• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة يونس من آية 24 ـ آخر السورة من ( ص 68 ـ 122) .

سورة يونس من آية 24 ـ آخر السورة من ( ص 68 ـ 122)

[ 68 ]

 الآيات

 إِنَّآ أَرْسَلْنَـكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّة إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكَتَـبِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

 

التّفسير

لا عجب من عدم إيمان:

توصّلنا في الآيات السابقة إلى أنّ هناك أفراداً كالأموات والُعميان لا تترك مواعظ الأنبياء في قلوبهم أدنى أثر، وعلى ذلك فإنّ الآيات مورد البحث تقصد مواساة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخصوص وتخفيف آلامه لكي لا يغتمّ كثيراً.

أوّلا تقول الآية الكريمة: (إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير). فيكفيك من أداء وظيفتك أن لا تقصّر فيها، أوصل نداءك إلى مسامعهم، بشّرهم بثواب الله، وأنذرهم عقابه، سواء استجابوا أو لم يستجيبوا.

الملفت للنظر أنّه تعالى قال في آخر آية من الآيات السابقة مخاطباً الرّسول الأكرم (إن أنت إلاّ نذير)، ولكنّه في الآية الاُولى من هذه الآيات يقول: (إنّا

[ 69 ]

أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً) إشارة إلى أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقوم بهذا العمل من عند نفسه، وإنّما هو مأمور من قبل الله تعالى.

وإذا كانت الآية السابقة قد ركّزت على الإنذار فقط، فلأنّ الحديث كان حول الجاهلين المعاندين الذين هم كالأموات المقبورين الذين لا يتقبّلون أي حديث، أمّا هذه الآية فإنّها توضّح بشكل كامل، وظيفة الأنبياء الثنائية الهدف «البشارة» و «الإنذار»، مؤكّدة في آخرها من جديد على «الإنذار» لأنّ الإنذار هو القسم الأساس من دعوة الأنبياء في قبال المشركين والظلمة.

«خلا»: من (الخلاء) وهو المكان الذي لا ساتر فيه من بناء ومساكن وغيرهما، والخُلُوُّ يستعمل في الزمان والمكان، ولأنّ الزمان في مرور، قيل عن الأزمنة الماضية «الأزمنة الخالية» لأنّه لا أثر منها، وقد خلت الدنيا منها.

وعليه فإنّ جملة (وإنّ من اُمّة إلاّ خلا فيها نذير) بمعنى أنّ كلّ اُمّة من الاُمم السالفة كان لها نذير.

والجدير بالملاحظة، طبقاً للآية أعلاه، أنّ كلّ الاُمم كان فيها نذير إلهي، أي كان فيها نبي، مع أنّ البعض تلقّى ذلك بمعنى أوسع، بحيث يشمل العلماء والحكماء الذين ينذرون الناس أيضاً، ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر الآية.

على كلّ حال، فليس معنى هذا الكلام أن يُبعث في كلّ مدينة أو منطقة رسول، بل يكفي أن تبلّغ دعوة الرسل وكلامهم أسماع المجتمعات المختلفة، إذ أنّ القرآن يقول: (خلا فيها نذير) ولم يقل «خلا منها نذير».

وعليه فلا منافاة بين هذه الآية التي تقصد وصول دعوة الأنبياء إلى الاُمم، مع الآية (44) من سورة سبأ والتي تقول: (وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) والتي يقصد منها كون المنذر منهم.

ويضيف تعالى في الآية التالية: (وإن يكذّبوك) فلا عجب من ذلك، ولا تحزن بسبب ذلك، لأنّه (فقد كذّب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبيّنات وبالزبر

[ 70 ]

وبالكتاب المنير).

فلست وحدك الذي أصبحت موضع تكذيب هؤلاء القوم الجاهلين بما عندك من معجزات وكتاب سماوي، فقد واجه الرسل السابقون هذه المشكلة أيضاً، لذا فلا تغتمّ وواصل سيرك بحزم، واعلم أنّ من كتبت له الهداية فسوف يهتدي.

أمّا ما هو الفرق بين (البيّنات ـ والزبر ـ والكتاب المنير)؟ المفسّرين أظهروا وجهات نظر مختلفة، أوضحها تفسيران:

1 ـ «البيّنات» بمعنى الدلائل الواضحة والمعجزات التي تثبت حقّانية النبي، أمّا «الزبر» فجمع «زبور» بمعنى الكتب التي كتبت بإحكام (مثل الكتابة على الحجر وأمثالها) وهي كناية عن إستحكام مطالبها(1). وإشارة إلى الكتب النازلة قبل موسى (عليه السلام). في حين أنّ «الكتاب المنير» إشارة إلى كتاب موسى (عليه السلام) والكتب السماوية الاُخرى التي نزلت بعده، (لأنّه وردت الإشارة في القرآن المجيد في سورة المائدة ـ الآيات 44 و46 إلى التوراة والإنجيل على أنّهما (هدى ونور) وفي نفس السورة ـ الآية 15 عبّر عن القرآن الكريم بالنور أيضاً).

2 ـ المقصود بـ «الزبر» ذلك القسم من كتب الأنبياء التي تحتوي على العبرة والموعظة والنصيحة والمناجاة (كزبور داود)، وأمّا «الكتاب المنير» فتلك المجموعة من الكتب السماوية التي تحتوي على الأحكام والقوانين والتشريعات الإجتماعية والفردية المختلفة مثل التوراة والإنجيل والقرآن. ويبدو أنّ هذا التّفسير أنسب.

تشير الآية الأخيرة من هذه الآيات إلى العقاب الأليم لتلك المجموعة فتقول: (ثمّ أخذت الذين كفروا)(2) فهم لم يكونوا بمنأى عن العقاب الإلهي، وإن

________________________________

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: زبرت الكتاب كتبته كتابة عظيمة، وكلّ كتاب غليظ يقال له زبور.2 ـ (أخذت) من مادّة (أخذ) بمعنى حيازة الشيء وتحصيله، لكنّها هنا كناية عن المجازاة، لأنّ الأخذ مقدّمة للعقاب.

[ 71 ]

استطاعوا أن يستمروا بتكذيبهم إلى حين.

فبعض عاقبناهم بالطوفان، وبعض بالريح العاصفة المدمّرة، وآخرون بالصيحة والصاعقة والزلزلة.

أخيراً لتأكيد وبيان شدّة وقسوة العقوبة عليهم يقول: (فكيف كان نكير) ذلك تماماً مثلما يقوم شخص بإنجاز عمل مهمّ ثمّ يسأل الحاضرين: كيف كان عملي؟ على أيّة حال فإنّ هذه الآيات تواسي وتطمئن من جانب كلّ سالكي طريق الله والقادة والزعماء المخلصين منهم بخاصّة، من كلّ اُمّة وفي أي عصر وزمان، لكي لا ييأسوا ولا يفقدوا الأمل عند سماعهم إستنكار المخالفين، ولكي يعلموا أنّ الدعوات الإلهية واجهت دائماً معارضة شديدة من قبل المتعصّبين الجاحدين الظلمة، وفي نفس الوقت وقف المحبّون العاشقون المتولّهون إلى جنب دعاة الحقّ وفدوهم بأنفسهم أيضاً.

ومن جانب آخر فهي تهديد للمعاندين الجاحدين، لكي يعلموا أنّهم لن يستطيعوا إدامة أعمالهم التخريبية القبيحة إلى الأبد، فعاجلا أو آجلا ستحيط بهم العقوبة الإلهية.

 

* * *

[ 72 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَت مُّخْتَلِفاً أَلْوَنُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالاَْنْعَـمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَنُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

 

التّفسير

العجائب المختلفة للخلقة:

مرّة اُخرى تعود هذه الآيات إلى مسألة التوحيد، وتفتح صفحة جديدة من كتاب التكوين أمام ذوي البصائر من الناس، لكي ترد بعنف على المشركين المعاندين ومنكري التوحيد المتعصّبين.

لفتت هذه الصفحة المشرقة من كتاب الخلق العظيم إلى تنوّع الجمادات والمظاهر المختلفة والجميلة للحياة في عالم النبات والحيوان والإنسان، وكيف جعل الله سبحانه من الماء العديم اللون الآلاف من الكائنات الملوّنة، وكيف خلق من عناصر معيّنة ومحدودة موجودات متنوّعة أحدها أجمل من الآخر.

فهذا النقاش الحاذق أبدع بقلم واحد وحبر واحد أنواع الرسوم والأشكال التي

[ 73 ]

تجذب الناظرين وتحيّرهم وتدهشهم.

أوّلا تقول الآية الكريمة: (ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها).

شروع هذه الجملة بالإستفهام التقريري، وبتحريك حسّ التساؤل لدى البشر، إشارةً إلى أنّ هذا الموضوع جلي إلى درجة أنّ أي شخص إذا نظر أبصر، نعم، يبصر هذه الفواكه والزهور الجميلة والأوراق والبراعم المختلفة بأشكال مختلفة تتولّد من ماء وتراب واحد.

«ألوان»: قد يكون المراد «الألوان الظاهرية للفواكه» والتي تتفاوت حتّى في نوع الفاكهة الواحد كالتفّاح الذي يتلوّن بألوان متنوعة ناهيك عن الفواكه المختلفة. وقد يكون كناية عن التفاوت في المذاق والتركيب والخواص المتنوّعة لها، إلى حدّ أنّه حتّى في النوع الواحد من الفاكهة توجد أصناف متفاوتة، كما في العنب مثلا حيث أنّه أكثر من 50 نوعاً، والتمر أكثر من سبعين نوعاً.

والملفت للنظر هو إستخدام صيغة الغائب في الحديث عنه عزّوجلّ، ثمّ الإنتقال إلى صيغة المتكلّم، وهذا النوع من التعابير، غير منحصر في هذه الآية فقط، بل يلاحظ في مواضع اُخرى من القرآن المجيد أيضاً، وكأنّ الجملة الاُولى تعطي للمخاطب إدراكاً ومعرفة جديدة، وتستحضره بهذا الإدراك والمعرفة بين يدي الباري عزّوجلّ، ثمّ عنده حضوره يلقى عليه الحديث مباشرةً.

ثمّ تُشير الآية إلى تنوّع أشكال الجبال والطرق الملوّنة التي تمرّ من خلالها وتؤدّي إلى تشخيصها وتفريقها الواحدة عن الاُخرى. فتقول: (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود)(1).

هذا التفاوت اللوني يضفي على الجبال جمالا خاصّاً من جهة، ومن جهة

________________________________

1 ـ قال البعض بأنّ هذه الجملة الإستئنافية «من الجبال» خبر مقدّم و «جدد» مبتدأ مؤخّر، وذهب آخرون: إنّ تقدير الجملة هكذا «ألم تر أنّ من الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها».

[ 74 ]

اُخرى، يكون سبباً لتشخيص الطرق وعدم الضياع فيما بين طرقها المليئة بالإلتواءات والإنحدارات، وأخيراً فهو دليل على أنّ الله على كلّ شيء قدير.

«جدد» جمع «جدّة» ـ على وزن غدّة ـ بمعنى الجادّة والطريق.

«بيض» جمع «أبيض» كما أنّ «حمر» جمع «أحمر» وهو إشارة إلى الألوان.

«غرابيب» جمع «غربيب» ـ على وزن كبريت ـ وهو المشبّه للغراب في السواد، كقولك أسود كحلك الغراب. وعليه فإنّ ذكر كلمة «سود» بعدها والتي هي أيضاً جمع «أسود» تأكيد على شدّة وحلك السواد في بعض الطرق الجبلية(1).

وإحتمل أيضاً أن يكون التّفسير: ألم تر أنّ الجبال نفسها مثل طرائق بيضاً وحمراً وسوداً مختلفاً ألوانها خطّت على سطح الأرض، وخاصّة إذا نظر إليها الشخص من فاصلة بعيدة، فانّها تُرى على شكل خطوط مختلفة ممدودة على وجه الأرض بيض وحمر وسود مختلف ألوانها(2).

