• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة القصص من آية 29 ـ 64 من ( ص 222 ـ 278 ) .

سورة القصص من آية 29 ـ 64 من ( ص 222 ـ 278 )

[ 222 ]

 الآيات

فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاَْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَاَنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاِهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُمْ مِّنْها بِخَبَر أَوْ جَذْوَة مِّنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(29) فَلَمَّآ أَتَـها نُودِىَ مِن شَـطِىءِ الْوَادِ الاَْيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـرَكَةِ مِنَ الْشَّجَرَةِ أَنْ يَـمُوسى إِنِّى أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَـلَمِينَ(30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَـمُوسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ(31) اسْلُكَ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضآءَ مِنْ غَيْرِ سُوء واضْمُمْ إِلَيكَ جَنَاحَكَ مَنَ الرَّهْبِ فَذَنِكَ بُرْهَـنَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَونَ وَمَلاَِيْهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوماً فَـسِقِينَ(32) قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(33) وَأَخِى هَـرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فأَرْسِلْهُ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِايَتِنآ أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَـلِبُونَ(35)

[ 223 ]

التّفسير

الشّرارة الأُولى للوحي:

نصل الآن ـ إلى المقطع السابع ـ من هذه القصّة..

لا يعلم أحد ـ بدّقة ـ ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب(1)،  ولا شكّ أن هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسى(عليه السلام)سنوات عذبة هادئة، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.

في الحقيقة كان من الضروري أن يقطع موسى(عليه السلام) مرحلة عشر سنين من عمره في الغربة إلى جانب النّبي العظيم شعيب، وأن يكون راعياً لغنمه; ليغسل نفسه ممّا تطبّعت عليه من قبل أو ما قد أثرت عليه حياة القصر من خلق وسجية.

كان على موسى(عليه السلام) أن يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترةً ليعرف همومهم وآلامهم، وأن يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.

ومن جهة أُخرى كان موسى بحاجة الى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود وبناء شخصيته. فأيُّ مكان أفضل له من صحراء مدين، وأفضل من بيت شعيب؟!.

إنّ مسؤولية نبي من أولي العزم، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أن يتحملها، بل يمكن أن يقال: إنّ مسؤولية موسى(عليه السلام) ـ بعد مسؤولية النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله) ـ من بين الأنبياء جميعاً، كانت أثقل وأهم، بالنظر لمواجهته الجبابرة على الأرض، وتخليص أمّة من أسرهم، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.

نقرأ في «التوراة» وفي بعض الروايات الإسلامية ـ أيضاً ـ أنّ شعيباً قرر تكريماً لأتعاب موسى وجهوده معه أن يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة، فاتفق أن ولدت جميع الأغنام أو أغلبها ـ في السنة الذي ودّع فيها موسى شعيباً ـ

_____________________________

1 ـ يظهر من الرّوايات الإسلامية أنّ موسى(عليه السلام) عمل مع شعيب عشر سنوات، وهذا الموضوع موجود في كتاب وسائل الشيعة، ج 15، الصفحة 34 (كتاب النكاح.. أبواب المهور. الباب 22 ـ الحديث الرابع).

[ 224 ]

أولادها بتلك العلائم التي قررها شعيب(1)، وقدمها شعيب مع كامل الرغبة إلى موسى.

ومن البديهي أنّ موسى(عليه السلام) لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم، وإن كان وجود «شعيب» الى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.

فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه، وأن يخلصهم من قيود الأسر، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.

وعليه أن ينهي وجودالظلمة وحكام الجور في مصر، وأن يحطّم الأصنام، وأن يجد المظلومون العزة بالله معه، هذا الإحساس كان يدفع موسى للسفر إلى قومه.

وأخيراً جمع موسى أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.

ويستفاد ضمناً من التعبير بـ «الأهل» التي وردت في آيات كثيرة في القرآن أن موسى(عليه السلام) كان عنده هناك غير زوجته ولدٌ أو أولاد، كما تؤيد الرّوايات الإسلامية هذا المضمون، وكما صرّح بهذا المعنى في «التوراة» في سفر الخروج، وإضافةً إلى كل ذلك فإنّ زوجته كانت حاملا أيضاً.

وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق، ولئلا يقع أسيراً بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقاً غير مطروق.

وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله انس من جانب الطور ناراً) ثمّ التفت إلى أهله و(قال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النّار لعلكم تصطلون)أي (تتدفؤون).

«آنست»: مشتقّة من مادة «إيناس» ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة.

_____________________________

1 ـ راجع أعلام القرآن، ص 409.

[ 225 ]

«جذوة» هي القطعة من النّار، وقال بعضهم: بل هي القطعة الكبيرة من الحطب.

ويستفاد من قوله (لعلي آتيكم بخبر) أنّه كان أضاع الطريق، كما يستفاد من جملة (لعلكم تصطلون) أن الوقت كان ليلا بارداً.

ولم يرد في الآية كلامٌ عن حالة زوجة موسى، ولكن المشهور أنّها كانت حاملا ـ كما في كثير من التفاسير والرّوايات ـ وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة.. وكان موسى قلقاً لحالها أيضاً.

(فلّما أتاها) أي أتى النّار التي آنسها ورآها، وجدها ناراً لا كمثل النيران الأُخر فهي غير مقترنة بالحرارة والحريق، بل هي قطعة من النور والصفاء، فتعجب موسى من ذلك (نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن ياموسى إنّي أنا الله ربّ العالمين).

«الشاطىء» معناه الساحل.

و«الوادي» معناه الطريق بين الجبلين، أو ممر السيول.

و«الأيمن» مشتق من «اليمين» خلاف اليسار، وهو صفة للوادي.

و«البقعة» القطعة من الأرض المعروفة الأطراف.

ولا شك أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شىء، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم موسى.. وموسى بشر له جسم وأذنان ولابدّ له ليسمع الكلام من أمواج صوتية.. وطبيعي أن كثيراً من الأنبياء كان الوحي بالنسبة لهم إلهاماً داخلياً، وأحياناً يرون ما يوحى إليهم في «النوم» كما كان الوحي يأتيهم. أحياناً ـ عن طريق سماع الأمواج الصوتية.

وعلى كل حال فلا مجال للتوهم بأنّ الله جسم، تعالى الله عن ذلك.

وفي بعض الرّوايات ورد أن موسى(عليه السلام) حين اقترب من النّار، دقق النظر فلاحظ أن النّار تخرج من غصن أخضر وتضيء وتزداد لحظة بعد لحظة وتبدو

[ 226 ]

أجمل، فانحنى موسى وفي يده غصن يابس ليوقده من النّار، فجاءت النّار من ذلك الغصن الأخصر إليه فاستوحش ورجع إلى الوراء.. ثمّ رجع إليها ليأخذ منها قبساً فأتته ثانية.. وهكذا مرّة يتجه بنفسه إليها ومرّة تتجه النّار إليه، وإذا النداء والبشارة بالوحي إليه من قبل الله سبحانه.

ومن هنا ومع ملاحظة قرائن لا تقبل الإنكار اتّضح لموسى(عليه السلام) أنّ هذا النداء هو نداء إلهي لا غير.

ومع الإلتفات إلى أنّ موسى(عليه السلام) سيتحمل مسؤولية عظيمة وثقيلة.. فينبغي أن تكون عنده معاجز عظيمة من قبل الله تعالى مناسبة لمقامه النبوي، وقد أشارت الآيات إلى قسمين مهمين من هذه المعاجز:

الأُولى قوله تعالى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنّها جان ولّى مدبراً ولم يعقب).

ويوم اختار موسى(عليه السلام) هذه العصا ليتوكأ عليها للاستراحة، ويهشُّ بها على غنمه، ويرمي لها بهذه العصا أوراق الأشجار، لم يكن يعتقد أنّ في داخلها هذه القدرة العظيمة المودعة من قبل الله. وأن هذه العصا البسيطة ستهز قصور الظالمين، وهكذا هي موجودات العالم، نتصور أنّها لا شيء، لكن لها استعدادات عظيمة مودعة في داخلها بأمر الله تتجلى لنا متى شاء.

في هذه الحال سمع موسى(عليه السلام) مرّة أُخرى النداء من الشجرة (أقبل ولا تخف إنّك من الأمنين).

«الجانّ» في الأصل معناه الموجود غير المرئي، كما يطلق على الحيات الصغار اسم (جان) أيضاً; لأنّها تعبر بين الأعشاب والأحجار بصورة غير مرئية.. كما عبر في بعض الآيات عن العصا بـ (ثعبان مبين) [سورة الأعراف الآية 107 وسورة الشعراءالآية 32].

وقد قلنا سابقاً: إنّ هذا التفاوت في التعابير ربّما لبيان الحالات المختلفة

[ 227 ]

لتلك الحية.. التي كانت في البداية حية صغيرة، ثمّ ظهرت كأنّها ثعبان مبين.

كما ويحتمل أن موسى(عليه السلام) رآها في الوادي بصورة حية، ثمّ في المرات الأُخرى بدأت تظهر بشكل مهول (ثعبان مبين)

وعلى كل حال، كان على موسى(عليه السلام) أن يعرف هذه الحقيقة، وهي أنّه لا ينبغي له الخوف في الحضرة الإلهية; لأنّ الأمن المطلق حاكم هناك، فلا مجال للخوف إذاً.

كانت المعجزة الأُولى آية «من الرعب»، ثمّ أمر أن يظهر المعجزة الثّانية وهي آية أُخرى «من ا لنور والأمل» ومجموعهما سيكون تركيباً من «الإنذار» و«البشارة» إذْ جاءه الأمر (أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء).

فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئاً عن مرض ـ كالبرص ونحوه ـ بل كان نوراً الهياً جديداً.

لقد هزّت موسى(عليه السلام) مشاهدته لهذه الأُمور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية.. ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب، فقد أمر أن يضع يده على صدره (واضمم إليك جناحك من الرهب).

قال بعضهم: هذه العبارة (واضمم إليك جناحك) كناية عن لزوم القاطعية والعزم الراسخ في أداء المسؤولية بالنسبة لرسالته، وأن لا يخاف أو يرهب شيئاً أو أحداً أو قوّة مهما بلغت.

وقال بعضهم: حين ألقى موسى(عليه السلام) عصاه فرآها كأنّها «جان» أو (ثعبان مبين)رهب منها، فمدّ يده ليدافع عن نفسه ويطردها عنه، لكن الله أمره أن يضم يده إلى صدره، إذ لا حاجة للدفاع فهي آية من آياته.

