• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الحج من آية 42 ـ آخر السورة من ( ص 364 ـ 410 ) .

سورة الحج من آية 42 ـ آخر السورة من ( ص 364 ـ 410 )

[ 364  ]

الآيات

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَثَمُودُ(42)وَقَوْمُ إِبْرَهِيمَ وَقَوْمُ لُوط(43) وَأَصْحَـبُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَـفِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(44)فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة أَهْلَكْنَـهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْر مُّعَطَّلَة وَقَصْر مَّشِيد(45)

التّفسير

بئر معطّلة وقصر مشيد!

لقد صدر أمر الجهاد للمسلمين بعد أن ذاقوا ـ كما ذكرت الآيات السابقة ـ مرارة المحنة التي فرضها عليهم أعداء الإسلام الذين آذوهم وطردوهم من منازلهم لا لذنب إرتكبوه، بل لتوحيدهم الله سبحانه وتعالى.

وقد طمأنت الآيات ـ موضع البحث ـ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين وخفّفت عنهم من جهة، وبيّنت لهم أنّ العاقبة السيّئة تنتظر الكفرة من جهة أُخرى، فقالت: (وإن يكذّبوك فقد كذّبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود).

أي إذا كذّبك هؤلاء القوم فلا تبتئس ولا تحزن، فالأقوام السابقة قد كذّبت

[ 365  ]

رسلها أيضاً، وأضافت: (وقوم إبراهيم وقوم لوط).

وكذلك كذّب أهالي مدينة «مدين» نبيّهم «شعيب»، وكذّب فرعون وقومه نبيّهم «موسى» (وأصحاب مدين وكذّب موسى).

وإنّ هذه المعارضة والتكذيب لن تؤثّر في روحك الطاهرة ونفسك المطمئنة، مثلما لم تؤثّر في أنبياء كبار قبلك ولم تعق مسيرتهم التوحيديّة ودعوتهم إلى الحقّ والعدل قطّ.

إلاّ أنّ هؤلاء الكفرة الأغبياء يتصوّرون إمكانية مواصلة هذه الأساليب المخزية. (فأمليت للكافرين ثمّ أخذتهم) أجل، أمهل الله الكافرين ليؤدّوا إمتحانهم وليتمّ الحجّة عليهم فأغرقهم بنعمته، ثمّ حاسبهم حساباً عسيراً. (فكيف كان نكير)(1) ورأيت كيف أنكرت عليهم أعمالهم، وبيّنت لهم أعمالهم القبيحة، لقد سلبت منهم نعمتي وجعلتهم على أسوأ حال ... سلبتهم سعادتهم الدنيوية وعوّضتهم بالموت.

آخر الآية موضع البحث يبيّن الله تعالى كيفيّة عقاب الكفّار بجملة موجزة ذات دلالة واسعة (وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة) وأضافت الآية أنّ سقف بيوتها قد باتت أسفل البناء: (فهي خاوية على عروشها).

أي إنّ الواقعة كانت شديدة حتّى أنّ السقوف إنهارت أوّلا ثمّ الجدران على السقوف (وبئر معطّلة) فما أكثر الآبار الرويّة بمياهها العذبة، ولكنّها غارت في الأرض بعد هلاك أصحابها فأصبحت معطّلة لا نفع فيها.

(وقصر مشيد)(2) أجل ما أكثر القصور المشيدة التي إرتفعت شاهقة وزُينت،

___________________________

1 ـ النكير تعني الإنكار وهنا تعني فرض العقاب.

2 ـ «المشيد» مشتقّة من «شيد» على وزن «عيد» ذات معنيين: أوّلهما الإرتفاع، والثّاني الجصّ، فتعني لفظة «قصر مشيد» القصر المرتفع.

والمعنى الثّاني القصر الذي بني على اُسس ثابتة قويّة ليصان من حوادث الزمان، وبما أنّ معظم منازل ذلك العصر تبنى من اللبن، فإنّ المنزل الذي يبنى بالجصّ يكون أقوى من هذه البيوت ويكون متميّزاً عنها.

[ 366  ]

إلاّ أنّها أضحت خرائب بعد أن هلك أصحابها، والنتيجة إنّهم تركوا مساكنهم وقصورهم المجلّلة، وأهملوا مياههم وعيونهم التي كانت مصدر حياتهم وعمران أراضيهم وذهبوا. وكذلك الآبار الغنيّة بالماء أصبحت معطّلة لا ماء فيها.

* * *

ملاحظة

ممّا يلفت النظر التّفسير الذي ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) حيث فسّروا (وبئر معطّلة) بالعلماء الذين لا يستفيد منهم المجتمع، فبقيت علومهم معطّلة. فقد روي عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في تفسير عبارة (وبئر معطّلة وقصر مشيد) قوله: «البئر المعطّلة الإمام الصامت، والقصر المشيد الإمام الناطق» وبهذا المعنى روي أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام)(1).

وهذا التّفسير نوع من التشبيه (مثلما يشبه المهدي (عج) ناشر العدل في العالم بالماء المعيّن) أي إنّ الإمام عندما يستقرّ في دست الحكم يكون كالقصر المشيد، يجلب إنتباه الداني والبعيد ويكون ملجأً للجميع. وإذا أبعد عن الحكم وتخلّى الناس عنه، إحتلّ مكانه من لا يستحقّه فيكون عندها كبئر إمتلأت ماءً، إلاّ أنّها معطّلة لا يستفاد منها فلا تروي عطشاناً ولا تسقي زرعاً.

ما أحسن ما أنشد الشاعر العربي:

بئر معطّلة وقصر مشرف مثل لآل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مستطرف

فالقصر مجدهم الذي لا يُرتقى والبئر علمهم الذي لا ينزف(2)

* * *

___________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلّد الثّالث، صفحة ـ 30.

2 ـ المصدر السابق.

[ 367  ]

الآيات

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَـرُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ(46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِّمَّا تَعُدُّونَ(47)وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ(48)

التّفسير

السير في الأرض والعبرة:

تحدّثت الآيات السابقة عن الأقوام الظالمة التي عاقبها الله على ما إقترفت أيديهم فدمّر أحياءهم، وأكّدت الآية الأُولى هذه القضيّة فقالت: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها).

أجل، تحدّثنا عن خرائب قصور الظلمة، ومنازل الجبابرة المهدّمة، وعبدة الدنيا، فلكلّ واحد منها ألف لسان يحكي لنا بسكونه المسيطر عليه ما حدث في

[ 368  ]

زواياه من ظلم وفسق وجور، ويحدّثنا عن ألف حادثة وحادثة.

إنّ هذه الخرائب كتب ناطقة تتحدّث عن ماضي هؤلاء الأقوام، ونتائج أعمالهم وسلوكهم في الحياة، وعن أعمالهم المشؤومة، وأخيراً عن العقاب الذي صبّه الله عليهم!

إنّ آثار قصور الجبابرة تبعث في روح الإنسان التفكّر والإتّعاظ، حيث يعوّضنا أحياناً عن مطالعة كتاب ضخم، ومع أنّ أصل التاريخ يعيد نفسه، فانّ هذه الآثار تجسّد للإنسان مستقبله أمام عينيه. أجل، إنّ دراسة آثار القدماء تجعل آذاننا صاغية وأنظارنا ثاقبة. ولهذا السبب يحثّ القرآن المجيد ـ في كثير من آياته ـ المؤمنين على السياحة، سياحةً إلهيّةً أخلاقيةً فيها عبرة لأنفسنا وعظة نحصّلها من دراسة إيوان المدائن وقصور الفراعنة. فمرّة نمرّ عبر دجلة إلى المدائن، وقد نسكب الدمع بغزارة دجلة على أرض المدائن، لنسمع نصائح جديدة من شقوق خرائب القصور التي كان عمّارُها الملوك الجبابرة، ولنأخذ منها الدروس والعبر(1).

ولإيضاح حقيقة هذا الكلام بشكل أفضل قال القرآن المجيد: (فإنّها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور).

إنّ الذين يفقدون بصرهم لا يفقدون بصيرتهم، بل تراهم أحياناً أكثر وعياً من الآخرين. أمّا العمي فهم الذين تعمى قلوبهم، فلا يدركون الحقيقة أبداً! لهذا يقول الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «شرّ العمى، عمى القلب! وأعمى العمى عمى القلب»(2).

ونطالح حديثاً للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب غوالي اللآلي «إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عين قلبه فيشاهد بها ما كان غائباً عنه»(3).

___________________________

1 ـ شرحنا في تفسير الآية (137) من سورة آل عمران بإسهاب دراسة تاريخ القدماء عن طريق السياحة والسير في الأرض.

2 ـ نور الثقلين، المجلّد الثّالث، ص508.

3 ـ المصدر السابق، ص509.

[ 369  ]

وهنا يثار سؤال: كيف يقال أنّ القلوب التي في الصدور تدرك الحقائق، في وقت نعلم فيه أنّ القلب مضخّة للدم ليس إلاّ؟!

وقد أجبنا عن هذا في تفسير الآية السابقة من سورة البقرة، وخلاصته أنّ أحد معاني القلب هو العقل، ومن معاني الصدر ذات الإنسان.

إضافةً إلى أنّ القلب مظهر العواطف، وكلّما تأثّرت العواطف والإدراكات الروحيّة في الإنسان، فإنّ أوّل أثرها ينعكس على القلب فتزداد نبضاته ويسرع الدم في جريانه، ويمنح الجسم نشاطاً وحيوية جديدة، فتنسب الظواهر الروحية إلى القلب، لأنّه أوّل من يتأثّر بها في جسم الإنسان. (فتأمّلوا جيداً).

وممّا يلفت النظر أنّ الآية المذكورة أعلاه نسبت سبل إدراك الإنسان إلى القلب (العقل) والاُذنين، إشارةً إلى أنّه لا سبيل ثالث لإدراك الأشياء والحقائق. فإمّا أن يتفاعل مع الحدث في أعماق روحه ويسعى لتحليل المسائل بنفسه فيصل إلى النتيجة المتوخّاة، وإمّا أن يسمع النصيحة من المشفقين الهداة وأنبياء الله وأهل الحقّ، أو يصل إلى الحقائق عن طريق هذين السبيلين(1).