على كلّ حال فإنّ تشكيل الجبال بألوان مختلفة من جهة، وتلوين الطرق الجبلية بألوان متفاوتة، من جهة اُخرى، دليل آخر على عظمة وقدرة وحكمة الله سبحانه وتعالى والتي تتجلّى وتتزيّن كلّ آن بشكل جديد.

وفي الآية التالية تطرح مسألة تنوّع الألوان في البشر والأحياء الاُخرى، فيقول تعالى: (ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه).

أجل، فالبشر مع كونهم جميعاً لأب واُمّ واحدين، إلاّ أنّهم عناصر وألوان متفاوتة تماماً، فالبعض أبيض البشرة كالوفر، والبعض الآخر أسود كالحبر، وحتّى في العنصر الواحد فإنّ التفاوت في اللون شديد أيضاً، بل إنّ التوأمين الذين يطويان المراحل الجنينية معاً، واللذين يحتضن أحدهما الآخر منذ البدء، إذا دقّقنا

________________________________

1 ـ إستناداً إلى ما صرّحت به بعض كتب اللغة كلسان العرب فإنّ (سود) في الآية أعلاه هي بدل عن «غرابيب» لأنّه في حالة الألوان لا يقدّم التأكيد، لاحظ أنّ (غرابيب) أكثر إشباعاً للتأكيد من ناحية السواد، لذا قيل إنّ الأصل كان «سودٌ غرابيب».2 ـ تفسير الميزان، مجلّد 17، صفحة 42.

[ 75 ]

النظر نجدهما ليسا من لون واحد، مع أنّهما من نفس الأبوين، وتمّ إنعقاد نطفتيهما في وقت واحد، وتغذّيا من غذاء واحد.

ناهيك عن التفاوت والإختلاف الكامل في بواطنهم عدّ أشكالهم الظاهرية، وفي خلقهم ورغباتهم وخصوصيات شخصياتهم وإستعداداتهم وذوقهم، بحيث يتكوّن بذلك كيان مستقل منسجم بكلّ إحتياجاته الخاصّة.

في عالم الكائنات الحيّة أيضاً يوجد آلاف الآلاف من أنواع الحشرات، الطيور، الزواحف، الحيوانات البحرية، الوحوش الصحراوية، بكلّ خصائصها النوعية وعجائب خلقتها. كدلالة على قدرة وعظمة وعلم خالقها.

حينما نضع قدمنا في حديقة كبيرة من حدائق الحيوان فسوف نصاب بالذهول والحيرة والدهشة بحيث أنّنا ـ بلا وعي منّا ـ نتوجّه بالشكر والثناء لله المبدع لكلّ هذا الفن الخلاّب على صفحة الوجود. مع أنّنا لا نرى أمامنا في تلك الحديقة إلاّ جزءً من آلاف الأجزاء من الموجودات الحيّة في العالم.

وبعد عرض تلك الأدلّة التوحيدية يقول تعالى في الختام جامعاً: نعم إنّ الأمر كذلك (كذلك)(1).

ولأنّ إمكانية الإنتفاع من آيات الخلق العظيمة هذه تتوفّر أكثر عند العباد العقلاء والمفكّرين يقول تعالى في آخر الآية: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء).

نعم فالعلماء من بين جميع العباد، هم الذين نالوا المقام الرفيع من الخشية «وهي الخوف من المسؤولية متوافق مع إدراك لعظمة الله سبحانه»، حالة (الخشية) هذه تولّدت نتيجة سبر أغوار الآيات الآفاقية والأنفسية، والتعرّف على حقيقة علم وقدرة الله وغاية الخلق.

________________________________

1 ـ حول ما هو إعراب «كذلك» اُعطيت إحتمالات عديدة، بعضهم قالوا بأنّها جملة مستقلّة تقديرها (الأمر كذلك) ونحن إنتخبنا في تفسيرنا هذا المعنى لكونه الأنسب، ولكن البعض ربطوها بالجملة السابقة فقالوا: إنّ المعنى هو كما أنّ الثمرات وجدد الجبال مختلف ألوانها كذلك الناس والدواب والأنعام، وقد احتمل أيضاً أن تكون الجملة مرتبطة بما بعدها والمعنى: كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية.

[ 76 ]

الراغب في مفرداته يقول: «الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يُخشى منه، ولذلك خصّ العلماء بها».

قلنا تكراراً بأنّ الخوف من الله بمعنى الخوف من المسؤولية التي يواجهها الإنسان، الخوف من أن يقصّر في أداء رسالته ووظيفته، ناهيك عن أنّ إدراك جسامة تلك المسؤولية يؤدّي أيضاً إلى الخشية، لأنّ الله المطلق قد عهد بها إلى الإنسان المحدود الضعيف، (تأمّل بدقّة)!!

كذلك يستفاد من هذه الجملة ضمناً بأنّ العلماء الحقيقيين هم اُولئك الذين يستشعرون المسؤولية الثقيلة حيال وظائفهم، وبتعبير آخر: أهل عمل لا كلام، إذ أنّ العلم بدون عمل دليل على عدم الخشية، ومن لا يستشعر الخشية لا تشمله الآية أعلاه.

هذه الحقيقة وردت في حديث عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام)حيث يقول: «وما العلم بالله والعمل إلاّ إلفان مؤتلفان فمن عرف الله خافه، وحثّه الخوف على العمل بطاعة الله، وإنّ أرباب العلم وأتباعهم (هم) الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه، وقد قال الله: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)»(1).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية «يعني بالعلماء من صدق قوله فعله ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم»(2).

وفي حديث آخر جاء «أعلمكم بالله أخوفكم لله»(3).

ملخّص القول أنّ العلماء ـ بالمنطق القرآني ـ ليسوا اُولئك الذين تحوّلت أدمغتهم إلى صناديق للآراء والأفكار المختلفة من هنا وهناك ومليئة بالقوانين والمعادلات العلميّة للعالم وتلهج بها ألسنتهم، أو الذين سكنوا المدارس

________________________________

1 ـ روضة الكافي، طبقاً لنقل نور الثقلين، مجلّد 4، صفحة 359.2 ـ مجمع البيان، تفسير الآيات مورد البحث.3 ـ

[ 77 ]

والجامعات والمكاتب، بل إنّ العلماء هم أصحاب النظر الذين أضاء نور العلم والمعرفة كلّ وجودهم بنور الله والإيمان والتقوى، والذين هم أشدّ الناس إرتباطاً بتكاليفهم مع ما يستشعرونه من عظمة المسؤولية إزاءها.

نقرأ في سورة القصص أيضاً أنّه حينما اغترّ «قارون» وإستشعر الرضى عن نفسه وادّعى لها مقام العلم، قام يعرض ثروته أمام الناس، وتمنّى عبّاد الدنيا الذين أسرتهم تلك المظاهر البرّاقة أن تكون لهم مثل تلك الثروة والإمكانية الدنيوية، ولكن علماء بني إسرائيل قالوا لهم: إنّ ثواب الله خيرٌ وأبقى لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يفوز بذلك إلاّ الصابرون المستقيمون: (وقال الذين اُوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلاّ الصابرون).(1)

وفي ختام الآية يقول تعالى، كدليل موجز على ما مرّ: (إنّ الله عزيز غفور).

«عزّته» وقدرته اللامتناهية منبع للخوف والخشية عند العلماء، و (غفرانه)، سبب في الرجاء والأمل عندهم، وبذا فإنّ هذين الإسمين المقدّسين يحفظان عباد الله بين الخوف والرجاء، ونعلم بأنّه لا يمكن إدامة الحركة باتّجاه التكامل بدون الإتّصاف بهاتين الصفتين بشكل متكافيء.

 

* * *

________________________________

1 ـ القصص ـ 80.

[ 78 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـبَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـرَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

 

التّفسير

التجارة المربحة مع الله:

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى مرتبة الخوف والخشية عند العلماء، تشير الآيات مورد البحث إلى مرتبة «الأمل والرجاء» عندهم أيضاً، إذ أنّ الإنسان بهذين الجناحين ـ فقط ـ يمكنه أن يحلّق في سماء السعادة، ويطوي سبيل تكامله، يقول تعالى أوّلا: (إنّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجارةً لن تبور)(1).

بديهي أنّ «التلاوة» هنا لا تعني مجرّد القراءة السطحية الخالية من التفكّر والتأمّل، بل قراءة تكون سبباً وباعثاً على التفكّر، الذي يكون بدوره باعثاً على العمل الصالح، الذي يربط الإنسان بالله من جهة، ومظهر ذلك الصلاة، ويربطه

________________________________

1 ـ يلاحظ أنّ «يرجون» خبر «أنّ».

[ 79 ]

بخلق الله من جهة ثانية، ومظهر ذلك الإنفاق من كلّ ما تفضّل به الله تعالى على الإنسان، من علمه، من ماله وثروته ونفوذه، من فكره الخلاّق، من أخلاقه وتجاربه، من جميع ما وهبه الله.

هذا الإنفاق تارةً يكون (سرّاً)، فيكون دليلا على الإخلاص الكامل. وتارةً يكون (علانية) فيكون تعظيماً لشعائر الله ودافعاً للآخرين على سلوك هذا الطريق.

ومع الإلتفات إلى ما ورد في هذه الآية والآية السابقة نستنتج أنّ العلماء حقّاً هم الذين يتّصفون بالصفات التالية:

* قلوبهم مليئة بالخشية والخوف من الله المقترن بتعظيمه تعالى.

* ألسنتهم تلهج بذكر الله وتلاوة آياته.

* يصلّون ويعبدون الله.

* ينفقون في السرّ والعلانية ممّا عندهم.

* وأخيراً ومن حيث الأهداف، فإنّ اُفق تفكيرهم سام إلى درجة أنّهم أخرجوا من قلوبهم هذه الدنيا الماديّة الزائلة، ويتأمّلون ربحاً من تجارتهم الوافرة .. الربح مع الله وحده، لأنّ اليد التي تمتدّ إليه لا تخيب أبداً.

والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ «تبور» من «البوار» وهو فرط الكساد، ولمّا كان فرط الكساد يؤدّي إلى الفساد كما قيل «كسد حتّى فسد» عُبّر بالبوار عن الهلاك، وبذا فإنّ «التجارة الخالية من البوار» تجارة خالية من الكساد والفساد.

ورد في حديث رائع أنّه جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يارسول الله، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال: «ألك مال» قال: نعم. قال: «فقدّمه» قال: لا أستطيع. قال: «فإنّ قلب الرجل مع ماله، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه»(1).

إنّ هذا الحديث في الحقيقة يعكس روح الآية أعلاه، لأنّ الآية تقول إنّ الذين

________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج4، ص407.

[ 80 ]

يقيمون الصلاة، وينفقون في سبيل الله لهم أمل وتعلّق بدار الآخرة، لأنّهم أرسلوا الخيرات قبلهم ولهم الميل للحوق به.

الآية الأخيرة من هذه الآيات، توضّح هدف هؤلاء المؤمنين الصادقين فتقول: انّهم يعملون الخيرات والصالحات (ليوفّيهم اُجورهم ويزيدهم من فضله إنّه غفور شكور)(1).

هذه الجملة في الحقيقة تشير منتهى إخلاصهم، لأنّهم لا ينظرون إلاّ إلى الأجر الإلهي، أي شيء يريدونه من الله يطلبونه، ولا يقصدون به الرياء والتظاهر وتوقّع الثناء من هذا ومن ذاك، إذ أنّ أهمّ قضيّة في الأعمال الصالحة هي «النيّة الخالصة».

التعبير بـ «اُجور» في الحقيقة لطف من الله، فكأنّ العباد يطلبون من الله مقابل أعمالهم أجراً!! في حال أنّ كلّ ما يملكه العباد منه تعالى، حتّى القدرة على إنجاز الأعمال الصالحة أيضاً هو الذي أعطاهم إيّاها.

وألطف من هذا التعبير قوله (ويزيدهم من فضله) الذي يبشّرهم بأنّه علاوة على الثواب الذي يكون عادةً على الأعمال والذي يكون مئات أو آلاف الأضعاف المضاعفة للعمل، فإنّه يزيدهم من فضله، ويعطيهم من سعة فضله ما لم يخطر على بال، وما لا يملك أحد في هذه الدنيا القدرة على تصوره.