والتعبير بـ «الجناح» [الذي يستعمل للطائر مكان اليد للإنسان] بدلا عن اليد في غاية الجمال والروعة.. ولعل المراد منه تشبيه هذه الحالة بحالة الطائر حين يدافع عن نفسه وهو أمام عدوّه المهاجم، ولكنه يعود إلى حالته الأُولى ويضم

[ 228 ]

جناحه إليه عندما يزول عنه العدو ولا يجد ما يرهبه!.

وجاء موسى النداءُ معقّباً: (فذانك برهانان من ربّك إلى فرعون وملئه إنّهم كانوا قوماً فاسقين).

فهم طائفة خرجت عن طاعة الله وبلغ بهم الطغيان مرحلة قصوى.. فعليك ـ يا موسى ـ أن تؤدي وظيفتك بنصحهم، وإلاّ واجهتهم بما هو أشد.

هنا تذكر موسى(عليه السلام) حادثةً مهمة وقعت له في حياته بمصر، وهي قتل القبطي، وتعبئه القوى الفرعونية لإلقاء القبض عليه وقتله.

وبالرغم من أنّ موسى(عليه السلام) كان يهدف عندها الى انقاذ المظلوم من الظالم الذي كان في شجار معه، فكان ما كان.. إلاّ أن ذلك لا معنى له في منطق فرعون وقومه، فهم مصممون على قتل موسى إن وجدوه.. لذلك فإنّ موسى: (قال ربّ إنّي قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون).

وبعد هذا كلّه فإنّي وحيدٌ ولساني غير فصيح (وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إنّي أخاف أن يكذبون).

كلمة «أفصح» مشتقّة من «الفصيح» وهو في الأصل كون الشيء خالصاً، كما تطلق على الكلام الخالص من كل حشو وزيادة كلمة «الفصيح» أيضاً.

و«الردء» معناه المعين والمساعد.

وعلى كل حال فلأن هذه المسؤولية كانت كبيرة جدّاً، ولئلا يعجز موسى عن أدائها، سأل ربّه أن يرسل معه أخاه هارون أيضاً.

فأجاب الله دعوته، وطمأنه بإجابة ما طلبه منه و (قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً) فالسلطة والغلبة لكما في جميع المراحل.

وبشرهما بالنصر والفوز، وأنّه لن يصل إليهما سوء من أولئك: إذ قال سبحانه: (فلا يصلون إليكما بآياتنا) فبهذه الآيات والمعاجز لن يستطيعوا قتلكما أو الاضرار بكما (أنتما ومن اتبعكما الغالبون).

[ 229 ]

فكان ما أوحى الله إلى موسى أملا كبيراً وبشارةً عظمى اطمأن بها قلبه، وأصبح راسخ العزم والحزم، وسنجد آثار ذلك في الصفحات المقبلة حين نقرأ الجوانب الأُخرى من قصّة موسى(عليه السلام) إن شاء الله(1).

 

* * *

 

 

_____________________________

1 ـ كانت لنا بحوث عديدة في هذا المجال، فراجعها إن شئت في «تفسير سورة الأعراف» و «تفسير سورة طه» و «تفسير سورة الشعراء». وفي بعض السور الأُخرى.

[ 230 ]

الآيتان

فَلَمَّـا جَآءَهُمْ مُّوسى بِايَـتِنا بَيِّنَـت قَالُوا مَا هَذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرَىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذا فِى ءَابآئِنَا الاَْوَّلِينَ(36) وَقَالَ مُوسى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جآءَ بَالْهُدى مِنْ عِندِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَـقِبَةُ الدّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ(37)

 

التّفسير

موسى في مواجهة فرعون:

نواجه المقطع الثامن من هذه القصّة العظيمة.. لقد تلقى موسى(عليه السلام) من ربّه الأمر بأن يصدع بالنبوّة والرسالة في تلك الليلة المظلمة والأرض المقدسة، فوصل إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حُمِّلَ.. وأبلغه الرسالة الملقاة عليهما.. فذهبا معاً إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله، وبعد عناء شديد استطاعا أن يصلا إلى فرعون وقد حف به من في القصر من جماعته وخاصته، فأبلغاه الدعوة إلى الله ووحدانيّته.. ولكن لنرَ ما جرى هناك ـ في قصر فرعون ـ مع موسى وأخيه.

يقول القرآن في أوّل آية من هذا المقطع: (فلمّا جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلاّ سحر مفترى).

[ 231 ]

وأنكروا أن يكونوا سمعوا مثل ذلك (ما سمعنا بهذا في بآبائنا الأولين).

فواجهوا موسى متوسّلين بحربة توسّل بها جميع الجبابرة والضالّون على طول التاريخ، حين رأوا المعاجز من أنبيائهم.. وهي حربة «السحر» لأنّ الأنبياء يأتون بأمور خارقة للعادات، و«السحر» خارق للعادة «لكن اين هذا من هذه»؟

السحرة اُناس منحرفون وأهل دنيا وعبيد لها وأساس عملهم قائم على تحريف الحقائق، ويمكن معرفتهم جيداً بهذه العلامة.. في حين أنّ دعوة الأنبياء ومحتواها شاهد على صدق معاجزهم..

ثمّ إنّ السحرة طالما يعتمدون على القدرة البشرية فإنّ عملهم محدود، أمّا الأنبياء الذين يعتمدون على قوّة الهية، فإن معاجزهم عظيمة وغير محدودة!..

التعبير بـ«الآيات البيّنات» عن معاجز موسى(عليه السلام) بصيغة الجمع، ربّما يراد به أن معاجز أُخرى غير المعجزتين هاتين، أو أن كل معجزة من معجزتيه مركبة من عدّة معاجز.

فتبديل العصا إلى ثعبان عظيم معجزة، وعودة الثعبان إلى عصا معجزة أُخرى.

والتعبير بـ «مفترى» مأخوذة من «فرية» بمعنى التهمة والكذب لأنّهم قصدوا أنّ موسى يكذب على اللّه!.

والتعبير بـ(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) مع أن نداء الأنبياء ودعوتهم من أمثال نوح وإبراهيم ويوسف(عليهم السلام) كانا من قبل موسى(عليه السلام) في هذه الأرض، فجميعهم دعوا إلى عبادة الله سبحانه. هذا التعبير أساسه طول المدّة وبعد العهد عليهم، أو أنّهم يريدون أن يقولوا: إنّ آباءنا ـ أيضاً ـ لم يذعنوا لدعوة الأنبياء قبلك!.

لكن موسى(عليه السلام) أجابهم بلهجة التهديد والوعيد، حيث يكشف لنا القرآن هذا الحوار (وقال موسى ربّي اعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة

[ 232 ]

الدار).

إشارة إلى أنّ الله يعلم حالي، وهو مطلع عليّ بالرغم من اتهامكم إيّاي بالكذب.. فكيف يمكن أن يمكنني الله من الأُمور الخارقة للعادات لكي أضل بها عباده؟

فعلمه بحالي ومنحه لي هذه القدرة على الإتيان بالمعجزات دليل على حقانية دعوتي.

ثمّ بعد هذا، الكاذب قد يقضي فترة بين الناس بالكذب والخديعة، لكن سرعان ما يفتضح أمره، فانتظروا لتشهدوا من تكون له العاقبة والإنتصار.. ولمن يكون الخزي والإندحار!؟

ولو كان كلامي كذباً فأنا ظالم و(إنّه لا يفلح الظالمون).

وهذا التعبير يشبه تعبيراً آخر في الآية (69) من سورة «طه» إذْ جاء بهذه الصيغة «ولا يفلح الساحر حيث أتى».

وهذه الجملة لعلها إشارة ا لى الفراعنة المعاندين والمستكبرين ضمناً، وهي أنّكم مقتنعون بمعاجزي ودعوتي الحقّة، ولكنّكم تخالفونني ظلماً.. فعليكم أن تعرفوا أنّكم لن تنتصروا أبداً، والعاقبة لي فحسب.

والتعبير بـ (عاقبة الدار) ربّما كان إشارة لعاقبة الدار الدنيا، أو لعاقبة الدار الآخرة، أو لعاقبة الدارين جميعاً، وبالطبع فإنّ المعنى الثّالث أجمع وأنسب حسب الظاهر.

بهذا المنطق المؤدب أنذر موسى(عليه السلام) فرعون وقومه بالهزيمة في هذه الدنيا وفي الأُخرى!.

 

* * *

 

[ 233 ]

الآيات

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـأَيـُّهَا الْمَلاَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إَلَـه غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى يَـهَـمَـنُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلى إِلَـهِ مُوسَى وَإِنِّى لاََظـُنُّهُ مِنَ الْكَـذِبِينَ(38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَيُرْجَعُونَ (39)فَأَخَذْنَـهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْظَّـلِمِينَ(40) وَجَعَلْنَـهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ  لاَ يُنْصَرُونَ(41) وَأَتْبَعْنَـهُمْ فِى هَـذهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ هُمْ مِّنْ الْمَقْبُوحِينَ(42)

 

التّفسير

كيف كان عاقبة الظالمين؟

نواجه هنا المقطع التاسع من هذا التاريخ المليء بالأحداث والعبر.

هذا المقطع يعالج مسألة صنع فرعون البرج ـ أو بنائه الصرح المعروف ـ للبرهنة على وهمية دعوة موسى(عليه السلام).

ونعرف أن من سنن الساسة القدماء في أعمالهم أنّه كلما وقعت حادثة مهمّة

[ 234 ]

على خلاف رغباتهم وميولهم (ومن أجل التمويه وايهام الناس) يبادرون إلى خلق جوّ جديد ليلفتوا أنظار الناس إليه، وليصرفوهم عن تلك الحادثة المطلوبة.

ويبدو أنّ بناء «الصرح العظيم» حدث بعد ما جرى لموسى من مواجهته السحرة ماجرى.. لأنّه يستفاد من سورة «المؤمن» أن هذا العمل «بناء البرج» تمّ حين كان الفراعنة يخططون لقتل موسى(عليه السلام)، وكان مؤمن آل فرعون يدافع عنه.. ونعرف أنّه قبل أن يواجه موسى(عليه السلام) السحرة لم يكن مثل هذا العمل ولا مثل هذا الحديث، وحيث أن القرآن ا لكريم تحدّث عن مواجهة موسى(عليه السلام) للسحرة في سورة «طه، والأعراف، ويونس، والشعراء» فإنّه لم يتطرق إليها هنا. وإنّما تحدث هنا وفي سورة المؤمن عن بناء البرج.

وعلى كل حال فقد شاع خبر انتصار موسى(عليه السلام) على السحرة في مصر، وإيمان السحرة بموسى زاد في الأمر أهمية، كما أن موقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جديّ شديد.

