• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الصافات من آية 62 ـ 110 من ( ص 328 ـ 377 ) .

سورة الصافات من آية 62 ـ 110 من ( ص 328 ـ 377 )

[ 328 ]

 الآيات

 أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَـهَا فِتْنَةً لِّلظَّـلِمِينَ(63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيم (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ(68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَاءَهُمْ ضَآلِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى ءَاثَـرِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)

 

التّفسير

جوانب من العذاب الأليم لأهل النار:

بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه الله لأهل جهنّم، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقاً، بحيث تترك أثراً عميقاً في النفوس يردعها عن إرتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة.

ففي البداية تقول: (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقّوم).

[ 329 ]

كلمة (نُزُل) تعني الشيء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد، والبعض الآخر قال: إنّها تعني الشيء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده، وهذه إشارة إلى النعم المهيئة لورود الضيوف الأعزّاء والمحترمين إلى الجنّة.

والقرآن الكريم يقول: أذلك خير أم شجرة الزقوم؟ ولفظة (خير) ليست دليلا على أنّ شجرة الزقّوم شيء جيّد، والنعم التي أعدّها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة أجود، إذ أنّ مثل هذه الألفاظ تستخدم أحياناً في لغة العرب بشأن بعض الأشياء التي لا فائدة فيها أبداً، ويحتمل بأنّها نوع من الكناية، ومثلها كمثل شخص غارق بالذنوب وقد فضح أمام الناس، وهم يقولون له: هل هذه الفضيحة خير، أم الفخر والعزّة والشرف؟

وأمّا «زقّوم» فقد قال أهل اللغة: إنّه اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة(1).

فيما قال بعض المفسّرين: إنّه اسم نبات يحمل أوراقاً صغيرة مرّة وكريهة الرائحة وهو موجود في أرض تهامة، وكان يعرفه المشركون(2). وأضاف صاحب تفسير (روح المعاني) أنّ لهذا النبات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورّم(3).

وقال الراغب في (مفرداته): الزقّوم هو كلّ غذاء يثير إشمئزاز أهل جهنّم.

وقال صاحب كتاب (لسان العرب): هذا اللفظ يأتي أساساً بمعنى بلع الشيء، ويضيف: عندما نزلت هذه الآية قال أبو جهل، لا توجد مثل هذه الشجرة في أرضنا، فمن منكم يعرف معنى زقّوم؟

وهنا أجابه شخص من أفريقيا قائلا: الزقّوم بلغة أهل أفريقيا تعني الزبد والتمر، وفور ما سمع أبو جهل بجواب الأفريقي، نادى جاريته، وقال لها باستهزاء: زقمّينا بمقدار من التمر والزبد. فكانوا يأكلون ويسخرون ويقولون: إنّ محمّد يخوّفنا من

________________________________

1 ـ مجمع البحرين، مادّة (زقم).2 ـ تفسير روح المعاني، المجلّد 7، الصفحة 464.3 ـ روح المعاني، المجلّد 23، الصفحة 85.

[ 330 ]

هذا في الآخرة، فنزلت آيات قرآنية قاطعة وحازمة تردّ على أبي جهل وبقيّة المشركين سنتطرّق إليها فيما بعد.

على كلّ حال فإنّ كلمة (شجرة) لا تأتي دائماً بمعناها المعروف، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات) والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات).

ثمّ يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة، ويقول: (إنّا جعلناها فتنة للظالمين).

ولفظة (فتنة) تعني المحنّة والعذاب، كما تعني الإمتحان، وغالباً ما جاء هذا المعنى في موارد متعدّدة من سور القرآن المجيد، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عندما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية والإستهزاء، فيما كان هذا الأمر إمتحاناً لاُولئك الطغاة.

ويضيف القرآن الحكيم (إنّها شجرة تخرج في أصل الجحيم).

ولكن الظالمين المغرورين يواصلون إستهزاءهم، ويقولون: كيف يمكن لنبات أو شجرة ينبت في قعر جهنّم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟ وتبعاً لذلك فإنّ سماع اسم هذا النبات وأوصافه هو إختبار دنيوي لهم، وسيكون سبباً لعذابهم ومحنتهم في الآخرة.

وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الاُصول التي تحكم في ذلك العالم ـ أي الآخرة ـ تختلف كثيراً عن الاُصول الحاكمة في العالم الدنيوي، فالأشجار والنباتات التي تنبت في قعر جهنّم، وتنمو في ذلك الظرف ويكون لونها بلون النار، ليست كالأشجار والنباتات النابتة في حدائق وبساتين هذا العالم، ويحتمل عدم جهلهم بهذا الأمر، بل هدفهم الإستهزاء والسخرية فقط.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (طلعها كأنّه رؤوس الشياطين).

(الطلع) يقال لأوّل ما يبدو من حمل النخلة، وله قشر أخضر اللون، وفي داخله

[ 331 ]

فروع بيضاء اللون تتحوّل فيما بعد إلى عنقود يحمل التمر.

وكلمة (طلع) من مادّة (طلوع) وبهذه المناسبة أُطلق على الثمر في أوّل ظهوره.

وهنا يطرح هذا السؤال: هل أنّ الناس شاهدوا رؤوس الشياطين حتّى يشبّه القرآن ثمار الزقّوم بها؟

المفسّرون أعطوا أجوبة متعدّدة لهذا السؤال:

فقال البعض: إنّ إحدى معاني كلمة (الشيطان) هي حيّة كريهة المنظر، شبّهت بها ثمار الزقّوم.

وذهب البعض الآخر إلى أنّه نوع من النبات ذو شكل قبيح، كما جاء في كتاب (منتهى الارب) أنّ (رأس الشيطان) أو (رؤوس الشياطين) نبات.

إلاّ أنّ الرأي الأصحّ، هو أنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والإشمئزاز، لأنّ الإنسان عندما يشمئز من شيء ترتسم صورة ذلك الشيء في مخيلته بشكل قبيح ورهيب، فيما ترتسم صورة الشيء المحبوب بشكل جميل ووديع في مخيلته.

لهذا فإنّ الناس يرسمون صورة الملائكة بشكل جميل، فيما يرسمون صورة الشياطين والعفاريت بأقبح صورة، في الوقت الذي لم ير أحد منهم الملائكة ولا الشياطين. كما يشاهد إستخدام هذا الأمر كثيراً في المصطلحات اليومية، عندما يقال: الشخص الفلاني كالعفريت، أو انّه يشبه الشيطان.

هذه كلّها تشبيهات مبنية على أساس الإنعكاسات الذهنية للناس عن مفاهيم مختلفة، وهي تشبيهات لطيفة وحيّة.

ويواصل القرآن الكريم إستعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين، (فإنّهم لآكلون منها فمالئون منها البطون)(1).

________________________________

1 ـ ضمير (منها) يعود للشجرة، وهذا بذاته قرينة على أنّ المقصود من الشجرة هنا النبات وليس الشجرة، لأنّ النبات يؤكل لا الشجرة.

[ 332 ]

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة، حيث أنّ أكل هذا النبات الذي ينبت في جهنّم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها، وتناوله ـ وبكميّات كبيرة ـ يعدّ عذاباً أليماً.

ومن البديهي، فإنّ من يتناول هذا الطعام السيء الطعم والمرّ، يصيبه العطش، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول: (ثمّ إنّ لهم عليها لشوباً من حميم).

«الشوب» هو الشيء المخلوط أو الممزوج مع شيء آخر. و (حميم) هو الماء الحار البالغ في حرارته، وطبقاً لذلك فإنّ حتّى الماء الحار الذي يشربه اُولئك الظالمون غير نقي، بل ملوّث.

وهذا هو غذاء أهل جهنّم، وهذا هو شرابهم، وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضاً بالقول: (ثمّ إنّ مرجعهم لإلى الجحيم).

بعض المفسّرين فسّروا هذه العبارة على أنّ الماء الحار الملوّث ينبع من عين خارج جهنّم، وأنّ أهل جهنّم يساقون كما تساق البهائم إلى الأماكن المخصّصة لشرب الماء، وبعد تناولهم الماء يرجعون إلى الجحيم.

فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنّه إشارة إلى وجود أماكن ومواقف مختلفة في جهنّم، ينقل إليها الظالمون والمجرمون ليشربوا منها الماء الحار، ويرجعون بعد ذلك إلى المكان الذي كانوا فيه سابقاً.

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب.

وكما أشرنا آنفاً، فإنّه لا يمكن تصوّر النعم التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة، كما أنّه لا يمكن تصوّر العذاب الذي ينال أهل جهنّم، بل إنّها تخيّلات ـ وحسب ـ تتراءى أمام أعيننا من خلال عبارات قصار (اللهمّ أعذنا بلطفك واحفظنا من العذاب).

[ 333 ]

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول اُولئك إلى جهنّم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك، تناولته في آيتين قصيرتين مليئتين بالمعاني والحقائق (إنّهم ألفوا آباءهم ضالّين).

وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة (فهو على آثارهم يهرعون).

والملاحظ هنا أنّ لفظة (يهرعون) جاءت بصيغة المبني للمجهول، وهي من مادّة (هرع) أي أسرع، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلباً وديناً وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار، وإشارة اُخرى إلى تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.

 

* * *

[ 334 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاَْوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ(72) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الُْمخْلَصِينَ (74)

 

التّفسير

الاُمم الضالّة السابقة:

بما أنّ المسائل السابقة المتعلّقة بالمجرمين والضالّين لا تختّص بزمان ومكان معينين، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل، ويهيء الأرضية في عدّة آيات قصيرة ومختصرة لشرح اُمور كثيرة عن الاُمم السابقة، والتي بالإطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة. ومن تلك الاُمم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم، إذ يقول: (ولقد ضلّ قبلهم أكثر الأوّلين).

فمشركو مكّة ليسوا هم الوحيدين الذين ابتلوا بالضلال نتيجة سيرهم على نهج أجدادهم الأوّلين، وإنّما إبتليت قبلهم الكثير من الاُمم السابقة بنفس المصير.

والتذكير بهذا الأمر إنّما جاء لتسلية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثلّة من أصحابه

[ 335 ]

المؤمنين الذين كانوا في مكّة ـ آنذاك ـ محاصرين من قبل العدو من كلّ الجوانب.

