• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العشرون) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الغاشية من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 145 ـ 167 ) .

سورة الغاشية من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 145 ـ 167 )

[145]

سُورَة الغَاشيَة

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا سِتَ وعشرونَ آية

[147]

«سورة الغَاشِية»

محتوى السّورة

تدور محتويات السّورة على ثلاثة محاور:

الأوّل: بحث «المعاد»، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب.

الثّاني: بحث «التوحيد»، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض، ونظر الإنسان إليها.

الثّالث: بحث «النبوّة»، مع عرض لبعض وظائف النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

وعموماً، فالسّورة تسير على منهج السور المكّية في تقوية اُسس الإيمان والإعتقاد.

فضيلة السّورة:

ورد في فضيلة هذه السّورة في الحديث النبوي الشريف: «مَن قرأها حاسبه اللّه حساباً يسيراً».(1)

وروي عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنّه قال: «مَن أدمن قراءة (هل أتاك حديث الغاشية) في فرائضه أو نوافله غشاه اللّه برحمته في الدنيا والآخرة، أو أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النّار».(2)

وبديهي أنّ الثواب المذكور لا يحصل إلاّ لمَن تلاها بتأمل وعمل.

* * *

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص477.

2 ـ المصدر السابق.

[148]

الآيات

هَلْ أَتَـكَ حَدِيثُ الْغَـشِيَةِ(1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ خَـشِعَةٌ(2)عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ(3) تَصلَى نَارَاً حَامِيَةً(4) تُسْقَى مِنْ عَيْن ءَانِيَة(5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيع(6) لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوع(7)

التّفسير

المتعبون.. الأخسرون!

تبتدأ السّورة بذكر اسم جديد ليوم القيامة: (هل أتاك حديث الغاشية).

«الغاشية»: من (الغشاوة)، وهي التغطية، وسمّيت القيامة بذلك لأنّ حوادثها الرهيبة ستغطي فجاءة كلّ شيء.

وقيل: بما أنّ الأوّلين والآخرين سيجمعون في ذلك اليوم، فالقيامة تغشاهم جميعاً.

وقيل أيضاً: يراد بها نار جهنم، لأنّها ستغطي وجوه الكافرين والمجرمين

[149]

ويبدو لنا التّفسير الأوّل أنسب من غيره.

وظاهر الآية: إنّها خطاب للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وما حوته من صيغة الإستفهام فلبيان عظمة وأهمية يوم القيامة.

ويبدو بعيداً ما احتمله البعض من كون خطاب الآية موجّه إلى كلّ إنسان.

وتصف الآيات التالية، حال المجرمين في يوم القيامة، فتقول أولاً: (وجوه يؤمئذ خاشعة).

لا شك أنّ الوضع النفسي والروحي، تنعكس آثاره على وجه صاحبه، لذا فسترى تلك الوجوه وقد علتها علائم الخسران والخشوع لما أصابها من ذلّ وخوف ووحشة وهم بانتظار ما سيحل بهم من عذاب مهين أليم.

وقيل: «الوجوه» هنا، بمعنى وجهاء القوم ورؤساء الكفر والطغيان، لما سيكون لهم من ذل وهوان وعذاب أشد من غيرهم.

ولكنّ المعنى الأوّل أنسب

وتصف حال تلك الوجوه ثانياً: (عاملة ناصبة).

فكلّ ما سعوا وكدوّا فيه في الحياة الدنيا سوف لا يجنون منه إلاّ التعب والنصب، وذلك: لأنّ أعمالهم غير مقبولة عند اللّه، وما جمعوه من أموال وثروات قد ذهبت لغيرهم، ولا يملكون من ذكر صالح يعقبهم في الدنيا ولا ولد صالح يدعو ويستغفر اللّه لهم، فما اصدق هذا القول بحقّهم: (عاملة ناصبة).

وقيل: المراد، إنّهم يعملون في الدنيا، ولهم التعب والألم في الآخرة.