واحتمال تيقظ الجماهير التي في أسر الذل كان كبيراً جدّاً.. فيجب صرف أفكار الناس بأية قيمة كانت، واشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية مقرونة ببذل من الجهاز الحكومي، لإغفال الناس وتحميقهم!

وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس فرعون للتشاور في معالجة الموقف، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع: (وقال فرعون يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري).

فأنا إلهكم في الأرض.. أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده، ولكنني سأتحقق في الأمر ولا أترك الإحتياط، فالتفت إلى وزيره هامان وقال: (فأوقد لي يا هامان على الطين) ثمّ أصدر الاوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّاً لأصعد عليه واستخبر عن إله موسى.

(فاجعل لي صرحاً لعلي اطلع الى إله موسى وإنّي لأظنّه من الكاذبين).

[ 235 ]

لم لَمْ يذكر فرعون اسم الآجر، واكتفى بالقول: (فأوقد لي يا هامان على الطين)؟ قال بعضهم: هذا دليل على أن الآجر لم يكن متداولا حتى ذلك الحين، وإنّما ابتكره الفراعنة من بعد.. في حين أن بعضهم يرى أن هذا التعبير أو هذا البيان فيه نوع من التكبر وموافق لسنّة الجبابرة.

وقال بعضهم: إنّ كلمة «آجر» ليست فصيحة، لذلك لم يستعملها القرآن، وإنّما استعمل هذا التعبير المتقدم على لسان فرعون!.

هنا ناقش جماعة من المفسّرين كالفخر الرازي والآلوسي مسألة «الصرح»، وهل بنى فرعون «الصرح» حقّاً أم لا؟!

ويبدو أن الذي شغل فكر المفسّرين هو أن هذا العمل لم يكن متزّناً بأيّ وجه وأي حساب.

ترى.. ألم يكن الناس قد صعدوا الجبال من قبل فرأوا منظر السماء كما هو على الأرض؟.

وهل البرج الذي يبنيه البشر أكثر ارتفاعاً من الجبل؟.

وأي أحمق يصدق أنّه يمكن الوصول إلى السماء بواسطة مثل هذا البرج؟!

ولكن أُولئك الذين يفكرون مثل هذا التفكير غفلوا عن هذه المسألة، وهي أن مصر لم تكن أرضاً جبلية، وبعد هذا كلّه نسوا أنّ الطبقة العامّة لأهل مصر بسطاء ويخدعون بشتى الوسائل.

حتى في عصرنا الذي يسمى عصر العلم وعصر النور، نجد مسائل تشبه ما وقع في العصور الماضية ينخدع بها الناس.

وعلى كل حال، فطبقاً لما ورد في بعض التواريخ، فإنّ هامان أمر بأرض واسعة ليبنى عليها الصرح أو البرج، وهيّأ خمسين ألف رجل من العمال والمهندسين لهذا العمل المضني، وآلاف العمال لتهيئة الوسائل اللازمة لهذا البناء، وفتح أبواب الخزائن وصرف أموالا طائلة في هذا السبيل، واشغل عمالا كثيرين

[ 236 ]

في هذا البناء.. حتى أنّه ما من مكان إلاّ وتسمع فيه أصوات هذا البناء أو أصداؤه!.

وكلما اعتلى البناء أكثر فأكثر كان الناس يأتون للتفرج، وما عسى أن يفعل فرعون بهذا البناء وهذا البرج.

صعد البناء إلى مرحلة بحيث أصبح مشرفاً على جميع الأطراف. وكتب بعضهم: إنّ المعمارين بنوا هذا البرج بناءً بحيث جعلوا حوله سلالم حلزونية يمكن لراكب الفرس أن يرتقي الى أعلى البرج.

ولمّا بلغ البناء تمامه ولم يستطع البناؤون أن يعلوه أكثر من ذلك.. جاء فرعون بنفسه يوماً وصعده بتشريفات خاصة.. فنظر إلى السماء فوجدها صافية كما كان ينظرها من الأرض لم تتغير ولم يطرأ عليها جديد.

المعروف أنّه رمى سهماً إلى السماء، فرجع السهم مخضباً بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل.. فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس: اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى(1).

ومن المسلم به أن جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعاً أعمى وأصم، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق!.

ونقلوا هذا الخبر أيضاً، وهو أنّ البناء لم يدم طويلا «وطبعاً لا يدوم» أجل لقد تهدم البناء وقتل جماعة من الناس.. ونقلوا في هذا الصدد قصصاً أُخرى، وحيث أن لم تتّضح صحتها لنا فقد صرفنا عنها النظر.

والذي يلفت النظر أن فرعون في كلامه هذا (ما علمت لكم من إله غيري)كان قد استعمل نهاية الخبث ومنتهى الشيطنة.. إذ كان يرى من المسلّم به أنّه إله!!.. وكان مدار بحثه: هل يوجد إله غيره؟!!.. ثمّ ينفي أن يكون هناك إله سواه إله; لعدم وجود الدليل!!

_____________________________

1 ـ مقتبس من تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآيات محل البحث، ج 89، ص 362.

[ 237 ]

وفي المرحلة الثّالثة والأخيرة، ومن أجل أن يقيم الدليل على عدم وجود إله غيره بنى ذلك الصرح!.

كل هذه الأُمور تؤكّد جيداً أنّه كان يعرف تلك المسائل، إلاّ أنّه كان يضلل الناس ويصرف أفكارهم عن الحق، ليحفظ موقعه وحكومته!.

بعد هذا كلّه يتحدث القرآن عن استكبار فرعون ومن معه، وعدم اذعانهم لمسألتي «المبدأ والمعاد» بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من إجرام وجنايات بسبب انكار هذين الاصلين فيقول: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحقّ وظنوا أنّهم إلينا لا يرجعون).

هذا الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع أن يبعد عن نفسه بعوضة، وربّما قتله ميكروب لا يرى بالعين المجرّدة كيف يمكن له أن يدعي العظمة والألوهيّة!؟.

ورد في الحديث القدسي أنّ الله سبحانه يقول: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النّار»(1).

ومن البديهي أنّ الله لا يحتاج إلى أوصاف كهذه.. ولكن حالة الطغيان والعدوان تستولي الإنسان حينما ينسى نفسه، وتملأ ريح الكبر والغرور فكره!

لكن لننظر إلى أين وصل هذا الغرور بفرعون وجنوده؟!

يقول القرآن الكريم: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ).

أجل، لقد جعلنا سبب موتهم في مصدر معيشتهم، وجعلنا النيل الذي هو رمز عظمتهم وقوّتهم مقبرةً لهم!.

من الطريف أنّ القرآن يعبّر بـ«نبذناهم» من مادة «نبذ» على زنة «نبض» ومعناه رمي الأشياء التي لا قيمة لها وطرحها بعيداً، تُرى ما قيمة هذا الإنسان الأناني المتكبر المتجبّر الجاني المجرم؟!

أجل، لقد نبذنا هؤلاء الذين لا قيمة لهم من المجتمع البشري، وطهّرنا

_____________________________

1 ـ تفسير روح المعاني، التّفسير الكبير، للفخر الرازي، تفسير الميزان وتفاسير أخر ذيل الآية محل البحث.

[ 238 ]

الأرض من لوث وجودهم.

ثمّ، يختتم الآية بالتوجه إلى النّبي(صلى الله عليه وآله) قائلا: (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين).

هذا النظر ليس بعين «البصر» بل هو بعين «البصيرة»، وهو لا يخص ظلمة الماضي و فراعنة العهد القديم، بل إن ظلمة هذا العصر ليس لهم من مصير سوى هذا المصير المشؤوم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا في شأنهم: (وجعلناهم أئمّة يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون).

هذا التعبير أوجد إشكالا لدى بعض المفسّرين، إذ كيف يمكن أن يجعل الله أناساً أئمة للباطل؟!

ولكن هذا الأمر ليس معقداً.. لأنّه أولا.. إن هؤلاء هم في مقدمة جماعة من أهل النّار، وحين تتحرك الجماعات من أهل النّار، فإنّ هؤلاء يتقدمونهم إلى النّار! فكما أنّهم كانوا في هذه الدنيا أئمّة الضلال، فهم في الآخرة ـ أيضاً ـ أئمّة النّار، لأنّ ذلك العالم تجسم كبير لهذا العالم!.

ثانياً.. كونهم أئمّة الضلال ـ في الحقيقة ـ نتيجة أعمالهم أنفسهم، ونعرف أن تأثير كل سبب هو بأمر الله، فهم اتخذوا طريقاً يؤدي بهم إلى الضلال وينتهي بهم إلى أن يكونوا أئمّة الضالين، فهذه حالهم في يوم القيامة!.

ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم في الدنيا والآخرة! (واتبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة هم من المقبوحين!)(1) لعنة الله معناها طردهم من رحمته، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحاً ومساءً.. وفي كل وقت. وأحياناً تشملهم اللعنة العامة. وأحياناً يأتي اللعن خاصّة

_____________________________

1 ـ «المقبوح» مشتق من «القبح» ومعناه السوء. ما فسّره بعضهم بأنّ المقبوح معناه المطرود أو المفضوح أو المغضوب عليه وما شاكلها، فهو من التّفسير بلازم المعنى، وإلاّ فالمقبوح معناه واضح.

[ 239 ]

لبعضهم. حيث أنّ كل من يتصفح تأريخهم يلعنهم، ويتنفّر من أعمالهم.

وعلى كل حال فإنّ سوء أعمالهم في هذه الدنيا، هو الذي قبّح وجوههم في الدار الآخرة «يوم القيامة»، لأنّه يوم البروز ويوم هتك الحُجب.

* * *

 

ملاحظة!

أئمّة «النّور» وأئمّة «النّار»

هناك طائفتان من الأئمة في منطق القرآن الكريم، فأئمة للمتقين يهدونهم إلى الخيرات، كما ورد في شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: (وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)(1).

فهؤلاء أئمّة أصحاب مناهج واضحة، لأنّ التوحيد الخالص والدعوة إلى الخير والعمل الصالح والحق والعدالة، تشكّل متن مناهجهم.. فهم أئمّة النور، وخطهم متصل بسلسلة الأنبياء والأوصياء الى خاتم النّبيين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوصيائه عليهم السلام.

وهناك أئمّة للضلال.. وقد عبّرت عنهم الآيات محل البحث بأنّهم: (أئمّة يدعون إلى النّار)!.

ومن خصائص هاتين الطائفتين من الأئمّة، كما ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)مايلي: «إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان، قال الله تبارك وتعالى: (وجلعناهم أئمّة يهدون بأمرنا)لا بأمر الناس يقدمون أمر اللّه قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، قال: (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النّار) يقدمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل

_____________________________

1 ـ سورة الأنبياء، الآية 73.