ثمّ يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب إفتقادهم القائد وعدم موعظتهم (ولقد أرسلنا فيهم منذرين).

إذا أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك بالله والكفر به، والظلم والإعتداء، وتقليد الآخرين بصورة عمياء، ولإطلاعهم على مسؤولياتهم.

صحيح أنّ الرسل يحملون في يد رسالة الإنذار، وفي الاُخرى رسالة البشارة، لكن الإنذار يشغل الجزء الأكبر من مواعظهم ونصائحهم، خاصّة بالنسبة لمثل تلك الاُمم الضالّة والعاصية، ولهذا أكّد عليه هنا.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة ذات معان عميقة (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين).

المخاطب في لفظة (فانظر) من الممكن أن يكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو أي شخص عاقل يقظ. وفي الحقيقة إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.

أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي (إلاّ عباد الله المخلصين).

الملاحظ أنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الاُمم، وتدعو إلى التمّعن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به، والذي أهلكهم وأبادهم جميعاً ما عدا عباد الله المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب(1).

وجدير بالذكر أنّ كلمة (المخلصين) ـ بفتح اللام ـ كرّرت خمس مرّات، وهذا بيان لعلو منزلتهم ومرتبتهم، وكما أشرنا سابقاً فإنّ عباد الله المخلصين هم الصفوة التي تسلّحت بالعلم والإيمان، وإنتصرت على النفس بعد مجاهدتها، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه وأزال عنهم الشوائب ليجعلهم خالصين، ولهذا فإنّهم يمتلكون

________________________________

1 ـ هذه الجملة إستثناء من محذوف يفهم من المذكور، تقديره هكذا: فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنّا أهلكناهم جميعاً إلاّ عباد الله المخلصين.

[ 336 ]

الحصانة الكاملة تجاه الإنحرافات والزلل.

والشيطان عاجز وآيس من النفوذ إلى داخلهم، إذ قطع عليه الطريق المؤدّي إليهم منذ اليوم الأوّل، وإعترف هو بعجزه هذا.

كذلك فإنّ فتن المجتمع الذي يعيشون فيه ووساوس الغاوين، إضافة إلى وجود المتّبعين لنهج آبائهم وأجدادهم الأوّلين، والثقافة الخاطئة والطاغوتية، لا تؤثّر أبداً على عباد الله المخلصين ولا تحرفهم عن مسيرتهم.

حقيقة الأمر، أنّ هذه الآية هي خطاب إطمئنان لمؤمني مكّة المقاومين والصامدين في ذلك الوقت، وإنّها دعوة لمسلمي عالم اليوم المليء بالفتن، تدعوهم إلى الإنفصال عن صفوف أعداء الله والإنضمام إلى عباد الله المخلصين.

 

* * *

[ 337 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَلَقَدْ نَادَيـنَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الُْمجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَـهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخرِِينَ (78) سَلَـمٌ عَلَى نُوح فِى الْعَـلَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُـحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ(82)

 

التّفسير

مقتطفات من قصّة نوح:

من هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء الله الكبار، والذين كانت الآيات السابقة قد تطرّقت إليهم بصورة خفيّة، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأوّل اُولي العزم من الرسل.

بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون)(1).

________________________________

1 ـ (مجيبون) جاءت بصيغة الجمع في حين أنّ المقصود منها الله سبحانه وتعالى والذي إستجاب لدعاء نوح، هذا بسبب أنّ صيغة الجمع تأتي أحياناً للتعظيم، كما أنّ ضمير جمع المتكلّم في (نادانا) لذلك الغرض أيضاً.

[ 338 ]

هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح (وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً).(1)

أو إشارة إلى الدعاء الذي دعا به الله أثناء صعوده السفينة (ربّ أنزلني منزلا مباركاً وأنت خير المنزلين).(2)

أو أنّه إشارة إلى الدعاء الذي جاء في الآية 10 من سورة القمر: (فدعا ربّه انّي مغلوب فانتصر).

وبالطبع فإنّه ليس هناك أي مانع من أن تكون الآية تشير إلى كلّ هذه الأدعية، وإنّ الله سبحانه وتعالى إستجابها بأحسن وجه.

ولذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول: (ونجّيناه وأهله من الكرب العظيم)(3).

فما هو هذا الغمّ الذي وصفته الآية المباركة بأنّه غمّ كبير آلم نوحاً بشدّة؟

يمكن أن يكون ذلك الغمّ نتيجة إستهزاء قومه الكافرين المغرورين به، وتجريحهم إيّاه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين، أو نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إيّاه، إذ كانوا يقولون له أحياناً: (وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا).(4)

وأحياناً اُخرى يقولون له: (يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين).(5)

________________________________

1 ـ سورة نوح، الآيات 26 و27.2 ـ سورة المؤمنون، الآية 29.3 ـ (كرب) طبق قول الراغب في مفرداته هي: الغم الشديد، ووصفه هنا بالعظيم للتأكيد أكثر على هذا المعنى.4 ـ سورة هود، الآية 27.5 ـ سورة هود، الآية 32.

[ 339 ]

أو يسخرون منه (ويضع الفلك وكلّما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه).(1)

وقد وصل إزعاجهم لنبي الله نوح ـ المعروف بصبره الكبير ـ وإساءتهم الأدب إتّجاهه وإتّهامه بالجنون إلى درجة لا تطاق، بحيث دعا نوح ربّه بالقول: (ربّ انصرني بما كذّبون).(2)

وعلى أيّة حال، فإنّ مجموع هذه الحوادث السيّئة وأذاهم له كان يحزّ في قلبه الطاهر بشدّة حتّى لحظة وقوع الطوفان، إذ أنقذه الله سبحانه وتعالى من قبضة قومه الطغاة، وأزال عنه الكرب العظيم والغمّ الشديد.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من (الكرب العظيم) هو الطوفان الذي لم ينج منه سوى نوح وأتباعه المؤمنين، ولكن هذا المعنى مستبعد.

ويضيف القرآن الكريم (وجعلنا ذرّيته هم الباقين).

أحقّاً أنّ كلّ بني الإنسان الذين يعيشون اليوم على ظهر الكرة الأرضية هم من ذريّة نوح؟ الآية المذكورة أعلاه تصرّح بذلك ..

أم المقصود هو أنّ مجموعة كبيرة من الأنبياء والأولياء والصالحين هم من ذريته، وليس كلّ الناس؟ بهذا الشأن لدينا بحث، سنتطرّق إليه بعون الله.

وإضافةً إلى ذلك يقول القرآن: أنّنا جعلنا لنوح ثناءً وذكراً جميلا في الأجيال والاُمم اللاحقة: (وتركنا عليه في الآخرين).

فقد وصفه القرآن المجيد بالنّبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف، وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء. وتاريخه اُسطورة للمقاومة والثبات، كما يمكن أن يستلهم سالكو طريق الحقّ من برامجه عبراً ودروساً تمكّنهم من إجتياز العراقيل التي يضعها الأعداء والجهلة أمامهم.

فبعد تحمّله كافّة الصعاب والآلام، منحه الله سبحانه وتعالى وساماً خالداً

________________________________

1 ـ سورة هود، الآية 38.2 ـ سورة مؤمنون، الآية 26.

[ 340 ]

يفتخر به في العالمين (سلام على نوح في العالمين).

نعم، فهل هناك فخر أكبر من هذا، وهو أنّ الله يبعث بالسلام والتحيّات لنبيّه نوح، السلام الذي سيبقى يُهدى إليه من قبل الاُمم الإنسانية لحين قيام الساعة، والملفت للنظر أنّه من النادر أن يوجد في القرآن سلام بهذه السعة على أحد، خاصّة وأنّ المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعاً محلّى بالألف واللام (مفيداً للعموم) فيتّسع المعنى ليشمل عوالم البشر واُممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة ويتعدّاهم إلى عوالم الملائكة والملكوتين.

ولكي تكون خصوصيات نوح (عليه السلام) مصدر إشعاع للآخرين، أضاف القرآن الكريم (إنّا كذلك نجزي المحسنين). و (إنّه من عبادنا المؤمنين).

في الحقيقة، إنّ درجة عبودية نوح لله وإيمانه به ـ إضافةً إلى إحسانه وعمله الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان ـ كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي الذي شمل نوحاً وأنقذه من الغمّ الكبير، وبعث إليه بالسلام، السلام الذي يمكن أن يشمل كلّ من عمل بما عمل به نوح، لأنّ معايير الألطاف الإلهيّة لا تتخلّف،  ولا تختّص بشخص دون آخر.

أمّا الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضّحت بعبارة قصيرة شديدة اللهجة مصير تلك الاُمّة الظالمة الشريرة الحاقدة (ثمّ أغرقنا الآخرين).

إذ إنهمر المطر سيلا من السماء، وتفجّرت الأرض عيوناً، وغطّت المياه اليابسة كبحر هائج دكّ بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمّرها، لافظاً إيّاهم بعدئذ أجساداً هامدة لا حياة فيها ولا روح.

والذي يلفت النظر أنّ الله سبحانه وتعالى إستعرض ألطافه على نوح في عدّة آيات، فيما بيّن عذابه لقوم نوح العاصين في عبارة واحدة قصيرة يرافقها التحقير وعدم الإهتمام بهم، لأنّ حالة نصر المؤمنين وعزّتهم وتأييد الباري سبحانه لهم جديرة بالتوضيح، وبيان حال المعاندين والعاصين لا يجدر بالإهتمام والإعتناء.

* * *

[ 341 ]

ملاحظة

هل أنّ البشر الموجودين على الأرض هم من ذريّة نوح؟

فسّرت مجموعة من كبار المفسّرين الآية (وجعلنا ذرّيته هم الباقين) بأنّ كلّ أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته.

وقد نقل الكثير من المؤرخّين بقاء ثلاثة أولاد من ذريّة نوح هم (سام) و (حام) و (يافث) بعد الطوفان، وكلّ القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية تنتهي إليهم.

وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي، فيما عرف العرق التركي ومجموعة اُخرى بأنّهم من أولاد «يافث»، أمّا «حام» فإنّ ذريّته تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة، كما أنّ الأقباط والبربر هم من ذريّته أيضاً.

