• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الحادي عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الفرقان من آية 27 ـ 55 من ( ص 236 ـ 289 ) .

سورة الفرقان من آية 27 ـ 55 من ( ص 236 ـ 289 )

[236]

 الآيات

 وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَـلَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(27) يَـوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلا(28) لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَـنُ لِلاِْنسَـنِ خَذُولا(29)

 

سبب النّزول

«قال ابن عباس: نزل قوله تعالى: (ويوم يَعض الظالم) في عقبة بن أبي معيط، وأُبي بن خلف، وكانا متخالّين، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة الرّسول، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً ودعا الناس، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى طعامه، فلما قربوا الطعام قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وبلغ ذلك أُبي بن خلف فقال: صبئتَ يا عقبة؟ قال: لا والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليَّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدتُ له فطعم، فقال أُبي: ما كنتُ براض عنك أبداً حتى تأتي فتبزق في وجهه،

[237]

ففعل ذلك عقبة وارتدَّ، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا ألقاك خارجاً من مكّة إلاّ علوتُ رأسك بالسيف، فضرب عنقه يوم بدر صبراً، وأمّا أُبي بن خلف فقتله النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أُحد بيده في المبارزة».

وقال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى مات.

وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر الله تعالى.(1)

نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير الرجل الذي يُبتلى بخليل ضال، ويجره إلى الضلال.

وقلنا مراراً أنّ سبب النّزول وإن يكن خاصّاً، إلاّ أنّه لا يقيد مفهوم الآيات أبداً، وعمومية المفهوم تشمل جميع المصاديق.

* * *

 

التّفسير

أضلني صديق السوء

يوم القيامة له مشاهد عجيبة، حيث ورد بعضٌ منها في الآيات السابقة، وفي هذه الآيات اشارة الى قسم آخر منها، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم، يقول تعالى أوّلا: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرّسول سبيلا)(2).

«يعضّ» من مادة «عضّ» (على وزن سدّ) بمعنى الأزم بالأسنان، ويستخدم

_____________________________
 
1 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 166 .
2 ـ جملة (يوم يعض الظالم...)
عطف على «يوم يرون»
التي مضت قبل عدّة آيات، بعض يعتبرها أيضاً متعلقة بجملة مقدرة «اذكر».

[238]

هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف، كما في المثل العربي، لأن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يعض الإصبع دائماً، بل يعض ظاهر اليد أحياناً، وكثيراً ما يقال ـ كما في الآية الآية مورد البحث ـ «يديه» يعني كلتا اليدين حيث تبيّن شدّة الأسف والحسرة بنحو أبلغ.

و هذا العمل يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم، ويعتبرون أنفسهم مقصرين، فيصممون على الأِنتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة.

وينبغي حقّاً، أن يسمى ذلك اليوم (يوم الحسرة) كما ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم القيامة أيضاً (سورة مريم الآية 39)، ذلك لأن المجرمين يرون أنفسهم في أتعس حال بين يدي الحياة الخالدة، في الوقت الذي كانوا يستطيعون خلال أيام من الصبر والإستقامة ومجاهدة النفس والإيثار أن يستبدلوا ذلك بحياة مشرفة وسعيدة، وهو يوم أسف أيضاً حتى بالنسبة إلى المحسنين، فهم يأسفون على أنّهم: لماذا لم يحسنوا أكثر.

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف، يقول:(يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا).(1)

واضح أن المقصود بـ «فلان» هو ذلك الذي أضله: الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال، وفردٌ مثل «أُبي» لـ «عقبة» الذي ورد في سبب النّزول.

هذه الآية ـ والآية التي قبلها ـ تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد، يقول تعالى: (يا ليتني اتخذتُ مع الرّسول سبيلا)، وهنا يقول: (...ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا) حيث كانت التعاسة كلها في ترك الإرتباط بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقبول الإرتباط بهذا الخليل الضال.

_____________________________
 
1 ـ «خليل»
تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاوراً لنفسه. وللخليل معان أخرى أيضاً قد أوردناها في ذيل الآية (125) من سورة النساء.

[239]

ثمّ يستمر ويقول: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذجاءني).

لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين الإيمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم اكن آسف الى هذا الحد، ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصدّني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة ظامئاً وأغرقني في دوامة التعاسة.

«الذكر» في الجملة أعلاه، له معنىً واسع، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية، بل يدخل في إطاره كلُّ ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.

وفي ختام الآية يقول تعالى: (وكان الشيطان للإنسان خذولا) ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة، ثمّ يتركه حيران ويذهب لسبيله،

وينبغي الإنتباه إلى أنّ «خذولا» صيغة مبالغة، بمعنى كثير الخذلان.

وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماماً في اللحظات الحساسة.

في هذه الجملة الأخيرة (وكان الشيطان للإنسان خذولا) قد تكون من مقولة الله تعالى على سبيل الإنذار لجميع الظالمين والظالين، أو تتمة لمقولة هؤلاء الأفراد المتحسرين في القيامة، ذكر المفسّرون تفسيرين، وكل منهما منسجم مع معنى الآية، غير أن كونها مقولة الله تعالى أكثر انسجاماً.

* * *

 

بحث

أثر الصديق في مصير الإِنسان:

لا شك في أن عوامل بناء شخصية الإِنسان ـ بعد عزمه وإرادته وتصميمه ـ أُمور مختلفة، من أهمها الجليس والصديق والمعاشر، ذلك لأنّ الإِنسان قابل للتأثر

[240]

شاء أم أبى، فيأخذ قسطاً مهماً من أفكاره وصفاته الأخلاقية عن طريق أصدقائه، ولقد ثبتت هذه الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة والمشاهدات الحسية أيضاً.

قابلية التأثر هذه نالت اهتماماً خاصّاً لدى الإسلام إلى حدّ أنّه نقل في الرّوايات الإسلامية، عن نبيّ الله سليمان(عليه السلام) أنّه قال: «لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه، وينسب إلى أصحابه وأخدانه».(1)

يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في خطبة له: «ومن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه، فانظروا إلى خلطائه، فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله، وإن كانوا على غير دين الله، فلا حظّ له من دين الله».(2)

حقّاً، إنّ أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحياناً، فقد يؤدي به إلى دركات الشقاء الأبدي، وقد يرقى به أحياناً إلى غاية المجد.

الآيات الحالية وسبب نزولها، تبيّن ـ بوضوح ـ كيف أنّ الإنسان قد يقترب من السعادة، لكنّ وسوسة شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأساً على عقب وتقلب مصيره، حيث سيعضُّ على يديه من الحسرة يوم القيامة، وستتعالى منه صرخة «ياويلتى».

في كتاب «العِشرة» وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع، تبيّن أن الإسلام شديد ودقيق وثاقب النظرة في مسألة اختيار الصديق.

نُنهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا الموضوع، ومن أراد الإطلاع أكثر في هذا الموضوع فليراجع كتاب «العشرة» من بحار الأنوار، الجزء 74.

_____________________________
 
1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 27 مادة (صدق).
2 ـ بحار الأنوار، ج 74، ص 197 .

[241]

نقرأ في حديث عن التاسع من أئمة الإسلام العظام، الإمام محمد التقي الجواد(عليه السلام) «اِيّاك ومصاحبة الشرير، فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره».(1)

وقال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «أربع يمتن القلب: الذنب على الذنب... ومجالسة الموتى» قيل له: يا رسول الله، وما الموتى؟ قال: «كل غني مترف».(2)

 

* * *

 

_____________________________
 
1 ـ بحار الأنوار ج 74 ص 198.
2 ـ الخصال، للصدوق، طبقاً لنقل بحار الأنوار، ج 74، ص 195 .

[242]

 

 

الآيات

 

وَ قَالَ الرَّسُولُ يَـرَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُوراً(30) وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوَّاً مِّنَ الُمجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً(31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَُ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَـهُ تَرْتِيلا(32) وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَل إِلاَّ جِئْنَـكَ بِالْحَقِّ وَأحْسَنَ تَفْسِيراً(33) الَّذِينَ يَحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكاناً وَأضَلُّ سَبِيلا(34)

 

التّفسير

إلهي، إنّ الناس قد هجروا القرآن:

كما تناولت الآيات السابقة أنواعاً من ذرائع المشركين والكافرين المعاندين، تتناول الآية الأُولى في مورد البحث هنا حزن وشكاية الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بين يدي الله عزَّوجلّ من كيفية تعامل هذه الفئة مع القرآن، فتقول:

[243]

(وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً).(1)

قول الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا، وشكواه هذه، مستمران إلى هذا اليوم من فئة عظيمة من المسلمين، يشكو بين يدي الله أنّهم دفنوا القرآن بيد النسيان، القرآن الذي هو رمز الحياة ووسيلة النجاة، القرآن الذي هو سبب الإنتصار والحركة والترقي، القرآن الممتلىء ببرامج الحياة، هجروا هذا القرآن فمدّوا يد الإستجداء إلى الآخرين، حتى في القوانين المدنية والجزائية.

إلى الآن، لو تأملنا في وضع كثير من البلدان الإِسلامية، خصوصاً أُولئك الذين يعيشون تحت هيمنة الشرق والغرب الثقافية، لوجدنا أنّ القرآن بينهم كتاب للمراسم والتشريفات، يذيعون ألفاظه وحدها بأصوات عذبة عبر محطات البث، ويستخدمونه في زخرفة المساجد بعنوان الفن المعماري، ولافتتاح منزل جديد، أو لحفظ مسافر، وشفاء مريض، وعلى الأكثر للتلاوة من أجل الثواب.

ويستدلون بالقرآن، أحياناً وغايتهم إثبات أحكامهم المسبّقة الخاطئة من خلال الإستعانة بالآيات، وبالإستفادة من المنهج المنحرف في التّفسير بالرأي.

في بعض البلدان الإسلامية، هناك مدارس في طول البلاد وعرضها بعنوان: مدارس «تحفيظ القرآن» وفريق عظيم من الأولاد والبنات مشغولون بحفظ القرآن، في الوقت الذي تؤخذ أفكارهم عن الغرب حيناً، وعن الشرق حيناً آخر، وتؤخذ قوانينهم وقراراتهم من الأجانب، أمّا القرآن فغطاء لمخالفاتهم فقط.

نعم، اليوم أيضاً يصرخ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً). مهجوراً من ناحية لبّه ومحتواه، متروكاً من ناحية الفكر والتأمل،

_____________________________
 
1 ـ الظاهر أن جملة «قال»
فعل ماض، تدل على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)
كان قد ذكر هذا القول على سبيل الشكوى في هذه الدنيا، وأكثر المفسّرين أيضاً على هذا الإعتقاد، لكن بعضاً آخر مثل «العلامة الطباطبائي» في «الميزان» يعتقدون أن هذا القول مرتبط بيوم القيامة، والفعل الماضي هنا بمعنى المضارع. وذكر العلامة الطبرسي في مجمع البيان أيضاً هذا على سبيل الإحتمال، لكن الآية التي بعدها، والتي فيها جنبة مواساة للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
دليل على أن التّفسير المشهور هو الأصح.

[244]

ومهملا من ناحية برامجه البناءَة.

تقول الآية التي بعدها في مواساة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان يواجه هذا الموقف العدائي للخصوم: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين).

لست وحدك قدواجهت هذه العداوة الشديدة لهذه الفئة، فقد مرّ جميع الأنبياء بمثل هذه الظروف، حيث كان يتصدى لمخالفتهم فريق من (المجرمين) فكانوا يناصبونهم العداء.

ولكن إعلم أنّك لست وحيداً، وبلا معين (وكفى بربّك هادياً ونصيراً).