جاء في حديث عن ابن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في قوله: (ويزيدهم من فضله): هو الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن صنع إليه معروفاً في الدنيا(2).

وبذا فإنّهم ليسوا فقط من أهل النجاة، بل إنّهم يكونون سبباً في نجاة الآخرين بفضل الله ولطفه.

________________________________

1 ـ جملة «ليوفّيهم» إمّا أنّها متعلّقة بجملة «يتلون كتاب الله ...» وعليه يكون معناها «إنّ هدفهم من التلاوة والصلاة والإنفاق الحصول على الأجر الإلهي» أو أنّها متعلّقة بـ «لن تبور ...» وبذا يكون معناها «إنّ تجارتهم لن يصيبها الفساد لأنّ المثيب لهم هو الله تعالى».2 ـ مجمع البيان، ج4، ص407.

[ 81 ]

وقال بعض المفسّرين بأنّ جملة: (ويزيدهم من فضله) إشارة إلى مقام «الشهود» الذي يكون للمؤمنين في يوم القيامة بأن يمكّنهم الله من النظر إلى جماله وجلاله والإلتذاذ من ذلك بأعظم اللذّات. ولكن يظهر أنّ الجملة المذكورة لها معنى واسع وشامل بحيث يشمل محتوى الحديث المذكور وعطايا ومواهب اُخرى غير معروفة أيضاً.

جملة (إنّه غفور شكور) تدلّل على أنّ أوّل لطف الله معهم، هو «العفو» عن ذنوبهم وزلاّتهم التي تبدر منهم أحياناً، لأنّ أشدّ قلق المؤمن يكون من هذا الجانب.

وبعد أن يهدأ بالهم من تلك الجهة، فانّه تعالى يشملهم بـ «الشكر» أي انّه يشكر لهم أعمالهم ويعطيهم أفضل الجزاء والثواب.

نقل تفسير «مجمع البيان» مثلا تضربه العرب وهو «أشكر من بروقة» وتزعم العرب أنّها ـ أي بروقة ـ شجرة عارية من الورق، تغيم السماء فوقها فتخضر وتورق من غير مطر(1). وهو مثل يضرب للتعبير عن منتهى الشكر، ففي قبال أقل الخدمات، يُقدّم أعظم الثواب. بديهي أنّ خالق مثل هذه الشجرة أشكر منها وأرحم.

* * *

 

تعليقة

شروط تلك التجارة العجيبة:

الملفت للنظر أنّ كثيراً من الآيات القرآنية الكريمة تشبّه هذا العالم بالمتجر الذي تُجّاره الناس، والمشتري هو الله سبحانه وتعالى، وبضاعته العمل الصالح،

________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 4، ص 407.

[ 82 ]

والقيمة أو الأجر: الجنّة والرحمة والرضا منه تعالى(1).

ولو تأمّلنا بشكل جيّد فسوف نرى أنّ هذه التجارة العجيبة مع الله الكريم ليس لها نظير، لأنّها تمتاز بالمزايا التالية التي لا تحتويها أيّة تجارة اُخرى:

1 ـ إنّ الله سبحانه وتعالى أعطى للبائع تمام رأسماله، ثمّ كان له مشترياً!.

2 ـ إنّ الله تعالى مشتر في حال أنّه غير محتاج ـ إلى شيء تماماً ـ فلديه خزائن كلّ شيء.

3 ـ إنّه تعالى يشتري «المتاع القليل» بالسعر «الباهض» «يامن يقبل اليسير ويعفو عن الكثير»، «يامن يعطي الكثير بالقليل».

4 ـ هو تعالى يشتري حتّى البضاعة التافهة (فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره).

5 ـ أحياناً يعطي قيمة تعادل سبعمائة ضعف أو أكثر «البقرة ـ 261».

6 ـ علاوة على دفع الثمن العظيم فإنّه أيضاً يضيف إليه من فضله ورحمته (ويزيدهم من فضله) (الآية موضوع البحث).

ويا له من أسف أنّ الإنسان العاقل الحرّ، يغلق عينيه عن تجارة كهذه، ويشرع بغيرها، وأسوأ من ذلك أن يبيع بضاعته مقابل لا شيء.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) يقول: «ألا حرّ يدع هذه اللّماظة لأهلها، إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلاّ بها»(2).

 

* * *

________________________________

1 ـ سورة الصف: آية 1 والتوبة ـ آية 111 والبقرة 207 والنساء ـ 74.2 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، جملة 456، صفحة 556.

[ 83 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَبِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)

 

التّفسير

الورثة الحقيقيّون لميراث الأنبياء:

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين المخلصين الذين يتلون الكتاب الإلهي ويطبّقون وصاياه، تتحدّث هذه الآيات عن ذلك الكتاب السماوي وأدلّة حقّانيّته، وكذلك عن الحملة الحقيقيين لذلك الكتاب، وبذا يستكمل الحديث الذي إفتتحته الآيات السابقة حول التوحيد، بالبحث الذي تثيره هذه الآيات حول النبوّة.

تقول الآية الكريمة: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ).

مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ (الحقّ) يعني كلّ ما ينطبق مع الواقع وينسجم معه، فإنّ هذا التعبير دليل على إثبات أنّ هذا الكتاب السماوي نازل من الله تعالى، لأنّنا

[ 84 ]

كلّما دقّقنا النظر في هذا الكتاب السماوي وجدناه أكثر إنسجاماً مع الواقع.

فليس فيه تناقض، أو كذب أو خرافة، بل فمبادئه ومعارفه تنسجم مع منطق العقل. قصصه وتواريخه منزّهة عن الأساطير والخرافات، وقوانينه تتساوق مع إحتياجات البشر، فتلك الحقّانية دليل واضح على أنّه نازل من الله سبحانه وتعالى.

هنا ولأجل توضيح موقع القرآن الكريم، تمّت الإستفادة هنا من كلمة «الحقّ»، في حال أنّه في آيات اُخرى من القرآن الكريم ورد التعبير عنه بـ «النور» و «البرهان» و «الفرقان» و «الذكر» و «الموعظة» و «الهدى»، وكلّ واحدة منها تشير إلى واحدة من بركات القرآن وأبعاده، بينما كلمة (الحقّ) تشمل جميع تلك البركات.

يقول الراغب في (مفرداته): أصل الحقّ المطابقة والموافقة، والحقّ يقال على أوجه:

الأوّل: يقال لمن يوجد الشيء على أساس الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، لذا قال الله: (فذلكم الله ربّكم الحقّ).(1)

الثّاني: يقال للشيء الذي وُجد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال فِعلُ الله تعالى كلّه حقّ، قال تعالى: (ما خلق الله ذلك إلاّ بالحقّ)،(2) أي الشمس والقمر وغير ذلك.

الثّالث: في العقائد المطابقة للواقع. قال تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لمّا اختلفوا فيه من الحقّ).(3)

والرّابع: يقال للأقوال والأفعال الصادر وفقاً لما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت المقرّر، كقولنا: فعلك حقّ، وقولك حقّ(4).

________________________________

1 ـ يونس، 32.2 ـ يونس ـ 5.3 ـ البقرة ـ 213.4 ـ مفردات الراغب ـ مادّة حقّ. «مع تلخيص وإختصار».

[ 85 ]

وبناءً عليه، فإنّ حقّانية القرآن المجيد هي من حيث كونه حديثاً مطابقاً للمصالح والواقعيات من جهة، كما أنّ العقائد والمعارف الموجودة فيه تنسجم مع الواقع من جهة اُخرى، ومن جهة ثالثة فإنّه من نسج الله وصنعه الذي صنعه على أساس الحكمة، والله ذاته تعالى الذي هو الحقّ يتجلّى في ذلك الكتاب العظيم، والعقل يصدق ويؤمن بما هو حقّ.

جملة (مصدّقاً لما بين يديه) دليل آخر على صدق هذا الكتاب السماوي، لأنّه ينسجم مع الدلائل المذكورة في الكتب السماوية السابقة في إشارتها إليه وإلى حامله (صلى الله عليه وآله وسلم).

جملة (إنّ الله بعباده لخبير بصير) توضّح علّة حقّانية القرآن وإنسجامه مع الواقع والحاجات البشرية، لأنّه نازل من الله سبحانه وتعالى الذي يعرف عباده خير معرفة، وهو البصير الخبير فيما يتعلّق بحاجاتهم.

لكن ما هو الفرق بين «الخبير» و «البصير»؟

قال البعض: «الخبير» العالم بالبواطن والعقائد والنيّات والبُعد الروحي في الإنسان، و«البصير» العالم بالظواهر والبعد الجسماني للإنسان.

وقال آخرون: «الخبير» إشارة إلى أصل خلق الإنسان، و«البصير» إشارة إلى أعماله وأفعاله.

وطبيعي أنّ التّفسير الأوّل يبدو أنسب وإن كان شمول الآية لكلا المعنيين ليس مستبعداً.

الآية التّالية تتحدّث في موضوع مهم بالنسبة إلى حملة هذا الكتاب السماوي العظيم، اُولئك الذين رفعوا مشعل القرآن الكريم بعد نزوله على الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، في زمانه وبعده على مرّ القرون والعصور، وهم يحفظونه ويحرسونه، فتقول: (ثمّ أورثنا للكتاب الذين اصطفينا من عباده).

واضح أنّ المقصود من «الكتاب» هنا، هو نفس ما ذكر في الآية السابقة وهو

[ 86 ]

«القرآن الكريم» والألف واللام فيه «للعهد». والقول بأنّ المراد هو الإشارة للكتب السماوية، وأنّ اللام هنا «للجنس» يبدو بعيد الإحتمال، وليس فيه تناسب مع ما ورد في الآيات السابقة.

التعبير بـ «الإرث» هنا وفي موارد اُخرى مشابهة في القرآن الكريم، لأجل أنّ «الإرث» يطلق على ما يستحصل بلا مشقّة أو جهد، والله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب السماوي العظيم للمسلمين هكذا بلا مشقّة أو جهد.

لقد وردت روايات كثيرة هنا من أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير عبارة (الذين اصطفينا) بالأئمّة المعصومين (عليهم السلام)(1).

هذه الروايات ـ كما ذكرنا مراراً ـ ذكر لمصاديق واضحة وفي الدرجة الاُولى. ولكن لا مانع من إعتبار العلماء والمفكّرين في الاُمّة، والصلحاء والشهداء، الذين سعوا واجتهدوا في طريق حفظ هذا الكتاب السماوي، والمداومة على تطبيق أوامره ونواهيه، تحت عنوان (الذين اصطفينا من عبادنا).

ثمّ تنتقل الآية إلى تقسيم مهمّ بهذا الخصوص، فتقول: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير).

ظاهر الآية هو أنّ هذه المجاميع الثلاثة هي من بين (الذين اصطفينا) أي: ورثة وحملة الكتاب السماوي.

وبتعبير أوضح، إنّ الله سبحانه وتعالى قد أوكل مهمّة حفظ هذا الكتاب السماوي، بعد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه الاُمّة، الاُمّة التي إصطفاها الله سبحانه، غير أنّ في تلك الاُمّة مجاميع مختلفة: بعضهم قصّروا في وظيفتهم العظيمة في حفظ هذا الكتاب والعمل بأحكامه، وفي الحقيقة ظلموا أنفسهم، وهم مصداق (ظالم لنفسه).

ومجموعة اُخرى، أدّت وظيفتها في الحفظ والعمل بالأحكام إلى حدّ كبير، وإن

________________________________

1 ـ راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 361.

[ 87 ]

كان عملها لا يخلو من بعض الزلاّت والتقصيرات أيضاً، وهؤلاء مصداق «مقتصد».

وأخيراً مجموعة ممتازة، أنجزت وظائفها العظيمة بأحسن وجه، وسبقوا الجميع في ميدان الإستباق، والذين أشارت إليهم الآية بقولها: (سابق بالخيرات بإذن الله).

وهنا يمكن أن يقال بأنّ وجود المجموعة «الظالمة» ينافي أنّ هؤلاء جميعاً مشمولون بقوله «اصطفينا»؟

وفي الجواب نقول: إنّ هذا شبيه بما ورد بالنسبة إلى بني إسرائيل في الآية (53) من سورة المؤمن: (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب)، في حال أنّنا نعلم أنّ بني إسرائيل جميعهم لم يؤدّوا وظيفتهم إزاء هذا الميراث العظيم.

