• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم / المكتبة .
              • الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العشرون) ، تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي .
                    • الموضوع : سورة الضحى من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 269 ـ 288 ) .

سورة الضحى من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 269 ـ 288 )

[269]

سُورَة الضُّحى

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا إحدى عَشرة آية

[271]

«سورة الضّحى»

محتوى السّورة

هذه السّورة نزلت في مكّة، وحسب بعض الرّوايات أنّها نزلت حين كان الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) متألماً بسبب تأخر نزول الوحي، وتقوّل الأعداء نتيجة هذا الإنقطاع المؤقت، نزلت السّورة كغيث على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمدته بطاقة جديدة، وقطعت ألسن الأعداء.

هذه السّورة تبدأ بقَسَمَين، ثمّ تبشر النّبي بأن اللّه لا يتركه أبداً.

ثمّ تبشّره بعطاء ربّاني تجعله راضياً

ثمّ تعرض له صوراً من حياته السابقة تتجسّد فيها الرحمة الإلهية التي كانت تشمله دائماً وتحميه وتسنده في أشدّ اللحظات.

وفي نهاية السّورة تتكرر الأوامر الإلهية برعاية اليتيم والسائل، وباظهار النعم الإلهية (شكراً لهذه النعم).

فضيلة السّورة:

ويكفي في فضيلة هذه السّورة ما وري عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من قرأها كان ممن يرضاه اللّه، ولمحمّد أن يشفع له، وله عشر حسنات بعدد كلّ يتيم وسائل»(1).

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص503.

[272]

وفضيلة التلاوة هذه هي طبعاً من نصيب من يقرأ ويعمل بما يقرأ.

جدير بالذكر أنّ الرّوايات تذكر هذه السّورة والسّورة التي تليها: (ألم نشرح لك صدرك) على أنّها سورة واحدة، ولذلك لابدّ من قرائتهما معاً بعد سورة الحمد في الصلاة (لوجوب قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الصلاة حسب مذهب أهل البيت(عليهم السلام))، ونظير ذلك في سورتي «الفيل» و«لإيلاف».

ولو أمعنا النظر في سورتي الضحى والإنشراح لألفينا ارتباط موضوعاتهما ارتباطاً وثيقاً يحتّم أن تكون الثّانية استمراراً للاُولى وإنّ فصلت بينهما البسملة.

علماء الفقه (في مدرسة أهل البيت) يجمعون على عدم كفاية واحدة من السّورتين بعد الحمد في الصلاة، ولهم بحوث في كتب الفقه بشأن وحدتهما وتلاوتهما.

* * *

[273]

الآيات

وَالضُّحَى(1) وَالَّيْلِ اِذَا سَجَى(2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى(3) وَلَلاَْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى(4) وَلَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى(5)

سبب النّزول

روي عن ابن عباس قال: احتبس الوحي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة عشر يوماً، فقال المشركون إنّ محمّداً قد ودعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من اللّه تعالى لتتابع عليه، فنزلت السّورة

وروي أنّه لمّا نزلت السّورة قال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لجبرائيل(عليه السلام): «ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرائيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً ولكنّي عبد مأمور وما نتنزل إلاّ بأمر ربّك»0

وقيل: سألت اليهود رسول اللّه عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح، فقال: سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء اللّه، فاحتبس عنه الوحي هذه الأيّام، فاغتم لشماتة الأعداء فنزلت السّورة تسلية لقلبه، (ونستبعد هذه الرّواية لأنّ اتصال اليهود بالنّبي وطرحهم الأسئلة عليه كان في المدينة لا في مكّة عادة).

[274]

وقيل: إنّ المسلمين قالوا ما ينزل عليك الوحي يا رسول اللّه. فقال: وكيف ينزل عليَّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم (هي عقد الأصابع يجتمع فيها الوسخ) ولا تقلمون أظفاركم)(1).

واختلفت الرّوايات في مدّة انقطاع الوحي، قيل اثنا عشر يوماً، وقيل خمسة عشر، وقيل تسعة عشر، وقيل خمسة وعشرون، وقيل أيضاً أربعون.

وفي رواية إنّها ليلتان أو ثلاث.

* * *

التّفسير

يعطيك فترضى:

في بداية السّورة المباركة قسمان: الأوّل بالنّور، والثّاني بالظلمة، ويقول سبحانه:

(والضحى) وهو قسم بالنهار ـ حين تغمر شمسه كلّ مكان.