فلا وساوسهم تستطيع أن تضلك، لأنّ الله هاديك، ولا مؤامراتهم تستطيع، أن تحطمك، لأن الخالق معينك، الخالق الذي علمه فوق كل العلوم، وقدرته أقوى من كل القدرات.

الآية التي بعدها، تشير أيضاً إلى ذريعة أُخرى من ذرائع هؤلاء المجرمين المتعللين بالمعاذير، فتقول: (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة).

أليس القرآن جميعه من قبل الله!؟ أليس من الأفضل أن ينزل جميع محتوى هذا الكتاب دفعة واحدة حتى يقف الناس على عظمته أكثر؟ ولماذا تتنزل هذه الآيات تدريجياً وعلى فواصل زمنية مختلفة؟

و قد يأخذ هذا الإشكال في كيفية نزول القرآن مأخذه من الأفراد السطحيين، خاصّة إذا كانوا من المتمحلين للأعذار بأن هذا الكتاب السماوي العظيم الذي هو أساس ومصدر كل حياة المسلمين، ومحور كل قوانينهم السياسية و الإجتماعية والحقوقية والعبادية، لماذا لم ينزل كاملا ودفعة واحدة على نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى يقرأه أتباعه من البداية إلى النهاية فيطلعون على محتواه. واساساً فقد كان الأفضل للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أن يكون ذا اطلاع على جميع هذا القرآن دفعة واحدة، كيما يجيب الناس فوراً على كل ما يسألونه ويريدون

[245]

منه.

ولكن القرآن في تتمة نفس هذه الآية يجيبهم: (وكذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا).وقد غفل اُولئك السطحيون عن هذه الحقيقة، فلا شك أن نزول القرآن التدريجي له ارتباط وثيق بتثبيت قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، وسيأتي بحث مفصل عن ذلك في نهاية هذه الآيات.

ثمّ للتأكيد أكثر على هذا الجواب يقول تعالى: (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيراً). أي أنّهم لا يأتون بمثل أو مقولة أو بحث لاضعاف دعوتك ومقابلتها، إلاّ آتيناك بكلام حقّ يقمع كلماتهم الجوفاء وأدلتهم الخاوية بأحسن بيان وأفضل تفسير.

وبما أنّ هؤلاء الأعداء الحاقدين استنتجوا ـ بعد مجموعة من إشكالاتهم ـ أن محمّداً وأصحابه مع صفاتهم هذه وكتابهم هذا وبرامجهم هذه شرُّ خلق الله (العياذ بالله)، ولأنّ ذكر هذا القول لا يتناسب مع فصاحة وبلاغة القرآن، فإنّ الله سبحانه يتناول الإجابة على هذا القول في الآية الأخيرة مورد البحث دون أن ينقل أصل قولهم، يقول:

(الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شرُّ مكاناً وأضلّ سبيلا).

نعم، تتضح هناك نتيجة منهاهج حياة الناس، فريق لهم قامات منتصبة كشجر السرو، ووجوه منيرة كالقمر، وخطوات واسعة، يتوجهون بسرعة إلى الجنّة، في مقابل فريق مطأطئي رؤوسهم إلى الأرض، تسحبهم ملائكة العذاب إلى جهنّم، هذا المصير المختلف يكشف عمن كان ضالا وشقياً! ومن كان مهتدياً وسعيداً؟!

* * *

 

بحوث

1 ـ تفسير (جعلنا لكل نبيّ عدوّاً).

يفهم من هذه الجملة ـ أحياناً ـ أن الله من أجل مواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لست

[246]

وحدك لك عدوّ، بل لقد جعلنا لكل نبي عدوّاً، ولازم هذا القول إسناد وجود أعداء الأنبياء إلى الله تعالى، الأمر الذي لا يتفق مع حكمته ولا مع أصل حرية وإرادة الإنسان. ذكر المفسّرون أجوبة متعددة على هذا السؤال ...

قلنا مراراً أن جميع أعمال الإنسان منسوبة إلى الله، لأنّ جميع متعلقاتنا، قدرتنا، قوانا، عقلنا وفكرنا، وحتى حريتنا واختيارنا أيضاً من عنده، وعلى هذا فمن الممكن من هذه الناحية نسبة وجود الأعداء للأنبياء إلى الله، دون أن يستلزم ذلك الجبر وسلب الإختيار، ولا يردَ خدشٌ في مسؤوليتهم إزاء أعمالهم (فتأمل)!

مضافاً إلى أن وجود هؤلاء الأعداء الأشداء ومخالفتهم للأنبياء، يكون سبباً في أن يصبح المؤمنون أقوى في عملهم، وأثبت قدماً، فيتحقق الإمتحان الإلهي بالنسبة إلى الجميع.

هذه الآية في الحقيقة مثل الآية (112) من سورة الأنعام حيث تقول: (وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّاً شياطين الإِنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً).

أمام الأزاهير تنمو الأشواك، وفي قبال المحسنين يوجد المسيئون، دون أن تنتفي مسؤولية أي واحد من هاتين المجموعتين.

وقال البعض: إنّ المقصود من «جعلنا» هي أوامر ونواهي ومناهج الأنبياء البناءة التي تجر بعض الضالين إلى العداوة، شاؤوا أم أبوا.

و إذا أُسند ذلك إلى الله فلأن الأوامر والنواهي من جهته عزَّوجلّ.

التّفسير الآخر: أن هنالك فئة يطبع الله على قلوبهم ويعمي أبصارهم ويصم أسماعهم بسبب الإِصرار على الذنب والإِفراط في التعصب واللجاجة، هذه الفئة يصبحون أعداء الأنبياء في نهاية المطاف، أمّا أسباب ذلك فهي بما قدموا لأنفسهم.

ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة، فمن الممكن أن تجتمع كلها في مفهوم الآية.

[247]

2 ـ الآثار العميقة لنزول القرآن التدريجي

صحيح أنّه كان للقرآن نزولان، طبقاً للرّوايات (بل لظاهر بعض الآيات): أحدهما: «نزول دفعي» مرّة واحدة في ليلة القدر على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والآخر: «نزول تدريجي» في ثلاث وعشرين سنة، لكن بلا شك أن النّزول المعترف به الذي كان النّبي والناس يتفاعلون معه دائماً هو النّزول التدريجى للقرآن.

وهذا النّزول التدريجي بالذات صار سبباً لاستفهامات الأعداء: لماذا لم ينزل القرآن مرّة واحدة ويجعل دفعة واحدة بين أيدي الناس، حتى يكونوا أكثر إطلاعاً وتفهماً، فلا يبقى مكان للشك والريبة؟

ولكن ـ كما رأينا ـ فإنّ القرآن أجابهم جواباً قصيراً وجامعاً وبليغاً من خلال جملة (كذلك لنثبت به فؤادك)، فكلما تأملنا فيها أكثر تتجلى آثار النّزول التدريجي للقرآن أوضح.

1 ـ لا شك أنّ التشريعات إذا كانت تتنزل بشكل تدريجي تبعاً للحاجات، ويكون لكل مسألة شاهد ومصداق عينيّ، فستكون مؤثرة جدّاً من ناحية «تلقي الوحي» وكذلك «إبلاغ الناس».

مباديء التربية تؤكّد أنّ الشخص أو الأشخاص المراد تربيتهم ينبغي أن يؤخذ بأيديهم خطوة خطوة، فينظم لهم لكل يوم برنامج، ويسلكوا من المرحلة الأدنى التي شرعوا منها إلى المراحل الأعلى والبرامج التي تتدرج بهذه الكيفية تكون أكثر مقبولية وأعمق أثراً.

2 ـ إنّ هؤلاء المعترضين غافلون أساساً عن أنّ القرآن ليس كتاباً عادياً يبحث في موضوع أو علم معين، بل هو منهج حياتي للأُمة التي تغيرت به، واستلهمت منه في جميع أبعاد الحياة ولا تزال.

كثير من آيات القرآن نزلت في مناسبات تاريخية مثل معركة (بدر) و(أُحد) و (الأحزاب) و(حنين)، وبذلك سُنّت التشريعات والإستنتاجات من هذه

[248]

الحوادث، ترى هل يصح أن تكتب هذه مرّة واحدة وتعرض على الناس!؟

بعبارة أُخرى: القرآن مجموعة من أوامر ونواه، أحكام وقوانين، تاريخ وموعظة، ومجموعة من الخطط ذات المدى الطويل أو القصير في مواجهة الأحداث التي كانت تبرز أمام مسير الأُمة الإسلامية، كتاب ـ كهذا ـ يبيّن وينفذ جميع مناهجه حتى قوانينه الكلية عن طريق الحضور في ميادين حياة الأُمة، لا يمكن أن ينظم ويُدوَّنَ دفعة واحدة.

و هذا من قبيل أن يقوم قائد عظيم بكتابه ونشر جميع بياناته وإعلاناته وأوامره ونواهيه ـ التي يصدرها في المناسبات المختلفة ـ دفعة واحدة من أجل تسيير الثورة، تُرى هل يعتبر هذا العمل عقلائياً!؟

3 ـ النّزول التدريجي للقرآن كان سبب ارتباط النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الدائم والمستمر بمبدأ الوحي ممّا يجعل قلبه الشريف أقوى وإرادته أشدّ. ومن غير الممكن إنكار تأثيره في المناهج التربوية.

4 ـ من جهة أخرى فإنّ استمرار الوحي دليل على استمرار رسالة وسفارة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وسوف لن يترك مجالا لوسوسة الأعداء لكي يقولوا: لقد بعث هذا النّبي ليوم واحد! ثمّ تركه ربه، كما نقرأ في التأريخ الإسلامي أن هذه الهمهمة ظهرت أثناء تأخر الوحي في بداية الدعوة، فأنزلت سورة (والضحى) لنفي ذلك.

5 ـ لا شك أنّه إذا كان مقرراً لمناهج الإسلام أن تنزل جميعها دفعة واحدة، فقد كان من اللازم أن تطبَّقَ دفعة واحدة أيضاً، لأن النّزول بدون تطبيق يُفقد النّزول قيمته، ومن المعلوم أن تطبيق جميع المناهج أعم من العبادات كالزكاة والجهاد، ورعاية جميع الواجبات والإمتناع عن كل المحرمات دفعة واحدة.. عمل ثقيل جدّاً قد يؤدي إلى فرار فئة كبيرة من الإسلام.

و بهذا يتبيّن أن النّزول التدريجي وبالتالي التطبيق التدريجي أفضل من جهات كثيرة.

[249]

و بعبارة أُخرى: إنّ أيّ واحد من هذه التشريعات في صورة النّزول التدريجي سيتم هضمه واستيعابه بصورة جيدة، وفي حالة تعرضه لبعض الاستفهامات يمكن طرحها والاجابة عليها.

 

6 ـ وفائدة اُخرى من فوائد النّزول التدريجي هو اتضاح عظمة وإعجاز القرآن، ذلك لأن في كل واقعة تنزل عدّة آيات كريمة تكون لوحدها دليل العظمة و الاعجاز، وكلما يتكرر تتجلى أكثر هذه العظمة وهذا الإِعجاز، فينفذ في أعماق قلوب الناس.

 

3 ـ معنى الترتيل في القرآن:

كلمة «ترتيل» من مادة «رتل» (على وزن قمر) بمعنى انتظم واتسق، لذا فالعرب يقولون «رتل الأنسان» لمن تكون أسنانه جيدة ومنتظمة ومتسقة. وعلى هذا الأساس يطلق الترتيل بمعنى القراءة المتسقة للكلام أو الآيات بموجب نظام وحساب.

و على هذا فجملة (ورتلناه ترتيلا) إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ آيات القرآن وإن نزلت تدريجاً وفي مدة 23 سنة، لكنّ هذا النّزول كان على أساس نظام وحساب ومنهج بحيث ادى الى رسوخه في الأفكار وغرسه في القلوب.