أو نظير ما ورد في الآية (110) من سورة آل عمران: (كنتم خير اُمّة اُخرجت للناس).

أو ما ورد في الآية (16) من سورة الجاثية بخصوص بني إسرائيل أيضاً (وفضّلناهم على العالمين).

وكذلك في الآية (26) من سورة الحديد نقرأ: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذرّيتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون).

وخلاصة القول: إنّ الإشارة في أمثال هذه التعبيرات ليست للاُمّة بأجمعها فرداً فرداً، بل إلى مجموع الاُمّة، وإن احتوت على طبقات، ومجموعات مختلفة(1).

________________________________

1 ـ أمّا ما احتمله البعض من أنّ التقسيم الوارد في الآية يعود على «عبادنا» وليس على «الذين اصطفينا»، بحيث أنّ هذه المجموعات الثلاثة لا تدخل ضمن مفهوم ورثة الكتاب، بل ضمن مفهوم «عبادنا» و «الذين اصطفينا» فقط المجموعة الثالثة أي «السابقين بالخيرات»، فيبدو بعيداً، لأنّ الظاهر هو أنّ هذه المجموعات ممّن ذكرتهم الآية، ونعلم أنّ الحديث في الآية لم يكن عن كلّ العباد، بل عن (الذين اصطفينا)، ناهيك عن إضافة «نا» إلى «عباد» وهو نوع من التمجيد والمدح، ممّا يجعل ذلك غير منسجم مع التّفسير المذكور.

[ 88 ]

وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في تفسير «سابق بالخيرات» بالمعصوم (عليه السلام)، و «ظالم لنفسه» بمن لا يعرف الإمام، و «المقتصد» العارف بالإمام(1).

هذه التّفسيرات شاهد واضح على ما إخترناه لتفسير الآية، وهو أنّه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي.

ولا نحتاج إلى التذكير بأنّ تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية، وهم الأئمّة المعصومون، إذ هم الصفّ الأوّل، بينما العلماء والمفكّرون وحماة الدين الآخرون في صفوف اُخرى.

كذلك فإنّ التّفسير الوارد في تلك الروايات للظالم والمقتصد، هو أيضاً من قبيل بيان المصاديق، وإذا لاحظنا أنّ بعض الرّوايات تنفي شمول الآية للعلماء في مقصودها فإنّ ذلك في الحقيقة لإلفات النظر إلى وجود الإمام في مقدّمة تلك الصفوف.

ومن الجدير بالذكر أنّ جمعاً من المفسّرين القدماء والمعاصرين احتملوا الكثير من الإحتمالات في تفسير هذه المجاميع، والتي هي في الحقيقة جميعاً من قبيل بيان المصاديق(2).

________________________________

1 ـ راجع تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 361، كذلك الكافي، المجلّد 1، باب من إصطفاه الله من عباده.2 ـ ذهب بعض بأنّ السابق بالخيرات هم أعوان الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمقتصد طبقة التابعين، والظالم لنفسه أفراداً آخرون.والبعض الآخر فسّروا «سابق بالخيرات» بالذين يفضّل باطنهم على ظاهرهم و «المقتصد» بالذين يتساوى ظاهرهم وباطنهم، و «الظالم لنفسه» بالذين يفضّل ظاهرهم على باطنهم.والبعض الآخر قالوا إنّ «السابقين» هم الصحابة، و «المقتصدين» هم تابعيهم، و «الظالمين» هم المنافقون.وقال آخرون بأنّ الآية تشير إلى المجموعات الثلاثة الواردة في سورة الواقعة ـ الآيات 7 إلى 11. (وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون اُولئك المقرّبون).وفي حديث أنّ «السابق بالخيرات» هم الأئمّة علي والحسن والحسين وشهداء آل محمّد عليهم الصلاة والسلام، والمقتصد المتديّنون المجاهدون، والظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحاً وآخر غير صالح.وكلّ هذه التّفسيرات كما قلنا من قبيل بيان المصاديق، وكلّها قابلة للتعقّل، عدا التّفسير الأوّل الذي لا يحتوي على مفهوم صحيح.

[ 89 ]

وهنا يطرح السؤال التالي: لماذا ابتدأ الحديث بذكر الظالمين كمجموعة اُولى، ثمّ المقتصد، ثمّ السابقين بالخيرات، في حين أنّ العكس يبدو أولى من عدّة جهات؟

بعض كبار المفسّرين قالوا للإجابة على هذا السؤال: إنّ الهدف هو بيان ترتيب مقامات البشر في سلسلة التكامل، لأنّ أوّل المراحل هي مرحلة العصيان والغفلة، وبعدها مقام التوبة والإنابة، وأخيراً التوجّه والإقتراب من الله سبحانه وتعالى، فحين تصدر المعصية من الإنسان فهو «ظالم لنفسه»، وحين يلج مقام التوبة فهو «مقتصد»، وحين تقبل توبته ويزداد جهاده في طريق الحقّ، ينتقل إلى مقام القرب ليرقى إلى مقام «السابقين بالخيرات»(1).

وقال آخر: بأنّ هذا الترتيب لأجل الكثرة والقلّة في العدد والمقدار، فالظالمون يشكّلون الأكثرية، والمقتصدون في المرتبة التالية، والسابقون للخيرات وهم الخاصّة والأولياء من الناس هم الأقلّية وان كانوا أفضل من الناحية الكيفيّة.

الملفت للتأمّل ما نقل في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (ما مؤدّاه): «قُدّم الظالم لكي لا ييأس من رحمة الله، وأخّر السابقون بالخيرات لكي  لا يأخذهم الغرور بعملهم»(2).

ويمكن أن يكون كلّ من هذه المعاني الثلاثة مقصوداً.

وآخر كلام في تفسير هذه الآية حول المشار إليه في جملة (ذلك هو الفضل الكبير

قال البعض، بأنّه ميراث الكتاب الإلهي، وقال آخرون بأنّه إشارة إلى التوفيق التي شمل حال السابقين بالخيرات، وطيّهم لهذا الطريق بإذن الله، لكن يبدو أنّ

________________________________

1 ـ مجمع البيان، تفسير الآية مورد البحث.2 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، المجلّد 9 تفسير الآيات مورد البحث.

[ 90 ]

المعنى الأوّل أنسب وأكثر إنسجاماً مع ظاهر الآية.

* * *

 

ملاحظة

من هم حرّاس الكتاب الإلهي؟

على ما ذكر القرآن الكريم فإنّ الله سبحانه وتعالى يشمل الاُمّة الإسلامية بمواهب عظيمة، من أهمّها ذلك الميراث الإلهي العظيم وهو «القرآن».

وقد اُصطفيت الاُمّة الإسلامية من باقي الاُمم، وتلك نعمة اُعطيت لها، ومسؤولية ثقيلة اُسندت إليها بنفس النسبة التي فضّلت بها وأصبحت بسببها مشمولة باللطف الإلهي، وستكون هذه الاُمّة في صف «السابقين بالخيرات» ما أدّت حقّ حفظ وحراسة هذا الميراث العظيم. أي أن تسبق جميع الاُمم في الخيرات، في تطوير العلوم، في التقوى والزهد، في العبادة وخدمة البشرية، في الجهاد والإجتهاد، في التنظيم والإدارة، في الفداء والإيثار والتضحية، فتتقدّم وتسبق في كلّ هذه الاُمور، وإلاّ فإنّها لا تكون قد أدّت حقّ حفظ ذلك الميراث العظيم. خاصّة إذا علمنا أنّ تعبير «السابقين بالخيرات» مفهوم واسع إلى درجة أنّه يشمل التقدّم في جميع الاُمور ذات المنحى الإيجابي من اُمور الحياة.

نعم، فحملة مثل هذا الميراث هم ـ فقط ـ اُولئك الذين يتّصفون بتلك الصفات، بحيث أنّهم لو أعرضوا عن تلك الهدية السماوية العظيمة ولم يراعوا حرمتها، فسيكونون مصداقاً لـ «ظالم لنفسه»، إذ أنّ محتوى تلك الهدية الإلهية ليس سوى نجاتهم وتوفيقهم وإنتصارهم، فإنّ من يضرب عرض الحائط بنسخة الدواء التي كتبها له الطبيب، فإنّه يساعد على إستمرار الألم والعذاب لنفسه. وإنّ من يحطّم مصباحه الوحيد وهو يسير في طريق مظلم، إنّما يسوق نفسه إلى التيه والضياع، لأنّ الله سبحانه وتعالى غني عن الجميع.

[ 91 ]

وعلى المذنبين أيضاً أن لا ينسوا حقيقة أنّهم كانوا مشمولين بمضمون الآية الكريمة في زمرة (الذين إصطفينا) وإنّ لهم ذلك الإستعداد بالقوّة، فعليهم أن يتجاوزوا مرحلة «الظالم لنفسه» وينتقلوا إلى مرحلة «المقتصد» وليرتقوا من هناك حتّى ينالوا فخر «السابقين بالخيرات»، حيث أنّهم من جهة الفطرة والبناء الروحي من الذين إصطفاهم الحقّ.

 

* * *

[ 92 ]

 

 

 

 

 

 

الآيات

 

جَنَّـتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

 

التّفسير

الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن:

هذه الآيات في الحقيقة نتيجة لما ورد ذكره في الآيات الماضية، يقول تعالى: (جنّات عدن يدخلونها)(1).

«جنّات» جمع «جنّة» بمعنى (الروضة) وكلّ بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض.

________________________________

1 ـ «جنّات عدن»: يمكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره «جزائهم» أو «اُولئك لهم جنّات عدن»، نظير الآية (31 ـ سورة الكهف) بعضهم أيضاً قال: إنّها (بدل) عن «الفضل الكبير»، ولكن باعتبار أنّ «الفضل الكبير» إشارة إلى ميراث الكتاب السماوي، فلا يمكن أن تكون «جنّات» بدلا عنها، إلاّ إذا اعتبرنا المسبّب في مقام السبب.

[ 93 ]

و «عدن» بمعنى الإستقرار والثبات، ومنه سمّي المعدن لأنّه مستقر الجواهر والمعادن. وعليه فإنّ «جنّات عدن» بمعنى «جنّات الخلد والدوام والإستقرار».

على كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى أنّ نعم الجنّة العظيمة خالدة وثابتة، وليست كنعم الدنيا ممزوجة بالقلق الناجم عن زوالها وعدم دوامها، وأهل الجنّة ليست لهم جنّة واحدة، بل جنّات متعدّدة تحت تصرّفهم.

ثمّ تشير الآية إلى ثلاثة أنواع من نعم الجنّة، بعضها إشارة إلى جانب مادّي وبعضها الآخر إلى جانب معنوي وباطني، وبعض أيضاً يشير إلى عدم وجود أي نوع من المعوّقات، فتقول الآية: (يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير).

 

فهؤلاء لم يلتفتوا في هذه الدنيا إلى بريقها وزخرفها، ولم يجعلوا أنفسهم أسرى لزبرجها، ولم يكونوا أسرى التفكير باللباس الفاخر، والله سبحانه وتعالى يعوّضهم عن كلّ ذلك، فيلبسهم في الآخرة أفخر الثياب.

هؤلاء زيّنوا حياتهم الدنيا بالخيرات، فزيّنهم الله سبحانه وتعالى في يوم تجسّد الأعمال يوم القيامة بأنواع الزينة.

لقد قلنا مراراً بأنّ الألفاظ التي وضعت لهذا العالم المحدود لا يمكنها أن توضّح مفاهيم ومفردات عالم القيامة العظيم، فلأجل بيان نِعم ذلك العالم الآخر نحتاج إلى حروف اُخرى وثقافة اُخرى وقاموس آخر، على أيّة حال، فلأجل توضيح صورة وإن كانت باهتة عن النعم العظيمة في ذلك العالم لابدّ لنا أن نستعين بهذه الألفاظ العاجزة.

بعد ذكر تلك النعمة الماديّة، تنتقل الآية مشيرة إلى نعمة معنوية خاصّة فتقول: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن).