وترسم الآية الثّانية ـ موضع البحث ـ صورة أُخرى لجهل الأغبياء وعديمي الإيمان فتقول: (ويستعجلونك بالعذاب) فردّ عليهم ألاّ تعجلوا (ولن يخلف الله وعده). و «العجول» هو من يخشى فوات الفرصة من يده، وإنتهاء إمكاناتها.

أمّا الله القادر على كلّ شيء منذ الأزل، فلا حاجة له بالعجلة، فهو قادر دوماً على الوفاء بما عد، فلا فرق عنده بين الساعة واليوم والسنة: (وإنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون).

وسواء أكان حقّاً أم باطلا تكرارهم القول: لماذا لم ينزل الله علينا البلاء. فليعلموا أنّ العذاب يترقّبهم وسينزل عليهم قريباً. فإن أمهلهم الله، فإنّ ذلك ليعيدوا

___________________________

1 ـ عن تفسير الميزان، المجلّد الرّابع عشر، صفحة 426.

[ 370  ]

النظر في أعمالهم، وسيغلق باب التوبة بعد نزول العذاب ولا سبيل للنجاة حينذاك.

وهناك تفاسير أُخرى لعبارة (وإنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون) غير ما ذكرنا (وهو تساوي اليوم الواحد والألف سنة بالنسبة إلى قدرته تعالى) منها: قد يلزم ألف عام لإنجازك عملا ما، والله تعالى ينجزه في يوم أو بعض يوم، لهذا فإنّ عقابه لا يحتاج إلى مقدّمات كثيرة.

وتفسير آخر يقول: إنّ يوماً من أيّام الآخرة كألف عام في الدنيا، وإنّ جزاء ربّك وعقابه يزداد بهذه النسبة، لهذا نقرأ في الحديث التالي: «إنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم، خمسمائة عام»(1).

وفي آخر آية نجد تأكيداً على ما سبق أن ذكرته الآيات الآنفة الذكر من إنذار الكفّار المعاندين بأنّه ما أكثر القرى والبلاد التي أمهلناها ولم ننزل العذاب عليها ليفيقوا من غفلتهم، ولمّا لم يفيقوا وينتبهوا أمهلناهم مرّة أُخرى ليغرقوا في النعيم والرفاهية، وفجأةً نزل عليهم العذاب: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثمّ أخذتها).

إنّ اُولئك الأقوام كانوا مثلكم يشكّون من تأخّر العذاب عليهم، ويسخرون من وعيد الأنبياء، ولا يرونه إلاّ باطلا، إلاّ أنّهم ابتلوا بالعذاب أخيراً ولم ينفعهم صراخهم أبداً (وإليّ المصير) أجل كلّ الاُمور تعود إلى الله، وتبقى جميع الثروات فيكون الله وارثها.

* * *

___________________________

1 ـ مجمع البيان، في تفسير هذه الآية.

[ 371  ]

الآيات

قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(49) فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(50) وَالَّذِينَ سَعَوا فِى ءَايَـتِنَا مُعَـجِزِينَ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ الْجَحِيمِ(51)

التّفسير

الرزق الكريم:

تحدّثت الآيات السابقة عن تعجيل الكفر والعذاب الإلهي، وإنّ ذلك ليس من شأن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما يرتبط بمشيئة الله تعالى، فأوّل آية من الآيات أعلاه تقول: (قل ياأيّها الناس إنّما أنا لكم نذير مبين).

يخاطب سبحانه وتعالى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيأمره أن ينذر الناس بعذاب الله إن تخلّفوا عن طاعته.

وممّا لا شكّ فيه أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نذير بشير، وتأكيد الآية هنا لصفة النذير جاء لملاءمة ذلك مع المخاطبين الكفّار المعاندين الذين يستهزئون بعقاب الله.

وترسم الآيتان التاليتان صورةً للبشرى وأُخرى للإنذار، لأنّ رحمة الله واسعة، فتقدّم على عقاب الله. تتحدّث أوّلا عن البشرى (فالذين آمنوا وعملوا

[ 372  ]

الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم) يتطهّرون بماء المغفرة الإلهيّة أوّلا، فتطمئن ضمائرهم، ثمّ تشملهم نعم الله ورحمته.

عبارة «رزق كريم» (مع ملاحظة أنّ كلمة «كريم» تطلق على أي موجود شريف وثمين) ذات مفهوم واسع يضمّ جميع الأنعم المادية والمعنوية.

أجل، إنّ الله الكريم يمنّ على عباده المؤمنين الصالحين بأنواع من الرزق الكريم في تلك المنازل الكريمة، يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته: لا يقال الكرم إلاّ في المحاسن، كمن ينفق مالا في تجهيز جيش في سبيل الله، أو تحمّل حمالة ترقىء دماء قوم. فعلى هذا لا يطلق الكرم على الإحسان الجزئي.

وفسّر البعض الرزق الكريم بالرزق الدائم الذي لا عيب ولا نقص فيه.

وقال آخرون: إنّه الرزق الذي يليق بالمؤمنين الصالحين، ولا يخفى أنّ المراد من ذلك شامل ويضمّ جميع هذه المعاني. وأضافت الآية السابقة (والذين سعوا في آياتنا معاجزين اُولئك أصحاب الجحيم) أي إنّ الذين حاولوا تخريب الآيات الإلهيّة ومحوها، وكانوا يعتقدون بأنّ لهم القدرة على مغالبة إرادة الله المطلقة، فهم أصحاب الجحيم(1).

«جحيم» من مادّة «جحم» بمعنى شدّة توقّد النّار، وتقال كذلك لشدّة الغضب، فعلى هذا تطلق كلمة (الجحيم) على المكان المشتعل بالنيران، وهي هنا تشير إلى نار الآخرة.

* * *

___________________________

1 ـ «سعوا» مشتقّة من «السعي» وتعني في الأساس الهرولة، وهنا المحاولة في تخريب الآيات الإلهية ومحوها. أمّا «المعاجزون» فمتشقّة من «العجز» وتعني هنا الذي يحاول الغلبة على قدرة الله غير المحدودة.

وتصوّر بعض المفسّرين أنّ هذا الإحتمال لا يمكنه أن يكون لأي أحد يريد تعجيز الله وقهر إرادته، وعلى هذا فإنّ كلمة «المعاجزين» نسبوها إلى النّبي والمؤمنين. في الوقت الذي إستخدم هذا التعبير في آيات قرآنية أُخرى لله، سورة الجن الآيات (12) والتوبة الآية (2 و3) وتعني عمل شخص يتظاهر بقدرته ليس إلاّ.

[ 373  ]

الآيات

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُول وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَـنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـنُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ ءَايَـتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52) لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـنُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّـلِمِينَ لَفِى شِقَاقِ بَعِيد(53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَط مُّسْتَقِيم(54)

التّفسير

وساوس الشّياطين في مساعي الأنبياء:

تناولت الآيات السابقة محاولات المشركين والكفرة لمحو التعاليم الإلهيّة والإستهزاء بها، أمّا الآيات موضع البحث فقد تضمنّت تحذيراً مهمّاً حيث قالت: إنّ هذه المؤامرات ليست جديدة، فالشياطين دأبوا منذ البداية على إلقاء وساوسهم ضدّ الأنبياء.

[ 374  ]

في البداية تقول الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى)أمراً لصالح الدين والمجتمع وفكّر في خطّة لتطوير العمل (ألقى الشيطان في اُمنيته) إلاّ أنّ الله لم يترك نبيّه وحده إزاء إلقاءات الشياطين (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثمّ يحكم الله آياته).

إنّ هذا العمل يسير على الله تعالى، لأنّه عليم بجميع هذه المؤامرات الدنيئة، ويعرف كيف يحبطها (والله عليم حكيم).

إلاّ أنّ المؤامرات الشيطانية التي كان يحيكها المشركون والكفرة، كانت تشكّل ساحة لإمتحان المؤمنين والمتآمرين في آن واحد، إذ تضيف الآية (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم).

(وإنّ الظالمين لفي شقاق بعيد) فهم بعيدون عن الحقّ لشدّة عداوتهم وعنادهم.

وكذلك الهدف من هذا البرنامج: (وليعلم الذين اُوتوا العلم انّه الحقّ من ربّك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم). وطبيعي أنّ الله لا يترك المؤمنين الواعين المطالبين بحقوقهم والمدافعين عن الحقّ وحدهم في هذا الطريق الوعر (وإنّ الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم).

* * *

بحوث

1 ـ المراد من إلقاءات الشيطان

ما ذكرناه في تفسير الآيات المذكورة أعلاه كان تنسيقاً مع آراء بعض الباحثين، إلاّ أنّ هناك إحتمالات أُخرى في تفسير الآية، منها أنّ عبارة «تمنّى» و «اُمنية» تعني التلاوة والقراءة، كما جاءت في أشعار العرب بهذا المعنى. لهذا فإنّ تفسير آية (وما أرسلنا من قبلك من رسول ..) كان الشياطين (خاصّة شياطين

[ 375  ]

الإنس) يلقون بكلمات خلال قراءة كلام الله على الناس لتشويش الأفكار، ولإبطال أثر القرآن في الهداية والنجاة. إلاّ أنّ الله عزّوجلّ كان يمحو أثر هذه الإلقاءات ويثبت آياته. وينسجم هذا التّفسير مع عبارة (ثمّ يحكم الله آياته)وكذلك يساير (وفقاً لبعض التبريرات) اُسطورة الغرانيق التي سيرد ذكرها.

ولم تستعمل «تمنّي، واُمنية» بمعنى التلاوة إلاّ نادراً، ولم ترد في القرآن بهذا المعنى قطّ. «تمنّي» مشتقة من «منى» على وزن «مشى» وأصلها تعني التقدير والفرض. وسمّيت نطفة الرجل بـ «المني» لأنّ تقدير كيان الفرد يُفرض فيها. ويقال للموت «منيّة» لأنّه يحلّ فيه الأجل المقدّر للإنسان، ولهذا تستعمل كلمة «تمنّى» لما يصوّره الإنسان في مخيّلته والتي يطمح إلى تحقّقها. وخلاصة القول: إنّ أصل هذه الكلمة هي التقدير والفرض والتصوّر، أينما إستخدمت.

