• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الحادي عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة النور من آية 27 ـ 40 من ( ص 67 ـ 120 ) .

سورة النور من آية 27 ـ 40 من ( ص 67 ـ 120 )

[67]

 الآيات

 يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28) لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَة فِيهَا مَتـعٌ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)

 

التّفسير

لا تدخلوا بُيُوت الناس حَتَّى يؤذنَ لَكُم:

بيّنت هذه الآيات جانباً من أدب المعاشرة، والتعاليم الإسلامية الإِجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامّة حول حفظ العفّة، أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس، وكيفية الإستئذان بالدخول إليها.

حيث تقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى

]68]

تستأنسوا وتسلموا على أهلها). وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لابدّ، من إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم.

والذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها «تستأنسوا» ولم تستعمل «تستأذنوا» لأنّ الجملة الثّانية لبيان الإستئذان بالدخول فقط، في الوقت الذي تكون الجملة الأُولى مشتقّة من «أنس» أي الإستئذان المرافق للمحبّة واللطف والمعرفة والإخلاص، وتبيّن كيف يجب أن يكون الإستئذان برفق وأدب وصداقة، بعيداً عن أي حدّة وسوء خلق. ولو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الأساس لوجدنا فيها الكثير من الأدب الذي يدور حول هذا الموضوع، وهو يعني ألا تصرخوا وألاّ تقرعوا الباب بقوة، وألا تستأذنوا بعبارات حادّة، وألا تدخلوا حتى يُؤذنَ لكم، فتسلّموا أوّلا سلاماً يستبطن مشاعر السلام والود ورسالة المحبة والصداقة.

وممّا يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة، مرافقته لجملتين أولاها: (ذلكم خير لكم) وثانيها: (لعلكم تذكرون). وهذا بحدّ ذاته دليل على أن لهذه الأحكام جذوراً في أعماق العواطف والعقول الإنسانية، ولو دقق الإنسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير والصلاح.

وتمّ هذا الحكم بجملة أخرى في الآية التالية: (فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم).

قد يكون المراد من هذه العبارة أنَّهُ رُبَّما كانَ في المنزل أحد، ولكن من لدَيه حقّ إعطاء الإِذن بالدخول غيرموجود، ففي هذه الحالة لا يحق للمرء الدخول إلى المنزل.

أو قد لا يوجد أحد في المنزل، ولكن صاحب المنزل على مقربة من ذلك المكان، أو في منزل الجيران بحيث لو طرق المرء الباب أو نادى صاحبه فقد يسمعه، ثمّ يحضر ليسمح له بالدخول، وعلى أي حال، فالمسألة المطروحة أن

[69]

 لا ندخل منزلا دون إذن.

ثمّ تضيف الآية (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم) إشارة إلى أنّه لا لزوم لانزعاج المرء إن لم يؤذن له بالدخول، فلعلّ صاحب المنزل في وضع غير مريح، أو أن منزله لم يهيأ لاستقبال الضيوف!

وبما أن بعض الناس قد يدفعهم حبّ الإطلاع والفضول حين رفضهم استقباله على استراق السمع، أو التجنس من ثقب الباب لكشف خفايا أهل المنزل وليطلع على أسرارهم، لهذا قالت الآية: (والله بما تعملون عليم).

وبما أن لكل حكم استثناءً، لرفع المشكلات والضرورات بشكل معقول عن طريقه، تقول آخر آية موضع البحث: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم).

وتضيف في الختام (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون). ولعل ذلك إشارة إلى استغلال البعض هذه الإستثناءات، فيتذرّع بأنّ المنزل غير مسكون فيدخله بهدف الكشف عن بعض الأسرار، أو الدخول إلى منازل مسكونة متذرعاً بعدم علمه بأنّها مسكونة، إلاّ أنّ الله يعلم بكلّ هذه الأعمال، ويعلم الذين يسيئون الإستفادة من هذا الإستثناء.

* * *

 

بحوث

1 ـ الأمن والحرية في حريم المنزل

لا ريب في أن لوجود الإنسان بعدين: بعد فردي، وآخر إجتماعي، ولهذا فله نوعان من الحياة: حياة خاصّة، وأخرى عامّة. ولكل واحدة خصائصها وآدابها، حيث يضطر الإنسان في البيئة الإجتماعية إلى تحمل قيود كثيرة من حيث اللباس والحركة، ومواصلة الإنسان حياته على هذا النسق وحده ـ خلال الأربع

[70]

والعشرين ساعة ـ مُتعب ويبعث على الضجر، إذ أنّه يرغب في أن يكون حراً خلال فترة من الليل والنهار ليستريح بعيداً عن هذه القيود، مع أسرته وبين أولاده، لهذا يلجأ إلى منزله الخاص به، وينعزل بذلك عن المجتمع بشكل مؤقت، ليتخلص من قيوده، فيجب أن يكون محيط المنزل آمناً إلى حدٍّ كاف.

وأمّا إذا أراد كلّ عابر الدخول إلى منازل الآخرين، فلا تبقى حرمة لمنازل الناس، ويسلب منها أمنها وحريتها، وبهذا تتحول إلى بيئة عامّة كالسوق والشارع. ولهذا السبب كانت بين الناس ـ على مرّ العصور ـ أعراف خاصّة في هذا المجال. حتى أن جميع قوانين العالم تمنع الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان وتعاقب عليه، وحتى في حالات الضرورة القصوى ولغرض حفظ الأمن وغايات أخرى أجيز عدد قليل على وفق القانون بالدخول إليها.

ونصّت الأحكام الإسلامية على تعاليم وآداب خاصّة في هذا المجال،  لا يشاهد نظيرها إلاّ نادراً.

نقرأ في حديث أن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري استأذن على الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مستقبل الباب فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب».(1)

وجاء في حديث آخر أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب. من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: السلام عليكم، وذلك لأنّ الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.

وجاء في الأحاديث الإسلامية ضرورة استئذان المرء حين دخوله إلى منزل والده أو والدته، وحتى حين الدخول إلى منزل ولده.(2)

وجاء في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) جواباً على استفسار رجل: قال: أستأذن

_____________________________

 

1 ـ تفسير فخر الرازي، المجلد 23، ص 198، آخر آية موضع البحث.

2 ـ المصدر السابق.

[71]

على اُمي؟ أجاب(صلى الله عليه وآله وسلم): نعم. قال: إنّها ليس لها خادم خادم غيري أفأستاذن عليها كلما دخلت؟ قال(صلى الله عليه وآله وسلم): أتحب أن تراها عريانه؟ قال الرجل لا، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): فاستأذن عليها(1).

وجاء في حديث آخر عن الامام الباقر(عليه السلام) عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: «خرج رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يريد فاطمة(عليها السلام) وأنا معه فلما انتهينا إلى الباب وضع يده فدفعه ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت: فاطمة(عليها السلام): عليك السلام يا رسول اللّه، قال: أدخل؟ قالت: اُدخل يارسول اللّه، قال(صلى الله عليه وآله وسلم):أدخل ومن معي؟ قالت: يارسول اللّه ليس عليّ قناع، فقال: يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك ففعلت، ثمّ قال: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام يارسول اللّه، قال أدخل قالت: نعم يار سول اللّه، قال أنا ومن معي؟ قالت: ومن معك، قال جابر: فدخل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) فدخلت...»(2)

وهذا الحديث يبيّن لنا كيف كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو القدوة للمسلمين كافة، يراعي هذه الأُمور بدقة، وحتى جاء في حديث.

عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام)قال: «الاستيذان ثلاثة: أوّلهنّ يسمعون، والثّانية يحذرون، والثّالثة إن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن».(3)

ويرى بعض المفسّرين ضرورة وجود فواصل زمنية بين كل استئذان وآخر، إذ قد يكون صاحب المنزل لم يتهيأ ـ بعد ـ بلباس مناسب، أو يريد تغيير هيئة أو إعداد منزله، فيجب إعطاءه فرصةً ليعدّ نفسه ومنزله لاستقبال ضيفه، وعلى الضيف الإنصراف دون انزعاج أو توتُّر إن لم يُسمح له بالدخول.

 

_____________________________

 

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، الصفحة 586.

2 ـ نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 587.

3 ـ وسائل الشيعة المجلد الرّابع عشر، صفحة 161، أبواب مقدمات النكاح، الباب 23.

[72]

2 ـ ما المقصود بالبيوت غيرالمسكونة؟

في معرض الإجابة على هذا السؤال لابدّ من الإشارة إلى اختلاف المفسّرين في ذلك، فقد قال البعض: يقصد بها المباني التي لا يسكنها شخص معين، وهي لعموم الناس، كالمنازل العامّة في الطرق البرية والفنادق والحمامات العامّة وأمثالها. وقدجاء هذا المعنى بصراحة في حديث للإمام الصادق(عليه السلام)(1).

وفسّر البعض ذلك بالخرائب التي ليست لها جدران ولا أبواب، يدخلها من يشاء، غير أنّ هذا التّفسير يبدو بعيداً جداً عن الصواب، فلا أحد يضع متاعه في هذه المنازل.

وقال آخرون: إنّها إشارة إلى مخازن التجار وحوانيتهم، التي احتوت على متاع الناس أمانةً لديهم لغرض البيع، ويمكن لكلّ صاحب متاع الدخول إلى هذا المخزن ليأخذ متاعه، وهذا التّفسير أيضاً يبدو غير منسجم مع ما قصدته الآية.

كما يحتمل أنّها قصدت المنازل التي ليس فيها أحد، ويضع المرء متاعه فيها أمانةً بعد علمه برضا صاحبها ضمناً في حراستها ورفعها عند الحاجة.

وبعض هذه التفاسير لا يتناقض مع غيره، إلاّ أنَّ التّفسير الأوّل ينسجم انسجاماً أفضل مع معنى الآية وقصدها، ويتّضح بذلك أنَّه لا يجوز لشخص له متاع في منزل أن يدخل المنزل دون استئذان من صاحبه حتى لو لم يكن في البيت أحد حينذاك.

 

3 ـ عقاب من يتلصّص على منازل الناس:

جاء في كتب الفقه والحديث. إذا تلصّص شخص على داخل منزل وشاهد امرأة فيه لم تتحجب، فلاهل الدار أوّلا نهيهُ عن هذا العمل، وإن امتنع رموه

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 161.

[73]

بالحجارة. وإن عاود، فبامكانهم الدفاع عن أعراضهم بآلة جارحة، فلو قُتل هذا الشخص في هذه الحالة فدمه هدر ولا ديّة له.

وطبيعي أنّه لابدّ من تتبع هذه الخطوات أوّلا بأول. أي: عليهم أوّلا إتباع السبيل اليسير لمنعه، ثمّ اتباع اُسلوب العنف.

* * *

 

[74]

 

 

الآيتان

 

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـرِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَنِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَنِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَتِهِنَّ أَوْ نِسآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـنُهُنَّ أَوِ التَّـبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الاْرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعَلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)

 

سبب النّزول

جاء في كتاب الكافي حول سبب نزول أوّل آية من الآيات السابقة، عن

[75]

الإمام الباقر(عليه السلام) قال: استقبل شاب من الأنصار أمرأة بالمدينة وكان النساء يقنعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل زقاق قد سمّاه يعني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لاتين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولأخبرنّه، قال: فآتاه فلمّا رآه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: ما هذا فأخبره، مهبط جبرئيل(عليه السلام) بهذه الآية: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم أن الله خبير بما يصنعون).(1)

 

التّفسير

مكافحة السفور وخائنة الاعين:

قلنا في البداية: إنّ هذه السورة ـ في الحقيقة ـ اختصت بالعفة والطهارة وتطهير الناس من جميع الإنحرافات الجنسية، وبحوثها منسجمة، وهي تدور حول الأحكام الخاصّة بالنظر إلى الإجنبية والحجاب، ولا يخفى على أحد ارتباط هذا البحث بالبحوث الخاصّة بالقذف.

تقول الآية أوّلا: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم).

وكلمة «يغضوا» مشتقّة من «غضّ» من باب «ردّ» وتعني في الأصل التنقيص، وتطلق غالباً على تخفيض الصوت وتقليل النظر. لهذا لم تأمر الآية أن يغمض المؤمنون عيونهم. بل أمرت أن يغضّوا من نظرهم. وهذا التعبير الرائع جاء لينفي غلق العيون بشكل تام بحيث لا يعرف الإِنسان طريقه بمجرّد مشاهدته امرأة ليست من محارمه، فالواجب عليه أن لا يتبحّر فيها، بل أن يرمي ببصره إلى الأرض، ويصدق فيه القول أنه غضَّ من نظره وأبعد ذلك المنظر من مخيلته.