[ 240 ]

حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف كتاب الله»(1).

وبهذا المعيار يتّضح معرفة هاتين الطائفتين من الأئمة..ففي يوم القيامة الذي تتمايز فيه الصفوف، كل جماعة تمضي خلف إمامها، فأهل النار إلى النّار، وأهل الجنّة إلى الجنّة.. كما يقول القرآن الكريم: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم)(2).

وقلنا مراراً: إنّ يوم القيامة تجسم عظيم عن هذا العالم «الصغير» وأُولئك الذين ارتبطوا بإمام معين واقتفوا أثره، فهم سائرون خلفه هناك أيضاً.

ينقل «بشر بن غالب» عن الإمام أبي عبدالله الحسين(عليه السلام) أنّه سأله عن تفسير الآية (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) فقال(عليه السلام): «إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، وهؤلاء في النّار.. وهو قوله عزّوجلّ (فريق في الجنّة وفريق في السعير)(3).

من الطريف أن فرعون ا لذي تقدّم قومه في هذه الدنيا وأغرقهم بمعيّته في أمواج النيل، يقدم قومه يوم القيامة ـ أيضاً ـ يخزيهم بمعيته في نار جهنم، إذ يقول القرآن في شأنه: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النّار وبئس الورد المورود).(4)

ونختم هذا البحث بحديث الإمام علي(عليه السلام) في شأن المنافقين حيث يقول(عليه السلام): «ثمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النّار بالزور والبهتان، فولّوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس»(5).

* * *

 

_____________________________

1 ـ تفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.

2 ـ الإسراء، 71.

3 ـ أمالي الصدوق لما ورد في نور الثقلين، ج 3، ص 192.

4 ـ سورة هود، 98.

5 ـ راجع نهج البلاغة، الخطبة 210.

[ 241 ]

الآيات

وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـبَ مِنْ بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُْولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسَ وَهُدىً ورَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلى مُوسَى الاَْمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـهِدِينَ(44) وَلَـكِنَّآ أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا وَلَـكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(45) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـكِن رَّحْمَةً مِّن رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَومَاً مَّآ أَتَـهُم مِّن نَّذِير مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(46)

 

التّفسير

الأخبار الغيبيّة هي من عند الله وحده..

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصّة موسى وما تحمله من معان كبيرة!.

وهي تتحدث عن نزول الأحكام، والتوراة، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء!.

[ 242 ]

يبدأ هذا المقطع بالآية التالية (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الأُولى بصائر للناس وهدىً ورحمةً لعلّهم يتذكرون).

والكلام في أنّ المقصود من «القرون الأولى» أي الأقوام السابقين.. من هم؟!

قال بعض المفسّرين: هو إشارة إلى الكفّار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم.. لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحى اثار الأنبياء السابقين، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماويّ جديد في أيدي البشر!.

وقال بعض المفسّرين: هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين، لأنّ الله سبحانه آتى موسى كتاب «التّوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الأُولى في الآية شاملا لجميع الأقوام.

و«البصائر» جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين.. و«الهدى» و«الرحمة» أيضاً من لوازم البصيرة.. وعلى أثرها تتيقظ القلوب(1).

ثمّ يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة، وهي أنّ ما ذكرناه لك «يارسول الله، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن، لأنّك لم تكن «حاضراً» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك.. بل هو من الطاف الله عليك، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس.. يقول القرآن: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي الأمر بالنبوّة (وما كنت من الشاهدين).

الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسى(عليه السلام) حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب.

_____________________________

1 ـ «البصائر» جمع «بصيرة» وأمّا «البصر» فجمعه «أبصار».

[ 243 ]

وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق.. ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية «60» (فاتبعوهم مشرقين) في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل، هو إشارة إلى هذا المعنى!

ثمّ يضيف القرآن (ولكنّا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر) وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نوراً وهدى للناس.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم [أي على أهل مكّة] آياتنا(1) ولكنا كنا مرسلين).. وأوحينا إليك هذه ا لأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية.. لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين(2).

وتأكيداً على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا: (وما كنت بجانب الطور(3) إذ نادينا) اي نادينا موسى بأمر النبوّة، ولكننا أنزلنا اليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك (ولكن رحمةً من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون).

وخلاصة الكلام: أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين، ولم تكن فيهم من الشاهدين، لتتلو كل ذلك على

_____________________________

1 ـ «ثاوي» مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالإستقرار، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى.

2 ـ كان بين ظهور موسى(عليه السلام) وظهور النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله) حدود ألفي عام.

3 ـ قال بعض المفسّرين: يحتمل أن يكون المراد من «نادينا» هنا هو النداء الثّاني عندما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور، فجاءه النداء من الله، ولكن هذا الإحتمال بعيد جداً; لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضراً هناك ولم يكن من الشاهدين، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور «فلاحظوا بدقة».

[ 244 ]

قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون.

هنا ينقدح هذا السؤال: كيف يقول القرآن: (لتنذر قوماً ما اتاهم من نذير من قبلك) [أي العرب المعاصرين للنبي محمّد(صلى الله عليه وآله)] في حين أنّنا نعرف أن الأرض  لا تخلو من حجّة لله، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسى(عليه السلام)).

وفي الجواب على ذلك نقول: المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتاباً سماويّاً بيّناً.. لأنّ بين عصر عيسى(عليه السلام) وظهور نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) قروناً مديدة، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) نبيّ من أولي العزم، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين.

يقول الإمام علي(عليه السلام) في هذا الصدد «إن الله بعث محمّداً(صلى الله عليه وآله) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدعي نبوة، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم»(1).

* * *

 

_____________________________

1 ـ نهج البلاغه، الخطبة 33.

[ 245 ]

الآيات

وَلَوْلاَ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيْهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـتُكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ (47)فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بَمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَـهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَـفِرُونَ(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَـب مِّنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إَنْ كُنتُمْ صَـدِقِينَ(49) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَهُ بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ الله إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(50)

 

التّفسير

ذريعة للفرار من الحق:

حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبي(صلى الله عليه وآله) لينذر قومه، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في

[ 246 ]

قومه فيقول: إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا ا ذا أردنا انزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا: لماذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا احكامك لنؤمن به (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)(1).

هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق، وهو أن طريق الحقّ واضحٌ وبيّن... وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام.. وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل، وحتى مع عدم إرسال الرسل، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأُمور ممكنة.

ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة، إتماماً للحجّة ونفياً للعذر، لئلا يقول أحد: إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.

وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها، ونقرأ في سورة النساءالآية (65) أيضاً (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً).

ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية، واستمروا على طريق الإنحراف، فتقول الآية: (فلما جاءهم الحقّ من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى).

_____________________________

1 ـ يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب «لولا» الأُولى محذوف وتقديره «لما أرسلنا رسولا» أو «لما وجب إرسال الرسل».. وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحاً.. وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا.. وإلاّ فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أُخرى، على أنّ واحداً من فوائد إرسال الرسل ـ أيضاً ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد.. «فلاحظوا بدقّة».

[ 247 ]

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولِمَ لِمَ... الخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج، ويقول: (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا) أي موسى وهارون، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق (وقالوا إنا بكلّ كافرون).

والتعبير بـ «سحران» بدلا عن «ساحران» هو لشدة التأكيد، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول: هو العدل بعينه، أو بعينه، أو السحر وهكذا.

كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضاً ـ وهو: إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسى(عليه السلام) وهما عصاه ويده البيضاء!

وإذا قيل: ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة، فهذه الأُمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح.. وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمراً جديداً.. فجميعهم من نسيج واحد، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماماً، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفاً، إلاّ أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيراً آخر وقالوا: إنّ المقصود بقوله تعالى: (سحران تظاهرا) هو «النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّد(صلى الله عليه وآله)» لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون: إن كليهما ساحران... وإنّا بكلّ كافرون.

وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم، وسألوهم عن نبي الإسلام «محمّد»(صلى الله عليه وآله) أهو نبيّ حقّاً؟! فأجابوا: إنّهم وجدوا مكتوباً عندهم في التوراة «بأوصافه»!. فرجع

[ 248 ]

المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود، فقالوا: (سحران تظاهرا وإنّا بكل كافرون).

ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيداً جدّاً:

الأولى: أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحراً.

الثّانية: كيف يمكن لأحد أنْ يدعي أن موسى ومحمّداً(صلى الله عليه وآله) ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.

ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!

وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لِمَ لَم يأت النّبي(صلى الله عليه وآله) بمعاجز كمعاجز موسى، ومن جهة أُخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة... لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداً(صلى الله عليه وآله) ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!! (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين).

وبتعبير آخر: إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!

فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!

ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافياً في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونو طلاّب حق، بل أصحاب حجج واهية فحسب!

ثمّ يضيف القرآن (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنّما يتبعون أهواءهم) لأنّ أي إنسان إذا لم يتّبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح، لكن أُولئك لم يكونوا على صراط مستقيم، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.

[ 249 ]

ولكن من أضيعُ منهم (ومن أضلُّ ممن اتّبع هواه بغير هدىً من الله إنّ الله  لا يهدي القوم الظالمين).

ولو كانوا طلاّب حقّ وقد أضلوا سبيلهم، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد... فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!

* * *

 

ملاحظة

اتباع الهوى مدعاة للظلال:

في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.

هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.

هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقاً به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها.. لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم، شرط لدرك الحقائق.. التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي، مراً كان أم عذباً، موافقاً لرغبات النفس أم مخالفاً، منسجماً مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم... لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.

وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (43) من سورة الفرقان.

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدةٌ تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه

[ 250 ]

وقائده الإلهي واتبع هواه(1).

وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقر(عليه السلام) والإمام الصادق(عليه السلام) وبعض الائمّة الطاهرين(عليهم السلام).. هي من قبيل المصداق البارز.. وبتعبير آخر: إنّ الإنسان محتاج لهداية اللّه... هذه الهداية تارةً تنعكس في كتاب اللّه، واُخرى في وجود النّبي وسنته، وأُخرى في وأوصيائه المعصومين، وأُخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإهية غير متبع لهواه، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.

 

* * *

_____________________________

1 ـ هذه الرّوايات في أصول الكافي وبصائر الدرجات طبقاً لما في نور الثقلين، ج 4، ص 132.