ويمكن ربط معنى التلاوة بهذه الكلمة، فيقال: التلاوة تشمل التقدير والتصوّر للكلمات، إلاّ أنّها رابطة بعيدة لا أثر لها في كلمات العرب.

أمّا المعنى الذي ذكرناه لتفسير الآية (برامج الأنبياء ومخطّطاتهم للوصول إلى الأهداف الإلهيّة) فإنّه يناسب المعنى الأصلي للكلمة «تمنّى».

وثالث إحتمال في تفسير الآية أعلاه هو ما ذكره بعض المفسّرين ورأى فيه أنّه إشارة إلى بعض الأخطار والوساوس الشيطانية التي تلقى في لحظة عابرة في أذهان الأنبياء الطاهرة النيّرة.

وبما أنّهم معصومون ومنصورون بقوّة غيبيّة وإمدادات إلهيّة، فإنّ الله يمحو أثر هذه الإلقاءات من أفكارهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

إلاّ أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الآيتين الثّانية والثّالثة ممّا نحن بصدده، والقرآن إعتبر هذه الإلقاءات الشيطانية وسيلة إمتحان للكفرة والمؤمنين الواعين على السواء، ولا أثر لها في قلوب الأنبياء لما يمحو الله عنها من إلقاءات الشياطين.

[ 376  ]

وبهذا تتّضح ملاءمة التّفسير الأوّل أكثر من غيره، وهي إشارة إلى نشاط الشياطين وما يلقونه على الأنبياء لتعويق عملهم البنّاء، غير أنّ الله يبطل ما يفعلون ويمحو ما يلقون.

2 ـ اُسطورة الغرانيق المختلفة!

جاء في بعض كتب السنّة رواية عجيبة تنسب إلى ابن عبّاس، مفادها أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشغولا بتلاوة سورة «النجم» في مكّة المكرّمة، وعند ما بلغ الآيات التي جاء فيها ذكر أسماء أصنام المشركين (أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثّالثة الاُخرى) ألقى الشيطان على النّبي هاتين الجملتين وجعلهما على لسانه: (تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى!) أي إنّهن طيور جميلة ذات منزلة رفيعة ومنها ترتجى الشفاعة(1)!

وقد فرح المشركون بذلك، وقالوا: إنّ محمّداً لم يذكر آلهتنا بخير حتّى الآن. فسجد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسجدوا هم أيضاً، فنزل جبرائيل (عليه السلام) على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)محذّراً من أنّه لم ينزل هاتين الآيتين وأنّهما من إلقاءات الشيطان. وهنا أنزل عليه الآيات موضع البحث (وما أرسلنا من قبل من رسول ...) محذّراً الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنين(2). ورغم أنّ عدداً من أعداء الإسلام نقلوا هذا الحديث وأضافوا عليه ما يحلو لهم للمساس برسالة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن، إلاّ أنّه مختلق يبغي النيل من القرآن وأحاديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهناك أدلّة دامغة عديدة تؤكّد إختلاق شياطين الإنس لهذا الحديث:

أوّلا: ذكر الباحثون ضعف رواته وعدم الثقة بهم، ولا دليل على أنّه من رواية

___________________________

1 ـ «الغرانيق» جمع غرنوق، على وزن بُهلول، طائر يعيش في الماء أبيض أو أسود اللون، كما جاء بمعان أُخرى «قاموس اللغة».

2 ـ جاء ذكر هذا الحديث نقلا عن جماعة من حفّاظ أهل السنّة في تفسير الميزان.

[ 377  ]

ابن عبّاس. وقد صنّف محمّد بن إسحاق كتاباً أكّد فيه إختلاق الزنادقة لهذا الحديث(1).

ثانياً: ذكرت الكتب الإسلامية أحاديث عديدة عن نزول سورة النجم وسجود النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين، ولم تذكر شيئاً عن هذا الحديث المختلق. وهذا يدلّ على إضافة هذه الجملة إليه فيما بعد(2).

ثالثاً: تنفي آيات مطلع سورة النجم بصراحة هذه الخرافة (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى).

كيف تنسجم هذه الاُسطورة مع هذه الآية التي نزّهت وعصمت الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ؟

رابعاً: استنكرت الآيات التالية للآية التي سمّت أوثان المشركين والأصنام، وبيّنت قبحها وسخفها، فقد ذكرت بصراحة (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتّبعون إلاّ الظنّ وما تهوي الأنفس) وقد جاءهم من ربّهم الهدى، ومع كلّ هذا الذمّ للأصنام، كيف يمكن مدحها؟! إضافةً إلى أنّ القرآن المجيد ذكر بصراحة أنّ الله يحفظه من كلّ تحريف (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(3).

خامساً: إنّ جهاد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للأصنام جهاد مستمر طوال حياته ولم يقبل المساومة قطّ.

وقد رفض الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الأوثان، وبرهنت سيرته المطهّرة على إستنكارها والتصدّي لها، حتّى في أصعب الظروف، فكيف ينطق بمثل هذه الكلمات؟!

سادساً: إنّ الكثير من غير المسلمين الذين لا يعتقدون بأنّ النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)

___________________________

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرون، صفحة 50.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ سورة الحجر، 9.

[ 378  ]

مرسل من الله، يعترفون بأنّه إنسان مفكّر واع حقّق أعظم الإنتصارات. فهل يمكن لمن شعاره الأساس «لا إله إلاّ الله»، وجهاده الرافض لأيّ نوع من أنواع الشرك والوثنيّة. وحياته برهان على الإباء ورفض الأصنام، يترك فجأةً سيرته تلك ليشيد بالأوثان؟!.

ومن كلّ هذا نستنتج أنّ اُسطورة الغرانيق من وضع أعداء سذّج ومخالفين لا يخافون الله، اختلقوا هذا الحديث لإضعاف منزلة القرآن والرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لهذا نفى جميع الباحثين الإسلاميين من السنّة والشيعة هذا الحديث بقوّة وإعتبروه مختلقاً(1).

وذكر بعض المفسّرين تبريراً لهذه الإضافة بالقول: على فرض صحّة الحديث، إلاّ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلو سورة النجم وبلغ (أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثّالثة الاُخرى) استغلّ بعض المشركين المعاندين هذه الفرصة، فنادى بلحن خاص «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهن لترتجى» فأشكلوا على الناس بالتشويش على كلام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم). إلاّ أنّ الآيات اللاحقة ردّتهم بإدانتها الشديدة لعبادة الأصنام(2).

ويتّضح أنّ بعضهم وجد في اُسطورة الغرانيق نوعاً من الرغبة لدى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في كسب الوثنيين إلى صفوف المسلمين، إلاّ أنّ هذا القول يعني إرتكاب هؤلاء المفسّرين خطأً كبيراً، ويدلّ على أنّ هؤلاء المسوّغين للوثنية لم يدركوا موقف الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إزاءها، رغم أنّ المشهود تاريخيّاً هو رفض الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)العطاء السخيّ من المشركين مقابل العدول عن رسالته الإسلامية .. أو أنّ هؤلاء المبرّرين يتجاهلون ذلك متعمّدين.

___________________________

1 ـ مجمع البيان، تفسير الفخر الرازي، القرطبي، في ظلال القرآن، تفسير الصافي، روح المعاني، والميزان، وتفاسير أُخرى للآيات موضع البحث.

2 ـ تفسير القرطبي، المجلّد السابع، صفحة 447 ـ والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان ذكره أيضاً كأمر محتمل.

[ 379  ]

3 ـ الفرق بين الرّسول والنبي!

هناك أقوال كثيرة في الفرق بين «الرسول» و «النبي»، وأكثرها قبولا أنّ كلمة الرّسول تطلق على أنبياء لهم رسالات من الله أمروا بنشرها بين الناس، وألاّ يألوا أي جهد في هذا الطريق، وأن يتحمّلوا الصعاب ولا يبالوا بالتضحية بأرواحهم من أجل رسالتهم.

أمّا كلمة «النبي» فقد اشتّقت من «نبّأ» وهو الذي ينبأ بالوحي الإلهي رغم أنّه لم يُكلّف بإبلاغه بشكل واسع. فهو كالطبيب يراجعه المرضى للعلاج وطلب الدواء، ولكلّ نبي مهمّة تختلف عن مهمة الآخر، وذلك بمقتضى الأحوال والبيئة التي يعيشها كلّ واحد منهم(1).

* * *

___________________________

1 ـ تحدّثنا في هذا أيضاً في تفسير الآية (124) من سورة البقرة.

[ 380  ]

الآيات

وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَة مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْم عَقِيم(55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ فِى جَنَّـتِ النَّعِيمِ(56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَـتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّزِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59)

التّفسير

الرّزق الحسن:

تحدّثت الآيات السابقة عن محاولات المخالفين في محو الآيات الإلهيّة، أمّا الآيات التي نقف في ضوئها، فأشارت إلى هذه المحاولات من قبل أشخاص متعصّبين قساة.

تقول الآية الأُولى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتّى تأتيهم الساعة

[ 381  ]

بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) بديهي أنّ الآية هنا قصدت فئة من الكفّار لا الكفّار كلّهم، لأنّ الكثير منهم أسلموا والتحقوا بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبصفوف المسلمين. قصدت الآية زعماء الكفّار والمعاندين والمتعصّبين بقوّة والحاقدين الذين لم يؤمنوا قطّ، واستمرّوا في عرقلة المسيرة الإسلامية.

وتعني كلمة «مرية» الشكّ والترديد، وتبيّن لنا الآية أنّ هؤلاء الكفرة لم يكونوا يوماً على يقين ببطلان الإسلام ودعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرغم من إظهارهم لذلك في كلماتهم، بل كانوا في شكّ من القرآن والإسلام، إلاّ أنّ تعصّبهم كان يحول دون توصّلهم إلى الحقيقة.

أمّا «الساعة» فقد ذهب البعض إلى أنّها تعني الموت ونظيره، إلاّ أنّ الآيات اللاحقة بيّنت أنّ القصد ختام العالم وعشيّة يوم القيامة، والتي رافقت كلمة «بغتة».