وقيل أيضاً: إنّ المجرمين سيقومون بأعمال شاقّة داخل جهنم، زيادة في عذابهم.

ويبدو التّفسير الأوّل أصح من غيره.

وخاتمة مطاف تلك الوجوه التعبة الذليلة أنّ: (تصلى ناراً حامية).

«تصلى»: من (صلى) ـ على زنة نفى ـ وهو دخول النّار والبقاء فيها،

[150]

والإحتراق بها(1).

ولن يقف عذابهم عند هذا الحد، بل أنّهم وبسبب حرارة النيران يصيبهم العطش الشديد وحينئذ: (تسقى من عين آنية).

«آنية»: مؤنث آني من (الأني) ـ على زنة حلي ـ وهو التأخير، ويستعمل لما يقرب وقته، وجاء في الآية بمعنى: الماء الحارق الذي بلغ أقصى درجة حرارته وجاء في الآية (29) من سورة الكهف: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا)

وتحكي لنا الآية التالية عن طعام المجرمين: (ليس لهم طعام إلاّ من ضريع)

وقد تعددت الآراء في معنى «الضريع».

فقال بعض: نبت ذو شوك لاصق بالأرض، تسمّيه قريش (الشبرق) إذا كان رطباً، فإذا يبس فهو (الضريع)، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه، وهو سم قاتل.(2)

وقال الخليل (أحد علماء اللغة): الضريع نبات أخضر منتن الريح، يرمي به البحر.

وعن ابن عباس: هو شجر من نار، ولو كانت في الدنيا لأحرقت الأرض وما عليها.

وجاء في الحديث النبوي الشريف: «الضريع شيء يكون في النّار يشبه الشوك، أشدّ مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النّار، سمّاه اللّه ضريعاً».

وقال بعض آخر: هو طعام يضرعون عنده ويذلون، ويتضرعون منه إلى اللّه

_______________________________________

1 ـ صلي بالنّار، لزمها واحترق بها.

2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7119.

[151]

تعالى طلباً للخلاص منه.(1)

(ويُذكر أن (الضرع) بمعنى الضعف والذلة والخضوع).(2)

ولا تعارض بين هذه التفاسير، ويمكن قبولها كلها في تفسير الآية المذكورة.

وتصف لنا الآية التالية ذلك الطعام: (لا يُسمن ولا يُغني من جوع).

فهو ليس لسد جوع أو تقوية بدن، وإنّما هو طعام يغص به، ايغالاً في العذاب، كما ورد هذا المعنى في الآية (13) من وسورة المزمل: (وطعاماً ذا غصّة وعذاباً أليماً).

فالذين شرهوا في تناول ألذ المأكولات في دنياهم، على حساب ظلم النّاس والتجاوز على حقوقهم، ومنعوا لقمة العيش عن كثير من المحرومين، فليس في طعام آخرتهم سوى العذاب الأليم.

ونعود لنكرر القول: إنّ ما نصفه ونتصوره عن نعيم الجنّة وعذاب جهنم،  لا  يتعدى عن كونه مجرد إشارات وأشباح نراها من بعيد ونحن نعيش في سجن الدنيا المحدود، وإلاّ فحقيقة ما سينعم به أهل الجنّة وما يعانيه أهل النّار فمما  لا يمكن لأحد وصفه!.

* * *

_______________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7120.

2 ـ بحثنا موضوع طعام أهل النّار، الذي يسميه القرآن تارة بـ «الضريع» واُخرى بـ «الزقوم» وثالثة بـ «غسلين»، وما بينها من تفاوت.. في ذيل الآية (36) من سورة الحاقة.

[152]

الآيات

وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاعِمَةٌ(8) لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9) فِى جَنَّة عَالِيَة(10) لاّ تَسْمَعُ فِيَها لَـغِيَةً(11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ(12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ(13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ(14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ(15) وَزَرَابِىٌّ مَبْثُوثَةٌ(16)

التّفسير

صورٌ من نعيم الجنّة:

بعد ذكر ما سيتعرض له أهل النّار، تنتقل عدسة السّورة لتنقل لنا مشاهداً رائعة لنعيم أهل الجنّة.. ليتوضح لنا الفرق ما بين القهر الإلهي والرحمة الإلهية، وما بين الوعيد والبشارة.