في تفسير كلمة «ترتيل» نقلت روايات جذابة، نشير إلى بعضها كما يأتي:

في تفسير «مجمع البيان» «نقل عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه أمر ابن عباس: «إذا قرأت القرآن فرتلْه ترتيلا» فسألته: وما الترتيل؟ قال: «بينه تبييناً ولا تنثره نثر الدقل ولا تهزه هزَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكونن همُّ أحدكم آخر

[250]

السورة».(1)

و هناك رواية بهذه المضمون رواه الشيخ الكليني في «أصول الكافي» عن أمير المؤمنين علي(عليه السلام).(2)

و نقل أيضاً عن الإمام الصادق(عليه السلام) «الترتيل أن تتمكث به وتحسن به صوتك، وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذ بالله من النار، وإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فاسأل الله الجنّة».(3)

 

4 ـ تفسير(يحشرون على وجوههم إلى جهنم)

أقوال كثيرة بين المفسّرين في ما هو المقصود بحشر هذه الفئة من المجرمين على وجوههم!؟

بعضهم فسّروا ذلك بنفس معناه الحقيقي، وقالوا: إنّ ملائكة العذاب يسحبونهم إلى جهنم وهم ملقَون على وجوههم إلى الأرض، وهذا علامة على مهانتهم وذلتهم، لأنّهم كانوا في الدنيا في غاية الكبر والغرور والإستهانة بخلق اللّه، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى تجسيد لضلالتهم في هذا العالم، ذلك أن من يسحبونه بهذه الصورة لا يرى ما أمامه بأي شكل، وغافل عما حوله.

و البعض الآخر أخذوا بمعناه الكنائي، فقالوا تارة هذه الجملة كناية عن تعلق قلوب أولئك بالدنيا، فهم يسحبون إلى جهنم لأن وجوه قلوبهم لا زالت مرتبطة بالدنيا.(4)

_____________________________
 
1 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 170 ذيل الآية مورد البحث.
2 ـ أصول الكافي، ج2، ص 449 (باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن).
3 ـ مجمع البحرين مادة رتل.
4 ـ طبقاً لهذا التّفسير، فإنّ عبارة «على وجوههم» أخذت محل العلّة. فيكون مفهوم الجملة هكذا (يحشرون إلى جهنم لتعلق وجوه قلوبهم إلى الدنيا).

[251]

وقالوا تارةً اُخرى: انها كناية مستعملة في الأدب العربي حيث يقولون: فلان مرَّ على وجهه، يعني أنّه لم يكن يدري أين يذهب.

لكن الواضح أنّنا مع عدم الدليل على المعنى الكنائي، لابدّ من حملها على المعنى الأوّل، وهو المعنى الحقيقي.

 

* * *

[252]

 

 

الآيات

 

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَـرُونَ وَزِيراً(35) فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَـتِنَا فَدَمَّرْنَـهُمْ تَدْمِيراً(36) وَقَوْمَ نُوح لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنـهُمْ وَجَعَلْنـهُمْ لِلنَّاسِ ءايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّـلِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً (37)وَعَاداً وَثَموُدَاْ وَأَصْحـبَ الرَّسِّ وَقُروُنَاً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (38)وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ أَمْثَـلَ وَكُلاَّ ً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً(39) وَلَقَدْ أَتَوْاْ عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَل كَانُواْ لا يَرْجوُنَ نُشوُراً(40)

 

التّفسير

مع كل هذه الدروس والعبر، ولكن...

أشار القرآن المجيد في هذه الآيات إلى تاريخ الأُمم الماضية ومصيرهم المشؤوم مؤكّداً على ست أمم بخاصّة (الفراعنة، وقوم نوح، وقوم عاد، وثمود، وأصحاب الرَّس، وقوم لوط) وذلك لمواساة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة، ولتهديد

[253]

المشركين المعاندين الذين مرَّ أنموذج من أقوالهم في الآيات السابقة، من جهة أُخرى ويجسد دروس العبرة من مصير هذه الأقوام بشكل مختصر وبليغ تماماً.

يقول أوّلا: (ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً).

فقد القيت على عاتقيهما لمسؤولية الثقيلة في جهاد الفراعنة، ويجب عليهما مواصلة هذا العمل الثوري بمساعدة أحدهما الآخر حتى يثمر (فقلنا إذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) فإنّهم قد كذبوا دلائل الله وآياته التي في الآفاق وفي الأنفس وفي كل عالم الوجود، وأصروا على طريق الشرك وعبادة الأصنام من جهة.. ومن جهة أخرى أعرضوا عن تعاليم الانبياء السابقين وكذبوهم.

ولكن بالرغم من جميع الجهود والمساعي التي بذلها موسى وهارون،بالرغم من رؤية كل تلك المعجزات العظيمة والبينات المتنوعة، أصروا أيضاً على طريق الكفر والإِنكار، لذا (فدمرناهم تدميراً).

كلمة «تدمير» من مادة «دمار» بمعنى الإهلاك بأُسلوب يثير العجب، حيث كان هلاك قوم فرعون في أمواج النيل المتلاطمة بتلك الكيفية المعروفة من عجائب التاريخ حقاً.

وكذلك: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية، واعتدنا للظالمين عذاباً أليماً).

الملفت للإنتباه أنّه تعالى يقول: إنّ أُولئك كذبوا الرسل (لا رسولا واحداً فقط) ذلك أنه لا فرق بين أنبياء الله ورسله في أصل الدعوة، وتكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم، فضلا عن أنّهم كانوا مخالفين لدعوة جميع أنبياء الله ومنكرين لجميع الأديان.

وكذلك: (وعاداً وثموداً وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً).(1)

_____________________________

 

1 ـ «وعاداً وثموداً»
عطف على ضمير «هم»
في جملة «دمرناهم»
. واحتمل بعضهم أيضاً أن العطف على «هم» في «جعلناهم»
، أو يكون عطفاً على محل «الظالمين»
لكن الإحتمال الأوّل مناسب أكثر.

[254]

«قوم عاد» هم قوم النّبي «هود» العظيم، الذي بعث في منطقة (الأحقاف) أو (اليمن).

و«قوم ثمود» قوم نبي الله «صالح» الذي بعث في منطقة وادي القرى (بين المدينة والشام)، أمّا ما يتعلق بمسألة «أصحاب الرس» فسنبحثها في نهاية هذا البحث.

«قرون» جمع «قرن» وهي في الأصل بمعنى الجماعة الذين يعيشون معاً في زمان واحد، ثمّ أطلقت على الزمان الطويل (أربعين أو مائة سنة).

لكننا لم نجاز أولئك على غفلة أبداً، بل (وكلاّ ضربنا له الأمثال).

أجبنا على إشكالاتهم، مثل الإِجابة على الإِشكالات التي يوردونها عليك، وبينّا لهم الأحكام الإِلهية وحقائق الدين. أخطرناهم، أنذرناهم، كررنا عليهم مصائر وقصص الماضين، لكن حين لم ينفع أيُّ من ذلك اهلكناهم ودمّرناهم تدميراً: (وكلا تّبرنا تتبيراً).(1)

وفي نهاية المطاف ـ في الآية الأخيرة مورد البحث ـ يشير القرآن المجيد إلى خرائب مدن قوم لوط التي تقع على بداية طريق الحجازيين إلى الشام، وإلى الأثر الحي الناطق عن المصير الأليم لأولئك الملوثين والمشركين، فيقول تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها).

نعم، لقد كانوا يرون مشهد الخرائب هذه، لكنّهم لم يأخذوا منها العبرة، ذلك لأنّهم (بل كانوا لا يرجون نشوراً).

إنّهم يعدون الموت نهاية هذه الحياة، وإذا كان لهم اعتقاد بحياة ما بعد الموت فهو اعتقاد ضعيف وبلا أساس، لا يطبع أثراً في ارواحهم ولا ينعكس في مناهج

_____________________________
 
1 ـ «تتبير»
من مادة «تبر» (على وزن ضرر، وعلى وزن صبر) بمعنى الإهلاك التام.

[255]

حياتهم، ولهذا فهم يأخذون جميع الأشياء مأخذ اللعب، ولا يفكرون إلاّ بأهوائهم السريعة الزوال.

* * *

 

بحثان

1 ـ من هم «أصحاب الرس»

كلمة «رسّ» في الأصل بمعنى الأثر القليل، فيقال مثلا «رسّ الحديث في نفسي» (قليل من حديثه في ذاكرتي) أو يقال: وجد رسّاً من حمى» (يعني: وجد قليلا من الحمّى في نفسه).(1)

وجماعة من المفسّرين اعتقدوا بأن «الرسّ» بمعنى البئر.

على أية حال فتسمية هؤلاء القوم بهذا الاسم، إمّا لأنّ أثراً قليلا جداً بقي منهم، أو لأنّهم كانت لهم آبار كثيرة، أو لأنّهم هلكوا وزالوا بسبب جفاف آبارهم.

أمّا من هم هؤلاء القوم؟ هناك أقوال كثيرة بين المؤرخين والمفسّرين:

1 ـ يرى كثيرون أن «أصحاب الرس» كانوا طائفة تعيش في «اليمامة» وبعث لهم نبي اسمه «حنظلة» كذبوه وألقوه في بئر، وذكروا أيضاً: إنّهم ملأوا هذا البئر بالرماح، وأغلقوا فم البئر بعد إلقاء النّبي فيها بالحجارة حتى استشهد ذلك النبي.(2)

2 ـ البعض الآخر يرى أن «أصحاب الرسّ» إشارة إلى قوم «شعيب» الذين كانوا يعبدون الأصنام، وكانوا ذوي أغنام كثيرة وآبار ماء، و«الرسّ» كان اسماً لبئر عظيم، حيث أغاضه الله، فأهلك أهل ذلك المكان.

3 ـ بعض آخر يعتقد أن «الرسّ» كانت قرية في أرض «اليمامة» حيث كان يعيش فيها جماعة من بقايا قوم ثمود، فهلكوا نتيجة طغيانهم وغرورهم.

_____________________________
 
1 ـ مفردات الراغب.
2 ـ أعلام القرآن ص 149 .

[256]

4 ـ وذهب آخرون أنّهم كانوا جماعة من العرب الماضين، يعيشون(1) بين الشام والحجاز.

5 ـ بعض التفاسير يعرّف «أصحاب الرسّ» من بقايا عاد وثمود، ويعتبر (وبئر معطلة وقصر مشيد).(2) متعلقة بهم أيضاً، وذكر أن موطنهم في «حضرموت» واعتقد «الثعلبي» في «عرائس البيان» أن هذا القول هو الأكثر اعتباراً.

البعض الآخر من المفسّرين طبقوا «الرس» على «أرس» (في شمال آذربيجان)!

6 ـ العلامة الطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في التّفسير الكبير، والآلوسي في روح المعاني نقلوا من جملة الإحتمالات، أنّهم قوم يعيشون في أنطاكية الشام، وكان نبيهم «حبيب النجار».

7 ـ في عيون أخبار الرضا، نقل حديث طويل حول «أصحاب الرس» خلاصته: «إنّهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر يقال لها (شاه درخت) كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها (روشن آب) وكان لهم إثنتا عشرة قرية معمورة على شاطىء نهر يقال له «الرسّ»، يسمين بأسماء: آبان، آذر، دي، بهمن أسفندار، فرودين، أُردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها اشتقّ العجم أسماء شهورهم.

وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبّة. أجروا عليها نهراً من العين التي عند الصنوبرة، وحرّموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم، ومن شرب منه قتلوه، ويقولون: إنّه حياة الآلهة فلا ينبغي لأحد أن ينقص حياتها. وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوماً ـ في كل قرية، عيداً، يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثمّ يحرقونها في النار

_____________________________
 
1 ـ شرح نهج البلاغه، لابن أبي الحديد، ج 1، ص 94.
2 ـ سورة الحج، الآية 45.