ويقصد بـ(عذاب يوم عقيم) عقاب يوم القيامة، وقد وصف يوم القيامة بالعقم لأنّه لا يوم يليه لينهض المرء للقيام بأعمال خيّرة تعوّض عمّا فاته وتؤثّر في مصيره.

ثمّ أشارت الآية التالية إلى السيادة المطلقة لربّ العالمين يوم القيامة (الملك يومئذ لله) وهذا أمر ملازم لله الحاكم الدائم والمالك المطلق، وليس ليوم القيامة فقط، بل هو على مدى الزمان، وبما أنّ في الدنيا مالكين وحكّاماً آخرين رغم محدودية ملكياتهم وسلطانهم ورغم أنّها ملكية ظاهرية وسلطان شكلي، إلاّ أنّه قد يولد تصوّراً بأنّ هناك حكّاماً ملاّكاً غير الله. ولكنّ كلّ هذا يزول وتتّضح حقيقة وحدانية المالك والحاكم يومئذ.

وبتعبير آخر: هناك نوعان من السيادة والملكية: السيادة الحقيقيّة، وهي للخالق على المخلوق، والسيادة الإعتبارية الناتجة عن اتّفاق بين الناس، ويوجد كلا هذان النوعان في الدنيا، ولكن تزول الحكومات الإعتبارية كلّها يوم القيامة،

[ 382  ]

وتبقى السيادة الحقيقيّة لخالق العالم(1).

وعلى أي حال، فإنّ الله هو المالك الحقيقي، فهو إذن الحاكم الحقيقي، وتعمّ حكومته على المؤمنين والكافرين على السواء، ونتيجة ذلك كما يقول القرآن المجيد: (فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنّات النعيم) الجنّات التي تتوفّر فيها جميع المواهب وكلّ الخيرات والبركات.

ويضيف القرآن الكريم (والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا فاُولئك لهم عذاب مهين) ما أجمل هذا التعبير! عذابٌ يذلّ الكفرة والذين كذّبوا بآيات الله، اُولئك الذين عاندوا الله واستكبروا على خلقه يهينهم الله. وقد وصف القرآن العذاب بـ«الأليم» و «العظيم» و «المهين» في آيات مختلفة، ليلائم كلّ واحد منه الذنب الذي إقترفه المعاندون!.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن المجيد أشار في حديثه عن المؤمنين إلى أمرين «الإيمان» و «العمل الصالح»، وفي المقابل أشار في حديثه عن الكافرين إلى «الكفر» و «التكذيب بآيات الله»، وهذا يعني أنّ كلّ منهما متركّب من إعتقاد داخلي وأثر خارجي يبرز في عمل الإنسان، حيث إنّ لكلّ عمل إنساني أساساً فكرياً.

وبما أنّ الآيات السابقة تناولت المهاجرين من الذين طردوا من ديارهم وسلبت أموالهم، لأنّهم قالوا: ربّنا الله، ودافعوا عن شريعته، فقد إعتبرتهم الآية التالية مجموعة ممتازة جديرة بالرزق الحسن وقالت: (والذين هاجروا في سبيل الله ثمّ قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقاً حسناً وإنّ الله لهو خير الرازقين).

قال بعض المفسّرين: إنّ «الرزق الحسن» هو النعم التي تشدّ نظر الإنسان إليها عند مشاهدته لها فلا يدير طرفه عنها، وإنّ الله وحده هو القادر على أن يمنّ

___________________________

1 ـ الميزان، المجلّد الرّابع عشر، ص433.

[ 383  ]

على الإنسان بهذا النوع من الرزق ...

ذكر بعض المفسّرين سبباً لنزول هذه الآية خلاصته: «لمّا مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبدالأسد، قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممّن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية مسويّة بينهم، وإنّ الله يرزق جميعهم رزقاً حسناً، وظاهر الشريعة يدلّ على أنّ المقتول أفضل. وقد قال بعض أهل العلم: إنّ المقتول في سبيل الله والميّت في سبيل الله شهيد»(1).

وعرضت الآية الأخيرة صورة من هذا الرزق الحسن (ليدخلنّهم مدخلا يرضونه) فإذا طردوا من منازلهم في هذه الدنيا ولاقوا الصعاب، فإنّ الله يأويهم في منازل طيّبة في الآخرة ترضيهم من جميع الجهات، وتعوّضهم ـ على أفضل وجه ـ عمّا ضحّوا به في سبيل الله.

وتنتهي هذه الآية بعبارة (وإنّ الله لعليم حليم) أجل، إنّ الله عالم بما يقوم به عباده، وهو في نفس الوقت حليم لا يستعجل في عقابهم، من أجل تربية المؤمنين في ساحة الإمتحان هذه، وليخرجوا منها وقد صلب عودهم وازدادوا تقرّباً إلى الله.

* * *

___________________________

1 ـ «الجامع لأحكام القرآن» لأبي عبدالله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي، المجلّد 11 ـ 12، ص88.

[ 384  ]

الآيات

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَـطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ(62)

سبب النّزول

رُوي أنّ عدداً من المشركين من أهل مكّة واجهوا المسلمين ولم يبق لإنتهاء شهر المحرّم إلاّ يومان. قال المشركون بعضهم لبعض: إنّ أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يحاربون في شهر المحرّم. ولهذا بدأوا بمهاجمة المسلمين، ورغم الحاح المسلمين عليهم بإيقاف القتال، لم يعطوا اُذناً صاغية لهذا الطلب، فاضطرّ المسلمون إلى قتالهم ببطولة فريدة فنصرهم الله، وهنا نزلت أوّل آية من الآيات المذكورة آنفاً(1).

___________________________

1 ـ «مجمع البيان» و «الدرّ المنثور» في تفسير الآيات موضع البحث.

[ 385  ]

التّفسير

من هم المنتصرون؟

حدّثتنا الآيات السابقة عن المهاجرين في سبيل الله، وما وعدهم الله من رزق حسن يوم القيامة. ومن أجل ألاّ يتصوّر المرء أنّ الوعد الإلهي يختّص بالآخرة فحسب، تحدّثت الآية ـ موضع البحث ـ في مطلعها عن إنتصارهم في ظلّ الرحمة الإلهيّة في هذا العالم: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمّ بغي عليه لينصرنّه الله) إشارة إلى أنّ الدفاع عن النفس ومجابهة الظلم حقّ طبيعي لكلّ إنسان.

وعبارة «بمثل» تأكيد لحقيقة أنّ الدفاع لا يجوز له أن يتعدّى حدوده.

عبارة (ثمّ بغي عليه) هي أيضاً إشارة إلى وعد الله بالإنتصار لمن يُظلم خلال الدفاع عن نفسه، وعلى هذا فالساكت عن الحقّ والذي يقبل الظلم ويرضخ له، لم يعده الله بالنصر، فوعد الله بالنصر يخصّ الذين يدافعون عن أنفسهم ويجابهون الظالمين والجائرين، فهم يستعدّون بكلّ ما لديهم من قوّة لمجابهة هذا الظلم. ويجب أن تمتزج الرحمة والسماح بالقصاص والعقاب لتكسب النادمين والتائبين إلى الله، حيث تنتهي الآية بـ(إنّ الله لعفو غفور).

وتطابق هذه الآية آية القصاص حيث منحت ولي القتيل حقّ القصاص من جهة وأفهمته أنّ العفو فضيلة (للجديرين بها) من جهة أُخرى.

وبما أنّ الوعد بالنصر الذي يقوي القلب لابدّ وأن يصدر من مقتدر على ذلك. لهذا تستعرض الآية قدرة الله في عالم الوجود التي لا تنتهي، فتقول: (ذلك بأنّ الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) فما أن يقل من أحدهما حتّى يزداد في الآخر وفق نظام مدروس.

كلمة «يولج» مشتقّة من «الإيلاج» وهو في الأصل من الولوج أي الدخول. وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ تشير إلى التغييرات التدريجيّة المنظمّة تنظيماً تامّاً،

[ 386  ]

كمسألة الليل والنهار، فما يقلّ أحدهما إلاّ ليزداد الآخر على مدى فصول السنة.

وربّما تكون إشارة إلى شروق الشمس وغروبها الذي لا يحدث فجأةً بسبب الظروف الجويّة الخاصّة (بالهواء المحيط بالأرض) حيث تمتدّ أشعّة الشمس في البداية نحو طبقات الهواء العليا، ثمّ تنتقل إلى الطبقات السفلى. وكأنّ النهار يلج في الليل ويطرد جيش قوى الظلام.

وعكس ذلك ما يقع حين الغروب، حيث تلملم أشعّة الشمس خيوطها من الطبقات السفلى للأرض، فيسودها الظلام تدريجيّاً حتّى ينتهي آخر خيط من أشعّة الشمس ويسيطر جيش الظلام على الجميع. ولولا هذه الظاهرة، فسيكون الشروق والغروب على حين غرّة، فيلحق الأذى بالإنسان جسماً وروحاً، ويحدث هذا التغيير السريع أيضاً مشاكل كثيرة في النظام الإجتماعي.

ولا مانع من إشارة الآية السالفة الذكر إلى هذين التّفسيرين.

وتنتهي الآية بـ(وإنّ الله سميع بصير) أجل، إنّ الله يلبّي حاجة المؤمنين، ويطّلع على حالهم وأعمالهم، ويعينهم برحمته عند اللزوم. مثلما يطّلع على أعمال ومقاصد أعداء الحقّ.

وآخر آية من الآيات السالفة الذكر في الواقع دليل على ما مضى حيث تقول: (ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ الله هو العلي الكبير).

إن شاهدتم إنتصار الحقّ وهزيمة الباطل، فإنّ ذلك بلطف الله الذي ينجد المؤمنين ويترك الكافرين لوحدهم.

إنّ المؤمنين ينسجمون مع قوانين الوجود العامّة، بعكس الكافرين الذين يكون مآلهم إلى الفناء والعدم بمخالفتهم تلك القوانين. والله حقّ وغيره باطل. وجميع البشر والمخلوقات التي ترتبط بشكل ما بالله تعالى هي حقّ أيضاً. أمّا

[ 387  ]

غيرها فباطل بمقدار إبتعادها عنه عزّوجلّ(1).