فتقول الآية الاُولى: (وجوهٌ يومئذ ناعمة)، على عكس وجوه المذنبين المكسوة بعلائم الذلة والخوف.

«ناعمة»: من (النعمة)، وتشير هنا إلى الوجوه الغارقة في نعمة اللّه، وجوه طرية، مسرورة ونورانية، كما أشارت لهذا الآية (24) من سورة المطففين: (تعرف

[153]

في وجوههم نضرة النعيم).

وترى الوجوه: (لسعيها راضية).

على عكس أهل جهنّم، فوجوههم «عاملة ناصبة»، أمّا أهل الجنّة، فقد حان وقت حصادهم لما زرعوا في دنياهم، وحصلوا عى أحسن ما يتمنون، فتراهم في غاية الرضى والسرور.

وما زرعوا سيتضاعف ناتجه بإذن اللّه ولطفه أضعافاً مضاعفة، فتارة عشرة أضعاف، واُخرى سبعمائة ضعف، وثالثة يجازون على ما عملوا بغير حساب، كما أشارت الآية (10) من سورة الزمر إلى ذلك بقولها: (إنّما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب)

ويدخل البيان القرآني في التفصيل أكثر: (في جنّة عالية).

«عالية»: قيل بإرادة المكان (في طبقات الجنّة العليا)، وقيل اُريد بها المقام الرفيع، ومع أنّ التّفسير الثّاني أرجح، إلاّ أنّه لا مانع من الجمع بينهما:

وكذا.. : (لا تسمع فيها لاغية).(1)

فليس هناك ثمّة: جدال، كلام نفاق، عداوة، حقد، حسد، كذب، تهمة، إفتراء، غيبة ولا أيّ إيذاء، بل ولا حتى الكلام الفارغ.

فهل يوجد مكان أهدأ وأجمل من ذلك؟!

ولو تأملنا حقيقة مشاكلنا فيما بيننا، لرأينا أنّ الغالب منها ما كان ناشئاً عن سماع هكذا أحاديث، والتي تؤدي إلى عدم الإستقرار النفسي، وإلى تهديم أركان الترابط الإجتماعي فينهار النظام وتشتعل نيران الفتن لتأكل الأخضر واليابس معاً.

وبعد ذكر القرآن لما يتمتع به أهل الجنّة من نعمة روحية، يبيّن بعض النعم المادية في الجنّة: (فيها عين جارية).

_______________________________________

1 ـ «لاغية»: بالرغم من كونها اسم فاعل، ولكنّها تأتي بما يرادف (اللغو)، أي (ذات لغو).

[154]

ظاهر كلمة «عين» في الآية، إنّها عين واحدة بدليل مجيئها نكرة، إلاّ أنّه بالرجوع إلى بقية الآيات في القرآن الكريم، يتبيّن لنا إنّها للجنس، فهي والحال هذه تشمل عيوناً مختلفة، ومن قرائن ذلك ما جاء في الآية (15) من سورة الذاريات: (إنّ المتقين في جنات وعيون).

وقيل: في كلّ قصر من قصور أهل الجنّة، ثمّة «عين جارية»، وهو المراد في الآية، ومن ميزة تلك الأنهار أنّها تجري حسب رغبة أهل الجنّة، فلا داعي معها لشقّ أرض أو وضع سد.

وينهل أهل الجنّة أشربة طاهرة ومتنوعة، فتلك العيون وعلى ما لها من رونق وروعة، فلكلّ منها شراب معين له مواصفاته الخاصّة به.

وينتقل الوصف إلى أسرة الجنّة: (فيها سرر مرفوعة).

«سرر»: جمع (سرير)، وهو من (السرور)، بمعنى المقاعد التي يجلس عليها في مجالس الاُنس والسرور(1).