البحث في هذه المسألة ليس المراد منه معرفة إلى أي من أولاد نوح ينتسب كلّ عرق، لأنّ المسألة بحدّ ذاتها هي مورد إختلاف بين الكثير من المؤرخين والمفسّرين، ولكن المتوخّى من البحث هو: هل أنّ كلّ القوميات البشرية تعود في أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو: ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل أنّهم جميعاً ماتوا من دون أن يتركوا أي خلف لهم وإن كان لهم ذريّة، فهل كانوا بنات تزوجنّ من أولاد نوح؟

هذه القضيّة من وجهة نظر التأريخ ما تزال غامضة.

على أيّة حال فإنّ هناك أحاديث وآيات قرآنية تشير إلى وجود أقوام واُمم على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح.

منها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقر (عليه السلام) في توضيح الآية المذكورة أعلاه: «الحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه، وليس كلّ من في

[ 342 ]

الأرض من بني آدم من ولد نوح (عليه السلام) قال الله عزّوجلّ في كتابه: (احمل فيها من كلّ زوجين إثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول منهم ومن آمن وما آمن معه إلاّ قليل)، وقال الله عزّوجلّ أيضاً: (ذريّة من حملنا مع نوح)»(1).

وعلى هذا فإنّ إنتهاء كلّ العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير ثابت.

 

* * *

________________________________

1 ـ هذا الحديث ورد في المجلّد الرابع من تفسير نور الثقلين في الصفحة 405، كما ورد في نهاية آيات البحث في تفسير الصافي.

[ 343 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم (84) إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ(86) فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَـلَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ(88) فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ (92)فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالَْيمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)

 

التّفسير

خطّة إبراهيم الذكيّة في تحطيم الأصنام:

آيات بحثنا هذا تتناول بشيء من التفصيل حياة النّبي الشجاع إبراهيم (عليه السلام)محطّم الأصنام بعد آيات إستعرضت جوانب من تاريخ نوح (عليه السلام) المليء بالحوادث.

ففي البداية تحدّثت القصّة عن تحطيم إبراهيم للأصنام، والموقف الشديد الذي اتّخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم، فيما يتطرّق القسم الآخر من القصّة للمشهد

[ 344 ]

الكبير الذي يتمثّل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضيّة ذبح إبنه إسماعيل، والآيات التي تخصّ هذا القسم ذُكرت هنا ـ فقط ـ بهذا التفصيل، ولم تذكر في موضع آخر بهذا الشكل.

الآية الاُولى، ربطت بين قصّة إبراهيم وقصّة نوح بهذه الصورة (وإنّ من شيعته لإبراهيم).

أي إنّ إبراهيم كان سائراً على خطى نوح (عليه السلام) في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص، حيث أنّ الأنبياء يبلغون لفكر واحد، وهم أساتذة جامعة واحدة، وكلّ واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح، رغم أنّ الفاصل الزمني بينهما كان كبيراً (قال بعض المفسّرين: إنّ الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ 2600 سنة)، إذ أنّ العلاقات الإيمانية ـ كما هو معروف ـ لا يؤثّر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير(1).

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل، قال تعالى: (إذ جاء ربّه بقلب سليم).

حيث فسّر المفسّرون (قلب سليم) بعدّة صور، أشارت كلّ واحدة منها إلى أحد أبعاد هذه المسألة.

القلب الطاهر من الشرك.

أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.

________________________________

1 ـ بعض المفسّرين أرجعوا ضمير (شيعته) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في حين أنّ آيات القرآن الكريم تقول: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اتّبع ملّة إبراهيم، علاوةً على ذلك فإنّ هذا المرجع ليس له في الآيات السابقة واللاحقة ضمير يدلّ عليه، ومن الممكن أنّهم تصوّروا أنّ تعبير الشيعة هو دليل على أفضلية نوح من إبراهيم، في حين أنّ القرآن الكريم تحدّث عن شخصية سامية لإبراهيم، لكن هذا التعبير خال من أيّة دلالة على هذه المسألة، بل المقصود إستمرار الخطّ الفكري والديني، كما أنّ أفضلية رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة لكافّة الأنبياء لا تتنافى مع أتباعه لدين إبراهيم التوحيدي يقول القرآن، في الآية 90 من سورة الأنعام (فبهداهم اقتده).

[ 345 ]

أو القلب الخالي من حبّ الدنيا، لأنّ حبّ الدنيا هو مصدر كلّ الخطايا.

وأخيراً هو القلب الذي لا يوجد فيه شيء سوى الله.

في الحقيقة إنّ كلمة (سليم) مشتقّة من (السلامة)، وعندما تطرح السلامة. بصورة مطلقة، فإنّها تشمل أيضاً السلامة من كلّ الأمراض الأخلاقية والعقائدية.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً)،(1) أي إنّ قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض، وإنّ الله سبحانه وتعالى أضاف أمراضاً اُخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وإرتكابهم المزيد من الذنوب.

وأجمل من فسّر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قال: «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه!»(2). حيث جمع بقوله كلّ الأوصاف المذكورة مسبقاً.

وقد جاء في رواية اُخرى للإمام الصادق (عليه السلام) «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الاُمور كلّها»(3).

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة، حيث نقرأ في سورة الشعراء، وفي الآيات 88 و89 على لسان النّبي الكبير إبراهيم(عليه السلام)قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم)(4).

نعم، من هنا تبدأ قصّة إبراهيم ذي القلب السليم، والروح الطاهرة، والإرادة الصلبة، والعزم الراسخ، مع قومه، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عباد الأصنام، وبدأ بأبيه

________________________________

1 ـ سورة البقرة، الآية 10.2 ـ ورد في الكافي ونقله صاحب تفسير الصافي في ذيل الآية (89) من سورة الشعراء.3 ـ المصدر السابق.4 ـ في مجال القلب السليم ورد بحث مشروح في ذيل الآيات (88) و (89) من سورة الشعراء (تحت عنوان القلب السليم وحده رأسمال النجاة) ص273.

[ 346 ]

وعشيرته (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون)، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثمّ يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام، ويقول: (أإفكاً آلهة دون الله تريدون)(1).

إستخدام كلمة (إفك) في هذه الآية، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح، توضّح حزم وقاطعية إبراهيم (عليه السلام) بشأن الأصنام.

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة (فما ظنّكم بربّ العالمين) إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّاً، ونعمه تحيط بكم من كلّ جانب، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله، فهل تتوقّعون أنّه سيرحمكم وسوف لا يعذّبكم بأشدّ العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!

عبارة (ربّ العالمين) تشير إلى أنّ كلّ العالم يدور في ظلّ ربوبيته تبارك وتعالى، وقد تركتموه واتّجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.

وجاء في كتب التأريخ والتّفسير، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنوياً، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم، ثمّ يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه، ثمّ يخرجون جميعاً إلى خارج المدينة، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وبذلك خلت المدينة من سكّانها، فاستغلّ إبراهيم (عليه السلام) هذه الفرصة الجيّدة لتحطيم الأصنام، الفرصة التي كان إبراهيم (عليه السلام) ينتظرها منذ فترة طويلة، ولم يكن راغباً في إضاعتها.

وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم (فنظر نظرةً في

________________________________

1 ـ في تركيب هذه الجملة ذكر المفسّرون إحتمالين: الأوّل: أن (إفكاً) مفعول به لـ (تريدون) و (آلهة) بدله، والآخر: أنّ (آلهة) مفعول به و (إفكاً) مفعول لأجله تقدّم للأهميّة.

[ 347 ]

النجوم).

(فقال إنّي سقيم).

وبهذا الشكل إعتذر عن مشاركتهم.

بعد إعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم (فتولّوا عنه مدبرين).

وهنا يطرح سؤالان.

الأوّل: لماذا نظر إبراهيم (عليه السلام) في النجوم، وما هو هدفه من هذه النظرة؟

والثاني: هل أنّه كان مريضاً حقّاً حينما قال: إنّني مريض؟ وما هو مرضه؟

جواب السؤال الأوّل، مع أخذ إعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار، يتّضح أنّهم كانوا يستقرئون النجوم، وحتّى أنّهم كانوا يقولون بأنّ أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض، ولهذا السبب فإنّهم يكنّون لها الإحترام لكونها تمثّل النجوم.

وبالطبع فإلى جانب إستقرائهم للنجوم، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيم (عليه السلام) بأنّه يقول بمثل قولهم، نظر إلى السماء وقال حينذاك: إنّي سقيم، فتركوه ظنّاً منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

أمّا بعض كبار المفسّرين، فقد احتملوا أنّه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه، لأنّه كان مصاباً بحمى تعتريه في أوقات معيّنة، ولكن الإحتمال الأوّل يعدّ مناسباً أكثر، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.

فيما احتمل البعض الآخر أنّ نظره إلى السماء هو التفكّر في أسرار الخلق، رغم أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة

[ 348 ]

النجوم توقّع الحوادث القادمة.

أمّا بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعدّدة:

منها: أنّه كان مريضاً حقّاً، وحتّى إن لم يكن مريضاً فإنّه لن يشارك في مراسم عيدهم، فمرضه كان عذراً جيّداً لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنّه إستخدم التورية، كما أنّ إستخدام التورية من قبل الأنبياء يعدّ عملا غير مناسب.

وقال البعض الآخر: إنّ إبراهيم لم يكن مصاباً بمرض جسدي، وإنّما روحه متعبة، من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم، فبهذا أوضح لهم الحقيقة، رغم أنّهم تصوّروا شيئاً آخر، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

وإحتمل البعض أنّه إستخدم التورية في كلامه معهم، فمثلا يأتي شخص ويطرق باب البيت، ويستفسر: هل فلان موجود في البيت، فيأتيه الجواب: إنّه ليس هنا، والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كلّه، في حين أنّ السامع يفهم أنّه ليس موجوداً في البيت، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها يعطي مفهوماً آخر يطلق عليها في الفقيه اسم «التورية») ومقصود إبراهيم (عليه السلام) انّني يمكن أنّ أمرض في المستقبل، قال ذلك ليتخلّص منهم ويتركوه وحيداً.

ولكن التّفسير الأوّل والثاني أنسب حسب الظاهر.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيم (عليه السلام) وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متّوجهين إلى خارجها، فنظر إبراهيم حوله ونور الإشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد، ثمّ نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئاً، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم

[ 349 ]

عبدتكم، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوّع، ما لكم لا تأكلون؟ (فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون)(1).