فهؤلاء يحمدون الله بعد أن أصبحت تلك النعمة العظيمة من نصيبهم، وتلاشت عن حياتهم جميع عوامل الغمّ والحسرة ببركة اللطف الإلهي، وتبدّدت سحب الهمّ

[ 94 ]

المظلمة عن سماء أرواحهم، فلا خوف من عذاب إلهي، ولا وحشة من موت وفناء، ولا قلق، ولا أذى الماكرين، ولا إضطهاد الجبابرة القساة الغاصبين.

اعتبر بعض المفسّرين ذلك الغمّ والحسرة إشارة إلى نظير ما يتعرّض له في الدنيا، واعتبره البعض الآخر إشارة إلى الحسرة في المحشر على نتائج أعمالهم، ولا تضادّ بين هذين التّفسيرين، ويمكن جمعهما في إطار المفهوم العام للآية.

«الحزن»: (على وزن عدم)، و «الحزن» ـ على وزن عُسر ـ كليهما لمعنىً واحد كما ذهب إليه أرباب اللغة، وأصله الوعورة والخشونة في الأرض واطلق على الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ ويضادّه الفرح(1).

ثمّ يضيف أهل الجنّة هؤلاء (إنّ ربّنا لغفور شكور).

فبغفرانه أزال عنّا حسرة الزلاّت والذنوب، وبشكره وهبنا المواهب الخالدة التي لن يلقى عليها الغمّ بظلاله المشؤومة. غفر وستر بغفرانه الكثير الكثير من ذنوبنا، وبشكره أعطانا الكثير الكثير على أعمالنا البسيطة القليلة القليلة!

أخيراً تنتقل الآية مشيرة إلى آخر النعم، وهي عدم وجود عوامل الإزعاج والمشقّة والتعب والعذاب، فتحكي عن ألسنتهم (الذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب).

الدار الآخرة هناك دار إقامة لا كما في الدنيا حيث أنّ الإنسان ما أن يألف محيطه ويتعلّق به حتّى يقرع له جرس الرحيل! هذا من جانب .. ومن جانب آخر فمع أنّ العمر هناك متّصل بالأبد، إلاّ أنّ الإنسان لا يصيبه الملل أو الكلل، أو التعب أو النصب مطلقاً، لأنّهم في كلّ آن أمام نعمة جديدة، وجمال جديد.

«النصب» بمعنى التعب، و «اللغوب» بمعنى التعب والنصب أيضاً. هذا على ما تعارف عليه أهل اللغة والتّفسير، في حين أنّ البعض فرّق بين اللفظتين فقال بأنّ (النصب) يطلق على المشاقّ الجسمانية، و «اللغوب» يطلق على المشاقّ

________________________________

1 ـ مفردات الراغب.

[ 95 ]

الروحية(1). أو أنّه الضعف والنحول الناجم عن المشقّة والألم، وبذا يكون «اللغوب» ناجماً عن «النصب»(2).

وبذا فلا وجود هناك لعوامل التعب والمشقّة، سواء كانت نفسية أو جسمانية.

 

* * *

________________________________

1 ـ اُنظر تفسير روح المعاني، مجلّد 22، صفحة 184.2 ـ المصدر السابق.

[ 96 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا  وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُور (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـلِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّـلِمِينَ مِن نَّصِير (37) إِنَّ اللهَ عَـلِمُ غَيْبِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)

 

التّفسير

ربّنا أخرجنا نعمل صالحاً!

القرآن الكريم يقرن (الوعيد) (بالوعود) ويذكر «الإنذارات»، إلى جانب «البشارات» لتقوية عاملي الخوف والرجاء الباعثين للحركة التكاملية في الإنسان، إذ أنّ الإنسان بمقتضى «حبّ الذات» يقع تحت تأثير غريزتي «جلب المنفعة» و «دفع الضرر».

وعليه فمتابعة للحديث الذي كان في الآيات السابقة عن المواهب الإلهية

[ 97 ]

العظيمة وصبر «المؤمنين السابقين في الخيرات» ينتقل الحديث هنا إلى العقوبات الأليمة للكفّار، والحديث هنا أيضاً عن العقوبات المادية والمعنوية.

تبتدىء الآيات بالقول: (والذين كفروا لهم نار جهنّم)، فكما أنّ الجنّة دار المقامة والخلد للمؤمنين، فإنّ النار أيضاً مقام أبدي للكافرين.

ثمّ تضيف (لا يقضى عليهم فيموتوا)(1)، فمع أنّ تلك النار الحامية وذلك العذاب المؤلم يستطيع القضاء عليهم في كلّ لحظة، إلاّ أنّهم ولعدم صدور الأمر الإلهي ـ وهو المالك لكلّ شيء ـ بموتهم لا يموتون، يجب أن يبقوا على قيد الحياة ليذوقوا عذاب الله. فالموت بالنسبة إلى هؤلاء ليس سوى منفذ للخلاص من العذاب، لكن الله تعالى أوصد دونهم ذلك المنفذ.

يبقى منفذ آخر هو أن يبقوا على قيد الحياة ويخفّف عنهم العذاب شيئاً فشيئاً، أو أن يزداد تحمّلهم للعذاب فينتج عن ذلك تخفيف العذاب عنهم، ولكن تتمّة الآية أغلقت هذا المنفذ أيضاً (ولا يخفّف عنهم من عذابها).

ثمّ تضيف الآية وللتأكيد على قاطعية هذا الوعد الإلهي (كذلك نجزي كلّ كفور).

فقد كفر هؤلاء في بادىء الأمر بنعمة وجود الأنبياء والكتب السماوية، ثمّ أتلفوا رصيدهم الذي سخّره الله لمساعدتهم على نيل السعادة، نعم، فجزاء الكفّار ليس سوى الحريق والعذاب الأليم، الحريق بالنار التي أشعلوها بأيديهم في الحياة الدنيا واحتطبوا لها من أفكارهم وأعمالهم ووجودهم.

وبما أنّ كلمة «كفور» صيغة مبالغة، فإنّ لها معنى أعمق من «كافر»، علاوة على أنّ لفظة «كافر» تستخدم في قبال «مؤمن» ولكن «كفور» إشارة إلى اُولئك الذين كفروا بكلّ نعم الله، وأغلقوا عليهم جميع أبواب الرحمة الإلهيّة في هذه الدنيا، لذا فإنّ الله يغلق عليهم جميع أبواب النجاة في الآخرة.

________________________________

1 ـ «لا يقضى عليهم» بمعنى لا يحكم عليهم.

[ 98 ]

وتنتقل الآية التالية إلى وصف نوع آخر من العذاب الأليم، وتشير إلى بعض النقاط الحسّاسة في هذا الخصوص، فتقول الآية الكريمة: (وهم يصطرخون فيها ربّنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنّا نعمل)(1).

نعم، فهم بمشاهدة نتائج أعمالهم السيّئة، يغرقون في ندم عميق، ويصرخون من أعماق قلوبهم ويطلبون المحال، العودة إلى الدنيا للقيام بالأعمال الصالحة.

التعبير بـ «صالحاً» بصيغة النكرة إشارة إلى أنّهم لم يعملوا أقلّ القليل من العمل الصالح، ولازم هذا المعنى أنّ كلّ هذا العذاب والألم إنّما هو لمن لم تكن لهم أيّة رابطة مع الله سبحانه في حياتهم، وكانوا غرقى في المعاصي والذنوب، وعليه فإنّ القيام بقسم من الأعمال الصالحة أيضاً يمكن أن يكون سبباً في نجاتهم.

التعبير بالفعل المضارع «نعمل» أيضاً له ذلك الإشعاع، ويؤيّد هذا المعنى، وهو تأكيد أيضاً على «أنّنا كنّا مستغرقين في الأعمال الطالحة».

قال بعض المفسّرين: إنّ الربط بين وصف «صالحاً» واللاحق لها «كنّا نعمل» يثير نكتة لطيفة، وهي أنّ المعنى هو «إنّنا كنّا نعمل الأعمال التي عملنا بناءً على تزيين هوى النفس والشيطان، وكنّا نتوهّم أنّها أعمال صالحة، والآن قرّرنا أن نعود ونعمل أعمالا صالحة في حقيقتها غير التي ارتكبناها».

نعم فالمذنب في بادىء الأمر ـ وطبق قانون الفطرة السليمة ـ يشعر ويشخص قباحة أعماله، ولكنّه قليلا قليلا يتطبّع على ذلك فتقل في نظره قباحة العمل، ويتوغّل أبعد من ذلك فيرى القبيح جميلا، كما يقول القرآن الكريم: (زيّن لهم سوء أعمالهم).(2)

وفي مكان آخر يقول تعالى: (وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً).(3)

________________________________

1 ـ «يصطرخون» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح الشديد الذي يطلقه الإنسان من القلب للإستغاثة وطلب النجدة، للتخلّص من الألم أو العذاب أو أي مشكل آخر.2 ـ التوبة، 37.3 ـ الكهف، 104.

[ 99 ]

على كلّ حال، ففي قبال ذلك الطلب الذي يطلبه اُولئك من الله سبحانه وتعالى، يصدر ردّ قاطع عنه سبحانه وتعالى حيث يقول: (أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النذير) فإذا لم تنتفعوا بكلّ ما توفّر بين أيديكم من وسائل النجاة تلك ومن كلّ الفرص الكافية المتاحة (فذوقوا فما للظالمين من نصير).

هذه الآية تصرّح: لم يكن ينقصكم شيء، لأنّ الفرصة اُتيحت لكم بما يكفي، وقد جاءتكم نُذر الله بالقدر الكافي، وبتحقّق هذين الركنين يحصل الإنتباه والنجاة، وعليه فليس لكم أي عذر، فلو لم تكن لكم المهلة كافية لكان لكم العذر، ولو كانت لكم مهلة كافية ولم يأتكم نذير ومرشد ومعلّم فكذلك لكم العذر، ولكن بوجود ذينك الركنين فما هو العذر؟!

«نذير» عادةً ترد في الآيات القرآنية للإشارة إلى وجود الأنبياء، وبالأخصّ نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن بعض المفسّرين ذكروا لهذه الكلمة هنا معنى أوسع، بحيث تشمل الأنبياء والكتب السماوية والحوادث الداعية إلى الإنتباه كموت الأصدقاء والأقرباء، والشيخوخة والعجز، وكما يقول الشاعر:

رأيت الشيب من نذر المنايا *** لصاحبه وحسبك من نذير(1)

من الجدير بالملاحظة أيضاً أنّه قد ورد في بعض الروايات أنّ هناك حدّاً من العمر يعتبر إنذاراً وتذكيراً للإنسان، وذلك بتعبيرات مختلفة، فمثلا في حديث عن ابن عبّاس مرفوعاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من عمّره الله ستّين سنة فقد أعذر إليه»(2).

وعن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام أنّه قال: «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستّون سنة»(3).

________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 4، ص 410.2 ـ المصدر السابق.3 ـ المصدر السابق.

[ 100 ]

وعن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستّين؟ وهو العمر الذي قال الله: (أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر)(1).

ولكن ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: إنّ الآية «توبيخ لابن ثماني عشرة سنة»(2).

طبعاً، من الممكن أن تكون الرواية الأخيرة إشارة إلى الحدّ الأقل، والروايات السابقة إشارة إلى الحدّ الأعلى، وعليه فلا منافاة بينها، وحتّى أنّه يمكن إنطباقها على سنين اُخرى أيضاً ـ حسب التفاوت لدى الأفراد ـ وعلى كلّ حال فإنّ الآية تبقى محتفظة بسعة مفهومها.

في الآية الأخيرة ـ من هذه الآيات ـ يرد الجواب على طلب الكفّار في العودة إلى الدنيا فتقول الآية: (إنّ الله عالم غيب السموات والأرض وإنّه عليم بذات الصدور).

الجملة الاُولى في الحقيقة دليل على الجملة الثانية، أي إنّه كيف يمكن لعالم أسرار السموات والأرض وغيب عالم الوجود أن لا يكون عالماً بأسرار القلوب؟!

