00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة آل عمران (من آية 141 ـ 172)  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : التبيان في تفسير القرآن (الجزء الثالث)   ||   تأليف : شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

التبيان في تفسير القرآن

تأليف

شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

385 - 460 ه‍.

تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي

المجلد الثالث

الآية: 141 - 149

قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين(141))

آية.

المعنى، واللغة: قيل: في معنى قوله: " وليمحص الله " أربعة أقوال: أحدها - قال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: ليبتلي، " ويمحق الكافرين " بنقصهم في قول ابن عباس، وقال غيره يهلكهم، وقال الفراء: " معنى " وليمحص الله " يعني ذنوب المؤمنين، وقال الزجاج: يخلصهم من الذنوب وهذا قريب من قول الفراء: وقال الرماني معناه " ولميحص الله الذين آمنوا " ينجيهم من الذنوب بالابتلاء ويهلك الكافرين بالذنوب عند الابتلاء، وأصل التمحيص التخليص في قول أبي العباس تقول محصت الشئ أمحصه محصا: إذا خصلته.

وقال الخليل: المحص الخلوص من العيب. محصته محصا أي خلصته من كل عيب، ومحص الجمل: إذا ذهب وبره يمحص. وجبل محص أي ملص، ومحص الظبي، يمحص إذا عدا عدوا شديدا محصا، ويستحب أن تمحص قوائم الفرس أي تخلص من الرهل.

وتقول: اللهم محص عنا ذنوبنا أي اذهبها عنا، لانه تخليص الحسنات بتكفير السيئات.

ويقال تمحص الفرس: إذا ذهب شحمه الردئ، وبقي لحمه، وقوته بالضمور. وأصل المحق فناء الشئ حالا بعد حال، ولهذا دخله معنى النقصان، وأمحق الشئ امحاقا، والمحاق: آخر الشهر إذا أمحق الهلال، فلم ير، لذهاب ضوئه حالا بعد حال.

وامتحق الشئ وتمحق: إذا ذهبت بركته بنقصانها حالا بعد حال. ومحقه تمحيقا. وإنما قابل بين التمحيص، والمحق، لان محص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم، وهذه مقابلة في المعنى.

وقيل في تمحيص المؤمنين بالمداولة قولان: أحدهما - لما في تخليتهم مع تمكين الكافرين منهم من التعريض للصبر الذي يستحقون به عظيم الاجر، ويحط كثيرا من الذنوب. الثاني - لما في ذلك من اللطف الذي يعصم من اقتراف المعصية.

[4]

قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين(142))

آية بلا خلاف.

القراء‌ة والمعنى واللغة: قرأ الحسن " ويعلم الصابرين " بكسر الميم. الباقون بفتحها.

ووجه قراء‌ة الحسن أنه عطف على، ولما يعلم الله كأنه قال، ولما يعلم الله ويعلم الصابرين.

وقوله: " أم حسبتم " معناه: أحسبتم " ان تدخلوا الجنة " وقيل معنى (أم) معنى بل على جهة الانكار، لان يحسبوا ذلك الحسبان، كما يقال: قد صممت على الخلاف أم تتوهم الاهمال، والفرق بين لم ولما أن لما جواب، لقول القائل: قد فعل فلان يريد به الحال، فجوابه (لما فعل) وإذا قال: فعل فجوابه (لم يفعل)، فلما كانت (لما) مؤكدة بحرف كانت جوابا لما هو مؤكد بحرف وأيضا، فانه يجوز الوقف على (لما) في مثل أن يقول القائل: قد جاء فلان، فيجيبه آخر فيقول: لما أي لما يجئ، ولا يجوز ذلك في (لم).

ومعنى " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم " أي لما يعلم الله جهادكم يعني أنهم لا يدخلون الجنة إلا بفعل الجهاد، لانه من أعظم أركان الشرع.

وقوله: " ويعلم الصابرين " نصب على الصرف عن العطف إذ ليس المعنى على نفي الثاني، والاول، وإنما هو على نفي اجتماع الثاني والاول، نحو قولهم: لا يسعني شئ ويعجز عنك.

وقال الشاعر:

لاتنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم(1)

وانما جاز (ولا يعلم الله الذين جاهدوا منكم) على معنى نفي الجهاد دون

___________________________________

(1) قائله أبوالاسود الدؤلي، ونسب للمتوكل الكناني معجم البلدان 7: 384، والاغاني 11: 39 طبعة بولاق، والبيت من الابيات الحكمية المشهورة وقبله

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فاذا انتهت عنه فأنت حكيم

[5]

العلم، لما فيه من الايجاز في انتفاء الجهاد، لانه لو كان لعلمه، وتقديره ولما يكن المعلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم، لان المعنى مفهوم لا يشتبه.

قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون(143))

آية.

المعنى: قال الحسن، ومجاهد، والربيع: وقتادة، والسدي: كانوا يتمنون الموت بالشهادة بعد بدر قبل أحد، فلما رأوه يوم أحد أعرض كثير منهم عنه، فانهزموا فعاتبهم الله على ذلك.

وقوله: " فقد رأيتموه " فيه حذف ومعناه رأيتم أسباب الموت، لان الموت لا يرى كما قال الشاعر:

ومحلما يمشون تحت لوائه *** والموت تحت لواء آل محلم

أي أسباب الموت.

وقال البلخي: معنى " رأيتموه " أي علمتم، وأنتم تنظرون أسباب الموت من غير أن يكون في الاول حذف. فان قيل هل يجوز أن يتمنى قتل المشركين لهم ليناوا منزلة الشهادة؟ قلنا: لا، لان قتل المشركين لهم معصية، ولا يجوز تمني المعاصي، كما لا يجوز إدارتها، ولا الامر بها. فاذا ثبت ذلك، فتمنيهم الشهادة بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا، وقال الجبائي: إنما تمنوا الموت دون القتل إذا كانوا مجاهدين قال الازهري قوله: " رأيتموه وأنتم تنظرون " معناه وأعينكم صحيحة، كما يقول القائل رأيت كذا، وليس في عينك سوء. والفرق بين التمني والارادة أن الارادة من أفعال القلوب، والتمني هو قول القائل: ليت كان كذا وليت لم يكن كذا.

وقوله: " وأنتم تنظرون " بعد، قوله " فقد رأيتموه " يحتمل أمرين ".

أحدهما - أن يكون تأكيدا للرؤية، كما تقول: رأيته عيانا ورأيته بعيني. وسمعته باذني، لئلا يتوهم رؤية القلب، وسمع العلم.

[6]

والثاني - أن يكون معناه وأنتم تتأملون الحال في ذلك كيف هي، لان النظر هو تقليب الحدفة الصحيحة نحو المرئي طلبا لرؤيته، وليس معناه الرؤية على وجه الحقيقة.

قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين(144))

آية بلا خلاف.

القصة، والنزول: قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومجاهد: إن سبب نزول هذه الآية انه لما ارجف بان النبي صلى الله عليه وآله قتل يوم أحد واشيع ذلك، قال ناس لو كان نبيا ما قتل. وقال آخرون نقاتل على ماقاتل عليه حتى نلحق به، وكان سبب انهزامهم وتضعضهم اخلال الرماة بمكانهم من فم الشعب، وكان النبي صلى الله عليه وآله نهاهم عن الاخلال به، وحذرهم من الانصراف عن الشعب مخافة أن يخرج منه كمين عليهم. فلما انهزم المشركون في الجولة الاولى، فتبعوهم المسلمون وتواقعوا في غنائمهم فقال الموكلون بالشعب: يغنمون ولا نغنم.

فقال لهم رئيسهم: الله الله لا تفعلوا فان النبي صلى الله عليه وآله أمرنا ألا نبرح، فلم يقبلوا منه وانصرفوا، وثبت رئيسهم مع إثني عشر رجلا، فقتلوا، خرج عليهم خالد بن الوليد في مأتي فارس من الشعب، وكان كامنا فيه، وكان ذلك سبب هزيمة المسلمين، وإصابة رباعية النبي صلى الله عليه وآله وجرحه، وكان الذي جرحه وكسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص، وقيل إن عبدالله ابن قمية ضربه على حبل عاتقه، ومضى إلى المشركين، وقال قتلت محمدا وشاع ذلك فأنزل الله هذه الآية

[7]

فان قيل: كيف دخل الاستفهام على الشرط، وإنما هو كغيره من الانقلاب والتقدير أتنقلبون إن مات أو قتل؟ قيل: لانه لما انعقد الشرط به صار جملة واحدة وخبرا واحدا بمنزلة تقدير الاسم قبل الفعل في الذكر إذا قيل أزيد قام، وكذلك تقديمه في القسم، والاكتفاء بجواب الشرط من جواب القسم، كما قال الشاعر:(1).

حلفت له إن تدلج الليل لا يزل *** أمامك بيت من بيوتي سائر(2)

أي حلفت له لا يزال امامك بيت وأجاز الفراء في مثله أفان مات أو قتل " تنقلبون بالرفع، والجزم ومعنى " انقلبتم على أعقابكم " أي ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، لان الرجوع عن الحق إلى الباطل بمنزلة رجوع القهقرى في القبح، والتنكيل(3) بالنفس فجرى كالمثل في هذا المعنى، والالف في قوله " أفان " ألف انكار بصورة ألف استفهام، لان التقرير به يظهر ما فيه من المنكر، فلذلك أخرج مخرج الاستفهام مع أن معناه الانكار. ومثله أتختار الفساد على الصلاح والخطأ على الصواب.

وقوله: (أفان مات أو قتل) يدل عى أن الموت غير القتل لانه لو كان هو إياه لما عطف به عليه، لان الشئ لا يعطف على نفسه. والقتل هو نقض بنيه الحياة، والموت في الناس من قال: هو معنى يضاد الحياة وفيهم من قال: هو افساد البنية التي تحتاج الحياة إليها بفعل معان فيه تضاد المعاني التي تحتاج إليها الحياة.

وقوله: " ومن ينقلب على عقبيه " أي من يرتد ويرجع عن الاسلام " فلن يضر الله شيئا " لانه لايجوز عليه المضار بل مضرته عائدة عليه، لانه يستحق العقاب الدائم.

وقوله: " وسيجزي الله الشاكرين " معناه يثيب

___________________________________

(1) هو الراعي.

(2) معاني القرآن للفراء 1: 69 - 236 والمعاني الكبير: " 805. وخزانة الادب 4. 450 ورواية المعاني الكبير (عائر) بدل (سائر) وقال: أي بيت هجاء عائر.

من قولهم: عار الفرس: اذا ذهب وجاء مترددا ويقال: قصيدة عائرة أي سائرة في كل وجه. ادلج: سار في أول الليل.

(3) في المخطوطه (والسيل) والصحيح ما في المطبوعة.

[8]

الله الشاكرين على شكرهم لنعم الله واعترافهم بها. ووجه اتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد، لان قوله: " فلن يضر الله شيئا " دليل على معنى الوعيد، لان معناه انما يضر نفسه باستحقاقه العقاب " وسيجزي الله الشاكرين " بما يستحقونه من الثواب.

قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين(145))

آية بلا خلاف.

المعنى، والاعراب، واللغة: قيل في السبب الذي اقتضى قوله: " وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله " قولان:

أحدهما - التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلى الله عليه وآله من جهة أنه باذن الله عزوجل.

الثاني - للحض على الجهاد من حيث لا يموت أحد إلا باذن الله تعالى.

وقوله: " إلا باذن الله " يحتمل أمرين " أحدهما - إلا بعلمه. والثاني إلا بأمره.

وقال أبوعلي: الآية تدل على أنه لا يقدر على الموت غير الله، كما لا يقدر على ضده من الحياة إلا الله، ولو كان من مقدور غيره لم يكن باذنه، لانه عاص لله في فعله.