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 39، تفسير نور الثقلين، والميزان، وروح المعاني مع بعض الإختلاف في تفسير الآية موضع البحث.

[76]

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يحدد الشيء الذي يستوجب غضّ النظر عنه. (أي أنه حذف متعلّق الفعل) ليكون دليلا على عموميته. أي غضّ النظر عن جميع الأشياء التي حرم الله النظر إليها.

ولكن سياق الكلام في هذه الآيات، وخاصّة في الآية التالية التي تتحدث عن قضية الحجاب، يوضح لنا جيداً أنها تقصدالنظر إلى النساء غيرالمحارم، ويؤكّد هذا المعنى سبب النّزول الذي ذكرناه(1) سابقاً.

ويتّضح لنا ممّا سبق أن مفهوم الآية السابقة ليس هو حرمة النظر الحاد إلى النساء غيرالمحارم، ليتصور البعض أنَّ النظر الطبيعي إلى غير المحارم مسموح به، بل إن نظر الإنسان يمتدّ إلى حيّز واسع ويشمل دائره واسعة، فإذا وجد امرأة من غير المحارم عليه أن يخرجها عن دائرة نظره. وألاّ ينظر إليها، ويواصل السير بعين مفتوحة، وهذا هو مفهوم غضّ النظر. (فتأملوا جيداً).

الحكم الثّاني في الآية السابقة: هو «حفظ الفروج». و«الفرج» ـ كما قلنا سابقاً ـ يعني الفتحة والفاصلة بين شيئين، إلاّ أنّها هنا ورد كناية عن العورة.

والقصد من حفظ الفرج ـ كما ورد في الأحاديث ـ هو تغطيته عن الأنظار، وقد جاء في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «كلّ آية في القرآن فيها ذكر الفروج فهي من الزنا، إلاّ هذه الآية فإنّها من النظر»(2).

إن الإسلام نهى عن هذا العمل المندفع مع الأهواء النفسية والشهوات، لأنّ (ذلك أزكى لكم) كُما نصّت عليه الآية ـ موضع البحث ـ في ختامها.

ثمّ تحذر الآية أُولئك الذين ينظرون بشهوة إلى غير محارمهم، ويبررون عملهم هذا بأنّه غير متعمّد فتقول: (إنّ الله خبير بما تصنعون).

_____________________________

 

1 ـ اختلف المفسّرون في تعليل وجود «من»

في جملة (يغضوا من أبصارهم)

فقال بعضهم إنّها للتبعيض وقيل: إنّها زائدة، وقيل: ابتدائية. ولكن الظاهر هو المعنى الأوّل.

2 ـ أصول الكافي، وتفسير علي بن إبراهيم (وفق ما نقله نورالثقلين المجلد الثالث، صفحة 587، 588).

[77]

وتناولت الآية التالية شرح واجبات النساء في هذا المجال، فأشارت أوّلا إلى الواجبات التي تشابه ما على الرجال، فتقول: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن).

وبهذا حرم الله النظر بريبة على النساء أيضاً مثلما حرّمه على الرجال، وفرض تغطيه فروجهن عن أنظار الرجال والنساء مثلما جعل ذلك واجباً على الرجال.

ثمّ أشارت الآية إلى مسألة الحجاب في ثلاث جمل:

1 ـ (ولا يبدين زينتهن إلاّ ما ظهر منها).

اختلف المفسّرون في تفسير الزينة التي تجب تغطيتها، والزينة الظاهرة التي يسمح باظهارها.

فقال البعض: إنّ الزينة المخفية هي الزينة الطبيعية في المرأة (جمال جسم المرأة) في حين أن استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى قليل.

وقال آخرون: إنّها تعني موضع الزينة: لأن الكشف عن أداة الزينة ذاتها كالعضد والقلادة مسموح به، فالمنع يخصُ موضعها، أي اليدين والصدر مثلا.

وقال آخرون: خصّ المنع أدوات الزينة عندما تكون على الجسم، وبالطبع يكون الكشف عن هذه الزينة مرادفاً للكشف عن ذلك الجزء من الجسم. (و هذين التّفسيرين الأخيرين لهما نتيجة واحدة على الرغم من متابعة القضية عن طريقين مختلفين).

والحق أنّنا يجب أن نفسر الآية على حسب ظاهرها ودون حكم مسبّق، وظاهرها هو التّفسير الثّالث.

وعلى هذا، فلا يحق للنساء الكشف عن زينتهن المخفية، وإن كانت لا تُظهر أجسامهن، أي لا يجوز لهن الكشف عن لباس يتزيّن به تحت اللباس العادي أو العباءة، بنصّ القرآن الذي نهاهنَّ عن ذلك.

[78]

وذكرت الأحاديث التي رُويت عن أهل البيت(عليهم السلام) هذا المعنى، فقد فسّروا الزينة المخفية بالقلادة والدملج (حلي يشدُّ أعلى الساعد) والخلخال(1).

وقد فسّرت أحاديث عديدةُ أُخرى الزينة الظاهرة بالخاتم والكحل وأمثاله، لهذا نفهم بأنّ المراد من الزينة المخفية الزينة التي تحت الحجاب (فتأملوا جيداً).

2 ـ وثاني حكم ذكرته الآية هو: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) وكلمة «خُمُر» جمع «خِمار» على وزن «حجاب» في الأصل تعني «الغطاء»، إلاّ أنّه يطلق بصورة اعتيادية على الشيء الذي تستخدمه النسوة لتغطية رُؤوسهن.

و«الجيوب» جمع «جيب» على وزن «غيب» بمعنى ياقة القميص، وأحياناً يطلق على الجزء الذي يحيط بأعلى الصدر لمجاورته الياقة.

ويستنتج من هذه الآية أنّ النساء كنّ قبل نزولها، يرمين أطراف الخمار على أكتافهن أو خلف الرأس بشكل يكشفن فيه عن الرقبة وجانباً من الصدر، فأمرهن القرآن برمي أطراف الخمار حول أعناقهن أي فوق ياقة القميص ليسترن بذلك الرقبة والجزء المكشوف من الصدر. (ويستنتج هذا المعنى أيضاً عن سبب نزول الآية الذي ذكرناه آنفاً).

3 ـ وتشرح الآية في حكمها الثّالث الحالات التي يجوز للنساء فيها الكشف عن حجابهنّ وإظهار زينتهنّ، فتقول (ولا يبدين زينتهن إلاّ).

1 ـ (لبعولتهن).

2 ـ (أو آبائهن).

3 ـ (أو آباء بعولتهن).

4 ـ (أو أبنائهن).

5 ـ (أو أبناء بعولتهن).

_____________________________

 

1 ـ تفسير على بن إبراهيم لآخر الآية موضع البحث.

[79]

6 ـ (أو إخوانهن).

7 ـ (أو بني إخوانهن).

8 ـ (أو بني أخواتهن).

9 ـ (أو نسائهن).

10 ـ (أو ما ملكت أيمانهن).

11 ـ (أو التابعين غير أولي الإِربة من الرجال) أي الرجال الذين لا رغبة جنسية عندهم أصلا بالعنن أو بمرض غيره.

12 ـ (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء).

4 ـ وتبيّن الآية رابع الأحكام فتقول (ولا يضربن بأرجلهنّ ليعلم ما يخفين من زينتهنّ) أي على النساء أن يتحفّظن كثيراً، ويحفظن عفّتهنّ، ويبتعدن عن كلّ شيء يثير نار الشهوة في قلوب الرجال، حتى لا يتهمن بالإِنحراف عن طريق العفة.

ويجب أن يراقبن تصرفهن بشدّة بحيث لا يصل صوت خلخالهن إلى آذان غير المحارم، وهذا كله يؤكّد دقّة نظر الإسلام إلى هذه الأُمور.

وإنتهت الآية بدعوة جميع المؤمنين رجالا ونساءً إلى التوبة والعودة إلى الله ليفلحوا (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) وتوبوا أيّها الناس ممّا ارتكبتم من ذنوب في هذا المجال، بعدما اطلعتم على حقائق الأحكام الإسلامية، وعودوا إلى الله لتفلحوا، فلا نجاة لكم من كلّ الإنحرافات الخطرة إلاّ بلطف من الله ورحمته، فسلّموا أمركم إليه!

صحيح أنّه لا معنى للذنوب والمعاصي ـ في هذه المسألة ـ قبل نزول هذه الأحكام من الله، إلاّ أنّنا نعلم بأنّ قسماً من المسائل الخاصّة بالإنحطاط الخلقي ذا جانب عقلاني وكما في الإصطلاح أنها من «المستقلات العقلية» ويكفي لوحده في تحديد المسؤولية.

* * *

[80]

بحوث

1 ـ فلسفة الحجاب

ممّا لا شكّ فيه أنّ الحديث عن الحجاب للمتغربين في عصرنا الذي سمّوه بعصر التعري والحرية الجنسية، ليس حديثاً سارّاً حيث يتصوّرونه أُسطوره يعود لعصور خلت.

إلاّ أنّ الفساد الذي لا حدّ له، والمشاكل المتزايدة والناتجة عن هذه الحريّات التي لا قيد لها ولاحدود، أدى بالتدريج إلى ايجاد الأُذن الصاغية لهذا الحديث.

وقد تمّ حلّ كثير من القضايا في بيئات إسلامية ودينية أُخرى، خاصّة في أجواء إيران بعد الثورة الإسلامية، وأُجيب عن الكثير من هذه الأسئلة بشكل مقنع.

ومع كل هذا تستوجب أهمية الموضوع بحث هذه القضية بحثاً واسعاً وعميقاً.

والقضية المطروحة (نقولها مع الإعتذار): هل من الصحيح أن تُستغل النساء للتلذّذ من جانب الرجال عن طريق السمع والنظر واللمس (باستثناء المجامعة) وأن يَكُنْ تحت تصرف جميع الرجال، أو أن تكون هذه الأُمور خاصّة لأزواجهنّ؟

إنّ النقاش يدور حول هذا السؤال: هل يجب بقاء النساء في سباق لا نهاية له في عرض أجسامهنّ، وتحريك شهوات وأهواء الرجال؟ أو يجب تصفية هذه الأُمور من أجواء المجتمع، وتخصيصها بالأُسرة والحياة الزوجية؟!

الإسلام يساند الأسلوب الثّاني. ويعتبر الحجاب جزءاً من هذا الأُسلوب، في الوقت الذي يساند فيه الغربيون والمتغربون الشهوانيون الأُسلوب الأوّل!

يقول الإسلام: إنَّ الأُمور الجنسية سواءً كانت مجامعة أو استلذاذاً عن طريق السمع أو البصر أو اللمس خاصّ بالأزواج، ومحرّم على غيرهم، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تلويث المجتمع وانحطاطه، وعبارة (ذلك أزكى لكم) التي جاءت في الآية

[81]

السابقة تشير إلى هذه المسألة.

إنّ فلسفة الحجاب ليست خافية على أحد للأسباب التالية:

1 ـ إنّ تعري النساء وما يرافقه من تجميل وتدلل ـ وما شاكل ذلك ـ يحرك الرجال ـ خاصّة الشباب ـ ويحطّم أعصابهم، وتراهم قد غلب عليهم الهياج العصبي، وأحياناً يكون ذلك مصدراً للأمراض النفسية، فأعصاب الإنسان محدودة التحمّل، ولا تتمكن من الإِستمرار في حالة الهيجان؟

ألم يقل أطباء علم النفس بأنّ هذه الحالة من الهيجان المستمر سبب للأمراض النفسية؟

خاصّة إذا لاحظنا أنّ الغريزة الجنسية، أقوى الغرائز في الإنسان وأكثرها عمقاً، وكانت عبر التاريخ السبب في أحداث دامية وإجرامية مرعبة، حتى قيل: إنّ وراء كلّ حادثة مهمّة امرأة!

أليس إثارة الغرائز الجنسية لعباً بالنار؟

وهل هذا العمل عقلاني؟

الإسلام يريد للرجال والنساء المسلمين نفساً مطمئنة وأعصاباً سليمة ونظراً وسماعاً طاهرين، وهذه واحدة من فلسفات الحجاب.

2 ـ تبيّن إحصاءات موثقة ارتفاع نسب الطلاق وتفكّك الأُسرة في العالم، بسبب زيادة التعرّي، لأنّ الناس أتباع الهوى غالباً، وهكذا يتحوّل حبّ الرجل من امرأة إلى أخرى، كلّ يوم، بل كل ساعة.

أمّا في البيئة التي يسودها الحجاب (والتعاليم الإسلامية الأُخرى) فالعلاقة وثيقة بين الزوج وزوجته، ومشاعرهما وحبهما مشترك.