[257]

فيسجدون للشجرة عند ارتفاع دخانها وسطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون، و الشيطان يكلمهم من الشجرة. وكان هذا دأبهم في القرى حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التي كان يسكنها ملكهم واسمها (أسفندار) اجتمع إليها أهل القرى جميعاً وعيّدوا اثني عشر يوماً، وجاءوا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة، وكلّمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر ممّا كان من الشياطين في سائر الأعياد من سائر الشجر.

ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة، بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا، فدعاهم برهة إلى عبادة الله وترك الشرك، فلم يؤمنوا، فدعا على الشجرة فيبست، فلما رأوا ذلك ساءهم، فقال بعضهم: إنّ هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إنّ آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئراً عميقاً وألقوه فيها، وسدّوا فوهتها، فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات، فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم».(1)

قرائن متعددة تؤيد مضمون هذا الحديث، لأن مع وجود ذكر «أصحاب الرسّ» في مقابل عاد وثمود يكون احتمال أنّهم جماعة من هاتين الأُمتين بعيداً جداً.

كذلك، فإنّ وجود هؤلاء القوم في الجزيرة العربية والشامات وتلك الحدود ـ و هو الذي احتمله الكثيرون ـ بعيد أيضاً، ذلك لأنّه يجب أن يكون له انعكاس في تاريخ العرب بحسب العادة، في الوقت الذي لم نر حتى انعكاساً ضئيلا لأصحاب الرس لديهم.

مضافاً الى ذلك توافقه مع كثير من التفاسير الأُخرى، من جملتها: أنّ «الرس»

_____________________________
 
1 ـ عيون أخبار الرضا(عليه السلام)
، طبقاً لنقل وتلخيص تفسير الميزان، ج 15، ص 219 والحديث في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الإمام الرضا(عليه السلام)
عن أمير المؤمنين(عليه السلام)
.

[258]

كان اسماً لبئر (البئر التي ألقوا فيها نبيهم) أو أنّهم كانوا أصحاب زراعة ومواشي وأمثال ذلك.

و ما ورد في رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام): أنّ نساءهم كن منحرفات جنسياً و يمارسن «المساحقة» لا منافاة له مع هذا الحديث أيضاً(1)

و من عبارة (نهج البلاغة، الخطبة 180) يستفاد أنه كان لهم أكثر من نبيّ واحد فقط، لأنّه(عليه السلام) يقول: «أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيّين، وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين!؟».

و كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) هذا لا يتنافى مع الرواية أعلاه، لأنّ من الممكن أن الرواية تشير إلى مقطع من تاريخهم وكان قد بعث نبي فيهم.

 

2 ـ مجموعة من الدروس المؤثرة:

ست فئات في الآيات أعلاه، ذكرت أسماؤهم: قوم فرعون قوم نوح المتعصبون، قوم عاد المتجبرون، ثمود، أصحاب الرس، وقوم لوط، حيث كان كل منهم أسير نوع من الإنحراف الفكري والأخلاقي أدّى بهم إلى الهلاك والشقاء.

الفراعنة كانوا ظالمين جائرين ومستعمرين واستثماريين وأنانيين.

قوم نوح كما هو معلوم كانوا معاندين ومتكبرين ومغرورين.

قوم عاد وقوم ثمود كانوا يتكلون على قدراتهم الذاتية.

و كان أصحاب الرس في دوامة الفساد والشذوذ الجنسي وخاصّة نسائهم، وكان قوم لوط غارقين في وحل من الفحشاء، وشذوذ الرجال بخاصّة، والجميع منحرفون عن جادة التوحيد. حيرى في الضلالات.

و هنا يريد القرآن أن يُنذر مشركي عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وجميع الناس على مدى

_____________________________
 
1 ـ الكافي، طبقاً لنقل تفسير نور الثقلين، ج 4، ص 19 .

[259]

التاريخ: ليكن لكم من القدرات والإستطاعة والإمكانات كل شيء ومهما كان لكم من اموال وثروات وحياة مرفّهة، فإن التلوث بالشرك والظلم والفساد سيستأصل أعماركم، وإنّ نفس أسباب تفوقكم تلك ستكون أسباب هلاككم!

قوم فرعون: وقوم نوح، أُهلكوا بالماء الذي هو أساس الحياة، قوم عاد بالعاصفة والرياح التي هي أيضاً في ظروف خاصّة أساس الحياة، قوم ثمود بالسحاب الحامل للصواعق، وقوم لوط بمطر من الحجارة نزل بعد الصاعقة، أو انفجار بركان على قول بعضهم، وأصحاب الرس طبقاً لذيل تلك الرواية أعلاه، أُبيدوا بنار تطلع من الأرض، وبشعلة مهلكة انتشرت من السحاب، ليؤوب هذا الإنسان المغرور إلى نفسه، فيتمسك بطريق الله والعدالة والتقوى.

* * *

[260]

 

 

الآيات

 

وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا(41) إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا (42)أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا(43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَْنْعَـمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا(44)

 

التّفسير

أضلُّ من الأَنعام:

الملفت للإنتباه أنّ القرآن المجيد لا يورد أقوال المشركين دفعة واحدة في آيات هذه السورة، بل أورد بعضاً منها، فكان يتناولها بالردّ والموعظة والإنذار، ثمّ بعد ذلك يواصل تناول بعض آخر بهذا الترتيب.

الآيات الحالية، تتناول لوناً آخر من منطق المشركين وكيفية تعاملهم مع رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته الحقّة.

[261]

يقول تعالى أولا: (وإذا رأوك إن يتّخذونك إلاّ هزواً أهذا الذي بعث الله رسولا).(1)

وهكذا نجد هؤلاء الكفار يتعجبون! أيَّ ادعاء عظيم يدعي؟ أي كلام عجيب يقول!؟ ... إنّها مهزلة حقّاً!

لكن يجب ألا ننسى أنّ رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم)، كان هو ذلك الشخص الذي عاش بينهم أربعين عاماً قبل الرسالة، وكان معروفاً بالأمانة والصدق والذكاء والدراية، لكنَّ رؤوسَ الكفر تناسوا صفاته هذه حينما تعرضت منافعهم الى الخطر، وتلقوا مسألة دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ بالرغم من جميع تلك الشواهد والدلائل الناطقة ـ بالسخرية والإستهزاء حتى لقد اتّهموه بالجنون.

ثمّ يواصل القرآن ذكر مقولات المشركين فينقل عن لسانهم (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها)(2).

لكن القرآن يجيبهم من عدّة طرق، ففي البداية من خلال جملة واحدة حاسمة يرد على مقولات هذه الفئة التي ما كانت أهلا للمنطق: (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا).

يمكن أن يكون هذا العذاب إشارة إلى عذاب القيامة، كما قال بعض المفسّرين مثل «الطبرسي» في مجمع البيان، أو عذاب الدنيا مثل الهزيمة المنكرة يوم «بدر» وأمثالها، كما قال «القرطبي» في تفسيره المعروف، ويمكن أن تكون الإشارة إليهما معاً.

الملفت للنظر أنّ هذه الفئة الضالة في مقولتها هذه، وقعت في تناقض فاضح، فمن جهة تلقت النّبي ودعوته بالسخرية، إشارة إلى أن ادعاءه بلا أساس ولا

_____________________________
 
1 ـ «هزواً»
مصدر، وجاء هنا بمعنى المفعول، وهذا الإحتمال وارد أيضاً وهو أن يكون مضافاً مقداراً (محل هزو)، أيضاً فالتعبير بـ «هذا»
للتحقير ولتصغير النّبي.
2 ـ كلمة (إنْ)
في (إنْ كاد ليضلنا)
مخففة، للتوكيد، وفي تقدير «إنّه كاد»
وضميرها ضمير الشأن.

[262]

يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد، ومن جهة أُخرى أنّه لولا تمسكهم بمذهب أجدادهم، فمن الممكن أن ـ يؤثر عليهم كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويضلّهم عن ذلك المذهب، وهذا يدل على أنّهم كانوا يعتبرون كلامه قوياً وجدياً ومؤثراً ومحسوباً، و هذا المنطق المضطرب ليس غريباً عن هؤلاء الأفراد الحيارى اللجوجين.

و كثيراً ما يُرى أنّ منكري الحق حينما يقفون قبالة الأمواج المتلاطمة لمنطق القادة الإلهيين، فإنّهم يختارون اُسلوب الإستهزاء تكتيكاً من أجل توهينه ودفعه، في حين أنّهم يخالفون سلوكهم هذا في الباطن، بل قد يأخذوه بجدية أحياناً ويقفون ضده بجميع امكاناتهم.

الجواب القرآني الثّاني على مقولاتهم ورد في الآية التي بعدها، موجهاً الخطاب إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على سبيل المواساة وتسلية الخاطر، وأيضاً على سبيل بيان الدليل على أصل عدم قبول دعوة النّبي من قبل أُولئك، فيقول: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) فهل أنت قادر مع هذا الحال على هدايته والدفاع عنه (أفأنت تكون عليه وكيلا).

يعني إذا وقف أُولئك أمام دعوتك بالإستهزاء والإنكار وأنواع المخالفات، فلم يكن ذلك لأن منطقك ضعيف ودلائلك غير مقنعة، وفي دينك شك أو ريبة، بل لأنّهم ليسوا أتباع العقل والمنطق، فمعبودهم أهواؤهم النفسية، تُرى أتنتظر أن يطيعك هكذا أشخاص، أو تستطيع أن تؤثر فيهم!؟

أقوال مختلفة للمفسرين الكبار في معنى جملة: (أرأيت من اتّخذ إلهة هواه):

قال جماعة ـ كما قلنا آنفاً ـ : إنّ المقصود أنّ لهم صنماً، ذلك هو هواهم النفسي، وكل أعمالهم تصدر من ذلك المنبع.

في حين أنّ جماعة أُخرى ترى أنّ المراد هو أنّهم لا يراعون المنطق بأي شكل في اختيارهم الأصنام، بل إنّهم متى ما كانت تقع أعينهم على قطعة حجر، أو شجرة جذابة، أو شيء آخر يثير هواهم، فإنّهم يتوهمونه «معبوداً»، فكانوا يجثون

]263]

على ركبهم أمامه، ويقدمون القربان، ويسألونه حل مشكلاتهم.

وذكر في سبب نزول هذه الآية رواية مؤيدة لهذا المعنى، وهي أن إحدى السنين العجاف مرّت على قريش، فضاق عليهم العيش، فخرجوا من مكّة وتفرقوا فكان الرجل إذا رأى شجرة حسنة أو حجراً حسناً هويه فعبده، وكانوا ينحرون النعم ويلطخونها بالدم ويسمونها «سعد الصخرة»، وكان إذا أصابهم داء في إبلهم أغنامهم جاؤوا إلى الصخرة فيمسحون بها الغنم والإبل، فجاء رجل من العرب بإبل يريدُ أن يمسح بالصخرة إبله ويتبرك بها، فنفرت إبله فتفرقت، فقال الرجل شعراً:

أتيتُ إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعد فما نحن من سعدِ

وما سعدِ إلاّ صخرة مستوية من الأرض لا تهدي لغيٍّ ولا رشدِ

و مرَّ به رجل من العرب والثعلب يبول عليه فقال شعراً:

وربّ يبول الثعلبانُ برأسه لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالب(1)التّفسيران أعلاه لا منافاة بينهما، فأصل عبادة الأصنام ـ التي هي وليدة الخرافات ـ هو اتباع الهوى، كما أنّ اختيار الأصنام المختلفة بلا أي منطق، فرع آخر عن أتباع الهوى أيضاً.

وسيأتي بحث مفصل في الملاحظات الآتية، بصدد «اتباع الهوى والشهوات» إن شاء الله.

وأخيراً فإنّ الجواب القرآني الثّالث لهذه الفئة الضالة، هو قوله: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلا).