(والليل إذا سجى) أي إذا عمّت سكينته كلّ مكان.

«الضحى» يعني أوائل النهار، أي حين يرتفع قرص الشمس في كبد السماء، ويعم نورها الأرض، وهو في الحقيقة أفضل ساعات النهار، لأنّه ـ على حدّ تعبير بعضهم ـ شباب النهار، وفيه لا يكون الجوّ حاراً في فصل الصيف، ويكون الدفء قد عمّ في فصل الشتاء وتصبح خلاله روح الإنسان مستعدة لممارسة النشاط.

«سجى» من السَّجوِ أو السُّجو، أي سكن وهدأ، وتأتي الكلمة أيضاً بمعنى غطّى، وأقبل ظلامه. والميت الملفوف بالكفن «مسجّى»، وفي الآية بمعنى سكن وهدأ، والليلة الخالية من الرياح تسمى «ليلة ساجية» أي هادئة، والبحر حين

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص504.

[275]

يستقر ويخلو من الأمواج الصاخبة يسمى «بحر ساج».

والمهم في الليل ـ على أي حال ـ هدوؤه وسكينته ممّا يضفي على روح الإنسان واعصابه هدوءً وارتياحاً، ويُعدّه لممارسة نشاط يوم غد، وهو لذلك نعمة مهمّة استحقت القسم بها.

بين القَسَمين ومحتوى السّورة تشابه كبير وارتباط وثيق. النهار مثل نزول نور الوحي على قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والليل كانقطاع الوحي المؤقت، وهو أيضاً ضروري في بعض المقاطع الزمنية.

وبعد القَسَمين، يأتي جواب القسم، فيقول سبحانه: (ما ودعك ربّك وما قلى).

«قلى» من «قلا» ـ على وزن صدا ـ، وهو شدّة البغض، ومن القَلَو أيضاً بمعنى الرّمي. وكلا المعنيين يعودان إلى أصل واحد ـ في رأي الراغب الأصفهاني ـ فكأن المقلّو هو الذي يقذفه القلب من بُغضه فلا يَقبَلُه.

على أي حال، في هذا التعبير سَكنٌ لقلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتسلّ له، ليعلم أن التأخير في نزول الوحي إنّما يحدث لمصلحة يعلمها الله تعالى، وليست ـ كما يقول الأعداء ـ لترك الله نبيّه أو لسخطه عليه. فهو مشمول دائماً بلطف الله وعنايته الخاصّة، وهو دائماً في كنف حماية الله سبحانه.

(وللآخرة خير لك من الأولى).

أنت في هذه الدنيا مشمول بالطاف الله تعالى، وفي الآخرة أكثر وأفضل. أنت آمن من غضب الله في الأمد القريب والبعيد. وباختصار أنت عزيز في الدنيا والآخرة... في الدنيا عزيز وفي الآخرة أعزّ...

قيل إن «الآخرة» و«الأولى» يشيران إلى بداية عمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونهايته، أي إنّك ستستقبل في عمرك نصراً ونجاحاً أكثر ممّا استدبرت. وفي ذلك إشارة إلى اتساع رقعة انتشار الإِسلام وانتصارات المسلمين المتلاحقة على الأعداء،

[276]

وفتوحهم في الغزوات، ونمّو دوحة التوحيد، واندثار آثار الشرك وعبادة الأوثان.

ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتأتي البشرى للنبي الكريم لتقول له:

(ولسوف يعطيك ربّك فترضى)، وهذا أعظم أكرام وأسمى احترام من ربّ العالمين لعبده المصطفى محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم). فالعطاء الرّباني سيغدق عليه حتى يرضى... حتى ينتصر على الأعداء ويعّم نور الإِسلام الخافقين، كما أنّه سيكون في الآخرة أيضاً مشمولا بأعظم الهبات الإِلهية.

النّبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره خاتم الأنبياء، وقائد البشرية، لا يمكن أن يتحقق رضاه في نجاته فحسب، بل إنّه سيكون راضياً حين تُقبل منه شفاعته في أُمته. ومن هنا جاءت الرّوايات لتؤكد أن هذه الآية أكثر آيات القرآن الكريم دلالة على قبول الشفاعة منه عليه أفضل الصلاة والسلام.