وأمّا في سوق التعري والحرية الجنسية، حيث المرأة سلعة تباع وتشترى، أو في أقل تقدير موضع نظر وسمع الرجال، عندها يفقد عقد الزواج حرمته، وتنهار أُسس الأُسر بسرعة كانهيار بيت العنكبوت، ويتحمل هذه المصيبة الأبناء

[82]

بعد أن يفقدوا أولياءهم ويفقدوا حنان الأُسرة.

3 ـ انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعين يعتبران من أنكى نتائج إلغاء الحجاب، ولا حاجة إلى إحصائية بهذا الصدد، فشواهدها ظاهرة في المجتمع الغربي، واضحة بدرجة لا تحتاج إلى بيان.

لا نقول: إنّ السبب الرئيسي في إزدياد الفحشاء والأبناء غيرالشرعيين ينحصر في إلغاء الحجاب وعدم الستر، ولا نقول: إنَّ الإستعمار المشؤوم والقضايا السياسية المخربة ليس لها دور قوي فيه، بل نقول: إن التعري من الأسباب القوية لذلك.

وكما نعلم فإن انتشار الفحشاء وازدياد الأبناء غير الشرعيين مصدر أنواع الجرائم في المجتمعات البشرية قديماً وحديثاً.

وبهذا تتضح الأبعاد الخطرة لهذه القضية.

وعندما نسمع أنّ الولادات غير الشرعية في بريطانيا بلغت بحسب إحصائياتهم خمسمائة ألف طفل كلّ عام، وأنّ علماءها حذّروا المسؤولين من مغبة هذا الوضع، ليس لأنّه ـ كما يقولون ـ بسبب مخالفته للقضايا الأخلاقية والدينية، وإنّما بسبب الخطر الذي أوجده هؤلاء الأبناء لأمن المجتمع، فقد وجدوا أنّهم يمثّلون القسم الأعظم من ملفات القضايا الخاصّة بالجرائم.

ومن هنا ندرك أهمية هذه القضية، وأنّها كارثة حتى للذين لا يؤمنون بدين ولا يهتمون بأخلاق.

وكلّما انتشر الفساد الجنسي في المجتمعات البشرية اتّسع التهديد لهذه المجتمعات وتعاظم الخطر عليها، وقد برهنت دراسات العلماء في التربية على ظهور الأعمال المنافية للعفة، وتفشّي الإهمال في العمل والتأخر، وعدم الشعور بالمسؤولية، في المدارس المختلطة والمنشئات التي يعمل فيها الرجال والنساء بشكل مختلط.

[83]

4 ـ قضية «ابتذال المرأة» وسقوط شخصيتها في المجتمع الغربي ذات أهمية كبيرة لا تحتاج إلى أرقام، فعندما يرغب المجتمع في تعري المرأة، فمن الطبيعي أن يتبعه طلبها لادوات التجميل والتظاهر الفاضح والإنحدار السلوكي، وتسقط شخصيّة المرأة في مجتمع يركز على جاذبيتها الجنسية، ليجعلها وسيلةً إعلاميّة يُروّج بها لبيع سلعة أو لكسب سائح.

وهذا السقوط يفقدها كلّ قيمتها الإنسانية، إذ يصبح شبابها وجمالها وكأنّه المصدر الوحيد لفخرها وشرفها، حتى لا يبقى لها من إنسانيتها سوى أنّها أداةٌ لإتباع شهواتِ الآخرين، الوحوش الكاسرة في صور البشر!

كيف يمكن للمرأة في هذا المجتمع أن تبرز علمياً وتسمو أخلاقياً؟!

ومن المؤسف أن تلعب المرأة باسم الفن، وتشتهر وتكسب المال الوفير، وتنحطّ إلى حد الإبتذال في المجتمع، ليرحب بها مسيّرو هذا المجتمع المنحط خلقيّاً، في المهرجانات والحفلات الساهرة؟!

هكذا حال المرأة في المجتمع الغربي، وقد كان مجتمعنا قبل انتصار الثورة الإسلامية كذلك، ونشكر الله على إنهاء تلك المظاهر المنحطة في بلادنا بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية، فقد عادت المرأة إلى مكانتها السامية التي أرادها الله لها، وها هي ذي تمارس دوراً إيجابياً في المجتمع مع محافظتها على حجابها الإسلامي، حتى أنها ساهمت بشكل فعّال خلف جبهات الحرب بمختلف الأعمال لدعم الجبهة والجهاد في سبيل الله.

وكان هذا جانباً من الفلسفة الحيوية لموضوع الحجاب في الإسلام. وهو ينسجم مع تفسيرنا.

 

الإشكال الذي يورده معارضو الحجاب:

نصل هنا إلى الإنتقادات التي يطرحها معارضو الحجاب، فنبحثها بشكل

[84]

مضغوط:

1 ـ أهم الإنتقادات التي يذكرها معارضو الحجاب أنّ النساء يشكلن نصف المجتمع، والحجاب يجعلهنّ في معزل عن المجتمع، ويكون ذلك سبباً في تأخرهنّ الثقافي، وانعدام الإستفادة من هذه الطاقات العظيمة في ازدهار الإقتصاد. وإذا شغر مكانهنّ في المنشئات الثقافية والإجتماعية أصبحن موادَّ استهلاكيّة ليست بذات جدوى للمجتمع.

إلاَّ أنّ هؤلاء المتمسّكين بهذا المنطق غفلوا عن عدّة أُمور، أو تغافلوا عنها، للأسباب التالية: ـ

أوّلا: من الذي قال: إنَّ الحجاب الإسلامي يعزل المرأة عن المجتمع؟

لئن صعب علينا الجواب عن هذا السؤال في السابق، فما نظن أنّنا بعد قيام الجمهورية الإسلامية المباركة بحاجة إلى دليل على نهضةِ المرأة نهضة كريمةً ومشاركتها في تشييد المجتمع الإسلامي المنشود مشاركةً تحقق النفع للمرأة والأُسره والحكومة والأُمة، فهي مسؤولة في الدوائر والمصانع والمتاجر، وفي النشاط السياسي في المسيرات والمظاهرات، في الإذاعة والتلفزيون، وفي المراكز الصحيّة ـ خاصّة في معالجة جرحي الحرب ـ وفي المدارس والجامعات، حتّى في ساحة الحرب ومجاهدة العدو.

وباختصار: إنّ الواقع الإجتماعي في بلدنا خير جواب عن هذا السؤال: وإذ كنّا نتحدث في السابق عن إمكانية حدوث ذلك، فإنّنا اليوم نراه ماثلا بين أعيننا. وكما يقول الفلاسفة: خير دليل على إمكان وجود الشيء حدوثه، ولا حاجة للبرهنة على وجود الواقع.

ثانياً: إضافة إلى ذلك، ألا تُعتبر إدارة المنزل وتربية الأبناء الأصحّاء رجال المستقبل ـ الذين يديرون عجلة الإقتصاد والسياسة في البلاد ـ عملا؟

إن الذين لا يعدّون هذه المسؤولية للمرأة أمراً ايجابياً جاهلون بحقيقة دور

[85]

المرأة في الأُسرة وفي التربية، وفي بناء مجتمع سليم فعّال، بل لا يعترفون إلاّ بمغادرة الرجال والنساء المنازل صباحاً ـ كالغربيين ـ ليلتحقوا بالدوائر والمصانع. ويجعلون أبناءهم تحت رعاية الآخرين، في دور الحضانة، أو يغلقوا عليهم المنازل ليعيشوا في معتقل دون رعاية، حتى يعود الوالدان من العمل وقد أرهقهما التعب!

هؤلاء غافلون عن أنّ إفتقاد الأطفال للرعاية والعطف، يؤدي إلى تحطّم شخصيتهم ويعرض المجتمع إلى الخطر.

2 ـ كما يتذرع معارضو الحجاب بادعائهم بأنّه يعوق المرأة عن نشاطها الإجتماعي ولا ينسجم مع العصر الحديث، ويقولون: كيف تحفظ المرأة حجابها وطفلها وعملها في آن واحد؟!

إنّهم غافلون عن أنّ الحجاب ليس العباءة ونحوها، بل هو غطاء الجسم، فإن تسنى للمرأة الإحتجاب بالعباءة فذلك حسن، وإلاّ كفاها غطاءُ الرأس واللباس المحتشم حجاباً. وقد لبّت نساؤنا الريفيات وخاصّة العاملات ـ في مزارع الرز المملوكة لعوائلهن ـ هذا اللباس، حيث يمارسن الحراثة والبذار والإهتمام بالزرع ثمّ حصاده، وبرهنّ عمليّاً على إمكانية محافظة المرأة على حجابها دون أن يمنع ذلك ممارستها لا شقّ الأعمال.

3 ـ يعترض المخالفون للحجاب قائلين: إنّ الحجاب يفصل بين الرجال والنساء، ويزيد في حرص الرجال بدلا من إخماد هذا الحرص، لأنَّ (المرء حريص على ما منع).

وهذه سفسطة واضحة، فلو قارن المرء بين مجتمعنا على عهد الطاغوت واليوم لتجلّى له الحقّ صريحاً، فبالأمس كان نزع الحجاب إجبارياً، واليوم يسود الحجاب الإسلامي مجتمعنا كله، والفساد كان ينتشر بالأمس في كل أنحاء البلاد، ويسيطر التسيب على معظم الأسر، ويزداد الطلاق بنسبة عالية، وترتفع نسبة

[86]

المواليد غير الشرعية، وآلاف المصائب الأُخرى. ونحن لا نجزم بأنّ كل الفساد قد زال في بلادنا واقتلعت جذوره، إلاّ أنّه ممّا لا شك فيه أنّه قد انخفض بدرجة كبيرة، واستعاد مجتمعنا سلامته بدرجة كبيرة.

وإذا استمر الوضع على هذا المنوال بعون من الله، فإنّنا سنتمكن من حلّ جميع المشاكل. ويبلغ مجتمعنا مرتبة الطهارة الكاملة، ويحفظ للمرأة مكانتها الرفيعة.

 

2 ـ استثناء الوجه والكفين

هناك اختلاف في الرأي بين الفقهاء حول شمول حكم حجاب الوجه والكفين من الرسغ إلى أطراف الأصابع، أم لا؟

الكثير من الفقهاء يرى أنّ تغطية الوجه والكفين مستثنى من حكم الحجاب، في الوقت الذي أفتى آخرون بوجوب تغطيتها، أو في الأقل احتاطوا في وجوب تغطيتها، وطبيعي أنّ القول باستثناء وجوب الحجاب على الوجه والكفين هو في حالة عدم نشوب فساد، وإلاّ فيجب تغطيتها.

وهناك قرائن في الآية الشريفة تؤيد هذا الإستثناء ويؤيد الرأي الأوّل:

أ ـ استثناء الزينة الظاهر في الآية السابقة، سواء دلت على أنّها تقصد موضع الزينة أو الزينة ذاتها، تكشف عن عدم وجوب تغطية الوجه والكفين.

ب ـ إن حكم الآية السابقة بوجوب رمي أطراف خمار المرأة على طرفي الياقة يفهم منه تغطية جميع أجزاء الرأس والرقبة والصدر. ولم يتحدث هذا الحكم عن تغطية الوجه، وهذا دليل آخر على هذا الرأي.

ولإيضاح ذلك نقول: كانت بعض نساء العرب يلبسن الخمار ويرمين طرفية على الكتفين بشكل تبقى الرقبة وجزء من الصدر مكشوفين، وقد أصلح الإسلام هذه الحالة، فأمر بتغطية الرقبة والصدر برمي طرفي الخمار على جانبي ياقة

[87]

الثوب، لتبقى دائرة الوجه وحدها مكشوفة.

ج ـ كما جاءت أحاديث إسلامية عديدة في هذا المجال تؤكّد ما ذهبنا إليه(1)مع وجود أحاديث معارضة لها، ولكنّها ليست بتلك الدرجة من الصراحة، والجمع بينهما بالقول باستحباب تغطية الوجه والكفين ـ عند خشية الفساد والإنحراف ـ أمر ممكن. كما تدل شواهد تاريخية على أنّ تغطية الوجه بقناع لم تكن عامّة في صدر الإسلام (ذكر شرح مفصل فقهي وروائي عن هذه القضية في البحوث الفقهية عن النكاح).

إلاّ أنّنا نؤكّد ثانية أنّ هذا الحكم في وقت لا يؤدي إلى استغلال أو انحراف.

كما يجب القول: إنَّ استثناء الوجه والكفين من حكم الحجاب لا يعني جواز النظر بشكل عمومي من قبل الرجال، وإنّما هو نوع من التسهيلات التي مُنحت للمرأة في الحياة.