يعني لا يؤذينك استهزاؤهم ومقولاتهم السيئة وغير المنطقية أبداً، لأنّ الانسان إمّا أن يكون ذا عقل، ويستخدم عقله، فيكون مصداقاً لـ «يعقلون».

_____________________________
 
1 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي، طبقاً لنقل نور الثقلين، ج 4، ص 20.

[264]

أو أنّه فاقد للعلم ولكنّه يسمع قول العلماء، فيكون مصداقاً لـ «يسمعون»، لكن هذه الفئة لا من أُولئك ولا من هؤلاء، وعلى هذا فلا فرق بينهم وبين الانعام. وواضح أنّه لا يتوقع من الأنعام غير الصياح والرفس والأفعال اللامنطقية. بل هم أتعس من الأنعام وأعجز، إذ أن الأنعام لا تعقل ولا فكر لها، وهؤلاء لهم عقل وفكر، وتسافلوا إلى حال كهذه.

المهم هو أنّ القرآن يعبّر بـ «أكثرهم» هنا أيضاً، فلا يعمم هذا الحكم على الجميع، لأنّه قد يكون بينهم أفراد مخدوعون واقعاً، وحينما يواجهون الحق تنكشف عن أعينهم الحجب تدريجياً، فيتقبلوا الحق، وهذا نفسه دليل على أن القرآن يراعي الإنصاف في المباحث القرآنية.

* * *

 

بحثان

1 ـ اتباع الهوى وعواقبه الأليمة

لا شك أنّ في كيان الإنسان غرائز وميولا مختلفة، وجميعها ضروري لإدامة حياته، الغيظ والغضب، حب النفس، حب المال والحياة المادية، وأمثالها، ولا شك أنّ مبدع الوجود خلقها جميعاً لذلك الهدف التكاملي.

لكن المهم هو أنّها تتجاوز حدها أحياناً، وتخرج عن مجالها، وتتمرّد على كونها أداة طيعة بيد العقل، وتصرُّ على العصيان والطغيان، فتسجن العقل، وتتحكم بكل وجود الإنسان، وتأخذ زمام اختياره بيدها.

هذا هو ما يعبرون عنه بـ «اتباع الهوى» الذي هو أخطر أنواع عبادة الأصنام، بل إن عبادة الأصنام تنشأ عنه أيضاً، فليس عبثاً أن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) اعتبر صنم «الهوى» أعظم وأسوأ الأصنام، لذا قال: «ما تحت ظل السماء من إله يعبد

[265]

من دون الله أعظم عند الله من هوىً متبع»،(1)

ونقرأ في حديث آخر عن بعض أئمّة الإِسلام «أبغض إله عُبد على وجه الأرض الهوى».

وإذا تأملنا جيداً في أعماق هذا القول، نعلم جيداً لماذا كان اتباع الهوى مصدر الغفلة، كما يقول القرآن: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه).(2)

و من جهة أُخرى فإن اتباع الهوى منبع الكفر وعدم الإيمان، كما يقول القرآن (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه).(3)

و من جهة ثالثة فإنّ اتباع الهوى أسوأ الضلال، يقول القرآن الكريم: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله).(4)

و من جهة رابعة فإن اتباع الهوى نقطة مقابلة لطلب الحق، ويخرج الإنسان عن طريق الله، كما نقرأ في القرآن: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).(5)

و من جهة خامسة فإن اتباع الهوى مانع من العدل والإنصاف كما نقرأ في القرآن: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا).(6)

و أخيراً، فإنّ نظام السماء والأرض إذا دار حول محور أهواء وشهوات الناس، فإنّ الفساد سوف يعمُّ كلَّ ساحة الوجود: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن).(7)

_____________________________
 
1 ـ تفسير الدر المنثور، في ذيل الآية مورد البحث، نقلا عن تفسير الميزان، ج 15، ص 257.
2 ـ سورة الكهف، الآية 28.
3 ـ سورة طه، الآية 16.
4 ـ سورة القصص، الآية 50.
5 ـ سورة ص، الآية 26.
6 ـ سورة النساء، الآية 135.
7 ـ سورة المؤمنون، الآية 71.

[266]

وفي الروايات الإسلامية أيضاً، نلاحظ تعبيرات مؤثرة في هذا الصدد:

نقرأ في رواية عن على(عليه السلام): «الشقي من انخدع لهواه وغروره».(1)

وفي حديث آخر عنه(عليه السلام)، نقرأ أن: «الهوى عدو العقل».(2)

نقرأ أيضاً: «الهوى أُسُّ المحن».(3)

و عنه(عليه السلام): «لا دين مع هوى»(4) و«لا عقل مع هوى».(5)

والخلاصة أن اتباع الهوى ليس من الدين وليس من العقل، وليس عاقبة اتباع الهوى إلاّ التعاسة والمحن والبلاء، ولا يثمر إلاّ المسكنة والشقاء والفساد.

أحداث حياتنا والتجارب المرّة التي رأيناها في أيّام العمر بالنسبة إلينا وإلى الآخرين، شاهد حي على جميع النكات التي وردت في الآيات والرّوايات أعلاه بصدد اتباع الهوى.

نرى أفراداً يتجرعون المرارة إلى آخر أعمارهم، جزاء ساعة واحدة من أتباع الهوى.

و نعرف شباباً صاروا أسارى مصيدة الإِدمان الخطير، والإِنحرافات الجنسية و الأخلاقية، على أثر انقيادهم للهوى، بحيث تحولوا إلى موجودات ذليلة لا قيمة لها، وفقدوا كل قواهم وطاقاتهم الذاتية.

في التأريخ المعاصر والماضي، نلتقي بأسماء الذين قتلوا آلافاً وأحياناً ملايين من الناس الأبرياء، من أجل أهوائهم، بحيث أن الاجيال تذكر أسماءهم المخزية بالسوء إلى الأبد.

هذا الأصل لا يقبل الإستثناء، فحتى العلماء والعبابدون أهل السابقة مثل

_____________________________
 
1 ـ نهج البلاغه، الخطبة 86 .
2 ـ غرر الحكم، الجملة 265.
3 ـ غرر الحكم، الجملة 1048 .
4 ـ غرر الحكم، الجملة 10531 .
5 ـ غرر الحكم، الجملة 10541 .

[267]

(بلعم بن باعورا) سقطوا من قمة العظمة الإنسانية إلى الهاوية، نتيجة انقيادهم لهوى النفس، حيث يمثلهم القرآن بالكلب النجس الذي لا ينفك عن النباح (الآية 176 سورة الأعراف).

لهذا فلا عجب أن يقول النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين(عليه السلام): «إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان، اتباع الهوى وطول الأمل، أمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحق، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة».(1)

وردت أيضاً في النقطة المقابلة ـ يعني ترك أتباع الهوى ـ آيات وروايات توضح عمق هذه المسألة من وجهة نظر الإسلام، إلى حد أن يُعدّ مفتاح الجنّة الخوف من الله، ومجاهدة النفس: (وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنّة هي المأوى).(2)

يقول علي(عليه السلام): «أشجع الناس من غلب هواه».(3)

و قد نقلت قصص كثيرة في حالات محبي الحق وأولياء الله، والعلماء والعظماء، حيث نالوا المقامات العالية نتيجة ترك أتباع الهوى، هذه المقامات لم تكن ممكنة بالطرق العادية.

 

2 ـ لماذا أَضلُّ من الأنعام!؟

لتجسيد أهمية الموضوع في الآيات أعلاه، يبيّن القرآن أوّلا: أن الذين اتّخذوا اهواءهم آلهه يعبدونها هم كالأنعام، وبعد ذلك يضيف مشدداً: بل هم أضل!

نظير هذا التعبير ورد أيضاً في الآية (172) من سورة الأعراف في أهل النار الذين يؤولون إلى هذا المصير نتيجة عدم الإستفادة من السمع والبصر والعقل،

_____________________________
 
1 ـ سفينة البحار، ج 2، ص 728 (ذيل مادة هوى) ونهج البلاغة، الخطبة 28 و42 .
2 ـ سورة النازعات، الآية 40.
3 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 689 (مادة شجع).

[268]

يقول تعالى: (أُولئك كالأنعام بل هم أضل).

(أضل)و إن كانت واضحة إجمالا، لكن المفسّرين قدموا بحوثاً جيدة في هذه المسألة، وهي ـ مع تحليل وإضافات:

1 ـ إذا لم تفهم الأنعام شيئاً، وليس لها أذن سامعة وعين باصرة، فذلك لعدم استعدادها الذاتي، لكن الأعجز منها الإِنسان الذي تكمن في وجوده خميرة جميع السعادات، والذي أفاض الله عليه قدراً عظيماً من الإستعدادات ليستطيع أن يكون خليفة الله في الأرض، ولكن أفعاله الذميمة بلغت به حدّاً أسقطته عن مستوى الأنعام، وأذهبت كل لياقاته هدراً، وهوى مِن رتبة مسجود الملائكة إلى حضيض الشياطين الذليلة. وهذا هو الأضل والمؤلم حقاً.

2 ـ الأنعام غير مسؤولة تقريباً، وليست مشمولة بالجزاء الإلهي، في حين أنّ البشر الضالين يجب عليهم أن يحملوا عبء كل أعمالهم على عواتقهم، ليروا جزاء أعمالهم بلا نقص أو زيادة.

3 ـ تؤدي الأنعام للإنسان خدمات كثيرة، وتنجز له أعمالا مختلفة، أمّا طغاة البشر العصاة فلا تتأتى منهم أية منفعة، بل يسببون آلافاً من البلاءات والمصائب.

4 ـ الأنعام لا خطر منها على أحد، فإذا كان ثمّة خطر منها، فخطر محدود، لكن الويل من الإنسان غير المؤمن، والمستكبر، عابد الهوى، الذي يؤجج أحياناً نار حرب يذهب ضحيتها الملايين من الناس.

5 ـ إذا لم يكن للأنعام قانون ومنهج، فإنّها تتبع مساراً عيّنه الله لها على شكل غرائز، فهي تتحرك على ذلك الخط. أمّا الإنسان المتمرد، فلا يعترف بقوانين تكوينية ولا قوانين تشريعية، ويعتبر هواه وشهواته حاكماً على كل شيء.

6 ـ الأنعام لا تبرير لديها لأعمالها أصلا، فإذا خالفت فهي المخالفة، وإذا أرادت أن تمضي في طريقها حين تمضي فذلك هو الواقع، أمّا الإنسان المتكبر

]269]

السفاك، عابد الهوى فكثيراً ما يبرر جميع جرائمه بالشكل الذي يدعي فيه أنّه يؤدي مسؤولياته الإلهية والإنسانية.

ولهذها، فلا موجود أكبر خطراً وأشد ضرراً من إنسان متبع للهوى، عديم الايمان ومتمرد.

ولهذا وصمته الآية (22) من سورة الأنفال بلقب (شر الدواب) وكم هو مناسب هذا اللقب؟!!

 

* * *

[270]

 

 

الآيات

 

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الضِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا(45) ثُمَّ قَبَضْنَـهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46)وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورَاً(47) وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَ طَهُوراً(48) لِّنُحْىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَـماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً(49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَـهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً(50)

 

التّفسير

حركة الظلال:

في هذه الآيات كلام في أقسام مهمّة من النعم الإلهية، على سبيل بيان أسرار التوحيد ومعرفة الله، الأُمور التي يزيدنا التفكر فيها معرفة بخالقنا وقرباً منه، ومع الإلتفات إلى أنّ المحاورات الكثيرة في الآيات الماضية كانت مع المشركين، تتّضح صلة وارتباط هذه الآيات بالآيات السابقة.

[271]

في هذه الآيات، كلام في نعمة «الضلال» ثمّ في آثار وبركات «الليل» و«النوم و الإستراحة» و«ضياء» النهار و«هبوب الرياح» و«نزول المطر» و«إحياء الأراضي الموات» و«سقاية» الأنعام والناس.