وقوله: " كتابا مؤجلا " نصب على المصدر بفعل محذوف دل عليه أول الكلام مع العلم بأن كلما يكون فقد كتبه الله، فتقديره كتب الله ذلك " كتابا مؤجلا ". ويجوز أن يدل على الفعل المحذوف مصدره المنتصب به.

[9]

وقوله: " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها " قيل في معناه ثلاثة أقوال: أحدها - من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له فيها من غير حظ في الآخرة - في قول ابن اسحاق - أي فلا يغتر بحاله في الدنيا.

الثاني -(1) من أراد بجهاده ثواب الدنيا أي النصيب من الغنيمة في قول أبي علي الجبائي.

الثالث - من يرد ثواب الدنيا بالتعرض له بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي بها في الدنيا من غير حظ في الآخرة لاحباط عمله بفسقه على مذهب من يقول بالاحباط، ومن يرد بعمله ثواب الآخرة نؤته إياها.

و (من) في قوله: " منها " تكون زائدة. ويحتمل أن تكون للتبعيض، لانه يستحق الثواب على قدر عمله.

وإنما كرر قوله: " وسنجزي الشاكرين " ها هنا، وفي الآية الاولى، لامرين: أحدهما - للتأكد ليتمكن المعنى في النفس. الثاني - " وسنجزي الشاكرين " من الرزق في الدنيا، عن ابن اسحاق لئلا يتوهم ان الشاكر يحرم ما يعطاه الكافر مما قسم له في الدنيا.

وقال الجبائي في الآية دلالة على أن اجل الانسان إنما هو أجل واحد. وهو الوقت الذي يموت فيه، لانه لا يقتطع بالقتل عن الاجل الذي أخبر الله أنه اجل لموته، وقال ابن الاخشاذ: لا دليل فيه على ذلك لان للانسان أجلين أجل يموت فيه لا محالة، وأجل هو موهبة من الله تعالى له، ومع ذلك فلن يموت إلا عند الاجل الذي جعله الله أجلا لموته والاقوى الاول، لان الاجل عبارة عن الوقت الذي يحدث فيه الموت أو القتل، وبالتقدير لايكون الشئ أجلا كما لا يكون بالتقدير ملكا، وقد بينا في شرح الجمل ذلك مستوفى.

___________________________________

(1) في المطبوعة (الثاني) ساقطة.

[10]

قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين(146))

آية بلا خلاف.

القراء‌ة واللغة: قرأ ابن كثير " كاين " على وزن كاعن.

الباقون " كأين " مشددة على وزن كعين، ومعناهما واحد، وهو بمعنى كما قال جرير:

وكائن بالاباطح من صديق *** يراني لو اصبت هو المصابا(1)

وقال آخر:

وكائن رددنا عنكم من مدحج *** يجئ أمام الالف يردي مقنعا(2)

ومثل المشدد قول الشاعر:

كاين في المعاشر من اناس *** اخوهم فوقهم وهم كرام

وأصل كاين (أي) دخلت عليها كاف التشبيه، كما أن أصل (كذا) (ذا) دخلت عليها كاف التشبيه. وانما غيرت في اللفظ لتغيرها في المعنى، لانها نقلت إلى معنى (كم) في التكثير. ومن خفف فلكراهية التضعيف، كما خفف لا سيما.

وقرأ أهل الكوفة، وابن عامر (قاتل) الباقون (قتل) فمن قرأ (قتل) نفى الوهن عمن بقي. ومن قرأ (قاتل) نفاه عمن ذكر.

المعنى، واللغة: وقوله: (ربيون) قيل في معناه أقوال.

أحدها - قال ابن عباس، والحسن: علماء فقهاء، وقال مجاهد، وقتادة: جموع كثيرة.

___________________________________

(1) ديوانه 1: 9.

(2) الكامل للمبرد: 1072.

[11]

وقال الاخفش: هم منسوبون إلى الرب. ومعناه المتمسكون بعبادة الله.

وقال غيره: منسوبون إلى علم الرب.

وقال الزجاج: الربو عشرة آلاف، وهو المروي عن أبي جعفر (ع)، وارتفاعه يحتمل أمرين: أحدهما - على مذهب الحسن في أنه لم يقتل نبي قط في معركة فيرتفع بأنه لم يسم فاعله في (قتل) وعلى مذهب ابن اسحاق، وقتادة، والربيع، والسدي: رفع بالابتداء، فقدم عليه الخبر بمعنى قتل، ومعه ربيون كثير، فعلى هذا يكون النبي المقتول، والذين معه لا يهنون، وذلك أن يوم أحد كان أرجف بأن النبي صلى الله عليه وآله قتل، فبين الله تعالى أنه لو قتل لما أوجب ذلك أن تهنوا وتضعفوا، كما لم يهن من كان مع الانبياء بقتلهم، وهو المروي عن أبي جعفر (ع).

والوهن هو الضعف وإنما قال: فما وهنوا، وما ضعفوا من حيث أن الوهن انكسار الجد بالخوف، ونحوه والضعف: نقصان القوة وقوله: " وما إستكانوا " معناه ما ظهروا الضعف، وقيل معناه ما خضعوا، لانه يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد، فلم يهنوا بالخوف، ولا ضعفوا بنقصان العدة، ولا استكانوا بالخضوع.

وقال ابن اسحاق: فما وهنوا بقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم. ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم.

وقال الزجاج معنى ما وهنوا ما فتروا، وما ضعفوا وما جبنوا عن قتال عدوهم، وما استكانوا ما خضعوا.

وقال الازهري: الاستكانة أصلها من الكنية، وهي الحالة السيئة يقال بات بكنية يعني بيتة سوء، ومجيئة سوء أي بحال سوء وقوله: " والله يحب الصابرين " معناه يريد ثواب من صبر في جنبه في امتثال أمره، والقيام بواجباته التي من جملتها الجهاد في سبيل الله.

قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين(147))

آية

[12]

المعنى واللغة: هذا إخبار عن الربيين الذين ذكرهم في الآية الاولى بأنهم كانوا يقولون في أكثر أحوالهم " ربنا اغفر لنا ذنوبنا " لان من المعلوم أنهم قد كانوا يقولون أقوالا غير هذا، لكن لما كان هذا هو الاكثر لم يعتد بذلك.

وقيل: معناه وما كان قولهم حين قتل نبيهم إلا هذا القول انقطاعا إلى الله وطلبا لمغفرته.

وقوله: " اغفرلنا ذنوبنا " أي استرها علينا بترك عقابنا، ومجازاتنا عليها " واسرافنا في امرنا " فالاسراف هو مجاوزة المقدار الذي تقتضيه الحكمة. والاسراف مذموم، كما أن الاقتار مذموم، كما قال تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط "(1) وكما قال " والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما "(2) والاسراف، والافراط بمعنى، وضدهما التقصير والتقتير.

وقيل الاسراف مجاوزة الحق إلى الباطل بزيادة أو نقصان والاول أظهر. وأصل الاسراف مجاوزة الحد يقال: سرفت القوم إذا جاوزتهم، وأنت لا تعرف مكانهم وسرفت الشئ إذا نسيته لانك جاوزته إلى غيره بالسهو عنه.

ويقال: أصنع من سرفة، وهي دويبة صغيرة تنقب الشجر، وتبني فيه بيتا.

إن قيل: كيف قوبل الذنوب والاسراف في الامر؟ قلنا: قال الضحاك: هو بمنزلة اغفر لنا الصغير والكبير من خطايانا.

الاعراب، والمعنى: و " قولهم " نصب بأنه خبر (كل) والاسم (أن قالوا)، وانما اختير ذلك، لان ما بعد الايجاب معرفة، فهو أحق بأن يكون الاسم، كقول الشاعر:

وقد علم الاقوام ما كان داء‌ها *** بثهلان إلا الخزي ممن يقودها(3)

___________________________________

(1) سورة الاسرى آية: 29.

(2) سورة الفرقان آية: 67.

(3) سيبويه 1: 24 ولم ينسبه. يصف كتيبة منهزمة يقول: لم يكن سبب انهزامها الا جبن من يقودها، فجعل الخزي كناية عن الجبن.

[13]

ويجوز الرفع على أنه اسم (كان) وقد قرئ به في الشواذ.

ومثله قوله: " ماكان حجتهم إلا أن قالوا "(1) " وما كان جواب قومه إلا أن قالوا "(2)

وقوله: " وثبت أقدامنا " أي أعنا وألطف لنا بما تثبت معه أقدامنا وإن كان ثبوت القدم من فعل العباد لكن لما كان بلطفه ومعونته جاز نسبته إليه مجازا.

قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين(148))

آية.

المعنى، واللغة: قوله: " فآتاهم الله " يعني من تقدم ذكره من الربيين الذين وصفهم.

وقال الجبائي: يعني به المسلمين الذين صفتهم ماتقدم ذكره أي أعطاهم الله ثواب الدنيا قال قتادة، والربيع: هو نصرهم على عدوهم حتى ظفروا بهم، وقهروهم.

" وثواب الآخرة ": الجنة.

وزاد ابن جريج الغنيمة، ويجوز أن يكون ما آتاهم الله في الدنيا من الظفر والنصر وأخذ الغنيمة ثوابا مستحقا لهم على طاعاتهم، لان في ذلك تعظيما لهم وتبجيلا، ولذلك تقول: إن المدح على أفعال الطاعة والتسمية بالاسماء الشريفة بعض الثواب، ويجوز أن يكون الله تعالى أعطاهم ذلك تفضلا منه تعالى، أو لما لهم فيه من اللطف، فتكون تسميته بأنه ثواب مجازا، وحد الثواب هو النفع الخالص المستحق الذي يقارنه تعظيم وتبجيل، والعوض هو النفع المستحق الخالي من التعظيم والتبجيل، والتفضل هو النفع الذي ليس بمستحق ولامعه تعظيم وتبجيل. وانما جاز تأخير الثواب المستحق مع ثبوت الاستحقاق له عقيب الطاعة الامرين:

أحدهما - قال أبوعلي: لانه يوفر عليه ما يفوته في زمان التكليف إلى خير الثواب: وقال الرماني: لانه إذا أخر عظم ما يستحقه بالتأخر على ما كان

___________________________________

(1) سورة الجاثية آية: 24.

(2) سورة الاعراف آية: 81.

[14]

لو قدم، لانه إذا استحق مثلا مائة جزء عاجلا، فاذا أخر استحق مائة وعشرة أو مائة وجزء، وقيل في وجه حسن تأخيره أنه لو كان عقيب الطاعة لادى إلى أن يكون المكلف ملجأ إلى فعل الطاعة، لان المنافع الكثيرة تلجئ إلى الفعل كما أن دفع المضار العظيمة تلجئ إلى مثله، وذلك ينافي التكليف.

وقوله: " والله يحب المحسنين " أي يريد ثوابهم وتعظيمهم وتبجيلهم والفرق بين الاحسان والانعام أن الاحسان قد يكون إنعاما بأن يكون نفعا للمنتفعين به، وقد يكون احسانا بأن يكون فعلا حسا، ومن القسم الاخير يقال هو تعالى محسن بفعل العقاب، ولا يقال محسن من القسم الاول، ويقال هو محسن بفعل الثواب على الوجهين معا(1).

___________________________________

(1) في المخطوطة باسقاط (معا).

الآية: 150 - 159

قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين(149) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين(150))

آيتان بلا خلاف.

المعنى: هذا خطاب للمؤمنين حذرهم الله من أن يطيعوا الكفار، وبين أنهم إن أطاعوهم ردوهم كافرين.

والمعني ب‍ " الذين كفروا " قيل فيهم قولان: أحدهما - قال الحسن، وابن جريج إنهم اليهود، والنصارى أي إن تستنصحوهم وتقبلوا رأيهم يردوكم خاسرين، وقال السدي: أراد إن تطيعوا أبا سفيان وأصحابه يرجعوكم كافرين.