وفي حديث رواه محمّد بن علي(عليهما السلام) عن عمّه محمّد الحنفية عن أبيه  أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال: أنّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «أشفع لاُمّتي حتّى يناديني ربّي: أرضيت يا محمّد؟ فأقول: نعم يا ربّ رضيت»

ثمّ إنّ أمير المؤمنين التفت إلى جماعة وقال:

«يا أهل العراق تزعمون أن أرجى آية في كتاب الله عزَّوجلّ:( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم...) الآية، وإنّا أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله:( ولسوف يعطيك ربّك فترضى) وهي والله الشفاعة ليعطيها في أهل لا إله إلاّ الله حتى تقول: ربّ رضيت».(1)

وعن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: دخل رسول اللّه على فاطمة(عليها السلام) وعليها كساء من خلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها فدمعت عينا رسول اللّه لما

_______________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص595، الحديث رقم 12، في الأصل تفسير أبوالفتوح الرازي، ج12، ص110.

[277]

أبصرها فقال: «يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة فقد أنزل اللّه عليَّ ولسوف يعطيك ربّك فترضى».(1)

* * *

بحث

فلسفة انقطاع الوحي:

يتبيّن من الآيات الكريمة في هذه السّورة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يملك لنفسه شيئاً إلاّ من عند الله... لم يكن له اختيار حتى في نزول الوحي. متى ما شاء اللّه ينزل الوحي ومتى ما شاء ينقطع، ولعل انقطاع الوحي كان ردّاً على اُولئك الذين كانوا يطالبون النبيّ بمعاجز مقترحة وفق أذواقهم، أو كانوا يقترحون عليه تغيير بعض الأحكام والنصوص، وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لهم: (قل ما يكون لي أن اُبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلاّ ما يوحى اليّ...)(2).

* * *

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص765.

2 ـ يونس، الآية 15.

[278]

الآيات

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَاً فَأَوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى(7)وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ(9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ(10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)

التّفسير

الشكر على كلّ هذه النعم الإلهية:

ذكرنا أنّ هدف هذه السّورة المباركة تسلية قلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان الطاف اللّه التي شملته، وهذه الآيات المذكورة أعلاه تجسد للنّبي ثلاث هبات من الهبات الخاصّة التي أنعم اللّه بها على النّبي، ثمّ تأمره بثلاثة أوامر.

(ألم يجدك يتيماً فآوى).

فقد كنت يا محمّد في رحم اُمّك حين توفي والدك فآويتك إلى كنف جدّك عبد المطلب (سيد مكّة).

وكنت في السادسة حين توفيت والدتك، فزاد يتمك، لكنني زدت حبّك في قلب «عبد المطلب».

وكنت في الثامنة حين رحل جدّك «عبدالمطلب»، فسخرت لك عمّك «أبا

[279]

طالب»، وليحافظ عليك كما يحافظ على روحه.

نعم، كنت يتيماً فآويتك.

وقيلت في معنى هذه الآية آراء آُخرى تبتعد عن ظاهرها. كقولهم إنّ اليتيم هو الفريد في فضائله وخصائله الحميدة، فتقول مثلاً للجوهرة الفريدة «درّة يتيمة»... ويكون المعنى حينئذ أنّ اللّه وجدك في فضائلك فريداً ليس لك نظير، ولذلك اختارك للنبوّة.

وكقولهم: إنّك كنت يوماً يتيماً، وأصبحت ملاذاً للأيتام وقائداً للبشرية.

المعنى الأوّل دون شك أنسب وبظاهر الآية الصق.

ثمّ يأتي ذكر النعمة الثّانية:

(ووجدك ضالاً فهدى).

نعم، لم تكن أيّها النّبي على علم بالنبوّة والرسالة، ونحن أنزلنا هذا النور على قلبك لتهدي به الإنسانية، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى أيضاً: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا).(1)

واضح أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان فاقداً لهذا الفيض الإلهي قبل وصوله مقام النبوّة، فاللّه سبحانه أخذ بيده وهداه وبلغ به هذا المقام، وإلى هذا تشير الآية (3) من سورة يوسف: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين).

من المؤكّد أنّه لولا الهداية الإلهية والإمداد الغيبي ما استطاع الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهتدي المسير نحو الهدف المقصود.

من هنا فإنّ المقصود من الضلالة في كلمة «ضالاً» في الآية ليس نفي الإيمان والتوحيد والطهر والتقوى عن النّبي، بل بقرينة الآيات التي أشرنا إليها تعني نفي

_______________________________________

1 ـ الشورى، الآية 52.