وكلمة «عليّ» مشتقّة من «العلو» بمعنى ذي المنزلة الرفيعة، وتطلق أيضاً على القادر والقاهر الذي لا تقف أمامه قدرة.

أمّا كلمة «الكبير» فهي إشارة إلى سعة علم الله وقدرته، وطبيعي أنّ من يملك هذه الصفات بإمكانه مساعدة أحبّائه وتدمير أعدائه، إذن فليطمئن المؤمنون إلى ما وعدهم الله تعالى.

* * *

___________________________

1 ـ نقرأ في «الميزان» أنّ إطلاق الحقّ على الله والباطل على غيره، لأنّ الحقّ الذي لم يختلط بباطل أبداً هو الله سبحانه وتعالى، أو لكونه عزّوجلّ مستقلا في حقّانيته والآخرون تابعين له.

[ 388  ]

الآيات

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الاَْرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(63) لَّهُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ(64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاَْرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاَْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(65)وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الاِْنسَـنَ لَكَفُورٌ(66)

التّفسير

دلائل الله في ساحة الوجود:

تحدّثت الآيات السابقة عن قدرة الله غير المحدودة وأنّه الحقّ المطلق، وبيّنت هذه الآيات الأدلّة المختلفة على هذه القدرة الواسعة والحقّ المطلق وتقول أوّلا: (ألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضّرة).

لقد اخضّرت الأرض المرتدية رداء الحزن ـ من أثر الجفاف ـ بعد ما نزل

[ 389  ]

المطر عليها. فأصبحت تسرّ الناظرين. أجل (إنّ الله لطيف خبير). وكلمة «لطيف» مشتقّة من «اللطف» بمعنى العمل الجميل الذي يمتاز برقّته. ولهذا يطلق على الرحمة الإلهيّة الخاصّة لفظ «اللطف». وكلمة «الخبير» تعني المطّلع على الاُمور الدقيقة.

وبلطف الله تنمو البذرة تحت الأرض، ثمّ ترتفع خلافاً لقانون جاذبية الأرض، وترى الشمس وتشمّ نسيم الهواء حتّى تصبح نباتاً مثمراً أو شجرة باسقة.

وهو الذي أنزل المطر فمنح التربة الجافّة لطفاً ورقة لتسمح للبذرة بالحركة والنمو. وهو خبير بجميع الإحتياجات والمراحل التي تمرّ بها هذه البذرة حتّى ترتفع نحو السّماء. يرسل الله المطر بقدرة وبخبرة منه، فإن زاده صار سيلا، وإن نقصه كثيراً ساد الجفاف في الأرض، وتقول الآية الثامنة عشرة من سورة المؤمنين: (وأنزلنا من السّماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض)(1).

الآية التالية تعرض علامة أُخرى على قدرة الله غير المتناهية، وهو قوله سبحانه وتعالى: (له ما في السموات وما في الأرض).

فهو سبحانه خالق الجميع ومالكهم، وبهذا الدليل يكون قادراً عليهم، لذا فهم يحتاجون إليه جميعاً، ولا يحتاج هو إلى شيء أو إلى أحد.

ويزداد هذا المعنى إشراقاً في قوله سبحانه: (وإنّ الله لهو الغني الحميد)والتحام صفتي الغني والحمد جاء في غاية الإحكام:

أوّلا: لأنّ عدداً كبيراً من الناس أغنياء، إلاّ أنّهم بخلاء يستغلّون الآخرين ويعملون لذاتهم فقط، وقد غرقوا في الغفلة والغرور. وتغلّب على أصحاب الثروة الطائلة هذه الصفات. أمّا غنى الله سبحانه فهو مزيج من اللطف والسماح والجود والكرم، لذا استحقّ الحمد والثناء من عباده.

___________________________

1 ـ بحثنا في تفسير الآية (103) من سورة الأنعام حول لطف الله. فعلى الراغب مراجعته.

[ 390  ]

ثانياً: إنّ الأغنياء غيّر الله تعالى غناهم ظاهري، وإذا كانوا كرماء فإنّ كرمهم في الواقع ليس منهم، بل من لطف الله سبحانه وقديم إحسانه، فكلّ إمكاناتهم إنّما هي من أنعم الله. فالله وحده هو الغني بذاته والجدير بكلّ حمد وثناء.

ثالثاً: لأنّ الأغنياء يعملون ما يفيدهم أو يتوخّون فائدته، أمّا ربّ العالمين سبحانه وتعالى، فيجود ويرحم ويعفو دون حساب، ولا إبتغاء فائدة، ولا سدّ حاجة، وإنّما يفعل ذلك كرماً منه ورحمة، فهو أهل الحمد والثناء بلا شريك.

وتشير الآية التالية إلى نموذج آخر من تسخير الله تعالى الوجود للإنسان (ألم تر أنّ الله سخّر لكم ما في الأرض) وجعل تحت إختياركم جميع المواهب والإمكانات فيها لتستفيدوا منها بأي صورة تريدون، وكذلك جعل السفن والبواخر التي تتحرّك وتمخر عباب البحار بأمره نحو مقاصدها. (الفلك تجري في البحر بأمره) إضافةً إلى (ويمسك السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه) فالكواكب والنجوم تسير في مدارات محدّدة بأمر الله سبحانه وتعالى، كلّ ذلك لتسير في فاصلة محدّدة لها عن الكواكب الاُخرى، وتمنع إصطدام بعضها ببعض.

وخلق الله طبقات جويّة حول الأرض لتحول دون وصول الأحجار السائبة في الفضاء إلى الأرض وإلحاق الضرر بالبشر.

وذلك من رحمة الله لعباده ولطفه بهم، فقد خلق الأرض آمنة لعباده، فلا تصل إليهم الأحجار السائبة في الفضاء، ولا تصطدم الأجرام الاُخرى بالأرض. وهذا ما نلمسه في ختام الآية المباركة (إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم).

وتتناول الآية الأخيرة أهمّ قضيّة في الوجود، أي قضيّة الحياة والموت فتقول: (وهو الذي أحياكم) أي كنتم تراباً لا حياة فيه فألبسكم لباس الحياة (ثمّ يميتكم)وبعد إنقضاء دورة حياتكم يميتكم (ثمّ يحييكم) أي يمنحكم حياة جديدة يوم البعث.

وتبيّن الآية ميل الإنسان إلى نكران نِعم الله عليه قائلة: (إنّ الإنسان لكفور)

[ 391  ]

فرغم كلّ ما أغدق الله على الإنسان من أنعم في الأرض والسّماء، في الجسم والروح، لا يحمده ولا يشكره عليها، بل يكفر بكلّ هذه النعم. ومع أنّه يرى كلّ الدلائل الواضحة والبراهين المؤكدة لوجود الله تبارك وتعالى، والشاهدة بفضله عليه وإحسانه إليه ينكر ذلك. فما أظلمه وأجهله!

* * *

ملاحظات

1 ـ الصفات الخاصّة بالله:

بيّنت الآيات السالفة الذكر والآيتان اللتان سبقتها، أربع عشرة صفة من صفات الله (في نهاية كلّ آية جاء ذكر صفتين من صفات الله) العليم والحليم ـ العفو والغفور ـ السميع والبصير ـ العلي والكبير ـ اللطيف والخبير ـ الغني والحميد ـ الرؤوف والرحيم. وكلّ صفة تكمل ما يقترن بها. وتنسجم معها وتتناسب مع البحث الذي تناولته الآية، كما مرّ سابقاً.

2 ـ الآيات تدلّ على توحيد اللّه وعلى المعاد

إنّ الآيات السابقة، مثلما هي دليل على قدرة الله تعالى وتأكيد لما وعد من نصر لعباده المؤمنين، وشاهد على حقّانيته المقدّسة التي إستندت الآيات السالفة الذكر إليها، فهي دليل على توحيد الله وعلى المعاد. فإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، ونموّ النبات فيها، وكذلك حياة الإنسان وموته شاهد على البعث والنشور. ومعظم الآيات عرضت هذه الأدلّة في البرهنة على حقيقة المعاد يوم القيامة.

وقوله تعالى: (إنّ الإنسان لكفور) تأكيد على إصرار المعاندين على الكفر، ففي صيغة المبالغة «كفور» دلالة على هذا العناد، فهذا الإنسان منكر لفضل ربّه مع مشاهدته لآياته العظيمة، ومصرّ على الإنحراف عن هداه ونور رحمته الواسعة.

[ 392  ]

3 ـ تسخير الأرض والسّماء للإنسان:

لقد سخّر الله هذه الموجودات للإنسان وذلّلها لمصالحه. (وقد بيّنا هذا الموضوع مفصّلا في تفسير الآية (12) إلى (14) من سورة النحل، وفي تفسير الآية الثّانية من سورة الرعد).

وجاء ذكر السفن في البحار والمحيطات بين النعم، لأنّها كانت أهمّ وسيلة للنقل والتجارة. ولم تحلّ محلّها أيّة وسيلة أرخص منها حتّى الآن. ولو توقّفت هذه السفن يوماً لاختلّت منافع البشر، فالطرق البريّة لا تسدّ حاجة الإنسان إلى النقل والإنتقال، خاصّةً في العصر الحاضر الزاخر بالإحتياج إلى النفط المحمول في السن التي لا تفتر عن الحركة، لتدير عجلة الصناعة في العالم. ولقد تجلّت هذه النعمة اليوم أكثر، فما تعدل عشرات الآلاف من الصهاريج السيّارة في البرّ ناقلة نفط عملاقة، ونقل النفط بواسطة الأنابيب النفطيّة لا يستوعب إلاّ مناطق محدودة من العالم.

