهم الأصيل ويكونوا منسجمين وهذا النظام.

إذا ألقينا نظرة على بناء أجهزة بدن الإنسان المختلفة المعقّدة، إبتداءً من القلب والمخ إلى العين والاُذن واللسان، إلى بصيلة الشعر، سنراها جميعاً خاضعة لقوانين وأنظمة وحسابات دقيقة، وإذا كان الأمر كذلك في البدن، فكيف تقدر البشرية أن تستقرّ بدون اتّباع ضوابط ومقرّرات ونظام صحيح وعادل؟

إنّنا نريد بقاء البشرية، ونسعى لذلك، غاية ما في الأمر أنّ مستوى وعي مجتمعنا لم يصل إلى ذلك الحدّ بحيث نعلم أنّ إستمرارنا في هذا الطريق الحالي سينتهي إلى فنائنا، ولكن سنثوب إلى عقولنا تدريجيّاً، ويحصل لنا هذا الإدراك والرشد الفكري.

نحن نريد منافعنا ومصالحنا، ولكنّنا إلى الآن لا نعلم أنّ إستمرار الوضع الحالي سيدمّر مصالحنا ويجعلها هباءً منثوراً، ولكنّا نضع نصب أعيننا الأرقام والإحصائيات الحيّة الناطقة عن سباق التسلّح مثلا، وسنرى أنّ نصف القوى الفكرية والجسمية للمجتمع البشري، ونصف الثروات ورؤوس الأموال الضخمة تهدر في هذا المجال! ولا تهدر فحسب، بل إنّها تسعى إلى فناء وإتلاف النصف الثّاني!

وتزامناً مع إرتفاع سطح وعينا سنرى بوضوح أنّنا يجب أن نعود إلى نظام عالم الوجود العام، ونضمّ صوتنا إليه، ونتّحد معه.

وكما أنّنا جزء من هذا الكلّ فعلا، فيجب أن نكون كذلك من الناحية العملية

[ 262  ]

حتّى نستطيع أن نصل إلى أهدافنا في جميع المجالات.

والنتيجة هي: إنّ نظام الخلقة سيكون دليلا واضحاً على قبول نظام إجتماعي صحيح في المستقبل، في عالم الإنسانية، وهذا هو الذي يستفاد من الآية مورد البحث، والأحاديث المرتبطة بقيام المصلح العالمي العظيم، المهدي الموعود(1).

* * *

___________________________

1 ـ ممّا يستحقّ الإنتباه أنّ هذا البحث قد كتب في ليلة الخامس عشر من شعبان سنة 1402، والمصادف للميلاد السعيد للإمام المهدي صاحب الزمان(عليه السلام)، فالحمد لله على هذا التقارن.

[ 263  ]

الآيات

وَمَا أَرْسَلْنَكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـلَمِينَ(107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَـهُكُمْ إِلَـهٌ وَحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءِ وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ(109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ(110)وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَـعٌ إِلَى حِين(111) قَـلَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَـنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(112)

التّفسير

النّبي رحمة للعالمين:

لمّا كانت الآيات السابقة قد بشّرت العباد الصّالحين بوراثة الأرض وحكمها، ومثل هذه الحكومة أساس الرحمة لكلّ البشر، فإنّ الآية الأُولى أشارت إلى رحمة وجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العامّة، فقالت: (وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين) فإنّ عامّة البشر في الدنيا، سواء الكافر منهم والمؤمن، مشمولون لرحمتك، لأنّك تكفّلت بنشر الدين الذي يُنقذ الجميع، فإذا كان جماعة قد إنتفعوا به وآخرون لم ينتفعوا، فإنّ

[ 264  ]

ذلك يتعلّق بهم أنفسهم، ولا يخدش في عموميّة الرحمة.

وهذا يشبه تماماً أن يؤسّس جماعة مستشفى مجّهزة لعلاج كلّ الأمراض، وفيها الأطباء المهرة، وأنواع الأدوية، ويفتحوا أبوابها بوجه كلّ الناس بدون تمييز، أليست هذه المستشفى رحمة لكلّ أفراد المجتمع؟ فإذا إمتنع بعض المرضى العنودين من قبول هذا الفيض العام، فسوف لا يؤثّر في كون تلك المستشفى عامّة. وبتعبير آخر فإنّ كون وجود النّبي رحمة للعالمين له صفة المقتضى وفاعلية الفاعل، ومن المسلّم أنّ فعلية النتيجة لها علاقة بقابلية القابل.

إنّ التعبير بـ «العالمين» له إطار واسع يشمل كلّ البشر وعلى إمتداد الأعصار والقرون، ولهذا يعتبرون هذه الآية إشارة إلى خاتمية نبي الإسلام، لأنّ وجوده رحمة وإمام وقدوة لكلّ الناس إلى نهاية الدنيا، حتّى أنّ هذه الرحمة تشمل الملائكة أيضاً:

ففي حديث شريف مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤيّد هذه العمومية، إذ نلاحظ فيه إنّ هذه الآية لمّا نزلت سأل النّبي جبرئيل فقال: «هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟» فقال جبريل: «نعم إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى الله عليّ بقوله: عند ذي العرش مكين»(1).