 

3 ـ ما المقصود من نسائهنّ؟

ذكرنا في تفسير الآية السابقة أنّ تاسع مجموعة مستثناة بالإطلاع على زينة النساء هنّ النساء الأُخريات، وبملاحظة عبارة «نسائهنّ» ندرك أنّها تقصد النساء المسلمات، ولا يكشفن عن زينتهنّ لغير المسلمات، وفلسفة ذلك، أنّه من المحتمل أن يصفن ـ غير المسلمات ـ لأزواجهنّ ما شاهدنه من زينة النساء المسلمات. وهذا ليس عملا صائباً من قبل المسلمات.

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) في كتاب (من لا يحضره الفقيه): «لا ينبغي للمرأة أن تكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنّهنّ يصفن ذلك لأزواجهنّ»(2).

 

_____________________________

 

1 ـ كتاب وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 145، الباب 109، من أبواب مقدمات النكاح.

2 ـ من لا يحضره الفقيه، حسبما ذكره تفسير نور الثقلين، المجلد 3، صفحة 593.

[88]

4 ـ تفسير عبارة (أو ما ملكت أيمانهن)

لظاهر هذه العبارة مفهوم واسع، ويدل على أنّه بإمكان المرأة الظهور دون حجاب بحضور عبدها، إلاّ أنّ بعض الأحاديث صرّحت بأنّ ذلك يعني فقط الظهور بين الجواري حتى لوكنّ غير مسلمات، ولا يشمل هذا الحكم العبيد. ففي حديث للإمام أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «لا ينظر العبد إلى شعر سيّدته»(1).

ويستفاد من أحاديث أُخرى تعميم هذا الحكم على الجواري والعبيد، إلاّ أنَّ ذلك خلافاً للإحتياط.

 

5 ـ تفسير (أولي الإِربة من الرجال)

«الإِربة» في الأصل مشتقة من «أَرَب» على وزن «عرب» وكما يقول الراغب الأصفهاني في مفرداته، شدّة الحاجة التي تدفع بالإنسان إلى إيجاد حلٍّ لها.

كما استعملت بمعنى الحاجة بشكل عامّ. والقصد هنا من «أُولي الإربة من الرجال» الذين لهم رغبة جنسية وهم بحاجة إلى زوجة، وعلى هذا، فإنَّ «غير أولي الإربة» هم الرجال الذين لا رغبة جنسية لديهم أصلا.

ولكن من المقصود بذلك؟

هنالك اختلاف بين المفسّرين.

قال البعض منهم: إنّهم كبار السنّ الذين خمد لديهم دافع الشهوة الجنسية، (كالقواعد من النساء والنسوة اللاتي تجاوزت أعمارهن حدّ الزواج وهنّ كالمتقاعدات في هذا المجال).

وقال آخرون: إنَّ المقصود هو الخصي من الرجال.

وقال بعض المفسّرين: إنّه الرجل الخنثى، أي: الذي لا يمتلك آلة الرجولة.

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، الباب 124، من مقدمات النكاح، الحديث الثامن.

[89]

إلاّ أنّ التّفسير الذي يمكن الإعتماد عليه. هو الذي جاء في أحاديث مؤكّدة عن الإِمامين الباقر والصادق(عليهما السلام): «هو الأحمق الذي لا يأتي النساء» من أنّ القصد هنا هو الأبلة من الرجال الذي لا يحسّ برغبة جنسية أبداً، ويستفاد منهم في الأعمال البسيطة وخدمة الأفراد، وعبارة «التابعين» تؤكّد هذا المعنى(1).

وبما أن هذا الوصف ـ أي عدم الشعور بالرغبة الجنسية ـ فئة خاصّة من المسنين يصدق على. فلا نستبعد إمكانية توسعة مفهوم الآية ليشمل هذه الفئة، وقد روي حديث عن الإِمام الكاظم(عليه السلام) يؤكّد ذلك، بيد أنّ ذلك لا يعني أنّهم يصبحون من المحارم، غاية الأمر هو عدم وجوب تغطية الرأس أو جزء من اليدين بحضور هذه المجموعة.

 

6 ـ أي طفل مستثنى من هذا الحكم؟

ذكرنا أنّ المجموعة الثّانية عشرة ـ أي الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم ـ مستثنون من حكم الحجاب.

وعبارة «لم يظهروا» تعني أحياناً «لم يطلعوا» وأحياناً أُخرى «لم يعتدوا» لأنّها جاءت بهذين المعنيين، حيث استعملها القرآن مرّة بهذا المعنى، وأُخرى بالمعنى الثّاني، ومثال ذلك ما جاء في الآيه (20) من سورة الكهف (وأن يظهروا عليكم يرجموكم).

ونقرأ في الآية الثّانية من سورة التوبة (كيف وأن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمّةً).

إلاّ أنّ هذا الفرق ليس له أثر كبير بالنسبة للآية موضع البحث. حيث المقصود فيها الأطفال الذين ليس لهم ميول جنسية، بسبب عدم قدرتهم وعدم اطلاعهم

_____________________________

 

1 ـ لتوضح أكثر يراجع جواهر الكلام، المجلد 29، صفحة 94، وكذلك الوسائل الباب 111، من مقدمات النكاح (المجلد 14، ص 148) وكذلك التهذيب المجلد السابع، صفحة 468.

[90]

وعلى هذا يجب على النساء المسلمات أن يتحجبن بحضور الأطفال الذين بلغوا مرحلة برزت فيها رغبتهم الجنسية وقدرتهم على ذلك.

 

7 ـ لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم؟

يطرح هذا السؤال بعد دراسة الآيات السابقة: لماذا لم يذكر العم والخال ضمن المحارم ـ قط ـ وهم من المحارم؟

ربّما كان القرآن قد استهدف البلاغة في تعابيره بعدم ذكر أيّة كلمة إضافية، فقد دلّ استثناء ابن الأخ وابن الأخت على أنّ العمّة والخالة تعتبران من محارم الرجل، ويتّضح بذلك أن العم والخال لإحدى النساء هما من محارمها.

وبعبارة أُخرى: إنّ الحرمة ذات جانبين، فمن جهة بنات الأُخت وبنات الأُخ من محارم الرجال، وإنّه من الطبيعي سيكون من الجهة الثّانية العمّ والخال من المحارم «فتدبّر».

 

8 ـ تحريم سبل الإثارة!

آخر كلام في هذا المجال هو أنّ الآية السابقة نصّت على حرمة المشي بقوّة من قبل النساء ليسمعن صوت الخلخال.

وهذا يدل على دقّة الأحكام الإسلامية ومبلغ اهتمامها بالقضايا الخاصّة بعفّة الناس وشرفهم، بحيث لا يسمح معها بالقيام بمثل هذه الأعمال.

ومن البداهة أن لا يسمح الإسلام بإثارة شهوات الشباب، عن طريق نشر الصور الخلاعية، والأفلام المثيرة للشهوات، والقصص والروايات الجنسية،  ولا ريب في أنّ البيئة الإسلامية يجب أن تكون طاهرة سليمة من هذه الأُمور التي تجرّ أفرادها إلى مهاوي الفساد وظلماته، وتدفع بالشباب والشابات نحو الإنحطاط الخلقي والرذيلة.

* * *

[91]

 

 

الآيات

 

وَأَنكِحُواْ الاَْيَـمَى مِنكُمْ وَالصَّـلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (32)وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَيَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِى ءَاتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَـتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهِهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِن بَعْدِ إِكْرهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَـت مُّبَيِّنـَت وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ(34)

 

التّفسير

الترغيب في زواج يسير التكاليف:

طرحت هذه الآية ـ منذ بدايتها حتى الآن ـ سبلا أمينةً متعدّدةً للحيلولة دون الإنحطاط الخلقي والفساد، فكلّ واحد من هذه السبل يرتقي بالأُمَّة فَرداً وجماعةً

[92]

إلى عالم أرحب من الطّهر والإستقامة، ويحول دون تقهقرها أو انحدارها في مهاوي الرّذيلة، وقد أشارت الآيات ـ موضع البحث ـ إلى أهم طرق مكافحة الفحشاء، ألا وهو الزواج اليسير الذي يتمّ بعيداً عن أجواء الرياء والبذخ، لأنّ إشباع الغرائز بشكل سليم وشرعي خير سبيل لاقتلاع جذور الذنوب، أو بعبارة أُخرى: كل مكافحة سلبية لابدّ أن ترافقها مكافحة إبجابية.

لهذا تقول بداية الآية موضع البحث: (وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائِكم).

و«الأيامى» جمع «أيِّم» على وزن «قيِّم» وتعني في الأصل المرأة التي  لا زوج لها، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الرجل الذي لا زوجة له، فيدخل في هذا المفهوم كلّ من ليس له زوج، سواء كان بكراً أم ثيّباً.

وعبارة «أنكحوا» أي «زوّجوا» ـ وبما أنَّ الزواج يتمّ بالتراضي وحرية الإختيار الطرفين، فالمراد من هذا الأمر بالتزويج التمهيد للزواج، عن طريق تقديم العون المالي عند الحاجة، أو العثور على زوجة مناسبة، أو التشجيع على الزواج والإستفادة من وساطة الأشخاص لحلّ المشاكل المستجدة.

وباختصار: إنّ مفهوم الآية واسع، حتى أنَّهُ ليضم كلّ خطوة وحديث في هذا المجال. ولا اختلاف في أنَّ أصل التعاون الإِسلامي يوجب تقديم العون من قبل المسلمين بعضهم لبعض.

وجاء ذلك هنا بصراحة ليؤكّد أهميّة الزواج الخاصّة. وهي أهميّةٌ بالغة المدى، إذ ورد حديث بصددها عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام) قوله: «أفضل الشفاعات أن تشفع بين اثنين في نكاح حتى يجمع الله بينهما».(1)

وجاء في حديث آخر عن الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) قوله: «ثلاثة يستظلون

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 27 (الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح).

[93]

بظلّ عرش الله يوم القيامة، يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه، رجل زوّج أخاه المسلم، أو خدمه، أو كتم له سرّاً»(1).

كما جاء في حديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله في الذي يسعى لزواج أخيه المسلم «كان له بكلّ خطوة خطاها، أو بكلّ كلمة تكلم بها في ذلك عمل سنة قيام ليلها وصيام نهارها»(2).

وبما أنّ بعض الإعذار كالفقر أو عدم وجود وتوفّر الإمكانات اللازمة قد تقف حائلا دون الزواج، أو هو عذر للفرار من الزواج وتشكيل الأُسرة. يقول القرآن بهذا الصدد: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله إن الله واسع عليم).

إنّ قدرة الله واسعة سعة تشمل عالم الوجود كلّه، وعلمه واسع يحيط بما خفي وبما ظهر من المقاصد والأفعال، خاصّة الذين يقدمون على الزواج ابتغاء المحافظة على عفتهم وطهارتهم، وبهذا يشمل الله الجميع بفضله وكرمه.

ولنا في هذا المجال دراسة وتحليل، وسنذكر أحاديث عديدة في نهاية هذا البحث.

ولكن أحياناً بالرغم من بذل الجميع جهودهم لتهيئة مستلزمات زواج إنسان ما لا يفلحون في ذلك، ممّا يضطره إلى مضي فترة من الزمن محروماً من الزواج، ولكي لا يظنّ أن إقدامه على الفساد أمراً مباحاً تقتضيه الضرورة أسرعت الآية التالية لتأمره بالطهارة والعفّة فقالت: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله).

فيجب عليه تجنّب التلوث والفساد في هذه المرحلة المتأزّمة ومواجهة الامتحان الإِلهي، حيث لا يقبل أي عذر منه، فلابدّ أن يمتحن قوّة إيمانه وشخصيته وتقواه في هذه المرحلة.

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 27 (الباب 12 من أبواب مقدمات النكاح).

2 ـ المصدر السابق.

[94]

ويهتم الإسلام كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعياً من أجل تيسير حريتهم، فيتناول القرآن المجيد مسألة المكاتبة (وهي تعهد الغلام بتوقيعه إتفاقاً ينص على القيام بعمل معيّن أو دفع مبلغ مقابل عتقه)، فتقول الآية (والذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً).

وتقصد عبارة (علمتم فيهم خيراً) أي قد بلغوا من النمو الجسمي ووجدتم فيهم صلاحية لإبرام العقد، وقدرتهم على إنجاز ما تعهدوا به.

أمّا إذا لم يتمكنوا من الوفاء بما عاهدوا عليه، فلا ينبغي مكاتبتهم وعتقهم، لأنّ في ذلك ضرراً عليهم وعلى المجتمع، فيجب تأجيل ذلك إلى وقت آخر يؤهّلهم من حيث القدرة والصلاحية، ولأجل ألا يقع العبيد في مشاكل لا يتمكنون من حلّها ويعجزون عن تسديد ما بذمتهم، يدعو القرآن الكريم إلى مساعدتهم فيقول: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).

هناك اختلاف حول هذا المال بين المفسّرين: فقال عدد كبير منهم: ـ إنّه حصة من الزكاة، مثلما نصت عليه الآية (60) من سورة التوبة. ليتمكن العبيد من الوفاء بدينهم وانعتاقهم.