[280]

العلم بأسرار النبوّة وبأحكام الإسلام، وتعني عدم معرفة هذه الحقائق، كما أكّد على ذلك كثير من المفسّرين. لكنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة اهتدى إلى هذه الاُمور بعون اللّه تعالى. (تأمل بدقّة).

في الآية (282) من سورة البقرة، عند ذكر الشهادة وسبب استشهاد أكثر من شاهدة واحدة في كتابة عقود الدَّين يقول سبحانه: (أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الاُخرى).

والضلالة في هذه الآية تعني «النسيان» بقرينة قوله «فتذكر».

وفي الآية تفاسير اُخرى من ذلك.

إنّك كنت خامل الذكر غير معروف، واللّه أنعم عليك من المواهب الفريدة ممّا جعلك معروفاً في كلّ مكان.

ومن هذه التفاسير، إنّك تهت وضللت الطريق مرّات في عهد الطفولة (مرّة في شعاب مكّة حين كنت في حماية عبد المطلب، ومرّة حين كانت حليمة السعدية تأتي بك إلى مكّة لتسلمك إلى عبد المطلب فتهت في الطريق. مرّة ثالثة حين كنت برفقة عمّك أبي طالب ضمن قافلة متجهة إلى الشام فضللت الطريق في ليلة ظلماء واللّه سبحانه هداك في كلّ هذه المرات وأعادك إلى حضن جدّك أو عمّك).

ويذكر أنّ كلمة «ضال» تعني «المفقود» وتعني «التائه». ففي عبارة: «الحكمة ضالة المؤمن»، الضالة تعني الشيء المفقود.

ومن ذلك جاءت هذه المفردة أيضاً بمعنى المخفي والغائب ولذا ورد في الآية (10) من سورة السجدة قوله تعالى على لسان منكري المعاد: (أإذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد)، أي ءإذا غبنا واختفينا في بطن الأرض.

وإذا كانت كلمة «ضالاً» في الآية تعني «المفقود» فلا يبرز إشكال في الموضوع... ولكن إذا كانت بمعنى «التائه» فالمقصود منها عدم الإهتداء إلى طريق النبوّة والرسالة قبل البعثة، وبعبارة اُخرى لم يكن النّبي مالكاً لشيء في ذاته

[281]

الوجودية، وما كان عنده فمن اللّه، وبهذا المعنى يندفع كلّ إشكال أيضاً.

(ووجدك عائلاً فأغنى)(1).

لقد جعلناك تستأثر باهتمام «خديجة» هذه المرأة المخلصة الوفية لتضع كلّ ثروتها تحت تصرفك ومن أجل تحقيق أهدافك، وبعد ظهور الإسلام رزقك مغانم كثيرة في الحروب ساعدتك في تحقيق أهدافك الرسالية الكبرى.

وعن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في تفسير هذه الآيات قال: «(ألم يجدك يتيماً فآوى)، قال: فردا لا مثيل في المخلوقين، فآوى النّاس إليك.(ووجدك ضالاً) أي ضالة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك.(ووجدك عائلاً)، تعول أقواماً بالعلم فأغناهم بك»(2).

هذه الرّواية تتحدث طبعاً عن بطون الآية، وإلاّ فإنّ ظاهرها هو ما ذكرناه.

ولا يتصورنّ أحد أنّ تفسير الآيات بظاهرها يحط من مكانة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو يضفي عليه صفات سلبية من قبل الباري تعالى، بل إنّها في الواقع بيان ما أغدق اللّه على نبيّه من ألطاف واكرام واحترام، حين يتحدث المحبوب عن ألطافه بحق العاشق الواله، فإنّ حديثه هذا هو عين اللطف والمحبّة، وهو دليل على عنايته الخاصّة، والعاشق بسماعه هذه الألفاظ تسري في جسده روح جديدة، وتصفو نفسه ويغمر قلبه سكينة وهدوء.

في الآيات التالية ثلاثة أوامر تصدر إلى الرسول باعتبارها نتيجة الآيات السابقة... والخطاب، وإن كان متجهاً إلى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه يشمل أيضاً كل المسلمين.

(فأمّا اليتيم فلا تقهر).