نعم، فهو سبحانه وتعالى يعلم أنّه لو استجاب لما طلبه منه أهل جهنّم، وأعادهم إلى الدنيا فسوف يعاودون نفس المسيرة المنحرفة التي كانوا عليها، كما أشارت إلى ذلك الآية (28) من سورة الأنعام: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنّهم لكاذبون).

إضافةً إلى ذلك فالآية تنبيه للمؤمنين على أن يسعوا لتحقيق الإخلاص في نيّاتهم، وأن لا يأخذوا بنظر الإعتبار غير الله سبحانه وتعالى، لأنّ أقلّ شائبة في نواياهم سيكون معلوماً لديه وباعثاً لمجازاتهم على قدر ذلك.

* * *

________________________________

1 ـ الدرّ المنثور، ج5، ص254.2 ـ مجمع البيان، ج4، ص410.

[ 101 ]

ملاحظتان

1 ـ ما هو المقصود من «ذات الصدور»؟

ورد هذا اللفظ بتفاوت يسير في أكثر من عشرة آيات من القرآن الكريم (إنّ الله عليم بذات الصدور).

لفظة «ذات» التي مذكّرها «ذو» في الأصل بمعنى «الصاحب» مع أنّها وردت لدى الفلاسفة بمعنى «العين والحقيقة وجوهر الأشياء»، ولكن على ما قاله (الراغب) في مفرداته فإنّ هذا الإصطلاح لا وجود له في كلام العرب.

وبناءً على ذلك فإنّ المقصود من جملة (إنّ الله عليم بذات الصدور) أنّ الله يعلم صاحب ومالك القلوب، وهي كناية لطيفة عن عقائد ونوايا الناس، إذ أنّ الإعتقادات والنوايا عندما تستقر في القلب تكون كأنّها مالك القلب، والحاكم فيه، ولهذا السبب تعدّ تلك العقائد والنوايا صاحباً ومالكاً للقلب الإنساني.

وذلك تماماً ما صاغه بعض كبار العلماء إستفادة من هذا المعنى فقالوا: الإنسان آراؤه وأفكاره، لا صورته وأعضاؤه»(1).

 

2 ـ لا سبيل للرجوع!

من المسلّم به أنّ القيامة والحياة بعد الموت مرحلة تكاملية نسبة إلى الدنيا، وأنّ الرجوع إلى هذه الدنيا ليس معقولا، فهل يمكننا العودة إلى الأمس؟ هل يمكن للوليد أن يعود إلى طي الأدوار الجنينية من جديد؟ وهل يمكن للثمرة التي قطفت من غصنها أن تعاد إليه مرّة ثانية؟ لهذا السبب فإنّ العودة إلى الدنيا غير ممكنة لأهل الآخرة.

وعلى فرض إمكانية تلك العودة فإنّ هذا الإنسان الكثير النسيان سوف لن يقوم بغير إدامة أعماله السابقة!

________________________________

1 ـ المرحوم كاشف الغطاء في كتاب أصل الشيعة واُصولها.

[ 102 ]

ولا نذهب بعيداً، فنحن مرّات عديدة وفي شرائط بعض الضائقات الحياتية، نتّخذ قراراً مخلصاً بيننا وبين الله على القيام بعمل ما أو ترك عمل ما، ولكن بمجرّد تغيير تلك الشرائط يتغيّر قولنا وننسى قراراتنا، إلاّ إذا تحقّق لشخص ما تحوّل جدّي حقيقي، لا تحوّل مشروط بتلك الشرائط التي بتغيّرها يعود إلى سابق حاله.

هذه الحقيقة وردت في آيات متعدّدة من القرآن المجيد، من جملتها ما ورد في الآية (28) من سورة الأنعام التي أشرنا إليها قبل قليل، حيث تكذّب هؤلاء وتردّهم.

ولكن الآية (53) من سورة الأعراف تكتفي فقط بأنّ هؤلاء الأفراد خاسرون، ولكن لم تردّ بصراحة على طلبهم للعودة: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نردّ فنعمل غير الذي كنّا نعمل قد خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون).

نفس هذا المعنى ورد بشكل آخر في الآيات (107) و(108) من سورة المؤمنون: (ربّنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنّا ظالمون قال اخسأوا فيها ولا تكلّمون).

على كلّ حال، فتلك مطالب غير ذات جدوى، وأماني عديمة التحقّق، ويحتمل أنّهم هم أيضاً يعلمون ذلك، ولكنّهم لشدّة العذاب وإنسداد جميع المنافذ أمامهم يكرّرون هذه المطالب.

 

* * *

[ 103 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـئِفَ فِى الاَْرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَـفِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَـفِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً (39) قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الاَْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَوَتِ أَمْ ءَاتَيْنَـهُمْ كِتَـباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَت مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّـلِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَد مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

 

التّفسير

السماوات والأرض بيد القدرة الإلهية:

تنتقل الآيات إلى مرحلة اُخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج الكفّار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرّت في الآيات السابقة، فتقول أوّلا: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض).

[ 104 ]

«خلائف» هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثّلي الله في الأرض، أم بمعنى خلفاء الأقوام السابقين (وإن كان المعنى الثاني هنا أقرب على ما يبدو) فهي دليل على منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث أنّه قيّض لهم جميع إمكانات الحياة. أعطاهم العقل والشعور والإدراك، أعطاهم أنواع الطاقات الجسدية، ملأ للإنسان صفحة الأرض بمختلف أنواع النعم والبركات، وعلّمه طريقة الإستفادة من تلك الإمكانات، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي، وراح يعبد آلهة خرافية ومصنوعة؟!

هذه الجملة في الحقيقة بيان لـ «توحيد الربوبية» الذي هو دليل على «توحيد العبادة». وهذه الجملة أيضاً تنبيه للبشر جميعاً ليعلموا بأنّ مكثهم ليس أبديّاً  ولا خالداً، فكما أنّهم خلائف لأقوام آخرين، فما هي إلاّ مدّة حتّى ينتهي دورهم ويكون غيرهم خلائف لهم، لذا فإنّ عليهم أن يتأمّلوا ويفكّروا ماذا يعملون خلال هذه المدّة القصيرة، وكيف سيذكرهم التأريخ في هذا العالم؟

لذا تردف الآية قائلة: (فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربّهم إلاّ مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلاّ خساراً).

الجملتان الأخيرتان في الواقع تفسير الجملة (من كفر فعليه كفره) فهما تقيمان دليلين على رجوع الكفر على صاحبه كالآتي:

الأوّل: إنّ هذا الكفر يؤدّي إلى غضب الله الذي أعطى كلّ هذه المواهب.

والثاني: أنّه علاوة على هذا الغضب الإلهي فإنّ هذا الكفر سوف لن يزيد الظالمين إلاّ خسارة وضرراً بإتلافهم رأس مالهم المتمثّل بأعمارهم ووجودهم، وشرائهم للشقاء والإنحطاط والظلمة، وأي خسارة أكثر من هذه.

وكلّ واحد من هذين الدليلين كاف لشجب وإبطال ذلك المنهج الباطل في التعامل مع الحياة.

تكرار (لا يزيد) بصيغة المضارع، إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الإنسان

[ 105 ]

الميّال بالطبع إلى البحث عن الزيادة، إذا سار في طريق التوحيد فسيزداد سعادة وكمالا، وإذا سلك طريق الكفر فسوف يتعرّض لمزيد من غضب الباري عزّوجلّ ويكون نصيبه الضرر والخسارة.

من الجدير بالذكر أيضاً أنّ الغضب الإلهي ليس بمعنى الغضب الذي يحصل للإنسان، لأنّ هذا الغضب في الإنسان عبارة عن نوع من الهيجان والإنفعال الداخلي الذي يكون سبباً في صدور أفعال قويّة وحادّة وخشنة، وفي تعبئة كافّة طاقات الإنسان للدفاع أو الإنتقام، وأمّا بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فليس لأيّ من هذه الآثار التي هي من خواص الموجودات المتغيّرة والممكنة أثر في غضبه، فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول اُولئك الذين ارتكبوا السيّئات.

الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم، وتذكّرهم بأنّ الإنسان إذا اتّبع أمراً أو تعلّق بأمر، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر، أو دليل نقلي ثابت، وأنتم أيّها الكفّار حيث لا تملكون أيّاً من الدليلين فليس لديكم سوى المكر والغرور.

تقول الآية الكريمة: (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات)(1) فهل خلقوا شيئاً في الأرض. أم شاركوا الله في خلق السماوات؟!

ومع هذا الحال فما هو سبب عبادتكم لها، لأنّ كون الشيء معبوداً فرع كونه خالقاً، فما دمتم تعلمون أنّ خالق السماوات والأرض هو الله تعالى وحده، فلن يكون هناك معبود غيره، لأنّ توحيد الخالقية دليل على توحيد العبودية.

والآن بعد أن ثبت أنّكم لا تملكون دليلا عقلياً على ادّعائكم، فهل لديكم دليل

________________________________

1 ـ جملة «أرأيتم» بمعنى: ألا ترون؟ أو: ألا تفكّرون؟ ولكن بعض المفسّرين يقولون بأنّها بمعنى «أخبروني». وقد أوردنا بحثاً مطوّلا بهذا الخصوص في تفسير آية (40) من سورة الأنعام.

[ 106 ]

نقلي؟ (أم آتيناهم كتاباً فهم على بيّنة منه).

كلاّ، فليس لديهم أي دليل أو بيّنة أو برهان واضح من الكتب الإلهية، إذاً فليس لديهم سوى المكر والخديعة (بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلاّ غروراً).

وبتعبير آخر، إذا كان لعبدة الأوثان وسائر المشركين من كلّ مجموعة وكلّ صنف إدّعاء بقدرة الأصنام على تلبية مطالبهم، فعليهم أن يعرضوا نموذجاً لخلقهم من الأرض، وإذا كانوا يعتقدون أنّ تلك الأصنام مظهر الملائكة والمقدّسين في السماء ـ كما يدّعي البعض ـ فيجب أن يقيموا الدليل على أنّهم شركاء في خلق السماوات .. وان كانوا يعتقدون بأنّ هؤلاء الشركاء ليس لهم نصيب في الخلقة، بل لهم مقام الشفاعة ـ كما يدّعي البعض ـ فيجب أن يأتوا بدليل على إثبات ذلك الإدّعاء من الكتب السماوية.

والحال أنّهم لا يملكون أيّاً من هذه البيّنات، فهم مخادعون ظالمون ليس لهم سوى المكر وخديعة بعضهم البعض.

الجدير بالملاحظة أيضاً هو المقصود بـ «الأرض والسموات» هنا هو مجموعة المخلوقات الأرضية والسماوية، والتعبير بـ (ماذا خلقوا من الأرض) و (شرك في السموات) إشارة إلى أنّ المشاركة في السماوات إنّما يجب أن تكون عن طريق الخلق.

وتنكير «كتاباً»، مع إستناده إلى الله سبحانه، إشارة إلى أنّه ليس هنا أدنى دليل على ادّعائهم في أي من الكتب السماوية.

«بيّنة» إشارة إلى دليل واضح من تلك الكتب السماوية.

«ظالمون» تأكيد مرّة اُخرى على أنّ «الشرك» «ظلم» واضح.

«غرور» إشارة إلى أنّ عبدة الأوثان أخذوا هذه الخرافات بعضهم من بعض، وتلاقفوها إمّا على شكل شائعات، أو تقاليد من بعضهم الآخر.

وتنتقل الآية التي بعدها إلى الحديث عن حاكمية الله سبحانه وتعالى على

[ 107 ]

مجموعة السماوات والأرض، وفي الحقيقة فإنّها تنتقل إلى إثبات توحيد الخالقية والربوبية بعد نفي شركة أي من المعبودات الوهمية في عالم الوجود فتقول: (إنّ الله يمسك السموات والأرض أن تزولا)(1).

فليس بدء الخلق ـ فقط ـ مرتبطاً بالله، فإنّ حفظ وتدبير الخلق مرتبط بقدرته أيضاً، بل إنّ الخلق له في كلّ لحظة خلق جديد، وفيض الوجود يغمر الخلق لحظة بعد اُخرى من مبدأ الفيض. ولو قطعت الرابطة بين الخلق وبين ذلك المبدأ العظيم الفيّاض، فليس إلاّ العدم والفناء.