وقال آخرون: على مالك الغلام أن يتَبرع بقسم من أقساط الدّين، أو يساعده بإعادته إليه، ليتمكن من الحياة الحرّة.

كما يحتمل أن المقصود هنا منح العبيد في البداية مبلغاً للإنفاق، أو جعله رأسمال لهم ليمكنهم من التجارة والعمل وإدارة شؤونهم الخاصّة، ودفع الأقساط التي بذمّتهم، وطبيعي أنّ التفاسير الثلاثة هذه غير متناقضة. ويمكن للآية السابقة أن تستوعبها جميعاً.

والهدف الحقيقي هو أن يشمل المسلمون هذه الطبقة المستضعفة بمساعداتهم لتتحرر بأسرع وقت ممكن.

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «تضع عنه من نجومه

[95]

التي لم تكن تريد أن تنقصه، ولا تزيد فوق ما في نفسك»(1).

إشارة إلى مجموعة من الناس كانوا يكاتبون عبيدهم بمبالغ أكبر ممّا يعطونهم، ويتظاهرون بمساعدتهم. وقد نهى الإمام الصادق(عليه السلام) عن ذلك مبيّناً أنّه يجب أن يكون التخفيض حقيقيّاً.

وعقّبت هذه الآية بإشارة إلى أحد الأعمال القبيحة التي كان يمارسها عبّاد الدنيا إزاء جواريهم: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).

قال بعض المفسّرين في سبب نزول هذه الآية: كان عبدالله بن أُبي يملك ست جوار يجبرهن على البغاء، وعندما نزلت آيات قرآنية تنهى عن الفحشاء جئن إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعرضن شكواهن على سيّدهنّ عنده، فنزلت الآية أعلاه ونهت عن ارتكاب هذا الإثم(2).

وهذه الآية تكشف عن مدى الرذيلة والإنحطاط الخلقي الذي كان سائداً في عهد الجاهليه. وقد واصل البعض أعماله القبيحة هذه حتى بعد ظهور الإسلام، حتى نزلت الآية السابقة، وأنهت هذه الأعمال.

ومع بالغ الأسف نجد عصرنا الذي سمي بجاهلية القرن العشرين، تمارس البشرية هذا العمل بقوه وعلى قدم وساق في بلدان تدّعي المدنية والحضارة والدفاع عن حقوق الإنسان. وكذلك كان الوضع في بلادنا على عهد الطاغوت، إذ كان هذا العمل القبيح يمارس ببشاعة ومرارة، وكان البعض يخدع البنات البريئات والنساء الجاهلات، ويدفع بهنّ إلى مراكز الفساد، ويجبرهنّ على القيام بأعمال الرذيلة والفساد، ويغلق أبواب النجاة بوجوههنّ ليجني ثروات طائلة وتفصيل الكلام في ذلك مؤلم وخارج عن عهدة هذا الكتاب.

_____________________________

 

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 601.

2 ـ مجمع البيان في تفسير آخر الآية موضع البحث، وتفسير القرطبي (مع بعض الإختلاف).

[96]

وبالرغم من أن العالم المعاصر يدّعي التحضّر وإزالة معالم العبودية القديمة، إلاّ أنّ الجرائم والمفاسد الخُلقية تشيع بشكل أكثر توحّشاً من كلّ ما حدث في غابر الأيّام، ونسأل الله أن يحفظ الإِنسانية من شرّ هؤلاء الذين يدّعون التمدّن. كما نحمده ونشكره على زوال هذه المعالم من إيران بعيد انتصار الثورة الإسلامية.

وجدير بالذكر أنّ عبارة (إن أردن تحصناً) لا تعني في مفهومها أنهنّ إن رغبن في الفساد فلا مانع من إجبارهن، بل تعني نفي الموضوع بشكل تامّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، لأنّ مسألة الإكراه تصدق في حالة عدم الرغبة فيه. وإلاّ فبيع الجسد وإشاعة هذا الفعل بأية صورة كانت هو من كبائر الذنوب.

وجاءت هذه العبارة لتثير غيرة مالكي الجواري إن كان لهم أدنى غيرة، ومفهومها أنّ الجواري مع أنهنّ من الطبقة الدانية ولكن لا يرغبن في ارتكاب الفاحشة. فلماذا ترتكبون هذه الأعمال المنحطة على الرغم من تصوركم أنّكم طبقة راقية؟

وفي الختام ـ على حسب الأُسلوب الذي يتبعه القرآن ـ يفتح طريق التوبة للمذنبين، ويشجعهم على إصلاح أنفسهم: (ومن يكرههن فإنّ الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم).

ويمكن أن تكون هذه الجملة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى الوضع السائد بين ملاّك الجواري الذين غلب عليهم الندم، واستعدوا للتوبة وإصلاح أنفسهم.

أو تكون هذه الجملة إشارة إلى النسوة اللواتي يرتكبن هذا العمل القبيح بإكراه من قبل أسيادهنّ.

وعلى نهج القرآن، نجد آخر الآيات ـ موضع البحث ـ تستنتج وتلخّص الموضوع المطروح خلال إشارتها إلى البحوث السابقة: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) وكذلك دروس وعبر من الاقوام الماضية تنفعكم في يومكم هذا: (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين).

* * *

[97]

مسائل مهمّة:

1 ـ الزواج سُنّة إلهية

على الرغم من أن الزواج في الوقت الحاضر قد تعقد بما أحاطته الأعراف الإجتماعية من عادات خاطئة وخرافية أحياناً، فأصبح طريقاً صعباً لا يتمكن الشاب من سلوكه، فإنّه لو اجتزنا هذه العراقيل لأدركنا أنّ الزواج تعبير فطري منسجم مع قانون الخليقة وضروري لبقاء نسل الإنسان، وسكن لروحه، وراحة لجسمه، وحل للمشاكل النفسية والإجتماعية. فالإسلام يخطو بانسجام مع الخلق، وله تعابير جميلة مؤثرة، ومن جملتها حديث مشهور عن الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)«تناكحوا وتناسلوا تكثروا. فإنّي أباهي بكم الأُمم يوم القيامة ولو بالسقط»(1).

ونقرأ حديثاً آخر له(صلى الله عليه وآله وسلم) «من تزوج فقد أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي»(2).

والسبب في كلّ هذا الإهتمام هو أنَّ الغريزة الجنسية من أقوى وأشرس الغرائز في الإنسان، وتنافس الغرائز الأُخرى بأجمعها، وانحرافها يعرّض دين المرء إلى الخطر، ولذا يعلو صوت حديث نبوي آخر: «شراركم عزّابكم»(3) لهذا شجعت الآيات ـ موضع البحث ـ وأحاديث عديدة المسلمين على التعاون في تزويج العزّاب، وتقديم ما بوسعهم من مساعدات في هذا السبيل.

وقد حمّل الدّين الإسلامي الآباء مسؤولية كبيرة عن أبنائهم، والآباء الذين يتصرّفون دون مبالاة إزاء هذه القضية، فإنّهم يشاركون في إنحراف أبنائهم. كما نقرأ في حديث للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) «من أدرك له ولدٌ وعنده ما يزوجه فلم

_____________________________

 

1 ـ سفينة البحار، المجلد الأول، صفحة 561 (مادة الزوج).

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ مجمع البيان، في تفسير الآية موضع البحث.

[98]

يزوجه، فأحدث، فالإثم بينهما!»(1).

وقد أكّدت تعاليم الإسلام ـ لهذا السبب أيضاً ـ بالتيسير في نفقات الزواج والمهر، لإزالة الحواجز من طريق العُزّاب. خاصّة إذا علمنا أنّ المهر الغالي يقف حجر عثرة في وجه زواج العزّاب. ففي حديث للرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «من شؤم المرأة غلاء مهرها»(2).

وجاء في حديث آخر أعقب الحديث السابق: «من شؤمها شدّة مؤونتها»(3).

وقد صرّحت الآية السابقة بأنّ الفقر لا يمكن أن يكون مانعاً للزواج، وقد يغني الله المرء بالزواج.

وبهذا حكمت الآية وأدانت الذين يفرون من الزواج بحجّة أنّهم فقراء،  ولا  يتحملون هذه المسؤولية الإلهية والإنسانية، بأعذار واهية.

والسبب في التأكيد على الزواج، هو أنّ المرء يشعر بعد زواجه بمسؤوليته في الحياة، فيزج قواه للكسب الحلال. بينما نجد العزاب في معظم الحالات مشردين! لعدم شعورهم بالمسؤولية. والمتزوج يكتسب شخصية إجتماعية، حيث يجد نفسه مسؤولا عن المحافظة على زوجته، وماء وجه أُسرته، وتأمين حياة سعيدة ومستقبل زاهر لها. ويستغلّ المتزوج جميع طاقاته للحصول على دخل معتبر، فتراه يقتصد في نفقاته ليتغلّب على الفقر بأسرع وقت ممكن، لهذا ذكر الإمام الصادق(عليه السلام) «الرزق مع النساء والعيال»(4).

جاء في حديث للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) حين شكا رجل إليه فقره فأجابه(صلى الله عليه وآله وسلم): «تزوّج». فتزوّج فوسع له(5).

_____________________________

 

1 ـ مجمع البيان في تفسير الآية موضوع البحث.

2 ـ وسائل الشيعة، المجلد الخامس عشر، الباب الخامس من أبواب المهور صفحة 10.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثالث، صفحة 595.

5 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 25، الباب 11 «من أبواب مقدمات النكاح».

[99]

ولا جدال في أنَّ الإمدادات الإِلهية والقوى الروحية الخفية تساعد هذا الشخص الذي تزوج ليحفظ نفسه ويطهرها. وعلى كلّ مؤمن أن يطمئن لما وعده الله، فقد ذكر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) «من ترك التزويج مخافة العيلة فقد ساء ظنّه بالله، إن الله عزَّوجلّ يقول: (أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)(1).

وهناك أحاديث عديدة في هذا المجال، لو تناولناها جميعاً بالبحث لخرجنا عن بحثنا التّفسيري هذا.

 

2 ـ المراد من عبارة (والصالحين من عبادكم وإمائكم).

ممّا يلفت النظر في الآيات موضع البحث أنّها حين التحدّث عن زواج الرجال والنساء الأيامي تأمر بالتعجيل في الزواج، وعدم وضع العراقيل في وجهه، أمّا بالنسبة للعبيد والجوارى، فتطلب توفر شرط الصلاح فيهم للزواج.

وذهب عدد من المفسّرين (كالكاتب العظيم صاحب تفسير الميزان، وكذلك صاحب تفسير الصافي) إلى صلاحيتهم للزواج في حين أن هذا الشرط يجب أن يتوفر في النساء والرجال الأحرار أيضاً.

وقال البعض الآخر: إنّه يقصد الصلاح من ناحية الأخلاق والعقيدة، لأنّ الصالحين يتمتعون بمكانة خاصّة من هذه الجهة، ولكن السؤال يبقى على حاله:

لماذا لم يرد هذا الشرط في الاحرار؟

ويحتمل أن يكون المراد غير هذا: ـ إذ أنّ أكثر العبيد في تلك الفترة في مستوى ثقافي وأخلاقي واطيء، فلا يشعرون بأيّة مسؤولية، ولا يُقدرون المشاعر المشتركة في الحياة. فلو تزوجوا لتركوا زوجاتهم بسهولة، ومن هنا استوجبت الآية التأكد من صلاحيتهم للزواج.

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، صفحة 24، الباب 10 «من أبواب مقدمات النكاح».

[100]

ومفهوم هذه الآية أن يعدّوا العبيد للزواج أوّلا بتهذيب أخلاقهم وزيادة صلاحهم، ليكونوا بمستوى المسؤولية التي تقع على عاتقهم بعد الزواج.

 

3 ـ ما هو عقد المكاتبة؟

قلنا: إنَّ الإسلام وضع برنامج التحرر التدريجي للعبيد، واستفاد من كل فرصة لعتقهم، فكانت قضية «المكاتبة» حكماً يجب اتباعه، كما نصّت عليه الآيات موضع البحث.

وتشتق «المكاتبة» من الكتابة، والكتابة في الأصل مشتقّة من «كتب» بمعنى «الجمع» أي: جمع الحروف والكلمات. وبما أنّ العقد بين المولى والعبد يتمّ بكتابة موادَّ يتفق عليها، فلذلك سمّيت «مكاتبة». فعقد المكاتبة نوع من الإتفاقات يتمّ بين المولى وعبده، يلتزم العبد فيه بإعداد مبلغ من المال من عمل حرّ، ليدفع أقساطاً لسيّده، فاذا دفع آخر قسط ينال حريته.