_______________________________________

1 ـ «العائل» في الأصل كثير العيال، وجاءت أيضاً بمعنى الفقير، وهي في الآية بهذا المعنى، ويستفاد من كلام الراغب أنّ (عال) إذا كانت أجوفاً يائياً فهي بمعنى افتقر، وإن كانت أجوفاً واوياً فبمعنى كثر عياله. (ولانستبعد أن يكون المعنيان متلازمين).

2 ـ مجمع البيان، ج10، ص506.

[282]

«تقهر» من القهر ـ كما يقول الراغب ـ الغلبة مع التحقير، ولكن تستعمل في كل واحد من المعنيين، ومعنى التحقير هنا هو المناسب.

وهذا يدل على أنّ هناك مسألة أهم من الإطعام والإنفاق بشأن الأيتام، وهي اللطف بهم والعطف عليهم وإزالة إحساسهم بالنقص العاطفي، ولذا جاء في الحديث المعروف عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمرّ على يده نور يوم القيامة»(1).

كأنّ اللّه يخاطب نبيّه قائلاً: لقد كنت يتيماً أيضاً وعانيت من آلام اليتم، والآن عليك أن تهتم بالأيتام كل اهتمام وأن تروي روحهم الظمأى بحبّك وعطفك.

(وأمّا السائل فلا تنهر).

«نَهَرَ» بمعنى ردّ بخشونة، ولا يستبعد أن تكون مشتركة في المعنى مع «نهر» الماء، لأنّ النهر يدفع الماء بشدّة.

وفي معنى «السائل» عدّة تفاسير.

الأوّل: أنّه المتجه بالسؤال حول القضايا العلمية والعقائدية والدينية، والدليل على ذلك هو أنّ هذا الأمر تفريع ممّا جاء في الآية السابقة: (ووجدك ضالاً فهدى)، فشكر هذه الهداية الإلهية يقتضي أن تسعى أيّها النّبي في هداية السائلين، وأن لا تطرد أي طالب للهداية عنك.

والتّفسير الآخر: هوالفقير في المال والمتاع، والأمر يكون عندئذ ببذل الجهد في هذا المجال، وبعدم ردّ هذا الفقير السائل يائساً.

والثّالث: أنّ المعنى يشمل الفقير علمياً والفقير مادياً، والأمر بتلبية احتياجات السائل في المجالين، وهذا المعنى يتناسب مع الهداية الإلهية لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع إيوائه حين كان يتيماً.

_______________________________________

1 ـ المصدر السابق.

[283]

وذهب بعضهم إلى حصر معنى السائل في طالب المعرفة العلمية، زاعماً أنّ كلمة السائل لم ترد في القرآن الكريم بمعنى طالب المال والمتاع(1)، بينما تكرر في القرآن هذا المعنى كقوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)(2) وبهذا المعنى أيضاً وردت في المعارج ـ 25، وفي البقرة ـ 77.

(وأمّا بنعمة ربّك فحدّث).

والحديث عن النعمة قد يكون باللسان، وبتعابير تنمّ عن غاية الشكر والإمتنان، لا عن التفاخر والغرور. وقد تكون بالعمل عن طريق الإنفاق من هذه النعمة في سبيل اللّه، انفاقاً يبيّن مدى هذه النعمة. هذه هي خصلة الإنسان السخي الكريم... يشكر اللّه على النعمة، ويقرن الشكر بالعمل، خلافاً للسخفاء البخلاء الذين لا يكفون عن الشكوى والتأوه، ولا يكشفون عن نعمة ولو حصلوا على الدنيا وما فيها، وجوههم يعلوها سيماء الفقر، وكلامهم مفعم بالتذمّر والحسرة، وعملهم يكشف عن فقر!

بينما روي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّ اللّه تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه»(3)

من هنا يكون معنى الآية: بيّن ما أغدق اللّه عليك من نِعَم بالقول والعمل، شكراً على ما أغناك اللّه إذ كنت عائلاً.

بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ النعمة في الآية هي النعمة المعنوية ومنها النبوّة والقرآن، والأمر للنبيّ بالإبلاغ والتبيين، وهذا هوالمقصود من الحديث بالنعمة.

ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى شاملاً للنعم المادية والمعنوية، لذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية قوله: «حدث بما أعطاك

_______________________________________

1 ـ تفسير محمّد عبده، جزء عم، ص113.

2 ـ الذاريات، الآية 19.

3 ـ نهج الفصاحة، حديث 683.

