ما هو تعريف النسخ وما هي الحكمة منه؟

السؤال :

ما هو تعريف النسخ وما هي الحكمة منه؟



الجواب :

جاءت تعاريف العلماء للنسْخ مختلفة وفاءً وقصوراً لهذه الظاهرة الدينية، غير أنّها جميعاً تشير إلى حقيقة واحدة هي: (رفع تشريع سابق - كان يقتضي الدوام حسب ظاهره - بتشريعٍ لاحِق، بحيث لا يمكن اجتماعهما معاً، إمّا ذاتاً إذا كان التنافي بينهما بيّناً، أو بدليل خاصّ من إجماعٍ أو نصٍّ صريح). [انظر: تلخيص التمهيد، ج1، ص410]
ونرى أنّ في القوانين البشرية الوضعية كثيراً ما تصدر المراسيم والمقرّرات فتغيّر الدستور السابق الثابت أو القانون، وعادة ما يكون الداعي إلى ذلك أحد أمور:
1- اكتشاف عدم صلاحية القانون أو الدستور السابق ووجود ثغرات فيه تحتاج إلى علاج جديد.
وفيه: إنّ هذا لا يتصوّر مطلقاً في النسخ الشرعي, لأنه تعالى منزّه عن الجهل وعن العبث، بل هو لا يضع شرعة ولا حكماً إلا حسب مقتضى المصالح التي هو أعلم بها، ولا تخفى عليه خافية.
2- تتغيّر وجوه المصلحة والمفسدة نتيجة تجدّد بعض الظروف أو الأوضاع التي تجعل القانون السابق لا يلائم المستجدّات، مما يلزم تغيير القانون بما يتناسب مع الوضع الحالي، ومع ذلك فإن واضعي القانون السابق لم يكن في علمهم أن المستجدّات ستحصل لتعالج منذ البداية في القانون السابق.
وفيه: إن الله تعالى عالم بالأشياء قبل حدوثها، فهو حسب الفرض عالم بالمتغيّرات والمستجدّات، فكان المفروض أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند التشريع منذ البدء.
هذان الأمران دفعا بعض المشكّكين إلى إنكار إمكانية النسخ.
ولكنّ الإشكال يرتفع إذا أدركنا أين تكمن المصلحة المقصودة في مِلاك الحكم؛
1- فأحياناً لا تكون قائمة في نفس الفعل، بمعنى أن الغاية والحكمة من الأمر والنهي قد تكون لمجرّد الامتحان والاختبار، وهذا النوع من الأحكام لا مانع من وضعه ورفعه في أي وقت يترتّب على الأمر مصلحة الامتحان والاختبار، بل أحياناً تكون مصلحة الامتحان أقوى من المفسدة المترتبة على الفعل، أو أقوى من مصلحة فعل آخر يزاحمه فيترك لصالح هذا الحكم.
2- وأحياناً تكون المصلحة في نفس الفعل والمفسدة كذلك، إلاّ أنه يمكن أن تتغير بحسب اختلاف الأزمان، فيكون هناك زمان ذا مصلحة تنتفي في زمان آخر، وإذا كان التغير مجهولاً عند البشر فهو معلوم عند الله تعالى بلا شك، ومع ذلك لا يلزم أن يكون التشريع منذ البداية مراعياً للتغيرات، إذا كان في قصد المشرّع أن ينسخ الحكم عند تبدُّل المصلحة وتغيّر الأحوال.
وهناك أمور أخرى قد تكون أحياناً لها مدخلية بتحقُّق المصلحة والمفسدة، كالتدرُّج في التشريع الذي له مصلحة خاصة تكون أحياناً أهم من المفسدة الحاصلة بترك الواقع.
ومثال الأول: القبلة.
يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة: 143].
ومنه يظهر أن القبلة الأولى لم تكن إلا للامتحان.
ومثلها أيضاً آية النجوى. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [سورة المجادلة: 12].
فقد ورد أنه (صلّى الله عليه وآله) بعد نزول الآية فرض على كل مسلم صدقة درهم واحد عند كل مسألة فرضاً على الأغنياء دون الفقراء، وقال المفسّرون لم يعمل بهذه الآية إلا الإمام عليّ (عليه السلام).
ثم نسخت الآية بعد تحقُّق الاختبار المطلوب بالآية اللاحقة.
ومثال الثاني: عدد المقاتلين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}.
ثم قال: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ} [سورة الأنفال : 65-66].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: >فنسخ الرجلان العشرة< [الكافي، ج5، ص69].
ومثال الأحكام المؤقتة منذ البداية قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [سورة النساء: 15].
فقد جعل الله لهن السبيل في آية الجلد وفي حكم الرجم وهذا مبني على أن المراد من الفاحشة الزنا، وإلا فلو كان المراد الأعم منه ومما يقبح ويفحش فالحكم الأول باقٍ والثاني مجرّد تخصيص له.
وأمثلة الأحكام التي فرضت لأغراض تأديبية وفي سياق المعاقبة كثيرة؛ منها:
قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة النحل: 124]. {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا} [سورة النساء: 160].
فتبيّن من ذلك إمكانية النسخ وعدم منافاته لحكمة المشرّع وعلمه المطلق. وتبيّن معنا أيضاً أنه قد تقتضي الحكمة إخفاء التوقيت وإطلاق لسان الدليل، لينسخ الحكم عندما يتحقّق المقتضي لذلك. [الوجيز في علوم القرآن، ص121-124، بتصرّف]
وما تم التطرّق إليه من النسخ كان يتناول نسخ الحكم الوارد في آية قرآنية مع بقاء الآية واتصافها بالقرآنية، وهو المقصود عادة من كلامهم.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/question/index.php?id=866