وجعلت تلك الأسرة من الإرتفاع بحيث يتمكن أهل الجنّة من رؤية كلّ ما يحيط بها والتمتع بذلك.

يقول ابن عباس: إذا أراد أن يجلس عليها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثمّ ترتفع إلى موضعها.(2)

ويحتمل أيضاً: وصفت بالمرفوعة إشارة إلى رفعتها وعلو شأنها.

وقيل: إنّها من الذهب المزين والمرصع بالزبرجد والدرّ والياقوت.

ولا مانع من الجمع بين ما ذكر.

ولمّا كان شرب الشراب يستلزم ما يشرب به، فقد قالت الآية التالية: (وأكواب موضوعة).

_______________________________________

1 ـ مفردات الراغب، مادة (سرّ).

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص479.

[155]

ومتى ما أرادوا الشرب ارتفعت تلك الأكواب لتصل بين أيديهم وقد ملئت من شراب تلك العيون، فيستلذون بما لا وصف له عند أهل الدنيا.

«أكواب»: جمع (كوب)، وهو القدح، أو الظرف الذي له عروة.

وبالاضافة إلى ذكر الـ «أكواب» فقد ذكر القرآن الكريم تعابير اُخرى لها، مثل: «أباريق» جمع (ابريق) وهو ظرف معروف، و«كأس» بمعنى القدح المملوء بالشراب، كما جاء في الآيتين (17) و(18) من سورة الواقعة: (يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين)

ويستمر الحديث عن جزئيات نعيم الجنّة: (ونمارق مصفوفة).

«نمارق»: جمع (نمرقة)، وهي الوسادة الصغيرة التي يتكأ عليها.

«مصفوفة»: إشارة إلى تعددها بنظم خاص، ليظهر أنّ لأهل الجنّة جلسات اُنس جماعية، التي لا يتخللها أي لغو وباطل، ويدور الحديث فيها حول الألطاف الإلهية ونعمة الخالدة، وعن الفوز الحقيقي الذي أبعدهم عن عذاب الآخرة، وكيف أنّهم قد نجوا وخلصوا من الآم وأتعاب الدنيا.

ثمّ تكون الإشارة إلى فرش الجنّة الفاخرة: (وزرابيّ مبثوثة).

«زرابية»: جمع (زرب) أو (زربيّة)، وهي الفرش والبسط الفاخرة ذات المتكأ.

ذكرت الآيات المبحوثة سبع نعم رائعة من نعم الجنّة، وكلّ منها أكثر روعة من الاُخرى.

والخلاصة: فمنزل الجنّة لا مثيل له من كلّ الجهات، فهو الخالي من أي ألم أو عذاب أو حرب أو جدال.. وتجد فيه كلّ ألوان الثمار والأنعام والعيون الجارية والأشربة الطاهرة والولدان المخلدين والحور العين والأسرة المرصعة والفرش الفاخرة وأقداح جميلة في متناول اليد وجلساء أصفياء، إلى غير ذلك ممّا لا يمكن عدّه بلسان أو وصفه بقلم ولا حتى تخيله إذا ما سرحت المخيّلة في عالمها

[156]

الرحب!..

وكلّ ما ذكر وغيره سيكون في انتظار من آمن وعمل صالحاً، بعد حصوله على إذن الدخول إلى تلك الدار العالية.

وفوق هذا وذاك فثمّة «لقاء اللّه»، الذي ليس من فوز يوازيه.

* * *

[157]

الآيات

أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيفَ خُلِقَتْ(17) وإِلَى السَّمِآءِ كَيفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الجِبَالِ كَيفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الأَرْضِ كَيفَ سُطِحَتْ(20) فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَّستَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر(22)إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إنَّ إِلَينَآ إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم(26)

التّفسير

الابل.. من آيات خلق اللّه:

بعد أن تحدثت الآيات السابقة بتفصيل عن الجنّة ونعيمها، تأتي هذه الآيات التوضح معالم الطريق الموصل إلى الجنّة ونعيمها.