ثمّ أضاف، لِمَ لا تتكلّمون؟ لِمَ تعجز ألسنتكم عن النطق؟ (ما لكم لا تنطقون).

وبهذا استهزء إبراهيم (عليه السلام) بكلّ معتقداتهم الخرافية، ومن دون أي شكّ فإنّه كان يعرف أنّها لا تأكل ولا تتحدّث، وأنّها جماد. وأراد من وراء ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

بعد ذلك شمر عن ساعديه، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكلّ ما لديه من قوّة (فراغ عليهم ضرباً باليمين).

والمراد من (اليمين) إمّا يد الإنسان اليمنى، والتي ينجز الإنسان بها معظم أعماله، أو أنّها كناية عن القدرة والقوّة، ويمكن أن تجمع بين المعنيين.

على أيّة حال، فإنّ إنقضاض إبراهيم (عليه السلام) على الأصنام، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة، حيث لم يبق صنم على حالته الاُولى، فالأيدي والأرجل المحطّمة تفرّقت هنا وهناك داخل المعبد، وكم كان منظر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثّراً ومؤسفاً ومؤلماً في نفس الوقت.

وبعد إنتهائه من تحطيم الأصنام، غادر إبراهيم ـ بكلّ هدوء وإطمئنان ـ معبد الأصنام عائداً إلى بيته ليعدّ نفسه للحوادث المقبلة، لأنّه كان يعلم أنّ عمله كان بمثابة إنفجار هائل سيهزّ المدينة برمّتها ومملكة بابل بأجمعها، وسيحدث موجة من الغضب العارم، الموجة التي سيكون إبراهيم (عليه السلام) وحيداً في وسطها. إلاّ أنّ له ربّاً يحميه، وهذا يكفيه.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم، واتّجهوا فوراً إلى معبدهم، فشاهدوا مشهداً رهيباً وغامضاً، ومن شدّه رهبة المشهد تجمّد البعض في مكانه، فيما فقد البعض الآخر عقله وهو ينظر بدهشة وتحيّر لجذاذ آلهته المنتشرة هنا

________________________________

1 ـ (راغ) من مادّة (روغ) وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

[ 350 ]

وهناك، تلك الأصنام التي خالوها ملجأً وملاذاً لهم يوم لا ملجأ لهم، أصبحت  بلا ناصر ولا معين.

ثمّ تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد، تحوّل إلى صراخ وإستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويلا، حتّى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم إسمه إبراهيم، كان يستهزىء بأصنامهم، ويهدّد بأنّه أعدّ مخطّطاً خطيراً لأصنامهم.

من هنا استدلّوا على أنّ إبراهيم هو الفاعل، فأقبلوا عليه جميعاً غاضبين (فأقبلوا إليه يزفّون).

«يزفّون» مشتقّة من (زفّ) على وزن (كفّ) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران، ثمّ تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

على أيّة حال، المراد هنا هو أنّ عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم، وسنقرأ تتمّة الأحداث في الآيات القادمة.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ هل أنّ الأنبياء يستخدمون التورية؟

«التورية» ـ ويعبّر عنها أحياناً بلفظة (معاريض) ـ تعني أن يقول الرجل شيئاً يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر: متى رجعت من السفر؟ فيجيبه: قبل غروب الشمس، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل الظهر، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام، أنّه عاد قبل غروب الشمس بقليل، في حين أنّه كان يقصد قبل الظهر، لأنّ قبل الظهر يعدّ أيضاً قبل غروب الشمس. أو شخص يسأل آخر: هل تناولت الطعام، فيجيبه: نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنّه تناول

[ 351 ]

الطعام اليوم، في حين أنّ قصد المجيب هو أنّه تناول الطعام يوم أمس.

مسألة هل أنّ التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية، فمجموعة من كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أنّ التورية ليست كذباً، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذباً، وإنّما وردت بشأنها روايات تنفي عنها صفة الكذب، إذ قال الإمام الصادق (عليه السلام): «الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية قولي ليس هو هاهنا. فقال (عليه السلام): لا بأس ليس بكذب»(1).

والحقّ هو لزوم القول بالتفصيل، ولابدّ من وضع ضابطة كليّة: فإذا كان للفظ في اللغة والعرف معنيان، والمخاطب تصوّر معنىً خاصّاً من تلك الكلمة، في حين أنّ المتحدّث يقصد معنىً آخر، مثل هذا يعدّ تورية وليس بكذب، حيث يستخدم لفظ مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئاً، في حين أنّ المتحدّث يقصد منه معنىً آخر.

وعلى سبيل المثال، جاء في شرح حال «سعيد بن جبير»، أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول: ما هو تقييمك لي، فأجابه سعيد: إنّك (عادل)، ففرح جلاوزة الحجّاج، في حين قال الحجّاج: إنّه بكلامه هذا كفّرني، لأنّ أحد معاني (العادل) هو العدول من الحقّ إلى الباطل.

أمّا إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم، والمتحدّث يترك المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز، فمثل هذه التورية ـ من دون أيّ شكّ ـ حرام، ولربّما تمكّنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء مختلف الفقهاء.

ولكن، يجب الإنتباه إلى أنّه في بعض الأحيان حتّى في الموارد التي لا تكون فيها التورية مصداقاً للكذب، تكون للتورية أحياناً مفاسد ومضارّ وإيقاع الناس في الخطأ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة، ولكن إن

________________________________

1 ـ وسائل الشيعة، المجلّد 8، الصفحة 580، (الباب 141 في أبواب العشرة الحديث 8).

[ 352 ]

لم تكن قد إشتملت على مفسدة، ولم تكن مصداقاً للكذب، فليس هناك دليل على حرمتها. ورواية الإمام الصادق (عليه السلام) هي من هذا القبيل.

بناءً على ذلك فإنّ عدم وجود الكذب في التورية ليس كافياً، بل يجب أيضاً أن لا تشتمل التورية على مفاسد ومضارّ اُخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذباً، فمن المسلّم به جواز إستعمال التورية ما دام هناك مجال لإستخدامها، لكي لا يكون كلامه مصداقاً للكذب.

لكن هل أنّ التورية جائزة أيضاً للأنبياء، أم لا؟

يجب القول: إنّه طالما كانت سبباً في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة، لأنّ الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ، وأمّا في موارد مثل ما ورد عن تمارض إبراهيم (عليه السلام) ونظره في النجوم، ووجود هدف مهمّ في ذلك العمل، دون أن تتسبّب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحقّ، فلا تنطوي على أي إشكال.

 

2 ـ إبراهيم والقلب السليم:

كما هو معروف فإنّ كلمة (القلب) تعني في الإصطلاح القرآني الروح والعقل، ولهذا فإنّ (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافّة أشكال الشرك والشكّ والفساد.

والقرآن الكريم وصف بعض القلوب بـ (القاسية) (فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظّاً ممّا ذكروا به ...).(1)

وأحياناً وصفها بأنّها غير طاهرة، كما ورد في (سورة المائدة ـ 41).

واُخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة ـ 6).

ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة ـ 87).

________________________________

1 ـ سورة المائدة، الآية 13.

[ 353 ]

وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه، حيث أنّه صاف ورقيق مليء بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحقّ، القلب الذي وصف في الروايات بـ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله)(1).

وهو القلب الذي يتمكّن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى، إذ ورد في حديث لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»(2).

 

الملاحظ أنّ (القلب السليم) هو خير رأسمال للنجاة في يوم القيامة، وبه التحق إبراهيم (عليه السلام) بملكوت ربّه وتسلّم أمر الرسالة.

نختتم هذا البحث بحديث آخر، إذ ورد في الروايات «إنّ لله في عباده آنية وهو القلب فأحبّها إليه (أصفاها) و (أصلبها) و (أرقّها): أصلبها في دين اللّه، وأصفاها من الذنوب، وأرقّها على الاُخوان»(3).

 

* * *

________________________________

1 ـ بحار الأنوار، المجلّد 67، الصفحة 25، باب حبّ الله الحديث 27.2 ـ بحار الأنوار، المجلّد 67، الصفحة 59، باب القلب وصلاحه الحديث 39.3 ـ بحار الأنوار، المجلّد 67، الصفحة 56، باب القلب وصلاحه الحديث 26.

[ 354 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَـناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـهُمُ الاَْسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ(99)رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّــلِحِينَ (100)

 

التّفسير

فشل مخطّطات المشركين:

بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة، وهناك سألوه وطلبوا منه الجواب عن اليد التي نفّذت هذا الفعل في معبدهم، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصّلة، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حسّاس واحد من مواقف إبراهيم (عليه السلام) وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام (قال أتعبدون ما تنحتون).

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئاً من صنع يديه؟ وما هو الدافع لأي ذي شعور للسجود لشيء صنعه هو بنفسه؟ فأي عقل ومنطق يسمح بفعل هذا؟

[ 355 ]

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان، وليس صنيعة يده، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي (والله خلقكم وما تعملون).

فهو خالق الأرض والسماء، ومالك الوقت والزمان، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حدّ جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّهاودحضها.

و (ما) في عبارة (ما تعملون) هي (ما) الموصولة وليست (ما) المصدرية، ومنها يراد القول، إنّ الله خلقكم وكذلك ما تصنعون، وعندما يقال: إنّ الأصنام هي من صنع أو أعمل الإنسان، فذلك يعني أنّ الإنسان أعطاها الشكل فقط، وإلاّ فالمادّة التي تصنع منها الأصنام هي من خلق الله أيضاً.

صحيح ما يقال من أنّ هذه السجّادة وذلك البيت وتلك السيارة هي من صنع الإنسان، ولكن المراد ليس أنّ الإنسان هو الذي خلق المواد الأوّلية لتلك الأشياء، وإنّما الإنسان صاغ تلك المواد الأوّلية بشكل معيّن.

أمّا إذا اعتبرنا (ما) مصدرية، فالعبارة تعني ما يلي: إنّ الله خلقكم وأعمالكم.