* * *

[ 393  ]

الآيات

لِّكُلِّ أُمَّة جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَـزِعُنَّكَ فِى الاَْمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُّسْتَقِيم(67) وَإِن جَـدَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(68) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ فِيَما كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِى كِتَـب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ(70)

التّفسير

لكلّ اُمّة عبادة:

تناولت البحوث السابقة المشركين خاصّة، ومخالفي الإسلام عامّة، ممّن جادلوا فيما أشرق به الإسلام من مبادىء نسخت بعض تعاليم الأديان السابقة. وكانوا يرون من ذلك ضعفاً في الشريعة الإسلامية، وقوّة في أديانهم، في حين أنّ ذلك لا يشكل ضعفاً إطلاقاً، بل هو نقطة قوّة ومنهج لتكامل الأديان ولذا جاء الفصل الربّاني جلّياً (لكلّ اُمّة جعلنا منسكاً هم ناسكوه)(1).

___________________________

1 ـ يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآيات تشير إلى ردّ لما أثاره المشركون من إعتراض قائلين: لماذا لا تأكلون الميتة التي قتلها الله، في وقت تأكلون فيه الميتة التي قتلتموها أنتم؟! فنزلت هذه الآيات لتردّ عليهم.

إلاّ أنّه يستبعد أن تتضمّن هذه الآيات ذلك. لأنّ أكل الميتة لم تسمح به شريعة ـ في الظاهر ـ لما فيه من ضرر، حتّى يأتي القرآن ليؤيّد ذلك ويقول: لكلّ شريعة تعاليمها.

[ 394  ]

«المناسك» ـ كما قلنا سابقاً ـ جمع «منسك» أي مطلق العبادات، ومن الممكن أن تشمل جميع التعاليم الإلهيّة. لهذا فإنّ الآية تبيّن أنّ لكلّ اُمّة شرعة ومنهاجاً يفي بمتطلّباتها بحسب الأحوال التي تعيشها، لكنّ ارتقاءها يستوجب تعاليم جديدة تلبّي مطامحها المرتقّية، وهذا ما صدعت به الآية المباركة وأنارته قائلة: (فلا ينازعنّك في الأمر). فبما تقدّم لا ينبغي لهم منازعتك في هذا الأمر.

(وادع إلى ربّك إنّك لعلى هدى مستقيم). تخاطب الآية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ياأيّها النّبي لا يؤثّر هؤلاء في دعوتك الراشدة باعتراضاتهم الضالّة، فالمهتدي إلى الصراط المستقيم أقوى من الضارب في التيه.

فوصف «الهدى» بالإستقامة، إمّا تأكيداً لها، وإمّا إشارة إلى أنّها يمكن أن تتحقّق بطرق مختلفة، قريبها وبعيدها، مستقيمها وملتويها، إلاّ أنّ الهداية الإلهيّة أقربها وأكثرها إستقامة.

ثمّ أضافت الآية (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون) فلو استمرّوا في جدالهم ومنازعتهم معك، ولم يؤثّر فيهم كلامك. فقل لهم: انّ الله أعلم بأعمالكم، وستحشرون إليه في يوم يعود الناس فيه إلى التوحيد، وتحلّ جميع الإختلافات لظهور الحقائق لجميع الناس: (الله يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)(1).

وبما أنّ القضاء بين العباد يوم القيامة بحاجة إلى علم واسع بهم وإطّلاع دقيق بأعمالهم، ختمت الآيات هاهنا بقوله تعالى: (ألم تعلم أنّ الله يعلم ما في السموات والأرض) و (إنّ ذلك في كتاب).

___________________________

1 ـ هذه الآية قد تخاطب المخالفين للإسلام والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى هذا فإنّ عبارة (الله يحكم بينكم ...) قول الله على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن أن تخاطب جميع المسلمين والمخالفين، وعلى هذا تكون هذه الآية ذات بيان خاص موجّه من الله إلى الجميع.

[ 395  ]

أجل، إنّ جميع ذلك قد ثبت في كتاب علم الله الذي لا حدود له، كتاب عالم الوجود وعالم العلّة والمعلول، عالم لا يضيع فيه شيء، فهو في تغيير دائم، حتّى لو خرجت أمواج صوت ضعيف من حنجرة إنسان قبل ألفي عام فانّها لا تنعدم، بل تبقى في هذا الكتاب الجامع لكلّ شيء بدقّة. أي إنّ كلّ ما يجري في هذا الكون مسجّل في لوح محفوظ هو لوح العلم الإلهي، وكلّ هذه الموجودات حاضرة بين يدي الله سبحانه بجميع صفاتها وخصائصها. وهذا من معاني القدرة الإلهيّة التي نلمسها في قوله تعالى: (إنّ ذلك على الله يسير).

* * *

[ 396  ]

الآيات

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّـلِمِينَ مِن نَّصِير(71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـتُنَا بَيِّنَـت تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(72) يَأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ(74)

التّفسير

معبودات أضعف من ذبابة!

تابعت هذه الآيات الأبحاث السابقة عن التوحيد والشرك، فتحدّثت ثانية عن المشركين وأفعالهم الخاطئة، فتقول الآية الأُولى: (ويعبدون من دون الله ما لم

[ 397  ]

ينزل به سلطاناً) وهذا يبيّن بطلان عقيدة الوثنيين الذين كانوا يرون أنّ الله سمح لهم بعبادة الأوثان وأنّها تشفع لهم عند الله. وتضيف الآية (وما ليس لهم به علم)أي يعبدون عبادةً لا يملكون دليلا على صحّتها لا من طريق الوحي الإلهي، ولا من طريق الإستدلال العقلي، ومن لا يعمل بدليل يظلم نفسه وغيره، ولا أحد يدافع عنه يوم الحساب، لهذا تقول الآية في ختامها: (وما للظالمين من نصير).

قال بعض المفسّرين: إنّ النصير هنا الدليل والبرهان، لأنّ المعيّن الحقيقي هو الدليل ذاته(1).

كما يحتمل أن يكون النصير مرشداً ومكمّلا للبحث السابق، أي إنّ المشركين لا يدعمهم دليل إلهي ولا عقلي، وليس لهم قائد ولا مرشد ولا معلّم يهديهم ويسدّدهم للحقّ الذي فقدوا حمايته والإستنارة به، بظلمهم أنفسهم، ولا خلاف بين هذه التفاسير الثلاثة التي يبدو أنّ أوّلها أكثر وضوحاً من غيره.

وتشير الآية الثّانية موضع البحث إلى عناد الوثنيين وإستكبارهم عن الإستجابة لآيات الله تعالى، في جملة وجيزة لكنّها ذات دلالات كبيرة: (وإذ تتلى عليهم آياتنا بيّنات تعرف من وجوه الذين كفروا المنكر)(2).

وهنا يسفر التناقض بين المنطق القرآني القويم وتعصّب الجاهلية الذي  لا يرضخ للحقّ ولا يفتح قلبه لندائه الرحيم، فما تليت عليهم آيات ربّهم إلاّ ظهرت علائم الإستكبار عنها في وجوههم حتّى إنّهم (يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا) أي كأنّهم يريدون مهاجمة الذين يتلون عليهم آيات الله ـ عزّوجلّ ـ وضربهم بقبضات أيديهم، تنفيساً عن التكبّر البغيض في قرارة أنفسهم.

كلمة «يسطون» مشتقّة من «السطوة» أي رفع اليد ومهاجمة الطرف الآخر، وهي في الأصل ـ كما قال الراغب الاصفهاني في مفرداته ـ قيام الفرس على

___________________________

1 ـ الميزان، وتفسير الفخر الرازي، في تفسير الآية موضع البحث.

2 ـ «المنكر» مصدر ميمي يعني الإنكار، وبما أنّ الإنكار أمر باطني لا يمكن مشاهدته، فالمراد هنا علائمه ونتائجه.

[ 398  ]

رجليه ورفع يديه، ثمّ إستعملت بالمعنى الذي ذكرناه.

ولو فكّر الإنسان منطقيّاً لما أغضبه حديث لا يرضاه، ولما ثار مقطّباً متهيّئاً للهجوم على محدّثه مهما خالفه. بل يحاول ردّه ببيان منطقي.

وإنفعال المشركين على النحو المتقدّم دليل على انهيار تفكيرهم وغلبة الجهل والباطل عليهم.

وعبارة (يكادون يسطون) التي تتألّف من فعلين مضارعين، دليل على إستمرار حالة الهجوم والسباب في ذات المشركين وتأصّلها فيهم، فتارةً يفعلونه، وأُخرى تبدو علائمه على وجوههم حين لا تسمح به الأحوال.

وقد أمر القرآن المجيد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجبه هؤلاء المتغطرسين هاتفاً (قل أفأنبئكم بشرّ من ذلكم النّار)(1).

أي إن زعمتم أنّ هذه الآيات البيّنات شرّ، لأنّها لا تنسجم مع أفكاركم المنحرفة، فإنّني اُخبركم بما هو شرّ منها، ألا وهو عقاب الله الأليم، النّار التي أعدّها الله جزاءً (وعدها الله الذين كفروا)، (وبئس المصير). أجل، إنّ النّار المحرقة لأسوأ مكان للمتشدّدين الحادّي المزاج الذين أحرقت نار عصبيّتهم ولجاجهم قلوبهم، لأنّ العقاب الإلهي يتناسب دائماً مع كيفية الذنب والعصيان.

وترسم الآية الآتية صورة معبّرة لما كان عليه الوثنيون، وما يعبدونه من أشياء ضعيفة هزيلة تكشف عن بطلان آراء المشركين وعقيدتهم، مخاطبةً للناس جميعاً خطاباً هادياً أن (ياأيّها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) وتدبّروا فيه جيداً (إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له).

أجل، لو إجتمعت الأوثان كلّها، وحتّى العلماء والمفكّرين والمخترعين

___________________________

1 ـ إنّ «النّار» هنا خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي النّار، واحتمل البعض أنّ النّار مبتدأ وجملة «وعدها الله» خبر لها، إلاّ أنّ القول الأوّل هو الأصوب.

وفعل «وعد» أخذ هنا مفعولين، الأوّل «الذين كفروا» الذي تأخّر والثّاني «الهاء» التي تقدّمت ذلك للتخصيص.