والطاعة موافقة الارادة المرغبة في الفعل، وبالترغيب ينفصل من الاجابة، وإن كان موافقة الارادة حاصلة، وفي الناس من قال: الظاعة في موافقة الامر، والاول أصح، لان من فعل مايقتضي العقل وجوبه أو حسنه يقال: إنه

 [15]

مطيع لله، وان لم يكن هناك أمر على أن من امتثل الامر إنما سمي مطيعا لموافقة الارادة المرغبة من حيث أن الامر لايكون أمرا إلا بارادة المأمور به، والطاعة تكون بمتابعة الواجب والندب معا، لان الارادة تتناولها.

الاعراب، والحجة، واللغة، والمعنى: وقوله: (إن تطيعوا) جزم بأنه شرط.

وقوله: " يردوكم " جزم بأنه جواب الشرط.

وقوله: " فتنقلبوا " جزم بالعطف عليه.

وقوله: " خاسرين " نصب على الحال.

وقوله: " بل الله " فحقيقة (بل) الاضراب عن الاول إلى الثاني سواء كانا موجبين أو نفيين أو احداهما موجبا والآخر نفيا قول: جاء زيد بل عمرو، وما جاء زيد بل عمرو لم يجئ، وما أتى زيد بل خالد.

فان قيل: كيف عطف ببل وهي لا تشرك الثاني مع الاول في المعنى؟ قلنا: لان الاضراب عن الاول كالبدل، ولذلك وجب العطف بالاشراك في الاعراب كما يجب في البدل غير أن البدل لم يحتج إلى حرف، لان الثاني هو الاول أو في تقدير ما هو كالاول، و (لكن) للاستدراك أيضا، وهو يقتضي نفيا إما متقدما أو متأخرا كقولك ما جاء‌ني زيد، لكن عمرو، وجاء زيد لكن عمرو لم يأت، وبهذا فارقت بل.

وقوله: " بل الله " كان يجوز النصب في (الله) قال الفراء: على معنى أطيعوا الله مولاكم، لان قبله " إن تطيعوا " ثم أضرب عن الاول وأوجب الثاني بل أطيعوا الله (مولاكم). والرفع يحتمل أن يكون على الابتداء ومولاكم خبره، ويحتمل أن يكون مولاكم مبتدأ، و (الله) خبره، وقد قدم عليه. ومعنى مولاكم أي هو أولى بطاعتكم ونصرتكم. وقيل معناه وليكم بالنصرة بدلالة.

قوله: " هو خير الناصرين " والاصل فيه، ولي الشئ الشئ من غير فصل بينه وبينه، فالولاية إيلاء النصرة، ويجوز لانه يتولى فعل النصرة، وان لم يكله إلى غيره، لان من فعل شيئا فقد تولى فعله.

فان قيل: كيف قال " وهو خير الناصرين " مع أنه لا يعتد بنصر غير الله مع نصرته؟ قيل: معناه إنه إن اعتد بنصرة غير الله فنصرة

[16]

الله خير منها، لانه لا يجوز أن يغلب، وغيره يجوز أن يغلب، وان نصر فالثقة بنصرة الله تحصل، ولا تحصل بنصرة غيره.

قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين(151))

آية بلا خلاف.

ذكر ابن اسحاق أنه لما نال المسلمين ما نالهم يوم أحد بمخالفة الرماة أمر نبيهم صلى الله عليه وآله وكان من ظهور المشركين عليهم ما كان عرفهم الله عزوجل الحال في ذلك ثم وعدهم بالنصر لهم، والخذلان، لاعدائهم بالرعب، وذكر السدي: أن أبا سفيان وأصحابه هموا بالرجوع بعد أحد لاستئصال المسلمين عند أنفسهم، فالقى الله الرعب في قلوبهم حتى انقلبو خائبين عقوبة على شركهم " بالله ما لم ينزل به سلطانا " يعني برهانا.

اللغة، والحجة: فالسلطان معناه هاهنا الحجة، والبرهان، وأصله القوة، فسلطان الملك قوته.

والسلطان: البرهان لقوته على دفع الباطل.

والسلطان: التوكيل على المطالبة بالحق، لانه تقوية عليه، والتسليط على الشئ: التقوية عليه مع الاغراء به.

والسلاطة: حدة اللسان مع شدة الصخب للقوة على ذلك مع إثبات(1) فعله: والسليط: الزيت لقوة اشتعاله بحدته.

والالقاء حقيقته في الاعيان، كقوله: " وألقى الالواح "(2) واستعمل في الرعب مجازا، ومثل قوله: " وألقيت عليك محبة مني "(3).

وقوله: " ومأواهم النار " أي مستقرهم وفي الآية دلالة على

___________________________________

(1) في المخطوطة (ايثار).

(2) سورة الاعراف آية: 149.

(3) سورة طه آية: 39.

[17]

فساد التقليد، لانه لا برهان مع صاحبه على صحة مذهبه، فكل من قال بمذهب لا برهان عليه، فمبطل بدلالة الآية، وقوله: " وبئس مثوى الظالمين " فالمثوى: المنزل، وأصله الثواء، وهو طول الاقامة ثوى يثوي ثواء: إذا طال مقامه وأثواني فلان مثوي أي أنزلني منزلا وربة البيت: أم مثواه.

والثوي: الضيف لانه مقيم مع القوم. وانما قيل لجهنم " بئس مثوى الظالمين " وبئس للذم، كما أن نعم للحمد لامرين: أحدهما - إن الضرر تنفر منه النفس كما ينفر العقل من القبح فجرى التشبيه على وجه المجاز - هذا قول أبي علي - وقال البلخي: لان الذم يجري علي النقص كما يجري على القبح حقيقة فيهما، نحو قولهم: الاخلاق المحمودة والاخلاق المذمومة وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وقد رعبته رعبا أي أفزعته، والاسم الرعب ورعبت الاناء إذاملاته فهو مرعوب.

قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين(152))

آية.

المعنى، والقصة: ذكر ابن عباس، والبراء بن عازب، والحسن، وقتادة، والسدي، والربيع، وابن اسحاق: أن الوعد المذكور كان يوم أحد، لان المسلمين كانوا يقتلون المشركين قتلا ذريعا حتى أخل الرماة بمكانهم الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وآله بملازمته، فحينئذ حمل خالد بن الوليد من وراء المسلمين، وتراجع المشركون، وقتل من المسلمين

[18]

سبعون رجلا ثم هزموا، وقدنادى مناد قتل محمد ثم من الله على المسلمين، فرجعوا وقويت نفوسهم، ونزل الخذلان بعدوهم، حتى ولوا عنهم، ومعنى " تحسونهم " تقتلونهم.

اللغة: والحس هو القتل على وجه الاستئصال قال جرير:

تحسهم السيوف كما تسامى *** حريق النار في أجم الحصيد(1)

وأصله الاحساس ومنه قوله: " هل تحس منهم من أحد "(2) وقوله: " فلما أحس عيسى منهم الكفر "(3) أي وجده من جهة الحاسة، وحسه يحسه: إذا قتله، لانه أبطل حسه بالقتل، والتحسس طلب الاخبار، وفي التنزيل: " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه "(4) وذلك لانه طلب لهما بحاسة السمع. والمحسة التي ينفض بها التراب عن الدابة، لانه يحس بها من جهة حكها لجلدها.

وقوله: " باذنه " معناه بعلمه، ويجوز أن يكون المراد بلطفه، لان أصل الاذن الاطلاق في الفعل، فاللطف تيسر(5) له، كما أن الاذن كذلك إلا أن اللطف تدبير يقع معه الفعل لا محالة اختيارا كما يقع في أصل الاذن اختيارا.

المعنى: قال أبوعلي قوله: " إذ تحسونهم " يعني يوم بدر " حتى إذا فشلتم " يوم أحد " من بعد ما أراكم ما تحبون " يوم بدر. والاولى أن يكون هذا حكاية عن يوم أحد على ما بيناه.

وقوله: " حتى إذا فشلتم " معناه جبنتم عن عدوكم وكعتم

___________________________________

(1) ديوانه 1: 47 من قصيدة يمدح بها الحجاج.

(2) سورة الكهف آية: 99.

(3) سورة آل عمران آية: 52.

(4) سورة يوسف آية: 87.

(5) في المخطوطة (تفسير).

[19]

" وتنازعتم " في الامر يعني اختلفتم " من بعد ما أراكم ما تحبون " معناه أنهم أعطوا النصر، فخالفوا في ما قيل لهم من لزوم فم الشعب. واختلفوا، فعوقبوا بأن ديل عليهم في قول الحسن.

وقوله: " منكم من يريد الدنيا " أي منكم من قصده الغنيمة في حربكم " ومنكم من يريد الآخرة " أي بثبوته في موضعه بقصده بجهاده إلى ما عند الله في قول ابن مسعود، وابن عباس، والربيع.

الاعراب والمعنى: فان قيل أين جواب " حتى إذا "؟ قلنا: فيه قولان: أحدهما - إنه محذوف، وتقديره امتحنتم. والآخر - على زيادة الواو والتقديم والتأخير، وتقديره حتى إذا تنازعتم في الامر، فشلتم - في قول الفراء -، كما قال (فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا ابراهيم)(1) ومعناه ناديناه، والواو زائدة.

ومثله (حتى إذا فتحت ياجوج وما جوج... واقترب)(2) ومعناه اقترب.

ومثله قوله: (حتى إذا جاؤها وفتحت)(3) وأنشد:

حتى إذا قملت بطونكم *** ورأيتم ابناء‌كم شبوا

قلبتم ظهر المجن لنا *** ان اللئيم العاجز الخب(4)

والبصريون لايجيزون زيادة الواو ويتأولون جميع ما استشهد به على الحذف لانه أبلغ في الكلام، وأحسن من جهة الايجاز.

وقوله: (ثم صرفكم عنهم) قيل في إضافة انصرافهم إلى الله مع أنه معصية قولان:

___________________________________

(1) سورة الصافات: آية 103 - 105.

(2) سورة الانبياء: آية 76 - 77.

(3) سورة الزمر: آية 73.

(4) قائلهما الاسود بن يعفر النهشلي وهو في اكثر الكتب غير منسوب معاني القران: للفراء 1: 107، 238 واللسان: (قمل) وتأويل مشكل القرآن 2 381.

المعانى الكبير: 533 واللسان: (وقب) قملت بطونكم: كثرت قبائلكم المجن: الترس.

الخب: المخادع.

[20]

أحدهما - إنهم كانوا فريقين منهم من عصى بانصرافه، ومنهم من لم يعص، لانهم قلوابعد انهزام تلك الفرقة، فانصرفوا باذن الله بأن التجأوا إلى أحد، لان الله إنما أوجب ثبات المائة للمئتين فادا نقصوا، لايجب عليهم ذلك. وجاز أن يذكر الفريقين في الجملة بأنه صرفهم، وبأنهم عفا عنهم، ويكون على ما بيناه في التفصيل هذا قول أبي علي.

وقال البلخي (ثم صرفكم عنهم) معناه لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم (ليبتليكم) بالمظاهرة في الانعام عليكم، والتخفيف عنكم.

وقوله (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين. إذ تصعدون) فاذ تصعدون متعلق بقوله: (ولقد عفا) في قول الزجاج.

وقال الجبائي قوله: (ولقد عفا عنكم) خاص لمن لم يعص بانصرافه، والاولى أن يكون عاما في جميعهم، لانه لايمتنع أن يكون الله عفا لهم عن هذه المعصية.

وقال البلخي: معناه (ولقد عفا عنكم) بتتبعهم بعد أن كان أمرهم بالتتبع لهم، فلمابلغوا حمراء الاسد أعفاهم من ذلك، ولايجوز أن يكون، صرفهم فعل الله، لانه قبيح والله تعالى لايفعل القبيح.

قوله تعالى: (إذ تصعدون ولاتلوون على أحد والرسول يدعوكم في اخراكم فاثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون(153))

آية.