وبالطبع فإنّ المعنى هذا ليس خطأ، وعلى خلاف ما يظنّه البعض ليس فيه ما يدلّ على الجبر، لأنّ الأعمال التي نقوم بها رغم أنّها تتمّ بإرادتنا، إلاّ أنّ إرادة وقدرة التصميم وغيرها من القوى التي تنفذ من خلالها أفعالنا كلّها من الله سبحانه وتعالى، وبهذا الشكل فإنّ الآية لا تقصد هذا الأمر، وإنّما تقصد الأصنام، وتقول: إنّ الله خلقكم أنتم والأصنام التي صنعتموها وصقلتموها. وجمال هذا الحديث يتجسّد هنا، لأنّ البحث يخصّ الأصنام ولا يخصّ أعمال البشر.

في الحقيقة إنّ موضوع هذه الآية يشبه الموضوع الذي ورد في قصّة موسى والسحرة والتي تقول: (فإذا هي تلقف ما يأفكون)(1)، فالمقصود هنا الأفعى التي هي

________________________________

1 ـ الأعراف، 117.

[ 356 ]

من صنع السحرة.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل، ولهذا لم تؤثّر عليهم الأدلّة والبراهين الظاهرية والقويّة التي بيّنها إبراهيم (عليه السلام) على قلوب الجبابرة الحاكمين في بابل حينذاك، رغم أنّ مجموعات من أبناء الشعب المستضعف هناك إستيقظت من غفلتها وآمنت بدعوة إبراهيم (عليه السلام).

ولإيقاف إنتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر إنتشاره على مصالحهم الخاصّة إلى إستخدام منطق القوّة والنار ضدّ إبراهيم(عليه السلام)، المنطق الذي لا يفهمون سواه. حيث هتفوا بالإعتماد على قدراتهم الدنيوية: أن ابنوا له بنياناً عالياً، واشعلوا في وسطه النيران ثمّ ارموه فيه (قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم).

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة، ومن ثمّ إشعال النيران في داخلها، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة، إنّما تمّ ـ كما يحتمل ـ للحؤول دون إمتداد النيران إلى خارجها، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها، ولإيجاد جهنّم واقعية كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

صحيح أنّ كميّة قليلة من الحطب كانت تكفي لحرق إنسان كإبراهيم، لكنّهم فعلوا ذلك ليطفؤا غيظ قلوبهم من جرّاء تحطيم أصنامهم، وبمعنى آخر الإنتقام من إبراهيم بأشدّ ما يمكن، لعلّهم بذلك يعيدون العظمة والاُبّهة لأصنامهم إضافةً إلى أنّ عملهم هذا كان تخويفاً وتحذيراً لمعارضيهم، كي لا تتكرّر مثل هذه الحادثة مرّة اُخرى في تأريخ بابل، لذلك فقد أوقدوا ناراً عظيمة.

«الجحيم» في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.

هذا، وقد فسّر البعض «البنيان» بأنّه المنجنيق، والمنجنيق ـ كما هو معروف ـ أداة لقذف الأشياء الثقيلة إلى مكان بعيد، لكن أكثر المفسّرين انتخبوا التّفسير

[ 357 ]

الأوّل، أي أنّ البنيان هو ذلك البناء المكوّن من أربعة جدران كبيرة.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى دقائق وتفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة (فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين).

(كيد) في الأصل تعني الإحتيال، أكان بطريقة صحيحة أم غلط، مع أنّها غالباً ما تستعمل في موارد مذمومة، وبما أنّها جاءت بحالة النكرة هنا، فإنّها تدلّ على عظمة الشيء وأهمّيته، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

نعم، لقد وضعهم الله سبحانه وتعالى في أسفل السافلين، فيما رفع إبراهيم(عليه السلام)إلى أعلى علّيين، كما كان أعلى منطقاً، وجعله هو الأعلى في حادثة إشعال النيران، وأعداءه الأقوياء هم الأخسرين، فكانت النار عليه برداً وسلاماً دون أن تحرق حتّى شعرة واحدة من جسد إبراهيم (عليه السلام) وخرج سالماً من ذلك البحر الجهنّمي.

فإرادته تقتضي أن ينجي في يوم من الأيّام نوحاً من «الغرق»، وفي يوم آخر ينقذ إبراهيم من «الحرق»، وذلك لكي يوضّح أنّ الماء والنار عبدان مطيعان له سبحانه وتعالى ومستجيبان لأوامره.

إبراهيم (عليه السلام) الذي نجا بإرادة الله من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له، وخرج مرفوع الرأس منها، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام، إذ أنّ رسالته في بابل قد إنتهت، (وقال إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين).

من البديهات أنّ الله لا يحويه مكان، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي، فإنّها هجرة إلى الله.

فالهجرة إلى أرض الأنبياء والأولياء ومهبط الوحي الإلهي، هي هجرة إلى الله، مثلما يعرف السفر إلى مكّة المكرّمة بأنّه سفر إلى الله، خاصّة وأنّ هجرة إبراهيم(عليه السلام)

[ 358 ]

كانت من أجل تنفيذ واجب رسالي إلهي، وأنّ الله كان هاديه ومرشده خلال السفر.

الآيات ـ هنا ـ عكست أوّل طلب لإبراهيم (عليه السلام) من الباري عزّوجلّ، إذ طلب الولد الصالح، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّه الرسالي، ويتمم ما تبقّى من مسيرته، وذلك حينما قال: (ربّ هب لي من الصالحين).

إنّها حقّاً لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الإعتقاد والإيمان، والصالح من حيث القول والعمل، والصالح من جميع الجهات.

والذي يلفت النظر أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان قد طلب من الله في إحدى المرّات أن يجعله من مجموعة الصالحين، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم، (ربّ هب لي حكماً والحقني بالصالحين).(1)

فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح، حيث أنّ كلمة صالح تجمع كلّ الأشياء اللائقة والجيّدة في الإنسان الكامل.

فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم، ورزقه أولاداً صالحين (إسماعيل وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة (وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين).

وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلّ من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنّهم من الصالحين).(2)

* * *

 

بحثان

1 ـ خالق كلّ شيء:

وردت في آيات بحثنا أنّ إبراهيم (عليه السلام) خاطب عبدة الأصنام قائلا: (والله خلقكم وما تعملون).

________________________________

1 ـ الشعراء، 83.2 ـ الأنبياء، 85 و86.

[ 359 ]

وقد زعم البعض أنّ هذه الآيات تدلّ على ما جاء في مذهب الجبر الفاسد، وذلك عندما اعتبروا (ما) في عبارة (ما تعملون) (ما) المصدرية، وقالوا: إنّ هذه الآية تعني أنّ الله خلقكم وأعمالكم، وبما أنّ أعمالنا هي من خلق الله، فإنّنا لا نمتلك الإختيار، أي إنّنا مجبرون.

هذا الكلام لا أساس له من الصحّة لعدّة أسباب:

أوّلا: كما قلنا فإنّ المراد من (ما تعملون) هنا، هي الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم، وليست أعمال الإنسان، ومن دون أي شكّ فإنّهم كانوا يأخذون المواد من هذه الأرض التي خلقها الله، وينحتونها بالشكل الذي يروق لهم، ولهذا فإنّ (ما) هنا هي (ما) الموصولة.

ثانياً: إذا كان مفهوم الآية كما تصوّر اُولئك، فإنّها تكون دليلا لصالح عبدة الأصنام، وليس ضدّهم، لأنّهم يستطيعون القول: صناعة الأصنام وعبادتها إنّما هو من خلق الله، ونحن في هذه الحالة لسنا بمذنبين.

وثالثاً: على فرض أنّ معنى الآية هو هكذا، فليس هناك دليل على الجبر، لأنّه مع الحرية والإرادة والإختيار فإنّ الله هو خالق أعمالنا، لأنّ هذه الحرية والإرادة والقدرة على التصميم وكذلك القوى البدنية والفكرية الماديّة والمعنوية لم يعطها غير الله؟ إذاً فالخالق هو، مع أنّ الفعل هو بإختيارنا نحن.

 

2 ـ هجرة إبراهيم

(عليه السلام)

:

الكثير من الأنبياء هاجروا خلال فترة حياتهم من أجل أداء رسالتهم، ومنهم إبراهيم الذي إستعرضت آيات مختلفة في القرآن المجيد قضيّة هجرته، ومنها ما جاء في سورة العنكبوت الآية (26) (وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنّه هو العزيز الحكيم).

في الحقيقة، إنّ أولياء الله عندما كانوا يتّمون مهام رسالتهم في إحدى المناطق،

[ 360 ]

أو أنّهم كانوا يحسّون بأنّ المجتمع لا يتقبّل رسالتهم، كانوا يهاجرون كي لا تتوقّف رسالتهم.

وهذه الهجرة كانت مصدر بركات كثيرة على طول تاريخ الأديان، حتّى أنّ تاريخ الإسلام من الناحيتين الظاهرية والمعنوية يدور حول محور هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولولا الهجرة لكان الإسلام قد غرق ـ وإلى الأبد ـ في مستنقع عبدة الأصنام في مكّة. فالهجرة هي التي أعطت روحاً جديدة للإسلام والمسلمين، وغيّرت كلّ شيء لصالحهم، وخطت للبشرية طريقاً جديداً للسير عليه.

وبعبارة واحدة: فالهجرة برنامج عام لكلّ مؤمن عندما يشعر في وقت من الأوقات أنّ الجو الذي يعيش فيه غير متناسب مع أهدافه المقدّسة، ويبدو كأنّه مستنقع عفن يفسد كلّ ما فيه، فتكليفه الهجرة، وعليه أن يحزم حقائب السفر، وينتقل إلى مناطق أفضل، فأرض الله واسعة.

والهجرة قبل أن تكون ذات طابع ذاتي خارجي، فهي ذات طابع ذاتي داخلي، ففي بداية الأمر يجب على القلب والروح هجر الفساد إلى الطهارة، وهجر الشرك إلى الإيمان، وهجر المعاصي إلى طاعة الله العظيم.

فالهجرة الداخلية هي بداية تغيّر الفرد والمجتمع، ومقدّمة للهجرة الخارجية، وقد بحث هذا الموضوع بصورة مفصّلة في هذا التّفسير وفي موضوع يتحدّث عن الإسلام والهجرة، وذلك بعد الآية (100) في سورة النساء.