[ 399  ]

جميعاً، لما استطاعوا خلق ذبابة. فكيف تجعلون أوثانكم شركاء لخالق السموات والأرض وما فيهنّ من آلاف مؤلّفة من أنواع المخلوقات في البرّ والبحر، في الصحاري والغابات، وفي أعماق الأرض؟ الله الذي خلق الحياة في أشكال مختلفة وصور بديعة ومتنوّعة بحيث أنّ كلّ مخلوق من المخلوقات يثير في الإنسان كلّ الإعجاب والتقدير، فأين هذه الآلهة الضعيفة من اللّه الخالق القادر الحكيم المتعال؟

وتستكمل الآية البيان عن ضعف الأوثان وعجزها المطلق وأنّها ليست غير قادرة على خلق ذبابة فحسب، بل (وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه)كأنّ الآية تهتف فيهم: ما الدافع لجعل موجود ضعيف تهزمه الذبابة حاكماً عليكم وحلاّلا لمشاكلكم؟!

ويعلو صدى الحقّ في تقرير ضعف الوثن وعبدته في قوله تعالى: (ضعف الطالب والمطلوب).

وقد ورد في الرّوايات أنّ الوثنيين من قريش نصبوا أوثانهم حول الكعبة، وأغرقوها بالمسك والعنبر وأحياناً بالزعفران والعسل، وطافوا حولها وهم يردّدون (لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك)! والإنحياز عن التوحيد واضح في هذه التلبية، والشرك مؤكّد فيها، فقد جعلوا هذه الموجودات التافهة شركاء لله الواحد الأحد، وهم يرون الذباب يحوم عليها ويسرق منها العسل والزعفران والمسك دون أن تستطيع إعادة ما سلب منها!

وقد عرض القرآن المجيد هذه الصورة ليكشف عن ضعف هذه الأوثان، وتفاهة منطق المشركين في تسويغ عبادتهم لهذه الأوثان، وذكّرهم بعجز آلهتهم عن إستعادة ما سرقه الذباب منها وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها لعلّهم ينتبهون على تفاهة ما يعبدون من دون الله تعالى.

أمّا ما المراد من «الطالب» و «المطلوب»؟

[ 400  ]

الصحيح هو ما سبق أن قلناه من أنّ الطالب هو عبدة الأوثان، والمطلوب هو الأوثان ذاتها، وكلاهما لا يقدر على شيء.

وقال البعض: إنّ الطالب هو الذباب، والمطلوب الأصنام (لأنّ الذباب يجتمع عليها ليسلب منها غذاءه).

وقال الآخرون: الطالب هو الأصنام، والمطلوب هو الذباب (لأنّه لو فكّرت الأصنام في خلق ذبابة واحدة لما إستطاعت ذلك) وأصحّ هذه التفاسير هو الأوّل.

وبعد أن عرض القرآن الكريم هذا المثال الواضح الدافع، قرّر حقيقة مهمّة، وهي (ما قدّروا الله حقّ قدره).

فالمشركون لو كانوا على أدنى معرفة بالله تعالى لما أنزلوا قدره إلى مستوى هذه الآلهة الضعيفة العاجزة ولما جعلوا مصنوعاتهم شركاء له، تعالى عمّا يفعلون علوّاً كبيراً، ولو كان لديهم أدنى معرفة بقدرة الله لضحكوا من أنفسهم وسخروا من أفكارهم. وتقول الآية في النهاية: (إنّ الله لقوي عزيز).

أجل، إنّ الله قادر على كلّ شيء ولا مثيل لقدرته ولا حدّ، فهو ليس كآلهة المشركين التي لو إجتمعت لما تمكّنت من خلق ذبابة، بل ليس لها القدرة على إعادة ما سلبه الذباب منها.

* * *

بحث

مثال واضح لبيان نقاط الضعف:

يرى عدد من المفسّرين أنّ القرآن جاء بمثل في آياته المذكورة آنفاً، إلاّ أنّه لم يبيّن المثل بصراحة، بل أشار إلى مواضع أُخرى في القرآن، أو أنّ المثل هنا جاء لإثبات أمر عجيب، وليس بمعنى المثل المعروف.

ولا شكّ في أنّ هذا خطأ، لأنّ القرآن دعا عامّة الناس إلى التفكّر في هذا

[ 401  ]

المثل. وهذا المثل هو ضعف الذبابة من ناحية، وقدرتها على سلب ما لدى الأوثان، وعجز هذه الأوثان عن إسترداد ما سلبه الذباب منها، وهذا المثل ضرب للمشركين من العرب، لكنّه يعني الناس جميعاً ولا يخصّ الأصنام، بل يعمّ جميع ما دون الله تعالى، من فراعنة ونماردة، ومطامع وأهواء، وجاه وثروة. فكلّها ينطبق عليها المثل، فلو تكاتفوا وجمعوا عساكرهم وما يملكون من وسائل وطاقات، لما تمكّنوا من خلق ذبابة، ولا من استعادة ما سلب الذباب منهم.

سؤال وجواب:

قد يقال: إنّ اختراعات العصر الحديث قد تجاوزت أهميّة خلق ذبابة بمراتب كبيرة!

فوسائل النقل السريعة التي تسبق الريح وتقطع المسافات الشاسعة في طرفة عين، والأدمغة الألكترونية وأدقّ الأجهزة الحديثة بإمكانها حلّ المعضلات الرياضية بأسرع وقت ممكن، لا تدع قيمة لهذا المثل في نظر إنسان العصر.

وجواب ذلك هو أنّ صنع هذه الأجهزة ـ بلا شكّ ـ يبهر العقول، وهو دليل على تقدّم الصناعة البشرية تقدّماً مدهشاً، ولكنّه يهون مقابل خلق كائن حي مهما كان صغيراً، فلو درسنا حياة حشرة كالذبابة ونشاطها البايولوجي بدقّة، لرأينا أنّ بناء مخّ الذبابة وشبكة أعصابها وجهاز هضمها أعلى بدرجات من أعقد الطائرات، وأكثر تجهيزاً منها، ولا يمكن مقارنتها بها.

وما زال في قضيّة الحياة وإحساس وحركة المخلوقات أسرار غامضة على العلماء، وهذه المخلوقات وتركيبها البايولوجي، هي نفسها غوامض لم تحل بعد.

وقد ذكر علماء الطبيعة أنّ عيني هذه المخلوقات الصغيرة جدّاً، كالحشرات ـ مثلا ـ تتركّب من مئات العيون! فالعينان اللتان تبدوان لنا إثنتين لا أكثر، هما مؤلّفتان من مئات العيون الدقيقة جدّاً، ويطلق على مجموعها العين المركبة، فلو

[ 402  ]

فرضنا أنّ الإنسان صنع موادّ من أجزاء الخليّة التي لا حياة فيها، فكيف يتمكّن من صنع مئات العيون الصغيرة التي لكلّ منها ناظورها الدقيق، وقد رصّت طبقاتها بعضها إلى بعض، وربطت أعصابها بمخّ الحشرة لتنقل المعلومات إليها، ولتقوم بردّ فعل مناسب لما يحدث حولها؟

لن يستطيع الإنسان خلق مثل هذا الكائن الذي يبدو تافهاً مع أنّه عالم مفعم بالأسرار البالغة الغموض. ولو فرضنا أنّ الإنسان بلغ ذلك، فلا يسمّى إنجازه المفترض خلقاً، لأنّه لم يتعدّ التجميع لأجهزة متوفّرة في هذا العالم. فمن يركّب قطع السيّارة لا يسمّى مخترعاً.

* * *

[ 403  ]

الآيات

اللهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَـئِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ(76) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77) وَجَـهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَـكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَهِيمَ هُوَ سَمَّـكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَـوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَـكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين أنّ المشركين وعلى رأسهم «الوليد بن المغيرة»، كانوا عندما بعث الله الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقولون مستنكرين: «أأنزل عليه الذكر من بيننا»؟! فنزلت الآية الأُولى من الآيات أعلاه لتردّ عليهم (الله يصطفي من الملائكة رسلا

[ 404  ]

ومن الناس إنّ الله سميع بصير)(1).

التّفسير

خمسة تعاليم بنّاءةً ومهمّة:

بما أنّ الآيات السابقة تناولت بحث التوحيد والشرك وآلهة المشركين الوهميّة. وبما أنّ بعض الناس قد اتّخذوا الملائكة أو بعض الأنبياء آلهة للعبادة، فانّ أوّل الآيات موضع البحث تقول بأنّ جميع الرسل هم عباد الله وتابعون لأمره: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس).

أجل، إختار الله من الملائكة رسلا كجبرئيل، ومن البشر رسلا كأنبياء الله الكبار. و «مِن» هنا للتبعيض، وتدلّ على أنّ جميع ملائكة الله لم يكونوا رسلا إلى البشر، ولا يناقض هذا التعبير الآية الأُولى من سورة فاطر، وهي (جاعل الملائكة رسلا) لأنّ غاية هذه الآية بيان الجنس لا العموم والشمولية.

وختام الآية (إنّ الله سميع بصير) أي إنّ الله ليس كالبشر، لا يعلمون أخبار رسلهم في غيابهم، بل إنّه على علم بأخبار رسله لحظة بعد أُخرى، يسمع كلامهم ويرى أعمالهم.

وتشير الآية الثّانية إلى مسؤولية الأنبياء في إبلاغ رسالة الله من جهة، ومراقبة الله لأعمالهم من جهة أُخرى، فتقول: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) إنّه يعلم ماضيهم ومستقبلهم (وإلى الله ترجع الاُمور) فالجميع مسؤولون في ساحة قدسه.

ليعلم الناس أنّ ملائكة الله سبحانه وأنبياءه (عليهم السلام) عباد مطيعون له مسؤولون بين يديه، لا يملكون إلاّ ما وهبهم من لطفه، وقوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم)إشارة إلى واجب ومسؤولية رسل الله ومراقبته سبحانه لأعمالهم، كما جاء في

___________________________

1 ـ تفاسير القرطبي، وأبو الفتوح الرازي، والفخر الرازي، وروح المعاني.

[ 405  ]

الآيتين (27) و28) من سورة الجن (فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم)(1).

وقد إتّضح بهذا أنّ القصد من عبارة (ما بين أيديهم) هو الأحداث المستقبلة و (ما خلفهم) الأحداث الماضية.

الآيتان التاليتان هما آخر آيات سورة الحجّ حيث تخاطبان المؤمنين وتبيّنان مجموعة من التعاليم الشاملة التي تحفظ دينهم ودنياهم وإنتصارهم في جميع الميادين، وبهذه الروعة والجمال تختتم سورة الحجّ.