القراء‌ة، والحجة، واللغة، والمعنى: التقدير اذكروا (إذ تصعدون) ويجوز أن يكون متعلقا بقوله: (ولقد عفا عنكم.. إذ تصعدون)، والقراء كلهم على ضم التاء من الاصعاد.

وقرأ الحسن بفتح التاء والعين من الصعود، وقيل: الاصعاد في مستوى الارض، والصعود في

[21]

ارتفاع يقال أصعدنا من مكة إذا ابتد أنا السفر منهاو كذلك أصعدنا من الكوفة إلى خراسان على قول الفراء، والمبرد، والزجاج. ووجه ذلك أن الاصعاد إبعاد في الارض كالابعاد في الارتفاع، وعلى ذلك تأويل (تصعدون) أي أصعدوا في الوادي يوم أحد عن قتادة، والربيع.

وقال ابن عباس والحسن انهم صعدوا في أحد في الجبل فرارا، فيجوز أن يكون ذلك بعد أن أصعدوا في الوادي.

وقوله (ولاتلوون على أحد) معناه لاتعرجون على أحد.

وقوله: (والرسول يدعوكم في أخراكم) قال ابن عباس والسدي، والربيع: إن النبي صلى الله عليه وآله كان يدعوهم، فيقول: ارجعوا أي عبادالله ارجعوا أنا رسول الله.

وقوله: (فاثابكم غما بغم) في معناه قولان: أحدهما - إنه إنما قيل في الغم ثواب، لان أصله ما يرجع من الجزاء على الفعل طاعة كان أو معصية ثم كثر في جزاء الطاعة كما قال الشاعر:

واراني طربا في إثرهم *** طرب الواله أو كالمختبل

فعلى هذا يكون الغم عقوبة لهم على فعلهم، وهزيمتهم.

والثاني - أن يكون وضع الشئ مكان غيره كماقال (فبشرهم بعذاب أليم)(1) أي ضعه موضع البشارة، كما قال الشاعر:

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه *** اداهم سودا او محدرجة سمرا(2)

أراد بقوله سودا قيودا.

وقيل في معنى قوله: (غما بغم) قولان: أحدهما - غما على غم، كما يقال: نزلت ببني فلان وعلى بني فلان.

وقال قتادة، والربيع: الغم الاول: القتل والجراح.

والثاني: الارجاف بقتل محمد صلى الله عليه وآله.

والقول الثاني - غما بغم أي مع غم كما يقال: ما زلت بزيد حتى فعل أي مع زيد.

___________________________________

(1) سورة الانبياء: 3، والتوبة آية: 35، والانشقاق آية: 24.

(2) قائله الفرزدق. ديوانه: 227، والنقائض: 618 وطبقات فحول الشعراء: 256، وتاريخ الطبري 6: 139، ومعاني القرآن للفراء 1: 239. وروايته مختلفة. وفي أغلب المصادر وهكذا: ولما خشيت أن يكون عطاؤه

[22]

وقال الحسن غما يوم أحد بعد غم يعني يوم بدر. أي كله للاستصلاح وان احتلف الحال.

وقال الحسين بن علي المغربي: معنى (غمابغم) يعني غم المشركين بماظهر من قوة المسلمين على طلبهم على حمراء الاسد، فجعل هذا الغم عوض غم المسلمين بمانيل منهم.

وقوله: (لكيلا تحزنوا على مافاتكم) معناه ما فاتكم من الغنيمة (ولاما أصابكم) من الهزيمة في قول ابن زيد.

واللام في قوله: (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: (عفا عنكم) (لكيلا تحزنوا على مافاتكم) ويحتمل أن يتعلق ب‍ (أثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) من الغنيمة ولا ما أصابكم من الشدة في طاعة الله، لان ذلك يؤديكم إلى مضاعفة الغم عليكم.

وقوله: (والله خبير بما تعملون) فيه تجديد تحذير بأنه لايخفى عليه شئ من أعمال العباد.

قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم مالا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور(154))

آية بلا خلاف.

القراء‌ة والمعنى والحجة والاعراب والقصة: قرأحمزة، والكسائي: تغشى بالتاء الباقون بالياء. فمن قرأ بالتذكير أراد

[23]

النعاس، ومن أنث أراد الامنة، ومثله (ألم يك نطفة من مني يمنى)(1) (وان شجرة الزقوم طعام الاثيم كالمهل يغلي)(2) بالتاء، والياء.

وقرأ أبوعمرو، وحده (إن الامر كله) بالرفع.

الباقون بالنصب، ووجه الرفع أنه على الابتداء، كما قال: (وكل اتوه داخرين)(3) ويكون (لله) خبره، لانه لما وقع الامر في الجواب اديت صورته في الاسم ثم جاء‌ت الفائدة في الخبر، ولانه نقيض بعض، فكما يجوز الرفع في (بعض) يجوز في (كل) نحو إن الامر بعضه لزيد. والنصب على أنه تأكيد للامر (وامنة) منصوب، لانه مفعول به، ونعاسا بدلا منه، والنعاس هو الامنة.

وهذه الامنة التي ذكرها الله في هذه الآية نزلت يوم أحد في قول عبدالرحمن ابن عوف وأبي طلحة، والزبير بن العوام، وقتادة، والربيع، وكان السبب في ذلك توعد المشركين لهم بالرجوع، فكانوا تحت الجحف متهيئين للقتال فأنزل الله تعالى الامنة على المؤمنين، فناموا دون المنافقين الذين أزعجهم الخوف بأن يرجع الكفار عليهم أو يغيروا على المدينة لسوء الظن، فطير عنهم النوم على ماذكره ابن اسحاق وابن زيد، وقتادة، والربيع.

وقوله: (يغشى طائفة منكم) يعني النعاس يغشى المؤمنين (وطائفة قد اهمتهم) القراء على الرفع.

والواو واو الحال كأنه قال: يغشى النعاس طائفة في حال ما أهمت طائفة منهم أنفسهم.

ورفعه بالابتداء، والخبر يظنون، ويصلح أن يكون الخبر (قد أهمتهم أنفسهم) والجملة في موضع الحال. ولايجوز النصب على أن يجعل واو العطف كما تقول ضربت زيدا وعمرا كلمته. والتقدير وأهمت طائفة أهمتهم أنفسهم.

المعنى: وقوله: (يقولون هل لنا من الامر من شئ) قيل في معناه قولان:

___________________________________

(1) سورة القيامة آية: 27.

(2) سورة الدخان: 43 - 45.

(3) سورة النمل آية: 87.

[24]

أحدهما - قال الحسن أخرجنا كرها، ولو كان الامر إلينا ماخرجنا. وذلك من قبل عبدالله بن أبي بن سلول، ومعتب بن قشير على قول الزبير بن العوام، وابن جريج.

والآخر - أي ليس لنا من الظفر شئ كما وعدنا على وجه التكذيب بذلك (يخفون في أنفسهم مالايبدون لك) أي من الشك، والنفاق، وتكذيب الوعد بالاستعلاء على أهل الشرك ذكره الجبائي.

وقوله: (وليبتلي الله ما في صدوركم) يحتمل أمرين: أحدهما - ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر لكم مظاهرة في العدل عليكم وإخراج مخرج كلام المختبر لهذه العلة، لانه تعالى عالم بالاشياء قبل كونها، فلا يبتلي ليستفيد علما.

والثاني - ليبتلي أولياء الله ما في صدوركم إلا أنه اضيف الابتلاء إلى الله عزوجل تفخيما لشأنه.

وقوله: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) يحتمل أمرين: أجدهما - لوتحلتفتم لخرج منكم الذين كتب عليهم القتل ولم يكن لينجيه قعودكم - عن أبي علي -.

الثاني - لوتخلفتم لخرج المؤمنون، ولم يتخلفوا بتخلفكم ذكره البلخي، ولايوجب ذلك أن يكون المشركون غير قادرين على ترك القتال من حيث علم الله منهم ذلك، وكتبه، لانه كما علم أنهم لايختارون ذلك بسوء اختيارهم علم انهم قادرون. ولو وجب ذلك لوجب أن لايكون تعالى قادرا على ماعلم أنه لايفعله وذلك كفر بالله.

قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم(155))

آية.

[25]

المعنى، واللغة: روي عن عمر بن الخطاب، وقتادة، والربيع: ان المعني بالمتولي في هذه الآية هم الذين ولوا الدبر عن المشركين بأحد.

وقال السدي: هم الذين هربوا إلى المدينة في وقت الهزيمة.

وقوله: (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) قيل في الكسب الذي أداهم إلى الفرار الذي اقترفوه قولان: أحدهما - محبتهم للغنيمة مع حرصهم على تبقية الحياة، وفي ذلك الوجه عما يؤدي إلى الفتور فيما يلزم من الامور على قول الجبائي. والثاني - ذكره الزجاج، استزلهم بذكر خطايا سلفت لهم، فكرهوا القتل قبل اخلاص التوبة منها، والخروج من المظلمة فيها.

وقوله: (ولقد عفا الله عنهم) يحتمل أمرين: أحدهما - قال ابن جريج، وابن زيد: حلم عنهم إذ لم يعاجلهم بالعقوبة به، ليدل على عظم تلك المعصية. والآخر - عفا لهم تلك الحطيئة ليدل على أنهم قد أخلصوا التوبة.

وقوله: (إن الله غفور رحيم) فحلمه تعالى عنهم هو امهاله بطول المدة بترك الانتقام مع مافعل بهم من ضروب الانعام. وأصل الحلم الاناة، وهي ترك العجلة، فالامهال بفعل النعمة بدلامن النقمة كالاناة بترك العجلة. ومنه الحلم في النوم، لان حال السكون والدعة كحال الاناة. ومنه الحلمة: رأس الثدي، لخروج اللبن الذي يحلم الصبي.

وذكر البلخي أن الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وآله يوم أحد فلم ينهزموا ثلاثة عشر رجلا: خمسة من المهاجرين: علي (ع) وأبوبكر، وطلحة، وعبدالرحمن ابن أبي عوف، وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الانصار. فعلي وطلحة، لاخلاف فيهما. والباقون فيهم خلاف.

[26]

وأما عمر، فروي عنه أنه قال: رأيتني أصعد في الجبل كأني أروى(1). وعثمان انهزم، فلم يرجع إلا بعد ثلاثة [ أيام ](2) فقال له النبي صلى الله عليه وآله: لقد ذهبت فيها عريضة.

وفي الآية دليل على فساد قول المجبرة: من أن المعاصي من الله، لانه تعالى نسب ذلك في الآية إلى استزلال الشيطان.

قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير(156))

آية.

المعنى، واللغة، والاعراب: هذا خطاب متوجه إلى المؤمنين الذين نهاهم الله أن يكونوا مثل الذين كفروا، وقالوا لاخوانهم، وهم عبدالله بن أبي بن سلول، وأصحابه - في قول السدي ومجاهد -: (إذا ضربوا في الارض) أي سافروا فيها لتجارة أو طلب معيشة - في قول ابن اسحاق، والسدي -، فأصله الضرب باليد.

وقيل الاصل في الضرب في الارض الايغال في السير (أو كانوا غرى) أي جمع غاز كما قالوا: شاهد وشهد، وقائل وقول، قال رؤبة:

فاليوم قد نهنهني تنهنهي *** وأول حلم ليس بالمسفه

وقول: الاده فلاده(3)

___________________________________

(1) اروى: ضأن الجبل. ج أروية - بضم الهمزة وكسرها -.

(2) (ايام) ساقطة من المطبوعة.

(3) ديوانه: 166 ومجاز القرآن لابي عبيدة 1: 106 واللسان: (قول)، (ده) وخزانة الادب 3: 90 وغيرها وهو من قصيدة يذكر فيها شبابه. نهنهت فلانا عن الشئ فتنهنه زجرته فانزجر.

والاول: الرجوع وقد اختلف في تفسير (الاده فلاده).