فمفتاح المعرفة «معرفة اللّه»، ووصولاً لهذا المفتاح تذكر الآيات أربعة نماذج لمظاهر القدرة الإلهية وبديع الخلقة، داعية الإنسان للتأمل، عسى أن يصل إلى ما ينبغي له أن يصل إليه.

وتشير أيضاً إلى أنّ قدرة اللّه المطلقة هي مفتاح درك المعاد..

[158]

فتقول الآية الاُولى: (أفلا ينظرون إلَى الإبل كيف خلقت).

ولكن، لِم اختص ذكر «الإبل» قبل غيره؟

للمفسّرين حديث طويل في ذلك، لكنّ الواضح إنّ الآيات في أوّل نزولها كانت تخاطب أهل مكّة قبل غيرهم، والإبل أهم شيء في حياة أهل مكّة في ذلك الزمان، فهي معهم ليل نهار وتنجز لهم ضروب الأعمال وتدر عليهم الفوائد الكثيرة.

أضف إلى ذلك أنّ لهذا الحيوان خصائص عجيبة قد تفرّد بها عن بقية الحيوانات، ويعتبر بحق آية من آيات خلق اللّه الباهرة.

ومن خصائص الإبل:

1 ـ لو نظرنا إلى موارد الإستفادة من الحيوانات الأليفة، فسنرى أنّ قسماً منها لا يستفاد إلاّ من لحومها، والقسم الآخر يستفاد من ألبانها على الأغلب، وقسم لا يستفاد منه إلاّ في الركوب، وقسم قد تخصص في حمل ونقل الأثقال، ولكنّ الإبل تقدم كلّ هذه الخدمات (اللحم، اللبن، الركوب والحمل).

2 ـ قدرة حمل وتحمل الإبل أكثر بكثير من بقية الحيوانات الأهلية، حتى أنّها لتبرك على الأرض فتوضع الأثقال عليها ثمّ تنهض بها، وهذا ما لا تستطيع فعله بقية الحيوانات الأهلية.

3 ـ تتحمل العطش لأيّام متتالية (بين السبعة إلى عشرة أيّام)، وقابليتها على تحمل الجوع مذهلة.

4 ـ يطلق عليها اسم (سفينة الصحراء)، لما لها من قابلية فائقة على طي مسافات طويلة في اليوم الواحد، رغم الظروف الصحراوية الصعبة، فلا يعرقل حركتها صعوبة الأرض أو كثرة المنخفضات الرملية، وهذا ما لا نجده في أي حيوان أخر وبهذه المواصفات.

5 ـ مع إنّها تتغذى على أي شوك وأيّ نبات، فهي تشبع بالقليل أيضاً.

[159]

6 ـ لعينها واُذنها وأنفها قدرة كبيرة على مقاومة الظروف الجوية الصعبة في الصحراء، وحتى العواصف الرملية لا تقف حائلاً أمام مسيرها.

7 ـ والإبل مطيعة وسهلة الإنقياد، لدرجة أنّ بإمكان طفل صغير أن يأخذ بزمام مجموعة كبيرة من الإبل وتتحرك معه حيث يريد.

والخلاصة: إنّ ما يتمتع به هذا الحيوان من خصائص تدفع الإنسان لأن يلتفت إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى.

وها هو القرآن ينادي بكلّ وضوح: يا أيّها الضالون في وادي الغفلة ألاّ تتفكرون في كيفية خلق الإبل، لتعرفوا الحق وتخرجوا من ضلالكم؟!

ولابدّ من التذكير، بأنّ «النظر» الوارد في الآية، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة.

وينتقل بنا البيان القرآني في الإبل إلى السماء: (وإلى السماء كيف رفعت).

السماء التي حيّرت العقول بعظمتها وعجائبها وما فيها من نجوم وما لها من بهاء وروعة.. السماء التي يتصاغر وجود الإنسان أمامها ليعد لا شيء بالنسبة لها.. السماء التي لها من دقّة التنظيم والحساب الدقيق ما بهر فيها عقول العلماء المتخصصين.