وأمر الإسلام ألا تتجاوز هذه الأقساط ثمن العبد نفسه.

وإذا عجز العبد لسبب ما عَن دفع الأقساط المترتبة بذمّته، وجب أن تسدّد هذه الأقساط من بيت المال أو من الزكاة ليعتق، حتّى أنَّ بعض الفقهاء قال بصراحة: إذا تعلقت زكاة بذمّة السيّد، وجب عليه احتساب هذه الأقساط منها، وهذا العقد لازم التنفيذ، ولا يمكن فسخه من أيّ طرف من طرفي العقد.

ويتّضح بذلك كيف يجعل هذا المشروع عتق العبيد يسيراً، ليعيشوا أحراراً مستقلين حتى في فترة إعداد الأقساط، كما أن أسيادهم لا يتضررون بذلك،  فلا يدفعهم هذا إلى إلحاق الأذى بعبيدهم.

ولعقد المكاتبة أحكام وفروع عديدة مذكورة في الكتب الفقهية في باب المكاتبة.

* * *

[101]

 

 

الآيات

 

اللهُ نُورُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَوة فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِى زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَة مُّبَـرَكَة زَيْتُونَة لاَّ شَرْقِيَّة وَلاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلى نُور يَهْدِى اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الاْمْثَلَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ(35) فِى بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالاْصَالِ(36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَوةِ وَإيِتَآءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالاَْبْصَـرُ(37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَاب(38)

 

التّفسير

آية النور!

تحدث الفلاسفة والمفسّرون والعرفاء الاسلاميون كثيراً عن مقاصد الآيات

[102]

أعلاه، وهي مُرتبطة بما سبقها من الآيات الشريفة التي عرضت لقضية العفة ومكافحة الفحشاء بمختلف السبل.

وبما أنَّ ضمانة تنفيذ الأحكام الإلهية، وخاصّة السيطرة على الغرائز الثائرة، ولا سيّما الغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز، لا تتمّ دون الإستناد إلى الإيمان، ومن هنا إمتد البحث إلى الإيمان وأثره القويّ، فقالت الآية أوّلا: (الله نور السموات والأرض).

ما أحلى هذه الجملة! وما أثمنها من كلمات! أجل إنّ الله نور السموات والأرض... النور الذي يغمر كلّ شيء ويضيئه.

ويرى بعض المفسّرين أنّ كلمة «النّور» تعني هنا «الهادي»، وذهب البعض الآخر أنّ المراد هو «المنير». وفسّرها آخرون بـ «زينة السماوات والأرض».

وكلّ هذه المعاني صحيحة، سوى أنَّ مفهوم هذه الآية أوسع بكثير ممّا ذُكر، فالقرآن المجيد والأحاديث الإِسلامية فسّرت النور بأشياء عدّة منها:

1 ـ «القرآن المجيد»: ـ ذكرت الآية (15) من سورة المائدة: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) وجاء في الآية (157) من سورة الأعراف (واتبعوا النور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون).

2 ـ «الإيمان» ذكرت الآية (257) من سورة البقرة. (والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور).

3 ـ «الهداية الإلهية» مثلما جاء في الآية (122) من سورة الأنعام (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)؟!

4 ـ «الدين الإسلامي» كما نقرأ في الآية (32) من سورة التوبة: (ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون).

5 ـ النّبي الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ نقرأ عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (46) من سورة

[103]

الأحزاب: (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً).

6 ـ الأئمة الأطهار: كما جاء في الزيارة الجامعة لهم: «خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقّين». وكذلك في نفس هذه الزيارة «وأنتم نور الأخيار وهداة الأبرار».

7 ـ «العلم والمعرفة» حيث عُرِّف بالنور كما جاء في الحديث المشهور «العلم نور يقدفه الله في قلب من يشاء».

كلّ هذه من جهة، ومن الجهة الأُخرى علينا التدقيق في خصائص النور وميزانه، ليتّضح أنَّه يمتاز بما يلي:

1 ـ النور أجمل وألطف ما في العالم، وهو مصدر لكلّ جمال ولطف!

2 ـ النور أسرع الأشياء، كما ثبت لمشهوري العلماء الكبار في العالم، إذ تبلغ سرعته ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثّانية. وبإمكانه الدوران حول الكرة الأرضية سبع مرات في طرفة عين (أقلّ من ثانية واحدة).

ولهذا السبب تقاس المسافات الهائلة بين النجوم فقط بسرعة الضوء، والوحدة المستعملة في هذا المجال هي السنة الضوئية، أي: المسافة التي يقطعها الضوء وهو بتلك السرعة الهائلة ـ في سنة واحدة.

3 ـ بالنور يمكن مشاهدة الأشياء في العالم، ومن دونه يستحيل رؤية أيّ شيء، فالنور ظاهر بنفسه ومظهر لغيره.

4 ـ إنّ ضوء الشمس يُعدّ من أهم أنواع النور في عالمنا، فهو ينمي الأزهار والنباتات وبه تستمرّ الحياة، بل هو رمز بقاء المخلوقات الحيّة، ولا يمكن لموجود حيّ أن يستمرّ في الحياة دون أن يستفيد من نور الشمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

5 ـ ثبت اليوم أن جميع الألوان يمكن مشاهدتها بنور الشمس أو الأنوار الأُخرى، وَلولاها لعاشت المخلوقات في عتمة قاتمة.

[104]

6 ـ إنّ جميع أنواع الطاقة الموجودة في محيطنا (باستثناء الطاقة النووية) مصدرها الشمس من قبيل حركة الرياح، سقوط المطر، وحركة الأنهر والوسائط فيها والشلالات ولو دققنا في حركة جميع المخلوقات الحية لوجدناها ترتبط بنور الشمس.

مصدر الحرارة وتدفئة الأحياء كلها هو الشمس، حتى أن حرارة النار المتولدة من الخشب أو الفحم أو الفحم الحجري أو النفط ومشتقاته مصدرها حرارة الشمس. لأنّ هذه الأشياء بِحسب الدراسات العلمية تعود إلى النباتات أو الحيوانات، وهذه بدورها قد استفادت من نور الشمس وحرارتها، فخزنت الفائض منها في جسمها، لهذا فإنّ حركة المحركات والمكائن أيضاً من بركات الشمس.

7 ـ نور الشمس قاتل الميكروبات والمخلوقات المضرّة، وبفقدان هذا النور تتبدّل الأرض إلى مستشفىً كبير قد ابتلي سكانها بأنواع الأمراض ويصارعون الموت بين لحظة وأُخرى!

وكلما دققنا في عالم النور الذي يشكل ظاهرة فريدة، يتّضح لنا أثرهُ البالغ الأهمية وبركاته العظيمة.

وبملاحظة هاتين المقدمتين إذا أردنا تشبيه الذات المقدسة لربّ العالمين (رغم منزلته العظيمة التي لا نظير لها ولا شبيه) فلا نجد خيراً من النور؟! الله الذي خلق كل شيء في عالم الوجود ونوّره، فأحيا المخلوقات الحية ببركته، ورزقها من فضل، ولو انقطعت رحمته عنها لحظة، لأصبح الجميع في ظلمات الفناء والعدم.

وممّا يلفت النظر أنّ كل مخلوق يرتبط بالله بمقدار معين يكتسب من النور بنفس ذلك المقدار:

القرآن نور لأنّه كلام الله.

والدين الإسلامي نور لأنّه دينه.

[105]

الأنبياء أنوار لأنّهم رسله.

والأئمّة المعصومون(عليهم السلام) أنوار إلهية، لأنّهم حفظة دينه بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

والإيمان نور، لأنّه رمز الإلتحام به سبحانه وتعالى.

والعلم نور، لأنّه السبيل إلى معرفته ـ عزَّوجلَّ ـ .

ولهذا: اللّه نور السموات والأرض.

وإذا استعملنا كلمة «النور» بمعناها الواسعِ، أي الظاهر في ذاته والمظهر لغيره في هذه الحالة يصبح استعمال كلمة النور الذات الله المقدسة حقيقة ولا تشبيه فيها، لأنّه لا يوجد أظهر من الله تعالى في العالم، وكلّ الأشياء تظهر من بركاتِ وجودِه.

وجاء في كتاب التوحيد، عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حين سئل عن معنى قوله تعالى:(الله نور السموات والأرض) قال «هادِ لأهل السموات، وهاد لأهل الأرض».

وهذه في الواقع واحدة من خصائص النور الإِلهي، ولا يمكن حصره بهذه الخصيصة، ولهذا يمكن جمع كلّ ما قيل في تفسير هذه الآية، وكلّ تفسير هوإشارة إلى أحدِ أَبعادِ هذا النور الذي لا مثيل له.

والجديرُ بالذكر ما جاء في الفقرة السابعة والأربعين من دعاء الجوشن الكبير الذي يحتوي على صفاتِ الله تعالى: «يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور، يا مدبر النور، يا مقدر النور، يا نور كلّ نور، يا نوراً قبل كلّ نور، يا نوراً بعد كلّ نور، يا نوراً فوق كلّ نور، يا نوراً ليس كمثله نور» وبهذا تأخذ أنوار الوجود نورها من نوره وتنتهي بنوره الطاهر.

وقد أوضح القرآن بعد بيانه الحقائق السالفة ذلك، إذْ ذكر مثالا رائعاً دقيقاً لكيفية النور الإلهي: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسّه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله

]106]

الأمثال للناس والله بكل شيء عليم).

ولشرح هذا المثال يجب الإلمام بعدة أُمور:

«المشكاة» في الأصل تعني الكُوّة التي تخصص في الجدار لوضع المصابيح الزيتية فيها لحفظها من الرياح، وأحياناً تبنى في الجدار فتحة صغيرة، يغطى جانبها المشرف على ساحة الدار بالزجاج، لإضاءة داخل وخارج الغرفة كما تحفظ المصباح من الرياح. كما تطلق هذه الكلمة على وعاء (الفانوس القديم) يصنع من زجاج على شكل متوازي المستطيلات له باب وفتحة في أعلاه لخروج الهواء الساخن. وكانوا يضعون المصباح فيه.

وباختصار نقول: إنّ المشكاة محفظة للمصباح من الرياح الشديدة، وغالباً ما يثبت في الجدار لتركيزِ الضوء وسهولة انعكاسِه.

«الزجاجة» تطلق في الأساس على الأحجار الشفّافة، وسَمّيت الصفائح الشفافة بالزجاج لأنّها تصنع من مواد معدنية، والزجاجة هنا تعني الزجاجة التي توضع فوق المصباح لتحفظ شعلته، وتنظّم جريانَ الهواء، لتزيد من نور الشعلة.

«المصباح» يتألف من وعاء للزيت وفتيل.

عبارة (يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) تشير إلى الطاقة التي تُجَهِّز هذا المصباحَ بوقود لا ينضب معينه. وزيت الزيتون من أجود الوقود المستعمل للمصابيح، ثمّ أن هذا الزيت يُحْصَلُ عليه من زيتون شجر يتعرّض للشمسِ من جميعِ جوانبه بشكل متساو، لا أن تكون الشجره في الجانب الشرقي مِنَ البستان وبجانب حائط يمنع وصول أشعة الشمس إليها، كما لا تكون في جهة الغرب ليتعرض جانب واحد منها على أشعة الشمس، فلا تنضج ثمرتها بصورة جيدة ولا يكون زيتها نقياً وصافياً.

وبعد هذا الإيضاح يتبيّن أنّنا للإِستفادة من نور المصباح بإشعاع قويّ نحتاج إلى توفر أربعة أشياء.

[107]

«محفظة للمصباح» لا تقلل من نوره، بل تركز هذا النور وتعكسه و «زجاجة» تنظم جريان الهواء حول الشعلة، ويجب أن تكون شفّافة بدرجة لا تمنع تشعشع النور، و«مصباح» هو مصدر النور، وهو عبارة عن إناء فيه زيت وفي أعلاه الفتيل.

وأخيراً «مادة الإحتراق» صافية خالصة شفّافة مستعدة للإِشتعال بدرجة يتصوَّر فيها الإِنسان إنّها سوف تشعل لوحدها دون أن يمسّها قبس من النار.

كلّ هذه العبارات تكشف في الحقيقة عن ظاهر القضية.

ومن جهةُ أُخرى أورد كبار المفسّرين تفاسير عديدة بشأن هذا التشبيه وأنّه ما هو «المشبّه» ومن أيّ نور إلهي يكون:

قال البعض: المقصود هنا نور الهداية التي يجعله الله في قلوب المؤمنين، وبعبارة أُخرى: المقصود الإِيمان الذي استقرّ في قلوب المؤمنين.

وقال آخرون: إنّ المشبّه يعني هنا القرآن الذي ينير قلوب الناس.