[ 251 ]

الآيات

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَولَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51) الَّذِينَ ءَاتَيْنَـهُمُ الْكِتَـبَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ(52) وَإِذْا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53) أُولَـئك يُؤتُونَ أَجْرَهُمْ مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِّمَّا رَزَقْنَـهُمْ يُنْفِقُونَ(54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أعمَالُنَاا وَلَكُم أَعْمَـلُكُمْ سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَـهِلِينَ(55)

 

سبب النّزول

نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيرة و مختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة، والجامع المشترك فيها واحد، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة ـ بالقرآن ونبي الإسلام(صلى الله عليه وآله).

فعن «سعيد بن جبير» أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّاً مسيحياً بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والإطلاع على دين النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله)، فلمّا

[ 252 ]

قرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة «يس» دمعت عيونهم شوقاً وأسلموا(1).

وقال بعضهم: هذه الآيات نزلت في نصارى نجران «مدينة في شمال اليمن» جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(2).

وقال آخرون: بل نزلت في النجاشي وقومه.(3)

كما يرى بعضهم أنّها نازلة في «سلمان الفارسي» وجماعة من علماء اليهود، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(4).

وأخيراً فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالماً مسيحياً من ذوي الضمائر حيّة والنيرة، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وثمانية آخرون من الشام، من بينهم «بحيرا»الراهب الى النّبي(صلى الله عليه وآله)فأسلموا.(5)

وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية. ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلاّن على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناءً، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.

وعل كل حال فإن هذه الآيات «شواهد بليغة» تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن... لأنّه لا يمكن لنبي الإسلام(صلى الله عليه وآله) أن يقول مثل هذا. ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فوراً ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبي(صلى الله عليه وآله).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 357، و 358.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ المصدر السابق.

4 ـ مجمع البيان، ج 7، ص 258.

5 ـ المصدر السابق.

[ 253 ]

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن:

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها.،

يقول القرآن في هذا الصدد: لقد انزلنا لهم آيات القرآن تباعاً (ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يذكرون)(1).

هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة، وكيفيات متفاوتة، فتارة تحمل الوعد بالثواب، وتارة الوعيد بالنّار، وأُخرى الموعظة والنصيحة، وأُخرى تنذر وتهدد. وأحياناً تحمل استدلالات عقلية، وأحياناً تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان، حيث أنّها تجذب القلوب إليها... إلاّ أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.

إلاّ أنّ (اليهود والنصارى) (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون). لأنّهم يرونه منسجماً مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.

ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من «أهل الكتاب»، إلاّ أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم «أهل الكتاب» دون قيد أو تبعيض أوأي شيء آخر، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّاً، أمّا سواهم فلا.

_____________________________

1 ـ «وصّلنا» مأخوذ من مادة «وصل» أي ربط، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل، فهي تدل على الكثرة، ويستفاد منها التأكيد أيضاً..

[ 254 ]

ثمّ يضيف القرآن في وصفهم قائلا: (وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به إنّه الحق من ربّنا).

أجل: كانت تلاوة الآيات عليهم كافيةً لأن يقولوا «آمنا»... ثمّ يضيف القرآن متحدثاً عنهم: إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب، بل (انّا كنّا من قبله مسلمين)

إنّنا وجدنا علائم النّبي(صلى الله عليه وآله) في كتبنا السماوية وتعلقت قلوبنا به، وانتظرناه بفارغ الصبر ـ وفي أوّل فرصة وجدنا بها ضالتنا أمسكنا بها ـ وقبلناه «بقلوبنا وأرواحنا».

ثمّ يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنّبي من غير تقليد أعمى، وإنّما طلباً للحق، فيقول: (أُولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا).

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماويّ الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه... ومرّة أُخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيم(صلى الله عليه وآله) النّبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ويحتمل ـ أيضاً ـ كما هو مستفاد من الآيات المتقدمة، إنّما يؤتون أجرهم مرتين; لأنّهم آمنوا بنبي الإسلام قبل ظهوره، وحين ظهر لم يكفروا به بل آمنوا به كذلك.

وهؤلاء بذلوا جهداً وصبروا زماناً طويلا ليؤدوا ما عليهم من وظيفة ومسؤولية... ولم يرض بأعمالهم المنحرفون من اليهود ولا النصارى، ولم يسمح لهم تقليد السابقين والجوّ الإجتماعي أن يتركوا دينهم ويسلموا، إلاّ أنّهم وقفوا وصبروا وتجاوزوا هوى النفس والمنافع الذاتية، فنالوا ثواب الله وأجره مرّتين.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق ممّا رزقهم الله» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والاستقامة، وهي خصال أربع ممتازة.

[ 255 ]

حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم: (ويدرءون بالحسنة السيئة).

يدرئون بالكلام الطيب الكلام الخبيث، وبالمعروف المنكر، وبالحلم الجهل والجاهلين، وبالمحبّة العداوة والبغضاء، وبصلةالرحم من يقطعها، والخلاصة أنّهم بدلا من أن يدفعوا السيئة بالسيئة فإنّهم (يدرءون بالحسنة السيئة!).

وهذا أسلوب مؤثر جدّاً في مواجهة المفاسد ومبارزتها، ولا سيما في مواجهة اللجوجين والمعاندين.

وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الأسلوب مراراً وكراراً، وقد سبق أن بحثنا في هذا المجال بشرح مبسّط في ذيل الآية (22) من سورة الرعد وذيل الاية (69) من «سورة المؤمنون».

والخصلة الأُخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم (وممّا رزقناهم ينفقون).

وليس الإنفاق من الأموال فحسب، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الإجتماعية، وجميع هذه الأُمور من مواهب الله ورزقه ـ فهم ينفقون منها في سبيل الله!.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه).

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو، بل (قالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم).

فلاتحاسبون بجريرة أعمالنا، ولا نُحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم، ولكن ما أسرع ما سيجد كلٌ منّا نتيجة عمله.

ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله، حيث يقولون: (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).

فلسنا أهلا للكلام البذيء، ولا أهلا للجهل والفساد، ولا نبتغي ذلك، إنّما

[ 256 ]

نبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.

وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عُمي القلوب وأهل الكلام البذي، يمرون عليهم كراماً ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.

الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال، بل سلام وداع.

* * *

 

ملاحظة!

القلوب المهيّأة للإيمان:

رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسماً جميلا وبليغاً.

فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل، والكلام البذيء السيء الفارغ، والبخل والحقد، وما إلى ذلك!!.

إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.

ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمناً غالياً، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله، وتحرروا عن محيطهم المنحرف، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب..

فهؤلاء ليسوا حاقدين، ولا يردون السوء بالسوء، ولا هم بخلاء ولا خسيسون، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.

إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والإنشغال غير الصحيح، والكلام

[ 257 ]

الفارغ الركيك، والمزاح وغيره.

لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء.. بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.

ويفكرون في أعمالهم ومسؤولياتهم، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع. الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.

أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم، ليؤتوا أجرهم.. لا مرّة واحدة، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.

هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة، والذين بذلوا جهداً وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثاً للإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الصدد يقول: «نحن صُبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون»

تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر، والآخر لا يعلم، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.

أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار... أمّا الثّاني فلا يعرف شيئاً عن ذلك، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.

وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال: «اللغو» الكذب، «اللهو» الغناء، والمعرضون عن اللغو و«المتقون» هم الأئمّة(عليهم السلام) يعرضون عن

[ 258 ]

ذلك كلّه(1).

وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز، وإلاّ فإنّ مفهوم «اللغو» أوسع ويشمل غير ما ذكرنا، و«المعرضون عن اللغو» أيضاً هم جميع المؤمنين الصادقين، وإن كان الأئمّة(عليهم السلام) في طليعتهم!

 

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير القمي، ج 2، ص 142.

[ 259 ]

الآيتان

إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بَالْمُهْتَدِينَ(56) وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرتُ كُلِّ شَىْء رِّزْقاً مِّنْ لَّدُنَّا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُم لاَ يَعْلَمُونَ(57)

 

التّفسير

الهداية بيد الله وحده!..

بالرغم من أن بحوثاً كثيرة وروايات وردت في الآية الأُولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها، إلاّ أنّها ـ كما سنرى ـ روايات غير معتبرة  ولا قيمة لها، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.

ومع الإلتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين: طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين، كان رسول(صلى الله عليه وآله) شديد الإصرار على هدايتهم، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان. وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام، وآثروا

[ 260 ]

على أنفسهم مصلحة الإسلام، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.

فمع الإلتفات إلى كل هذه الأُمور، نلاحظ أن الآية الأُولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول: (إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).

فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان.. وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.

أجل، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.

أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ماعندهم من قوة بوجه رسل الله، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبداً.

إذن، وبناءً على ما تقدم، ليس المقصود من الهداية«إراءة الطريق»، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبي(صلى الله عليه وآله)، وتشمل جميع الناس دون استثناء، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف»، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده، الذي يغرس الإيمان في القلوب، وليس هذا العمل اعتباطاً ودون حساب، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعده ليهبها نور السماء!

وعلى كل حال، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى، فإن الله يقذف نوره في

[ 261 ]

القلوب المهيأة للنور ويبسط عليها خيمته!.

ونظير هذا المضمون كثير في آيات القرآن!.

إذ نقرأ في الآية (272) من سورة البقرة قوله تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء).

وفي الآية (37) من سورة النمل (أن تحرص على هداهم فإنّ الله لا يهدي من يُضلّ).

وفي الآية (43) من سورة يونس (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا  لا يبصرون).

كما نقرأ أيضاً في الآية (4) من سورة إبراهيم ما هو بمثابة القانون العام (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).

فالآية الأخيرة تدلّ دلالة واضحة على أن المشيئة الإلهية في شأن هاتين الطائفتين «جماعة الهدى وجماعة الضلال» ليست دون حساب، بل هي طبقاً للجدارة واللياقة وسعي الأفراد أنفسهم... فالله يهب توفيقه على هذا الأساس، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويسلب الهدى ممن يشاء فيضلون السبيل.

وفي الآية الثّانية ـ من الآيتين محل البحث ـ يتحدث القرآن الكريم عن طائفة اعترفوا بالإسلام في واقعهم وأيقنت به قلوبهم، إلاّ أنّهم لم يظهروا إيمانهم بسبب منافع شخصية وملاحظات ذاتية، حيث يقول: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا)(1).

ورد في كتب التّفسير أن الذي قال: (إن نتبع الهدى معك) الخ.. هو «الحارث بن نوفل»، حيث قال للنّبي(صلى الله عليه وآله): إنّنا نعرف أن ما تقوله حق، لكن الذي يمنعنا من اتباعك والإيمان بك، خوفنا من هجوم العرب علينا ليطردونا من

_____________________________

1 ـ كلمة «معك» في الآية الآنفة متعلقة بـ «نتبع»، ويحتمل أن تكون كلمة «معك»متعلقة بـ «الهدى» ويكون التفاوت في المعنى يسيراً..