ألا ينبغي للإنسان أن يتفكر في أمر مدبر هذا الخلق، وما الأهداف المرجوة من خلقه؟!

فكيف أصبحت تلك الكواكب في مساراتها المحدودة؟ وما هو سرّ استقرارها في أماكنها وبكلّ هذه الدقّة؟ ولِمَ لَم يتغيّر محور حركتها بالرغم من مرور ملايين السنين عليها؟!!!

ومع تطور الإكتشافات العلميّة الحديثة، نرى أنّ عالم السماء وما يحويه يزداد عظمة وجلالاً بدرجات ملموسة نسبة إلى ما كان عليه قبلاً...

مع كلّ هذا وذاك، ألا يكون أمر خلق السماء مدعاة للتأمل والتفكير،

[160]

والخضوع والتسليم لربوبية الخالق الواحد الأحد؟!

وينقلنا إلى الجبال: (وإلى الجبال كيف نصبت).

الجبال التي تشمخ بتعمق جذورها في باطن الأرض، وتحيط بالأرض على شكل حلقات وسلاسل لتقلل من شدّة الزلازل الناشئة من ذوبان المواد المعدنية في باطن الأرض، وكذا ما لها من دور في حفظ الارض من عملية المدّ والجزر الناشئة من تأثيرات الشمس والقمر.. الجبال التي لولا وجودها بهذه الهيئة لما توفرت ظروف عيش الإنسان على سطح الأرض، لما تمثله من سد منيع أمام قوّة أثر العواصف.. وأخيراً، الجبال التي تحفظ الماء في داخلها لتخرجه لنا على صورة عيون فياضة نعم الأرض ليخضر بساطها بأنواع المزارع والغابات.

ولعل ذلك كلّه كان وراء وصفها «أوتاداً» في القرآن الكريم.

فهي عموماً.. مظهر الاُبهة والصلابة والشموخ، وهي مصدر خير وبركة معطاة، ولعل ذلك من علل تفتح ذهنية الإنسان عندها، كما وليس من العبث أن يتّخذ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) جبل النور وغار حراء محلاً لعبادته قبل البعثة المباركة.

«نصبت»: من (النصب)، وهو التثبيت، وربّما رمز هذا التعبير إلى بداية خلق الجبال أيضاً.

فقد توصل العلم الحديث إلى أنّ تكّون الجبال يعتمد على عوامل عديدة وقسمها إلى عدّة أنواع:

فمنها: ما تكون نتيجة للتراكمات الحالصلة على الأرض.

ومنها: ما تكون من الحمم البركانية.

ومنها: ما تكون نتيجة لتفتت الأرض بواسطة الأمطار.

وكذا منها: ما تكون نتيجة للترسبات الحاصلة في أعماق البحار ومن بقايا الحيوانات (كالجبال والجزر والمرجانية).

نعم، فالجبال وبكلّ ما فيها ولها تعدّ آية من آيات القدرة الإلهية، لمن رآها

[161]

بعين بصيرة ولبٍّ شغول.

ثمّ إلى الأرض: (وإلى الأرض كيف سطحت).

فلينظر الإنسان إلى كيفية هطول الأمطار على الجبال لتسيل من بعدها محملة الأتربة كي تتكون بها السهول الصافية، لتكون صالحة للزراعة من جهة ومهيئة لما يعمل بها الإنسان من جهة اُخرى.. ولو كانت كلّ الأرض عبارة عن جبال ووديان، فما أصعب الحياة على سطحها والحال هذه!

ولابدّ لنا من التأمل والتفكير في مَن جعلها تكون على هذه الهيئة الملائمة تماماً لحياة الإنسان؟..