وآخرون: إنّه اشارة إلى شخص النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

وآخرون: إنَّه إشارة إلى أدلة التوحيد والعدل الإِلهي.

وآخرون: إنّه روح الطاعةِ والتقوى التي هي أساسُ كلِّ خير وسعادة.

وفي الحقيقة فإنّ هذهِ التفاسير قد أوردت كلّ ما جاء في القرآن والأحاديث الإسلامية بعنوان مصاديق للنور، وجوهرها واحد، وهو نور الهداية بذاته، ومصدره القرآن والوحي ووجود الأنبياء، وينهل من أدلة التوحيد، ونتيجته التسليم بحكم الله والتمسك بالتقوى.

وتوضيح ذلك: إنّ نور الإيمان الموجود في قلوب المؤمنين يحتوي على العناصر الأربعة المتوفرة في المصباح المضيء، هي:

«المصباح» وهو شعلة الإيمان في قلب المؤمن يضيء طريق الهداية.

و«الزجاجة» هي قلب المؤمن ينظم الإيمان في ذاته ويحفظه من كل سوء.

و«المشكاة» صدر المؤمن، أو بعبارة أُخرى: شخصيته بما فيها وعيه وعلمه

[108]

وفكرهُ الذي يصون إيمانه من الأعاصير والأخطار.

«شجرة مباركة زيتونة» هي الوحي الإِلهي الذي يكون بمنتهى الصفاء والطهارة وتوقد شعلة إيمان المؤمنين ـ في الحقيقة ـ من نورُ الله الذي ينير السموات والأرض وقد أشرق من قلوب المؤمنين، فأضاءَ وُجودَهم ونور وجوههم.

فتراهم يمزجون الأدلَّة العقلائية بنور الوحي، فيكون مصداق «نور على نور».

ولهذا ترى القلوب المستعدة لاستقبالِ النورِ الإِلهي تهتدي، وهي المقصودة بعبارة(يهدي الله لنوره من يشاء) وعلى هذا فإنَّ المحافظة على النور الإِلهي (نور الهداية والإِيمان) يستوجب توفر مجموعة من المعارف والعلوم والوعي والأخلاق وبناء الذات، من أجل أن تكون كالمشكاة تحفظ هذا المصباح.

كما تحتاج إلى قلب مستعد لينظَّمُ هذا النور الإِلهي كما تنظم الزجاجة شعلة المصباح.

وتحتاج إلى مدد من الوحي، ليمنحها طاقة مثلما تمنحها الشجرة التي سمّاها القرآن بعبارة (شجرة مباركة زيتونة).

وتجب المحافظة على نورِ الوحي من التلوث والميول المادية والإنحراف إلى الشرق أو الغرب الذي يؤدّي إلى التفسخ والإندثار.

ولتعبيء قوى الإنسان بشكل سليم بعيداً عن كلّ فكر مستورد وانحراف، لتكون مصداقاً لـ (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار).

وكلّ تفسير يتضمّن حكماً مسبقاً ويتضمّن ذوق المفسّر وعقيدته الخاصّة به، أو رغبةً يساريةً أو يمنيةً، أو خرافة يؤدي إلى تلويث سمعة هذه الشجرة المباركة، ويُقلل من تشعشع مصباحها. وأحياناً يُطفئه.

هذا هو المثال الذي ذكره اللهُ لنورِهِ في هذه الآية، وهو الذي أحاط بكلّ شيء

[109]

علماً.

وممّا سلف يتّضح لنا أن ما ذكرته الرّوايات عن الأئمّة المعصومين(عليهم السلام)بخصوص تفسير هذه الآية أنّ المشكاة هي قلب نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) والمصباح نور العلم، والزجاجة وصية علي(عليه السلام)، والشجرة المباركة إبراهيم الخليل(عليه السلام) الذي يرجع نسب بيت النبوّة إليه، وعبارة (لا شرقية ولا غربية) تعني نفي أيّ ميل إلى اليهودية والنصرانية فهو وجه آخر لنور الهداية والإيمان، ومصداق واضح لها،  ولا  يعني أنّ هذه الآية مختصة بهذا المصداق.

كما أنّ ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ النور الإِلهي هو القرآن، أو الأدلة العقلائية، أو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بذاته، له جذور مشتركة بالتّفسير أعلاه.

وقد شاهدنا حتى الآن خصائص هذا النور الإِلهي، نور الهداية والإِيمان من خلال تشبيهه بمصباح قويّ الإضاءة.

ويجب أن نعرف الآن أين موضع هذا المصباح، وشكل موضعه؟ ليتّضح لنا ما كان ضرورياً إيضاحه في هذا المجال. لهذا تقول الآية التالية: إنّ هذه المشكاة تقع (في بيوت أذن الله أن ترفع) لكي تكون في مأمن من الشياطين والاعداء والانتهازيين (ويذكر فيها اسمه) ويتلى فيها القرآن والحقائق الإلهية.

وقد اعتبر العديد من المفسّرين هذه الآية مرتبطةً كما قلنا بالآية التي سبقتها(1). غير أن البعض من المفسّرين يرى أنّ هذه الجملة ترتبط بالجملة التي تليها، إلاّ أنّ ذلك بعيد عن الصواب.

أمّا ما أورده البعض وتساءل عن مدى تأثير هذا النور الباهر في البيوت

_____________________________

 

1 ـ هكذا يكون تقدير الآية «هذه المشكاة في بيوت ... أو هذا المصباح في بيوت ... هذه الشجرة في بيوت ... نورالله في بيوت» في الوقت الذي يرى أصحاب التّفسير الثّاني أنّ عبارة «في بيوت»

تعود إلى كلمة «يسبّح»

ليكون معنى الآية (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال)

أي في الصباح والمساء. إلاّ أن هذا التّفسير لا ينسجم مع وجود كلمة «فيها»

لأنّه يعد تكراراً لا داعي له، إضافة إلى عدم انسجامها مع الأحاديث الواردة بهذا الصدد (فتأملوا جيداً)

.

[110]

المذكورة بتلك الخصوصيات، فجوابه واضح، لأنّ البيوت التي ورد ذكرها في هذه الآية والتي يحرسها رجال أشداء يقظون، هم الذين يحفظون هذه المصابيح المنيرة، إضافة إلى أن هؤلاء الرجال يبحثون عن مصدرِ نور، فيهرعون إليه بعد أن يتعرّفون على موضع هذا النور.

ولكن ماالمقصود من هذه البيوت؟

الجواب يتّضح بما ذكرته آخر الآية من خصائص حيث تقول: أنّه في هذه البيوت يسبّح أهلها صباحاً ومساءاً: (يسبح له فيها بالغدو والآصال)(1).

(رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) إنّ هذه الخصائص تكشف عن أنَّ هذه البيوت هي المراكز التي حُصِّنَتْ بأمر من الله، وأنّها مركز لذكر الله ولبيان حقيقة الإسلام وتعاليم الله، ويضم هذا المعنى الواسع المساجد وبيوت الأنبياء والأولياء خاصّة بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبيت عليّ(عليه السلام). ولا دليل يؤيِّدُ حصرها من قبل بعض المفسّرين ـ بالمساجد أو بيوت الأنبياء وأمثالها.

وفي الحديث المروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) «هي بيوت الأنبياء وبيت عليّ منها»(2).

وفي حديث آخر حيث سئل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا قرأ الآية، أي بيوت هذه؟ فقال: «بيوت الأنبياء» فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها، يعني بيت عليّ وفاطمة. قال: «نعم، من أفاضلها»(3).

_____________________________

 

1 ـ «الغدو»

على وزن «علو» بمعنى الصبح

، ويقول الراغب الأصفهاني: الغدوة والغداة من أوّل النهار، وقوبل في القرآن بالآصال، نحو قوله (بالغدو والآصال)

وقوبل الغداة بالعشيِّ.

و«الآصال»

جمع «الأصل»

على وزن «رُسُلْ» وهو بدوره جمع للأصيل بمعنى العصر، والسبب في ذكر الغدو مفردة والآصال جمعاً؟ يقول فخر الرازي، لأنّ الغدو ذات بعد مصدري ولا يجمع المصدر.

2 ـ تفسير نورالثقلين، المجلد الثالث، ص 607.

3 ـ تفسير مجمع البيان للآية موضع البحث.

[111]

وكل ذلك إشارة إلى مصاديق واضحة تذكرها الأحاديث كعادتها حين تفسير القرآن.

أجل، إنَّ كُلَّ مركز يقامُ بأمر من الله، ويذكر فيه اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال، وفيه رجال لا تلهيهم تجارة عن ذكر الله، فهي مواضع لمشكاة الأنوار الإلهية والإِيمان والهداية.

ولهذه البيوت عدّة خصائص:

أوّلها: أنّها شيّدتْ بأمر من الله.

والأُخرى: إن جدرانها رُفعت وأُحكم بناؤها لتمنع تسلل الشياطين.

وثالثها: أنها مركز لذكر الله.

وأخيراً: فإنّ فيها رجالا يَحْرسُونُها ليل نهار، وهم يسبحون الله، ولا تلهيهم الجواذب الدنيوية عن ذكر الله.

هذه البيوت بهذه الخصائص، مصادر للهداية والإِيمان.

ولابدّ من التنبيه إلى ورود كلمتين في هذه الآية هما «التجارة» و«البيع» وهما كلمتان تبدوان وكأنّ لهما معنىً واحداً، إلاّ أنّ الفرق بينهما هو أنّ التجارة عمل مستمر، والبيع يُنجز مرة واحدة، وقد تكون عابرة.

ويجب الإلتفاتُ إلى أنَّ الآية لم تقل: أنّ هؤلاء لا يمارسون أبداً التجارة والبيع بل قالت: إنّهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.

إنّهم يخافون يوم القيامة والعدل الإِلهي الذي تتقلّب فِيْه القلوبُ والأبصار من الخوف والوحشة (ويجب الإنتباه إلى أنَّ الفعل المضارع، «يخافون» يدلّ على الإستمرار في الخوف، وهذا الخوف هو الذي دفعهم إلى تحمل مسؤولياتهم، ولبلوغ رسالتهم في الحياة).

وأشارت آخر هذه الآيات إلى الجزاء الوافي لحراس نور الهداية وعشّاق الحقّ والحقيقة، فقالت: (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله

[112]

 ولا عجب في ذلك، لأنّ الفضل الإلهي لمن كان جديراً به غير محدود: (والله يرزق من يشاء بغير حساب).

وقال بعض المفسّرين عما تعنيه عبارة (أحسن ما عملوا) في هذه الآية، أنّها إشارة إلى جميع الأعمال الطيبة، سواء كانت واجبة أم مستحبة، صغيرة أم كبيرة.

ويرى آخرون أنّها إشارة إلى أنّ الله يكافيء الحسنة بعشر أمثالها، وأحياناً بسبعمائة مثلها، حيث نقرأ في الآية (160) من سورة الأنعام: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها). كما جاء في الآية (261) من سورة البقرة حول جزاء المنفقين في سبيل الله أنَّ المكافأة تعادل سبعمائة مرة أو ضعفها.

كما يمكن أن تفسّر العبارة السابقة بأنّ المقصود هو أنَّ الله يكافيء جميع أعمالهم بموجب أفضلها، ويشمل ذلك أبسط أعمالهم وأوسطها، حيث يجعلها الله بمستوى أفضل الأعمال حين منحه المكافأة.

وليس هذا بعيداً عن رحمة الله وفضله، والعدالة تقضي بمساواة المكافأة مع العمل في سبيل الله، إلاّ أنّ رحمة الله وسعتْ كلّ شيء، فهو يهب دون حساب  ولا حدود، فذاته المقدسة غير محدودة، وأنعمه لا تنتهي، وكرمه عظيم لا حدود له.

* * *

 

ملاحظات

بيّنا كثيراً من مسائل هذه الآيات خلال تفسيرنا لها، وبقيت عدّة أحاديث يقتضي الأمر ذكرها بُغية إتمام هذا البحث.

1 ـ نقرأ في كتاب روضة الكافي حديثاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير آية النور: «إن المشكاة قلب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) والمصباح النور الذي فيه العلم،

[113]

والزجاجة قلب علي(عليه السلام) أو نفسه»(1).

2 ـ وجاء حديث آخر عن الإمام الباقر(عليه السلام) في توحيد الصدوق «إن المشكاة نور العلم في صدر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والزجاجة صدر علي ... ونور علي نور إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في أثر الإمام من آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عزّوجلّ ـ خلفاء في أرضه وحجج على خلقه، لا تخلو الأرض في كلّ عصر من واحد منهم»(2).