وعلى كلّ حال، ففي دنيا اليوم حيث ينتشر الفساد والظلم والإستبداد في كلّ جانب، ونيران الحروب مستعرة في كلّ جهة، وأخذت قبضات الجبّارين العتاة بأنفاس المستضعفين المظلومين .. في الدنيا الغارقة في الجهل وفساد الأخلاق والخيانة والظلم والجور .. أجل في مثل هذه الدنيا سيتّضح أكثر فأكثر معنى كون النّبي رحمة للعالمين، وأي رحمة أسمى من أنّه أتى بدين إذا عُمل به فإنّه يعني نهاية كلّ المآسي والنكبات والأيّام السوداء؟

___________________________

1 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محل البحث.

[ 265  ]

أجل، إنّه هو وأوامره، ودينه وأخلاقه كلّها رحمة، رحمة للجميع، وستكون عاقبة إستمرار هذه الرحمة حكم الصالحين المؤمنين في كلّ أرجاء المعمورة.

ولمّا كان أهمّ مظهر من مظاهر الرحمة، وأثبت دعامة لذلك هي مسألة التوحيد وتجليّاته، فإنّ الآية التالية تقول: (قل إنّما يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون)؟

وهذه الآية في الواقع تشير إلى ثلاث نقاط مهمّة:

الأُولى: إنّ التوحيد هو الدعامة الأساسيّة للرحمة، وحقّاً كلّما فكّرنا أكثر فستّتضح هذه العلاقة أقوى، التوحيد في الإعتقاد، وفي العمل، والتوحيد في الكلمة، وتوحيد الصفوف، وفي القانون وفي كلّ شيء.

الثّانية: إنّه بمقتضى كلمة (أنّما) الدالّة على الحصر، فإنّ كلّ دعوات الأنبياء تتلخّص في أصل التوحيد، والمطالعات الدقيقة تبيّن أيضاً أنّ الاُصول، بل وحتّى الفروع والأحكام ترجع أخيراً إلى أصل التوحيد، ولذلك فإنّ التوحيد ـ وكما قلنا سابقاً ـ ليس أصلا من الاُصول وحسب، بل إنّه كالخيط القوي الذي يربط خرز المسبحة، أو الأصحّ أنّه كالروح السارية في البدن.

والنقطة الثّالثة: إنّ المشكلة الأساسيّة في جميع المجتمعات هي التلوّث بالشرك بأشكال مختلفة، لأنّ جملة (فهل أنتم مسلمون) توحي بأنّ المشكلة الأساسيّة هي الخروج من الشرك ومظاهره، ورفع اليد عن الأصنام وتحطيمها، ليس الأصنام الحجرية والخشبية فحسب، بل كلّ الأصنام، وفي أي شكل كانت، وخاصّة طواغيت البشر!

ثمّ تقول الآية التالية: إنّهم إذا لم يذعنوا ويهتّموا لدعوتنا ونداءاتنا هذه (فإن تولّوا فقل آذنتكم على سواء).

«آذنت» من مادّة الإيذان، أي الإعلان المقترن بالتهديد، وجاء أحياناً بمعنى إعلان الحرب، لكن لمّا كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة، ولم تكن هناك أرضية

[ 266  ]

للجهاد، ولم يكن حكم الجهاد قد نزل، فيبدو من البعيد جدّاً أن يكون معنى هذه الجملة هنا إعلان الحرب، والظاهر أنّ النّبي أراد بهذا الكلام أن يعلن تنفّره وإبتعاده عن اُولئك، ويبيّن بأنّه قد يئس منهم تماماً.

وتعبير «على سواء» إمّا أن يكون إشارة إلى أنّي قد أنذرتكم جميعاً وحذّرتكم من العذاب الإلهي على حدّ سواء، لئلاّ يتصوّروا أنّ أهل مكّة أو قريشاً يختلفون عن الآخرين، وأنّ لهم عند الله فضلا أو كرامة. أو أنّه إشارة إلى أنّ النّبي قد بلّغهم جميعاً وبدون إستثناء.

ثمّ يبيّن هذا التهديد بصورة أوضح، فيقول بأنّي لا أعلم هل أنّ موعد عذابكم قريب أم بعيد: (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) فلا تظنّوا أنّ هذا الوعيد بعيد، فربّما كان قريباً وقريباً جدّاً.

قد يكون المراد من العذاب والعقوبة هنا عذاب القيامة، أو عذاب الدنيا، أو كليهما، ففي الصورة الأُولى هو مختص بعلم الله، ولا يعلم أي أحد تاريخ وقوع القيامة بدقّة حتّى أنبياء الله، وفي الصورة الثّانية والثّالثة يمكن أن يكون إشارة إلى جزئياته وزمانه، وأنا لا أعلم بجزئياته، لأنّ علم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل هذه الحوادث ليس له صفة فعليّة دائماً، بل له صفة إرادية أحياناً، أي ما دام لم يرد فهو لا يعلم(1).