ولكن، ما علاقة الربط بين الإبل والسماء والجبال والأرض، حتى تذكرها الآيات بهذا التوالي؟

يقول الفخر الرازي في ذلك: إنّ القرآن نزل على لغة العرب، وكانوا يسافرون كثيراً لأنّ بلدتهم بلدة خالية من الزراعية، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإيل، فكانوا كثيراً ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين، منفردين عن النّاس، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء، لأنه ليس معه مَن يحادثه، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره، وإذا كان كذلك لم يكن له بدّ من أن يشغل باله بالفكرة، فإذا فكر في ذلك وقع بصره أوّل الأمر على الجمل الذي ركبه، فيرى منظراً عجيباً، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض، فكأنّه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والإنفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر، ثمّ إنّّه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئاً سوى هذه الأشياء، فلا جرم جمع اللّه بينها في هذه الآية(1).

_______________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج31، ص158.

[162]

وإذا ما ابتعدنا المحيط العربي القديم وماكان فيه، وتوسعنا في مجال تأملنا ليشمل كلّ محيط البشرية، لتوصلنا إلى أنّ هذه الإشياء الأربع تدخل في حياة الإنسان بشكلً رئيسي، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات وما يتغذى به، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانهاالمتنوعة، وما الإبل إلاّ نموذج شاخص متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدّم مختلف الخدمات للإنسان.

وعليه، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كلّ مستلزمات «الزراعة» و«الصناعة» و«الثروة الحيوانية»، وحريّ بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى، وبلا شك فإنّ شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر.

وبعد هذا البحث التوحيدي، يتوجه القرآن الكريم لمخاطبة النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): (فذكّر إنّما أنت مذكر).. (لست عليهم بمصيطر).

نعم، فخلق السماء والأرض والجبال والحيوانات ينطق بعدم عبثية هذا الوجود، وأنّ خلق الإنسان إنّما هو لهدف...

فذكّرهم بهدفية الخلق، وبيّن لهم طريق السلوك الربّاني، وكن رائدهم وقدوتهم في مسيرة التكامل البشري.

وليس باستطاعتك إجبارهم، وإن حصل ذلك فلا فائدة منه، لأنّ شوط الكمال إنّما يقطع بالإرادة والإختيار، وليس ثمّة من معنى للتكامل الإجباري.

وقيل: إنّ هذا الأمر الإلهي نزل قبل تشريع «الجهاد»، ثمّ نسخ به!

وما أعظم هذا الإشتباه!!

فرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مارس عملية التذكير والتبليغ منذ الوهلة الاُولى للبعثة الشريفة واستمر على هذا النهج حتى آخر لحظة من حياته الشريفة المباركة، ولم

[163]

تتوقف العملية عن الممارسة من بعده، حيث قام بهذه المهمّة الأئمّة(عليهم السلام) والعلماء من بعدهم، حتى وصلت ليومنا وسوف لن تتوقف بإذن اللّه تعالى، فأيّ نسخ هذا الذي يتكلمون عنه!

ثمّ إنّ عدم إجبار النّاس على الإيمان يعتبر من ثوابت الشريعة الإسلامية السمحاء، أمّا هدف الجهاد فيتعلق بمحاربة الطغاة الذين يقفون حجر عثرة في طريق دعاة الحقّ وطالبيه.

وثمّة آيات اُخرى في القرآن قد جاءت في هذا السياق، كالآية (80) من سورة النساء: (ومَن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً)، وكذا الآية (107) من سورة الأنعام، والآية (48) من سورة الشورى ـ فراجع

«مصيطر»: من (السطر)، وهو المعروف في الكتب، و(المسيطر): الذي ينظم السطور، ثمّ استعمل لكلّ مَن له سلطة على شيء، أو يجبر أحداً على عمل ما.

وفي الآيتين التاليتين.. يأتي الإستثناء ونتيجته: (إلاّ مَن تولى وكفر).. (فيعذبه اللّه العذاب الأكبر).

ولكن، إلى أية جملة يعود الإستثناء؟

ثمّة تفاسير مختلفة في ذلك:

الأوّل:إنّه استثناء لمفعول الجملة «فذكّر»، أي: لا ضرورة لتذكير المعاندين الذين رفضوا الحق جملة وتفصيلا، كما جاء في الآية (83) من سورة الزخرف: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون).