[ 262 ]

أرضنا، ولا طاقة لنا على ردّهم(1).

هذا الكلام لا يقوله إلاّ من يستضعف قدرة الله ويرى أن قدرة حفنة من العرب الجاهليين عظيمة!! وهذا الكلام لا يصدر إلاّ من قلب لا يعرف عناية الله وحمايته، ولا يعرف كيف ينصر الله أولياءه ويخذل أعداءه، لذلك يقول القرآن ردّاً على مثل هذه المزاعم (أو لم نمكّن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء(2)ولكن أكثر هم لا يعلمون).

الله الذي جعل هذه الأرض المالحة والمليئة بالصخور والخالية من الأشجار والأنّهار، جعلها حرماً تهفوا إليه القلوب، ويؤتى إليه بالثمرات من مختلف نقاط العالم، كل ذلك بيد قدرته القاهرة.

فإنّ من له هذه القدرة على اقرار «الامن» وجبابة «النعم» إلى هذا المكان وهؤلاء يرون ذلك بأعينهم، كيف لا يكون قارداً على أن يحفظكم من هجوم حفنة من الجاهليين عبّاد الأوثان؟!

فقد كنتم في زمان الكفر مشمولين بنعمتي الله العظيمتين «الأمن والمواهب المعاشية» فكيف يمكن أن يحرمكم الله منهما بعد الإسلام؟!

لتكن قلوبكم قوية وآمنو بما اُنزل اليكم فإنّ ربّ الكعبة وربّ مكّة معكم.

هنا، ينقدح هذا السؤال، وهو: إن التأريخ يدل على أن حرم مكّة لم يكن آمنا للمسلمين للغاية، ألم تعذب طائفة من المسلمين في مكّة؟ ألم يرموا النّبي(صلى الله عليه وآله)بالأحجار الكثيرة؟! ألم يقتل بعض المسلمين في مكّة؟! ألم يهاجر جماعة من المسلمين من مكّة مع جعفر بن أبي طالب(رضي الله عنه) وجماعة آخرون مع النّبي(صلى الله عليه وآله) آخر الأمر لعدم الأمن في مكّة؟!

_____________________________

1 ـ مجمع البيان ـ ذيل الآية محل البحث...

2 ـ «يجبى» مشتق من مادة «جباية» [«ونمكن» في الآية بمعنى نجعل] والجبابة معناها الجمع، لذلك يطلق على الحوض الذي يجمع فيه الماء جابية...ونصبُ كلمة «حرم» على أنّها مفعول لنمكن.

[ 263 ]

فنقول جواباً على ذلك:

أوّلا: مع جميع هذه الأُمور ما تزال مكّة أكثر أمناً من النقاط الأُخرى.. وكان العرب يحترمونها ويقدسونها، وبالرغم من أنّهم كانوا يقدمون على جرائم متعددة في أماكن أُخرى، إلاّ أنّهم كانوا يحجمون عن الإتيان بمثلها في مكّة.

والخلاصة: فمع عدم الأمن العام والكلي كانت مكّة تتمتع بالامن النسبي ولاسيما أن الأعراب خارجها كانوا يراعون أمنها وقداستها.

ثانياً: صحيح أن هذه الأرض التي جعلها الله حرماً آمناً أضحت لفترة وجيزة غير آمنة على أيدي جماعة... إلاّ أنّها سرعان ما تحولت إلى مركز كبير للأمن وتواتر النعم الكثيرة المتعددة، فعلى هذا لم يكن تحمل هذه الصعاب المؤقتة من أجل الوصول للنعم العظيمة، أمراً عسيراً ومعقداً.

وعلى كل حال، فإنّ كثيراً ممن يقلقون على منافعهم الشخصية، كالحارث بن نوفل، لا يسلكون سبيل الهداية والإيمان... في حين أنّ الإيمان بالله والتسليم لأمره، لايؤمن المنافع المعنوية لهم فحسب، بل يؤمن لهم المحيط الصحيح والمنافع المادية المشروعة وما إلى ذلك. وعدم الأمن والغارات والحروب التي نجدها في عصر التمدن ـ كما يصطلح عليه ـ وفي الدنيا البعيدة عن الإيمان والهداية، كل هذه الأُمور شاهد حي على هذا المدّعى!.

ومن الضروري الإلتفات إلى هذه النقطة الأساسية، وهي أنّ الله سبحانه أوّل ما يذكر من نعمه نعمة الأمن، ثمّ يذكر جلب الثمرات والأرزاق وغير ذلك من جميع الأنحاء إلى مكّة، ويمكن أن يكون هذا التعبير مبيّناً هذا الواقع، وهو: طالما كان الأمن حاكماً في بلد كان اقتصاده جيداً، وإلاّ فلا، «قد بيّنا هذا الأمر في بحثنا للأية 35 سورة إبراهيم».

كما أنّ الجدير بالذكر أنّ «يجبى» جاءت على صيغة الفعل المضارع الذي يدل على الإستمرار في الحال والإستقبال، ونحن اليوم وبعد مرور أربعة عشر

[ 264 ]

قرناً، نرى بأم أعيننا مفهوم هذا الكلام واستمرار جباية جميع أنواع المواهب إلى هذه الأرض المباركة، فالذين يحجّون مكّة ويزورون بيت الله الحرام، يرون بأعينهم هذه الأرض الجرداء الحارة التي لا تنبت شيئاً، كم فيها من النعم! فكأن مكّة غارقة بها، ولعل أية نقطة من العالم ليس فيها ما في مكّة من هذه النعم الوفيرة.

* * *

 

ملاحظة

إيمان أبي طالب والضجيج حوله:

هذا الموضوع يبدو عجيباً لمن كان من أهل البحث والمطالعة.. فكيف يصرّ جماعة من رواة الأخبار على أن يزعموا أنّ أبا طالب(عليه السلام) عم النّبي كان مشركاً وغير مؤمن وأنّه مات كافراً!! وهو بإجماع المسلمين كان من الذين بذلوا تضحيات منقطعة النظير، وحمى نبيّ الإسلام(صلى الله عليه وآله) وضحّى من أجله؟!

ولم لا يكون هذا الإصرار بالنسبة للآخرين الذين لا حظّ لهم في تأريخ الإسلام؟!

هنا نعرف أنّ المسألة ليست مسألة عادية.. ثمّ بأقل ملاحظة وتدقيق نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ وراء هذه البحوث التاريخية والروائية لعبة سياسيّة خطيرة من أعداء علي(عليه السلام) ومناوئيه! فقد كانوا يصرّون على سلب كل فضيلة له، حتى جعلوا أباه المضحّي والفادي للنبي والمؤثر له على نفسه يموت كافراً بزعمهم!!.

ومن المؤكّد أنّ بني أمية ومريديهم في عصرهم، وقبل أن يصلوا إلى دفة الحكومة، سعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لإثبات مدعاهم بالشواهد والحجج الواهية.

[ 265 ]

ونحن بقطع النظر عن هذه الأمواج السياسية المنحرفة والملوثة، التي هي بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة... نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة بنفسها تستحق المطالعة من جهات متعددة... نبحث المسألة على أساس أنّها مسألة تأريخية وتفسيرية بحتة، بشكل موجز ومضغوط (كما يقتضيه وضع الكتاب) ليتّضح أن ليس وراء هذا الضجيج أي سند معتبر، بل هناك شواهد حيّة ضده!.

1 ـ إن الآية محل البحث (إنّك لا تهدي من أحببت) ليس لها علاقة بأبي طالب كما بيّنا، وقلنا: إن الآيات التي جاءت قبلها تدل بصورة واضحة أنّها في شأن جماعة من أهل الكتاب المؤمنين،في مقابل مشركي مكّة.

الطريف أن الرازي الذي يزعم أن الآية نزلت في أبي طالب(عليه السلام) بإجماع المسلمين!! يصرّح بأن الآية ليس فيها أقل دلالة على كفر أبي طالب(1).

ولكن مع هذه الحال فلماذا يصرون فيها على أن يكون أبو طالب(عليه السلام)مشركاً؟ فهذه مسألة غريبة ومدعاة للدهشة!..

2 ـ وأهم دليل لديهم في هذا المجال أنّهم ادعوا إجماع المسلمين على أن  أبا طالب مات مشركاً!.

في حين أن مثل هذا الإجماع كذب محض لا أساس له، وهو عار عن الصحة.

فالمفسّر المعروف «الآلوسي» ـ وهو من علماء السنة ـ صرح في تفسير روح المعاني أنّ هذه المسألة ليست إجماعية، وحكاية الإجماع من قبل المسلمين أو المفسّرين على أنّ الآية المتقدمة نزلت في أبي طالب تبدو غير صحيحة... لأنّ علماء الشيعة وجمع كثير من المفسّرين يعتقدون بإسلام أبي طالب، وادّعى أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) الإجماع على ذلك، إضافة إلى أن أكثر قصائد

_____________________________

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 25، ص 3.

[ 266 ]

أبي طالب تشهد على إيمانه(1).

3 ـ التدقيق والبحث يدل على أن هذا الإجماع المزعوم هو من قبل أخبار الاحاد الذين لا اعتبار لهم، وفي سند هذه الروايات أفراد مشكوك فيهم كذابون.

ومن هذه الرّوايات ما نقله ابن «مردويه» بسنده عن ابن عباس أن آية (إنّك لا تهدي من أحببت) نزلت في شأن أبي طالب، وقدأصرّ النّبي(صلى الله عليه وآله) عليه أن يؤمن فلم يؤمن(2).

في حين أنّ في سند هذه الرواية «أبو سهل السري» الذي عرف بين كبار أصحاب علم الرجال بأنّه من الكذابين الوضّاع السارقين للحديث. كما أنّ في سند هذه الرّواية «عبد القدوس أبو سعيد الدمشقي» وهو من الكذابين أيضاً(3).

وظاهر تعبير الحديث يدل على أن ابن عباس ينقل هذا الحديث من غير واسطة وكان شاهداً على ذلك، في حين أنّنا نعرف أن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنوات، فعلى هذا كان لا يزال رضيعاً عندما مات أبو طالب(عليه السلام)... ومن هنا نستنتج أنّ واضعي الحديث حتى في هذا العمل كانوا مبتدئين وناشئين!!.