صحيح أنّ الآية تؤكّد على مسألة حفظ نظام الوجود الموزون، ولكن ـ كما ثبت من الأبحاث الفلسفيّة ـ فإنّ الممكنات محتاجة في بقائها إلى موجدها كإحتياجها إليه في بدء إيجادها، وبذلك فإنّ حفظ النظام ليس سوى إدامة الخلق الجديد والفيض الإلهي.

الملفت للنظر أنّ الأجرام والكرات السماوية، مع كونها غير مقيّدة بشيء آخر، إلاّ أنّها لم تبرح أماكنها أو مداراتها التي حدّدت لها منذ ملايين السنين، دون أن تنحرف عن ذلك قيد أنملة، كما نلاحظ ذلك في المجموعة الشمسية، فالأرض التي نعيش عليها تواصل دورانها حول الشمس منذ ملايين بل مليارات السنين في مسيرها المحدّد والمحسوب بدقّة والذي يتحقّق من التوازن بين القوى الدافعة والجاذبة، كما أنّها تدور في نفس الوقت حول نفسها، ذلك بأمر الله.

وللتأكيد تضيف الآية قائلة: (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده).

فلا الأصنام التي صنعتموها ولا الملائكة، ولا غير ذلك، لا أحد غير الله قادر على ذلك.

وفي ختام الآية ـ لكي يبقى طريق الأوبة والإنابة أمام المشركين الضالّين مفتوحاً يقول تعالى محبّذاً لهم التوبة في كلّ مرحلة من الطريق (إنّه كان حليماً

________________________________

1 ـ جملة «أن تزولا» تقديرها «لئلاّ تزولا» أو «كراهة أن تزولا».

[ 108 ]

غفوراً).

فبمقتضى (حلمه) لا يتعجّل عقابهم، وبمقتضى (غفرانه) يتقبّل توبتهم ـ بشرائطها ـ في أي مرحلة من مراحل مسيرهم، وعليه فإنّ ذيل الآية يشير إلى وضع المشركين وشمول الرحمة الإلهية لهم في حال توبتهم وإنابتهم.

اعتبر بعض المفسّرين أنّ هذين الوصفين ذكرا لإرتباطهما بموضوع حفظ السموات والأرض، إذ أنّ زوالهما مصيبة عظيمة، وبمقتضى حلم الله وغفرانه فإنّه لا يشمل الناس بمثل ذلك العذاب وتلك المصيبة، وإن كانت أقوال وأعمال الكثير من هؤلاء الكفّار موجبة لإنزال ذلك العذاب، كما ورد في الآيات 88 إلى 90 من سورة مريم (وقالوا اتّخذ الله ولداً لقد جئتم شيئاً إدّاً تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّاً).

والجدير بالملاحظة أيضاً أنّ جملة (ولئن زالتا) ليست بمعنى أنّه «إذا زالت فليس أحد غير الله يحفظها»، بل بمعنى «أنّها إذا شارفت على السقوط والزوال فإنّ الله وحده يستطيع حفظها، وإلاّ فلا معنى للحفظ بعد الزوال».

وقد حدث ـ على طول التاريخ البشري ـ مراراً أنّ علماء الفلك توقّعوا أنّ «النجم الفلاني» المذنّب أو غير المذنّب سيمرّ بمحاذاة الكرة الأرضية ويحتمل أن يصطدم بها، هذه التوقّعات تدفع جميع الناس إلى القلق، وفي هذه الشرائط يحسّ الجميع بأنّه في مثل حادث كهذا، ليس في إمكان أحد أن يؤثّر شيئاً، بحيث لو إنطلقت إحدى الكرات السماوية باتّجاه الكرة الأرضية وإصطدمتا فيما بينهما بتأثير الجاذبية فلن يبقى للتمدّن البشري أثر، وحتّى الموجودات الاُخرى سوف لن يبقى لها أثر على سطح الأرض، ولن تستطيع أيّة قدرة عدا قدرة الله منع مثل هذه الكارثة من الوقوع.

في مثل تلك الحالات يحسّ الجميع بالحاجة الماسّة والمطلقة إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن بمجرّد أن تزول إحتمالات الخطر، يلقي النسيان بظلاله على

[ 109 ]

الإنسان.

هذه الكارثة لا تقع فقط من مجرّد إصطدام السيارات مع بعضها، بل إنّ أيّ إنحراف بسيط لأيّ من السيارات ـ كالأرض مثلا ـ عن مسارها يؤدّي إلى وقوع فاجعة عظيمة.

* * *

 

ملاحظة

الصغير والكبير سيّان أمام قدرة الله!

الملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه ذكرت أنّ السماوات تستند إلى قدرة الله في ثباتها وبقائها، وفي آيات اُخرى من القرآن ورد نفس التعبير فيما يخصّ حفظ الطيور حال طيرانها في السماء. (ألم يروا إلى الطير مسخّرات في جوّ السماء ما يمسكهنّ إلاّ الله، إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).

ففي موضع يشير إلى أنّ خلق السموات الواسعة دليل على وجوده تعالى، وفي موضع آخر يعتبر خلق حشرة صغيرة كالبعوضة دليلا على ذلك.

حيناً يقسم بالشمس لأنّها منبع عظيم للطاقة في عالم الوجود، وحيناً يقسم بفاكهة مألوفة كالتين.

كلّ ذلك إشارة إلى أنّه لا فرق بين كبير وصغير أمام قدرة الله.

أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات والسلام يقول: «وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء».

إنّ هذه الأشياء جميعها تشير إلى شيء واحد، وهو أنّ وجود الله سبحانه وتعالى، وجود لا متناه من جميع الجهات، والتدقيق في مفهوم «اللامتناهي» يثبت هذه الحقيقة بشكل تامّ، وهي أنّ مفاهيم مثل «الصعب» و «السهل» و «الصغير» و«الكبير» و «المعقّد» و «البسيط» لها معنى بحدود الموجودات المحدودة ـ فقط ـ

[ 110 ]

ولكن حينما يكون الحديث عن قدرة الله تعالى المطلقة فإنّ هذه المفاهيم تتغيّر بشكل كلّي وتقف جميعاً في صفّ واحد بدون أدنى تفاوت فيما بينها «دقّق النظر!!».

* * *

[ 111 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَـنِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاُْمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42)اسْتِكْبَاراً فِى الاَْرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىء وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الاَْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلا (43) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السَّمَـوَتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)

 

سبب النّزول

ورد في تفسير «الدرّ المنثور» و «روح المعاني» و «مفاتيح الغيب» وتفاسير اُخرى: «بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذّبوهم، فوالله لئن أتانا رسول

[ 112 ]

لنكوننّ أهدى من إحدى الاُمم»(1). فلّما أشرقت شمس الإسلام من اُفق بلادهم، وجاءهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالكتاب السماوي، رفضوا، بل كذّبوا، وحاربوا، ومارسوا أنواع المكر والخديعة.

فنزلت الآيات أعلاه تلومهم وتوبّخهم على إدّعاءاتهم الفارغة.

 

التّفسير

إستكبارهم ومكرهم سبب شقائهم:

تواصل هذه الآيات الحديث عن المشركين ومصيرهم في الدنيا والآخرة.

الآية الاُولى تقول: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الاُمم)(2).

 

«أيمان» جمع «يمين» بمعنى القسم، وفي الأصل فإنّ معنى اليمين هو اليد اليمنى، واليمين في الحلف مستعار منها إعتباراً بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره من المصافحة باليمين عندها.

«جهد»: من «الجهاد» بمعنى السعي والمشقّة، وبذا يكون معنى (جهد أيمانهم)حلفوا واجتهدوا في الحلف على أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

نعم، فعندما طالعوا صفحات التأريخ، واطّلعوا على عدم وفاء وعدم شكر تلك الأقوام وجناياتهم بالنسبة إلى أنبيائهم وخصوصاً اليهود، تعجّبوا كثيراً وادّعوا لأنفسهم الإدّعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.

________________________________

1 ـ أغلب التفاسير.2 ـ لأن «إحدى» جاءت بصيغة المفرد، فمعنى الآية «أنّهم سيكونون أكثر اهتداءاً من واحدة من الاُمم» وقد تكون الإشارة إلى اليهود (لأنّ صيغة المفرد في الجملة المثبتة ليس فيها معنى العموم) يبدو ذلك للوهلة الاُولى، ولكن كما أشار بعض المفسّرين فإنّ قرائن الحال تشير إلى أنّ المقصود من الآية العموم، لأنّ الحديث في مقام المبالغة والتأكيد، وتشير إلى إدّعائهم بأنّه في حال بعثة رسول إليهم فانّهم سيكونون أهدى من جميع الاُمم السابقة.

[ 113 ]

ولكن بمجرّد أن واجهوا محكّ التجربة، ودخلوا كورة الإمتحان المشتعلة، وتحقّق طلبهم ببعثة نبيّ منهم، تبيّن أنّهم من نفس تلك الطينة، حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد تلك الجملة الاُولى من الآية بالقول: (فلمّا جاءهم نذير ما زادهم إلاّ نفوراً).

هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وعلى خلاف ما يدّعون ـ بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم، إلاّ أنّهم لم يكونوا يحترمونها، كذلك لم يكن لديهم أي إعتبار لما كان يمليه العقل من تصرفات. وبقيام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم الجاهلية، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر، زادت الفاصلة بينهم وبين الحقّ، نعم كانوا بعيدين عن الحقّ، لكنّهم إزدادوا بعداً عن الحقّ بعد بعثة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).

الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إنّ بُعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الإستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ (استكباراً في الأرض)(1) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون (ومكر السيىء)(2).

ولكن (ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله).

جملة «لا يحيق»: الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب، والجملة معناها «لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط» إشارة إلى أنّ الإحتيال قد يؤدّي ـ مؤقتاً ـ

________________________________

1 ـ أغلب المفسّرين قالوا بأنّ «استكباراً» هو «مفعول لأجله» من حيث التركيب النحوي وهي بيان لعلّة «النفور» وإبتعادهم عن الحقّ، و «مكر السيء» عطف على «إستكباراً» في حين أنّ البعض الآخر قال: إنّها عطف على «نفوراً».2 ـ «مكر السييء» إضافة (للجنس) إلى (النوع)، كما هو نقول: «علم الفقه» لأنّ (مكر) بمعنى (البحث عن حلّ) سواء كان خيراً أو شرّاً، لذا فإنّ هذه الكلمة تطلق كصفة لله سبحانه (ومكروا ومكر الله) آل عمران ـ 54، ولكن «السيء» تحصر المكر في نوع خاصّ منه، وهو الإحتيال.

[ 114 ]

إلى الإحاطة بالآخرين، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق الله، وسيندمون حتماً أمام الله سبحانه وتعالى، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكّة.

هذه الآية في الحقيقة تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالإبتعاد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل إنّهم استعانوا بكلّ قدرتهم وإستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قويّة به وبدعوته، والسبب في كلّ ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحقّ.

ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر، يقول تعالى: (فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين)(1).

هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم، والقرآن الكريم أشار مراراً إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسّد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في مكّة.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: (فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا). فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوماً على أعمال معيّنة، ثمّ لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل الحكيم، وكلّ ما يفعله بناءً على حكمة وعدل تاميين؟!

فإنّ تغيير السنن يمكن تصوّره بالنسبة إلى من يمتلك إطّلاعاً أو معرفة محدودة، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنّة سابقة، أو يكون الإنسان عالماً، إلاّ أنّه لا يتصرّف طبقاً للحكمة والعدالة، بل طبقاً لميول خاصّة في نفسه، ولكن الله سبحانه وتعالى منزّه عن جميع تلك الاُمور، وسنّته حاكمة على من يأتي كما كانت تحكم من مضى، ولا تقبل التغيير أبداً.

________________________________

1 ـ «نظر» و «إنتظار» تأتي أحياناً لتشير إلى نفس المعنى. كما يقول الراغب.