يقول تعالى أولا: (ألم تر إلى ربّك كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكناً).

لا شك أنّ هذا الجزء من الآية إشارة إلى أهمية نعمة الظلال الممتدة والمتحركة.

الظِلال التي لا تثبت على حال، بل هي في حركة وانتقال.

ولكن أي ظل هو المقصود بالآية؟ ثمّة أقوال في أوساط المفسّرين:

بعضهم يقول: هذا الظل الممتد والمنتشر هو ذلك الظل المنتشر على الأرض بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، وأهنأ الظلال والساعات هي تلك، هذا النور الشفاف، والظل المنبسط، يبدأ عند طلوع الفجر، يتلاشى عند طلوع الشمس حيث يأخذ مكانه الضياء.

و يرى البعض الآخر أن المقصود هو ظل الليل بأجمعه، الذي يبدأ من لحظة الغروب وينتهي عند لحظة طلوع الشمس، لأنّنا نعلم أنّ الليل في الحقيقة هو ظل نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس، وهو ظل مخروطي يكون في الطرف الآخر ومنتشراً في الفضاء الواسع. وهذا الظل المخروطي في حركة دائمة ومع طلوع الشمس على منطقة يزول عنها ليتشكل في أُخرى.

وقال آخرون: المقصود هو الظل الذي يظهر للأجسام بعد الظهر فينبسط شيئاً فشيئاً بالتدريج.

طبيعي، أنّه لو لم تكن الجمل الآتية، لكنّا نفهم من هذه الجملة معنىً واسعاً يشمل جميع الظلال الشاسعة، لكن سائر القرائن التي وردت على أثرها تدل على أن التّفسير الأوّل أكثر تناسباً، لأنّه تعالى يقول على أثر ذلك: (ثمّ جعلنا الشمس عليه دليلا).

]272]

إشارة إلى أن مفهوم الظل لم يكن ليتّضح لو لم تكن الشمس، فالظل من حيث الأصل يخلق بسبب ضياء الشمس، لأنّ «الظل» يطلق عادة على الظلمة الخفيفة اللون التي تظهر الأشياء فيها، وهذا في حالة ما إذا أضاء النور جسماً مانعاً لنفوذ النور، فإن الظل يبدو في الجهة المقابلة. بناءً على هذا فليس تشخيص الظل يتم بواسطة النور طبقاً لقاعدة «تعرف الأشياء بأضدادها» فقط، بل إنّ وجوده أيضاً من بركة النور.

بعد ذلك يبيّن تعالى: ثمّ إنّنا نجمعه جمعاً وئيداً (ثمّ قبضناه إلينا قبضاً يسيراً).

من المعلوم أن الشمس حينما تطلع فإنّ الظلال تزول تدريجياً، حتى يحين وقت الظهر حيث ينعدم الظل تماماً في بعض المناطق، لأنّ الشمس آنئذ تستقر تماماً فوق رأس كل موجود، وفي مناطق أُخرى يصل إلى أقل من طول الشاخص، ولهذا فالظل لا يظهر ولا يختفي دفعةً واحدةً، وهذا نفسه حكمة الخالق، ذلك لأنّ الإنتقال من النور إلى الظلمة بشكل فجائي يكون ضاراً بجميع المخلوقات. لكن هذا النظام المتدرج في هذه الحالة الإنتقالية له أكبر المنفعة بالنسبة إلى الموجودات، دون أن يكون له أي ضرر.

التعبير بـ «يسيراً» إشارة إلى انقباض الظل التدريجي، أو إشارة إلى أن نظام النور والظلمة الخاص، شيء يسير هين بالنسبة إلى قدرة الخالق. وكلمة (إلينا) تأكيد على هذه القدرة أيضاً.

على أية حال، لا شك أن الإنسان كما يحتاج إلى أشعة «النور» في حياته، فهو كذلك يحتاج إلى «الظل» لتعديل ومنع «النور» أوقات اشتداده، فكما أنّ أشعة النور المستديمة تربك الحياة، كذلك فإنّ الظل الدائم الساكن مهلك أيضاً.

في الحالة الأُولى تحترق جميع الموجودات، وفي الحالة الثّانية تنجمد جميعاً، ولكن هذا النظام المتناوب من «النور» و«الظل» هو الذي يجعل الحياة ممكنة وسائغة للإِنسان.

[273]

لذا فإنّ آيات قرآنية أُخرى تعدُّ وجود الليل والنهار، الواحد تلو الآخر، من النعم الإلهية العظيمة، ففي موضع يقول تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء، أفلا تسمعون). ويضيف مباشرة (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون).(1)

و يستنتج من هذا القول أنّ هذا النظام من رحمة الله الذي جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا وتستريحوا فيهما، ولتستفيدوا في تحصيل المعاش من فضله، ولعلكم تشكرون (و من رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).(2)

ولهذا يعد القرآن «الظل الممدود» إحدى نعم الجنّة، حيث لا نورَ مُعش مرهق، ولا ظلمة موحشة.

بعد ذكر نعمة الظلال، تناول القرآن الكريم بالشرح نعمتين أُخريين متناسبتين معها تناسباً تاماً، فيكشف جانباً آخر من أسرار نظام الوجود الدالة على وجود الله، يقول تعالى: (وهو الذي جعل لكم الليل لباساً).

كم هو تعبير جميل ورائع (جعل لكم الليل لباساً)... هذا الحجاب الظلامي الذي لا يستر الناس فقط، بل كل الموجودات على الأرض ويحفظها كاللباس، ويلتحفه الإنسان كالغطاء الذي يستفيد منه أثناء النوم، أو لإيجاد الظلام.

ثمّ يشير تعالى إلى نعمة النوم (و النوم سباتاً).

«السبات» في اللغة من «سبت» (على وزن وقت) بمعنى القطع، ثمّ جاء بمعنى تعطيل العمل للإستراحة، ولذا فإنّ أوّل أيّام الأسبوع يسمّونه في لغة العرب «يوم السبت» وهي تسمية أُخذت من طريقة اليهود، لأنّه يوم تعطيلهم.

_____________________________

 

1 ـ القصص، 71 و72.

2 ـ القصص، 73.

]274]

هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى تعطيل جميع الفعاليات الجسمانية أثناء النوم، لأنّنا نعلم أن قسماً مهماً من الأفعال البدنية يتوقف كلياً في حال النوم، وقسماً آخر مثل عمل القلب وجهاز التنفس يؤدي عمله بصورة وئيدة جدّاً، ويستمر بصورة أكثر هدوءً كيما يرتفع التعب وتتجدد القوى.

النوم في وقته وبحسب الحاجة إليه، مجدد لجميع طاقات البدن، وباعث للنشاط والقوّة، وأفضل وسيلة لهدوء الأعصاب، بعكس الأرق خصوصاً لفترة طويلة ـ فهو ضارٌ جدّاً وقد يؤدي الى الموت أيضاً. ولهذا فإنّ قطع برنامج النوم واحد من أهم أساليب التعذيب حيث يحطم كل مقاومة الإنسان بسرعة.

وفي ختام الآية، أشار تعالى إلى نعمة «النهار» فقال تعالى: (وجعل النهار نشوراً).

كلمة «النشور» في الأصل من النشر بمعنى البسط، في مقابل الطي وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى انتشار الروح في أنحاء البدن، حين اليقظة التي تشبه الحياة بعد الموت، أو إشارة إلى انتشار الناس في ساحة المجتمع، والحركة للمعاش على وجه الأرض. نقرأ في حديث عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه كان يقول كل صباح: «الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور».(1)

فضياء النهار من حيث روح وجسم الإنسان باعث على الحركة حقّاً، كما أن الظلام باعث على النوم والهدوء.

في عالم الطبيعة أيضاً، فإنّ الحركة والنشاط تشمل جميع الموجودات الحية و يستجد انبعاثٌ فيها بمجرّد سطوع أوّل اشعة للشمس، فينطلق كل واحد منها إلى سبيله، وحتى النباتات تتنفس وتتغذى وتنموا وتنضج أمام النور، أمّا عند مغيب الشمس، فكأن الطبيعة تنفخ في صور انتهاء العمل والسكون، الطيور تؤوب إلى

_____________________________

 

1 ـ تفسير القرطبي.

[275]

أوكارها، الموجودات الحية تفيء إلى الإستراحة والنوم، حتى النبانات تغطُّ في نوع من النوم.

بعد بيان هذه المواهب العظيمة ـ التي هي أهم ركائز الحياة الإنسانية ـ يتناول القرآن الكريم موهبة أُخرى مهمّة جدّاً فيقول: (وهو الذي أرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً).

لا يخفى أن دور الرياح هو أنّها الطلائع المتقدمة لنزول الرحمة الإلهية، وإلاّ فلن تنزل قطرة مطر على الأرض العطشى أبداً.

صحيح أن ضياء الشمس يبخر ماء البحار فيتصاعد في الفضاء، وتراكم هذه الأبخرة في طبقة عليا باردة يشكل الغيوم الممطرة، ولكن إذا لم تحمل الرياح هذه الغيوم المثقلة من أعالي المحيطات باتجاه الأراضي اليابسة، فستتحول هذه الغيوم إلى مطر وستهطل على نفس ذلك البحر.

والخلاصة أن وجود بشائر الرحمة هذه، التي تتحرك بشكل دائم في كل ارجاء الأرض، سبب رواء الجفاف على الأرض، ونزول المطر الباعث على الحياة وتشكيل الأنهار والعيون والآبار، ونمو أنواع النباتات.

إنّ قسماً من هذه الرياح المتقدمة لقطعات الغيوم، في حركتها وامتزاجها برطوبة ملائمة، تبعث النسيم المنعش الذي تشم منه رائحة المطر، هذه الرياح مثل البشير الذي يُنبىء عن قدوم مسافر عزيز.

التعبير بـ «الرياح» بصيغة الجمع لعله إشارة إلى أنواع مختلفة منها، فبعض شمالي، وبعض جنوبي، وبعض يهب من الشرق إلى الغرب، ومنها ما يهب من الغرب إلى الشرق، فتكون سبباً في انتشار الغيوم في كل الآفاق.(1)

المهم هنا هو أن «الماء» قد وصف بـ «الطهور» التي هي صيغة مبالغة من

_____________________________

 

1 ـ يجب الإنتباه إلى أنّ «بُشْراً»

ـ بسكون الشين مخفف ـ «بُشُراً» ـ بضم الشين ـ الذي هو جمع «بشور» (على وزن قبول) بمعنى مبشر وبشير.

[276]

الطهارة والنقاء ولهذا فمفهوم الطهارة والتطهير يعني أن الماء طاهر بذاته، ويطهر الأشياء الملوثة... ثمّة أشياء كثيرة غير الماء طاهرة، ولكنّها لا تستطيع أن تكون مطهرة لغيرها!

وعلى أية حال، فمضافاً إلى خاصية الإحياء، فإنّ للماء خاصية كبيرة الأهمية هي التطهير، فلولا الماء فإنّ أجسامنا ونفوسنا وحياتنا تتسخ وتتلوث في ظرف يوم واحد والماء وإن لم يكن قاتلا للميكروب عادة، ولكنّه يستطيع ازالتها وطردها بسبب خاصيته الفذة (الإذابة). ومن هذه الناحية فإنّه يقدم مساعدة مؤثرة جدّاً في مسألة سلامة الإنسان ومكافحة أنواع الأمراض.

مضافاً إلى أن تنقية الروح من التلوث بواسطة الغسل والوضوء تكون بالماء، إذن فالماء مطهر للروح والجسم معاً.