قال أبوعبيدة: ان لم يكن هذا، فلا ذاوقال ابن قتية: ان لم يكن هذاالامر لم يكن غيره. ويروي أهل العربية ان الدال مبدلة من ذال.

قال بعضهم: هذا مثل يضرب للرجل يطلب شيئا فاذا منعه، طلب غيره.

وقال الاصمعي: لا أدري ما أصله.

قال بعضهم: (ده) كلمة فارسية:

[27]

ويجوز فيه غزاة كقاض، وقضاة. وغزاء ممدود كمخارب وخراب، وكاتب وكتاب.

ويجوز (قالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الارض،) ولايجوز اكرمتك إذا زرتني على أن توقع إذا موضع إذ، لامرين: أحدهما لانه متصل ب‍ (لاتكونوا) كهؤلاء إذا ضرب اخوانكم في الارض. الثاني - لان (الذي) إذا كان مبهما غير موقت يجري مجرى ما في الجزاء، فيقع الماضي فيه.

وقع المستقبل، نحو (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله)(1) معناه يكفرون، ويصدون. ومثله (إلا من تاب وآمن)(2) معناه إلامن يتوب. ومثله كثير. ويجوز لاكرمن الذي أكرمك إذا زرته، لابهام الذي، ولايجوز لاكرمن هذا الذي أكرمك إذا زرته، لتوقيت الذي من أجل الاشارة إليه بهذا ولانه دخله معنى كلما ضربوا في الارض، فلا يصح على هذاالمعنى إلا باذا دون إذ قال الشاعر:

واني لاتيكم تشكر ما مضى *** من الامر واستيجاب ما كان في غد(3)

أي مايكون في غد، وهذا قول الفراء واللام في قوله: (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) متعلقة ب‍ (لاتكونوا) كهؤلاء الكفار في هذا القول منهم، (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) دونكم.

والثاني - قالوا ذلك ليجعله حسرة على لام العاقبة - وهذا قول أبي علي - والحسرة عليهم في ذلك من وجهين: أحدهما - الخيبة فيما أملوا من الموافقة لهم من المؤمنين، فلما لم يقبلوا منهم،

___________________________________

(1) سورة الحج: آية 25.

(2) سورة مريم: آية 60.

(3) انظر 1: 351.

[28]

كان ذلك حسرة في قلوبهم. والآخر - ما فاتهم من عز الظفر والغنيمة.

وقوله: (والله يحيي ويميت) معناه ههنا الاحتجاج على من خالف أمرالله في الجهاد طلبا للحياة، وهربا من الموت، لان الله تعالى إذا كان هو الذي يحيي ويميت لم ينفع(1) الهرب من أمره بذلك خوف الموت، وطلب الحياة (والله بما يعملون بصير) أي مبصر. ويحتمل أن يكون بمعنى عليم. وفيه تهديد، لان معناه أن الله يجازي كلا منهم بعمله ان خيرا فحيرا وان شرا فشرا.

قوله تعالى: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون(157))

آية.

المعنى، والاعراب: إن قيل كيف قال: (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) مع تفاوت مابينهما ألا ترى أنه لايحسن أن يقول الانسان للدرة(2) خير من البعرة؟ ! قيل: إنما جاز ذلك لان الناس يؤثرون حال الدنيا على الآخرة حتى أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله محبة للدنيا، والاستكثار منها، وماجمعوا فيها.

فان قيل أين جواب الجزاء ب‍ (إن)؟ قيل: استغني عنه بجواب القسم في قوله: (لمغفرة من الله ورحمة خير) وقد اجتمع شيئان كل واحد منهما يحتاج إلى جواب، فكان جواب القسم أولى بالذكر - لان له صدر الكلام - مما يذكر في حشوه.

___________________________________

(1) في المخطوطة (لم يمنع).

(2) في المخطوطة (الذرة).

[29]

فان قيل: لم شرط (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) وهو خير كيف تصرفت الحال؟ قلنا: لانه لايكون (لمغفرة) بالتعرض للقتل في سبيل الله خيرا من غير أن يقع التعرض لذلك لاستحالة استحقاقها بما لم يكن منه، لانه لم يفعل.

فان قيل: لم جاز جواب القسم مع الماضي في الجزاء دون المستقبل في نحو قولهم لئن قتلتم لمغفرة خير؟ قلنا: لان حرف الجزاء إذا لم يعمل في الجواب لم يحسن أن يعمل في الشرط، لان إلغاء‌ه من أحدهما يوجب ألغاء‌ه من الآخر كما أن اعماله في أحدهما يوجب اعماله في الآخر لئلا يتنافر الكلام بالتفاوت.

فان قيل: لم أعملت (ان) ولم تعمل (لو) وكل واحدة منهما تعقد الفعل بالجواب؟ قلنا: لان (ان) تنقل الفعل نقلين إلى(1) الاستقبال، والجزاء، وليس كذلك (لو) لانها لمامضى.

ان قيل: كيف وجب بالتعرض للقتل المغفرة وإنما تجب بالتوبة؟ قلنا: لانه يجب به تكفير الصغيرة مع أنه لطف في التوبة من الكبيرة.

ومعنى الآية أن المنافقين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد، على ماتقدم شرحه في هذه السورة فبين الله تعالى لو انكم إن قتلتم أو متم من غير أن تقتلوا (لمغفرة من الله ورحمة) تنالونهما (خير مما يجمعون) من حطام الدنيا، والبقاء فيها، وانتفاعكم في هذه الدنيا، لان جميع ذلك إلى زوال.

قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم لالى الله تحشرون(158))

آية.

اللغة، والاعراب، والمعنى: اللام في قوله: (ولئن متم أو قتلتم) يحتمل أمرين: أحدهما - أن يكون خلفا من القسم، ويكون اللام في قوله: (لالى الله) جوابا كقولك: والله ان متم أوقتلتم لتحشرون إلى الله.

___________________________________

(1) في المطبوعة (في) بدل (إلى)

[30]

والثاني - أن تكون مؤكدة لما بعدها، كماتؤكد (ان) مابعدها، وتكون الثانية جوابا لقسم محذوف، والنون مع لام القسم في فعل المضارع لابد منها، لان القسم أحق بالتأكيد من كلما تدخله النون من جهة أن ذكر القسم دليل أنه من مواضع التأكيد فاذا جازت في غيره من الامر، والنهي، والاستفهام، والعرض، والجزاء مع ما اذ كان ذكرالقسم قد أنبأأنه من مواضع التأكيد، لزمت فيه، لانه أحق بها من غيره(1).

والفرق بين لام القسم ولام الابتداء: أن لام الابتداء تصرف الاسم إليه، فلايعمل فيه ماقبلها نحو (قد علمت لزيد خير منك) (وقد علمت بأن زيدا ليقدم).

وليس كذلك لام القسم، لانها لاتدخل على الاسم، ولاتكسر لها لام (إن) نحو قد علمت ان زيدا ليقومن، ويلزمها النون في المستقبل. والفرق بين (أو) و (أم) أن (أم) استفهام، وفيها معادلة الالف نحو (أزيد في الدار أم عمرو) وليس ذلك في (أو) ولهذا اختلف الجواب فيهما، فكل في (أم) بالتعيين وفي (أو) ب‍ (نعم) أو (لا) ومعنى الآية الحث على الجهاد وترك التقاعد. ويقال أن الله يحشر العباد ليجزي كل واحد على مايستحقه: المحسن على احسانه والمسئ على اساء‌ته سواء قتل أو مات كيف تصرفت به الحال.

قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين(159))

آية.

___________________________________

(1) في المخطوطة (لم لان الاخر من تفسير) بدل (فيه لانه أحق بها من غير) وقد أثبتنا ما في المطبوعة لانه أوضح.

[31]

الاعراب والمعنى: قوله: (فبمارحمة من الله) معناه فبرحمة، وما زائدة باجماع المفسرين ذهب إليه قتادة، والزجاج، والفراء وجميع أهل التأويل. ومثله قوله: (عماقليل ليصبحن نادمين) فجاء‌ت (ما) مؤكدة للكلام وسبيل دخولها لحسن النظم، كدخولها لاتزان الشعر، وكل ذلك تأكيد ليتمكن المعنى في النفس، فجرى مجرى التكرير.

قال الحسن بن علي المغربي عندي أن معنى (ما) أي وتقديره فبأي رحمة من الله، وهذا ضعيف. ورحمة مجرورة بالباء، ولو رفعت كان جائزا على تقدير فيما هورحمة. والمعنى ان لينك لهم ممايوجب دخولهم في الدين، لانك تأتيهم بالحجج والبراهين مع لين خلق.

اللغة، والمعنى: وقوله: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوامن حولك) فالفظ الجافي، والغليظ القلب القاسي، يقال فيه فظظت تفظ فظاظة، فأنت فظ، وهو على وزن فعل إلا أنه ادغم كضب. وأصل الفظاظة الجفوة. ومنه الفظاظة.

ومنه الفظاظ: خشونة الكلام.

والافتظاظ: شرب ماء الكرش لجفائه على الطباع.

وقوله: (فظا غليظ القلب) انما جمع بين الصفتين مع اتفاقهما في المعنى، لازالة التوهم أن الفظاظة في الكلام دون ما ينطوي عليه القلب من الحال، وهو وجه من وجوه التأكيد إذ يكون لازالة الغلط في التأويل، ولتمكين المعنى في النفس بالتكرير، ومايقوم مقامه.

وقوله: (وشاورهم في الامر) أمر من الله تعالى لنبيه أن يشاور أصحابه يقال شاورت الرجل مشاورة وشوارا ومايكون عن ذلك اسمه المشورة. وبعضهم يقول المشورة. وفلان حسن الشورة، والصورة أي حسن الهيئة واللباس وإنه لشير صير، وحسن الشارة، والشوار: متاع البيت. ومعنى شاورت فلانا أي

[32]

أظهرت ماعندي في الرأي، وما عنده(1). وشرت الدابة أشورها: إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها.

وقيل في وجه مشاورة النبي صلى الله عليه وآله إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال:

أحدها - قال قتادة، والربيع، وابن اسحاق أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم، والتأليف لهم، والرفع من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله: (ويرجع إلى رأيه).

والثاني - قال سفيان بن عيينه: وجه ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة ولا يرونها منزلة نقيصة كما مدحوا بأن أمرهم شورى بينهم.

الثالث قال الحسن، والضحاك: انه للامرين، لاجلال الصحابة واقتداء الامة به في ذلك.

وأجاز أبوعلي الجبائي: أن يستعين برأيهم في بعض أمور الدنيا.

وقال قوم: وجه ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح في مشورته من الغاش النية.

وقوله: (فاذا عزمت فتوكل على الله) فالتوكل على الله هو تعويض الامر إليه للثقة بحسن تدبيره، وأصله الاتكال، وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه بمن يسندإليه. ومنه الوكالة، لانها عقدعلى الكفاية بالنيابة والوكيل هو المتكل عليه بتفويض الامر إليه.

وقوله: (إن الله يحب المتوكلين) معناه يريد ثوابهم على توكلهم واسنادهم أمورهم إلى الله تعالى.

___________________________________

(1) في المخطوطة ساقطة جملة (في الرأي وماعنده).

الآية: 160 - 169

قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون(160))

آية بلاخلاف.

المعنى: معنى هذه الآية الترغيب في طاعة الله التي يستحق بها النصرة، والتحذير

 [33]

من معصيته التي يستحق بها خذلانه مع ايجاب التوكل عليه الذي يؤمن معه أن يكلهم إلى أنقسهم فيهلكوا، ولانه إذا نصرهم الله فلا أحد يقدر على مغالبته، وإذا خذلهم فلا أحد يقدر على نصرتهم بعده.

و (من) في قوله: (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) معناها التقرير بالنفي في صورة الاستفهام أي لاينصركم أحد من بعده، كماتقول من يعد لك إن فسقك الامام. وإنما تضمن حرف الاستفهام معنى النفي، لان جوابه يجب أن يكون بالنفي، فصار ذكره يغني عن ذكر جوابه. وكان أبلغ لتقرير المخاطب فيه.