وهناك حديث آخر في هذا المجال ينقله «أبو هريرة» إذ يقول: حين دنت وفاة أبي طالب قال له النّبي(صلى الله عليه وآله): يا عم قل: لا إله إلاّ الله، لأشهد لك يوم القيامة عند الله بالتوحيد، فقال أبو طالب: لولا أن قريشاً تقول إن أبا طالب أظهر الإيمان حال الموت خوفاً، لكنت أشهد بالتوحيد وأقرّ عينيك، فنزل قوله تعالى: (إنّك لا تهدي من أحببت)(4).

ويبدو من ظاهر هذا الحديث أن أبا هريرة كان شاهداً على هذه القضية، في حين أنّنا نعرف أن أبا هريرة أسلم سنة فتح خيبر، بعد الهجرة بسبع سنين، فأين

_____________________________

1 ـ روح المعاني، ج 2، ص 84 ذيل الآية محل البحث.

2 ـ الدر المنثور، ج 5، ص 133.

3 ـ الغدير، ج 8، ص 20.

4 ـ الدر المنثور، ج 5، ص 133.

[ 267 ]

 أبو هريرة  من وفاة أبي طالب التي حدثت قبل الهجرة...؟!!

وإذا قيل أن ابن عباس وأبا هريرة لم يكونا شاهدين على هذه القضية، وسمعا هذه القصّة من شخص آخر فإننا نسأل من هو هذا الشخص؟! فالذي نقل هذا الحديث لهذين الشخصين ـ إذاً ـ مجهول، ومثل هذا الحديث يعرف عند أهل الحديث بالمرسل، والجميع يعلمون بأن لا اعتبار للمراسيل!

ومن المؤسف أنّ جماعة من رواة الأخبار والمفسّرين نقلوا هذا الحديث بعضهم عن بعض دون تدقيق في كتبهم، وشيئاً فشيئاً كوّنوا إجماعاً لهذا الحديث! ولكن أيّ إجماع هذا؟ أم أي حديث معتبر!؟!

4 ـ وبعد هذا كلّه، فإنّ متن هذه الأحاديث الموضوعة يدل على أن  أبا طالب(عليه السلام) كان مؤمناً بحقانية النّبي، غاية ما في الأمر لم يجر ذلك على لسانه لملاحظات خاصة... ونحن نعرف أن الإيمان هو بالقلب، وأمّا اللسان فهو طريق القلب، وفي بعض الأحاديث الإسلامية شبه أبو طالب بأصحاب الكهف الذين كانوا مؤمنين وإن لم يقدروا على إظهار الإيمان على ألسنتهم(1).

5 ـ ثمّ هل يمكن القناعة برواية مرسلة عن أبي هريرة أو ابن عباس في مثل هذه المسألة المهمة، فلم لا يؤخذ بإجماع أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وإجماع علماء الشيعة، وهم أعرف بحال أُسرة النّبي وأهله!!

إنّنا اليوم نحتفظ بأشعار كثيرة لأبي طالب توضح إيمانه بالإسلام ورسالة النّبي (محمّد)(صلى الله عليه وآله)، وقد نقل هذه الأشعار طائفة من العلماء والأفاضل في كتبهم (وقد نقلنا طائفة منها في ذيل الآية 26 من سورة الأنعام من مصادر سنية معروفة)!.

6 ـ ومع غض النظر عن جميع ما تقدم، فإنّ تأريخ حياة أبي طالب وتضحياته العظيمة للنّبي(صلى الله عليه وآله) وعلاقة النّبي(صلى الله عليه وآله) والمسلمين الشديدة به إلى درجة

_____________________________

1 ـ راجع في هذا الصددد تفسير الصافي وتفسير البرهان ذيل الآية محل البحث.

[ 268 ]

أنّ النّبي سمى عام وفاته بـ «عام الحزن» كل ذلك يدل على أنّه كان يعشق الإسلام، ولم يكن دفاعه عن النّبي على أنّه أحد أرحامه، بل دفاع رجل مؤمن مخلص وعاشق نظيف وجندي مضحٍّ عن قائده وإمامه.. فمع هذه الحالة، كم يبلغ الجهل والغفلة والظلم وعدم الشكر بطائفة أن تصرّ على أنّ هذا الرجل المخلص المؤمن الموحّد مات مشركاً(1).

 

* * *

_____________________________

1 ـ هناك بحث مفصل أوردناه لدى تفسير الآية 36 من سورة الأنعام.

[ 269 ]

الآيات

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَـكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَرِثِينَ(58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـلِمُونَ(59) وَمَآ أُوتِيتُمْ مِّنْ شَىْء فَمَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى  أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(60)

 

التّفسير

لا تخدعنكم علائق الدنيا:

كان الحديث في الآيات المتقدمة يدور حول مايدعيه أهل مكّة، وقولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا بهجوم العرب علينا، وتتكدر حياتنا ويختل وضعنا المعاشي والإقتصادي.. وقد أجابت الآيات السابقة على هذا الكلام بردٍّ بليغ.

وفي هذه الآيات مورد البحث ردّان آخران على كلامهم:

الأوّل: يقول.. على فرض أنّكم لم تؤمنوا، وحييتم في ظل الشرك مرفهين

[ 270 ]

ماديّاً، ولكن لا تنسوا أن تعتبروا بحياة من قبلكم (فكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها).

أجل، إنّ الغرور دعاهم إلى أن يبطروا من النعم، والبطر أساس الظلم، والظلم يجرّ حياتهم إلى النّار... (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلا).

بلى... بقيت بيوتهم خالية خربة متهدمة مظلمة لم يزرها ولم يسكنها أحد إلاّ لفترة قليلة (وكنّا نحن الوارثين).

فيا مشركي مكّة... أتريدون أن تعيشوا حياة البطر والكفر كما عاشه أُولئك، وتكون عاقبتكم كعاقبتهم، فأي نفع في ذلك؟!

كلمة «بطرت» مشتقّة من «بطر» على زنة «بشر» ومعناه الطغيان والغرور على أثر وفرة النعم.

والتعبير بـ «تلك» التي هي اسم إشارة للبعيد، وتستعمل غالباً للأُمور التي يمكن مشاهدتها، ويحتمل أن يكون المقصود بها أرض «عاد وثمود وقوم لوط» التي لا تبعد كثيراً عن أهل مكّة، وهي في أرض الأحقاف بين اليمن والشام، أو في وادي القرى، أو في أرض سدوم، وجميع هذه المناطق في مسير قوافل التجار العرب الذين كانوا يمضون من مكّة إلى الشام، وكانوا يرون تلك البيوت بأُم أعينهم خالية خاوية لم تسكن إلاّ قليلا.

وجملة (إلاّ قليلا) التي جاءت بصيغة الإستثناء، فيها ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أن الإستثناء عن الساكنين.

والاحتمال الثّاني: أنّه عن المساكن.

والاحتمال الثّالث: أنّه عن السكن.

ففي الصورة الأُولى يكون مفهومها أن جماعة قليلة سكنتها «أي سكنت تلك المساكن».

وفي الصورة الثّانية يكون مفهومها أن فترة قليلة كان بها السكن في هذه

[ 271 ]

«المساكن» لأنّ من يسكن في هذه المساكن المشؤومة سرعان ما تنطوي فيها صفحة حياته.

وبالطبع فإنّ إرادة المعاني الثلاثة من النصّ السابق لا يوجد لنا أي مشكلة، وإن كان المفهوم الأوّل أظهر.

كما أن بعض المفسّرين قال: إنّ المقصود من هذه الآية هو الإشارة إلى السكن المؤقت للمسافرين الذاهبين والآيبين حيث يستريحون فيها لا أكثر، وفسرها آخرون بأنّها إشارة لسكن الحيوانات الوحشية.

والقدر المسلم به أن هذه المساكن التي كانت ملوّثة بالإثمّ والشرك أصبحت غير صالحة للسكن فهي خاوية وخالية!

والتعبير بـ (وكنا نحن الوارثين) إشارة إلى خلّوها من الساكنين، كما هي إشارة إلى أنّ مالكها الحقيقي هو الله سبحانه المالك لكل شيء، وإذا ما أعطى ملكاً «اعتبارياً» لأحد، فإنّه لا يدوم له طويلا حتى يرثه الله أيضاً.

والآية الثّانية في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو: إذا كان الأمر كذلك، بأن يهلك الله الطغاة، فلم لم يهلك المشركين من أهل مكّة والحجاز، الذين بلغوا حدّاً عظيماً من الطغيان، ولم يكن إثم ولا جهل إلاّ وارتكبوه، ولم لم يعذبهم الله بعذابه الأليم؟

يقول القرآن في هذا الصدد (وما كان ربّك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولا يتلوا عليهم آياتنا).

أجل.. لا يعذب الله قوماً حتى يتمّ عليهم حجّته ويرسل إليهم رسله، وحتى بعد إتمام الحجّة، فما لم يصدر ظلم يستوجب العذاب فإنّ الله لا يعذبهم، وهو يراقب أعمالهم، (وما كنا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون).

والتعبير بـ (ما كنّا) أو (وما كان ربك) دليل على أن سنة الله الدائمة والأبدية التي كانت ولا زالت، هي أن لا يعذب أحداً إلاّ بعد إتمام الحجة الكافية.

[ 272 ]

والتعبير بـ (حتى يبعث في أمّها رسولا) إشارة إلى عدم لزوم إرسال الرسل إلى جميع المدن، بل يكفي أن يبعث في مركز كبير من مراكزها التي تنشر العلوم والأخبار رسولا يبلغهم رسالاته! لأنّ أهل تلك المناطق في ذهاب وإياب مستمر إلى المركز الرئيسي، لحاجتهم الماسة، وما أسرع أن ينتشرالخبر الذي يقع في المركز إلى بقية الأنحاء القريبة والبعيدة، كما انتشرت أصداء بعثة النّبي(صلى الله عليه وآله)التي كانت في مكّة ـ وبلغت جميع أنحاء الجزيرة العربية في فترة قصيرة! لأنّ مكّة كانت أم القرى، وكانت مركزاً روحانياً في الحجاز، كما كانت مركزاً تجارياً أيضاً.. فانتشرت أخبار النّبي(صلى الله عليه وآله)، ووصلت جميع المراكز المهمّة في ذلك الحين وفي فترة قصيرة جدّاً.

فعلى هذا تبيّن الآية حكماً كلياً وعامّاً، وما يدّعيه بعض المفسّرين من أنّها إشارة إلى «مكّة» لا دليل عليه، والتعبير بـ (في أمّها) هو تعبير عام كلي أيضاً.. لأنّ كلمة «أم» تعني المركز الأصلي، ولا يختص هذا بمكّة فحسب(1).