لكن خاصية التطهير هذه مع ما لها من الأهمية، اعتبرت في الدرجة الثّانية، لذا يضيف القرآن الكريم في الآية التي بعدها بأنّ الهدف من نزول المطر هو الإحياء: (لنحي به بلدة ميتاً)(1).

وأيضاً (ونسقيه ممّا خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً).

* * *

 

ملاحظات

و هنا ملاحظات مهمّة:

1 ـ في هذه الآية ورد الكلام عن الأنعام والأناسي الكثيرة مع أن جميع الناس والحيوانات تستفيد من ماء المطر!!

هذه إشارة إلى البدو الرحل وساكني الخيام الذين ليس لديهم ماء مطلقاً

_____________________________

 

1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أن «بلدة»

هنا بمعنى الصحراء، ومع أنّ هذا اللفظ مؤنث، فصفته التي هي «ميتاً»

وردت بصيغة المذكر، ذلك لأن المراد بالمعنى «المكان» وهو مذكر.

[277]

سوى ماء المطر حيث يستفيدون منه مباشرة، هذه النعمة الكبيرة محسوسة لديهم أكثر فحينما تظهر السُحب في السماء ويمطل عليهم المطر، وتمتلىء الأراضي المنخفضة من ماء المطر الزلال، فيرتوون منه ويسقون انعامهم، ويشعرون بنشاط الحياة يدبُّ في وجودهم ووجود أنعامهم.

2 ـ جملة «نسقيه» من مادة «إسقاء» وفرقها عن «سقى»كما قال الراغب في المفردات وآخرون من المفسّرين، هو أنّ الإسقاء بمعنى تهيئة الماء وجعله للسقاية، ليشرب منه الإنسان متى أراد، في حين أن مادة «سقى» بمعنى أن يُعطى من يريد الماء حتى يشرب، وبعبارة أخرى فإن الإسقاء له معنىً أوسع وأعم.

3 ـ في هذه الآية، ورد الكلام أوّلا عن الأراضي الميتة، ثمّ الأنعام ثمّ الأناسي، وهذا التعبير ربّما كان لأن الأراضي إذا لم تحي بالمطر، فلن يكون للأنعام طعام، وإذا لم تعش الأنعام، فلن يستطيع الإنسان إن يتعذى منها.

4 ـ طرح مسألة الإِحياء بالماء بعد مسألة التطهير، قد يكون إشارة إلى الإِرتباط الوثيق بين هاتين المسألتين (حول آثار الإِحياء بالماء، ثمّة بحث مفصل في ذيل الآية 30 سورة الانبياء).

في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ يشير تعالى إلى القرآن فيقول: جعلنا هذه الآيات بينهم بصور مختلفة ومؤثرة ليتذكروا وليتعرفوا من خلاله على قدرة الخالق، لكن كثيراً من الناس لم يتخذوا موقفاً إزاء ذلك إلاّ الإنكار والكفران: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً).

وإن أرجع كثير من المفسّرين مثل العلامة الطبرسي في تفسيره، والشيخ الطوسي في تفسير التبيان، والعلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وآخرين، الضمير في جملة «صرفناه» إلى المطر، حيث يكون مفهومها هكذا: أنزلنا المطر في جهات ومناطق مختلفة من الأرض، ووزعناه بين الناس ليتذكروا هذه النعمة العظمى.

[278]

لكن الحق أن هذا الضمير يرجع إلى القرآن وآياته، لأن هذا التعبير (بصيغة الفعل الماضي والمضارع) ورد في عشرة مواضع من القرآن المجيد، حيث أُرجع في تسعة مواضع إلى آيات القرآن وبياناته صراحة، وأُتبع بجملة «ليذكروا» أو ما يشابهها في موارد متعددة. على هذا فمن البعيد جداً أن يأخذ هذا التعبير مفهوماً آخر في هذا المورد الواحد.

و من حيث الأصل فإنّ «تصريف» التي هي بمعنى التحويل من حال إلى حال، ليس لها تناسب كثير مع نزول المطر، في وقت هي أكثر تناسباً مع آيات القرآن التي تأتي في انحاء مختلفة، أحياناً بصورة وعد، وأحياناً بصورة أمر، وأُخرى بصورة نهي، وأحياناً بصورة قصص الماضين.

* * *

[279]

 

 

الآيات

 

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة نَّذِيزاً(51) فَلاَ تُطِعِ الْكَـفِرِينَ وَجَـهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبيراً(52) وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً(53) وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً(54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا  لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً(55)

 

التّفسير

بحران متجاوران: عذب فرات وملح أُجاج:

الآية الأُولى ـ مورد البحث ـ أشارت إلى عظمة مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، يقول تعالى: لو أردنا لبعثنا نبيّاً في كل مدينة وبلد، لكنّنا لم نفعل هذا وألقينا مسؤولية هداية العالمين على عاتقك: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً).

كما أنّ الله عزَّوجلّ ـ طبقاً للآيات السابقة ـ قادر على إرسال قطرات المطر الباعث على الحياة إلى كل الأراضي الميتة، فله القدرة أيضاً على إنزال الوحي

]280]

والنبوّة على قلب نبيّ في كل قرية، وأن يبعث لكل أُمة نذيراً، لكن الله يختار لعباده ما هو أصلح، لأنّ تمركز النبوّة في وجود فرد واحد يكون باعثاً على وحدة وانسجام الناس، ومانعاً من كل فرقة وتشتت.

و يحتمل أن بعض المشركين أوردوا هذا الاشكال وهو: ألم يكن من الأفضل أن يبعث الله نبيّاً في كل مدينة وقرية؟!

لكن القرآن يقول في ردّهم: لو أراد الله ذلك لفعل، لكن هذا التشتت ليس في صالح الأمم والشعوب قطعاً.

وعلى أية حال، فكما أن هذه الآية دليل على عظمة مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهي دليل كذلك على وجوب وحدة القائد، وعلى ثقل عبء مسؤوليته.

وبنفس هذا الدليل، يبيّن الله تبارك وتعالى في الآية التالية، أمرين إلهيين مهمين يشكلان منهجين أساسيين للانبياء، فيوجه الخطاب أوّلا إلى الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) ويقول: (فلا تطع الكافرين).

لا تخطُ أية خطوة على طريق التوافق مع انحرافاتهم، فإنّ التوافق مع المنحرفين آفة الدعوة إلى الله، قف أمامهم بقوّة، واسعَ إلى إصلاحهم، لكن كن حذراً ولا تتسلم لأهواءهم وخرافاتهم.

أمّا القانون الثّاني فهو: جاهد أُولئك بالقرآن: (وجاهدهم به جهاداً كبيراً).

جهاداً كبيراً بعظمة رسالتك، وبعظمة جهاد كل الأنبياء الماضين، الجهاد الذي يشمل جميع الأبعاد الروحية والفكرية للناس، ويشمل كل الأصعدة المادية والمعنوية.

لا شك أن المقصود من الجهاد في هذا الموضع هو الجهاد الفكري والثقافي والتبليغي وليس الجهاد المسلح، ذلك لأنّ هذه السورة مكية، والأمر بالجهاد المسلح لم يكن قد نزل في مكّة. وعلى قول العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان، أن هذه الآية دليل واضح على أنّ الجهاد الفكري والتبليغي في مواجهة وساوس

]281]

المضلين وأعداء الحق من أكبر أنواع الجهاد.

وروي عن النّبى(صلى الله عليه وآله وسلم): «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وربّما كان هذا الحديث إشارة إلى نفس هذا الجهاد وإلى عظمة ما يؤديه العلماء في التبليغ بالدين، هذا التعبير يجسد أيضاً عظمة مقام القرآن، ذلك لأنّه وسيلة هذا الجهاد الكبير وسلاحه القاطع، فإنّ قدرته البيانية واستدلاله وتأثيره العميق وجاذبيته فوق تصور وقدرة البشر.

الوسيلة المؤثرة والواضحة كوضوح الشمس وضياء النهار، والمطمئنة كطمأنية ستائر الليل، والمحركة كحركة الرياح الخلاقة، والعظيمة بعظمة الغيوم وفيما تبثه قطرات المطر من حياة، حيث أشارت إلى ذلك الآيات السابقة.

و بعد فاصلة وجيزة، يتناول القرآن الكريم مجدداً الإستدلال على عظمة الخالق عن طريق بيان نعمه في النظام الكوني، فيشير بعد ذكر المطر في الآيات السابقة إلى عدم الإختلاط بين المياه العذبة والمالحة: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً).

«مرج» من مادة «المرج» (على وزن فلج) بمعنى الخلط أو الإرسال، وهنا بمعنى المجاورة بين الماء العذب والمالح.

«عذب» بمعنى سائغ وطيب وبارد، و«فرات» بمعنى لذيذ وهنيء.

«ملح» بمعى مالح، و«أجاج» بمعنى مُرّ وحار. (بناء على هذا فملح وأجاج نقطتان مقابلتان لعذب وفرات).

«برزخ» بمعنى حجاب وحائل بين شيئين.

و جملة (حجراً محجوراً) كما أشرنا سابقاً (ذيل الآية 22 من هذه السورة) كانت جملة لاخذ الأمان بين العرب يقولونها عندما يفاجؤون بشخص يخافونه ويرهبونه، يعني (أعفُ عنا، وآمنا، وابتعد عنا).

على أية حال، فهذه الآية تصور واحداً من المظاهر المدهشة لقدرة الخالق

[282]

في عالم مخلوقاته، وكيف يستقر حجاب غير مرئي، وحائل خفي بين البحر المالح والبحر العذب، فلا يسمح لهما بالاختلاط.

و قد اتّضح اليوم أن هذا الحجاب اللامرئي، هو ذلك «التفاوت بين كثافة المالح والعذب» وفي الإصطلاح «تفاوت الوزن النوعي» لهما، حيث يكون سبباً في عدم امتزاجهما إلى مدة طويلة.

و رغم أنّ جماعة من المفسّرين وقعوا في تعب من أجل اكتشاف مثل هذين البحرين في الكرة الأرضية وأين يوجد بحر عذب الماء في جوار بحر مالح الماء ولا يمتزجان!؟ لكن هذه المشكلة انحلت لنا، لأنّنا نعلم أن جميع أنهار الماء، العذب العظيمة التي تصب في البحار عند الساحل، تشكل بحراً من الماء العذب، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف، ويستمر هذا الوضع إلى مدّة طويلة، وبسبب التفاوت في كثافتهما يمتنعان عن الإمتزاج مع بعضهما، فكل واحد منهما يقول للآخر: (حجراً محجوراً).

الملفت هو أنّ سطح البحر يرتفع وينخفض بمقدار كبير بسبب المد والجزر اللذين يحصلان مرّتين في اليوم بتأثير جاذبية القمر وبذلك تغمر المياه العذبة التي شكلت بحراً اليابسة في مصبات تلك الأنهار وأطرافها، وقد استفاد الناس من هذه الحالة منذ قديم الزمان، فحفروا جداول كثيرة في أطراف ملتقى الأنهار مع البحر، وزرعوا اراض شاسعة بالاشجار، حيث تتمّ سقايتها بنفس ذلك الماء العذب الذي ينتشر في مناطق واسعة بواسطة المد والجزر.

توجد حتى الآن في جنوب العراق وإيران ملايين من أشجار النخيل، وقد شاهدنا عن قرب أنّ قسماً منها يسقى فقط بهذه الوسيلة، ويقع على بعد كبير من ساحل البحر، وأحياناً يتغلب الماء المالح حيث تقل المياه التي تصبها الأنهار الكبيرة في البحر في السنين المجدية، فيقلق المزارعون من أهل هذه المنطقة، لأنّ ذلك يضرُّ بزراعتهم ضرراً بالغاً.

]283]

لكن العادة ليست كذلك، فهذا الماء «العذب الفرات» المستقر إلى جوار الماء «المالح والأجاج» يُعدُّ ذخيرة عظيمة لهم.