قال أبوعلي الجبائي: وفي الآية دليل على أن من غلبه أعداء الله من الباغين لم ينصره الله، لانه لو نصره لما غلبوه، وذلك بحسب ما في المعلوم من مصالح العباد من تعريض المؤمنين لمنازل الابرار بالصبر على الجهاد مع خوف القتل من حيث لم يجعل على أمان من غلبة الفجار، وهذا إنما هو في النصر بالغلبة، فاما النصر بالحجة، فان الله تعالى نصر المؤمنين من حيث هداهم إلى طريق الحق بما نصب لهم من الادلة الواضحة والبراهين النيرة، ولولا ذلك لماحسن التكليف.

قال البلخي: المؤمنون منصورون أبدا إن غلبوا، فهم المنصورون بالغلبة، وان غلبوا، فهم المنصورون بالحجة.

قال الجبائي: والنصر بالغلبة ثواب، لانه لايجوز أن ينصرالله الظالمين من حيث لايريد استعلاء‌هم بالظلم على غيرهم.

وقال ابن الاخشاد: ليس بثواب كيف تصرفت الحال، لان الله قد أمرنا أن ننصر الفئة المبغي عليها.

وقال البلخي لايجوز أن ينصرالله الكافر على وجه.

فأما الخذلان فعقاب بلاخلاف. والخذلان هو الامتناع من المعونة على العدو في وقت الحاجة إليها، لانه لو امتنع إنسان من معونة بعض الملوك على عدوه مع استغنائه عنها لم يكن خاذلا، وكذلك سبيل المؤمن المغلوب في بعض الحروب ليس يحتاج إلى المعونة مع الاستفساد بها بدلا من الاستصلاح، فلذلك لم يكن ماوقع به على جهة الخذلان.

[34]

قوله تعالى: (وماكان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ماكسبت وهم لايظلمون(161))

آية.

القراء‌ة، والمعنى، والحجة، والنزول، واللغة: قرأ ابن كثير وابن عمرو، وعاصم (يغل) بفتح الياء وضم الغين. الباقون بضم الياء وفتح الغين. فمن قرأ بفتح الياء وضم الغين، فمعناه ماكان لنبي أن يخون يقال من الغنيمة غل يغل: إذا خان فيها.

ومن الخيانة أغل يغل قال النمر بن تولب:

جزى الله عنا حمزة ابنة نوفل *** جزاء مغل بالامانة كاذب

بما سألت عني الوشاة ليكذبوا *** علي وقد أوليتها في النوائب(1)

[ ويقال من ](2) الخيانة غل يغل، ومن قرأبضم الياء وفتح الغين أراد، وماكان لنبي أن يخون أي ينسب إليه الخيانة. ويحتمل أن يكون أراد ما كان لنبي أن يخان بمعنى يسرق منه. ويكون تخصيص النبي بذلك تعظيما للذنب.

قال أبوعلى الفارسى: لايكاد يقال: ما كان لزيد أن يضرب، فهذه حجة من قرأ بفتح الياء.

وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير: سبب نزول هذه الآية أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغنم، فقال بعضهم لعل النبي صلى الله عليه وآله أخذها.

وقال الضحاك إنما لم يقسم للطلائع من المغنم، فعرفه الله الحكم.

وروي عن الحسن أنه قال: معنى يغل يخان.

وقال بعضهم: هذا غلط، لانه لايجوز أن يخان أحد نبيا كان أو غيره، فلا معنى للاختصاص. وهذا الطعن ليس بشئ لان وجه اختصاصه بالذكر لعظم خيانته على خيانة غيره، كماقال: (اجتنبوا الرجس من الاوثان)(3) وإن وجب اجتناب جميع الارجاس، وقد يجوز أن يخص النبي بالذكر، لانه القائم

___________________________________

(1) الصحاح للجوهر (غلل).

(2) مابين القوسين ساقط من المطبوعة.

(3) سورة الحج: آية 30

[35]

بأمر الغنائم، فيكون بمنزلة ماكان لاحد أن يغل. وأصل الغلول هو الغلل، وهو دخول الماء في خلل الشجر تقول: الغل الماء في أصول الشجر ينغل الغلالا، فالغلول الخيانة، لانها تجري في الملك على خفى من غير الوجه الذي يحل كالغلل، وانما خصت الخيانة بالصفة دون السرقة، لانه يجري إليها بسهولة، لانها مع عقد الامانة.

ومنه الغل الحقد، لان العداوة تجري به في النفس كالغلل. ومنه الغل.

ومنه الغليل، حرارة العطش.

والغلة، لانها تجري في الملك من جهات مختلفة، والغلالة، لانها شعار تحت. البدن والغلالة مسمار الدرع.

وقوله: (ومن يغلل يأت بماغل يوم القيامة) قيل في معناه قولان: أحدهما - يأتي به حاملا له على ظهره، كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان إذا غنم مغنمابعث مناديا ألا لا يغلن أحد مخيطا فما دونه، ألالايغلن أحد بعيرا فيأتي به على ظهره له رغاء، ألالايغلن أحد فرسا فيأتي به يوم القيامة على ظهره له حمحمة - في قول ابن عباس، وأبي هريرة وأبي حميد الساعدي، عبدالله بن انيس وابن عمر، وقتادة - وذلك ليفضح به على رؤوس الاشهاد.

قال البلخي: يجوز أن يكون ما تضمنه الخبر على وجه المثل كأن الله تعالى إذا فضحه يوم القيامة جرى ذلك مجرى أن يكون حاملا له وله صوت. الثاني - يأتي به يوم القيامة، لانه لم يكفر عنه، كما تكفر الصغائر، فهو يعاقب عليه. وفي الآية دلالة على فساد قول المجبرة: إن الله تعالى لو عذب الانبياء والمؤمنين لم يكن ظلما لهم، لانه قد بين أنه لو لم يوفها ماكسبت، لكان ظلما لها.

قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير(162))

آية بلاخلاف.

[36]

المعنى، والنزول: قيل. في معنى الآية ثلاثة أقوال:

أحدها قال الحسن، والضحاك معناها، أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كمن باء بسخط من الله في فعل الغلول، وهو اختيار الطبري قال: لانه أشبه بما تقدم.

الثاني - قال ابن اسحاق (أفمن اتبع رضوان الله) في العمل بطاعته على ماكره الناس (كمن باء بسخط من الله) في العمل بمعصيته على ما أحبوا.

الثالث - قال الزجاج، وأبوعلي: (أفمن اتبع رضوان الله) بالجهاد في سبيله (كمن باء بسخط من الله) بالفرار منه رغبة عنه.

وسبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وآله لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

اللغة: (ورضوان الله) - بكسر الراء وضمها - لغتان، وقرأ بالضم حفص عن عاصم على ماحكيناه عنه، فالضم على وزن الكفران. والكسر على وزن حسبان.

وباء معناه رجع تقول: باء بذنبه يبوء بوء‌ا إذا رجع به.

وبوأته منزلا أي هيأته، لانه يرجع إليه، لانه مأواه.

والبواء قتل الجائي بمن قتله. والسخط من الله من هو إرادة العقاب بمستحقه، ولعنه وهو مخالف للغيظ، لان الغيظ هو هيجان الطبع وانزعاج النفس، ولايجوز اطلاقه على الله تعالى.

والمصير: هوالمرجع.

والفرق بينهما أن المرجع هوانقلاب الشئ إلى حال قد كان عليها.

والمصير: انقلاب الشئ إلى خلاف الحال التي هو عليها نحو مصير الطين خزفا، ولم يرجع خزفا، لانه لم يكن قبل ذلك حزفا، فأما مرجع الفضة خاتما فصحيح، لانه قد كان قبل خاتما وأمامرجع العباد إلى الله، فلانهم ينقلبون إلى حال لايملكون فيها لانفسهم شيئا، كما كانوا قبل ماملكوا.

[37]

قوله تعالى: (هم درجات عندالله والله بصيربما يعملون(163))

آية

المعنى: قيل معنى قوله: (هم درجات عندالله) أن تقديره المؤمنون ذووا درجة رفيعة عندالله. والكفار ذووا درجة خسيسة. وقيل في معناه قولان:

أحدهما - اختلاف مراتب كل فريق من أهل الثواب، والعقاب، لان النار أدراك لقوله: (إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار)(1) والجنة طبقات بعضهاأعلى من بعض، كماروي أن أهل الجنة ليرون أهل عليين(2)، كما يرى النجم في أفق السماء.

والثاني - اختلاف مرتبتي أهل الثواب، والعقاب بمالهؤلاء من النعيم، والكرامة ولاولئك من العذاب والمهانة. وعبر عن ذلك بدرجات مجازا.

فان قيل كيف قال: (هم درجات) وانما لهم درجات) وانما لهم درجات قيل، لان اختلاف أعمالهم قد ميزهم بمنزلة المختلفي الذوات كاختلاف مراتب الدرجات لتبعيدهم من استواء الاحوال، فجاء هذا على وجه التجوز، كماقال ابن هرمة انشده سيبويه -:

أنصب للمنية تعتريهم *** رجالي أم هم درج السيول(3)

وقوله: (والله بصير بمايعملون) معناه عليم. وفيه تحذير من أن يتكل على الاسرار في الاعمال ظنا بأن ذلك يخفى على الله، لان أسرار العباد عند الله علانية. وفيه توثيق بأنه لايضيع للعامل لربه شئ لانه لايخفى عليه جميعه.

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 144.

(2) في المخطوطة (أ) كما روي أن أهل الجنة ليرون أهل النار يطلعون عليهم فيرونهم كما يرى النجم في افق السماء. والاصح مافي المطبوعة.

(3) سيبويه 1: 206، واللسان (درج) ومجاز القرآن لابي عبيدة 1: 107 والخزانة 1: 203 وقد رواه بعضهم:

أرجما للمنون يكون قومي *** لريب الدهر أم درج السيول

[38]

اللغة، والحجة: وأصل الدرجة الرتبة، فمنه الدرج، لانه يطوى رتبة بعد رتبة يقال: أدرجه إدراجا.

والدرجان مشي الصبي لتقارب الرتب، درج يدرج درجا ودرجانا. والدرج معروف.

والترقي في العلم درجة بعد درجة أي منزلة بعد منزلة كالدرجة المعروفة.

فان قيل هلا كان القرآن كله حقيقة، ولم يكن فيه شئ من المجاز، فان الحقيقة أحسن من المجاز؟ قلنا: ليس الامر على ذلك فان المجاز في موضعه أولى، وأحسن من الحقيقة لمافيه من الايجاز من غير اخلال بمعنى، وهي المبالغة بالاستعارة التي لاتنوب منابها الحقيقة، لان قولهم إذ هو الشمس ضياء أبلغ في النفوس من قولهم هو كالشمس ضياء، كذلك الجزاء بالجزاء أحسن من الجزاء بالابتداء، لانه أدل على تقابل المعنى بتقابل اللفظ، فكذلك (هم درجات) أولى وأبلغ من هم أهل درجات، للايجاز من غير اخلال.

قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين(164))

آية.

اللغة، والمعنى: قوله: (لقد من الله) معناه أنعم الله. وأصل المن القطع. منه يمنه منا: إذا قطعه.

(ولهم أجر غير ممنون)(1) أي غير مقطوع. والمن النعمة، لانه يقطع بها عن البلية.

ويقول القائل: من علي بكذا أي استنقذني به مما أنا فيه. والمن تكدير النعمة، لانه قطع لها عن وجوب الشكر عليها. والمنة القوة، لانه

___________________________________

(1) سورة حم السجدة: آية 8 وسورة الانشقاق: آية 25.