 

* * *

[ 361 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

فَبَشَّرْنَـهُ بِغُلَـم حَلِيم (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَـبُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَـأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّـبِرِينَ (102) فَلمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَـدَيْنَـهُ أَن يَـإِبْرَهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءَيَا إِنَّآ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُـحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَـؤُا الْمُبِينُ (106)وَفَدَيْنَـهُ بِذِبْح عَظِيم (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخِرِينَ (108) سَلَـمٌ عَلَى إِبْرَهِيمَ(109) كَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ (110)

 

التّفسير

إبراهيم عند المذبح:

بحثنا في الآيات السابقة إنتهى عند هجرة إبراهيم (عليه السلام) من بابل بعد أن أدّى رسالته هناك، وطلبه من الله أن يرزقه ولداً صالحاً، إذ لم يكن له ولد.

وأوّل آية في هذا البحث تتحدّث عن الإستجابة لدعاء إبراهيم، إذ قالت الآية: (فبشّرناه بغلام حليم).

[ 362 ]

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية، الاُولى أنّه سيرزق طفلا ذكراً، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم.

وكلمة (حليم) تعني الذي لا يعجّل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه، وقيل: الذي لا يعجّل بالعقوبة، والذي له روح كبيرة وهو متسلّط على أحاسيسه.

ويرى «الراغب» في مفرداته أنّ كلمة حليم تعني الضابط نفسه في لحظة الإثارة والغضب، وبسبب كون هذه الحالة تنشأ من العقل والإدراك، فإنّ كلمة وعكس تعني ـ أحياناً ـ العقل والإدراك.

ولكنم المعنى الحقيقي لكلمة حليم هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه.

ويمكن الإستفادة من هذا الوصف في أنّ الله بشّر عبده إبراهيم في أنّه سيعطي إبنه إسماعيل عمراً يمكن وصفه فيه بالحليم، كما أنّ الآيات التالية ستوضّح أنّ إسماعيل بيّن مرتبة حلمه أثناء قضيّة الذبح، مثلما وضّح أبوه إبراهيم حلمه في أثناء قضيّة الذبح، وأثناء إحراقه بالنار.

وكلمة (حليم) كرّرت (15) مرّة في القرآن المجيد، وأغلبها وردت وصفاً لله، عدا ثلاث موارد جاءت في وصف إبراهيم وإبنه إسماعيل من قبل القرآن الكريم، والثالثة جاءت في وصف شعيب وعلى لسان الآخرين.

وكلمة (غلام) حسب إعتقاد البعض تطلق على كلّ طفل لم يصل بعد مرحلة الشباب، والبعض يطلقها على الطفل الذي إجتاز عمره العشر سنوات ولم يصل بعد إلى سنّ البلوغ.

ويمكن الإستفادة من العبارات المختلفة الواردة بلغة العرب في أنّ كلمة (غلام) تطلق على الذكر الذي إجتاز مرحلة الطفولة ولم يصل بعد إلى مرحلة الشباب.

أخيراً، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهيّة، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال، إجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى

[ 363 ]

غلاماً. وهنا يقول القرآن: (فلمّا بلغ معه السعي).

يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف اُمور الحياة وإعانته على اُموره.

وقال البعض: بأنّ (السعي) هنا يعني العمل لله والعبادة، وبالطبع فإنّ كلمة (السعي) لها مفاهيم ومعان واسعة تشمل هذا المعنى أيضاً، ولكنّها لا يقتصر معناها عليه. و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في اُمور الحياة.

على كلّ حال، فقد ذهب جمع من المفسّرين: إنّ عمر إسماعيل كان (13) عاماً حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير، والذي يدلّ على بدء إمتحان عسير آخر لهذا النّبي ذي الشأن العظيم، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح إبنه الوحيد وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوباً، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين، وقد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين اُخريين، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فوراً.

وقيل: إنّ أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجّة، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة، وليلة عيد الأضحى، وبهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنّ هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.

إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن، إبراهيم الذي نجح في كافّة الإمتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس، الإمتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الاُبوّة جانباً والإمتثال لأوامر الله بذبح إبنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة، وهو الآن غلام يافع قوي.

ولكن قبل كلّ شيء، فكّر إبراهيم (عليه السلام) في إعداد إبنه لهذا الأمر، حيث (قال يابني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك فانظر ماذا ترى).

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده، رحّب بالأمر الإلهي بصدر

[ 364 ]

واسع وطيبة نفس، وبصراحة واضحة قال لوالده: (قال ياأبت افعل ما تؤمر).

ولا تفكّر في أمري، فانّك (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).

فما أعظم كلمات الأب والإبن وكم تخفي في بواطنها من الاُمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!

فمن جهة، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (13) عاماً بقضيّة الذبح، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة.

فإبراهيم لم يقصد أبداً خداع ولده، ودعوته إلى ساحة الإمتحان العسير بصورة عمياء، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس، وجعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر الله والرضى به، كما إستشعر حلاوتها هو.

ومن جهة اُخرى، عمد الإبن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به، إذ لم يقل له: إذبحني، وإنّما قال له: افعل ما أنت مأمور به، فإنّني مستسلم لهذا الأمر، وخاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة (ياأبت) كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة، وأنّ أمر الله هو فوق كلّ شيء.

ومن جهة ثالثة، أظهر أدباً رفيعاً اتّجاه الله سبحانه وتعالى، وأن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط، وإنّما يعتمد على إرادة ومشيئة الله، وبعبارة اُخرى: أن يطلب توفيق الإستعانة والإستقامة من الله.

وبهذا الشكل يجتاز الأب وإبنه المرحلة الاُولى من هذا الإمتحان الصعب بإنتصار كامل.

ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث، وركّز فقط على النقاط الحسّاسة في هذه القصّة العجيبة.

كتب البعض: إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته.

فعندما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال

[ 365 ]

إسماعيل لوالده:

ياأبت، أحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّداً، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك.

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

ثمّ أضاف: أوصل سلامي إلى والدتي، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّىء من آلامها، لأنّها ستشمّ رائحة إبنها منه، وكلّما أحسّت بضيق القلب، تضعه على صدرها ليخفّف الحرقة الموجودة في أعماقها.

قربت اللحظات الحسّاسة، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ، فعندما رأى إبراهيم (عليه السلام) درجة إستسلام ولده للأمر الإلهي إحتضنه وقبّل وجهه، وفي هذه اللحظة بكى الإثنان، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدّمة الشوق للقاء الله.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني، فيقول تعالى: (فلمّا أسلما وتلّه للجبين)(1).

مرّة اُخرى تطرّق القرآن هنا بإختصار، كي يسمح للقاريء متابعة هذه القصّة بإنشداد كبير.

قال البعض: إنّ المراد من عبارة (تلّه للجبين) هو أنّه وضع جبين ولده ـ طبقاً لإقتراحه ـ على الأرض، حتّى لا تقع عيناه على وجه إبنه فتهيج عنده عاطفة الاُبوّة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي.

________________________________

1 ـ (تلّه) من مادّة (تلّ) وتعني في الأصل المكان المرتفع، و (تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه إبنه على مكان مرتفع من الأرض.(جبين) تعني أحد جانبي الجبهة أو الوجه، وطرفي الوجه أو الجبهة يقال لهما (جبينان).

[ 366 ]

على أيّة حال كبّ إبراهيم (عليه السلام) إبنه على جبينه، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة إبنه، وروحه تعيش حالة الهيجان، وحبّ الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردّد.

إلاّ أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.

وهنا غرق إبراهيم في حيرته، ومرّر السكّين مرّة اُخرى على رقبة ولده، ولكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة.

نعم، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين: إذبحي، لكنّ الله الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباري عزّوجلّ.

وهنا ينهي القرآن كلّ حالات الإنتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة (وناديناه أن ياإبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين).

إذ نمنحهم توفيق النجاح في الإمتحان، ونحفظ لهم ولدهم العزيز، نعم فالذي يستسلم تماماً وبكلّ وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان، لا يمكن مكافأته بأقلّ من هذا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم (إنّ هذا لهو البلاء المبين).

عمليّة ذبح الإبن البارّ المطيع على يد أبيه، لا تعدّ عمليّة سهلة وبسيطة بالنسبة لأب إنتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الإبن، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه ولده؟ والأكثر من ذلك إستسلامه ورضاه المطلق ـ من دون أي إنزعاج ـ لتنفيذ هذا الأمر، وتنفيذه كافّة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها، بصورة لا يغفل فيها عن أي شيء من الإستعداد لعملية الذبح نفسياً وعمليّاً.

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح وإطمئنان يحفّه اللطف الإلهي، وإستسلام في مقابل هذا الأمر.

لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل هتف «الله أكبر» «الله أكبر» أثناء

[ 367 ]

عمليّة الذبح لتعجّبه.

فيما هتف إسماعيل «لا إله إلاّ الله، والله أكبر».

ثمّ قال إبراهيم «الله أكبر ولله الحمد»(1).

وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نردّدها في يوم عيد الأضحى.

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصاً، وتتحقّق أُمنية إبراهيم في تقديم القربان لله، بعث الله كبشاً كبيراً إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن إبنه إسماعيل، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى) (وفديناه بذبح عظيم).

ما المراد بالذبح العظيم؟

هل أنّه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري؟

أو لأنّه كان فداء عن إسماعيل؟

أو لأنّه كان لله وفي سبيل الله؟

أو لأنّ هذه الاُضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم؟

المفسّرون قالوا الكثير بشأنها، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كلّ ما هو مقصود أعلاه.

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح، هو إتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن، وحالياً يذبح في كلّ عام أكثر من مليون اُضحية تيمنّاً بذلك الذبح العظيم وإحياءاً لذلك العمل العظيم.

«فديناه» مشتقّة من (الفداء) وتعني جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه، لذا يطلق على المال الذي يدفع لإطلاق سراح الأسير (الفدية) كما تطلق (الفدية) على الكفّارة التي يخرجها بعض المرضى بدلا عن صيامهم.

وبشأن كيفية وصول الكبش العظيم إلى إبراهيم (عليه السلام)، أعرب الكثير من

________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، وتفسير روح البيان.

[ 368 ]

المفسّرين عن إعتقادهم في أنّ جبرئيل أنزله، فيما قال البعض الآخر: إنّه هبط عليه من أطراف جبال (منى)، ومهما كان فإنّ وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله.