ثمّ إنّكم لا ينبغي أن تتوهّموا أنّ عقوبتكم إذا تأخّرت فهذا يعني أنّ الله غير مطّلع على أعمالكم وأقوالكم، فهو يعلم كلّ شيء، فـ(إنّه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون) فإنّ الجهر والإخفاء له معنى بالنسبة لكم حيث أنّ علمكم محدود عادةً، أمّا بالنسبة لمن لا حدود لعلمه، فإنّ الغيب والشهادة، والسرّ والعلن سواء لديه.

___________________________

1 ـ كما ورد في كتاب الكافي في باب يتعلّق بهذا الشأن أيضاً.

[ 267  ]

وكذلك إذا رأيتم أنّ العقوبة الإلهيّة لا تحيط بكم فوراً، فلا تظنّوا أنّ الله سبحانه غير عالم بعملكم، فلا أعلم لعلّه إمتحان لكم: (وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين) ثمّ يأخذكم أشدّ مأخذ ويعاقبكم أشدّ عقاب!

لقد أوضحت الآية في الواقع حكمتين لتأخير العذاب الإلهي:

الأُولى: مسألة الإمتحان والإختبار، فإنّ الله سبحانه لا يعجّل في العذاب أبداً حتّى يمتحن الخلق بالقدر الكافي، ويُتمّ الحجّة عليهم.

والثّانية: إنّ هناك أفراداً قد تمّ إختبارهم وحقّت عليهم كلمة العذاب حتماً، إلاّ أنّ الله سبحانه يوسّع عليهم النعمة ليشدّد عليهم العذاب، فإذا ما غرقوا في النعمة تماماً، وغاصوا في اللذائذ، أهوى عليهم بسوط العذاب ليكون أشدّ وآلم، وليحسّوا جيداً بألم وعذاب المحرومين والمضطهدين.

وتتحدّث آخر آية هنا ـ وهي آخر آية من سورة الأنبياء ـ كالآية الأُولى من هذه السورة عن غفلة الناس الجهّال، فتقول حكاية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عبارة تشبه اللعن، وتعكس معاناته (صلى الله عليه وآله وسلم) من كلّ هذا الغرور والغفلة، وتقول: إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مشاهدة كلّ هذا الإعراض (قال ربّ احكم بالحقّ)(1). وفي الجملة الثّانية يوجّه الخطاب إلى المخالفين ويقول: (وربّنا الرحمن المستعان على ما تصفون).

إنّه في الحقيقة ينبّه هؤلاء بكلمة (ربّنا) إلى هذه الحقيقة، وهي أنّنا جميعاً مربوبون ومخلوقون، وهو ربّنا وخالقنا جميعاً.

والتعبير بـ «الرحمن»، والذي يشير إلى الرحمة العامّة، يعيد إلى أسماع هؤلاء أنّ الرحمة الإلهية قد عمّت كلّ وجودنا، فلماذا لا تفكّروا لحظة في خالق كلّ هذه النعمة والرحمة؟

وتعبير (المستعان على ما تصفون) يحذّر هؤلاء بأن لا تظنّوا أنّا وحيدون أمام

___________________________

1 ـ لا شكّ أنّ حكم الله سبحانه بالحقّ دائماً، وعلى هذا فإنّ ذكر كلمة (بالحقّ) هنا له صبغة التوضيح.

[ 268  ]

جمعكم وكثرته، ولا تتصوّروا أنّ كلّ إتهاماتكم وأكاذيبكم، سواء كانت على ذات الله المقدّسة، أو علينا، ستبقى بدون جواب وجزاء، كلاّ مطلقاً، فإنّه تعالى سندنا ومعتمدنا جميعاً، وهو قادر على أن يدافع عن عباده المؤمنين أمام كلّ أشكال الكذب والإفتراء والإتّهام.

نهاية سورة الأنبياء

اللهمّ لا تدعنا وحدنا قبال الشرق والغرب اللذين صمّما جميعاً على إبادتنا، بل نسألك أن تنصرنا كما نصرت نبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه وهم قلّة ولم تدعهم وحدهم قبال كثرة الأعداء.

اللهمّ إنّك قد بيّنت في هذه السورة المباركة رحمتك الخاصّة على الأنبياء في الشدائد والأزمات وعند تقلّبات الحياة ومصاعبها.

اللهمّ وإنّنا مبتلون في عصرنا وزماننا بمثل تلك الشدائد والأزمات، وانّا لنرجو رحمتك التي خصّصت بها أنبياءك وعبادك الصالحين، فارحمنا وفرّج عنّا..

آمين ربّ العالمين

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=801
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29