[39]

يقطع بها الاعمال. وفي تخصيص المؤمن بذكر هذه النعمة وإن كانت نعمة على جميع المكلفين قيل فيه من حيث أنها على المؤمنين أعظم منها على الكافرين، لانها نعمة عليهم من حيث هي نفع في نفسها. وفيما يؤدي إليه من الايمان بها، والعمل بما توجبه أحكامها، فالمؤمن يستحق اضافتها إليه من وجهتين، لما بيناه من حالها، ونظائر ذلك قد بيناه مثل قوله: (هدى للمتقين) وغير ذلك وإنما أضافه إلى المتقين من حيث أنهم المنتفعون بها دون غيرهم.

وقوله: (إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) قيل فيه ثلاثة أقوال:

أحدها من أنفسهم ليكون ذلك شرفا لهم، فيكون ذلك داعيا لهم إلى الايمان.

الثاني - من أنفسهم، لسهولة تعلم الحكمة عليهم، لانه بلسانه.

الثالث - من أنفسهم، ليتيسر عليهم علم أحواله من الصدق والامانة والعفة والطهارة.

وقال الزجاج: من عليهم إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم من الاميين، لايتلو كتابا ولايخط بيمينه، فنشأ بين قوم يخبرونه ويعرفونه بالصدق والامانة وأنه لم يقرأكتابا ولا لقنه، فتلا عليهم أقاصيص الامم السالفة، فكان ذلك من أدل دليل على صدقة فيما أتى به.

وقوله: (يتلو عليهم آياته) معناه يقرأ عليهم ما أنزله عليه من آيات القرآن (ويزكيهم) يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها - يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين، فيصيروا بهذه المنزلة الرفيعة في الخلق.

الثاني - يدعوهم إلى مايكونون به زاكين سالكين سبيل المهتدين.

الثالث - قال الفراء يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها.

وقوله: (ويعلمهم الكتاب والحكمة) يعني القرآن، وهو الحكمة. وإنما كرره بواو العطف لامرين: أحدهما - قال قتادة: الكتاب القرآن، والحكمة السنة. والثاني - لاختلاف فائدة الصفتين، وذلك أن الكتاب ذكر للبيان أنه مما يكتب ويخلد ليبقى على الدهر، والحكمة البيان عما يحتاج إليه من طريق المعرفة.

[40]

وقوله: (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) يعني أنهم كانوا كفارا. وكفرهم هو ضلالهم فأنقذهم الله بالنبي صلى الله عليه وآله.

قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير(165))

آية واحده

المعنى: إنما دخلت الواو في (أولما أصابتكم) لعطف جملة على جملة إنه تقدمها ألف الاستفهام، لان له صدر الكلام. وإنما اتصل الواو الثاني بالاول ليدل على تعلقه به في المعنى، وذلك أنه وصل التقريع على الخطيئة بالتذكير بالنعمة لفرقة واحدة. والمصيبة التي أصابت المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد، فانه قتل منهم سبعون رجلا وكانواهم أصابوا من المشركين يوم بدر مثليها، فانهم كانوا قتلوا من المشركين سبعين وأسروا منهم سبعين في - قول قتادة، والربيع، وعكرمة، والسدي - فقال الزجاج: لانهم أصابوا يوم أحد منهم مثلهم، ويوم بدر مثلهم، فقد أصابوا مثليهم. وهذا ضعيف، لانه خلاف لاهل السير، لانه لاخلاف أنه لم يقتل من المشركين مثل من قتل من المسلمين بل قتل منهم نفر يسير، فحمله على ما قاله ترك الظاهر.

وقوله: حكاية عن المسلمين (أنى هذا) أي من أين هذا.

وقوله: (قل هو من عند أنفسكم) قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها - قال قتادة، والربيع: لانهم اختلفوا في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد وكان دعاهم النبي صلى الله عليه وآله إلى أن يتحصنوا بها ويدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها، فقالوا كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية، ونحن في الاسلام، وأنت يارسول الله نبينا أحق بالامتناع وأعز.

[41]

والثاني - روي عن علي (ع) وعبيدة السلماني أن الحكم كان في أسرى بدر القتل، فاختاروا هم الفداء، وشرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم، فقالوا رضينا بذلك، فانا نأخذ الفداء وننتفع به. وإذا قتل منافيما بعد كنا شهداء. وهو المروي عن أبي جعفر (ع).

الثالث - لخلاف الرماة يوم أحد لما أمرهم به النبي صلى الله عليه وآله من ملازمة موضعهم.

وقوله: (إن الله على كل شئ قدير) معناه ههنا أنه على كل شئ قدير يدبركم بأحسن التدبير من النصر مع طاعتكم وتركه مع المخالفة إلى ما وقع به النهي، وهذا جواب لقوله: (أنى هذا) وقد تقدم الوعد بالنصرة، وفي الآية دلالة على فساد مذهب المجبرة: بان المعاصي كلها من فعل الله، لانه تعالى قال (قل هو من عند أنفسكم) ولولم يكن فعلوه، لما كان من عند أنفسهم كما أنه لو فعله الله، لكان من عنده.

قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله وليعلم المؤمنين(166))

آية .

المعنى: قوله: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان) يعني يوم أحد وما دخل عليهم من المصيبة بقتل من قتل من المؤمنين.

وقوله: (فباذن الله) قيل في معناه قولان: أحدهما - بعلم الله. ومنه قوله: (فاذنوا بحرب من الله)(1) معناه اعلموا ومنه قوله: (وآذان من الله)(2) أي إعلام. ومنه (أذناك ما منا من شهيد)(3) يعني أعلمناك.

الثاني - أنه بتخلية الله التى تقوم مقام الاطلاق في الفعل برفع الموانع،

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 279.

(2) سورة التوبة: آية 3.

(3) حم السجدة: آية 47.

[42]

والتمكين من الفعل الذي يصح معه التكليف. ولايجوز أن يكون المراد به بأمر الله، لانه خلاف الاجماع، لان أحدا لايقول: إن الله يأمر المشركين بقتل المؤمنين، ولاانه يأمر بشئ من القبائح، ولان الامر بالقبيح قبيح، لايجوز أن يفعله الله تعالى. ويمكن أن يحمل مع تسليم أنه بأمر الله بأن يكون ذلك مصروفا إلى المنهزمين المعذورين بعد اخلال من أخل بالشعب، وضعفهم عن مقاومة عدوهم، وان حمل على الجميع أمكن أن يكون ذلك بعد تفرقهم وتبدد شملهم وانفساد نظامهم، لان عند ذلك أذن الله في الرجوع وألا يخاطروا بنفوسهم.

وقوله: (وليعلم المؤمنين) ليس معناه أن الله يعلم عند ذلك ما لم يكن عالما به، لانه تعالى عالم بالاشياء قبل كونها وإنما معناه، وليتميز المؤمنون من المنافقين إلا أنه أجرى على المعلوم لفظ العلم مجازا على المظاهرة في المجازاة بالقول على مايظهر من الفعل من جهة أنه ليس يعاملهم بمافي معلومه أنه يكون منهم إن بقوا، بل يعاملهم معاملة من كأنه لايعلم ما يكون منهم حتى يظهر. ليكونوا على غاية الثقة بأن الله إنما يجازي بحسب ما وقع من الاحسان أو الاساء‌ة.

فان قيل: هل يجوز أن يقول القائل: المعاصي تقع باذن الله، كما قال: (ما أصابكم) من ايقاع المشركين بكم (باذن الله)؟ قلنا: لايجوز ذلك لان الله تعالى إنما خاطبهم بذلك على وجه التسلية للمؤمنين، فدل ذلك على أن الاذن المراد به التمكين ليتميزوا بظهور الطاعة منهم.

وليس كذلك قولهم: المعاصي باذن الله، لانه لما عري من تلك القرينة صار بمعنى اباحة الله، والله تعالى لايبيح المعاصي، لانها قبيحة، ولان إباحتها تخرجها من معنى المعصية. والفاء انما دخلت في قوله: (فبأذن الله) لان خبر (ما) التي بمعنى الذي يشبه جواب الجزاء، لانه معلق بالفعل في الصلة كتعليقه بالفعل في الشرط، كقولك الذي قام فمن أجل أنه كريم أي، لاجل قيامه صح أنه كريم. ومن أجل كرمه قام. وقد قيل أن (ما) هي بمعنى الجزاء، ولايصح ههنا لان الفعل بمعنى المضي.

[43]

قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون(167))

آية بلا خلاف.

المعنى: قوله: (وليعلم الذين نافقوا) عطف على قوله: (وليعلم المؤمنين) وقيل في خبر ليعلم قولان: أحدهما - أنه مكتف بالاسم، لانه بمعنى ليعرف المنافقين. والثاني - أنه محذوف، وتقديره: وليعلم المنافقين متميزين من المؤمنين.

وقوله: (وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله) روي أن القائل لهم ذلك كان عبدالله بن عمروبن خزام يذكرهم الله ويحذرهم أن يخذلوا نبيه عند حضور عدوه - في قول ابن اسحاق والسدي -.

وقوله: (أو ادفعوا) قيل في معناه قولان: أحدهما - قال السدي، وابن جريج: ادفعوا بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا. الثاني - قال ابن عون الانصاري: معناه رابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا معنا.

وقوله: (قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم) قال ابن اسحاق، والسدي ان القائل لذلك عبدالله بن أبي بن سلول، انخزل يوم أحد بثلاثمائة نفس، قال لهم علام نقتل أنفسنا ارجعوابنا، وقالوا للمؤمنين لايكون بينكم قتال، ولو علمنا أنه يكون قتال لخرجنا معكم وأضمروا في باطنهم عداوة النبي صلى الله عليه وآله، والمؤمنين، فقال الله تعالى: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان) لانهم بهذا الاظهار إلى الكفر أقرب منهم للايمان إذ كانوا قبل ذلك في ظاهر أحوالهم إلى الايمان أقرب

[44]

حتى هتكوا أنفسهم عندمن كانت تخفى عليه حالهم من المؤمنين الذين كانوا يحسنون الظن بهم، وليس المراد أن بينهم وبين المؤمنين قربا يوجب دخول لفظة أفعل بينهم.

وانما هومثل قول القائل: - وهو صادق - لمن هو كاذب: أناأصدق منك، وإن لم يكن بينهما مقاربة في الصدق.

وقوله: (يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم) انما ذكر الافواه، وإن كان القول لايكون إلا بالافواه لامرين: أحدهما - للتأكيد من حيث يضاف القول إلى الانسان على جهة المجاز، فيقال: قد قال كذا: إذاقاله غيره ورضي به، وكذلك (يكتبون الكتاب بأيديهم)(1) أي يتولونه على غير جهة الامر به. والثاني - لانه فرق بذكر الافواه بين قول اللسان وقول الكتاب.

وقوله: (والله أعلم بما يكتمون) يعني أعلم من الكافرين الذين قالوا: لايكون قتال، وما كتموه في نفوسهم من النفاق.

قوله تعالى: (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين(168))

آية.

الاعراب: موضع الذين يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب:

أحدها - أن يكون نصباعلى البدل من الذين نافقوا.

الثاني - الرفع على البدل من الضمير في يكتمون.

الثالث - الرفع على خبر الابتداء، وتقديره: هم (الذين قالوا لاخوانهم)

___________________________________

(1) سورة البقرة: آية 79.

[45]

المعنى: والمعني بهذا الكلام والقائلون لهذا القول عبدالله بن أبي وأصحابه من المنافقين قالوه في قتلى يوم أحدمن أخوانهم على قول جابربن عبدالله، وقتادة، والسدي، والربيع - وقوله: (قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين) معناه ادفعوا قال الشاعر:

تقول إذا درأت لها وضيني *** أهذا دينه أبدا وديني(1)

فان قيل كيف يلزمهم دفع الموت عن أنفسهم بقولهم أنهم لو لم يخرجوا لم يقتلوا؟ قيل لان من علم الغيب في السلامة من القتل يجب أن يمكنه أن يدفع عن نفسه الموت فليدفعه، فهو، أجدى عليه.