[284]

اللّه، وفضلك، ورزقك، وأحسن إليك وهداك»(1).

وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من اُعطي خيراً فلم يُر عليه، سمّي بغيض اللّه، معادياً لنعم اللّه»(2).

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) قال: «إنّ اللّه جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده»(3)

* * *

بحوث

1 ـ القيادة المنطلقة من المعاناة والآلام

الآيات الكريمة في هذه السّورة، ضمن سردها النعم الإلهية على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، تعكس أيضاً مسألة يُتم النبيّ في صباه، وظروفه المادية الصعبة التي عاناها، والأتعاب والآلام التي قاساها، ومن بين هذه الآلام انطلق، ويجب أن يكون كذلك.

القائد الإلهي الإنساني يجب أن يذوق مرارة العيش، ويتلمس بنفسه الظروف القاسية، ويشعر بكل وجوده الحرمان، كي يستطيع أن يتفهم صحيح ما تعانيه الفئات المحرومة، ويتحسّس آلام النّاس ومعاناتهم في معيشتهم.

يجب أن يفقد أباه في صغره كي يشعر بآلام الأطفال الأيتام، ولابدّ أن يبقى جائعاً لأيّام وأن ينام عاصب البطن، كي يفهم بكل وجوده آلام الجياع.

لذلك كان(صلى الله عليه وآله وسلم) تغرورق عينه بالدموع حين يرى يتيماً، وكان يظمّ ذلك اليتيم

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص507.

2 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص7192، وقريب من هذا المعنى في الكافي، ج6، كتاب الزي والتجميل، حديث 2.

3 ـ فروع الكافي، ج6، ص438.

[285]

إلى صدره ويداعبه بكل حرارة.

يجب أن يتفهّم ما يعانيه مجتمعه من فقر ثقافي، كي يعتزّ بكل من يأتيه لطلب معرفة أو علم، ويستقبله بصدر رحب.

ليس النبيّ الخاتم وحده، بل قد يكون كلّ الأنبياء منطلقين من حياة المعاناة والألم، وهكذا كلّ القادة الحقيقيين الناجحين كانوا كذلك... ويجب أن يكونوا كذلك.

من كان يرفل في نعومة العيش، وفي الثراء والقصور، وكان ينال كلّ ما يريد، كيف يستطيع أن يدرك آلام المحرومين، وكيف يستطيع أن يتفهم معاناة الفقراء والبائسين ليهب لمساعدتهم؟!

في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): «ما بعث اللّه نبيّاً قطّ حتى يسترعيه الغنم يعلّمه بذلك رعية النّاس»(1).

وفي رعي الغنم دروس في تحمل الآلام، وفي الصبر أمام موجود ضعيف قليل الشعور، كما إنّه استلهام لدروس التوحيد والعرفان من خلال حياة الصحراء والعيش في أحضان الطبيعة.

وفي رواية أنّ «موسى بن عمران» سأل ربّه عن سبب اختياره لمقام النبوّة، فجاءه الجواب: أتذكر يوماً أنّ حملاً قد فرّ من قطيع غنمك فتبعته حتى أخذته ثمّ قلت له: لماذا اتعبت نفسك، ثمّ حملته على كتفك، وجئت به إلى القطيع، ولذلك اخترتك راعياً لخلقي، وهذا يعني أنّ اللّه تعالى رأى في موسى قدرة فائقة على التحمّل تجاه هذا الحيوان ممّا يدلّ على قوّة روحية فائقة أهلته لهذه المنزلة الكبيرة.

_______________________________________

1 ـ بحار الانوار، ج11، ص64: ح7.

[286]

2 ـ الإهتمام بالأيتام

لا يخلو مجتمع من أيتام فقدوا الأب في صِغَرهم، وهؤلاء الأطفال يجب أن يتمتعوا بحماية من مختلف الجهات.

فمن الناحية العاطفية، يشعر هؤلاء بنقص، إذا لم يُسدَّ فإنّهم سيشبّون أفراداً غير سالمين، وكثيراً ما يكونون قساة مجرمين خطرين. ومن الناحية الإنسانية يجب أن يعيش هؤلاء في حماية ورعاية كسائر أبناء المجتمع، أضف إلى ذلك يجب أن يشعر أفراد المجتمع بضمان مستقبل أبنائهم الذين قد يصابون باليتم في يوم من الأيّام.