الثّاني: إنّه استثناء لجملة محذوفة، والتقدير: فذكّر إنّ الذكرى تنفع الجميع إلاّ من تولى وكفر، كما جاء في الآية (9) من سورة الأعلى: (فذكّر إن نفعت الذكرى)، (على أن يكون لها معناً شرطياً).

الثّالث: إنّه استثناء من الضمير «عليهم» في الآية السابقة، أي: (إنّك لست

[164]

عليهم بمصيطر إلاّ مَن تولّى وكفر فأنت مأمور بمواجهاه).(1)

كلُّ ما ذُكِر من تفاسير مبنيٌّ على أنّ الإستثناء متصل، ولكن ثمّة من يقول بأنّ الإستثناء منقطع، فيكون معناه بما يقارب معنى (بل)، فيصبح معنى الجملة: (بل مَن تولّى وكفر فإنّ اللّه متسلط عليهم) أو (إنّه سيعاقبهم بالعذاب الأكبر).

ومن بين هذه التفاسير، ثمّة تفسيران مناسبان.

الأوّل: القائل بالإستثناء المتصل لجملة (لست عليهم بمصيطر) فيكون إشارة لاستعمال القوّة في مواجهة مَن تولى وكفر.

الثّاني: القائل بالإستثناء المنفصل، أيّ، سينالهم العذاب الأليم، الذي ينتظر المعاندين والكافرين.

ويراد بـ (العذاب الأكبر) «عذاب الآخرة» الذي يقابل عذاب الدنيا الصغير نسبة لحجم وسعة عذاب الآخرة، بقرينة الآية (26) من سورة الزمر: (فأذاقهم اللّه الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر).

وكذلك يحتمل إرادة نوع شديد من عذاب الآخرة، لأنّ عذاب جهنم ليس بمتساو للجميع.

وبحدّية قاطعة، تقول آخر آيتين في السّورة: (إنّ إلينا إيابهم).. (ثمّ إنّ علينا حسابهم).

والآيتان تتضمّنان التسلية لقلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواجهته لأساليب المعاندين، لكي لا يبتئس من أفعالهم، ويستمر في دعوته.

وهما أيضاً، تهديد عنيف لكلّ مَن تسول له نفسه فيقف في صف الكافرين والمعاندين، فيخبرهم بأنّ حسابهم سيكون بيد جبار شديد!

بدأت سورة الغاشية بموضوع القيامة وختمت به أيضاً، كما تمّت الإشارة فيما

_______________________________________

1 ـ ونستفيد من حديث شريف ورد في (الدرّ المنثور).. أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مأموراً بمحاربة عبدة الأصنام، وفي غير ذلك فهو مأمور بالتذكير.

[165]

بين البدء والختام إلى بحث التوحيد والنّبوة، وهما دعامتا المعاد.

كما وتضمّنت السّورة عرضاً لبعض ما سيصيب المجرمين من عقاب، وعرضت في قبال ذلك ما سينعم به المؤمنون في جنّات النعيم الخالدة.

كما وأكّدت السّورة على حرية الإنسان في اختيار الطريق الذي يسلكه، وذكّرت بعودة الجميع إلى مولاهم الحق، وهو الذي سيحاسبهم على كلّ ما فعلوا في دنياهم

كما وبيّنت السّورة أن مهمّة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) هي إبلاغ الرسالة، وأنّه غير مسؤول عن كفر وانحراف النّاس وذنوبهم، وهذه هي مهمّة مبلغي طريق الحقّ.

اللّهم، ارحمنا يوم تعود الخلائق إليك ويكون حسابهم عليك..

اللّهم، نجّنا برحمتك الكبرى من عذابك الأكبر..

اللّهم، إنّ مواهب أهل الجنّة التي اوردت هذه السّورة قسماً منها عظيمة ومذهلة. فإن كنّا لا نستحقها بأعمالنا فتفضل علينا بها بلطفك ورحمتك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الغاشية

* * *


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=915
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28