معلوم أن وجود العلل الطبيعية في مثل هذه المسائل لا يقلل من قيمتها أبداً، وإلاّ فما هي الطبيعة؟ ليست هي إلاّ فعل الله وإرادته ومشيئته، وهو تعالى الذي منح هذه الخواص لهذه الموجودات.

و الملفت للنظر أنّ الإنسان حينما يجتاز هذه المناطق بالطائرة، يرى جيداً هذان الماءان المختلفان في اللون، غير الممتزجين، فيذكّر هذا المشهد الإِنسان بهذه النكتة القرآنية.

إنّ جعل هذه الآية وسط آيات تتعلق بـ «الكفر» و«الإيمان» ربّما تكون أيضاً إشارة وتمثيلا لهذا الأمر، ففي المجتمع الواحد أحياناً، وفي المدينة الواحدة، بل حتى في البيت الواحد أحياناً، يتواجد أفراد مؤمنون كالماء العذب والفرات، مع أفراد بلا إيمان كالماء المالح الأجاج... مع طرازين من الفكر، ونوعين من العقيدة، و نمطين من العمل، طاهر وغير طاهر، دون أن يمتزجا.

في الآية التالية ـ بمناسبة البحث في نزول المطر، وفي البحرين العذب والأجاج المتجاورين يتحدث القرآن الكريم عن خلق الإنسان من الماء، فيقول تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً).

حقاً إن النحت في الماء، وخلق صورة بديعة كهذه على الماء، دليل على عظمة قدرة الخالق، وكان الكلام في الآيات السابقة حول إحياء النباتات بواسطة المطر، و الكلام ـ هنا عن مرحلة أعلى، يعني خلق الإنسان من الماء.

و بين المفسّرين أقوال في المراد من الماء هنا:

ذهب جماعة أنّ المقصود من «بشر» هو الإنسان الأول، يعني آدم(عليه السلام)، ذلك لأنّ خلقه كان من «طين» يعني عجيناً من ماء وتراب، إضافة إلى أن الماء كان أوّل موجود خلقه الله تعالى طبقاً للرّوايات الإسلامية، وخلق الإنسان من ذلك الماء،

[284]

وتنكير «بشر» شاهد على هذا المعنى.

و ذهب جماعة آخرون أن المقصود من «الماء» هو ماء النطفة، حيث يتكون جميع الناس منه بقدرة الخالق، ومع امتزاج نطفة الرجل «الحيمن» الذي يسبح في الماء مع «البويضة» نطفة المرأة، تتكون أول نواة لحياة الإنسان، يعني الخلية الإنسانية الحية الأُولى.

لو تدبّر الإنسان وتأمل في مراحل انعقاد النطفة من بدايتها إلى نهايتها، فسيشاهد الكثير من آيات عظمة الحق وقدرة الخالق فيها، حيث تكفي وحدها لمعرفة ذاته المقدسة تبارك وتعالى.

الشاهد على هذا التّفسير، جملة وردت في آخر الآية، وسنشرحها (فجعله نسباً وصهراً).

فضلا عن هذا، فلا شك أنّ الماء يشكل القسم الأكبر من وجود الإنسان، بالصورة التي يمكن القول أنّ المادة الأساس لوجود أي إنسان هي الماء، لهذا فإن مقاومة الإنسان إزاء العطش قليلة جدّاً، في حين يستطيع الإنسان أن يقاوم أيّاماً وأسابيع حيال قلّة المواد الغذائية.

و يحتمل قوياً أيضاً، أنَّ جميع هذه المعاني تجتمع في مفهوم الآية، أي أن الإنسان الأوّل خلق من ماء، وأن تكوّن جميع أفراد البشر من ماء النطفة أيضاً، وأن الماء يشكل أهم مادة في بناء جسم الإنسان أيضاً... الماء الذي يعتبر من أبسط موجودات هذا العالم، كيف صار مبدأ ايجاد مثل هذا الخلق الجميل!؟ وهذا دليل بيّن على قدرته تبارك وتعالى.

بعد ذكر خلق الإنسان، يورد جلّ ذكره الكلام عن انتشار الأنسان، فيقول: (فجعله نسباً وصهراً).

المقصود من «النسب» هو القرابة التي تكون بين الناس عن طريق الذرية والولد، مثل ارتباط الأب والابن، أو الإخوة بعضهم مع بعض، أمّا المقصود من

[285]

«صهر» التي هي في الأصل بمعنى «الختن» هو الإرتباط الذي يقام بين طائفتين عن هذا الطريق، مثل ارتباط الإنسان بأقرباء زوجته، وهذان الإثنان هما ما يعبر عنه الفقهاء في مباحث النكاح بـ «النسب» و «السبب».

في القرآن المجيد في سورة النساء، أشير إلى المحارم النسبية النسب في سبعة موارد (الأم، البنت، الأخت، العمة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت) وإلى المحارم السببية في أربعة موارد (بنت الزوجة، أم الزوجة، زوجة الابن، زوجة الأب).

من المؤكّد أن هناك وجهات نظر أُخرى لدى المفسّرين في تفسير هذه الجملة، لكن ماقلناه أوضح وأقوى من جميعها.

فمن جملتها أنّ جماعة منهم اعتبروا «النسب» بمعنى أولاد الابن، و «الصهر» بمعنى أولاد البنت، ذلك لأن الإرتباط النسبي يحسب على أساس الآباء لا على أساس الاُمهات.

و كما قلنا بشكل مفصل ـ في ذيل الاية (61) من سورة آل عمران ـ فإنّ هذا اشتباه كبير، استمدَّ من سنن أيّام ما قبل الإسلام، حيث اعتبروا النسب عن طريق الأب فقط، وليس للأم أي أثر، في حين أن من المسلمات في الفقه الإسلامي وبين جميع علماء الإسلام أن الحرمة النسبية من ناحية الأب ومن ناحية الاُم أيضاً (ولزيادة الاطلاع، راجع التّفسير ذيل الآية (61) من سورة آل عمران).

و الجدير بالذكر، أن لدينا حديثاً معروفاً، نقل في كتب الشيعة والسنة، وطبقاً لهذا الحديث فإنّ الآية أعلاه نزلت في النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي(عليه السلام)، وذلك أنّ النّبي زوّج ابنته فاطمة من علي(عليهما السلام)، ولهذا فقد كان علي(عليه السلام) ابن عمّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وزوج ابنته أيضاً، وهذا معنى «نسباً وصهراً».(1)

_____________________________

 

1 ـ مجمع البيان، وتفسير روح المعاني، ذيل هذه الآية.

[286]

ولكن هذه الرّوايات تعتبر بيان للمصاديق الواضحة، ولا تقدح بعمومية مفهوم الآية، فالآية تشمل كل ارتباط يكون عن طريق النسب والمصاهرة، وأحد مصاديقها الواضحة كان ارتباط علي(عليه السلام) من جهتين مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

في ختام الآية يقول تبارك وتعالى بصيغة التأكيد على المسائل الماضية: (وكان ربّك قديراً).

و يبيّن القرآن الكريم في نهاية المطاف في الآية الأخيرة ـ مورد البحث ـ انحراف المشركين عن أصل التوحيد، من خلال المقايسة بين قدرة الأصنام وقدرة الخالق، حيث مرّت نماذج منها في الآيات السابقة، يقول: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم).

من المسلّم أنّ وجود المنفعة والضرر لا يكون وحده معيار العبادة، لكن القرآن يبيّن من خلال هذا التعبير هذه النكتة، وهي أنّهم يفتقدون أية حجة في هذه العبادة، لأنّ الأصنام موجودات عديمة الخاصية تماماً، وفاقدة لأية قيمة، ولأي تأثير سلبي أو إيجابي.

و يضيف القرآن الكريم في ختام الآية أن الكفرة يعين بعضهم بعضاً في مواجهة خالقهم «في طريق الكفر» (وكان الكافر على ربّه ظهيراً).

إن هؤلاء ليسوا وحدهم في طريق الضلال، إنهم يقوي بعضهم بعضاً بشكل قاطع، ويعبئون القوى ويقيمون العراقيل ضد دين الله ونبيّه والمؤمنين الحقيقيين. وإذا رأينا أن بعض المفسّرين يحصر «الكافر» الوارد في هذه الآية في «أبي جهل» فمن باب ذكر المصداق البارز، وإلاّ فإنّ الكافر في كل مورد له معنى واسع يشمل جميع الكفار.

 

* * *

 

]287]

مسألتان

1 ـ وحدة القيادة

في الآية الأُولى ـ مورد البحث ـ قرأنا قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً) ولكننا لم نفعل مثل هذا... ومن المسلّم أن علة ذلك لأن الأنبياء قادة الأُمم، ونعلم أن التعدد في مسألة القيادة يؤدي إلى إضعاف كل أُمّة وشعب، خاصّة و أنّ الكلام هنا عن خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويجب أن تستمر هذه القيادة حتى نهاية العالم. لذا تتّضح ـ أكثر ـ أهمية التمركز والوحدة في القيادة.

القائد الواحد يستطيع أن يوحد جميع القوى، ويمنحها الإنسجام والوحدة. وفي الحقيقة فإن مسألة وحدة القيادة انعكاس لحقيقة التوحيد في المجتمع الإنساني، ويكون في النقطة المقابلة ظواهر الشرك والتفرقة والنفاق.

و ما ورد في الآية (24) من سورة فاطر: (وإن من أُمة إلاّ خلا فيها نذير)فليس ثمّة منافاة مع البحث أعلاه، لأن الكلام فيها عن الأُمة، لا أهل كل مدينة وكل بلد.

فلو أغمضنا النظر عن مقام الأنبياء، فإنّ هذا الأصل صحيح أيضاً حتى في أدنى مستويات القيادة، والشعوب التي صارت أسيرة التعدد في القيادة، إنتهت إلى التجزئة في سائر شؤونها، فضلا عن الضعف والعجز.

 

2 ـ القرآن وسيلة الجهاد الكبير

«الجهاد الكبير» تعبير بليغ عن أهمية منهج الكفاح الرّباني البنّاء.

الملفت للإنتباه في الآيات أعلاه، هو أنّ هذا العنوان قد أُعطي للقرآن، أو بعبارة أخرى: للأشخاص الذين يجاهدون بالقرآن مظاهر الظلال والإنحرافات والتلوثات.

هذا التعبير يبيّن المواجهات المنطقية والعقائدية من جهة، ويكشف عن

[288]

عظمة مقام القرآن من جهة أُخرى.

ورد في بعض الرّوايات: أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمر بن وهب الثقفي حليف بني زهرة... خرجوا ليلة ليستمعوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّانية عاد كلُّ رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة! ثمّ انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثّالثة أخذ كلُّ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود! فتعاهدوا على ذلك، ثمّ تفرقوا.

فلمّا أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثمّ خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني ـ يا أبا حنظلة ـ عن رأيك فيما سمعت من محمّد. فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها.

قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.

قال: ثمّ خرج من عنده حتى أتى أبا جهل، فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟

فقال: ماذا سمعت!؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنّا كفرسي رهان، قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه!!.

[289]

قال: فقام عنه الأخنس وتركه.(1)

نعم، جاذبية القرآن ردت هؤلاء إلى أنفسهم ليالي متوالية، وكانوا حتى بياض الصبح غرقى هذه الجاذبية الإلهية، لكن التكبر والتعصب والحرص على المصالح المادية كان مسلطاً عليهم بحيث منعهم من قبول الحق.

ولا شك أنّ هذا النّور الإلهي له هذه القدرة على أن يجذب إليه كل قلب مستعد أينما كان، ولهذا كان القرآن وسيلة «الجهاد الكبير» في الآيات مورد البحث.

* * *

_____________________________

 

1 ـ سيرة ابن هشام، ج 1، ص 337; وفي ظلال القرآن، ج 6، ص 172 .


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=812
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28