النجاح الذي حقّقه إبراهيم (عليه السلام) في الإمتحان الصعب، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم، وإنّما جعله خالداً على مدى الأجيال (وتركنا عليه في الآخرين).

إذ غدا إبراهيم (عليه السلام) «اُسوة حسنة» لكلّ الأجيال، و «قدوة» لكلّ الطاهرين، وأضحت أعماله سنّة في الحجّ، وستبقى خالدة حتّى تقوم القيامة، إنّه أبو الأنبياء الكبار، وإنّه أبو هذه الاُمّة الإسلامية ورسولها الأكرم محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولمّا إمتاز به إبراهيم (عليه السلام) من صفات حميدة، خصّه الباري عزّوجلّ بالسلام (سلام على إبراهيم).

نعم، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين (كذلك نجزي المحسنين) جزاء يعادل عظمة الدنيا، جزاء خالد على مدى الزمان، جزاء يجعل من إبراهيم أهلا لسلام الله عزّوجلّ عليه.

وعبارة (كذلك نجزي المحسنين) تثير الإنتباه، إذ أنّها أتت قبل عدّة آيات، وتكرّرت ثانية هنا، فهناك حتماً علّة لهذا التكرار.

المرحلة الاُولى ربّما كانت بسبب أنّ الله سبحانه وتعالى صادق على نجاح إبراهيم في الإمتحان الصعب، وأمضى نتيجة قبوله، وهذه بحدّ ذاتها أهمّ مكافأة يمنحها الله سبحانه وتعالى لإبراهيم، ثمّ تأتي قضيّة (الفدية بذبح عظيم) و (بقاء إسمه وسنّته خالدين على مدى التاريخ) و (إرسال الباري عزّوجلّ سلامه وتحيّاته إلى إبراهيم) التي إعتبرت ثلاث نعم كبيرة منحها الله سبحانه وتعالى لعبده إبراهيم بعنوان أنّها مكافأة وجزاء للمحسنين.

 

* * *

 

[ 369 ]

بحوث

1 ـ من هو ذبيح الله؟

إختلف المفسّرون بشأن الولد الذي اُمر إبراهيم بذبحه، هل كان (إسماعيل أم إسحاق) الذي لقّب بذبيح الله؟ إذ أنّ هناك نقاشاً بين المفسّرين، فمجموعة تقول: إنّ (إسحاق) هو (ذبيح الله) فيما تعتبر مجموعة اُخرى (إسماعيل) هو الذبيح، التّفسير الأوّل أكّد عليه الكثير من مفسّري أهل السنّة، فيما أكّد مفسّرو الشيعة على أنّ إسماعيل هو الذبيح.

وظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكّد على أنّ إسماعيل هو ذبيح الله، وذلك للأسباب التالية:

أوّلا: في إحدى آيات القرآن الكريم نقرأ (وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين).(1)

هذه العبارة توضزح بصورة جيّدة، أنّ الله سبحانه وتعالى بشّر إبراهيم بولادة إسحاق بعد قضيّة الذبح، نتيجة تضحياته، ولهذا فإنّ قضيّة الذبح لا تخصّه أبداً، إضافةً إلى أنّ الباري عزّوجلّ عندما يبشّر أحداً بالنبوّة، فذلك يعني بقاء ذلك الشخص حيّاً، وهذا لا يتناسب مع قضيّة الذبح التي خصّت غلاماً.

ثانياً: نقرأ في الآية 71 من سورة هود ، قوله تعالى: (فبشّرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) هذه الآية توضّح أنّ إبراهيم كان مطمئناً على بقاء ولده إسحاق، وأنّ الله سيرزق إسحاق ولداً إسمه يعقوب، وهذا يعني أنّ الذبح لا يشمله أبداً. فالذين اعتبروا إسحاق هو الذبيح، يبدو أنّهم لم يأخذوا بنظر الإعتبار حقيقة هذه الآيات.

ونقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث موثوق، جاء فيه: «أنا ابن الذبيحين» والمقصود من الذبيحين، الأوّل هو والده (عبدالله) الذي كان أبوه عبدالمطلّب قد

________________________________

1 ـ الصافات، 112.

[ 370 ]

نذر بذبحه تقرّباً إلى الله تعالى والذي (فداه) بأمر من الله بـ (100) بعير، وقصّته معروفة، والثاني هو (إسماعيل) لأنّ من الاُمور الثابتة كون نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو من أبناء إسماعيل وليس من أبناء إسحاق(1).

وورد في الدعاء الذي رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، (يا من فدا إسماعيل من الذبح)(2).

وجاء في روايات اُخرى عن الإمامين المعصومين الباقر والصادق (عليهما السلام)، أنّهما أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح، فأجابا أنّه إسماعيل.

وجاء في حديث نقل عن الإمام الرضا (عليه السلام) «لو علم الله عزّوجلّ شيئاً أكرم من الضأن لفدى به إسماعيل»(3).

خلاصة الأمر، هو أنّ الروايات والأحاديث التي وردت بهذا الشأن كثيرة، وإذا أردنا إستعراضها جميعاً، فإنّ البحث يتّسع كثيراً.

وفي مقابل هذه الروايات الكثيرة المتناسبة مع ظاهر الآيات القرآنية، هناك روايات شاذّة تدلّ على أنّ إسحاق هو المقصود (بذبيح الله) ولا تتطابق مع روايات المجموعة الاُولى ولا مع ظاهر الآيات القرآنية.

 

وبغضّ النظر عمّا قيل، فهناك قضيّة مسلّم بها، وهي أنّ الطفل الذي جاء به إبراهيم مع اُمّه إلى مكّة المكرّمة بأمر من الله ثمّ تركهما هناك، وساعده من بعد في بناء الكعبة المشرفة، وأدّى مراسم الطواف والسعي هو إسماعيل، وهذا يدلّ على أنّ الذبيح هو إسماعيل، لأنّ عملية الذبح تكمل الأعمال المذكورة أعلاه.

ممّا يذكر أنّ كتاب (التوراة) الحالي والمعروف بالعهد القديم يؤكّد على أنّ الذبيح كان إسحاق.

________________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.2 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 421.3 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 422.

[ 371 ]

هنا يستشف أنّ بعض الروايات الإسلامية غير المعروفة والتي تؤكّد على أنّ إسحاق هو (ذبيح الله) متأثّرة ببعض الروايات الإسرائيلية، ويحتمل أنّ اليهود وضعوها، وذلك لأنّهم من ذريّة (إسحاق)، وقد حاولوا نسب هذا الفخر لهم، حتّى ولو كان عن طريق تزييف الوقائع والحقائق، وسلبه من المسلمين الذين كان نبيّهم نبي الرحمة أحد أحفاد إسماعيل.

على أيّة حال، فإنّ ظواهر آيات القرآن الكريم هي أقوى دليل لنا، إذ توضّح بصورة كافية، أنّ الذبيح هو إسماعيل، رغم أنّه لا فرق بالنسبة لنا إن كان الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فالإثنان هما أبناء إبراهيم (عليه السلام)، وكلاهما من أنبياء الله العظام، ولكن الهدف هو توضيح هذه الحادثة التاريخية.

 

2 ـ هل أنّ إبراهيم كان مكلّفاً بذبح إبنه؟

من الأسئلة المهمّة الاُخرى التي تطرح نفسها في هذا البحث، والتي تثير التساؤل في أوساط المفسّرين، هي: هل أنّ إبراهيم كان حقّاً مكلّفاً بذبح إبنه أم أنّه كان مكلّفاً بتنفيذ مقدّمات الذبح؟

فإن كان مكلّفاً بالذبح، فكيف ينسخ هذا الحكم الإلهي قبل تنفيذ عمليّة الذبح، في حين أنّ النسخ قبل العمل غير جائز، وهذا المعنى ثابت في علم (اُصول الفقه).

وإن كان مكلّفاً بتنفيذ مقدّمات عملية الذبح، فهذا لا يعتبر فخراً له. وما قيل من أنّ أهميّة المسألة نشأت من أنّ إبراهيم بعد تنفيذه لهذا الأمر وتهيئة مقدّماته كان ينتظر نزول أمر بشأن الذبح وكان هذا هو الإمتحان الكبير له ـ فهو كلام غير جدير بالردّ.

بإعتقادنا، أنّ التقولاّت هذه ناشئة عن عدم التفريق بين الأوامر الإمتحانية وغير الإمتحانية، فالأمر الصادر إلى إبراهيم هو أمر إمتحاني، وكما هو معروف فإنّ الأوامر الإمتحانية لا تتعلّق فيها الإرادة الحقيقيّة بطبيعة العمل، وإنّما الهدف

[ 372 ]

منها توضيح مقدار الإستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته للأوامر؟ كما أنّ الشخص الممتحن ليس له إطلاع بخفايا الاُمور. وبهذا الشكل فإنّ عملية النسخ لم تحصل هنا حتّى تناقش قضيّة صحّتها ووقوعها قبل العمل.

مخاطبة الباري عزّوجلّ عبده إبراهيم بعد الحادثة (قد صدّقت الرؤيا) إنّما جاءت بسبب إثبات مقدرته على ذبح إبنه العزيز، وإستعداده روحيّاً لتنفيذ هذا الأمر، ونجاحه في هذا الإمتحان.

 

3 ـ كيف يمكن أن تكون رؤيا إبراهيم حجّة؟

بشأن (الرؤيا) هناك كلام كثير، ورد جزء يسير منه في تفسير سورة يوسف بعد الآية الرابعة.

لابدّ هنا من الإلتفات إلى أمر وهو: كيف إعتبر إبراهيم منامه حجّة، وإتّخذه معياراً لعمله؟

في الجواب على هذا السؤال، يقال: إنّ رؤيا الأنبياء لا يمكن أن تكون رؤيا شيطانية، وإنّها ليست ناشئة عن فعّالية قوّة وهمية، وإنّما هي جانب من نظام النبوّة والوحي.

وبتعبير آخر: إنّ إرتباط الأنبياء مع الوحي يكون أحياناً بشكل إلقاء في القلب.

وأحياناً عن طريق مشاهدة الوحي.

وأحياناً عن طريق سماع أمواج صوتية، بعثت بأمر من الله.

وأحياناً عن طريق المنام.

وبهذا الشكل لا يمكن وقوع أي خطأ أو إشتباه في رؤيتهم، والذي يشاهدونه في منامهم هو كالذي يشاهدونه في يقظتهم.