في البداية تشير الآية إلى أربعة تعليمات (ياأيّها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون) وقد بيّنت الآية ركنين من أركان الصلاة، الركوع والسجود لأهميتهما الإستثنائية في هذه العبادة العظيمة.

والأمر بعبادة الله ـ بعد الأمر بالركوع والسجود ـ يشمل جميع العبادات.

ولفظ «ربّكم» إشارة إلى لياقته للعبادة وعدم لياقة غيره لها، لأنّه سبحانه وتعالى مالك عبيده وجميع مخلوقاته ومربّيهم.

والأمر بفعل الخير يشمل أعمال الخير دون قيد أو شرط، وما نقل عن ابن عبّاس من أنّ هذه الآية تتناول صلة الرحم ومكارم الأخلاق هو بيان مصداق بارز لمفهوم الآية العامّ.

ثمّ يصدر الله أمره الخاص بالجهاد بالمعنى الشامل للكلمة، فيقول عزّ من قائل: (وجاهدوا في سبيل الله).

ومعظم المفسّرين لم يخصّوا هذه الآية بالجهاد المسلّح لأعداء الله، بل فسّروها بما هي عليه من معنىً لغوي عامّ، بكلّ نوع من الجهاد في سبيل الله

___________________________

1 ـ العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان ذيل الآيات موضع البحث، يعتبر جملة (يعلم ما بين أيديهم) إشارة إلى عصمة الأنبياء وحماية الله لهم، ومع ملاحظة ما ذكرناه أعلاه فإنّ هذا التّفسير يبدو بعيداً نوعاً ما.

[ 406  ]

والإستجابة له وممارسة أعمال البرّ والجهاد مع النفس (الجهاد الأكبر) وجهاد الأعداء والظلمة (الجهاد الأصغر).

نقل العلاّمة الطبرسي (رحمه الله) في «مجمع البيان» عن معظم المفسّرين قولهم: إنّ القصد من «حق الجهاد» الإخلاص في النيّة والقيام بالأعمال لله خالصة. ولا شكّ في أنّ حقّ الجهاد له معنىً واسع يشمل الكيف والنوع والمكان والزمان وسواها، ولكن مرحلة «الإخلاص في النيّة» هي أصعب مرحلة في جهاد النفس، لهذا أكّدتها الآية، لأنّ عباد الله المخلصين فقط هم الذين لا تنفذ إلى قلوبهم وأعمالهم الوساوس الشيطانية، رغم قوّة نفاذها وخفائها.

والقرآن المجيد يبدأ تعليماته الخمسة من الخاصّ إلى العامّ، فبدأ بالركوع فالسجود، وانتهى بالعبادة بمعناها العامّ الذي يشمل أعمال الخير والطاعات والعبادات وغيرها. وفي آخر مرحلة تحدّث عن الجهاد والمساعي الفرديّة والجماعية باطناً وظاهراً، في القول والعمل، وفي الأخلاق والنيّة.

والإستجابة لهذه التعليمات الربّانية مدعاة للفلاح.

ولكن قد يثار سؤال هو: كيف يتحمّل الجسم النحيف هذه الأعمال من المسؤوليات والتعليمات الشاملة الوسعة؟ ولهذا تجيب بقيّة الآية الشريفة ضمناً عن هذه الإستفهامات، وانّ هذه التعليمات دليل الألطاف الإلهيّة التي منّها سبحانه وتعالى على المؤمنين لتدلّ على منزلتهم العظيمة عنده سبحانه. فتقول الآيّة أوّلا: (هو إجتباكم).

أي حمّلكم هذه المسؤوليات بإختياركم من بين خلقه.

والعبارة الاُخرى قوله جلّ وعلا: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي إذا دقّقتم جيداً لم تجدوا صعوبة في التكاليف الربّانية لإنسجامها مع فطرتكم التي فطركم الله عليها، وهي الطريق إلى تكاملكم، وهي ألذّ من الشهد، لأنّ كلّ واحدة منها له غاية ومنافع تعود عليكم.

[ 407  ]

وثالث عبارة (ملّة أبيكم إبراهيم) إنّ إطلاق كلمة «الأب» على «إبراهيم»(عليه السلام)، إمّا بسبب كون العرب والمسلمين آنذاك من نسل إسماعيل (عليه السلام)غالباً، وإمّا لكون إبراهيم (عليه السلام) هو الأب الروحي للموحّدين جميعاً على الرغم من خلط المشركين دينه الحنيف بأنواع من الخرافات الجاهلية آنذاك.

ويليها تعبير (هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة، وفي هذا الكتاب السماوي أيضاً (القرآن)، وإنّ المسلم ليفتخر بأنّه قد أسلم نفسه لله في جميع أوامره ونواهيه.

وقد إختلف المفسّرون لمن يعود ضمير (هو) في العبارة السابقة، فقال البعض منهم: إنّه يعود إلى الله تعالى، أي إنّ الله سمّاكم في الكتب السماوية السابقة والقرآن بهذا الإسم الذي هو موضع فخركم، ويرى آخرون أنّ ضمير (هو) يعود إلى إبراهيم (عليه السلام) ويستدلّون بالآية (128) من سورة البقرة حيث نادى إبراهيم (عليه السلام)ربّه بعد إتمامه بناء الكعبة قائلا: (ربّنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا اُمّة مسلمة لك).

ونحن نرى أنّ التّفسير الأوّل أصوب، لأنّه ينسجم مع آخر الآية ذاتها حيث يقول: (هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا) أي هو سمّاكم المسلمين في الكتب السماوية السابقة والقرآن المجيد، وهذا القول يناسب الله عزّوجلّ ولا يناسب إبراهيم (عليه السلام)(1).

وخامس عبارة خصّ بها المسلمين وجعلهم قدوة للاُمم الاُخرى هي قوله المبارك: (ليكون الرّسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس).

و «الشهيد» هو الشاهد، وهي كلمة مشتقّة من شهود، بمعنى إطلاع المرء على

___________________________

1 ـ إنّ هذا الدين سمّاه القرآن المجيد بصراحة واضحة (الإسلام) كما جاء في الآية الثّالثة من سورة المائدة (وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً). كما ذكرت آيات عديدة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره (أوّل المسلمين) الأنعام، 14. الزمر، 12.

[ 408  ]

أمر أو حدث شهده بنفسه. وكون الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على جميع المسلمين يعني إطلاعه على أعمال اُمّته، وينسجم هذا المفهوم مع حديث (عرض الأعمال) وبعض الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك، حيث تعرض أعمال اُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه في نهاية كل اسبوع فتطلع روحه الطاهرة عليها جميعاً، فهو شاهد على اُمّته. وذكرت بعض الأحاديث أنّ معصومي هذه الاُمّة الأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) هم أيضاً شهود على أعمال الناس، نقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)قوله: «نحن حجج الله في خلقه ونحن شهداء الله وأعلامه في بريته»(1).

في الحقيقة إنّ المخاطب في عبارة «لتكونوا» وحسب ظاهر الكلمة هو الاُمّة جميعاً، وقد يكون المراد قادة هذه الاُمّة، فمخاطبة الكلّ وإرادة الجزء أمر متعارف في المحادثة اليومية. ومثال ذلك ما جاء في الآية (20) من سورة المائدة (وجعلكم ملوكاً). حيث نعلم أنّ عدداً قليلا منهم أصبحوا ملوكاً.

وهناك معنى آخر لكلمة شهود، هي «الشهادة العمليّة» أي كون أعمال الفرد انموذجاً للآخرين وقدوة لهم، وهكذا يكون جميع المسلمين الحقيقيين شهوداً، لأنّهم اُمّة تقتدي بهم الاُمم بما لديهم من دين يمكنهم أن يكونوا مقياساً للسمو والفضل بين جميع الاُمم.

وجاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا بعث الله نبيّاً جعله شهيداً على قومه، وإنّ الله تبارك وتعالى جعل اُمّتي شهداء على الخلق، حيث يقول: ليكون الرّسول شهيداً عليكم، وتكونوا شهداء على الناس»(2).

أي كما يكون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدوة واُسوة حسنة لاُمّته، تكونون أنتم أيضاً اُسوة وقدوة للناس، وهذا التّفسير لا يناقض الحديث السابق فجميع الاُمّة شهداء،

___________________________

1 ـ كتاب «إكمال الدين» للشيخ الصدوق حسبما نقل عنه تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 526. كما أكّدت ذلك أحاديث أُخرى في هذا المجال.

2 ـ تفسير البرهان، المجلّد الثّالث، صفحة 105.

[ 409  ]

والأئمّة الطاهرين شهود ممتازون على هذه الاُمّة(1).

وإعادة الآية في ختامها بشكل مركّز الواجبات الخمسة في ثلاث جمل هي (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله) فانّ الله هو قائدكم وناصركم ومعينكم: (هو مولاكم) و (فنعم المولى ونعم النصير).

والحقيقة أنّ جملة (فنعم المولى ونعم النصير) دليل على عبارة (واعتصموا بالله هو مولاكم) أي إنّ الله أمركم بالإعتصام به لكونه خير الموالي وأجدر الأعوان.

ربّنا: تفضّل علينا بالتوفيق للإعتصام بذاتك المقدّسة، ولنكون اُسوةً في الإرتباط بالخالق والخلق، وقدوة وشاهداً على الآخرين، ووفّقنا لإكمال هذا التّفسير الجامع والنموذجي لكتابك المنزل.

ربّنا: كما دعوتنا في قرآنك الكريم وفي كتبك السماوية الاُخرى بالمسلمين، فوفّقنا للتسليم لأمرك، وأمحض لنا طاعتك.

ربّنا: انصرنا على أعدائك وأعداء دينك الذين أرادوا بالإسلام والقرآن كيداً، فأنت نعم المولى ونعم النصير.

نهاية سورة الحجّ

* * *

___________________________

1 ـ شرحنا ذلك بإسهاب في آخر الآية (143) من سورة البقرة، وكذلك في تفسير الآية (41) من سورة النساء.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=804
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20