[ 115 ]

وقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على قضيّة ثبات سنن الله وعدم تغيّرها، وقد فصّلنا الحديث في ذلك في تفسير الآية (62) من سورة الأحزاب، وبالجملة فإنّ في هذا العالم ـ عالم التكوين التشريع ـ ثمّة قوانين ثابتة لا تتغيّر، عبّر عنها القرآن الكريم «السنن الإلهيّة» والتي لا سبيل إلى تغيّرها.

هذه القوانين كما أنّها حكمت في الماضي فإنّها حاكمة اليوم وغداً. ومجازات المستكبرين الكفرة الذين لم تنفع بهم الموعظة الإلهية من هذه السنن، ومنها أيضاً نصرة أتباع الحقّ الذين لا ينثنون عن جدّهم وسعيهم المخلص، هاتان السنّتان كانتا ولا تزالان ثابتتين أمس واليوم وغداً(1).

الجدير بالملاحظة أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن «عدم تبديل» السنن الإلهيّة، الأحزاب ـ 62، وفي البعض الآخر الحديث عن «عدم تحويل» السنن الإلهية، سورة الإسراء ـ 77، ولكن الآية مورد البحث أكّدت على الحالتين معاً.

فهل أنّ هاتين الحالتين تعبير عن معنى واحد، بحيث أنّهما ذكرتا معاً للتأكيد، أم أنّ كلا منهما يشير إلى معنى مستقل؟

بمراجعة أصل اللفظين يتّضح أنّهما إشارة إلى معنيين مختلفين: (تبديل) الشيء، تعويضه بغيره كاملا، بحيث يرفع الأوّل ويوضع الثاني، ولكن (تحويل) الشيء، هو تغيّر بعض صفات الشيء الأوّل من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه.

وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الإستبدال ولا التعويض الكامل، ولا التغيير النسبي من حيث الشدّة والضعف أو القلّة والزيادة. من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع الجهات، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة اُخرى. ولا أن يوقع عقاباً أقلّ شدّة على مجموعة دون اُخرى، وهكذا قانون يستند إلى أصل

________________________________

1 ـ لنا شرحاً مفصّل بهذا الخصوص في سورتي الأحزاب والإسراء.

[ 116 ]

ثابت، لا يقبل التبديل ولا التحويل(1).

آخر ما نريد التوقّف عنده هو أنّ الآية تضيف «سنّة» إلى لفظ الجلالة «الله» وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف «سنّة» إلى «الأوّلين» ويظهر في باديء الأمر وجود تنافي بين الحالتين، ولكن الأمر ليس كذلك، لأنّه في الحالة الاُولى اُضيفت «سنّة» إلى «الفاعل»، وفي الحالة الثانية اُضيفت «سنّة» إلى «المفعول به». ففي الحالة الاُولى تعبير عن مجري السنّة، وفي الثانية عمّن اُجريت عليه السنّة.

الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه، حتّى يروا بأُمّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه، وبذا يتحوّل البيان إلى العيان. فتقول الآية الكريمة: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم).

فإذا كانوا يتصوّرون أنّهم أشدّ قوّة من اُولئك فهم على إشتباه عظيم تلك، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم: (وكانوا أشدّ منهم قوّةً).

فالفراعنة الذين حكموا مصر، ونمرود الذي حكم بابل ودولا اُخرى بمنتهى القدرة، كانوا أقوياء إلى درجة لا يمكن قياسها مع قوّة مشركي مكّة.

إضافةً إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوّة والقدرة، فإنّ قدرته وقوّته لا شيء إزاء قوّة الله، لماذا؟ لأنّه (وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض)(2) فهو العليم القدير، لا يخفى عليه شيء، ولا يستعصي على قدرته شيء، ولا يغلبه أحد، فلو تصوّر هؤلاء المستكبرون الماكرون أنّهم يستطيعون

________________________________

1 ـ جمع من المفسّرين فسّروا «تحويل» هنا بمعنى «نقل مكان العذاب» بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى ينقل عقوبته من شخص لينزلها على شخص آخر. ومع ملاحظة أنّ هذا التّفسير لا ينسجم على ما يبدو مع الآية أعلاه، فالحديث ليس عن نقل العذاب من شخص إلى آخر، بل عن عدم قبول السنن للزيادة والنقص أو التغيير والتبديل، فكأنّ هؤلاء المفسّرين خلطوا بين كلمتي «تحوّل» و «تحويل»، وقد ورد في بعض متون اللغة كمجمع البحرين «التحويل: تصيير الشيء على خلاف ما كان. والتحوّل: التنقّل من موضع إلى موضع».2 ـ جملة «ليعجزه» كما ذكرنا سابقاً من مادّة «عجز» وهي هنا بمعنى: يجعله عاجزاً، لذا ففي كثير من المواضع جاءت بمعنى الفرار من قدرة الله، أو بمعنى عدم التمكّن من شخص.

[ 117 ]

الفرار من يد قدرته تعالى فهم مشتبهون أشدّ الإشتباه. وإذا لم ينفضوا أيديهم من تلك الأعمال السيّئة، فسوف يلاقون نفس المصير الذي لقيه من كان قبلهم.

يمرّ بنا مراراً التعرّض لهذا الأمر في القرآن الكريم، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يدعو الكفّار والعاصين إلى «السير في الأرض» ومشاهدة آثار الأقوام الماضين ومصائرهم الأليمة.

ورد في الآية (9) من سورة الروم (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة وأثاروا الأرض وعمّروها أكثر ممّا عمّروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

وورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف ـ 109، والحجّ ـ 46، وغافر 21 و82، والأنعام ـ 11 إلى غير ذلك.

هذا التأكيد المتكرّر دليل على التأثير الخاصّ لتلك المشاهدات في النفس الإنسانية، فإنّ عليهم أن يروا بأعينهم ما قرأوه في التأريخ أو سمعوه، ليذهبوا وينظروا عروش الفراعنة المحطّمة. وقصور الأكاسرة المدمّرة، وقبور القياصرة الموحشة، وعظام نمرود المتفسّخة، وأرض قوم لوط وثمود الخالية، ثمّ ليستمعوا إلى نصائحهم الصامتة، وأنينهم من تحت التراب، وينظروا باُمّ أعينهم ماذا حلّ بهؤلاء.

 

* * *

[ 118 ]

 

 

 

 

 

الآية

 

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة وَلَكنِ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (45)

 

التّفسير

لولا لطف الله ورحمته!

الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهيّة بالبشر، تماماً كما ابتدأت السورة بذكر إفتتاح الله الرحمة للناس. وعليه فإنّ البدء والختام متّفقان ومنسجمان في توضيح رحمة الله.

زيادة على ذلك، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين الكفّار بمصير الأقوام الغابرين، تطرح كذلك السؤال التالي، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين، فلماذا لا يُعاقب مشركو مكّة؟! وتجيب على السؤال قائلة: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا) ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في

[ 119 ]

مصيرهم وتهذيب أخلاقهم (ما ترك على ظهرها من دابّة).

نعم لو أراد الله مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية، صواعق، وزلازل، وطوفانات، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثراً للحياة على هذه الأرض. (ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمّى) ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.

هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصّة، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم (فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً)(1) فانّه تعالى يرى أعمالهم ومطّلع على نيّاتهم.

هنا يطرح سؤالان، جوابهما يتّضح ممّا ذكرناه أعلاه:

الأوّل: هل أنّ هذا الحكم العام (ما ترك على ظهرها من دابة) يشمل حتّى الأنبياء والأولياء والصالحين أيضاً؟

الجواب واضح، لأنّ المعنيّ بأمثال هذا الحكم هم الأغلبية والأكثرية منهم، والرسل والأئمّة والصلحاء الذين هم أقلّية خارجون عن ذلك الحكم، والخلاصة أنّ كلّ حكم له إستثناءات، والأنبياء والصالحون مستثنون من هذا الحكم. تماماً مثلما نقول: إنّ أهل الدنيا غافلون وحريصون ومغرورون، والمقصود الأكثرية منهم، في الآية (41) من سورة الروم نقرأ (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). فبديهي أنّ الفساد ليس نتيجة لأعمال جميع البشر، بل هو نتيجة لأعمال أكثريتهم.

وكذلك فإنّ الآية (32) من نفس هذه السورة، التي قسّمت الناس إلى ثلاث مجموعات «ظالم» و «مقتصد» و «سابق بالخيرات» شاهد آخر على هذا المعنى.

________________________________

1 ـ جملة (إذا جاء أجلهم) جملة شرطية، وجزاؤها يقع في تقدير جواب الشرط هكذا «فإذا جاء أجلهم يجازى كلّ واحد بما عمل»، وعليه فإنّ جملة «فإنّ الله» من قبيل «علّة الجزاء» وهي تقوم مقام المعلول المحذوف. ويحتمل كذلك أنّ الجزاء هو (لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) كما ورد في آيات اُخرى من القرآن الكريم كالآية 61 من سورة النحل، وعليه فإنّ جملة «إنّ الله كان بعباده بصيراً» إشارة إلى أنّ الله يعرفهم جميعاً، ويعلم أيّاً منهم أبلغ أجله لكي يأخذه بقدرته تعالى.

[ 120 ]

وعليه فإنّ الآية أعلاه ليس فيها ما ينافي عصمة الأنبياء إطلاقاً.

الثاني: هل أنّ التعبير بـ «دابّة» في الآية أعلاه يشير إلى شمول غير البشر، أي أنّ تلك الدواب أيضاً سوف تتعرّض للفناء نتيجة إيقاع الجزاء على البشر؟!

الجواب على هذا السؤال يتّضح إذا علمنا أنّ أصل فلسفة وجود الدواب هو تسخيرها لمنفعة الإنسان، فإذا إنعدم الإنسان من سطح الكرة الأرضية فليس من داع لوجود تلك الدواب(1).

وأخيراً نختم هذا البحث بالحديث التالي الوارد عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)حيث يقول: «سبق العلم، وجفّ القلم، ومضى القضاء، وتمّ القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل، وبالسعادة من الله لمن آمن واتّقى، وبالشقاء لمن كذّب وكفر، وبالولاية من الله عزّوجلّ للمؤمنين، وبالبراءة منه للمشركين» ثمّْ قال: «إنّ الله عزّوجلّ يقول: ياابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، وبقوّتي وعصمتي وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي، وأنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بذنبك منّي، الخير منّي إليك واصل بما أوليتك به، والشرّ منك إليك بما جنيت جزاء، وبكثير من تسلّطي لك إنطويت على طاعتي، وبسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي، تلي الحمد والحجّة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان. لم أدع تحذيرك ولم آخذك عند غرّتك، وهو قوله عزّوجلّ: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة) لم اُكلّفك فوق طاقتك، ولم اُحمّلك من الأمانة إلاّ ما قرّرت بها على نفسك، ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك منّي، ثمّ قال عزّوجلّ: (ولكن يؤخّرهم

________________________________

1 ـ «دابّة» من مادّة «دبّ» والدبّ والدبيب مشي خفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر، ويستعمل في كلّ حيوان وإن اختّصت في التعارف بالخيل. وكذلك تطلق كلمة «الدواب» خاصّة على الحيوانات التي تستعمل للركوب.

[ 121 ]

إلى أجل مسمّى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً)(1).

* * *

إلهي، إجعلنا ممّن ينتفعون من الفرصة قبل فواتها، فيرجعون إلى وجهك الكريم، ونوّر ما مضى من أيّامنا بنور حسناتك ورضاك.

إلهي، إذا لم تشملنا برحمتك فإنّ جهنّم التي أشعلناها بأعمالنا السيّئة ستمتدّ بألسنتها إلينا وتلقي بنا في لهواتها، وإن لم تضيء قلوبنا بنور غفرانك فإنّ قلوبنا ستصبح مرتعاً للشيطان اللعين.

إلهي، أعذنا من كلّ شرك، وأسرج مصباح الإيمان والتوحيد الخالص في أعماق قلوبنا وزوّدنا بالتقوى في أقوالنا وأعمالنا، إنّك مجيب الدعاء.

 

* * *

________________________________

1 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لنقل نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 370 الحديث 122.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=839
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18