وقيل: إنّ إبراهيم أمر عن طريق الوحي أثناء يقظته بأن ينفّذ ما يراه بشأن الذبح في المنام.

[ 373 ]

وقيل أيضاً: إنّ القرائن المختلفة التي كانت في هذا المنام، ومنها تكراره ثلاث ليال متتالية، أوجد عنده علماً ويقيناً بأنّ ما شاهده في المنام هو تكليف إلهي وليس أمراً آخر.

على أيّة حال، يمكن أن تكون كلّ هذه التفاسير صحيحة، ولا يوجد تناقض بينها، كما أنّها لا تتعارض وظواهر آيات القرآن الكريم.

 

4 ـ عدم تأثّر روح إبراهيم الكبيرة بوساوس الشيطان:

لأنّ إمتحان إبراهيم كان من أكبر الإمتحانات على طول التاريخ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه في أيّ حبّ لغير الله، وجعله متنوّراً ـ فقط ـ بعشق وحبّ الله، فقد عمد الشيطان ـ كما جاء في بعض الروايات ـ إلى تكريس كلّ طاقاته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصراً من الإمتحان.

فأحياناً كان يذهب إلى زوجته (هاجر) ويقول لها: أتعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم!

فكانت تجيبه هاجر: إذهب ولا تتحدّث بأمر محال، فإنّه أرحم من أن يقتل ولده، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

الشيطان هنا يواصل وساوسه، ويقول: إنّه يزعم بأنّ الله أمره بذلك.

فتجيبه هاجر: إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر الله، وليس هناك طريق آخر سوى الرضى والتسليم لأمر الله.

وأحياناً كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه، لكنّه فشل أيضاً إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان كلّه قطعة من الرضى والتسليم لذلك الأمر.

وأخيراً اتّجه نحو الأب، وقال له: ياإبراهيم إنّ المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان!

[ 374 ]

فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنبوّة، وصاح به: إبتعد من هنا ياعدوّ الله(1).

وورد في حديث آخر أنّ إبراهيم جاء في البداية إلى (المشعر الحرام) ليذبح إبنه هناك، ولكن الشيطان تبعه، فترك المحلّ وذهب إلى مكان (الجمرة الاُولى) فتبعه الشيطان أيضاً، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة، وعند وصوله إلى (الجمرة الثانية) شاهد الشيطان أمامه أيضاً فرماه بسبع قطع اُخرى من الحجارة، وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشيطان ثالثة رماه بسبع اُخرى، وبهذا جعل الشيطان ييأس منه إلى الأبد(2).

من هنا يتّضح أنّ وساوس الشياطين أثناء أداء الإمتحان الكبير يتعدّد أشكالها، إذ أنّها تعترض طريق الإنسان من عدّة جهات وتتلوّن بعدّة ألوان، فلذا يجب على المؤمنين أن يكونوا كإبراهيم قادرين على تشخيص الشيطان ومعرفته بسرعة مهما كان متستّراً بشكل من الأشكال، وإغلاق كلّ طريق يحتمل أن يرد منه ورميه بالحجارة، فما أعظم هذا الدرس!!

 

5 ـ فلسفة التكبيرات في (مِنى):

وكما هو معروف فإنّ من الأعمال الواردة في الروايات الإسلامية بشأن عيد الأضحى، هي التكبيرات الخاصّة التي يردّدها المسلمون بعد الصلاة، سواء كانوا من المشاركين في مراسم الحجّ بمنى، أو ممّن لم يشارك فيها من المسلمين في سائر بقاع الأرض. (غاية الأمر انّ الحجّاج في منى يكبّرون بعده صلاة أوّلها بعد صلاة الظهر من يوم العيد، وفي المناطق الاُخرى يكبّر المسلمون هذه التكبيرات بعد 10 صلوات).

________________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، المجلّد 9، الصفحة 326، في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.2 ـ تفسير (أبو الفتوح الرازي) المجلّد (9) الصفحة (326) في ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

[ 375 ]

وكيفيّة هذه التكبيرات هي: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا). فعندما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي ذكرناه سابقاً، تتّضح حقيقة هذه التكبيرات، وهي أنّها مجموع تكبيرات جبرئيل وإسماعيل ووالده إبراهيم، وشيء أُضيف إليه.

وبعبارة اُخرى فإنّ هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة إنتصار إبراهيم وإبنه إسماعيل في الإمتحان الكبير، وتعطي العبر لكلّ المسلمين، سواء كانوا في منى أو في غيرها.

وقد اتّضح من الروايات الإسلامية أنّ سبب تسمية أرض (منى) بهذا الإسم، إنّما يعود إلى أنّ إبراهيم عندما وصل إلى هذه الأرض، بعدما إجتاز ـ بنجاح ـ الإمتحان الصعب، نزل عليه جبرئيل وقال له: اطلب ما شئت من ربّ العالمين، فتمنّى من الله أن يأمره بذبح كبش فدية عن إبنه إسماعيل، وقد تحقّقت اُمنيته هذه(1).

 

6 ـ الحجّ عبادة مهمّة تبني الإنسان:

السفر للحجّ ـ في الحقيقة ـ هو سفر عظيم، إذ أنّه سفر إلهي، وساحة واسعة لبناء النفس والجهاد الأكبر.

مراسم الحجّ توضّح ـ في الواقع ـ عبادة ممزوجة ـ بصورة عميقة ـ بخاطرات جهاد إبراهيم وإبنه إسماعيل وزوجته هاجر، فلو أغفلنا عن هذه النقطة أثناء مطالعتنا الاُمور الخاصّة بأسرار الحجّ، فإنّ الكثير من مراسمه ستبدو لنا كألغاز، نعم إنّ مفتاح حلّ هذه الألغاز هو الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الإمتزاج العميق.

فعندما نأتي إلى مكان ذبح الأضاحي في أرضي (منى) نتعجّب لأيّ شيء تذبح هذه الأضاحي؟ فهل أنّ ذبح الحيوان يمكن أن يكون حلقة من مجموعة حلقات

________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 420، الحديث 68.

[ 376 ]

العبادة؟

إلاّ أنّنا عندما نتذكّر إيثار إبراهيم (عليه السلام) الذي أراد ذبح أعزّ أعزّائه وأطيب ثمار عمره (إسماعيل) في تلك الأرض في سبيل الله، العملية التي غدت سنّة فيما بعد وبعنوان ذبح الأضاحي في منى، ندرك فلسفة هذا العمل.

فالذبح إشارة إلى إجتياز كلّ شيء في سبيل التوجّه إلى الله، وهو مظهر لإخلاء القلب من كلّ شيء عدا ذكر الله، ويمكن إستمداد التربية الكافية من هذه المناسك، إذا تجسّد لنا مشهد ذبح إسماعيل، ومعنويات الأب وإبنه إسماعيل أثناء عملية الذبح، وهذا المشهد يجعل معنويات الإنسان تسطع بأنوارها(1).

أمّا أثناء توجّهنا إلى رمي الجمرات (وهي ثلاثة أعمدة مبنية من الحجر يرميها الحجّاج أثناء تأديتهم لمراسم الحجّ، وفي كلّ مرّة يرمون سبعة أحجار عليها وفق مراسم خاصّة) فيتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: ماذا يعني رمي هذا المقدار من قطع الحجارة على عمود من الحجر لا روح فيه؟ وأي مشكلة سيحلّ هذا العمل؟

إلاّ أنّنا عندما نتذكّر أنّها تمثّل جهاد الموحّد إبراهيم ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرّات في الطريق، وهو مصمّم على أن يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر، وكلّما ظهر له رماه بالحجر، فإنّ محتوى هذه الشعيرة يتوضّح أكثر.

فمعنى هذه الشعيرة هو أنّكم طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد الأكبر ضدّ وساوس الشيطان، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم فلن تنتصروا أبداً.

وإن كنتم تنتظرون أن يشملكم الله بلطفه ورحمته، كما شمل إبراهيم بذلك

________________________________

1 ـ ممّا يؤسف له أنّ مراسم ذبح الأضاحي في عصرنا الحالي لا تتمّ بالشكل المطلوب، ولذا على علماء الإسلام أن يبذلوا الجهد لإنقاذ هذه المراسم العظيمة، وبهذا الشأن وبخصوص فلسفة الحجّ أوردنا بحوثاً مفصّلة في ذيل الآية (38) من سورة الحجّ.

[ 377 ]

وبعث إليه بالسلام وأبقى رسالته وذكراه خالدتين في العالمين، عليكم أن تسيروا على خطاه.

وفور ما نصل إلى الصفا والمروة ونشاهد أفواجاً أفواجاً من الناس تنساب من هذا التل الصغير إلى ذلك التل الأصغر، وتعود مرّة اُخرى من هنا إلى هناك، وتكرّر هذا العمل من دون أن تحصل على شيء، وأحياناً تهرول وأحياناً اُخرى تمشي، ومن الطبيعي أن يثير هذا العمل العجب، فماذا يفعل هؤلاء هنا، وما هي المفاهيم التي يحملها هذا العمل؟

إلاّ أنّنا لو رجعنا إلى الوراء، وإستذكرنا الجهود التي بذلتها تلك المرأة المؤمنة (هاجر) لإنقاذ حياة إبنها الرضيع (إسماعيل) في تلك الأرض القاحلة والحارقة، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى أعطاها ما تريد بعد جهدها وسعيها، عندما فجّر عين زمزم من تحت رجلي ولدها الرضيع، فجأة ترجع بنا عجلة الزمن إلى الوراء، ويكشف لنا عن الحجب، ونشاهد أنفسنا في تلك اللحظة واقفين قرب هاجر (عليها السلام)، فنشترك معها في السعي والجهد، لأنّ الذي لا يسعى ولا يبذل الجهد في سبيل الله، لا يصل إلى نتيجة.

وبسهولة نستطيع تلخيص ما قلناه، وهو أنّ الحجّ يجب أن يقترن بتعلّم هذه الرموز، وتتجسّد ذكريات إبراهيم وإبنه وزوجته خطوة خطوة، كي يدرك الحاجّ فلسفة الحجّ وتشعّ أنوار آثاره الأخلاقية العميقة في نفوس الحجيج، فبدون تلك المعاني والدروس يكون الحجّ مجرّد قشر ليس أكثر.

 

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=844
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29