الأيتام قد يكونون أصحاب تركة مالية يجب أن تصان بكلّ دقّة، وقد يكونون معدمين مالياً فيجب الإهتمام بهم من هذه الناحية، والآخرون يتحملون مسؤولية التعامل مع هؤلاء بكل اهتمام ورفق كي يزيلوا عنهم غبار عناء الوحدة.

لذلك ركزت آيات القرآن الكريم ونصوص الشريعة الأُخرى على هذه المسألة ذات البعد الأخلاقي والبعد الإجتماعي والإنساني.

وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إنّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول اللّه لملائكته يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب؟ فتقول الملائكة: أنت أعلم، فيقول اللّه تعالى: «يا ملائكتي، فإنّي أشهدكم أن لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة»(1).

وأكثر من ذلك روي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن»(2).

وروي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتقى اللّه عزّوجلّ،

_______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص506.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، ج31، ص219.

[287]

وأشار بالسبابة والوسطى»(1).

ولأهمية هذه المسألة قرنها علي أمير المؤمنين في وصيته المعروفة بالصلاة والقرآن وقال: «اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبُّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم»(2).

وعن أحد الصحابة قال: كنّا جلوساً عند رسول اللّه فأتاه غلام فقال: غلام يتيم وأخت لي يتيمة، واُمّ لي أرملة، أطعمنا ممّا أطعمك اللّه، أعطاك الله ممّا عنده حتى ترضى، قال: ما أحسن ما قلت يا غلام، أذهب يا بلال فأتنا بما كان عندنا فجاء بواحدة وعشرين تمرة، فقال: سبع لك وسبع لأختك وسبع لاُمّك، فقام إليه معاذ بن جبل فمسح رأسه وقال: جبر اللّه يُتمك وجعلك خلفاً من أبيك وكان من أبناء المهاجرين.

فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): رأيتك يا معاذ وما صنعت.

قال: رحمته.

قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يلي أحد منكم يتيماً فيحسن ولايته، ووضع يده على رأسه إلاّ كتب اللّه له بكل شعرة حسنة ومحا عنه بكلّ شعرة سيئة، ورفع له بكلّ شعرة درجة».(3)

في المجتمعات الكبيرة مثل مجتمعاتنا اليوم، لا يمكن للمسلمين أن يكتفوا طبعاً بالأعمال الفردية، بل لابدّ أن تتمركز القوى لرعاية الأيتام وفق برنامج اقتصادي وثقافي وتعليمي مدروس، كي ينشأ هؤلاء الأيتام أفراداً لائقين للمجتمع الإسلامي. وهذا يتطلب تعاوناً اجتماعياً عاماً.

3 ـ التحدّث بالنعم

إظهار نعمة الربّ، حين يكون بدافع الشكر والثناء، لا على سبيل التفاخر

_______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص597، ح23.

2 ـ نهج البلاغة، قسم الرسائل، الرسالة رقم 47.

3 ـ مجمع البيان، ج10، ص506.

[288]

والإستعلاء، يدفع الإنسان نحو التكامل على سلّم العبودية، كما إنّ له أيضاً آثاراً اجتماعية إيجابية، وآثاراً نفسية تبعث على السكينة والإستقرار.

الإنسان الذاكر لنعم ربّه لا يشتدّ عليه ضغط النواقص. إذا أصيب في عضو من أعضاء بدنه يخفف عليه ألم الإصابة شكره على سلامة بقية الأعضاء، وإذا فقد شيئاً لا يجزع لأنّه شاكر على ما بقي عنده من امكانات.

هؤلاء الذاكرون لنعم اللّه لا يعتريهم يأس وقنوط في الشدائد والهزات، ولا يصيبهم قلق واضطراب، قلوبهم هادئة ونفوسهم مطمئنة وقدرتهم على مواجهة المشاكل كبيرة.

إلهي! نِعَمُك أكثر من أن نحصيها ونتحدث بها، فلا تسلبها عنّا، بل زدها بكرمك.

ربّاه! نحن في هذه الدنيا مغمورون ببحر كرمك فلا تحرمنا من عطائك يوم القيامة.

يا ربّ العالمين! وفقنا لأن نكون في مساعدة المحرومين مسارعين، ولحقوق الأيتام محافظين.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الضحى


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/books/index.php?id=920
  • تاريخ إضافة الموضوع : 0000 / 00 / 00
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29