فان قيل: كيف كان هذا القول منهم كذبا مع أنه اخبار على ماجرت به العادة؟ قلنا: لانهم لايدرون لعلهم لو لم يخرجوا لدخل المشركون عليهم في ديارهم، فقتلوهم هذا قول أبي علي وقال غيره معنى (إن كنتم صادقين) أي محقين في تثبيطكم من الجهاد فرارا من القتل.

قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون(169))

آية بلاخلاف.

المعنى: ذكر ابن عباس، وابن مسعود، وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لما أصيب أخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر ترد انهار الجنة، وتأكل من ثمارها.

قال البلخي: وهذا ضعيف، لان الارواح جماد لاحياة فيها،

___________________________________

(1) انظر 2: 148.

[46]

ولو كانت حية لاحتاجت إلى أرواح أخر وأدى إلى مالا يتناهى فضعف الخبر من هذاالوجه.

وفي الناس من قال: إن تأويل الآية اخبار عن صفة حال الشهداء في الجنة من حيث فسد القول بالرجعة، وهذا ليس بشئ لانه خلاف الظاهر، ولان أحدا من المؤ منين لايحسب أن الشهداء في الجنة أموات، وأيضا، فقد وصفهم الله بأنهم أحياء فرحون في الحال، لان نصب فرحين هو على الحال.

وقوله: (لم يلحقوا بهم من خلفهم) يؤكد ذلك، لانهم في الآخرة قد لحقوا بهم، ومعنى الآية النهي عن أن يظن أحد أن المقتولين في سبيل الله أموات. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله، والمراد به جميع المكلفين، كما قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) وأنه ينبغي أن يعتقد أنهم (أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بماآتاهم الله) وبهذا قال الحسن، وعمروبن عبيد، وواصل بن عطاء واختاره الجبائي، والرماني، وأكثر المفسرين. وقال بعضهم وذكره الزجاج.

المعنى: ولاتحسبنهم أمواتا في دينهم بل هو أحياء في دينهم، كما قال: (أو من كان ميتا فاحييناه) الآية(1) وقال البلخي معناه: لاتحسبنهم كما يقول الكفار أنهم لايبعثون بل يبعثون، وهم (أحياء عند ربهم يرزقون فرحين).

وقال قوم: إن أرواحهم تسرح في الجنة وتلتذ بنعيمها، فهم (أحياء عند ربهم) وقوله: (عند ربهم) قيل في معناه قولان: أحدهما - أنهم بحيث لايملك لهم أحدنفعا ولاضرا إلا ربهم وليس المراد بذلك قرب المسافة لان ذلك من صفة الاجسام وذلك مستحيل عليه تعالى. والوجه الآخر عند ربهم أحياء من حيث يعلمهم كذلك دون الناس - ذكره أبوعلي -.

الاعراب: وقوله: (بل أحياء) رفع على أنه خبر الابتداء، وتقديره بل هم أحياء، ولايجوز فيه النصب بحال، لانه كان يصير المعنى بل احسبنهم أحياء، والمراد بل اعلمهم احياء.

___________________________________

(1) سورة الانعام: آية 122.

[47]

المعنى والحجة: فان قيل لم لايجوز أن يكون المعنى بل أحياء على معنى أنهم بمنزلة الاحياء كما يقال لمن خلف خلفا صالحا أو ثناء جميلا: مامات فلان بل هو حي؟ قلنا: لايجوز ذلك لانه انما جاز هذا بقرينة دلت عليه من حصول العلم بأنه ميت فانصرف الكلام إلى أنه بمنزلة الحي، وليس كذلك الآية لان إحياء الله لهم في البرزخ جائز مقدور والحكمة تجيزه.

فان قيل أليس في الناس من أنكر الحديث من حيث أن الروح عرض لايجوز أن يتنعم؟ قيل: هذا ليس بصحيح، لان الروح جسم رقيق هوائي مأخوذ من الريح.

والدليل على ذلك أن الروح تخرج من البدن وترد إليه وهي الحساسة الفعالة دون البدن، وليست من الحياة في شئ، لان ضد الحياة الموت وليس كذلك الروح - هذا قول الرماني سؤاله وجوابه -.

وفي الآية دليل على أن الرجعة إلى دار الدنيا جائزة لاقوام مخصوصين، لانه تعالى أخبر أن قوما ممن قتلوا في سبيل الله ردهم الله أحياء كما كانوا، فأما الرجعة التي يذهب إليها أهل التناسخ، ففاسدة، والقول بها باطل لما بيناه في غير موضع، وذكرنا جملة منه في شرح جمل العلم فمن أراده وقف عليه من هناك ان شاء‌الله.

وقال أكثر المفسرين الآية مختصة بقتلى أحد.

وقال أبوجعفر (ع)، وكثير من المفسرين: انها تتناول قتلى بدر وأحد معا.

 

الآية: 170 - 179

قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون(170))

آية.

[48]

الاعراب: قوله: (فرحين) نصب على الحال من (يرزقون) وهو أولى من رفعه على بل أحياء لان النصب ينبئ عن اجتماع الرزق والفرح في حال واحدة، ولو رفع على الاستئناف لكان جائزا.

وقال الفراء: يجوز نصبه على القطع عن الاول.

المعنى، واللغة: وقوله: (بما آتاهم الله من فضله) معناه بما أعطاهم الله من ضروب نعمه، ومعنى يستبشرون أي يسرون بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور في البشارة، فوجده. وأصل البشارة من البشرة وذلك لظهور السرور بها في بشرة الوجه. ومنه البشر لظهور بشرته.

ومعنى قوله: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوابهم) أي هم بمنزلة من قد بشرفي صاحبه بما يسر به.

ولاهل التأويل فيه قولان: أحدهما - قال ابن جريج، وقتادة: يقولون: اخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا.

والآخر - أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من اخوانه يبشر ذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا - ذكره السدي - وقال الزجاج: معناه أنهم لم يلحقوا بهم في الفعل إلا أن لهم فضلا عظيما بتصديقهم وإيمانهم.

ولحقت ذلك والحقت غيري، مثل علمت وأعلمت، وقيل لحقت وألحقت لغتان بمعنى واحد مثل بان وأبان، وعلى ذلك: إن عذابك بالكفار ملحق أي لاحق على هذا أكثر نقاد الحديث.

وروى بعض الثقات ملحق بنصب الحاء ذكره البلخي.

وقوله: (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قيل في موضع أن قولان: أحدهما - انه خفض بالباء وتقديره بان لاخوف، هذا قول الخليل، والكسائي والزجاج.

[49]

الثاني ان يكون موضعه نصبا على أنه لما حذف حرف الجر نصب بالفعل كما قال الشاعر: أمرتك الخير(1) أي بالخير في قول غيرهم.

قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وإن الله لايضيع أجر المؤمنين(171))

آية.

القراء‌ة: قرأ الكسائي (وإن الله) - بكسرالالف - الباقون بفتحها على معنى وبأن الله، ورجح هذه القراء‌ة أبوعلي الفارسي. والكسر على الاستئناف.

وفي قراء‌ة عبدالله (والله لايضيع أجر المؤمنين). وهو يقوي قراء‌ة من قرأ بالكسر.

قوله: (يستبشرون).

المعنى: يعني هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله الذين وصفهم بانهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله، وانهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، فوصفهم ههنا بانهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل. وفضل الله وان كان هو النعمة قيل في تكراره ههنا قولان: أحدهما - لانها ليست نعمة مضيقة على قدر الكفاية من غير مضاعفة السرور واللذة.

___________________________________

(1) انظر 2: 348 فقد مر البيت هناك كاملا.

[50]

والآخر - للتأكيد لتمكين المعنى في النفس، والمبالغة. والنعمة هي المنفعة التي يستحق بها الشكر إذا كانت خالية من وجوه القبح، لان المنفعة على ضربين: أحدهما - منفعة اغترار، وحيلة، و [ الثاني ] - منفعة خالصة من شائب الاساء‌ة.

والنعمة: تعظيم بفعل غير المنعم، كنعمة الرسول على من دعاه إلى الاسلام فاستجاب له، لان دعاء‌ه له نفع من وجهين: أحدهما - حسن النية في دعائه إلى الحق ليستجيب له. والآخر - قصده الدعاء إلى حق من يعلم انه يستجيب له المدعو وانما يستدل بفعل غير المنعم على موضع النعمة في الجلالة وعظم المنزلة.

وقوله: (وإن الله لايضيع أجر المؤمنين) وان كانواهم علموا ذلك فانما ذكر الله انهم يستبشرون بذلك، لان ما يعلمونه في دار التكليف يعلمونه بدليل. وما يعلمونه بعد الموت يعلمونه ضرورة. وبينهما فرق واضح، لان مع العلم الضروري يتضاعف سرورهم، ويشتدا غتباطهم.

قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم(172))

آية واحدة.

سبب النزول والقصة: ذكر ابن عباس والسدي، وابن اسحاق، وابن جريج، وقتادة: ان سبب نزول هذه الآية ان أباسفيان: صخر بن حرب، وأصحابه لما انصرفوا عن أحد، ندموا.

وقال بعضهم لبعض: لامحمدا قتلتم ولا الكواعب اردفتم فارجعوافا غيروا على المدينة، واسبوا ذراريهم.

وقيل: إن بعضهم قال لبعض: إنكم قتلتم عدوكم حتى إذالم يبق إلا الشريد تركتموهم. ارجعوا فاستأصلوهم. فرجعوا إلى حمراء الاسد وسمع بهم النبي صلى الله عليه وآله فدعا أصحابه إلى الخروج، وقال: لايخرج معنا

[51]

إلا من حضرنا أمس للقتال، ومن تأخر عنا، فلا يخرج معنا.

وروي أنه صلى الله عليه وآله أذن لجابر وحده في الخروج -. وكان خلفه أبوه على بناته يقوم بهن - فاعتل بعضهم بأن قال: بناجراح، وآلام فانزل الله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) وقيل نزلت فيهم أيضا (ولاتهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون)(1) ثم استجابوا على مابهم إلى اتباعهم وألقي الله الرعب في قلوب المشركين، فانهزموا من غير حرب. وخرج المسلمون إلى حمراء الاسد. وهي على ثمانية أميال من المدينة.

الاعراب، واللغة: وموضع (الذين) يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب: الجر - على أن يكون لغتا للمؤمنين - والرفع - على الابتداء - وخبر الذين الجملة - والنصب - على المدح -.

وقوله: (من بعد ما أصابهم القرح) معناه من بعد ما نالهم الجراح وأصله الخلوص من الكدر.

ومنه ماء قراح أي خالص.

والقراح من الارض: ماخلص طينه من السبخ، وغيره.

والقريحة خالص الطبيعة.

واقترحت عليه كذا أي اشتهيته عليه لخلوصه على ماتتوق نفسه إليه، كأنه قال: استخلصته.

وفرس قارح أي طلع نابه لخلوصه ببلوغ تلك الحال عن نقص الصغار، وكذلك ناقة قارح أي حامل.

فالقرح الجراح، لخلوص المه إلى النفس. وأجاب، واستجاب بمعنى واحد.

وقال قوم: استجاب: طلب الاجابة. واجاب: فعل الاجابة.

وقوله: (للذين احسنوا) فالاحسان هو النفع الحسن. والافضال النفع الزائد على أقل المقدار.

وقوله: (واتقوا) معناه اتقوا معاصي الله (أجر عظيم) معناه ههنا الذين فعلوا الحسن الجميل من طاعة النبي صلى الله عليه وآله، والانتهاء إلى قوله.

وقوله (منهم) معناه تبيين الصفة لاالتبعيض.

___________________________________

(1) سورة النساء: آية 103.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337933

  • التاريخ : 29/03/2024 - 07:18

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net