3 ـ وفسّر حديث آخر عن الإمام الصادق(عليه السلام) المشكاة بفاطمة(عليها السلام)والمصباح بالحسن(عليه السلام) والزجاجة بالحسين(عليه السلام).(3)

وكما أشرنا سابقاً فإنّ للآيات مفهوماً واسعاً، وكلّ حديث من هذه الأحاديث بيان لمصداق بارز من مصاديقها دون الاخلال بعموميتها.

وبهذا لا نجد تناقضاً في الأحاديث السابقة.

4 ـ نقرأ في حديث عن أبي جعفر الثمالي قال: قال أبو جعفر(عليه السلام) الباقر لقتادة: من أنت؟ قال: أنا قتادة ابن دعامّة البصري فقال له أبو جعفر(عليه السلام): أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم، فقال له الامام الباقر(عليه السلام): ويحك باقتادة إن الله خلق خلقاً من خلقه فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه قوّام بأمره نجباء في علمه اصطفاهم قبل خلقه، أظلة عن يمين عرشه قال: فسكت قتادة طويلا ثمّ قال: أصلحك الله والله لقد جلست بين يدي الفقهاء وقدّامهم، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك.

فقال له الإمام الباقر(عليه السلام): أتدري أين أنت؟ بين يدى: (بيوت اذن الله أن ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن

_____________________________

 

1 ـ نور الثقلين في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض التلخيص المجلد الثالث، صفحة 602 و 603).

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

]114]

ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة) فأنت ثمّ ونحن أُولئك.

فقال له قتادة: «صدقت والله جعلني الله فداك والله ما هي بيوت حجارة  ولا طين...»(1)

5 ـ وذكر حديث آخر حول رجال الله حماة الوحي والهداية: «هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، إذا دخل مواقيت الصلاة أدوا إلى الله حقّه فيها»(2)

إشارة إلى أنّ هؤلاء الرجال همّهم ذكر الله ولا يقدمون عليه شيئاً، رغم أنّهم يمارسون نشاطاً إقتصادياً في الحياة.

6 ـ وصفت شجرة الزيتون في الآيات السابقة بأنّها شجرة مباركة.

وكان لهذه الشجرة أهمية بالغة حين نزول القرآن، وقد اتّضح ذلك اليوم، لأنَّ كبار العلماءِ أخبرونا بخلاصة تجاربهم ودراساتهم عن خواصّ أنواعِ النباتات، وحول شجرة الزيتون يقولون: إنّها مباركة حقّاً، وثمرها مفيد جدّاً، ويمنحنا أجود الزيوت، ولها دور حيوي في سلامة الجسم.

يقول ابن عباس: إنَّ أجزاء هذه الشجرة مفيدة ومريحة، وحتى رماد خشبها فيه منفعة، وهي أولُ شجرة نبتت بعد طوفان نوح(عليه السلام)، وقد دعا لها الأنبياء وباركوها.

7 ـ ذكر المفسّرون الكبار عدّة تفاسير لعبارة «نور على نور» فقال المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: إنّها إشارة إلى أنبياء من نسل واحد يتعاقبون على النبوة ويُواصِلُونَ طريق الهداية.

ويقول الفخر الرازي في تَفسيرهِ: إنّها إشارة إلى تجمع شعاع النور وتراكمه، حيث ذكر حول المؤمن: «يقف المؤمن بين أربعة مواقف، فإذا وهبهُ الله شكره،

_____________________________

 

1 ـ المصدر السابق، 609.

2 ـ المصدر السابق.

[115]

وإذا أصابته مصيبة صبر وصمد، وإذا تكلم صدق، وإذا حكّم بين اثنين عدل، وهو إنسان واع بين جهلة ومثله كحيّ بين أموات. إنّه يسير بين خمسة أنوار: كلامه نور، عمله نور، إقامته نور، رحله نور، هدفه نور الله يوم القيامة».

ويمكن أن يكون النور الأوّل الذي ذكرته الآية إشارة إلى نور الهداية الإِلهية عن طريق الوحي، والنور الثّاني نور الهداية عن طريق العقل.

أو أنّ النور الأوّل هو نور الهداية التشريعة، والنور الثّاني نور الهداية التكوينية فهو نور على نور.

وبهذا فسّرت هذه العبارة بمختلف مصادر النور، مرّة فُسِّرت بالأنبياء وأُخرى بأنواعِ النور، ومرة ثالثة بمراحل النور المختلفة، وهي ممكنة جميعاً في آن واحد، لأنّ مفهوم الآية واسع جداً (فتأملوا جيداً).

* * *

 

[116]

 

 

الآيتان

 

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَـلُهُمْ كَسَرابِ بِقِيعَةِ يَحْسَبُهُ الظَّمأَنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(39) أَوْ كَظُلُمَـت فِى بَحْر لُّجِّىٍّ يَغْشَـهُ مَوْجٌ مِّنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَريَـهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّور(40)

 

التّفسير

أعمال سرابية

تحدثت الآيات السابقة عن نور الله، نور الإيمان والهداية. ولإتمام هذا البحث ولتوضيح المقارنة بين الذين نوّر الله قلوبهم وبين الآخرين تناوَلَتْ هذه الآيات عالَم الكفر والجهل والإلحاد المظلم، وتحدثت عن الكفار والمنافقين الذين وجودهم (ظلمات بعضها فوق بعض) خلافاً للمؤمنين الذين أصبحت حياتهم وأفكارهم (نور على نور).

[117]

الكلام في الآية الأُولى عن الذين يبحثون عن الماء في صحراءَ جاقّة حارقة، ولا يجدون غير السراب فيموتون عطشاً، في الوقت الذي عثر فيه المؤمنون على نور الإِيمان، ومنبع الهداية الرائعة، فاستراحوا بجنبها، فتقول أوّلا: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً) ولكن يجد الله عند أعماله (ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب).

«السراب» مشتق من السرب على وزن «حَرْبْ» بمعنى الطريق المنحدر، وتطلق كلمة السراب على لمعان يشاهد في الصحارى والمنحدرات من بعيد وكأنّه ماء، وما هو إلاّ إنعكاسٌ لأشعة الشمس(1).

ويرى البعض أنّ «القيعة» جمع «قاعة»، بمعنى الأرض الواسعة التي لاماء ولا نبات فيها، ويطلق ذلك على الصحاري التي يظهر فيها السراب في معظم الأحيان، إلاّ أنَّ بَعْضَ المفسّرين واللغويين يرون أنّ هذه الكلمة مفردة، وجمعها «قيعان» أو «قيعات»(2).

ورغم عدم وجود الفرق مِنْ حيثُ المعنى، فإنّ الآيَةُ تُوجِبُ أَن تكون هذه الكلمة مفردة، لأَنّها ذكرت السراب مفرداً والسراب الواحد يكون في أرض واحدة طبعاً.

ثمّ تناولت الآية الثّانية مثالا آخر لأعمال الكفار وقالت: (أو كظلمات في بحر لّجيّ يغشاه موج من فوقه من فوقه سحاب) وبهذا المنوال تكون (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها).

أجل، إنّ النور الحقيقي في حياة البشر هو نور الإِيمان فقط، ومن دونه تَسودُ

_____________________________

 

1 ـ يقول علماء الفيزياء المعاصرون: عند إرتفاع درجات الحرارة فالهواء المجاور للارض يتمدد ويزداد تخلخله فيختلف مع الطبقة المجاورة له، وبذلك تنعكس موجة الضوء ويحدث السراب.

2 ـ تراجع التفاسير التالية: مجمع البيان، روح المعاني، تفسير القرطبي، تفسير الفخر الرازي، ومفردات الراغب.

[118]

الحياةُ الظلمات، ونور الإِيمان هذا إنّما هو لطفٌ من عندِ الله (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).

ولفهم عمق هذا المثال لابدّ من الإهتمام بمعنى كلمة «اللجّيّ» وهو البحر الواسع والعميق. وبالأصل مشتقّة من «اللجاج» بمعنى متابعة عمل ما (التي تطلق عادة على الأعمال غير الصحيحة) ثمّ أُطلقت على تتابع أمواج البحر واستقرارها الواحدة بعد الأُخرى، ولقد استخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى لأنّ البحر كلّما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه.

ولَوْ تصوَّرتُم بحراً هائجاً عميقاً، ومع علمنا أنَّ نور الشمسِ أقْوى أنواعِ النور، لكنّه لا ينفذ إلاّ بمقدار مُعيَّن في البحر، وآخر حدود نفوذه في العمق لا يتجاوز سبعمائة متر، حيث يسودُ الظلام الدائم أعماق البحار والمحيطات.

كما نعلم أَنّ الماء إذا كان هادئاً يعكسُ النورَ بشكل أفضل، بينما تكسر أمواج البحر أشعة الشمس، ولا تسمح لها بالنفوذ إلى العُمقِ إلاّ بِمقدارِ أقل. وإذا أضفنا إلى ذلك مسألة مرور سحاب داكن اللون فوق هذا البحر الهائج، فإنّ الظلام يَزْدادُ عُتمة وسواداً بشكل كبير(1).

إن الظلام في عمق البحر من جهة، وظلمة الأمواج الهائجة من جهة أُخرى، وظلمة الغيوم السوداء من جهة ثالثة، ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.

وفي مثل هذا الظلام لا يمكنُ رؤية أيّ شيء، مهما اقتَرب منّا، حتّى لو وضع الإنسان الشيء نُصبَ عينيه لما استطاع مشاهدته.

وهكذا حال الكفار الذين حرموا من نور الإِيمان فابتلوا بهذه الظلمات، خلافاً للمؤمنين الذين نوّر الله قلوبهم وطريقهم وهم مصداق (نور على نور).

وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه الظلمات ثلاثة أقسام، قد ابتلي غير المؤمنين

_____________________________

 

1 ـ يجب الإنتباه إلى أن «السحاب»

يعني كما جاء من «لسان العرب» الغيوم الممطرة، وعادة تكون السحب المتراكمة أكثر عتمة.

[119]

بها، وهي: ظلمة العقيدة الباطلة، وظلمة القول الخاطيء، وظلمة السلوك السيء، وبعبارة أُخرى: إنّ أعمالِ غيرالمؤمنين أساسها الفكري ظلمات. وكذلك أقوالَهُم التي هي انعكاس لعقائدهم، ثمّ انسجامها مع افعالهم الظلمانية.

وقال آخرون: إنَّ هذه الظلمات الثلاث عبارة عن مراحل جهل غيرِ المؤمنين، وأوّلها أنّهم لا يعلمون، وثانيتُها أنّهم لا يعلمون بأنّهم لا يعلمون، وثالثتها أنّهم مع كل هذا يتصوّرون أنّهم يعلمون، وبهذا يعيشون في جهل مركّب دَامِس.

وقال البعض الآخر: إنَّ أساس المعرفة ـ كما يقول القرآن المجيد ـ في ثلاثة أشياء: القلب والعين والأذن (وبالطبع يعني بالقلب العقل). كما جاء في الآية (78) من سورة النحل: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)(1). ولكن الكفار فقدوا بكفرهم نور العقل والسمع والبصر، فصاروا في ظلمات متراكمة.

ولا تناقض بين هذه التفاسير الثلاثة، كما هو واضح، إذ يمكن أن تشملهم هذه الآية جميعاً.

وعلى كلّ حال، فيمكننا أن نصل إلى استنتاج عام من الآيتين السابقتين. فقد شبّهت الآية أعمال غيرالمؤمنين بنور كاذب كسراب يراه ظمآن في صحراء جافة، لا يروي هذا السراب العطاشى أبداً، وإنّما يزيد في سعيهم للحصول على الماء فيرهقهم دون نتيجة تذكر.

ثمّ ينتقل القرآن من الحديث عن هذا النور الكاذب، الذي هو عبارة عن أعمال المنافقين إلى باطن هذه الأعمال، الباطن المظلم والمخيف والموحش حيث تتعطل فيه حواسٌ الإنسان، وتظلم عليه الدنيا حتى لا يرى نفسه، فكيف يمكه رؤية الآخرين.

_____________________________

 

1 ـ تفسير الفخر الرازي، للآية موضع البحث.

[120]

وطبيعي أنّ المرءُ في هذه الظلمات في وحدة مطلقة وجهل دائم، لا يجد طريقه، ولا رفيق سفره، ولا موقف له، ولا يملك وسيلة للنجاة، لأنّه لم يكتسِب شيئاً من مصدر النور، أي الله سبحانه وتعالى، وقد ختم الله على قلبه بالجهل والضلال.

ولعلكم تتذكرون أنّنا قلنا: أنَّ النور مصدر أنواع الجمال والحياة والحركة، عكس الظلام الذي يعتبر مصدر القبائح والموت والعدم والسكون والسكوت.

الظلام مصدر الخوف والكراهية، وهو توأم الهمّ والغمّ، هكذا وضع الذين افتقدوا نور الإِيمان، وغرقوا في ظلمات الكفر.

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=809
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29