وأخر آية من هذا المقطع محل البحث تحمل الردّ الثّالث على أصحاب الحجج الواهية، الذين كانوا يقولون للنّبي(صلى الله عليه وآله): (ان نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) ويبعدنا العرب من ديارنا، وهو قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى) ممّا عندكم من النعيم الفاني.. إذ أنّ نعم الدنيا تشوبها الأكدار والمشاكل المختلفة، ولس من نعمة مادية خالية من الضرر والخطر أبداً.

إضافة إلى ذلك فإنّ النعم التي عند الله «الباقية» لا تقاس مع النعم الدنيوية الزائلة، فنعم الله ـ إذن ـ خير وأبقى!.

فبموازنة بسيطة يعرف كل إنسان عاقل أنّه لا ينبغي أن يضحي بنعم الآخرة

_____________________________

1 ـ في أن الآية هل تشمل المستقلات العقلية أم لا، بحثنا في ذلك بحثاً مناسباً في ذيل الآية (15) من سورة الإسراء.

[ 273 ]

من أجل نعم الدنيا، ولذلك تختتم الآية بالقول: (أفلا تعقلون)؟.

يقول «الفخر الرازي» نقلا عن أحد الفقهاء أنّه قال: لو أوصى أحد بثلث ماله إلى أعقل الناس، فإني أفتي أن يعطى هذا المال لمن يطيع أمر الله، لإن أعقل الناس من يعطي المتاع القليل، (الفاني) ليأخذ الكثير (الباقي) ولا يصدق هذا، إلاّ في من يطيع الله.

ثمّ يضيف الفخر الرازي.. قائلا: فكأنّما استفاد هذا الحكم من الآية محل البحث(1).

* * *

 

_____________________________

1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 25، ص 6.

[ 274 ]

الآيات

أَفَمَنْ وَعَدْنَـهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَـقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَـهُ مَتَـعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ مِنَ الْـمُحْضَرِينَ(61) وَيَومَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقوْلُ رَبَّنَا هَــؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَـهُمْ كَمَا غَوَيْنا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64)

 

التّفسير

أنّهم عبدَة الهوى:

كان الحديث في الآيات المتقدمة عن الذين فضّلوا الكفر على الإيمان بسبب منافعهم الشخصيّة ـ ورجّحوا الشرك على التوحيد، وفي الآيات التي بين أيدينا يبيّن القرآن حال هذه الجماعة يوم القيامة قبال المؤمنين الصادقين.

ففي بداية هذه الآيات يلقي القرآن سؤالا يقارن فيه بين المؤمنين

[ 275 ]

والكافرين، ويثير الوجدان ويجعله حكماً فيقول: (أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثمّ هو يوم القيامة من المحضرين ).

ولا شك أن وجدان يقظ يرجّح وعود الله و مواهبه العظيمة الخالدة، على نعم الدنيا التي لا تطول إلاّ أيّاماً و تتبعها آلام وشقاء خالد؟!

جملة (فهو لاقيه ) تأكيد على أن وعد الله لا يتخلف أبداً ولابدّ أن يكون كذلك، لأنّ تخلّف الوعد إمّا ناشىء عن الجهل أو العجز، وكلاهما مستحيل على ذات الله المقدسة.

وجملة (هو يوم القيامة من المحضرين ) إشارة إلى الإحضار في محضر الله يوم القيامة للحساب، وفسرها البعض بالإحضار في نار جهنّم، ولكن التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو، وعلى كل حال فإنّ هذا التعبير يدل بصورة واضحة على أنّ المجرمين يساقون مكرهين، وعلى غير رغبة منهم إلى تلك العرصات المخوفة، وينبغي أن يكون الأمر كذلك... لأنّ وحشة الحساب والقضاء يوم القيامة ومشاهدها تغمر وجودهم هناك!.

والتعبير بـ(الحياة الدنيا ) التي تكررت في سور مختلفة من القرآن الكريم، إشارة إلى حقارة هذه الحياة بالنسبة للحياة الأُخرى والخلود فيها وعدم الزوال والإضمحلال، لأنّ كلمة «دنيا» في الأصل مأخوذة من «دنو» على زنة «غلو» ومعناها القرب في المكان أو الزمان أو المنزلة والمقام، ثمّ توسّع هذا المفهوم ليطلق بلفظ «دنيا أو أدنى» على الموجودات الصغيرة التي تحت اليد في مقابل الموجودات الكبيرة، وقد يطلق هذا اللفظ على الموضوعات التي لا قيمة لها في مقابل الأشياء ذات القيمة العالية، وربّما استعمل في القرب في مقابل البعد. وحيث أن هذه «الحياة» في مقابل العالم الآخر صغيرة ولا قيمة لها وقريبة أيضاً، فإنّ تسميتها بالحياة الدنيا تسمية مناسبة جدّاً.

[ 276 ]

بعد هذا، يأتي الكلام عن عرصات يوم القيامة ومشاهدها ليجسّده أمام الكفار، مشاهد يقشعر منها البدن حين يتصورها الإنسان، فيقول القرآن: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ).

وبديهي أنّ هذا السؤال سؤال توبيخ وإهانة، لأنّ يوم القيامة يوم كشف الحجُب والأستار، فلا مفهوم للشرك، ولا المشركون في ذلك اليوم باقون على عقيدتهم و«شركهم».

فهذا السؤال في الحقيقة فيه نوع من الإهانة والتوبيخ والعقوبة!

ولكنّهم بدلا من أن يجيبوا بأنفسهم، فإنّ معبوديهم هم الذين يردّون الجواب، ويتبرؤون منهم، ويتنفرون من عبادة المشركين إيّاهم.

ونعرف أن معبودات المشركين وآلهتهم على ثلاثة أنواع: فإمّا أَن يكونوا أصناماً «وأحجاراً وخُشُباً» أو من المقدسين كالملائكة والمسيح، وإمّا أن يكونوا من الشياطين والجنّ. فالذين يردّون على السؤال ويجيبون هم النوع الثالث، كما حكى عنهم القرآن (قال الذين حقّ عليهم القول ربّنا هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ).

فعلى هذا تكون الآية السابقة شبيهة بالآية (28) من سورة يونس إذ تقول: (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ).

فعلى هذا يرد المعبودون الغواة على عبدتهم ويتبرؤون منهم، كما يبرأ فرعون ونمرود و الشياطين والجن من عبدتهم وقومهم ويتنفرون منهم، ويدافعون عن أنفسهم، حتى أنّهم ينسبون الضلالة لمن تبعهم ويقولون: إنّهم تبعونا طوعاً... الخ.

ولكن ـ من البديهي ـ ليس لهذا النفي أثر، ولا تنفع البراءة منهم، فالعابد

[ 277 ]

والمعبود معاً شريكان «في النّار»(1).

الطريف الذي يستلفت النظر، هو أنّ كل واحد من المنحرفين يتبرأ في ذلك اليوم من الآخر وكلٌ يسعى لأن يلقي تبعة ذنبه على صاحبه.

وهذا يشبه تماماً ما قد نراه في هذه «الدنيا» من اجتماع رهط على أمر ما حتى إذا وقعوا في مخالفة القانون، وأُلقي القبض عليهم، وأحضروا إلى المحكمة، يتبرأ كلّ واحد من الآخر ويلقي بعضهم الجريمة على صاحبه، فهكذا هي عاقبة المنحرفين والضالين في الدنيا والآخرة!

كما نجد مثل هذا في الآية (22) من سورة إبراهيم (وقال الشيطان لما قُضي الأمر أنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ).

ونقرأ في الآية (30) من سورة الصافات في شأن المشركين الذين يتحاجون في يوم القيامة مع أتباعهم فيقولون: (وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين ).

وعلى كل حال، فتعقيباً على السؤال عن آلهتهم. وعجز المشركين عن الجواب. يطلب أن يدعوهم لنصرتهم (وقيل ادعوا شركاءكم )(2).

وحيث يعلم المشركون أن دعاءهم غير نافع، وأن المعبودين «الشركاء» لايمكن أن يفعلوا شيئاً من شدّة الهلع والوحشة، أو استجابة لأمر الله الذي يريد

_____________________________

1 ـ ويحتمل في الآية الآنفة ـ أيضاً ـ أَنّ القائلين جواباً على سؤال الله هم رؤوساء المشركين «أي جماعة من عبدة الأصنام» فهم من أجل أن يفروا عن الجواب يتحدثون عن أتباعهم، ويقولون: ربّنا إنّنا غوينا فمضينا في طريق الشرك، وهؤلاء اتبعونا طوعاً فأغويناهم، ولكنّهم لم يطيعونا «العبادة في الآية الآنفة معناها الطاعة» وإنّما اطاعوا هواهم، ولكن التّفسير السابق أظهر.

2 ـ التعبير بـ «شركاءكم» مع أن هؤلاء الشركاء كانوا قد جعلوا شركاء الله سبحانه، هو اءشارة إلى أنّ هؤلاء الشركاء من صنعكم وهم متعلقون بكم لا بالله...

[ 278 ]

أَن يفضح المشركين والشركاء أمام أعين الخلق، يتوجهون إلى الشركاء ويدعونهم كما يقول القرآن الكريم: (فدعوهم ).

ومن الواضح أنّه لا أثر لهذا النداء والطلب، ولا يقال لهم «لبيك».. (فلم يستجيبوا لهم ).

فحينئذ لا ينفعهم شيء (ورأوا العذاب ).

ويتمنون (لو أنّهم كانوا يهتدون! ). (1)

 

* * *

_____________________________

1 ـ بحث المفسّرون في الآية (لو أنّهم كانوا يهتدون ) بحوثاً شتى، فكثير منهم قالوا بأن «لو» حرف شرط هنا، فبحثوا عن الجزاء، فقالوا: يستفاد من جملة (رأوا العذاب ) وتقدير الجملة يكون هكذا: «لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب في الدنيا بعين اليقين».

وهذا يشبه قوله تعالى (لترون الحجيم ) في سورة التكاثر الآية السادسة.
كما يرى البعض أن التقدير هكذا (لو أنّهم كانوا يهتدون في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة ).
وزعم بعضهم أن الجزاء غير ما تقدم «يطول بها البحث هنا».
لكنّ بعضهم يعتقد أن جواب الشرط «الجزاء» غير محذوف أساساً، وجملة (ورأوا العذاب ) هي الجواب المتقدم، وما بعده جملة الشرط، فيكون المعنى هكذا: (لو كانوا يرون ويهتدون لرأوا العذاب لكنّهم لم يهتدوا )!...
لكن وراء كل هذه المعاني معنى آخر ذكرناه في بيان الآية آنفاً، وهو أن نفسر معنى لو بـ «تمنّوا، فلا بأس بمراجعة الكتب اللغوية والأدبية «كمغني اللبيب» وغيره!.

  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=821
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28